اللهم آمين

دعـــــاء ((سبحان الذي تعطف العزّ وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام)). دعـــــاء ((سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عددَ ما خلق في الأرض، وسبحان الله عددَ ما بين ذلك، وسبحان الله عددَ ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده، لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً...)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) دعـــــاء ((سبحان الله ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة)) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديعُ السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام...)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما خلق الله، والحمد لله ملء ما خلق الله، والحمد لله عدد ما في السموات والأرض، والحمد لله ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، وسبحان الله مثلهن)) دعـــــاء ((ربَّنا لك الحمد، مِلْءَ السموات والأرض ومِلْءَ ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناءِ والمجد، أحقُّ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)) دعـــــاء ((الحمد لله الذي يطعم ولا يُطعم، منّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكلِّ بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مُوَدّع ولا مكافئ ولا مكفور ولا مستغنىً عنه. الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العُرْي، وهدى من الضلالة، وبَصّر من العماية، وفضّل على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما أحصى كتابُه، والحمد لله عدد ما في كتابه، والحمد عدد ما أحصى خلقه، والحمد لله مِلْءَ ما في خلقه، والحمد لله مَلْءَ سماواته وأرضه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله على كل شيء)) دعـــــاء ((اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهَك. لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتُعصى فتغفر. أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال. القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم...)) دعـــــاء ((تمَّ نورك فهديت فلك الحمد، عظم حلمك فعفوت فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد. ربَّنا: وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهناها. تطاع ربَّنا فتشكر، وتُعصى ربَّنا فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضر، وتَشفي السُقم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد، ولا يبلغ مدحتَك قولُ قائل) دعـــــاء ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدّ) دعـــــاء ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، و النبيون حق، ومحمد حق. ) دعـــــاء اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت...) .(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم...) (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) دعـــــاء ((لا إله إلا الله قبل كل شيء، ولا إله إلا الله بعد كل شيء، ولا إله إلا الله، يبقى ويفنى كل شيء) دعـــــاء ((اللهم ربَّ السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كل شيء، فالقَ الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء اقض عنا الدين و أغننا من الفقر) دعـــــاء ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) دعـــــاء ((يا مَن أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا كريم الصَفح، يا عظيم المنّ، يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها، يا ربنا ويا سيدنا، ويا مولانا، ويا غاية رغبتنا أسألك يا الله أن لا تَشوي خلقي بالنار) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا مانع لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت...) دعـــــاء ((اللهم بك أصاول، وبك أحاول، وبك أقاتل)) دعـــــاء ((اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي...) دعـــــاء ((اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى، ونَحْفِد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك؛ إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلْحِق) دعـــــاء ((اللهم رب السموات ورب الأرضين، وربَّنا وربَّ كل شيء، فالق الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن... أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، والظاهر فليس فوقك شيء، والباطن فليس دونك شيء...) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك باسمك الطاهر الطيب المباركِ الأحب إليك الذي إذا دُعيت به أجبتَ، وإذا سُئلت به أعطيتَ، وإذا استُرحمت به رحمت، وإذا استُفرجت به فَرّجت...) دعـــــاء ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطَر السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون...) دعـــــاء ((اللهـم أنت المـلك لا إلـه إلا أنــت، أنـت ربـي وأنـا عبـدك... لبيـك وسعديـك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت... اللهم ربنا لك الحمد مِلْءَ السماء ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ مابينهما ومِلْءَ ما شئت من شي بعد... أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله ألا أنت) دعـــــاء ((اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم لك أنفه...) دعـــــاء ((اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 30 مارس 2024

أسرار الصلاة لابن القيم

 


أسرار الصلاة  لابن القيم

المحتويات

المقدمة فصل الصلاة قرة عيون المحبين وهدية الله للمؤمنين تشبيه القلب بالأرض القلب ييبس إذا خلا من توحيد الله الناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم تمثيل لهذه الأصناف الثلاثة أهل اليقظة والغفلة الخيانة ما هو سرّ الصلاة ما بين الصلوات الخمسة تحدث الغفلة الكلام عن الوضوء من تمام العبودية الذهاب للمسجد عبودية التكبير عبودية الاستفتاح حال العبد في القراءة والاستعاذة نصيحة ابن تيمية لابن القيم حال العبد في الفاتحة من معاني الحمد عبودية {رب العالمين} عبودية { مالكِ يومِ الدين} معنى الثناء التمجيد عبودية { إياك نعبد } تقديم العبادة على الاستعانة القرآن مداره على هذه الكلمة ضرورة العبد لقول {اهدنا الصراط المستقيم } أنواع الهدايات التي يفتقر لها العبد عبودية التأمين ورفع اليدين عبودية الركوع إذا عظم القلب الرب خرج تعظيم الخلق عبودية القيام عبودية السجود الصلاة مبناها على خمسة أركان حال العبد بين السجدتين سبب الاستغفار بين السجدتين لم يكرر السجود مرتين عبودية الجلوس للتشهد ومعنى التحيات عطف الصلوات والطيبات معنى الطيِّبات أطيب الكلام بعد القرآن التَّسليم على الأنبياء والصالحين معنى الشهادتين في التحيات الصلاة على النبيِّ سنن الآذان الخمس فصل سرّ الصلاة الإقبال على الله للإقبال على الله في الصلاة ثلاث منازل كيف يكون الإقبال في كل جزء من أجزاء الصلاة الكلام على التسليم الشروع في بيان ثمرات الخشوع لكل شيء ثمرة وثمرة الصلاة الإقبال على الله الراحة بالصلاة فصل الفرق بين أهل السماع وأهل الصلاة فصل سماع أهل الحق فصل في التنبيه على نكتة خفيَّةٍ من نكت السَّماع أهل الصدق إذا دخلوا في السماع الباطل القلوب ثلاثة المحرمات في الشريعة
أسرار الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يسّر وأعن يا كريم

قال الإمام محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزية رحمه الله تعالى فصل في الموازنة بين ذوق السَّماع وذوق الصلاة والقرآن، وبيان أنَّ أحد الذوقين مباين للآخر من كل وجه، وأنه كلَّما قوي ذوق أحدهما وسلطانه ضعف ذوق الآخر وسلطانهالصلاة قرة عيون المحبين وهدية الله للمؤمنين فاعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، وبستان العابدين ولذة نفوس الخاشعين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنينهداهم إليها، وعرَّفهم بها، وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين، رحمة بهم، وإكراما لهم، لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم، بل منَّة منه، وتفضَّلا عليهم، وتعبَّد بها قلوبهم وجوارحهم جميعا، وجعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين وأعظمهما ؛ وهو إقباله على ربِّه سبحانه، وفرحه وتلذذه بقربه، وتنعمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميله حقوق حقوق عبوديته ظاهرا وباطنا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانهولما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة وأشباهها من داخل فيه وخارج عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والتحف والخلع والخلع والعطايا، ودعاه إليها كل يوم خمس مرَّات، وجعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة، لذة ومنفعة ومصلحة ووقار لهذا العبد، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر، لتكمل لذة عبده في كل من ألوان العبودية ويُكرمه بكلِّ صنفٍ من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفّرا لمذموم كان يكرهه بإزائه، ويثيبه عليه نورا خاصا، فإن الصلاة نور وقوة في قلبه وجوارحه وسعة في رزقه، ومحبة في العباد له، وإن الملائكة لتفرح وكذلك بقاع الأرض، وجبالها وأشجارها، وأنهارها تكون له نورا وثوابا خاصا يوم لقائهفيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول، وأغناه، وذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة، قد ناله من الجوع والقحط والجذب والظمأ والعري والسقم ما ناله، فصدر من عنده وقد أغناه وأعطاه من الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيهتشبيه القلب بالأرض ولما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب، وقحطُ النفوس متواليا عليها، جدّد له الدعوة آلة هذه المأدبة وقتا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مُستسقيا، طالبا إلى من بيده غيثُ القلوب، وسَقيُها مستمطرا سحائب رحمته لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان، وكلأ الإحسان وعُشبه وثماره، ولئلا تنقطع مادة النبات من الروح والقلب، فلا يزال القلب في استسقاء واستمطار هكذا دائما، يشكو إلى ربه جدبه، وقحطه، وضرورته إلى سُقيا رحمته، وغيث برِّه، فهذا دأب العبد أيام حياتهفالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة، فالغفلة هي قحط القلوب وجدبها، وما دام العبد في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكَّنت الغفلة منه، واستحكمت صارت أرضه خرابا ميتة، وسنته جرداء يابسة، وحريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائمفتصير أرضه بورا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات، والثمار وغيرها، وإذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه وأعماله وربت، وأنبتت من كلِّ زوج بهيج، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها وخضرتها ولينها وثمارها من الماء، فإذا منعت من الماء يبسَت عروقها وذبلت أغصانها، وحُبست ثمارها، وربما يبست الأغصان والشجرة، فإذا مددت منها غصنا إلى نفسك لم يمتد، ولم ينْقَد لك، وانكسر، فحينئذ تقتضي حِكمة قيِّم البستان قَطع تلك الشجرة وجعلَها وقودا للنارالقلب ييبس إذا خلا من توحيد الله فكذلك القلب، إنما يَيبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره ودعائه، فتصيبه حرارة النفس، ونار الشهوات، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها، والانقياد إذا قُدتها، فلا تصلح بعدُ هي والشجرة إلا للنَّار { فويلٌ للقاسية قُلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلال مُّبين} 1، فإذا كان القلب ممطورا بمطر الرحمة، كانت الأغصان ليِّنة مُنقادة رطبة، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك، وأقبلت سريعة لينة وادعة، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان ومادتها من رطوبة القلب وريِّه، فالمادة تعمل عملها في القلب والجوارح، وإذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البِّر ؛ لأن مادة القلب وحياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية، ولله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخُصُّه، وطاعة مطلوبة منها، خلقت لأجلها وهيئت لهاالناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم والناس بعد ذلك ثلاثة أقسامأحدهما: من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له، وأريد منها، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة، وباع نفسه لله بأربح البيعوالصلاة وُضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعا لقيام القلب بها وهذا رجلٌ عرَف نعمة الله فيما خُلق له من الجوارح وما أنعم عليه من الآلاء، والنعم، فقام بعبوديته ظاهرا وباطنا واستعمل جوارحه في طاعة ربِّه، وحفظ نفسه وجوارحه عمَّا يُغضب ربه ويشينه عندهوالثاني: من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له، بل حبسها على المخالفات والمعاصي، ولم يطلقها، فهذا هو الذي خابَ سعيه، وخسرت تجارته، وفاته رضا ربَّه عزَّ وجل عنه، وجَزيل ثوابه، وحصل على سخطه وأليم عقابهوالثالث: مَن عطَّل جوارحه، وأماتها بالبطالة والجهالة، فهذا أيضا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله،فإن العبد إنما خُلق للعبادة والطاعة لا للبطالةوأبغض الخلق إلى الله العبد البطَّال الذي لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرةبل هو كلّ على الدنيا والدين، بل لو سعى للدنيا ولم يسع للآخرة كان مذموما مخذولا، وكيف إذا عطّل الأمرين، وإنَّ امرء يسعى لدنياه دائما، ويذهل عن أُخراه، لا شكَّ خاسرتمثيل لهذه الأصناف الثلاثة فالرجل الأول، كرجل أُقطع أرضا واسعة، وأعين على عمارتها بآلات الحرث، والبذر وأعطي ما يكفيها لسقيها وحرثها، فحرثها وهيَّأها للزراعة، وبذر فيها من أنواع الغلات، وغرس فيها من أنواع الأشجار والفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط، ولم يهملها بل أقام عليها الحرس، وحصنها من الفساد والمفسدين، وجعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منه، ويغرس فيها عوض ما يبس، وينقي دغلها ويقطع شوكها، ويستعين بغلَّتها على عمارتهاوالثاني: بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض، وجعلها مأوى السباع والهوام، وموضعا للجيف والأنتان، وجعلها معقلا يأوي إليه فيها كل مفسد ومؤذٍ ولصٍّ، وأخذ ما أعين به من حرثتها وبذارها وصلاحها، فصرفه وجعله معونة ومعيشة لمن فيها، من أهل الشرِّ والفسادوالثالث: بمنزلة رجل عطَّلها وأهملها وأرسل الماء ضائعا في القفار والصحارى فقعد مذموما محسورافهذا مثال أهل اليقظة، وأهل الغفلة، وأهل الخيانةأهل اليقظة والغفلة الخيانة فالأول: مثال أهل اليقظة، والاستعداد لما خلقوا لهوالثاني: مثال أهل الخيانةوالثالث: مثال لأهل الغفلةفالأول: إذا تحرّك أو سَكَن، أو قام أو قعد، أو أكل أو شرب، أو نام، أو لبس، أو نطق، أو سكت كان كلِّه له لا عليه، وكان في ذكر وطاعةٍ وقربة ومزيدوالثاني: إذا فعل ذلك كان عليه لا له، وكان في طردٍ وإبعادٍ وخُسرانوالثالث: إذا فعل ذلك كان في غفلة وبطالةٍ وتفريطٍفالأول: يتقلَّب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة والقربةوالثاني: يتقلب في ذلك بحكم الخيانة والتعدِّي، فإن الله لم يملِّكه ما ملّكه ليستعين به على مخالفته، فهو جانٍ متعد خائن لله تعالى في نعمه عليه معاقبٌ على التنعُّم بها في غير طاعتهوالثالث: يتقلب في ذلك ويتناوله بحكم الغفلة والهوى ونهمة النفس وطبعها، لم يتمتع بذلك ابتغاء رضوان الله تعالى والتقرب إليه، فهذا خسرانه بيَّن واضح، إذ عطّل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح والتجاراتفدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس، رحمة منه بهم، وهيأ لهم فيها أنواع العبادة ؛ لينال العبد من كلِّ قول وفعل وحركة وسكون حظه من عطاياهما هو سرّ الصلاة وكان سرُّ الصلاة ولُبها إقبال القلب فيها على الله، وحضوره بكلِّيته بين يديه، فإذا لم يقبل عليه واشتغل بغيره ولهى بحديث نفسه، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه وزلله مستمطرا سحائب جوده وكرمه ورحمته، مستطعما له ما يقيت قلبه، ليقوى به على القيام في خدمته، فلما وصل إلى باب الملك، ولم يبق إلا مناجته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا وشمالا، أو ولاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك، وأقلّه عنده قدرا عليه، فآثره عليه، وصيَّره قلبة قلبه، ومحلَّ توجهه، وموضع سرَّه، وبعث غلمانه وخدمة ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضا عنه ويعتذروا عنه، وينوبوا عنه في الخدمة، والملك يشاهد ذلك ويرى حاله مع هذا، فكرم الملك وجوده وسعة برّه وإحسانه تأبي أن يصرف عنه تلك الخدم والأتباع، فيصيبه من رحمته وإحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين، وبين الرضَّخ لمن لا سهم له: { ولكل درجات ممَّا عملوا وليُوَفيهم أعمالهم وهم لا يظلَمون }2، والله سبحانه وتعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه واختصه له، وخلق كل شيء له، ومن أجله كما في الأثر الإلهي: " ابن آدم خلقتك لنفسي، وخلقت كلِّ شيء لك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عمَّا خلقتك له ". وفي أثر آخر: " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كلّ شيء، وإن فُتَّك فاتك كلّ شيء، وأنا أحب إليك من كلّ شيء". وجعل سبحانه وتعالى الصلاة سببا موصلا إلى قُربه، ومناجاته، ومحبته والأنس بهما بين الصلوات الخمسة تحدث الغفلة وما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة والجفوة والقسوة، والإعراض والزَّلات، والخطايا، فيبعده ذلك عن ربه، وينحّيه عن قربه، فيصير بذلك كأنه أجنبيا من عبوديته، ليس من جملة العبيد، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره، وغلَّه، وقيَّده، وحبسه في سجن نفسه وهواهفحظه ضيق الصدر، ومعالجة الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات، ولا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمه ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة، مختلفة الأجزاء، والحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد، وبحسب شدَّة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبوديةالكلام عن الوضوء فبالوضوء يتطَّهر من الأوساخ، ويُقدم على ربِّه متطهرا، والوضوء له ظاهر وباطنفظاهره: طهارة البدن، وأعضاء العبادةوباطنه وسرّه: طهارة القلب من أوساخ الذنوب والمعاصي وأدرانه بالتوبة ؛ ولهذا يقرن تعالى بين التوبة والطهارة في قوله تعالى: { إن الله يحب التَّوابين ويحب المتطهرين }3 وشرع النبي ﷺ للمتطهِّر أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول: "اللهم اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهرين ". فكمَّل له مراتب العبدية والطهارة، باطنا وظاهرا، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرةفشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز وجل، والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرا وباطنا، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه وبذلك يخلص من الإباقوبمجيئه إلى داره، ومحل عبوديته يصير من جملة خدمه، ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرينمن تمام العبودية الذهاب للمسجد والعبد في حال غفلته كالآبق من ربه، قد عطّل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خُلق لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف والتذلل والانكسار، فقد استدعى عطف سيِّده عليه، وإقباله عليه بعد الإعراض عنهعبودية التكبير وأُمر بأن يستقبل القبلة بيته الحرام بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه، وألقى بيديه مسلّما مستسلما ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، وطرفة عين، لا يمنة ولا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليهوأقبل بكليته عليه، ثم كبَّره بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء، وصدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله، وكان قوله " الله أكبر " بلسانه دون قلبه ؛ لأن قلبه مقبل على غير الله، معظما له، مجلا، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير، أخرجه من لبس رداء التكبّر المنافي للعبودية، ومنعه من التفات قلبه إلى غير الله، إذا كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء فمنعه حقّ قوله: الله أكبر والقيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين، اللتين هُما من أعظم الحُجب بينه وبين الله تعالىعبودية الاستفتاح فإذا قال: " سبحانك اللهم وبحمدك" وأثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقد خرج بذلك عن الغفلة وأهلها، فإن الغفلة حجاب بينه وبين اللهوأتى بالتحية والثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيما له وتمهيدا، وكان ذلك تمجيدا ومقدمة بين يدي حاجتهفكان في الثناء من آداب العبودية، وتعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه، ورضاه عنه، وإسعافه بفضله حوائجه حال العبد في القراءة والاستعاذة فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقامات العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه، وانتفاعه دونه بالبدن والقلب، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطَّله، وألقى فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب تبارك وتعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه وليحي قلبه، ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه، ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوةولما علم الله سبحانه وتعالى حَسَد العدو للعبد، وتفرّغه له، وعلم عجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه، ويلتجئ إليه في صرفه عنه، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته ومقاومته، وكأنه قيل له: لا طاقة لك بهذا العدو، فاستعذ بي أعيذك منه، واستجر بي أجيرك منه، وأكفيكه وأمنعك منهنصيحة ابن تيمية لابن القيم وقال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونوَّر ضريحه يومًا: إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته، ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب، ويكفيكهفإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنهفأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المونقة وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكان الحائل بينه وبين ذلك، النفس والشيطان، فإن النفس منفعلة للشيطان، سامعة منه، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها، وطُرد ألَّم بها الملَك، وثبَّتها وذكّرها بما فيه سعادتها ونجاتهافإذا أخذ العبد في قراءة القرآن، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرّض لمقته وسخطه، بأن يناجيه ويخاطبه، وقلبه معرِض عنه، ملتفت، إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته، ويكون بمنزلة رجل قرَّبه ملك من ملوك الدنيا، وأقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك، وقد ولاَّه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة ويسرة، فهو لا يفهم ما يقول الملك، فما الظن بمقت الملك لهذافما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين وقيوم السماوات والأرضينحال العبد في الفاتحة فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة، ينتظر جواب ربِّه له، وكأنه يسمعه وهو يقول: " حمدني عبدي " إذا قال: { الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ}. فإذا قال: { الرَّحمن الرَّحيم } وقفَ لحظة ينتظر قوله: " أثنى عليَّ عبدي ". فإذا قال: {مالكِ يومِ الدِّينِ } انتظر قوله: " مجَّدني عبدي ". فإذا قال: { إيَّاك نَعبدُ وإيَّاك نَستعين } انتظر قوله تعالى: " هذا بيني وبين عبدي ". فإذا قال: {اهدِنا الصِّراط المُستقيم } إلى آخرها انتظر قوله: " هذا لعبدي ولعبدي ما قال ". ومَن ذاق طعم الصلاة عَلِمَ أنه لا يقوم مقام التكبير والفاتحة غيرهما مقامها، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها، فلكلٍّ عبوديته من عبودية الصلاة سرٌّ وتأثيرٌ وعبودية لا تحصل في غيرها، ثمَّ لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخُصُّها لا يوجد في غيرهافعند قوله: { الحمد لله رب العالمين } تجد تحت هذه الكلمة إثبات كللّ كمال للرب ووصفا واسما، وتنزيهه سُبحَانه وبحمده عن كلِّ سوء، فعلا ووصفا واسما، وإنما هو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه، مُنزَّه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائهفأفعاله كلّها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل ولا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال، ونعوت جلال، وأسماؤه كلّها حُسنىمن معاني الحمد وحمده تعالى قد ملأ الدنيا والآخرة، والسموات والأرض، وما بينهما وما فيهما، فالكون كلّه ناطق بحمده، والخلق والأمر كلّه صادر عن حمده، وقائم بحمده، ووجوده وعدمه بحمده، فحمدُه هو سبب وجود كل شيء موجود، وهو غاية كل موجود، وكلّ موجود شاهد بحمده، فإرساله رسله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عُمِّرت بأهلها بحمده، والنَّار عُمِّرت بأهلها بحمده، كما أنَّها إنَّما وجدتا بحمدهوما أُطيع إلا بحمده، وما عُصي إلا بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يتحرك في الكون ذرَّة إلا بحمده، فهو سبحانه وتعالى المحمود لذاته، وإن لم يحمده العبادكما أنه هو الواحد الأحد، وإن لم يوحِّده العباد، وهو الإله الحقُّ وإن لم يؤلِّهه، سبحانه هو الذي حمِد نفسه على لسان الحامد كما قال النبي ﷺ: " إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سَمعَ اللهُ لمن حَمِدَه". فهو الحامدُ لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه هو الذي أجري الحمدَ على لسانه وقلبه، وأجراؤه بحمده فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسرهفهذه المعرفة نبذة يسيرة من معرفة عبودية الحمد، وهي نقطة من بحر لُجِّي من عبوديتهومن عبوديته أيضا: أن يعلم أن حمده لربه نعمة مِنه عليه، يستحق عليها الحمد، فإذا حمده عليها استَّحق على حمده حمدا آخر، وهلَّم جرافالعبد ولو استنفد أنفاسه كلّها في حمد ربه على نعمة من نعمه، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فوق ذلك، وأضعاف أضعافه، ولا يُحصي أحد البتّة ثناءً عليه بمحتمده، ولو حمده بجميع المحامد فالعبد سائر إلى الله بكلِّ نعمة من ربِّه، يحمده عليها، فإذا حَمده على صرفها عنه، حمده على إلهامه الحمدُقال الأوزاعي: " سمعت بعض قوَّال ينشد في حمامٍ لك الحمدُ إمّا على نعمةٍ وإمَّا على نقمة تُدفع". ومن عبودية الحمد: شهود العبد لعجزه عن الحمد، وأنَّ ما قام به منه، فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك، فهو محمود عليه، إذ هو الذي أجراه على لسانه وقلبه، ولولا الله ما اهتدى أحدومن عبودية الحمد: تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها وباطنها على ما يحب العبد منها وما يكره، بل على تفاصيل أحوال الخلق كلّهم، برِّهم وفاجرهم، علويهم وسفليهم، فهو سبحانه المحمود على ذلك كلّه في الحقيقة، وإن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك، وما يستحق الرب تبارك وتعالى من الحمد على ذلك والحمد لله: هو إلهام من الله للعباد، فمستقل ومستكثر على قدر معرفة العبد بربهوقد قال النبي ﷺ في حديث الشفاعة: " فأقع ساجدا فيلهمني الله محامد أحمده بها لم تخطر على بالي قط ". عبودية {رب العالمينثم لقول العبد: { ربِّ العالمين} من العبودية شهود تفرّده سبحانه بالربوبية وحده، وأنَّه كما أنه رب العالمين، وخالقهم، ورازقهم، ومدبِّر أمورهم، وموجدهم، ومغنيهم، فهو أيضا وحده إلههم، ومعبودهم،و ملجأهم ومفزعهم عند النوائب، فلا ربَّ غيره، ولا إله سواهعنوان: عبودية { الرَّحمَن الرَّحيمولقوله: { الرَّحمن الرَّحيم } عبودية تخصه سبحانه، وهي شهود العبد عموم رحمتهوشمولها لكلّ شيء، وسعتها لكلِّ مخلوق وأخذ كلّ موجود بنصيبه منها، ولاسيما الرحمة الخاصَّة بالعبد وهي التي أقامته بين يدي ربه: أقم قلانا ففق بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلانًا، وأنم فلانا فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه، ويتملقه ويسترحمه ويدعوه ويستعطفه ويسأله هدايته ورحمته، وتمام نعمته عليه دنياه وأخراه فهذا من رحمته بعبده، فرحمته وسعت كل شيء، كما أن حمده وسع كل شيء، وعلمه وسع كل شيء، { ربَّنا وسعتَ كُلَّ شيء رَّحمة وعلما} 4، وغيره مطرود محروم قد فاتته هذه الرحمة الخاصَّة فهو منفي عنهاعبودية { مالكِ يومِ الدينويعطى قوله { مالك يوم الدِّين } عبوديته من الذلِّ والانقياد، وقصد العدل والقيام بالقسط، وكفَّ العبد نفسه عن الظلم والمعاصي، وليتأمل ما تضمنته من إثبات المعاد وتفرَّد الربِّ في ذلك بالحكم بين خلقه، وأنه يومٌ يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير والشر، وذلك من تفاصيل حمده، وموجبه كما قال تعالى: { وقُضيَ بينَهم بالحقِّ وقيل الحمدُ لله ربِّ العالمين}5ويروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة وأهل النار، عدلا وفضلا، ولما كان قوله {الحمد لله رب العالمين}. إخبارا عن حمد عبده له قال: حمدني عبديمعنى الثناء التمجيد ولما كان قوله { الرحمن الرحيم} إعادة وتكريرا لأوصاف كماله قال: " أثنى عليَّ عبدي "، فإنَّ الثناء إنَّما يكون بتكرار المحامد، وتعداد أوصاف المحمود، فالحمد ثناء عليه، و{ الرحمن الرَّحيم } وصفه بالرحمةولما وصف العبد ربه بتفرُّده بملك يوم الدين وهو الملك الحق، مالك الدنيا والآخرة ؛ وذلك متضمِّن لظهور عدله، وكبريائه وعظمته، ووحدانيته، وصدق رُسله، سمَّى هذا الثناء مجدا فقال: " مجَّدني عبدي " فإن التمجيد هوالثناء بصفات العظمة، والجلال، والعدل، والإحسانعبودية { إياك نعبد } فإذا قال: { إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعين } انتظر جواب ربه له: " هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل ". وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما، وميِّز الكلمة التي لله سبحانه وتعالى، والكلمة التي للعبد، وفِقهِ سرَّ كون إحداهما لله، والأخرى للعبد، وميِّز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة { إيَّاك نعبدُ } والتوحيد الذي تقتضيه كلمة { وإيَّاك نستعين }، وفِقهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما، والدعاء بعدهما، وفِقه تقديم { إياك نعبد } على { وإياك نستعين }، وتقديم المعمول على العامل مع الإتيان به مؤخرا أوجز وأخضر، وسرَّ إعادة الضمير مرَّة بعد مرةتقديم العبادة على الاستعانة قلت: أراد تقديم العبادة وهي العمل على الاستعانة، فالعبادة لله والاستعانة للعبد، فالله هو المعبود، وهو المستعان على عبادته، فإياك نعبد ؛ أي إياك أريد بعبادتي، وهو يتضمن العمل الصالح الخالص، والعلم النافع الدال على الله، معرفة ومحبة، وصدقا وإخلاصا، فالعبادة حق الرب تعالى على خلقه، والاستعانة تتضمن استعانة العبد بربه على جميع أموره، و هي القول المتضمن قسم العبدفكل عبادة لا تكون لله وبالله فهي باطلة مضمحلة، وكل استعانة تكون بالله وحده فهي خذلانٌ وذلوتأمل علم ما ينفع العباد وما يدفع عنهم كل واحد من هاتين الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية نفعا ودفعا وكيف تدخل العبد هاتان الكلمتان في صريح العبوديةالقرآن مداره على هذه الكلمة وتأمل عِلم كيف يدور القرآن كلّه من أوّله إلى آخره عليهما، وكذلك الخلق، والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمّنتا لأجلِّ الغايات، وأكمل الوسائل، وكيف أتى بهما بضمير المخاطب الحاضر، دون ضمير الغائب، وهذا موضوع يستدعي كتابا كبيرا، ولولا الخروج عمَّا نحن بصدده لأوضحناه وبسطناه، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب: "مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " وفي كتاب " الرسالة المصرية ". ضرورة العبد لقول {اهدنا الصراط المستقيم } ثم ليتأمل العبد ضرورته وفاقته إلى قوله { اهدنا الصِّراط المُستقيم } الذي مضمونه معرفة الحق، وقصده وإرادته والعمل به، والثبات عليه، والدعوة إليه، والصبر على أذى المدعو إليه فباستكمال هذه المراتب الخمس يستكمل العبد الهداية وما نقص منها نقص من هدايتهولما كان العبد مفتقرا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه، بل وفي جميع ما يأتيه، ويذره منأنواع الهدايات التي يفتقر لها العبد أمور فعلها على غير الهداية علما وعملا وإرادة، فهو محتاج إلى التوبة منها وتوبته منها هي من الهدايةوأمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها فهو محتاج إلى هداية تفاصيلهاوأمور قد هُدي إليها من وجهٍ دون وجهٍ، فهو محتاجٌ إلى تمام الهداية في كمالها على الهدى المستقيم، وأن يزداد هدى إلى هداهوأمور هو محتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيهاوأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها اعتقادا صحيحاوأمور يعتقد فيها خلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد الباطل، وتُثبت فيه ضدّهوأمور من الهداية: هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادةوأمور منها: هو غير قادر على فعلها مع كونه مريد لها، فهو محتاج في هدايته إلى إقدار عليهاوأمور منها: هو غير قادر عليها ولا مريد لها، فهو محتاج إلى خلق القدرة عليها والإرادة لها لتتم له الهدايةوأمور: هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادا وإرادة، وعلما وعملا، فهو محتاج إلى الثبات عليها واستدامتها، فكانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات، وفاقته إليها أشد الفاقات، ولهذا فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال على العبيد كلّ يوم وليلة في أفضل أحواله، وهي الصلوات الخمسُ، مرات متعددة، لشدَّة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوبثم بيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، وهو اليهود، والنصارى وغيرهمفانقسم الخلق إذن إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهدايةمُنعم عليه: بحصولها له واستمرارها وحظه من المنعم عليهم، بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامهاوضالٌ: لم يُعطَ هذه الهداية ولم يُوفق لهاومغضوب عليه: عَرفها ولم يوفق للعمل بموجبهافالضال: حائد عنها، حائر لا يهتدي إليها سبيلاوالمغضوب عليه: متحيّر منحرف عنها ؛ لانحرافه عن الحق بعد معرفته به مع علمه بهافالأول المنعم عليه قائم بالهدى، ودين الحق علما وعملا واعتقادا والضال عكسه، منسلخ منه علما وعملاوالمغضوب عليه لا يرفع فيها رأسا، عارف به علما منسلخ عملا، والله الموفق للصوابولولا أن المقصود التنبيه على المضادة والمنافرة التي بين ذوق الصلاة، وذوق السماع، لبسطنا هذا الموضوع بسطا شافيا، ولكن لكلِّ مقام مقال، فلنرجع إلى المقصودعبودية التأمين ورفع اليدين وشرع له التأمين في آخر هذا الدعاء تفاؤلا بإجابته، وحصوله، وطابعا عليه، وتحقيقا له، ولهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين عليه حين سمعُوهم يجهرون به في صلاتهمثم شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيما لأمر الله، وزينةً للصلاة، وعبودية خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح، واتباعا لسنَّة رسول الله ﷺ فهو حليةُ الصلاة، وزينتها وتعظيمٌ لشعائرهاثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من رُكن إلى ركن، كالتلبية في انتقالات الحاجِّ، من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة، كما أن التلبية شعار الحج،(مميز ليعلم أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده. ) عبودية الركوع ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعا لعظمة ربه، واستكانة لهيبته وتذللا لعزتهفثناء العبد على ربه في هذا الركن ؛ هو أن يحني له صلبه، ويضع له قامته، وينكس له رأسه، ويحني له ظهره، ويكبره مُعظما له، ناطقا بتسبيحه، المقترن بتعظيمهفاجتمع له خضوع القلب، وخضوع الجوارح، وخضوع القول على أتم الأحوال، ويجتمع له في هذا الركن من الخضوع والتواضع والتعظيم والذكر ما يفرق به بين الخضوع لربه، والخضوع للعبيد بعضهم لبعض، فإنَّ الخضوع وصف العبد، والعظمة وصف الربوتمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع، ويتضاءل لربه، بحيث يمحو تصاغره لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه، ولخلقه ويثبت مكانه تعظيمه ربه وحده لا شريك لهإذا عظم القلب الرب خرج تعظيم الخلق وكلما استولى على قلبه تعظيم الربِّ، وقوى خرج منه تعظيم الخلق، وازداد تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات، والقصد والجوارح بالتبع والتكملةثم شرع له أن يحمد ربه، ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن هيئاته، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن تقويم، بأن وفقه وهداه لهذا الخضوع الذي قد حرمه غيرهعبودية القيام ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال والاستواء، واقفا في خدمته، بين يديه كما كان في حالة القراءة في ذلك، ولهذا شرع له من الحمد والمجد نظير ما شرع له من حال القراءة في ذلكولهذا الاعتدال ذوقٌ خاص وحال يحصل للقلب، ويخصه سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركنٌ مقصود لذاته كركن الركوع والسجود سواءولهذا كان رسول الله ﷺ يُطيلُه كما يطيل الركوع والسجود، ويُكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد، كما ذكرناه في هديه ﷺ في صلاته وكان في قيام الليل يُكثر فيه من قول: " لربي الحَمد، لربي الحمد " ويكرِّرهاعبودية السجود ثم شرع له أن يكبر ويدنو ويخرَّ ساجدا، ويُعطي في سجوده كل غضو من أعضائه حظَّه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه، مسندة راغما له أنفه، خاضعا له قلبه، ويضع أشرف ما فيه وهو وجهه بالأرض ولاسيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدا على الأرض معفِّرا له وجهه وأشرف ما فيه بين يدي سيِّده، راغما أنفه، خاضعا له قلبه وجوارحه، متذلِّلا لعظمة ربه، خاضعا لعزَّته، منيبا إليه، مستكينا ذلا وخضوعا وانكسارا، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافلهوقد طابق قلبُه في ذلك حال جسده، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله، وقد سجد معه أنفه ووجهه، ويداه وركبتاه، ورجلاه فهذا العبد هو القريب المقرَّب فهو أقرب فهو ما يكون من ربه وهو ساجدوشرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه، وبطنه عن فخذيه وعَضُديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من الخضوع لا يحملَ بعضه بعضافأحرِ به به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلِّها، كما قال النبي ﷺ: " أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربَّه وهو ساجدٌ ".6ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربّه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة، كما قيل لبعض السلفهل يسجد القلب ؟ الصلاة مبناها على خمسة أركان قال: " أي والله سجدةً لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عزَّ وجل ".7 إشارة إلى إخبات القلب، وذلّه، وخضوعه، وتواضعه وإنابته وحضوره مع الله أينما كان، ومراقبته له في الخلاء والملأ، ولما بنيت الصلاة على خمسالقراءة والقيام والركوع والسجود والذكرسمّيت باسم كل واحد من هذه الخمسفسمّيت " قياما " لقوله: { قُم اللَّيل إلاَّ قليلا} 8، وقوله: {وقُومُوا لله قانتين} 9و"قراءة" لقوله: {وقرآن الفَجر إنَّ قُرآن الفَجر كان مشهُودا} 10، {فاقرءوا ما تيَسَّر منه } 11وسمّيت " ركوعا " لقوله: { واركعُوا مع الرَّاكعين } 12، { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعُون}13و" سجودا " لقوله: { فسبِّح بحمد ربِّك وكن مّن السَّاجدين} 14، وقوله { واسجُد واقترب} 15و"ذكرا " لقوله: { فاسعوا إلى ذكر الله} 16، { لا تُلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } 17وأشرف أففعالها السجود، وأشرف أذكارها القراءة، وأول سورة أنزلت على النبي ﷺ سورة { اقرأ باسم ربِّك } افتتحت بالقراءة، وخُتمت بالسجود، فوضعت الركعة على ذلك، أولها قراءة وآخرها سجودحال العبد بين السجدتين ثم شرع له أن يرفع رأسه، ويعتدل جالسا، ولما كان هذا الاعتدال محفوفا بسجودين ؛ سجود قبله، وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه، ثم منه إلى السجود الآخر، كان له شأن، فكان رسول الله ﷺ يطيل الجلوس بين السجدتين بقدر السجود يتضرع إلى ربه فيه، ويدعوه ويستغفره، ويسأله رحمته، وهدايته ورزقه وعافيته، وله ذوق خاص، وحال للقلب غير ذوق السجود وحالهن ؛ فالعبد في هذا القعود يتمثَّل جاثيا بين يدي ربه، مُلقيا نفسه بين يديه، مُعتَذرا إليه مما جَناَه، راغبا إليه أن يغفر له ويرحمه، مستَعديا له على نفسه الأمَّارة بالسوءسبب الاستغفار بين السجدتين وقد كان النبي ﷺ يكرر الاستغفار في هذه الجلسة فيقول: " رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي "، ويكثر من الرغبة فيها إلى ربهفمثِّل أيها المصلي نفسك فيها بمنزلة غريم عليه حق، وأنت كفيل به، والغريم مماطل مخادع، وأنت مطلوب بالكفالة، والغريم مطلوب بالحق، فأنت تستعدي عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق،؛ لتتخلص من المطالبة، والقلب شريك النفس في الخير والشر، والثواب والعقاب، والحمد والذموالنفس من شأنها الإباق والخروج من رقِّ العبودية، وتضييع حقوق الله عو وجل وحقوق العباد التي قبلها، والقلب شريكها إن قوي سلطانها وأسيرها، وهي شريكته وأسيرته إن قوي سلطانهفشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعديا على نفسه، معتذرا من ذنبه إلى ربه ومما كان منها، راغبا إليه أن يرحمه ويغفر له ويرحمه ويهديه ويرزقه ويعافيه، ز هذه الخمس كلمات، قد جمعت جماع خير الدنيا والآخرة فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضار عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمّن هذا الدعاء ذلك كلهفإن الرزق يجلب له مصالح دنياه وأخراه ويجمع رزق بدنه ورزق قلبه وروحه، وهو أفضل الرازقينوالعافية تدفع مضارّهاوالهداية تجلب له مصالح أخراهوالمغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا والآخرةوالرحمة تجمع ذلك كلّه. والهداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّهاوشرع له أن يعودَ ساجدا كما كان، ولا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد ؛ وذلك لفضل السجود وشرفه وقرب العبد من ربِّه وموقعه من الله عز وجل، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد، وهو أشهر في العبودية وأعرق فيها من غيره من أركان الصلاة ؛ ولهذا جُعل خاتمة الركعة، وما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحلّه من الصلاة محل طواف الزيارة، وكما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك وهو طائف كما قال ابن عمر لمن خطب ابنته وهو في الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال: أتذكر أمرا من أمور الدنيا ونحن نتراءى لله سبحانه وتعالى في طوافناولهذا والله أعلم، جُعل الركوع قبل السجود تدريجا وانتقالا من الشيء إلى ما هو أعلى منهلم يكرر السجود مرتين وشُرع له تكرير هذه الأفعال والأقوال ؛ إذ هي غذاء القلب والروح التي لا قوام لهما إلا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى يشبع، والشرب نفسا بعد نفس حتى يَروى، فلو تناول الجائع لقمة واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فماذا كانت يغني عنه تلك اللقمة ؟ وربما فتحت عليه باب الجوع أكثر مما به ؛ ولهذا قال بعض السلف: " مثل الذي يصلي ولا يطمئن في صلاته كمثل الجائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين ماذا تغني عنه ذلك". وفي إعادة كل قول أو فعل من العبودية والقرب، وتنزيل الثانية منزلة الشكر على الأولى، وحصول مزيد خير وإيمان من فعلها، ومعرفة وإقبال وقوة قلب، وانشراح صدر وزوال درنٍ ووسخٍ عن القلب بمنزلة غسل الثوب مرَّة بعد مرَّةفهذه حكمة الله التي بَهَرت العقول حكمته في خلقه وأمره، ودلَّت على كمال رحمته ولطفه، وما لم تحط به علما منها أعلى وأعظم وأكبر وإنما هذا يسير من كثير منهافلما قضى صلاته وأكملها ولم يبق إلا الانصراف منها، فشرع الجلوس في آخرها بين يدي ربه مُثنيا عليه بما هو أهله، فأفضل ما يقول العبد في جلوسه هذه التحيات التي لا تصلح إلا لله، ولا تليق بغيرهعبودية الجلوس للتشهد ومعنى التحيات ولما كان من عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع لهم، والذل، والثناء عليهم وطلب البقاء، والدوام لهم، وأن يدوم ملكهمفمنهم: من يحيّي بالسجود ومنهم من يحيي بالثناء عليه ومنهم: من يحيي بطلب البقاء، والدوام لهومنهم: من يجمع له ذلك كلّه فيسجد له، ثم يثني عليه، ثم يدعي له بالبقاء والدواموكان الملك الحق المبين، الذي كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه أولى بالتحيات كلِّها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة وهو أهلها ؛ ولهذا فُسرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام، وحقيقتها ما ذكرته، وهي تحيات المُلك والمَلك والمليكفالله سبحانه هو المتصف بجميع ذلك، فهو أولى به فهو سبحانه المَلك، وله المُلك، فكل تحية تحي بها ملك من سجود أو ثناء، أو بقاء، أو دوام فهي لله على الحقيقة ؛ ولهذا أتى بها مجموعة معرَّفة بالألف واللام إرادة للعموم، وهي جمع تحية، تحيا بها الملوك، وهي " تُفعُلة" من الحياة، وأصلها " تحييهعلى وزن " تكرمه"، ثم أدغم إحدى اليائين في الآخر فصارت " تحيَّة " فإذا كان أصلها من الحياة، والمطلوب منها لمن تحي بها دوام الحياة، كما كانوا يقولون لملوكهملك الحياة الباقية، ولك الحياة الدائمةوبعضهم يقول: عش عشرة آلاف سنةواشتق منهاأدام الله أيامك أو أيامه، وأطال الله بقاءكونحو ذلك مما يراد به دوام الحياة والملك، فذلك جميعه لا ينبغي إلا لله الحي القيوم الذي لا يموتالذي كل مَلكٍ سواه يموت، وكل مُلك سوى ملكه زائلعطف الصلوات والطيبات ثم عطف عليها الصلوات بلفظ الجمع والتعريف ؛ ليشمل ذلك كلّما أُطلق عليه لفظ الصلاة خصوصا وعموما، فكلّها لله ولا تنبغي إلا له،فالتحيات له ملكا، والصلوات له عبودية واستحقاقا، فالتحيات لا تكون إلا لله، والصلوات لا تنبغي إلا لهثم عطف عليها بالطيِّبات، وهذا يتناول أمرين: الوصف والملكفأما الوصفُ: فإنه سبحانه طيِّب، وكلامه طيِّبٌ، وفعله كلّه طيب، ولا يصدر منه إلا طيّب، ولا يضاف إليه إلا الطيِّب، ولا يصعد إليه إلا الطيّبمعنى الطيِّبات فالطيبات له وصفا وفعلا وقولا ونسبةً، وكلّ طيّب مضاف إليه طيّب، فله الكلمات الطيبات والأفعال، وكلّ مضاف إليه كبيته وعبده، وروحه وناقته، وجنته دار الطيبين، فهي طيبات كلّها، وأيضا فمعاني الكلمات الطيبات لله وحده، فإنها تتضمن تسبيحه، وتحميده، وتكبيره، وتمجيده، والثناء عليه بالآئه وأوصافه ؛ فهذه الكلمات الطيبات التي يثنى عليه بها، ومعانيها له وحده لا شريك له: كسبحانك اللهمَّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيركوكسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبروسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ونحو ذلك. وكلّ طيّب له وعنده ومنه وإليه، وهو طيّب لا يقبل إلا طيّبا، وهو إله الطيبين وربهم، وجيرانه في دار كرامته، هم الطيبونأطيب الكلام بعد القرآن فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن، كيف لا تنبغي إلا لله ؟ وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن " سبحان الله " تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيب وسوء عن خصائص المخلوقين وشبههمو" الحمد لله " تتضمن إثبات كلّ كمال له قولا، وفعلا، ووصفا على أتمِّ الوجوه، وأكملها أزلا وأبداو" لا إله إلا الله " تتضمن انفراده بالإلهية، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه وحده الإله الحق، وأن من تأله غيره فهو بمنزلة من اتخذ بيتا من بيوت العنكبوت، يأوي إليه، ويسكنه من الحرِّ والبرد، فهل يغني عنه ذلك شيئاو" الله أكبر " تتضمن أنه أكبر من كلِّ شيء، وأجل، واعظم، وأعز وأقوى وأمنع، وأقدر، واعلم، وأحكم، فهذه الكلمات لا تصح هي ومعانيها إلا لله وحدهالتَّسليم على الأنبياء والصالحين ثم شرع له أن يسلِّم على سائر عباد الله الصالحين، وهم عباده الذين اصطفى بعد الثناء، وتقديم الحمد لله فطابق ذلك قوله: { قُل الحمدُ للهِ وسلامٌ على عباده الذين اصطفى}18، وكأنه امتثال له، وأيضا فإن هذا تحية المخلوق فشرعت بعد تحية الخالق وقدم في هذه التحية أولى الخلق بها وهو النبي ﷺ، الذي نالت أمته على يده كل خير، وعلى نفسه، وبعده وعلى سائر عباد الله الصالحين، وأخصهم بهذه التحية الأنبياء والملائكة، ثم أصحاب محمد ﷺ، وأتباع الأنبياء مع عمومها كل عبد صالح في السماء والأرضثم شرع له بعد هذه التحية السلام على من يستحق السلام عليه خصوصا وعمومامعنى الشهادتين في التحيات ثم شرع له أن يشهد شهادة الحق التي بنيت عليها الصلاة، والصلاة حق من حقوقها، ولا تنفعه إلا بقرينتها وهي الشهادة للرسول ﷺ بالرسالة، وختمت بها الصلاة كما قال عبد الله بن مسعود: " فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك، فإن شئت فقم وإن شئت فاجلس". وهذا إما أن يحمل على انقضائها إذا فرغ منه حقيقة، كما يقوله الكوفيون، او على مقاربة انقضائها ومشارفته، كما يقول أهل الحجاز وغيرهم، وعلى التقديرين فجعلت شهادة الحق خاتمة الصلاة. كما شرع أن تكون هي خاتمة الحياة. "فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ". وكذلك شرع للمتوضئ أن يختتم وضوءه بالشهادتين، ثم لما قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجتهالصلاة على النبيِّ وشرع له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي ﷺ، فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء، كما في السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول الله ﷺ قال: "إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، وليصل على رسوله ثم ليسل حاجته". ثم جعل الدعاء لآخر الصلاة كالختم عليهافجاءت التحيات على ذلك، أولها حمدٌ لله، والثناء عليه ثم الصلاة على رسوله ثم الدعاء آخر الصلاة، وأَذِنَ النبي ﷺ للمصلي بعد الصلاة عليه أن يتخير من المسألة ما يشاءسنن الآذان الخمس ونظير هذا ما شرع لمن سمع الآذانأن يقول كما يقول المؤذنوأن يقول رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحد رسولاوأن يسأل الله لرسوله الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه المقام المحمودثم ليصل عليهثم يسأل حاجتهفهذه خمس سنن في إجابة المؤذن لا ينبغي الغفلة عنهافصل سرّ الصلاة الإقبال على الله وسرُّ الصلاة وروحها ولبُّها، هو إقبال العبد على الله بكليّته فيها، فكما أنه لا ينبغي أن يصرف وجهه عن القبلة إلى غيرها فيها، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربِّه إلى غيره فيهابل يجعل الكعبة التي هي بيت الله قبلة وجهه وبدنه، ورب البيت تبارك وتعالى قبلة قلبه وروحه، وعلى حسب إقبال العبد على الله في صلاته، يكون إقبال الله عليه، وإذا أعرضَ أعرض الله عنه، كما تدين تُدانللإقبال على الله في الصلاة ثلاث منازل والإقبال في الصلاة على ثلاثة منازل: إقبال العبد على قلبه فيحفظه ويصلحه من أمراض الشهوات والوساوس، والخطرات المُبطلة لثواب صلاته أو المنقصة لهاوالثاني: إقباله على الله بمراقبته فيها حتى يعبده كانه يراه. والثالثإقباله على معاني كلام الله، وتفاصيله وعبودية الصلاة ليعطيها حقها من الخشوع والطمأنينة وغير ذلكفباستكمال هذه المراتب الثلاث يكون قد أقام الصلاة حقا، ويكون إقبال الله على المصلي بحسب ذلككيف يكون الإقبال في كل جزء من أجزاء الصلاة فإذا انتصب العبد قائما بين يديه، فإقباله على قيُّومية الله وعظمته فلا يتفلت يمنة ولا يسرةوإذا كبَّر الله تعالى كان إقباله على كبريائه وإجلاله وعظمتهوكان إقباله على الله في استفتاحه على تسبيحه والثناء عليه وعلى سُبحات وجهه، وتنزيهه عمَّا لا يليق به، ويثني عليه بأوصافه وكمالهفإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، كان إقباله على ركنه الشديد، وسلطانه وانتصاره لعبده، ومنعه له منه وحفظه من عدوهوإذا تلى كلامه كان إقباله على معرفته في كلامه كأنه يراه ويشاهده في كلامه كما قال بعض السلف: لقد تجلّي الله لعباده في كلامهوالناس في ذلك على أقسام ولهم في ذلك مشارب، وأذواق فمنهم البصير، والأعور، والأعمى، والأصم، والأعمش، وغير ذلك، في حال التلاوة والصلاة، فهو في هذه الحال ينبغي له أن يكون مقبلا على ذاته وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه وأحكامه وأسمائهوإذا ركع كان إقباله على عظمة ربه، وإجلاله وعزه وكبرسائه، ولهذا شرع له في ركوعه أن يقول: " سبحان ربي العظيم ". فإذا رفع رأسه من الركوع كان إقباله على حمد ربه والثناء عليه وتمجيده وعبوديته له وتفرده بالعطاء والمنعفإذا سجد، كان إقباله على قربه، والدنو منه، والخضوع له والتذلل له، والافتقار إليه والانكسار بين يديه، والتملق لهفإذا رفع رأسه من السجود جثى على ركبتيه، وكان إقباله على غنائه وجوده، وكرمه وشدة حاجته إليهنّ، وتضرعه بين يديه والانكسار ؛ أن يغفر له ويرحمه، ويعافيه ويهديه ويرزقهفإذا جلس في التشهد فله حال آخر، وإقبال آخر يشبه حال الحاج في طواف الوداع، واستشعر قلبه الانصراف من بين يدي ربه إلى أشغال الدنيا والعلائق والشواغل التي قطعه عنها الوقوف بين يدي ربه وقد ذاق قلبه التألم والعذاب بها قبل دخوله في الصلاة، فباشر قلبه روح القرب، ونعيم الإقبال على الله تعالى، وعافيته منها وانقطاعها عنه مدة الصلاة، ثم استشعر قلبه عوده إليها بخروجه من حمى الصلاة، فهو يحمل همَّ انقضاء الصلاة وفراغه منها ويقولليتها اتصلت بيوم اللقاءويعلم أنه ينصرف من مناجاة مَن كلّ السعادة في مناجته، إلى مناجاة من كان الأذى والهم والغم والنكد في مناجاته، ولا يشعر بهذا وهذا إلا من قلبه حي معمور بذكر الله ومحبته، والأنس به، ومن هو عالم بما في مناجاة الخلق ورؤيتهم، ومخالطتهم من الأذى والنكد، وضيق الصدر وظلمة القلب، وفوات الحسنات، واكتساب السيئات، وتشتيت الذهن عن مناجاة الله تعالى عز وجلالكلام على التسليم ولما كان العبد بين أمرين من ربه عز وجلأحدهما: حكم الرب عليه في أحواله كلها ظاهرا وباطنا، واقتضاؤه من القيام بعبودية حكمه، فإن لكلّ حكم عبودية تخصه، أعني الحكم الكوني القدريوالثاني: فعل، يفعله العبد عبودية لربه، وهو موجب حكمه الديني الأمريوكلا الأمرين يوجبان بتسليم النفس إلى الله سبحانه، ولهذا اشتق له اسم الإسلام من التسليم، فإنه لما سلّم لحكم ربه الديني الأمري، ولحكمه الكوني القدري، بقيامه بعبودية ربه فيه لا باسترساله معه في الهوى، والشهوات، والمعاصي، ويقول: قدَّر عليّ استحق اسم الإسلام فقيل له: مسلمالشروع في بيان ثمرات الخشوع ولما اطمأن قلبه بذكر الله، وكلامه، ومحبته وعبوديته سكن إلى ربه، وقرب منه، وقرَّت به عينه فنال الأمان بإيمانه ونال السعادة بإحسانه، وكان قيامه بهذين الأمرين أمرا ضروريا اه لا حياة له، ولا فلاح ولا سعادة إلا بهولما كان ما بُلي به من النفس الأمارة، والهوى المقتضي لمرادها والطباع المطالبة، والشيطان المغوي، يقتضون منه إضاعة حظه من ذلك، أو نقصانه، اقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن شَرَعَ له الصلاة مُخلِفة عليه ما ضاع عليه من ذلك، رادَّة عليه ما ذهب منه، مجددة له ما ذهب من عزمه وما فقده، وما أخلِقَ من إيمانه، وجعل بين كل صلاتين برزخا من الزمان حكمة ورحمة، ليُجمّ نفسه، ويمحو بها ما يكتسبه من الدرن، وجعل صورتها على صورة أفعاله، خشوعا وخضوعا وانقيادا وتسليما وأعطى كل جارحة من جوارحه حظَّها من العبودية، وجعل ثمرتها وروحها إقباله على ربه فيها بكليته، وجعل ثوابها ومحلها الدخول عليه تبارك وتعالى، والتزين للعرض عليه تذكيرا بالعرض الأكبر عليه يوم القيامةلكل شيء ثمرة وثمرة الصلاة الإقبال على الله وكما أن الصوم ثمرته تطهير النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج وجوب المغفرة، وثمرة الجهاد تسليم النفس إليه، التي اشتراها سبحانه من العباد، وجعل الجنة ثمنها ؛ فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه على العبد، وفي الإقبال على الله في الصلاة جميع ما ذكر من ثمرات الأعمال وجميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيهاولهذا لم يقل النبي ﷺ: جعلت قرة عيني في الصوم، ولا في الحج والعمرة، ولا في شيء من هذه الأعمال وإنما قال: " وجعلت قرة عيني في الصلاة ". وتأمل قوله: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " ولم يقل: " بالصلاة "، إعلاما منه بأن عينه لا تقر إلا بدخوله كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه وتقر عين الخائف بدخول في محل أنسه وأمنه، فقرة العين بالدخول في الشيء أم وأكمل مِت قرة العين به قبل الدخول فيه، ولما جاء إلى راحة القلب من تعبه ونصبه قال: " يا بلال أرحنا بالصلاة ". الراحة بالصلاة أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إلى مأمنه ومنزله وقرَّ فيه، وسكن وفارق ما كان فيه من التعب والنصبوتامل كيف قال: " أرحنا بالصّلاة " ولم يقل: " أرحنا منها "، كما يقوله المتكلف الكاره لها، الذي لا يصليها إلا على إغماض وتكلف، فهو في عذاب ما دام فيها، فإذا خرج منها وجد راحة قلبه ونفسه ؛ وذلك أنَّ قلبه ممتلئ بغيره، والصلاة قاطعة له عن أشغاله ومحبوباته الدنيوية، فهو معذَّب بها حتى يخرج منها، وذلك ظاهر في أحواله فيها، من نقرها، والتفات قلبه إلى غير ربه، وترك الطمأنينة والخشوع فيها، ولكن قد عَلِمَ أنَّه لا بدّ له من أدائها، فهو يؤديها على أنقص الوجوه، قائل بلسانه ما ليس في قلبه ويقول بلسان قلبه حتى نصلي فنستريح من الصلاة، لا بهافهذا لونٌ وذاك لونٌ آخرففرق بين مَن كانت الصلاة لجوارحه قيدا ثقيلا، ولقلبه سجنا ضيقا حرجا، ولنفسه عائقا، وبين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيما، ولعينه قرة ولجوارحه راحة، ولنفسه بستانا ولذةفالأول: الصلاة سجن لنفسه، وتقييد لجوارحه عن التورط في مساقط الهلكات، وقد ينال بها التكفير والثواب، أو ينال من الرحمة بحسب عبوديته لله تعالى فيها، وقد يعاقب على ما نقص منهاوالقسم الآخر: الصلاة بستان له، يجد فيها راحة قلبه، وقرّة عينه، ولذَّة نفسه، وراحة جوارحه، ورياض روحه، فهو فيها في نعيم يتفكَّه، وفي نعيم يتقلَّب يوجب له القرب الخاص والدنو، والمنزلة العالية من الله عزَّ وجل، ويشارك الأولين في ثوابهم، بل يختص بأعلاه، وينفرد دونهم بعلو المنزلة والقربة، التي هي قدر زائد على مجرد الثوابمن فوائد الصلاة القرب من الله ولهذا تَعِدُ الملوك من أرضاهم بالأجر والتقريب، كما قال السحرة لفرعون: { إنَّ لَنَا لأَجرا إن كُنَّا نحنُ الغالبينَ} 19، { قالَ نَعم وإنَّكم لَمنَ المُقرَّبين} 20فوعدهم بالأجر والقرب، وهو علو المنزلة عندهفالأول: مَثَله مثل عبد دخل الدار، دار الملك، ولكن حيل بينه وبين رب الدار بسترٍ وحجاب، فهو محجوب من وراء الستر فلذلك لم تقر عينه بالنظر إلى صاحب الدار والنظر إليه ؛ لأنه محجوب بالشهوات، وغيوم الهوى ودخان النَفس، وبخار الأماني، فالقلب منه بذلك وبغيره عليل، والنفس مُكبَّة على ما نهواه، طالبة لحظها العاجلفلهذا لا يريد أحد من هؤلاء الصلاة إلا على إغماض، وليس له فيها راحة، ولا رغبة ولا رهبة فهو في عذاب حتى يخرج منها إلى ما فيه قرة عينه من هواه ودنياهوالقسم الآخر: مَثَلُهُ كمثلِ رَجُلٍ دخَل دار الملك، ورفع الستر بينه وبينه، فقرَّت عينه بالنظر إلى الملك، بقيامه في خدمته وطاعته، وقد أتحفه الملك بأنواع التحف، وأدناه وقربه، فهو لا يحب الانصراف من بين يديه، لما يجده من لذَّة القرب وقرة العين، وإقبال الملك عليه، ولذة مناجاة الملك، وطيب كلامه، وتذلُّله بين يديه، فهو في مزيد مناجاة، والتحف وافدة عليه مِن كلِّ جهة، ومكتن وقد اطمأنت نفسه، وخشع قلبه لربه وجوارحه، فهو في سرورٍ وراحةٍ يعبد الله، كأنه يراه، وتجلَّى له في كلامه، فأشد شيء عليه انصرافه مِن بين يديه، والله الموفق المُرشد المعين، فهذه إشارة ونبذة يسيرة في ذوق الصلاة، وسرّ من أسرارها وتجلٍّ من تجلياتهافصل الفرق بين أهل السماع وأهل الصلاة فنحن نناشد أهل السماع بالله الذي لا إله إلا هو، هل يجدون في سماعهم مثل هذا الذوق أو شيء منه؟ بل نناشدهم بالله، هل يدعهم السماع يجدون بعض هذا الذوق في صلاتهم أو جزءا يسيرا منها؟ بل هل نَشَقُوا من هذا الذوق رائحة، أو شموا منه شمة قط ؟ ونحن نحلف، عنهم أن ذوقهم في صلاتهم وسماعهم صد هذا الذوق، ومشربهم ضد هذا المشربولولا خشية الإطالة لذكرنا نُبذة من ذوقهم في سماعهم، تدلُّ على ما ورائهاولا يخفى على من له أدنى عقل، وحياة قلب، الفرق بين ذوق الآيات، وذوق الأبيات، وبين ذوق القيام بين يدي رب العالمين، والقيام بين يدي المغنين، وبين ذوق اللذة والنعيم بمعاني ذكر الله تعالى والتلذذ بكلامه، وذوق معاني الغناء، والتطريب الذي هو رقية الزنا، وقرآن الشيطان، والتلذذ بمضمونها فما اجتمع والله الأمران في قلب إلا وطرد أحدهما الآخر، ولا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عز وجل عند رجلٍ أبدا، والله سبحانه وتعالى أعلمفصل فمتى تجئ الأذواق الصحيحة المستقيمة إلى قلوب قد انحرفت أشد الانحراف عن هدي نبيها ﷺ، وتركت ما كان عليه هو وأصحابه والسلف الصالح، فإنهم كانوا يجدون الأذواق الصحيحة المتصلة بالله عز وجل في الأعمال: الصلاة المشروعة، وفي قراءة القرآن، وتدبره واستماعه، وأجر ذلك، وفي مزاحمة العلماء بالركب، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الحب في الله والبغض فيه، وتوابع ذلك، فصار ذوق المتأخرين إلا من عصمه الله في اليراع والدف، والمواصيل، والأغاني المطربة من الصور الحسان والرقص، والضجيج، وارتفاع الأصوات، وتعطيل ما يحبه الله، ويرضاه من عبادته المخالفة لهوى النفس.فشتَّان بين ذوق الألجان وذوق القرآن وبين ذوق العود والطنبور، وذوق المؤمنين والنُّور، وبين ذوق الزَّمر وذوق الزمر، وبين ذوق الناي وذوق { اقتربت السَّاعة وانشق القمر } 21 وبين ذوق المواصيل والشبَابات وذوق يس والصافات، وبين ذوق غناء الشعر وذوق سورة الشعراء، وبين ذوق سماع المكاء والتصدية وذوق الأنبياءوبين الذوق على سماع تُذكر فيه العيون السود والخصور والقدود، وذوق سماع سورة يونس وهود، وبين ذوق الواقفين في طاعة الشيطان على أقدامهم صواف، وذوق الواقفين في خدمة الرحمن في سورة الأنعام والأعراف، وبين ذوق الواجدين على طرب المثالث والمثاني، وذوق العارفين عند استماع القرآن العظيم والسبع المثاني، وبين ذوق أولى الأقدام الصفات في حظيرة سماع الشيطان، وذوق أصحاب الأقدام الصافات بين يدي الرحمنسبحان الله هكذا تنقسم والمواجيد، ويتميز خُلق المطرودين مِن خُلق العبيد، وسبحان الممد لهؤلاء وهؤلاء من عطائه والمفارق بينهم في الكرامة يوم القيامة، فوالله لا يجتمع محبو سماع قرآن الشيطان ومحب سماع كلام الرحمن في قلب رجل واحد أبداكما لا تجتمع بنت عدو الله وبنت رسول الله عند رجل واحد أبداأنت القتيل بكلِّ مَن أحببته ** فاختر لنفسك في الهوى مَن تصطفي سماع أهل الحق كان أصحاب محمد ﷺ ورضي الله عنهم، إذا اجتمعوا واشتاقوا إلى حاد يحدو بهم، ليطيب لهم السير، ومحرك يحرك قلوبهم إلى محبوبهم، أمروا واحدا منهم يقرأ والباقون يستمعون، فتطمئن قلوبهم، وتفيض عيونهم ويجدون من حلاوة الإيمان أضعاف ما يجده السماعاتية من حلاوة السماعوكان عمر بن الخطاب إذا جلس عنده أبو موسى يقول: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيأخذ أبو موسى، في القراءة، وتعمل تلك الأقوال في قلوب القوم عملها، وكان عثمان بن عفان يقول: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام اللهوأي والله، كيف تشبع من كلام محبوبهم وفيه نهاية مطلوبهم ؟ وكيف تشبع من القرآن ؟ وإنما فتحت به لا بالغناء والألحان؟وإذا مَرضنا تداوينا بذكركُم ** فإن تركناه زادَ السقم والمرض وأصحاب الطرب والألحان عن هذا كله بمعزل، هم في وادي والقوم في وادوالضبُّ والنُون قد يرجى التقاؤهما ** وليس يُرجى التقاء الوحي والقصب فأين حال من يطرب على سماع الغناء والقصب بين المثالث والمثاني وذوقه ووجده إلى حال من يجد لذة السماع وروح الحال، وذوق طعم الإيمان إذا سمع في حال إقبال قلبه على الله وأنسه به وشوقه إلى لقائه، واستعداده لفهم مراده من كلامه وتنزيله على حاله وأخذه بحضه الوافر منه قارئا مجيداص حسن الصوت والأداء يقرأبسم الله الرحمن الرحيم {طه ما أنزلنا عليك القُرآن لتشقى إلاَّ تذكرةً لمن يخشَى تنزيلا ممَّن خلقَ الأرضَ والسَّماوات العُلى الرَّحمَن على العرش استوى له ما في السَّماوات وما في الأرضِ وما بينهما وما تحت الثَّرى وإن تجهر بالقولِ فإنَّه يَعلَمُ السِّرَّ وأخفى}22وأمثال هذا النمط من القرآن الذي إذا صادف حياة في قلب صادق قد شمَّ رائحة المحبة وذاق حلاوتها، فقلبه لا يشبع من كلام محبوبه ولا يقر ولا يطمئن إلا به، كان موقعه من قلبه كموقع وصال الحبيب بعد طول الهجران، وحلَّ منه محلَّ الماء البارد في شدَّة الهجير من الظمأ، فما ظنُّك بأرض حياتها بالغيث أصابها وابله، أحوج ما كانت إليه، فأنبت فيها من كلِّ زوج بهيج، قائم على سوقه يشكره ويثني عليهفهل يستوي عند الله تعالى وملائكته ورسوله والصادقين من عباده، سماع هذا وسماع هذا، وذوق هذا وذوق هذا، فأهل سماع الغناء عبيد نفوسهم الشهوانية، يعلمون السماع طلبا للذة النفس ونيلا لحظها الباطل، فمن لم يميز بين هذين السماعين، والذوقين فليسأل ربه بصدق، رغبته إليه أن يحيي قلبه الميت، وأن يجعل له نورا يستضيء به في ظلمات جهله، وأن يجعل له فرقانا فيفرِّق به بين الحق والباطل، فإنه قريب مجيبفصل في التنبيه على نكتة خفيَّةٍ من نكت السَّماع وفي السماع نكتة حقيقية أصلية يعرفها أهلها، ويجدونها بعد انقضائه وهي أنه قد علم الذائقون منهم أنه ما وجد صادق في السماع الشعري وجدا، وتحرك به إلا وجد بعد انقضائه ومفارقة المجلس قبضا على قلبه، ونوع استيحاش، وأحس ببعده وانقطاعا وظلمة، ولا يتفطن لهذا الأمر إلا من في قلبه أدنى حياة وإلا: فما لجرح بميت إيلام، ولو سئل عن سبب هذا لم يعرفه ؛ لأن قلبه مغمور في السماع وذوقه الباطل ؛ فهو غافل عن استخراج آلامه التي طرقته فيه، وعن أسباب فساد القلب منه، ولو وزنه بالميزان العدل لعلِمَ من أين أتى، فاسمع الآن السبب الذي لأجله نشأ منه هذا القبض، وهذه الوحشة، والبعدلما كان السماع الشعري أعلى أحواله أن يكون ممتزجا بحق وباطل، ومركبا من شهوة وشبهة، وأحسن أحوال صاحبه أن تأخذ الروح حظها المحمود منه، ممتزجا بحظ النفس، والشيطان والهوى فهو غير صافٍ، ولا خالص،

 فامتزج نصيب الصادق فيه من الرحمن بنصيب الشيطان، واختلط حظ القلب بحظ النفس، هذا أحسن أحواله، فإنه مؤسس على حظ النفس والشيطان وهو فيه بذاته وهو نصيبه من الرحمن فهو فيه بالعرض، لوم يوضع عليه ولا أسس عليه فاختلط في وادي القلب الماء اليسير الصافي بالماء الكثير الكدر، وغلب الخبيث في الطيب، أو تجاورا والتقت الواردات الرحمانية، والواردات الشيطانيةوالمستمع الصاد لغلبة صدقه، وظهور أحكام القلب فيه يخفى عليه ذلك الوقت أثر الكدر ولا يشعر به سيَّما مع سُكر الروح به، وغيبتها عن سوى مطلوبه، فلما أفاق من سكره، وفارق لذة السماع وطيبه، وجد اللوث والكدر الذي هو حظ النفس، والشيطان، وأثر جثوم الشيطان على قلبه فأثر فيه ذلك الأثر قبضا، ووحشة، وأحس به بعدا وكلما كان أصدق وأتم طلبا كان وجوده لهذا أتم وأظهر فإن استعداده هو بحياة قلبه يوجب له الاحساس بهذا، ولا يدري من أين أتى، وهذا له في الشاهد نظائر وأشباه منهاإنَّ الرجل إذا اشتغل قلبه اشتغالا تاما بمشاهدة محبوب أو رؤية مخوف، أو لذةٍ مَلَكت عليه حسّه وقلبه، إذا أصابه في تلك الحالة ضربٌ، أو لسعٌ أو سببٌ مؤلم، فأنه لا يكاد يشعر به، فإذا فارقته تلك الحالة وجد منه ألم حتى كأنه أصابه تلك الساعة، فإنه كان في مانع يمنعه من الإحساس بالألم فلما زال المانع أحس بالألمأهل الصدق إذا دخلوا في السماع الباطل ولهذا كان بعض الصادقين إذا فارق السماع بادر إلى تجديد التوبة والاستغفار، وأخذ في أسباب التداوي التي يُدفع بها موجب أسباب القبض والوحشة والبعدوهذا القدر إنما يعرفه أولوا الفقه في الطريق أصحاب الفِطَن، المعتنون بتكميل نفوسهم، ومعرفة أدوائها وأدويتها والله المستعانولا ريب أن الصادق في سماع الأبيات قد يجد ذوقا صحيحا إيمانيا، ولكن ذلك بمنزلة من شرب عسلا في إناء نجسوالنفوس الصادقة ذوات الهمم العالية رفعت أنفسها عن الشراب في ذلك الإناء تقذرا له، ففرت منه لاستقامتها وطهارتها، وعلو همتها فهي لا تشرب ذلك الشراب إلا في إناء يناسبه، فإذا لم يجد إناء يناسبه صانت الشراب عن وضعه في ذلك الإناء، وانتظرت أن يليق به

وغيرها من النفوس تضع ذلك الشراب في أي إناء انفق لها ؛ من عظام ميتة أو جلد كلب أو خنزير أو إناء خمر، طالما ما شرب به الخمر، أو لا يستحي الغراب أن يشرب أطيب شراب وألذه في هذه الآنية ؟ ولو جرَّد الصادق ذلك في حال سماعه لوجد ذوقه من ذلك، ولكن حلاوة العسل تغيب عنه نتنه وقذره وأثر قبحه على قلبه في تلك الحال، فبعد مفارقته يوجب له ذلك وحشةً وقبضا، هذا إذا كان صادقا في حاله مع الله وكان سماعه لله وباللهوأما إن كان كاذبا كان سماعه للذة نفسه وحظه فهو يشرب النجاسات في الآنية القذرات ولا يحس بشيء مما ذكرناه ؛ لاستيلاء الهوى والنفس والشيطان عليهوأما صاحب السماع القرآني الذي تذوَّقه، وشرب منه، فهو يشرب الشراب الطهور، الطيب النظيف في أنظف إناءٍ، وأطيبه، وأطهرهفالآنية ثلاثة: نظيف، ونجس، ومختلطوالشرابات ثلاثة: طاهر ونجس وممزوجالقلوب ثلاثة والقلوب ثلاثة: صحيح سليم فشرابه الشراب الطهور في الإناء النظيف، وسقيم مريض فشرابه الشراب النجس في الإناء القذر، وقلب فيه مادتانإيمان ونفاق، فشرابه في إناء بحسب المادتين، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، فالعارف مَن نظر في الأسباب إلى غاياتها ونتائجها، وتأمل مقاصدها، وما تؤول إليهومَن عرف مقاصد الشرع في سدِّ الذرائع المفضية إلى الحرام، قطع بتحريم هذا السَّماع، فإنَّ المرأة الأجنبية وسماع صوتها حرام، وكذلك الخلوة بهاالمحرمات في الشريعة ومحرمات الشريعة قسمانقسم حُرِّم لما فيه من المفسدةوقسم حُرِّم لأنه ذريعة إلى ما اشتمل عليه من المفسدةفمن نظر إلى صورة هذا المحرم، ولم ينظر إلى ما هو وسيلة إليه استشكل وجه التحريموالله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين محمد ﷺ وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، بمنِّك وكرمك يا أرحم الراحمينهامش [طه: 1-7] [الزمر: 22] [الأحقاف: 19] [ البقرة: 222] [ غافر: 7] [الزمر: 75] [رواه مسلم (482) عن أبي هريرة رضي الله عنه ] [هذا القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى (21/287) (23/138) ] [ المزمل: 2] [البقرة: 238] [الإسراء: 78] [المزمل: 48] [ البقرة: 43] [المراسلات: 48] [ الحجر: 98] [العلق: 19] [ الجمعة: 9] [ المنافقون: 9] [النمل: 59] [الشعراء: 41] [الأعراف: 114] [القمر: 01]

 

كتاب تحفة المودود

  كتاب تحفة المودود   بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله العلي العظيم الحليم الكريم الغفور الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن ال...