اللهم آمين

دعـــــاء ((سبحان الذي تعطف العزّ وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام)). دعـــــاء ((سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عددَ ما خلق في الأرض، وسبحان الله عددَ ما بين ذلك، وسبحان الله عددَ ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده، لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً...)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) دعـــــاء ((سبحان الله ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة)) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديعُ السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام...)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما خلق الله، والحمد لله ملء ما خلق الله، والحمد لله عدد ما في السموات والأرض، والحمد لله ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، وسبحان الله مثلهن)) دعـــــاء ((ربَّنا لك الحمد، مِلْءَ السموات والأرض ومِلْءَ ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناءِ والمجد، أحقُّ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)) دعـــــاء ((الحمد لله الذي يطعم ولا يُطعم، منّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكلِّ بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مُوَدّع ولا مكافئ ولا مكفور ولا مستغنىً عنه. الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العُرْي، وهدى من الضلالة، وبَصّر من العماية، وفضّل على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما أحصى كتابُه، والحمد لله عدد ما في كتابه، والحمد عدد ما أحصى خلقه، والحمد لله مِلْءَ ما في خلقه، والحمد لله مَلْءَ سماواته وأرضه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله على كل شيء)) دعـــــاء ((اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهَك. لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتُعصى فتغفر. أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال. القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم...)) دعـــــاء ((تمَّ نورك فهديت فلك الحمد، عظم حلمك فعفوت فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد. ربَّنا: وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهناها. تطاع ربَّنا فتشكر، وتُعصى ربَّنا فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضر، وتَشفي السُقم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد، ولا يبلغ مدحتَك قولُ قائل) دعـــــاء ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدّ) دعـــــاء ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، و النبيون حق، ومحمد حق. ) دعـــــاء اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت...) .(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم...) (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) دعـــــاء ((لا إله إلا الله قبل كل شيء، ولا إله إلا الله بعد كل شيء، ولا إله إلا الله، يبقى ويفنى كل شيء) دعـــــاء ((اللهم ربَّ السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كل شيء، فالقَ الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء اقض عنا الدين و أغننا من الفقر) دعـــــاء ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) دعـــــاء ((يا مَن أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا كريم الصَفح، يا عظيم المنّ، يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها، يا ربنا ويا سيدنا، ويا مولانا، ويا غاية رغبتنا أسألك يا الله أن لا تَشوي خلقي بالنار) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا مانع لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت...) دعـــــاء ((اللهم بك أصاول، وبك أحاول، وبك أقاتل)) دعـــــاء ((اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي...) دعـــــاء ((اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى، ونَحْفِد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك؛ إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلْحِق) دعـــــاء ((اللهم رب السموات ورب الأرضين، وربَّنا وربَّ كل شيء، فالق الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن... أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، والظاهر فليس فوقك شيء، والباطن فليس دونك شيء...) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك باسمك الطاهر الطيب المباركِ الأحب إليك الذي إذا دُعيت به أجبتَ، وإذا سُئلت به أعطيتَ، وإذا استُرحمت به رحمت، وإذا استُفرجت به فَرّجت...) دعـــــاء ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطَر السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون...) دعـــــاء ((اللهـم أنت المـلك لا إلـه إلا أنــت، أنـت ربـي وأنـا عبـدك... لبيـك وسعديـك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت... اللهم ربنا لك الحمد مِلْءَ السماء ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ مابينهما ومِلْءَ ما شئت من شي بعد... أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله ألا أنت) دعـــــاء ((اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم لك أنفه...) دعـــــاء ((اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 25 يناير 2024

صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة المؤلف: أبو مالك كمال بن السيد سالم ج1.

صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة

أعده أبو مالك كمال بن السيد سالم

مع تعليقات فقهية معاصرة

فضيلة الشيخ/ ناصر الدين الألباني

فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن باز فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين

الجزء الأول

قال تعالى:

{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة: 122]

وقال صلى الله عليه وسلم:

«من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» [متفق عليه].

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقدمة فضيلة الشيخ/ فؤاد سراج عبد الغفار - حفظه الله-

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، ومعلمًا ومرشدًا للخلق أجمعين.

وبعد:

لقد تصفحت كتاب [صحيح فقه السنة] لأخي الفاضل/ أبى مالك كمال بن السيد، حفظه الله تعالى ورعاه، ورزقه العلم النافع والعمل الصالح، فوجدته جمع فيه من الأدلة الصحيحة ما لا يوجد في غيره من كتب الفقه التي حوت الضعيف والصحيح، فهو كتاب يستحق شد الرحال إليه لكل من أراد التفقه في الدين، وأنصح كل مسلم ومسلمة أن يقتني هذا الكتاب لما فيه من علم جم أخذ من المؤلف جهدًا ذهنيًا وجسديًا وسهر الليالي لتتبع الأدلة الصحيحة في مسائل الخلاف ويخرجها لك سهلة ميسرة، والأخ كمال قد تربى بيننا صغيرًا ومنذ نعومة أظفاره كان يسأل أسئلة فقهية سابقة لسنه، فتوقعت له خيرًا كثيرًا بالتفقه في الدين، وأصبح توقعي حقيقة فقد رزقه الله الفقه في الدين، وهذا الكتاب الذي بين يديك أكبر شاهد على ذلك.

والمؤلف يستحق التقدير والشكر والدعاء على هذا التأليف النافع والجمع النفيس القيِّم في الثقة.

و «من يرد الله بن خيرًا يفقهه في الدين» [متفق عليه].

فهنيئًا لك هذا الخير الذي يستحق الشكر لله حتى يأتيك اليقين، وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه وقارئه، إنه سميع مجيب.

والحمد لله أولاً وأخيرًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبه وسلم.

وكتبه

أبو عبد الرحمن/ فؤاد بن سراج عبد الغفار

 

(1/3)

 

 

مقدمة المؤلف

الحمد لله على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وعلى وآله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد تتابعت كلمة عامة علماء الإسلام في فواتح مؤلفاتهم، وكريم مدوناتهم لجملة من علوم الشريعة الموقرة، وفنونها المشرَّفة، على أن شرف العلم تابع لشرف معلومه، وكرامة عرقه مؤثرة على مولوده.

وقد حصل بالتتبع والاستقراء اتفاق كلمتهم على أن من أشرف العلوم جميعًا، وأعظمها خيرًا ونفعًا: علم أحكام أفعال العبيد، المشتهر بعد باسم «الفقه الإسلامي» المشمول في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه بالدين» (1). وقد خص بالدعوة بالفقه في الدين: ربيب بيت النبوة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل».

فصار ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ترجمان القرآن وحبر الأمة وبحرها الذي لا ينزف.

وعظمة هذا العلم وشرفه تَجل عن الوصف والإحاطة؛ ذلك أنها أحكام تساير المسلم وتلازمه في عموم مسالك حياته فيما بينه وبين ربه؛ وفيما بينه وبين عباده.

فيها يشد حبل الاتصال بعبادة ربه في علانيته وسره؛ من طهارة وصلاة، وزكاة وصيام وحج ونسائك.

وبها ينشر راية الإسلام، ويرفع منار القرآن وذلك في فقه الجهاد، والمغازي، والسير، والأمان، والعهد ونحو ذلك.

وبها يتطلب الرِّزق المباح، ويبتعد عن مواطن الإثم والجناح، وذلك في فقه

_________

(1) متفق عليه. من حديث معاوية رضي الله عنه.

 

(1/5)

 

 

المعاملات من بيع وشراء، وخيار، وربا، وصرف، وما جرى مجرى ذلك لا يرتبط بمعاملات الخلق المالية لبعضهم مع بعض.

وبها يُجرى الأموال في وظائفها الشرعية من وقف ووصية ونحوهما من أحكام التصرفات المالية.

وبها يقف على فقه الفرائض المحكمة فيسعد بنصف العلم، وتستقر أموال في يد أربابها على أعدل قسمة وأتم نظام.

وبفقهها ينعم بالحياة الزوجية الشرعية، وما يلحق بها من الأحكام، وما يتعلق بها من طلاق ونحوه.

ويحيط بمدى محافظة الإسلام على ضروريات الحياة المشمولة باسم: الجنايات والدِّيات والحدود والتعزيزات؛ فيعيش في أمن وأمان، وراحة بال واستقرار.

وهكذا في أحكام الأطعمة والنحائر والأيمان، وفى مباحث التقاضي وقواعده وطرقه وأحكامه موطن تحقق العدالة وفصل الخصام؛ فتقر الحقوق في أنصبائها وتعاد الظلامات إلى أهلها.

ولجلائل هذه النعم تسابق العلماء في تدوين الفقه الإسلامي، فقعدوا القواعد، وأصلوا الأصول، واستنبطوا الأُلوف المؤلفة من الفروع في آلاف المجلدات.

وهؤلاء الأجلة من العلماء على تنوع مؤلفاتهم الفقهية وتزاحم هممهم العليَّة تختلف مدوناتهم باختلاف مشاربهم واتجاه فقههم.

فمنهم من ألف في دائرة مذهبه وما زاد.

ومنهم من ألف في دائرة المذاهب الفقهية المنتشرة في الأمصار.

ومنهم من كان كذلك مبينًا أدلة الخلاف ووجوه الاستدلال.

ومنهم رعيلٌ ألف على سبيل الاجتهاد والتحقيق، والنظر العميق؛ فحرر الوقائع وبين النوازل، وساق لها صنوف الأدلة من مشكاة النبوة، سائرًا مع السنن حيث سارت ركائبها، متجها معها حيث كانت مضاربها، فأخرجوا بذلك للناس علمًا جمًا، وفكرًا خصبًا جاريًا على أسعد القواعد وأرشدها.

 

(1/6)

 

 

وهذا النوع من الفقه هو أصلاً حظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألقوه إلى التابعين لهم بإحسان، وهكذا تلقفه من تبعهم بالحسنى فدونوه على هذا النمط الكريم والمنهج السليم (1).

وهدا النوع من الفقه في الدين هو ما عناه ابن القيم- رحمه الله تعالى- في فاتحة «تهذيب السنن» بقوله (2):

«فإن أولى ما صرفت إليه العناية، وجرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضل غاية تتنافس فيه المتنافسون، وشمَّر إليه العاملون: العلم الموروث عن خاتم المرسلين، ورسول رب العالمين، الذي لا نجاة لأحد إلا به، ولا فلاح له في داريه إلا بالتعلق بسببه، الذي من ظفر به فقد فاز وغنم، ومن صرف عنه فقد خسر وحُرم؛ لأنه قطب السعادة الذي مدارها عليه، وآخيَّة الإيمان الذي مرجعه إليه، فالوصول إلى الله وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب الهدى من غير هو عين الضلال، وكيف يوصل إلى الله من غير الطريق التي جعلها هو سبحانه موصلة إليه، ودالة لمن سلك فيها عليه، بعث رسوله بها مناديًا، وأقامه على أعلامها داعيًا، وإليها هاديًا؛ فالباب عن السالك في غيرها مسدود، وهو عن طريق هداه وسعادته مصدود، بل كلما ازداد كدحًا واجتهادًا، ازداد من الله طردًا وإبعادًا، ذلك بأنه صدف عن الصراط المستقيم، وأعرض عن المنهج القويم، ووقف مع آراء الرجال، ورضى لنفسه بكثرة القيل والقال، وأخلد إلى الأرض التقليد، وقنع أن يكون عيالاً على أمثاله من العبيد، لم يسلك من سبل العلوم مناهجها، ولم يرتق في درجاته معارجها، ولا تألقت في خلده أنوار بوارقه، ولا بات قلبه يتقلب بين رياضه وحدائقه، لكنه ارتضع من ثدي من لم تطهر بالعصمة لبانه، وورد مشربًا آجنًا طالما كدره قلب الوارد ولسانه، تضح منه الفروج والدماء والأموال، إلى من حلَّل الحلال وحرم الحرام، وتعج منه الحقوق، إلى منزِّل الشرائع والأحكام، فحق

_________

(1) في كشف هذا الطور الفقهى البناء انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 5 - 6 وما بعدها). وكتاب «الفكر السامي في تاريخه الفقه الإسلامى» للحجوى.

(2) انظر: «تهذيب سنن أبى داود» (1/ 5 - 7) طبع سنة 1367 هـ بمطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر، بتحقيق الشيخين أحمد شاكر، ومحمد الفقهى. وانظر في هذا المعنى: كتاب «الأحكام» لابن حزم: (6/ 103، 125).

 

(1/7)

 

 

على من كان في سعادة نفسه ساعيًا، وكان قلبه حيًا واعيًا بنفسه عن أن يجعل كده وسعيه في نصرة من لا يملك له ضرًا ولا نفعًا، وأن ينزلها في منازل الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فإن لله يومًا يخسر فيه المبطلون، ويربح فيه المحققون {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} (1)، {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (2)،

فما ظن من اتخذ غير الرسول إمامه، ونبذ سنته وراء ظهره، جعل خواطر الرجال وآراءها بين عينه وأمامه، فسيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع، وعند الوزن ماذا أحضر من الجواهر أو خرثى المتاع» اهـ (3).

ومن هنا اشتدت العزيمة، ويممت قبلة القصد إلى جمع كتاب في أبواب الفقه على نسق استحسنته (4)، رجاء أن أنال الخيرية من الفقه في الدين.

وقد دفعني إلى جمعه على هذا النسق وتلك الطريقة ثلاثة أمور:

الأول: بعض السلبيات في الكتب الفقهية القديمة، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون والمحتوى (5):

(أ) فمن حيث الشكل وطريقة الترتيب والتبويب، فإن الموضوعات في بعض هذه الكتب تتداخل تداخلاً يصعب معه -أحيانًا- العثور على المسألة المطلوبة حتى على بعض المختصين، لا سيما مع عدم وجود الفهارس الموضوعية التي تُيسِّر على الباحث مهمته، في أكثرها.

ومن حيث الأسلوب، فأسلوبها -وإن ناسب العصر الذي كتبت فيه- إلا أنه مما يعسر فهمه على المعاصرين وما يلحظ فيه: ضغط العبارة وحصر المعنى الواسع في لفظ قليل موجز، يصل إلى التعقيد والركاكة، وهذا يوجد في المتون والمختصرات التي كثرت في المتأخرين وصارت عمدة الدارسين والمتفقهين.

_________

(1) سورة الفرقان، الآية: 27.

(2) سورة الإسراء، الآية: 71 ..

(3) مقتبس من مقدمة العلامة بكر أبي زيد -حفظه الله- في «تقريب علوم ابن القيم» ص 10 - 14.

(4) سأبين مسلكي في هذا الكتاب قريبًا إن شاء الله.

(5) «ضوابط للدراسات الفقهية» للشيخ سلمان حفظه الله (ص: 33 - 38) بتصرف يسير.

 

(1/8)

 

 

وكثرة استعمال العبارات الاصطلاحية ذات الدلالة التاريخية التي لا يفهمها إلا من عاصر مدلولها.

(ب) ومن حيث المضمون والمحتوى: فمن هذه الكتب ما ألف في عصر له ظروف خاصَّة، فكانت تعنى بدراسة مشكلات ذلك العصر، وتأتى العصور التالية لها بمشكلات جديدة.

كما أن من هذه الكتب- وخاصة المتأخرة- ما يكون تركيزه على تحرير المذهب الذي ألفت فيه، دون أن يُعطى الاستدلال حقه، ودون مقارنة أو ترجيح.

هذا فضلاً عن أن عددًا كبيرًا من الكتب المذهبية غلب عليها داء التعصب المذهبي المقيت، والالتزام المطلق بالمذهب، سواء ما كان منه من نص الإمام ذاته، أو من زيادات أصحابه وتلاميذه، أو من اختيارات البارزين فيه، أو ما كان مخرَّجًا على أحد هذه المصادر!! هذا فضلاً عما يكثر في هذه الكتب من إيراد الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ودون الإشارة إلى ضعفها.

الثاني: وجود كثير من السلبيات في كتب الفقه المعاصرة، فهذه الكتب وإن تميزت بجودة الترتيب والتبويب وملاءمة روح العصر، وقرب تناولها من الباحث وأحيانًا من القارئ العادي، وإن كان بعضها لم تسيطر عليها روح العصبية المذهبية؛ فإنها يشوبها سلبيات كثيرة- بل وخطيرة أحيانًا- فيما يتعلق بالمضمون والمحتوى والنتائج التي يتوصل إليها البحث خاصة وأنها قد تطرق مسائل جديدة وقضايا نازلة، ومن ذلك:

1 - الضعف العلمي وعدم هضم التراث الفقهي والحديثي الذي يعتبر قاعدة للانطلاق في الدراسة والفتوى والتأليف، فنرى من يخالف ما أجمع عليه المسلمون خلفًا عن سلف، أو يؤيد رأيًا شاذًا منبوذًا تجاوزه الزمن، أو يُنقِّب في فقه الرافضة أو من شاكلهم على بعض الآراء تروق له، ويقدمها للمسلمين على أنها فقه الإسلام، ورأي علماء المسلمين!! (1).

2 - أن بعضها مشحون بأقوال العلماء دون العناية بالاستدلال لهذه الأقوال وترجيح الراجح منها، فيظل الباحث والقارئ في حيرة من أمره، وربما نوَّه إليه

_________

(1) «ضوابط للدراسات الفقهية» (ص: 45).

 

(1/9)

 

 

المؤلف بأن يختار من هذه الأقوال ما شاء، بحجة أن الكل مما قال به بعض العلماء (1).

3 - عدم اهتمام أكثر مؤلفيها بصحة الدليل، ولا بالترجيح- إن رجَّح- على مقتضى أصول أهل العلم في ذلك.

4 - افتقار بعضها إلى الأسلوب العلمي الفقهي، حتى أن بعضها قد كتب بطريقة خطابية لا ترى عليها مسحة العلم!!.

5 - تأثر هذه الكتب- أحيانا- بالأقاويل والشبهات التي يطلقها أعداء الإسلام، وأصبحت بعض القضايا كالسلم والحرب والجزية والعلاقات الدولية ومعاملة الذميين والمشركين، وقضايا الحكم والرق وتعدد الزوجات وغيرها لا تطرق إلا من خلال منطق ضعيف، لأنه في موقف «الدفاع» الذي يجرُّه الحرص على تبرئة ساحة الإسلام إلى نفس بعض الحقائق الثابتة، أو نسبة بعض الآراء الغريبة إلى الإسلام (2).

6 - كما تتأثر هذه الكتب بواقع الأمة الشاردة- في الجملة- عن هدى ربنا وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فتلتمس للناس المعاذير والمسوِّغات التي تهوِّن شأن المنكرات والمحرمات، وتستجيب لضغط الواقع وثقله على النفس البشرية، فتؤول النصوص الصريحة، وتضعِّف الآثار الصحيحة!! (3).

7 - وحين تدرس الكتب المعاصرة القضايا الجديدة النازلة، يبلغ بها الشطط مبلغه باعتبار أن هذه القضايا لم يسبق أن تحدث فيها العلماء، وأنها مما يمس الواقع، وقد يلتبس في هذه القضايا الحق بالباطل، مع كون حاجة الناس إليها قائمة في غيبة المنهج الإسلامي الصحيح، وإذا نظرنا إلى ما كتب في موضوع التأمين أو المعاملات المصرفية الجديدة، أو طفل الأنبوب، أو سواه، لوجدنا العجب العجاب (4).

هذا على معظم الكتب المعاصرة إنما هي دراسات متخصصة تتناول

_________

(1) سيأتي قريبًا التنبيه على هذه المسألة.

(2) «ضوابط للدراسات الفقهية» (ص: 41، 42).

(3) «السابق» (ص: 42).

(4) «السابق» (ص: 47).

 

(1/10)

 

 

أغبلها موضوعًا واحدًا، وأما العمل الفقهي المتكامل فهو وإن وجد فلا يخلو من معظم السلبيات المتقدمة.

الأمر الثالث: المعركة المشتعلة، والنفرة المصطنعة بين المحدثين والفقهاء:

فقد رأيت كثيرًا من إخواننا من طلاب الحدث ينصرفون عن تلقي علم الفقه، مقبلين على علم السنة المطَّهرة رواية دون دراية، ورأيت جُلَّ طلاب الفقه معرضين عن تلقي علم الحديث ومعرفة أسانيده، وحفظ متونه، مع انكبابهم على كتب المذاهب الفقهية وحفظ مختصراتها، وهذه النفرة كانت واقعة منذ قدم العهد يثيرها كتبةُ الحديث وصغار المتفقهة، لقصر نظرهم، فيتبادلون الغمز واللمز، قال الخطابي (1) -رحمه الله- المتوفى سنة (388 هـ): «ورأيت أهل زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا من بناء وعمارة فهو قفر وخراب، ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني من المحلين، والتقارب في المنزلين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه - إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين، فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث، فإن الأكثرين منهم إنما كدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يفقهون المعاني، ولا يستنبطون سيرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون.

وأما الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقلِّه، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيِّده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق

_________

(1) «معالم السنن» (1/ 75).

 

(1/11)

 

 

مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك زلة من الراوي أو عيًّا فيه ...» اهـ.

والحق أن الحديث والفقه أخوا صفاء، وقرينا وفاء، ولذلك قال ابن المديني -رحمه الله-: «التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم» (1) فهما للعالم كالجناحين للطائر.

قال الشوكاني (2): «والمتصدر للتصنيف في كتب الفقه -وإن بلغ في إتقانه وإتقان علم الأصول وسائر الفنون الآلية إلى حدٍّ يتقاصر عنه الوصف- إذا لم يتقن علم السنة، ويعرف صحيحه من سقيمه، ويُعوِّل على أهله في إصداره وإيراده، كانت مصنفاته مبنية على غير أساس، لأن علم الفقه هو مأخوذ من علم السنة إلا القليل منه، وهو ما صرَّح بحكمه القرآن الكريم، فما يصنع ذو الفنون بفنونه إذا لم يكن عالمًا بعلم الحديث، متقنًا له، معولاً على المصنفات فيه؟!» اهـ.

ولهذا كان أعدل المذاهب وأقواها في دقائق الفقه ومسائله مذهب المحدثين، لأنهم نهلوا من معين النبوة، واقتبسوا من مشكاة الرسالة، فعليها وردوا، وعنها صدروا (3).

«وأقبح بمحدِّث يُسأل عن حادثة فلا يدري، وقد شغله عنها جمع طرق الأحاديث، وقبيح بالفقيه أن يقال: ما معنى قول رسول الله كذا، فلا يدري صحة الحديث ولا معناه» (4).

وقد كان دأب السلف وطريقتهم أن يضموا إلى الرواية الدراية، وإلى الدراية الرواية، وبهذا أوصوا، فعن مصعب الزبيري قال: سمعت مالك بن أنس قال لابني أخته، أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس: «أراكما تحبان هذا الشأن وتطلبانه

_________

(1) «الجامع لأخلاق الراوي والسامع» للخطيب (2/ 211).

(2) «أدب الطلب» (ص 45 - 46).

(3) «تذكرة الحديثي والمتفقِّه» لصالح العصيمي (ص: 6).

(4) «صيد الخاطر» لابن الجوزي (ص: 399 - 400).

 

(1/12)

 

 

-يعني: سماع الحديث- قالا: نعم، قال: «إن أجبتما أن تنتفعا به، وينفع الله بكما، فأقلا منه وتفقَّها» (1).

قلت: فما أحوجنا إلى فقه مأخوذ من صحيح السنة والأثر، بفهم سلف الأمة وفقهائها، جاريًا على أصول أهل العلم.

 

[المسلك في هذا الكتاب]

وبعد:

فكانت هذه الأمور الثلاثة مما دفعني إلى الإقدام على تأليف هذا الكتاب الذي أسأل الله أن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يجعله خطوة على طريق الفقه في دينه، وأن يجنبني فيه ما انتقدتُ من سلبيات رأيتها في غيره، والتي لا أدعي لنفسي العصمة من نظائرها.

وقد سلكتُ في هذا الكتاب ما يلي:

1 - رتَّبتُ كتبه وأبوابه على نمط قريب من معظم كتب الفقه، مع شيء يسير من الاختلاف، حيث بدأتُ بقسم العبادات والذي يحتوي على كتاب الطهارة، والصلاة والجنائز والزكاة والصيام والحج، وألحقت بها ما يتصل بالعبادات: ككتاب الأيمان والنذور، والأطعمة والأشربة، والصيد والذبائح ونحوها.

ثم أتبعتُه بقسم أحكام الأسرة (الأحوال الشخصية) وما يتعلق بها، ككتاب اللباس والزينة وأحكام النظر، والمواريث.

ثم كتاب الحدود، والجنايات والديات، ثم البيوع ... وهكذا.

2 - وقد مهَّدت لهذه الكتب بمقدمة في نشأة المذاهب وأسباب اختلاف العلماء ومسائل تتعلق بالتقليد ونحو ذلك، مما ينبغي لطالب العلم معرفته قبل الشروع في دراسة الفقه.

3 - وقد اجتهدت في ترتيب مواضيعه، وصياغتها بأسلوب سهل واضح، يناسب الباحث والقارئ العادي، ومع هذا راعيت قدر الإمكان أن تكون عباراته

_________

(1) «المحدث الفاضل» للرامهرمزي (ص 241)، و «نصيحة أهل الحديث» للخطيب (ص 37) عن «تذكرة الحديثي والمتفقه» (ص: 28).

 

(1/13)

 

 

قريبة من عبارات الفقهاء في دقتها ودلالتها على المقصود وربما أختار العبارة المُثلى مما أقف عليه في المراجع الفقهية المختلفة.

4 - وقد رتبتُ مسائله ترتيبًا مستلسلاً منطقيًّا، حسب تواردها على ذهن القارئ، لتكون أقرب متناولاً، وأيسر مأخذًا.

5 - وقد عنيت بوضع العناوين التفصيلية التي تدل على المراد بوضوح، إضافة إلى العناوين الكلية التي تحدد موضوع الأبحاث، وتفرز الموضوعات بعضها عن بعض، وترتب الأفكار داخل الموضوع الواحد.

6 - وقد بذلت وسعى في الاستدلال لكل مسألة بكتاب الله -إن أمكن- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، بعد جمع الأدلة فيها وتنقيحها والحكم على أحاديثها بما تستحقه صحة وضعفًا، مع إثبات ذلك في الحاشية مختصرًا بقدر الإمكان، وإن كان في المسألة إجماع ذكرته معزوًّا إلى ناقله.

7 - وإن كانت المسألة خلافية -وهو الغالب على مسائل الفقه- فإنني أورد الخلاف ولا أهمله، وكيف لا أفعل، وقد قال قتادة: «من لم يعرف الاختلاف، لم يشم الفقه بأنفه» (1).

وذلك أن الجهل بالخلاف قد يؤدي إلى رد بعض الحق الذي لا يعلمه، إذ الحق غير منحصر في قول فرد من العلماء كائنًا من كان، ولذا روى عثمان بن عطاء عن أبيه قوله: «لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمًا باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك ردَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه» (2).

فإن كان الخلاف في المسألة معتبرًا قويًا، كانت طريقتي في عرضه: أن أذكر كل قول، والقائلين به من أهل العلم معتمدًا في نقل آرائهم على كتب الإمام نفسه -إن أمكن- وإلا فعلى كتب المذهب المعتمدة لدى علمائه، مع إثبات توثيق هذه الآراء في الحاشية.

ثم أسوق ما وقفتُ عليه من حُجج لهذا القول، مع إبداء وجه الدلالة من الدليل -إن لم يكن ظاهرًا- وأحيانًا أُتبع كل دليل بما اعترض عليه وأُجيبَ عنه به من الفريق الآخر إتمامًا للفائدة.

_________

(1) «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 46).

(2) «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 46).

 

(1/14)

 

 

ثم أفعل هذا مع كل قول من أقوال العلماء في المسألة.

8 - ولا أكتفي بمجرد نقل هذه الأقوال وسرد أدلتها، لأن مجرد عرضها دون ترجيح يوقع القارئ في الحيرة واضطراب، من جهة أن الباحث الذي جمع الأقوال ونقَّب عنها لم يُرجِّح، فالغالب أن غيره لا يملك ذلك من باب أولى، بل أحرص على تفهُّم الأقوال وتمحيصها سندًا ومتنًا، ودلالة وأقارن بعضها ببعض، وإجراء ذلك على أصول أهل العلم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، بغرض الوصول للقول الناجح مع غير تعصُّب لأحد كائنًا من كان، فالباحث المنصف، إنما يبحث عن الحق، وعن مراد الله تعالى، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعنيه بعد ذلك إن وافق قول فلان أو فلان، خاصة وأنه إنما يخرج من قول إمام إلى قول إمام آخر.

وقد التزمت في ذلك أن أكون وراء نصوص الشريعة، أسمع منها وأصغى إليها وأفهم مرادها، فلا أسبقها بالقول، ولا أقوِّلها ما لم تقل، ولا أحملها ما لا تحتمل، ولا أطوِّعا على ما تشتهي النفس أو يشتهي ألناس.

والمقصود أنني أحاول الترجيح بمقدار ما بلغت إليه الملكة إن ظهر لي وجه معتبر في الترجيح، فإذا لم يتبين لي وجه الصواب توقفتُ، إذ لا يجوز الترجيح بغير دليل ود برهان.

قال ابن عبد البر- رحمه الله-: «والواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول منها وذلك لا يعدم، فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة، فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف، ولم يجز القطع إلا بيقين» (1).

وربما أختار قولين قويين من بين مجموع الأقوال، أو أضعِّف ما ظهر لي تضعيفه من الأقوال، فهدا ترجيح جزئي، وهو يقرب المسألة.

أما إذا كانت كفة أحد القوال راجحة بجلاء على غيرها، فإنني أذكر القول القوى بألته الدامغة، مع ذكر القائلين به، على النحو الذي تقدم، ثم أشير إلى الخلاف باختصار، وربما أهمله إذا كان قولاً ساقطًا متهالكًا لا ينبغي الاشتغال بنقله وحكايته إلا لفائدة.

_________

(1) «جامع بيان العلم» (1/ 80).

 

(1/15)

 

 

وقد حرصت في اختياراتى ألا أخرج عن مجموع أقوال السلف، فلم آت بقول مبتكر مبتدع لم أسبق إليه، إذ أن اختصار السلف على هذه الأقوال يعتبر إجماعًا منهم على أن الحق محصور فيها لا يخرج عن جملتها، وإن اختلفوا في أيها وافق الحق، فلا يظن أن يخفى الحق على جميع الأمة في عصر من العصور.

ولا يفوتني أن أُنَبِّه على أن هذه الاختيارات لا تلزم أحداً غيري، وإن كان ربما يستفيد منها من لا ملكة له على الترجيح، وأما طالب العلم القادر على الترجيح فإنه يكفيه أنى جمعتُ له شتات المسألة، فله أن يرجِّح ما تبين له صوابه من غير حجر عليه، فإن وقف على كلامي ذكى لا يستقويه، فالأولى به أن ىخفض لي جناح الذل من الرحمة، وأن يشكر الله على ما فضَّله به عليَّ من الحكمة، وكلما ازداد فقه المرء في دين الله عز وجل، زاد رفقُه على المخالفين الذين ثم يكونوا يريدون غير الحق.

وقد درجت على هذا النسق وذلك المنوال في جل الكتاب، حتى إذا كنت في أوائل كتاب البيوع اضطررت للسفر، في حين يُلحُّ الناشر- جزاه الله خيرًا- على نشر الكتاب، فاستخرت الله تعالى أن أرفق بالكتاب بحثًا مختصرًا في «البيوع المحرمة» كان أعدَّه أخونا وحبيبنا الشيخ فؤاد سراج- حفظه الله- وليس هو جاريًا على شرطي في الكتاب من إيراد الخلاف والترجيح بين الأقوال؛ وما لا يدرك كلُّه لا يترك جُلُّه، وأما بحث هذه المسائل على شرطي فإنه يحتاج إلى جهد وفير ووقت طويل وعناية خاصة، لا سيما وفى مباحث هذا الكتاب كثير من المسائل الجديدة النازلة، وقد كنت شرعت في هذا فعلاً، لولا ما قدَّره الله من الاضطرار إلى السفر، فأرجو أن يقبل القارئ عذري، على أنى ماضٍ بمشيئة الله في إتمام ذلك، وإضافة أبواب أخرى في طبعة قادمة أن شاء الله تعالى.

هذا ولا يفوتني أن أقدم شكري وخالص دعائي لكل من أعاننى بشيء في إتمام هذا العمل وخروجه على هذه الهيئة، من إعداد مسألة أو إعارة كتاب، أو كتابة أو نسخ، أو جمع أو طباعة، أو مراجعة تجارب وأخصُّ منهم أخانا وشيخنا فؤاد سراج، بارك الله في علمه وعمله وذريته، وأخانا وحبيبنا الشيخ هاني الحاج رفع الله قدره، وأخويَّ المباركين: مصطفى الشامي وفيصل عبد الواحد، حفظهما الله،

 

(1/16)

 

 

والأخ الفاضل سيد فتحي، سائلاً الله تعالى أن يجزل لهم المثوبة والعطاء، وأن يجمعنا بهم في الجنة دار البقاء.

وقد سميت هذا الكتاب «صحيح فقه السنة وتوضيح مذاهب الأئمة» وليس يضرني وقوف أهل المعرفة على ما لي من التقصير، ومعرفتهم أن باعي في هذا الميدان قصير، فلئن أخطئ فمن الذي عُصِم؟! ولئن أُخَطَّا فمن الذي وُصِمَ؟!

وأعلمُ أن الخطأ والزلل، هما الغالبان على من خلق الله من عجل، فإن أصبتُ فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأتمثل قول الشاعر:

لقد مضيت وراء الركب ذا عَرَجِ ... مؤمِّلاً جبر ما لاقيتُ من عَرَج

فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا ... فكم لرب الورى في الناس من فرِجِ

وإن ضللتُ بقفر الأرض منقطعًا ... فما على أعرج في الناس من حَرَجِ

وأسأل أل الله تعالى أن ينفعني وإخواني من طلاب العلم بهذا العمل، وأن يخلص نيتي فيه لوجهه، فإن القلوب بيده وأن لا يجعل لأحد من خلقه فيه نصيبًا وأن ينفعني به يوم ألقاه {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (1).

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.

وكتبه

الفقير إلى عفو ربه المالك

كمال بن السيد سالم ... أبو مالك

_________

(1) سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89.

 

(1/17)

 

 

تمهيد

نشأة علم الفقه (1)

[الفقه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم]

اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدونًّا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل بحث هؤلاء الفقهاء، حيث يبينون بأقصى جهدهم الأركان والشروط والآداب، كل شيء ممتازًا عن الأخر بدليله، ويفرضون الصور من صنائعهم، ويتكلمون على تلك الصور المفروضة، ويحدون ما يقبل الحد، ويحرصون ما يقبل الحصر، إلى غير ذلك وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يبين: هذا ركن وذلك أدب، وكان يصلي فيرون صلاته، فيصلون كما رأوه يصلى، وحج فرمق الناس حجَّه، ففعلوا كما فعل.

وهذا كان غالب حاله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد، إلا ما شاء الله، وقلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.

وكان صلى الله عليه وسلم يستفتيه الناس في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضى فيها، ويرى الناس يفعلون معروفًا فيمدحه، أو منكرًا فينكر عليهم، وما كل ما أفتى به مستفتيًا عنه وقضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات، فرأى كل صحابي ما يسَّره الله له من عباداته وفتاواه وأقضيته، فحفظها وعقلها، وعرف لكل شيء وجهًا من قبل حفوف القرائن به، فحمل بعضها على الإباحة، وبعضها على الاستحباب، وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده. ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثلج، من غير التفات إلى طرق الاستدلال، فانقضى عصره صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك.

_________

(1) هذا المبحث اختصرته من كتاب «الإنصاف» للدهلوى، مع شيء يسير.

 

(1/18)

 

 

[عهد الصحابة رضي الله عنهم]

ثم إنهم تفرقوا في البلاد، وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحي، فكثرت الوقائع، ودارت المسائل، فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب، اجتهد برأيه وعرف العلة التي أدار سول الله صلى الله عليه وسلم عليها الحكم في منصوصاته، فطرد الحكم حيثما وجدها، لا يألو جهدًا في موافقة غرضه صلى الله عليه وسلم.

[أسباب اختلاف الصحابة وصوره]

فعندئذ وقع الاختلاف بينهم على ضروب منها:

1 - أن يسمع صحابي حكمًا في قضية أو فتوى، ولم يسمعه الآخر، فيجتهد برأيه في ذلك، ويكون هذا على وجوه:

(أ) أن يقع اجتهاده موافقًا للحديث، ومثاله: ما جاء عن ابن مسعود أنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها، فقال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضى في ذلك، فاختلفوا عليه شهرًا وألحوا، فاجتهد برأيه، وقضي بأن لها مهر نسائها: لا وَكَسَ ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام.

(ب) أن يقع بينهما المناظرة، ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع، ومثاله: أن أبا هريرة كان من مذهبه أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له، حتى أخبرته بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم بخلاف مذهبه فرجع.

(جـ) أن يبلغه الحديث لكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده بل طعن في الحديث، ومثاله: أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، فردَّ شهادتها وقال: لا نترك كتاب الله بقول امرأة ندري أصدقت أم كذبت.

 

(1/19)

 

 

وقالت عائشة: يا فاطمة اتقي الله! تعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة.

(ر) أن لا يصل إليه الحديث أصلاً، ومثاله: أن ابن عَمْرو وكان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فسمعت عائشة رضي الله عنها بذلك فقالت: يا عجبًا لابن عمرو هذا، يأمر النساء أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! فقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.

2 - أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً، فيحمله بعضهم على القربة وبعضهم على الإباحة:

ومثاله: أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يرمل في الطواف، فذهب جمهورهم إلى أن الرمل في الطواف سنة، وحمله ابن عباس على أنه إنما فعله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتفاق لعارض عرض- وهو قول المشركين: حطمتهم حمى يثرب- وليس سنة.

3 - اختلاف الوهم: ومثاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّ فرآه الناس، فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعًا، وبعضهم إلى أنه كان قارنًا، وبعضهم إلى أنه كان مفردًا.

4 - اختلاف السهو والنسيان: ومثاله ما رُوي: أن ابن عمر كان يقول: أعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة في رجب، فسمعت عائشة بذلك فقضت عليه بالسهو.

5 - اختلاف الضبط: ومثاله أن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» فقضت عائشة عليه بأنه وهم بأخذ الحديث على وجه: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها أهلها فقال: إنهم يبكون عليها وإنها تعذب في قبرها، فظن أن العذاب معلول للبكاء، وظن الحكم عامًا على كل ميت.

6 - الاختلاف في علة الحكم: مثاله: القيام للجنازة فقال قائل: لتعظيم الملائكة فيعم المؤمن والكافر، وقال قائل: لهول الموت فيعمهما، وقال قائل: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة يهودي فقام لها كراهة أن تعلو فوق رأسه، فيخص بالكافر.

7 - الاختلاف في الجمع بين المختلفين: ومثاله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

 

(1/20)

 

 

استقبال القبلة في قضاء الحاجة فذهب قوم إلى عموم هذا الحكم وأنه غير منسوخ، ورآه جابر يبول قبل أن يتوفى بعام مستقبل القبلة فذهب إلى أنه نسخ للنهى المتقدم، ورآه ابن عمر قضى حاجته مستدبر القبلة فرَّد به قولهم إلى غير ذلك.

[الفقه في عهد التابعين]

وبالجملة فاختلفت مذاهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عنهم التابعون كل واحد ما تيسر له، فحفظ ما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الصحابة وعقلها، وجمع المختلف على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثورًا عن كبار الصحابة، كما استفاض عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه.

فصار لكل عالم من التابعين مذهب على حياله، فانتصب في كل بلد إمام، مثل: سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة، وبعدها: الزهري ويحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها.

وعطاء بن أبى رباح بمكة، وإبراهيم النخعي والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، وطاووس بن كيسان باليمن ومكحول بالشام، فأظمأ الله أكبادًا إلى علومهم فرغبوا فيها، وأخذوا عنهم الحيث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم، ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم، واستفتى منهم المفتون، ودارت المسائل بينهم ورفعت إليهم الأقضية.

وكان ابن المسيب وإبراهيم النخعي وأمثالهما قد جمعوا أبواب الفقه أجمعها، وكان سعيد بن المسيب وأصحابه يذهبون إلى أن أهم الحرمين أثبت الناس في الفقه، وأصل مذهبهم فتاوى عمر وعثمان وقضاياهما، وابن عمر وعائشة وابن عباس وقضايا قضاة المدينة.

وكاد النخعي وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقه، فأصل مذهبهم فتاوى ابن مسعود وقضايا علي رضي الله عنه وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة.

ونظر كل فريق فيما اجتمع لديه نظر اعتبار وتفتيش، فما كان منها مجتمعًا عليه بين العلماء فإنهم يأخذون عليه بنواجذهم، وما كان فيه أن اختلاف عندهم

 

(1/21)

 

 

فإنهم يأخذون بأقواها وأرجحها، وإذا لم يجدوا فيما حفظوه جواب المسألة خرجوا من كلامهم وتتبعوا الإيماء والاقتضاء، فحصل لهم مسائل كثيرة في كل باب.

[الفقه بعد عهد التابعين]

ثم أنشأ الله تعالى بعد عصر التابعين نشأً من حملة العلم، فأخذوا العلم عنهم، ونسجوا على منوال شيوخهم، فتمسكوا بالمسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدلوا بأقوال الصحابة والتابعين، علمًا منهم أنها إما أحاديث منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختصروها فجعلوها موقوفة، أو يكون استنباطًا منهم من المنصوص واجتهادًا منهم بآرائهم، وهم أحسن صنيعًا في كل ذلك ممن يجيء بعدهم، وأكثر إصابة، وأقدم زمانًا وأوعى علمًا، فتعين العمل بها إلا إذا اختلفوا وكان حديث رسول الله يخالف قولهم مخالفة ظاهرة.

وقد أُلهموا في هذه الطبقة التدوين، فدون مالك، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ذئب بالمدينة، وابن جرير وابن عيينة بمكة، والثوري بالكوفة، والربيع بن صبيح بالبصرة.

وكان مالك أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسناداً، وأعلمهم بقضايا عمر، وأقاويل عبد الله في عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، ولما وسد إليه الأمر حدَّث وأفتى وأفاد وأجاد.

وكان أبو حنيفة- رحمه الله- ألزمهم بمذهب إبراهيم النخعى وأقرانه، لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتمَّ إقبال.

وكان أشهر أصحابه ذكرًا أبو يوسف- رحمه الله- وكان أحسنهم تصنيفًا وألزمهم درسًا محمد بن الحسن، وكان من خبره أنه تفقَّه على أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة فقرأ «الموطأ» على مالك، ثم رجع إلى بلده فطبق مذهب أصحابه على «الموطأ» مسألة مسألة، فإن وافق منها وإلا فإن طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياسًا ضعيفًا أو تخريجًا يخالفه حديث صحيح مما عمل به الفقهاء ويخالفه عمل أكثر العلماء تركه

 

(1/22)

 

 

إلى مذهب السلف مما يراه أرجح ما هناك، وهما لا يزالان على محجة النخعي ما أمكن لهما كما كان أبو حنيفة- رحمه الله- يفعل، ولذا عُدَّ مذهبًا مع مذهب أبى حنيفة واحدًا- مع أنهما مجتهدان مطلقان مخالفتهما له غير قليلة في الأصول والفروع- لتوافقهم في هذا الأصل.

ونشأ الشافعي- رحمه الله- في أوائل ظهور المذهبين وترتيب أصولهما وفروعهما، فنظر في صنيع الأوائل فوجد فيه أموراً كَبَحت عنانه عن الجريان في طريقهم، منها: أنه وجدهم يأخذون بالمرسل والمنقطع فيدخل فيهما الخلل، ومنها أنه لم تكن قواعد الجمع بين المختلفات مضبوطة عندهم فتطرَّق بذلك خلل في مجتهداتهم، فوضع لها أصولاً ودوَّنها في كتاب، وهذا أول تدوين كان في أصول الفقه، ومنها أن أقوال الصحابة جمعت في عصر الشافعي فكثرت واختلفت وتشعبت، ورأى كثيرًا منها يخالف الحديث الصحيح حيث لم يبلغهم، ورأى السلف لم يزالوا يرجعون في مثل ذالك إلى الحديث، فترك التمسك بأقوالهم ما لم يتفقوا، وقال: هم رجال ونحن رجال.

ومنها أنه رأى قومًا من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوغه الشرع بالقياس الذي أثبته، فلا يميزون واحداً منها عن الآخر.

وبالجملة فإنه - رحمه الله- لما رأى هذه الأمور أخذ الفقه من الرأس فأسس الأصول وفرع الفروع ونف الكتب فأجاد وأفاد، واجتمع عليه الفقهاء، ثم تفرقوا في البلدان فكان هذا مذهب الشافعي.

[أسباب الاختلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي]

واعلم أنه كان من العلماء من عصر التابعين فما بعدهم قوم يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بُدًا، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع شيوع تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام، وكتابة الصحف والنسخ، فطاف من أدرك من عظمائهم ذلك الزمان بلاد الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان وجمعوا الكتب وتتبعوا النسخ حتى اجتمع لهم من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحد قبلهم، واجتمع عندهم ما كان خافيًا على أهل الفتوى من آثار فقهاء كل بلد من الصحابة والتابعين، بعد أن

 

(1/23)

 

 

كان الرجل فيما قبلهم لا يتمكن إلا من جمع حديث بلده وأصحابه، كما انكشف لهم بهذا التدوين والبحث والمناظرة ما كان خافيًا من حال أسانيد هذه الأحاديث.

فرجع المحققون منهم- بعد إحكام فن الرواية ومعرفة الأحاديث- إلى الفقه، فلم يكن عندهم من الرأي أن يُجمع على تقليد رجل ممن مضى مع ما يروون من الأحاديث والآثار المناهضة لكل مذهب من تلك المذاهب، ولم تكن مسالة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم والتي وقت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثًا مرفوعًا متصلاً أو مرسلاً أو موقوفًا، أو وجدوا أثرًا من آثار الشيخين أو سائر الخلفاء وقضاة الأمصار وفقهاء البلدان، فيسَّر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأنًا وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة وأعمقهم فقهًا، أحمد بن حنبل ثم إسحاق ابن راهويه- رحمهما الله تعالى- قال الشافعي لأحمد: «أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمونى حتى أذهب إليه، كوفيًا كان أو بصريًا أو شاميًا» اهـ.

وقد خلف هؤلاء قوم رأوا أن أصحابهم قد كفوهم مؤنة جمع الأحاديث، وتمهيد الفقه على هذا الأصل، فتفرغوا لفنون أخرى، كتمييز الحديث الصحيح المجمع عليه من كبراء أهل الحديث كيزيد بن هارون ويحيى القطان وأحمد وإسحاق وأضرابهم، وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم، وكالحكم على كل حديث بما يستحقه، وكالشاذَّة والفاذَّة من الأحاديث التي لم يرووها، أو طرقها التي لم تخرج من جهتها الأوائل، وغير ذلك، ومن هؤلاء: البخاري ومسلم وأبو داود وعبد بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي وغيرهم.

وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالك وسفيان وبعدهم قوة لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، وإنما يهابون رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم والرفع إليه، حتى قال الشعبي: «على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقصان؛ كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم».

فوقع تدوين الحديث والفقه والمسائل من حاجتهم بموقع من وجه آخر، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديث والآثار ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث، ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقوال علماء

 

(1/24)

 

 

البلدان وجمعها والبحث عنها، واتهموا أنفسهم في ذلك، وكانوا اعتقدوا في أئمتهم أنهم في الدرجة العليا من التحقيق، وكانت قلوبهم أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال أبو حنيفة: «إبراهيم - يعني: النخعي- أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة أفقه من ابن عمر!!».

وكان عندهم من الفطانة والحدس وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسألة على أقوال أصحابهم، فمهدوا الفقه على قاعدة التخريج، فوقع التخريج في كل مذهب فكثر، وأي مذهب كان أصحابه مشهورين وسُدِّ إليهم القضاء والإفتاء، فاشتهرت تصانيفهم في الناس، وانتشرت في أقطار الأرض.

ومن هنا نشأت مدرستا الحديث والفقه، وقد صدَّر الإمام الخطابي -رحمه الله- كتاب «معالم السنن» (1) بالكلام عليهما فقال: رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا أمرين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما نحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة أساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب. ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه، إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر غير متظاهرين.

فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر فإن الأكثرين إنما كدهم الروايات، وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستنبطون سرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون، وأما الطبقة الأخرى -وهم أهل الفقه والنظر- فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما

_________

(1) «معالم السنن» للخطابي (1/ 75 - 76).

 

(1/25)

 

 

بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك زلة من الراوي أو عيًّا فيه، وهؤلاء- وفقنا الله وإياهم- لو حكى لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاده من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة، واستبرءوا له العهدة: فنجد أصحاب مالك لا يعتمدون في مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم وأشهب وأضرابهما من نبلاء أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم يكن عندهم طائلاً، وترى أصحاب أبي حنيفة- رحمه الله تعالى- لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحابه والأجلة من تلامذته، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذوي روايته قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه. وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية خزيمة والجرمى وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدُّوا بها في أقاويله، وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأساتذتهم.

فإذا كان هذا دأبهم، وكانوا لا يقتنعون في أمر هذه الفروع والرواية عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والتثبت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم، وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة، الواجب حكمه، اللازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجًا مما قضاه، ولا في صدورنا غلاً من شيء أبرمه وأمضاه، أرأيتكم إذا كان الرجل يتساهل في أمر نفسه ويسامح غرماءه في حقه، فأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبًا عنه، كولي الضعيف ووصى اليتيم ووكيل الغائب؟ وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفارًا للذمة؟ فهذا هو ذلك إما عيان خمس وإما عيان مثل، ولكن أقوامًا عساهم استوعروا طريق الحق، واسطابوا الدعة في ذلك الحظ، وأحبوا عجالة النيل، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة من معاني أصول الفقه سموها عللاً، وجعلوها شعارًا لأنفسهم في الترسم برسم العلم، وأخذوها جنة عند لقاء

 

(1/26)

 

 

خصومهم، ونصبوها ذريعة للخوض والجدال يتناظرون بها، ويتلاطمون عليها، وعند التصادر عنها قد حكم الغالب بالحذق والتبريز فهو الفقيه المذكور في عصره، والرئيس المعظم في بلده ومصره. هذا وقد وسوس لهم الشيطان حيلة لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة فإن تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام، وصلوه بمقطعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين يتسع للمرء مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم إبليس ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه، إلا فريقًا من المؤمنين، فيا للرجال والعقول أين يذهب بهم، وأنى يخدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم، والله المستعان، انتهى كلام الخطابي.

 

[أحوال الناس في المائة الأولى والثانية]

اعلم أن الناس كانوا في المائة الأولى والثانية غير مجمعين على التقليد لمذهب واحد بعينه، قال أبو طالب المكي في «قوت القلوب»: «إن الكتب والمجموعات محدثة، والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس، واتخاذ قوله، والحكاية له في كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس على ذلك في القرنين الأول والثاني» اهـ.

وقال ابن الهمام في «التحرير»: «وكانوا يستفتون مرة واحدًا، ومرة غيره، غير ملتزمين بفتيا واحد» اهـ.

وأما العلماء فكانوا على مرتبتين: منهم من أمعن في تتبع الكتاب والسنة والآثار حتى حصل له ملكة إفتاء الناس وإجابتهم في غالب الوقائع بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه، ويُخص باسم «المجتهد».

ومنهم من حصل له من معرفة القرآن والسنن ما يتمكن به من معرفة رءوس الفقه وأمهات مسائله بأدلتها التفصيلية، وحصل له غالب الرأي ببعض المسائل الأخرى من أدلتها، وتوقف في بعضها، واحتاج في ذلك إلى مشاورة العلماء لأنه لم تتكامل له الأدوات كما تتكامل للمجتهد المطلق، فهو مجتهد في العبض غير متجهد في البعض، وقد تواتر عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا إذا بلغهم الحديث يعلمون به من غير أن يلاحظوا شرطًا.

 

(1/27)

 

 

[ظهور التمذهب للمجتهدين بعد المائة الثانية]

وبعد المائتين ظهر فيهم التمذهب للمجتهدين بأعيانهم، وقلَّ من كان لا يعتمد على مذهب مجتهد بعينه، وقد كان المشتغل بالفقه لا يخلو عن حالتين:

1 - إما أن يكون أكبر همه معرفة المسائل التي أجاب فيها المجتهدون من قبل من أدلتها التفصيلية ونقدها وتنقيحها وترجيح بعضها على بعض، ولابد له من أن يستحسن شيئًا مما سبق إليه إمامه ويستدرك عليه شيئًا، فإن كان استدراكه أقل من موافقته عُدَّ من أصحاب الوجوه في المذهب، وإن كان أكثر لم يُعدَّ تفرُّده وجهًا في المذهب، وكان مع ذلك منتسبًا إلى صاحب المذهب في الجملة، ممتازًا عمن يأسى بإمام آخر في كثير من أصول مذهبه وفروعه، ويوجد لمثل هذا بعض مجتهدات لم يسبق بالجواب فيها، إذ الوقائع متتالية، والباب مفتوح، فيأخذها من الكتاب والسنة وآثار السلف من غير اعتماد على إمامه، ولكنها قليلة بالنسبة إلى ما سبق بالجواب فيه، وهذا هو المجتهد المطلق المنتسب.

2 - وإما أن يكون أكبر همه معرفة المسائل التي يستفته فيها المستفتون مما لم يتكلم فيه المتقدمون، وهذا حاجته إلى إمام يتأسى به في الأصول الممهدة في كل باب أشد من حاجة الأول، لأن مسائل الفقه متعانقة متشابكة، فروعها تتعلق بإمامتها، فلو ابتدأ هذا بنقد مذاهبهم وتنقيح أقوالهم لكان ملتزمًا لما لا يطيقه، ولا يتفرغ منه طول عمره، فلا سبيل إلا أن يحمل النظر فيما سبق فيه ويتفرغ للتفاريع، وقد يوجد لمثل هذا استدراكات على إمامه بالكتاب والسنة وآثار السلف والقياس لكنها قليلة بالنسبة إلى موافقاته، وهذا هو «المجتهد في المذهب».

[ما حدث في الناس بعد المائة الرابعة]

ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يمينًا وشمالاً، وحدث فيهم أمور منها:

- الجدل والخلاف في علم الفقه وتفصيله على ما ذكره الغزالي: أنه لما انقرض عهد الخُلفاء الراشدين المهديين أفضت الخلافة إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطر إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صف الدين، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى

 

(1/28)

 

 

أهل تلك الأعصار غير العلماء وإقبال الأئمة عليهم مع إعراضهم، فانبروا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز ودرك الجاه.

وقد كان من قبلهم قد صنَّف ناس في علم الكلام وأكثر القيل والقال، والإيراد والجواب، وتمهيد طريق الجدال، ووقع منهم ذلك بموقع.

- ومنها أنهم اطمأنوا بالتقليد، ودب في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، فقد كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ورد عليه، فلم ينقطع الكلام إلا بالمصير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة، وأيضًا فإنه لما جاء أكثر القضاة ولم يكونوا أُمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يرتب العامة فيه، ويكون شيئًا قد قيل من قبل.

وقد اختصر هؤلاء كلام أئمتهم في الدعوة إلى نبذ التقليد والعمل بالكتاب والسنة وتأوَّلوا الخلاف، وثبتوا على مختار أئمتهم، فنشأ بعدهم قرون على التقليد الصرف لا يميزون الحق من الباطل ولا الجدل من الاستنباط، وشاع فيهم التعصُّب للمذاهب والتي نشأ عنها افتراق الكلمة، وتضليل بعضهم البعض حتى كان بعضهم ليرى خروج الإنسان من مذهب من قلَّده- ولو في مسألة- كالخروج من الملة، كأنه نبي بُعث إليه، وافترضت طاعته عليه!!، فظهر من يُفتي بعدم جواز اقتداء الحنفي بإمام شافعي!! بل وبعدم تزوُّج الحنفي من الشافعية!! ويجوز ذلك آخرون قياسًا على الكتابية!!.

فحدثت من هذه البدع هذه المقامات الأربعة في المسجد الحرام (1)، فتعددت الجماعة وانتصر كل متمذهب لجماعة مذهبه، فبأمثال هذه البدع حصل إبليس مقصدًا من مقاصده، ألا وهو تقرير المسلمين وتشتيت شملهم، نعوذ بالله من ذلك.

ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليدًا وأشد انتزاعًا للأمانة من صدور الناس، حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، وبأ، يقولوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (2) وإلى الله المشتكى وهو المستعان، وبه الثقة وعليه التكلان.

_________

(1) هذا ذكره المعصومي في «هدية السلطان» ص (48).

(2) سورة الزخرف، الآية: 23.

 

(1/29)

 

 

ومع ذلك فإن لله طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم، وهم حجة الله في أرضه وإن قلُّوا، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

وبعد هذا العرض لنشأة المذاهب الفقهية واختلافها، أُنَبِّه تنبيهات لعله أن ينفع الله بها من شاء من عباده.

[الأول: وجوب العمل بالكتاب والسنة] (1)

اعلم أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى قد تضافرت بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (2) والمراد بما أنزل إليكم هو القرآن والسنة المبينة له لا آراء الرجال.

وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (3).

فدلت هذه الآية الكريمة أن من دُعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك، أنه من جملة المنافقين، لأن العبرة بعموم الألفاظ فإن بخصوص الأسباب.

وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (4) الآية، والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته

وتعليقه الإيمان في قوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (5) على رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، يفهم منه أن من يرد التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله.

وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (6).

_________

(1) «أضواء البيان» (7/ 479 - 485).

(2) سورة الأعراف، الآية: 3.

(3) سورة النساء، الآية: 61.

(4) سورة النساء، الآية: 59.

(5) سورة النساء، الآية: 59.

(6) سورة الزمر، الآية: 55.

 

(1/30)

 

 

ولا شك أن القرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، والسنة مبينة له، وقد هدد من لم يتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا بقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (1).

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (2) ولا شك أن كتاب الله وسنة رسوله أحسن من آراء الرجال.

وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما إن كان يظن أن أقوال الرجال تكفي عنها.

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (5)، والأسوة: الاقتداء.

فيلزم المسلم أن يجعل قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك باتباع سنته.

وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (6)، وقد أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما اختلفوا فيه.

وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (7).

والاستجابة له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته هي الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وهي مبينة لكتاب الله.

وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتبع شيئًا إلا الوحي.

وأن من أطاعه صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله.

_________

(1) سورة الزمر، الآية: 55.

(2) سورة الزمر، الآية: 18.

(3) سورة الحشر، الآية: 7.

(4) سورة الحشر، الآية: 7.

(5) سورة الأحزاب، الآية: 21.

(6) سورة النساء، الآية: 65.

(7) سورة القصص، الآية: 50.

 

(1/31)

 

 

قال تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1).

وقال تعالى في الأنعام: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (2).

وقال تعالى في الأحقاف: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (3).

وقال تعالى في الأنبياء: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} (4) الآية، فحصر الإنذار في الوحي دون غيره.

وقال تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} (5) فبين أن الاهتداء إنما هو بالوحي، والآيات بمثل هذا كثيرة.

وإذا علمت منها أن طريقه صلى الله عليه وسلم هي اتباع الوحي، فاعلم أن القرآن دل على أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم فهو مطيع لله.

كما قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6) وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (7) الآية.

ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالاً في الدنيا ولا شقيًّا في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده.

قال تعالى في طه: {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (8)، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي.

ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه، وذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (9).

_________

(1) سورة يونس، الآية: 15.

(2) سورة الأنعام، الآية: 50.

(3) سورة الأحقاف، الآية: 9.

(4) سورة الأنبياء، الآية: 45.

(5) سورة سبأ، الآية: 50.

(6) سورة النساء، الآية: 80.

(7) سورة آل عمران، الآية: 31.

(8) سورة طه، الآية: 123.

(9) سورة البقرة، الآية: 38.

 

(1/32)

 

 

ولا شك أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي، المصرح به في القرآن، لا يتحقق فيمن يقلد عالمًا ليس بمعصوم، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ، في حال كونه معرضًا عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده كافية مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والآيات القرآنية الدالة على لزوم اتباع الوحي والعمل به، لا تكاد تحصى، وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا تكاد تحصى، لأن طاعة الرسول طاعة لله.

وقد قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2).

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (3).

وقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} (4) الآية.

وقال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (5).

وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (6).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (7) الآية.

وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (8).

_________

(1) سورة الحشر، الآية: 7.

(2) سورة آل عمرن، الآية: 132.

(3) سورة آل عمرن، الآية: 132.

(4) سورة النساء، الآية: 69.

(5) سورة الأحزاب، الآية: 71.

(6) سورة النساء، الآية: 80.

(7) سورة النساء، الآيتان: 59.

(8) سورة النساء، الآية: 13، 14.

 

(1/33)

 

 

وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} (1).

وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (2).

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (3).

وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (5).

وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (6).

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (7) الآية.

وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (8) الآية.

ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل به.

فتخصيص تلك النصوص كلها، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به

_________

(1) سورة المائدة، الآية: 92.

(2) سورة الأنفال، الآية: 1.

(3) سورة النور، الآية: 54.

(4) سورة النور، الآية: 56.

(5) سورة محمد، الآية: 33.

(6) سورة النور، الآيتان: 51، 52.

(7) سورة الأحزاب، الآية: 21.

(8) سورة التوبة، الآية: 71.

 

(1/34)

 

 

لا يصح شيء منه لخصوص المجتهدين، الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه.

ولا دليل على ذلك البتة.

بل أدلة الكتاب والسنة دالة على وجوب تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه، علمًا صحيحًا قليلاً كان أو كثيرًا. اهـ.

وكذلك كان الصحابة رضي الله عنه لا يدعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد كائنًا من كان، وكان ابن عباس يقول: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!».

وكان الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألان الناس عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر رضي الله عنه: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها شيئًا- يعنى الجدة-وسأل الناس، فلما صلى الظهر قال: أيكم سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة شيئًا؟ فقال المغيرة بن شعبة: أنا، قال: ماذا قال؟ قال: أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسًا، قال: أيعلم ذلك أحد غيرك؟ فقال محمد بن مسلمة: صدق، فأعطاها أبو بكر السدس، وقصة سؤال عمر الناس في الغُرة ثم رجوعه إلى خبر المغيرة، وسؤاله إياهم في الوباء، ورجوعه إلى خبر عبد الرحمن ابن عوف، وغير ذلك ما هو كثير معلوم مروى في كتب السنة.

[التنبيه الثاني: الموقف من الأئمة المتبوعين]

أعلم أن مواقفنا من الأئمة- رحمهم الله- الأربعة وغيرهم، هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم، وهو موالاتهم ومحبتهم وتعظيمهم وإجلالهم والثناء عليهم بما هم عليه من العلم والتقوى، واتباعهم في العمل بالكتاب والسنة، وتقديمها على رأيهم، وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق وترك ما خالف الكتاب والسنة منها، وأما المسائل التي لا نص فيها، فالصواب النظر في اجتهادهم فيها، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا، لأنهم أكثر علمًا وتقوى منا، ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضا الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه (1).

_________

(1) «أضواء البيان» (7/ 555).

 

(1/35)

 

 

ولتقريب هذا الموقف أحب أن ألقى الضوء على بعض الأمور:

(1) اعلم أن الأئمة- رحمهم الله- ليسوا معصومين وكل من الأئمة أُخذت عليه مسائل، قال العلماء: إنه خالف فيها السنة.

فهذا أبو حنيفة- رحمه الله وهو أكثرهم في ذلك لأنه أكثرهم رأيًا- يترك العمل بحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال، وبحديث تغريب الزاني البكر وغير ذلك.

وأخذ على مالك إنكاره صيام الست من شوال، واستحسانه صيام الجمعة ولو مفردًا، لأنه لم يبلغه السنة فيهما، وترك مالك العمل بحديث خيار المجلس، وهو متفق عليه!! إلى غير ذلك.

وأخذ علي الشافعي قوله بنقض الوضوء من مجرد لمس المرأة بدون حائل، مع ورود ما يخالفه في السنة، على أن له أجوبة عليها.

وأخذ على أحمد: صوم يوم الشك احتياطًا لرمضان مع ورود النص بالنهى عن صومه، وغير ذلك.

وليس المقصود هنا انتقاص الأئمة وعيبهم فيما أخذ عليهم، لأنهم- رحمهم الله- بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته، والمخطئ منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطأه، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب تقديمها على أقوالهم، لأنهم غير معصومين من الخطأ (1).

(2) ليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عذر في تركه (2).

_________

(1) انظر «أضواء البيان» (7/ 556 - 576).

(2) «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» من «مجموع الفتاوى» (20/ 232).

 

(1/36)

 

 

(3) أن أعذار الأئمة- رحمهم الله- في مخالفة السنة، ثلاثة أصناف (1):

الأول: عدم اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله: وهذا له أسباب:

1 - أن لا يكون الحديث قد بلغه أصلاً، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالمًا بموجبه، وإذا لم يكن بلغه وقال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو استصحاب، فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى، وهذا هو السبب الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأمة (2).

2 - أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده.

3 - أن يعتقد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء كان الصواب معه أو مع غيره.

4 - أن يشترط في خبر الواحد العدل الضابط شروطًا يخالفه فيها غيره، كاشتراط أن يكون فقيهًا إذا خالف قياس الأصول وغير ذلك.

5 - أن يكون الحديث قد بلغه، وثبت عنده، لكن نسيه.

الصنف الثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، ولهذا أسباب منها:

1 - عدم معرفة بدلالة الحديث: تارة لكون اللفظ في الحديث غريبًا عنده ومما يختلف العلماء في تفسيره، وتارة لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة لكون اللفظ مشتركًا مجملاً، أو متردداً بين حقيقة ومجاز، فيحمله على الأقرب عنده، وإن كان المراد هو الآخر، كما حمل جماعة من الصحابة في أول الأمر: الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل وغير ذلك.

وتارة لكون الدلالة من النص خفية، فإن دلالات الأقوال متسعة جدًّا، وإدراك وفهم وجوه الكلام متفاوت.

2 - اعتقاده أنه لا دلالة في الحديث أصلاً، والفرق ببن هذا وبين الذي قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، وهذا عرفها لكنه لم يعتقد أنها دلالة صحيحة.

_________

(1) انظر «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» مع «مجموع الفتاوى» (20/ 231 - 290).

(2) انظر أمثلة وقوع ذلك في الصحابة وغيرهم في المصدر السابق (20/ 234 - 238).

 

(1/37)

 

 

3 - اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دلَّ على أنها ليست مرادة: مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفى الوجوب، أو غير ذلك عن المعارضات.

الصنف الثالث: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على نسخه أو تأويله مما لا يعتقده غيره، أو لا يكون في الحقيقة معارضًا راجحًا.

فهذه الأسباب وغيرها أكثر ما قد يُعذر الإمام مخالفته الحديث من أجله، وهي في الحقيقة أسباب اختلافهم، رحمهم الله.

(4) وإذا تقرر هذا، فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم؛ إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وإن كان أعلم، إذ تطرُّق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم، والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر، ورأى العالم ليس كذلك، والغرض أن العالم قد يكون في نفسه معذورًا في تركه للحديث، ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك، وقد قال سبحانه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقال سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2).

وإذا كان الترك يكون لبعض هذه الأسباب (المتقدمة) فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم، فلا يجور أن نعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم- يُعاقب، لكونه حلل الحرام أو حرَّم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله، وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل من لعنة أو غضب أو عذاب ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقال: إن ذلك العالم الذي أباح هذا أو فعله داخل في هذا الوعيد، وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافًا إلا شيئًا يحكى عن بعض معتزلة بغداد ... فمن لم يبلغه الحديث المحرِّم واستند في الإباحة إلى دليل شرعي أولى أن يكون معذورًا، ولهذا كان هذا مأجورًا محمودًا لأجل اجتهاده،

_________

(1) سورة البقرة، الآية: 134.

(2) سورة النساء، الآية: 59.

 

(1/38)

 

 

قال الله سبحانه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ....} (1) {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (2) فاختص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم.

وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (3) فتبَّين أن المجتهد مع خطئه له أجر، وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له، لأن درك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (5).

5 - الأئمة متفقون على منع تقليدهم، التقليد الأعمى الذي يتعصب له من يدَّعون أنهم أتباعهم، ويتمسكون بمذاهبهم وأقوالهم كما لو كانت نزلت من السماء، والله عز وجل يقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (6) (7).

وإليك بعض ما وقفنا عليه من أقوالهم رحمهم الله- في ذلك (8):

1 - أبو حنيفة رحمه الله:

فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روى عنه أصحابه أقوالاً شتى وعبارات متنوعة؛ كلها تؤدى إلى شيء واحد وهو: وجوب الأخذ بالحديث، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له:

1 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي».

2 - «لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه».

وفى رواية: «حرام على مَن لم يعرف دليلي أن يفتى بكلامي».

_________

(1) سورة الأنبياء، الآية: 78.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 79.

(3) صحيح. أخرجه البخاري، ومسلم.

(4) سورة الحج، الآية: 78.

(5) سورة البقرة، الآية: 185.

(6) سورة الأعراف، الآية: 3.

(7) «رفع الملام» من «الفتاوى» (20/ 250 - 252) بتصرف يسير.

(8) من مقدمة «صفة صلاة النبي» للعلامة الألباني -رحمه الله- (ص 46 - 57).

 

(1/39)

 

 

زاد في رواية: «فإننا بشر، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدًا».

وفى أخرى: «ويحك يا يعقوب! (هو أبو يوسف)، لا تكتب كل ما تسمع منى، فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدًا، وأرى الرأي غدًا وأتركه بعد غد».

3 - «إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فاتركوا قولي».

2 - مالك بن أنس رحمه الله:

وأما الإمام مالك بن أنس- رحمه الله- فقال:

1 - «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه».

2 - «ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم».

3 - قال ابن وهب: سمعت مالكًا سئل تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خفَّ الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبى عبد الرحمن الحبلى عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلُك بخنصره ما بين أصابع رجليه- فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يُسأل، فيأمر بتخليل الأصابع».

3 - الشافعي، رحمه الله:

وأما الإمام الشافعي - رحمه الله- فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب، وأتباعه أكثر عملاً بها وأسعد، فمنها:

1 - «ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلتُ من قول، أو أصلَّتُ من أصل في عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي».

2 - «أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد».

 

(1/40)

 

 

3 - «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا ما قلت». وفى رواية: «فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد».

4 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي».

5 - «أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث الصحيح؛ فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيًّا أو بصريًّا أو شاميًّا؛ حتى أذهب إليه إذا كان صحيحًا».

6 - «كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي».

7 - «إذا رأيتموني أقول قولاً، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه؛ فاعلموا أن عقلي قد ذهب».

8 - «كل ما قلت؛ فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي أولى، فلا تقلدوني».

9 - «كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي، وإن لم تسمعوه منى».

4 - أحمد بن حنبل، رحمه الله:

وأما الإمام أحمد؛ فهو أكثر الأئمة جمعًا للسنة وتمسكًا بها، حتى «كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي»، ولذلك قال:

1 - «لا تقلدني، ولا تقليد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا».

وفى رواية: «لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيه مخير». وقال مرة: «الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد التابعين مخير».

2 - «رأى الأوزاعي، ورأى مالك، ورأى أبى حنيفة كله رأى، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار».

3 - «من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو على شفا هلكة».

تلك هي أقوال الأئمة- رضي الله تعالى عنهم- في الأمر بالتمسك بالحديث، والنهى عن تقليدهم دون بصيرة، وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلاً ولا تأويلاً، وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال

 

(1/41)

 

 

الأئمة؛ لا يكون مباينًا لمذهبهم، ولا خارجًا عن طريقتهم، بل هو متاع لهم جميعًا، ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالفتها لقولهم، بل هو بذلك عاصٍ لهم، ومخالف لأقوالهم المتقدمة، والله تعالى يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (1) وقال {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2).

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:

«فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة، وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأى عظيم من الأمة؛ فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدي به من رأى أي معظَّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوب عندهم معظَّم في نفوسهم، لكن رسول الله أحب إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره؛ فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورًا له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه».

قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر، وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟ بل أن الشافعي- رحمه الله- أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها، أو أخذ بخلافها، ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد- رحمه الله- المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها انفرادًا واجتماعًا في مجلد ضخم؛ قال في أوله:

«إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام، وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها؛ لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم».

_________

(1) سورة النساء، الآية: 65.

(2) سورة النساء، الآية: 63.

 

(1/42)

 

 

ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعًا للسنة

ولذلك كله كان أتباع الأئمة {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (1) لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها، بل قد تركوا كثيرًا منها لمَّا ظهر لهم مخالفتها للسنة حتى أن الإمامين: محمد بن الحسن وأبا يوسف- رحمهما الله- قد خالفا شيخهما أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب، وكتب الفروع كفيلة ببيان ذلك، ونحو هذا يقال في الإمام المزني وغيره من أتباع الشافعي وغيره، ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة لطال بنا الكلام، ولخرجنا به عما قصدنا إله في هذا البحث من الإيجاز، فلنقتصر على مثالين اثنين:

1 - قال الإمام محمد في «موطئه» (ص 158): «قال محمد: أما أبو حنيفة رحمه الله فكان يرى في الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا، فإن الإمام يصلى بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه» إلخ.

2 - وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبى يوسف «كان يفتى بخلاف قول الإمام أبى حنيفة كثيرًا، لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره فيفتى به»، ولذلك «كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه»؛ كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم، فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الأربعة وغيرهم كما تقدم.

(6) هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين؟

لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ألزم الناس أن يلتزموا مذهب واحد من الأئمة بعينه، وإنما أوجب اتباعه صلى الله عليه وسلم، فإن الحق محصور فيما جاء به فإذا تأمل المنصف يظهر له أن التقليد لمذهب إمام معين من غير نظر إلى دليل جهل عظيم وبلاء جسيم، بل إنه مجرد هوى وعصبية، والأئمة المجتهدون قاطبة على خلافه، كما رأيت كلامهم، فمن اتبع الدليل فقد اتبع إمامه وسائر الأئمة ويكون متبعًا لكتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون خارجًا عن مذهبهم إذا صمم وجمد على التقليد على خلاف الدليل، لأن إمامه لو بلغه الحديث السالم عن المعارض، لترك

_________

(1) سورة الواقعة، الآيتان: 13، 14.

 

(1/43)

 

 

رأيه واتبع الحديث، فالمصمم على التقليد في هذه الحالة عاصٍ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم متبع لهواه (1) {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (2) وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً} (3).

قال ابن حزم رحمه الله (4).

«التقليد حرام ولا يحل لأحد أن يأخذ بقول أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا برهان لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (5)، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}. (6)

وقال مادحًا لمن لم يقلد: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (7) وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (8) فلم يبح الله تعالى رد التنازع إلى أحد دون القرآن والسنة، وقد صح إجماع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم وإجماع التابعين أولهم عن آخرهم وإجماع تابعي التابعين أولهم عن آخره - على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم أو ممن قبلهم فيأخده كله.

فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبى حنيفة أو جميع أقوال مالك أو جميع أقوال الشافعي أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم ولم يترك قول من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنة وغير صارف ذلك إلى قول إنسان بعينه - أنه قد خالف إجماع الأمة كلها أولها عن آخرها بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفًا ولا إنسانًا في جميع الأعصار المحمودة

_________

(1) «هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان» للمعصومي، تحقيق سليم الهلالي (ص 76).

(2) سورة الجاثية، الآية: 23.

(3) سورة النساء، الآية: 59.

(4) نقله عنه الدهلوي في «حجة الله البالغة» (1/ 154 - 155) ولم أظفر به عاليًا في مظانه من «المحلى» أو «الإحكام»!!.

(5) سورة الأعراف، الآية: 3.

(6) سورة البقرة، الآية: 170.

(7) سورة الزمر، الآيتان: 17، 18.

(8) سورة النساء، الآية: 59.

 

(1/44)

 

 

الثلاثة، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين من هذه المنزلة، وأيضًا فإن هؤلاء الفقهاء كلهم قد نهوا عن تقليد غيرهم فقد خالفهم من قلدهم» اهـ.

قال المعصومي (1): والعجب من هؤلاء المقلدين لهذه المذاهب المبتدعة الشائعة والمتعصبين لها، فإن أحدهم يتبع ما نُسب إلى مذهبه مع بُعده عن الدليل، ويعتقده كأنه نبي مرسل، وهذا ناى عن الحق، وبُعد عن الصواب، وقد شاهدنا وجربنا أن هؤلاء المقلدين يعتقدون أن إمامهم يمتنع على مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه أنه لا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه، وهذا هو طبق ما رواه الترمذي وغيره عن عدى بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (2)، فقلت: يا رسول الله، إنهم ما كانوا يعبدونهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنهم إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه، فذلك عبادتهم» (3) اهـ.

ونقل عن الشافعي قوله (4): «من قلَّد معيَّنًا في تحريم شيء أو تحليله، وقد ثبت الحديث على خلافه، ومنعه التقليد عن العمل بالسنة؛ فقد اتخذ من قلَّده ربًّا من دون الله تعالى يحل له ما حرم الله، ويحرم عليه ما أحل الله» اهـ.

ونقل المرداوى (5) عن شيخ الإسلام قوله: «من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب وإلا قُتل، لأن هذا الإيجاب إشراك بالله في التشريع الذي هو من خصائص الربوبية» اهـ.

وقد ذكر الكمال بن الهمام الحنفي: أن التزام مذهب معين غير لازم على الصحيح، لأن التزامه غير ملزم، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة

_________

(1) «هدية السلطان» (ص: 52 - 53).

(2) سورة التوبة، الآية: 31.

(3) حسنه الألباني. أخرجه الترمذي والبيهقي (10/ 116) بسند ضعيف وله شاهد موقوف على حذيفة وآخر مرسل، وبهما حسنه الألباني في تخريجه للمصطلحات الأربعة ص (18 - 20).

(4) «هدية السلطان» (ص 69).

(5) «الإنصاف» للمرداوي (11/ 170).

 

(1/45)

 

 

فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بلزوم التمذهب بمذهب معين. اهـ (1).

وقال القرافي- رحمه الله-: «وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكل وعمر، وقلدهما، فله أن يستفتى آبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهم بغير نكير» اهـ (2).

«فلم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله فلم يُسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئًا.

ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين، ولا تابعي التابعين، فليُكذِّبنا المقلِّدون برجل واحد، سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وسلم اهـ (3).

ورحم الله الإمام مالك إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلاله، لما أراد المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمع في «الموطأ» لم يقبل ذلك منه، ورده عليه!!

(7) قضيتان اغترَّ بهما المقلِّدون (4):

اعلم أن المقلدين، اغتروا بقضيتين ظنوهما صادقتين، وهما بعيدتان من الصدق. وظن صدقهما يدخل أوليًّا في عموم قوله تعالى: {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».

أما الأولى منهما فهي ظنهم أن الإمام الذي قلدوه لابد أن يكون قد اطلع على جميع معاني كتاب الله، ولم يفته منها شيء وعلى جميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفته منها شيء.

_________

(1) «هدية السلطان» (ص 56).

(2) «أضواء البيان» (7/ 488).

(3) «أضواء البيان» (7/ 509).

(4) «أضواء البيان» للشنقيطي (7/ 533 - 539).

(5) سورة يونس، الآية: 36.

 

(1/46)

 

 

ولذلك فإن كل آية وكل حديث قد خالفا قوله فلا شك عندهم أن ذلك الإمام اطلع على تلك الآية وعلم معناها، وعلى ذلك الحديث وعلم معناه. وأنه ما ترك العمل بهما إلا لأنه اطلع على ما هو أقوى منهما وأرجح.

ولذلك يجب تقديم ذلك الأرجح الذي تخيلوه شيئًا من الوحي الموجود بين أيديهم.

وهذا الظن كذلك باطل بلا شك.

والأئمة كلهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع نصوص الوحي، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.

ومِن أصرح ذلك أن الإمام مالكًا- رحمه الله- إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلالته، لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمعه في موطئه لم يقبل ذلك من أبى جعفر ورده عليه. وأخبره أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في أقطار الدنيا، كلهم عنده علم ليس عند الآخر.

ولم يُجمع الحديث جمعًا تامًا بحيث أمكن جمع جميع السنة إلا بعد الأئمة الأربعة.

لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تفرقوا في أقطار الدنيا روى عنهم كثير من ألأحاديث لم يكن عند غيرهم، ولم يتيسر الاطلاع عليه إلا بعد أزمان.

وكثرة علم العالم لا تستلزم اطلاعه على جميع النصوص.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عجز عن أن يفهم معنى الكلالة حتى مات رضي الله عنه.

وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها كثيرًا فبينها له ولم يفهم.

فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال: ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: «يكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء».

فهذا من أوضح البيان، لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بآية الصيف {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ

 

(1/47)

 

 

يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} (1)، والآية تبين معنى الكلالة بيانًا شافيًا، لأنها أوضحت أنها: ما دون الولد والوالد.

فبينت نفى الولد بدلالة المطابقة في قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (2) وبينت نفى الوالد بدلالة الالتزام في قوله تعالى: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (3)، لأن ميراث الأخت يستلزم نفى الولد.

ومع هذا البيان النبوي الواضح لهذه الآية الكريمة، فإن عمر رضي الله عنه لم يفهم.

وقد صح عنه أن الكلالة لم تزل مشكلة عليه.

وقد خفي معنى هذا أيضًا على أبى بكر الصديق رضي الله عنه فقال في الكلالة: أقول فيها برأيي. فإن كان صوابًا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، هو ما دون الولد والوالد.

فوافق رأيه معنى الآية.

والظاهر أنه لو كان فاهمًا للآية لكفته عن الرأي.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «تكفيك آية الصيف».

وهو تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن في الآية كفاية عن كل ما سواها في الحكم المسئول عنه.

ومما يوضح ذلك أن عمر طلب من النبي صلى الله عليه وسلم بيان الآية. وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم. فما أحال عمر على الآية إلا لأن فيها من البيان ما يشفى ويكفى.

وقد خفي على أبى بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أعطى الجدة السدس حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس» فرجع إلى قولهما.

ولم يعلم عمر صلى الله عليه وسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية الجنين بغرة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل.

_________

(1) سورة النساء، الآية: 176.

(2) سورة النساء، الآية: 176.

(3) سورة النساء، الآية: 176.

 

(1/48)

 

 

ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن المرأة ترث من دية زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.

ولم يعلم أيضًا بأخذ الجزية من المجوسي حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر.

ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثًا حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما.

ولم يعلم عثمان رضي الله عنه بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى أخبرته قريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: ألزمها بالسكنى في المحل الذي مات عنها زوجها في حتى تنقضي عدتها.

وأمثال هذا أكثر من أن تحصر.

فهؤلاء الخلفاء الراشدون- وهم هم، خفي عليهم قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه مع ملازمتهم له، وشدة حرصهم على الأخذ منه. فتعلموه ممن هو دونهم في الفضل والعلم.

فما ظنك بغيرهم من الأئمة الذين نشأوا وتعلموا بعد تفوق الصحابة في أقطار الدنيا؟ وروى عنهم الأحاديث عدول من الأقطار التي ذهبوا إليها؟

والحاصل أن ظن إحاطة الإمام بجميع نصوص الشرع ومعانيها ظن لا يغنى من الحق شيئًا، وليس بصحيح قطعًا.

لأنه لا شك أنه يفوته بعض الأحاديث فلم يطلع عليها، ويرويه بعض العدول عن الصحابة فيثبت عند غيره.

وهو معذور في ترك العمل به، بعدم اطلاعه عليه مع أنه بذل المجهود في البحث.

ولذا كان له أجر الاجتهاد والعذر في الخطأ.

وقد يكون الإمام اطلع على الحديث، ولكن السند الذي بلغه به ضعيف فيتركه لضعف السند. ويكون غيره اطلع على رواية أخرى صحيحة يثبت بها الحديث فهو معذور في تركه، لأنه لم يطلع إلا على السند الضعيف ولم تبلغه الطريق الصحيحة الأخرى.

 

(1/49)

 

 

وقد يترك الحديث لشيء يظنه أرجح منه، ويكون الواقع أن الحديث أرجح من ذلك الشيء الذي ظنه؛ لقيام أدلة أخرى على ذلك لم يطلع عليها. إلى أسباب أخر كثيرة، كترك الأئمة للعمل ببعض النصوص.

وبهذا كله تعلم أن ظن اطلاع الإمام على كل شيء من أحكام الشرع وإصابته في معانيها كلها ظن باطل.

وكل واحد من الأئمة يصرح ببطلان هذا الظن كما سترى إيضاحه إن شاء الله.

فاللازم هو ما قاله الأئمة أنفسهم- رحمهم الله- من أنهم قد يخطئون ونهوا عن اتباعهم في كل شيء يخالف نصًا من كتاب أو سنة.

فالمتبع لهم حقيقة، هو من لا يقدم على كتاب الله وسنة رسوله شيئًا.

أما الذي يقدم أقوال الرجال على الكتاب وصحيح السنة، فهو مخالف لهم لا متبع لهم. وذعواه اتباعهم كذب محض.

وأما القضية الثانية: فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ.

وإيضاحه: أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ يكون لهم من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لدلك الإمام الذي قلدوه. لأنهم متبعون له فيجرى عليهم ما جرى عليه.

وهذا ظن كاذب باطل بلا شك. لأن الإمام الذي قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاويهم.

فقد شمر وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به وطاعة الله على ضوء الوحي المنزل.

ومن كان هذا شأنه فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده.

وأما مقلدوه فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله وأعرضوا عن تعليمهما إعراضًا كليًا مع يسره وسهولته ونزلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون منزلو الوحي المنزل من الله.

 

(1/50)

 

 

فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم؟

وهذا الفرق العظيم بينهم وبينهم، يدل دلالة واضحة على أنهم ليسوا مأجورين في الخطأ في تقليد أعمى إذ لا اقتداء ولا أسوة في غير الحق.

وليسوا معذورين لأنهم تركوا ما يلزمهم تعلمه من أمر الله ونهيه على ضوء وحيه المنزل.

والذي يجب عليهم من تعلم ذلك، هو ما تدعوهم الحاجة للعمل به، كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم.

وأغلب ذلك تدل عليه نصوص واضحة، سهلة التناول من الكتاب والسنة.

والحاصل أن المعرض عن كتاب الله، وسنة رسوله المفرط في تعلم دينه، مما أنزل الله، وما سنه رسوله، المقدم كلام الناس على كتاب الله وسنة رسوله - لا يكون له البتة ما للإمام الذي لم يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله، ولم يقدم عليهما شيئًا ولم يفرط في تعلم الأمر والنهي من الكتاب والسنة.

فأين هذا من هذا؟

سارت مشرقة وسرت مغربًا

شتان بين مشرق ومغرب

(8) شبهة: منع العمل بالكتاب والسنة مطلقًا إلا للمجتهد (1):

اعلم أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقًا إلا للمجتهدين، يقولون: إن شروط الاجتهاد هي: كون المجتهد بالغًا عاقلاً شديد الفهم طبعًا، عارفًا بالدليل العقلي، الذي هو استصحاب العدم الأصلي حتى يرد نقل صارف عنه.

عارفًا باللغة العربية وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية.

وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود، والرسول، وشرائط البرهان.

عارفًا بالأصول، عارفًا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة.

_________

(1) «أضواء البيان» (7/ 477 - 479).

 

(1/51)

 

 

ولا يشترط عندهم حفظ النصوص، بل يكفي عندهم علمه بمداركها في المصحف وكتب الحديث.

عارفًا بمواقع الإجماع والخلاف.

عارفًا بشروط المتواتر والآحاد والصحيح والضعيف.

عارفًا بالناسخ والمنسوخ.

عارفًا بأسباب النزول.

عارفًا بأحوال الصحابة وأحوال رواة الحديث، اختلفوا في شرط عدم إنكاره للقياس. اهـ.

ولا يخفى أن مستندهم في اشتراطهم لهذه الشروط ليس نصًا من كتاب ولا سنة يصرح بأن هذه الشروط كلها لا يصح دونها عمل بكتاب ولا سنة، ولا إجماعًا دالاً على ذلك.

وإنما مستندهم فيذلك هو تحقيق المناط في ظنهم.

وإيضاح ذلك هو أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين كلها دال على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يشترط له إلا شرط واحد، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما.

ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العلم بحكمه البتة.

وهذا مما لا يكاد ينازع فيه أحد.

ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها في تحقيق المناط.

لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به أرادوا أن يحققوا هذا المناط، أي بينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل.

فاشترطوا جميع الشروط المذكورة، ظنًّا منهم أنه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها.

وهذا الظن فيه نظر.

لأن كل إنسان له فهم إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة فلا يمتنع عليه، ولا يستحيل أن يتعلم معناه ويبحث عنه هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد حتى يعلم ذلك فيعمل به.

 

(1/52)

 

 

وسؤال أهل العلم: هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلًا. وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد، بل هو من نوع الاتباع.

وسنبين إن شاء الله الفرق بين التقليد والاتباع في مسألة التقليد الآتية.

والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى واردة بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وليس في شيء منها التخصيص بمن حصل شروط الاجتهاد المذكورة.

(9) شبهة: الامتثال لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}:

اعلم أن من حجج المقلدين ادعاءهم الامتثال لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (1) قالوا: فأمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه، وهذا نصُّ قولنا!!.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، فقال- في حد صاحب الشجة-: «ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العيى السؤال» (2).

قال الشنقيطي رحمه الله (3):

أما استدلالهم بآية: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فهو استدلال في غير محله.

فإن الآية لا تدل على هذا النوع من التقليد الأعمى الذي هم عليه من التزام جميع أقوال رجل واحد وترك جميع ما سواها.

ولاشك أن المراد بأهل الذكر أهل الوحي الذي يعلمون ما جاء من عند الله كعلماء الكتاب والسنة.

فقد أُمروا أن يسألوا أهل الذكر ليُفتوهم بمقتضى ذلك الذكر الذي هو الوحي.

ومن سأل عن الوحي وأعلم به وبُين له كان عمله به اتباعًا للوحي لا تقليدًا، واتباع الوحي لا نزاع في صحته.

_________

(1) سورة النحل، الآية: 43.

(2) سيأتي الحديث في «المسح على الجبيرة» من هذا الكتاب إن شاء الله.

(3) «أضوان البيان» (7/ 510، 511).

 

(1/53)

 

 

وإن كانت الآية تدل على نوع تقليد في الجملة، فهي لا تدل على التقليد الذي قدمنا أنه لا خلاف فيه بين المسلمين، وهو تقليد العامي الذي تنزل به النازلة عالمًا من العلماء، وعمله بما أفتاه به من غير التزام منه لجميع ما يقوله ذلك العالم، ولا تركه لجميع ما يقوله غيره.

وأما استدلالهم بالحديث الوارد في الرجل الذي أصابته شجة في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه: هل يعلمون له رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نرى لك رخصة وأنت قادر على أداء، فاغتسل فمات.

فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «قتلتوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيى السؤال».

فهو استدلال أيضًا في غير محله، وهو حجة أيضًا على المقلدين لا لهم.

قال في إعلام الموقعين في بيان وجه ذلك ما نصه:

إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرشد المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عق حُكمه، وسنته فقال: قتلوه قتلهم الله، فدعا عليهم حين أفتوا بغير علم.

وفى هذا تحريم الإفتاء. فإنه ليس علمًا باتفاق الناس.

فإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله، فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم.

فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم. اهـ.

(10) مناظرة مقلد:

ذكر الإمام ابن عبد البر- رحمه الله- في كلامه في ذم التقليد ومنعه، بعد ما بين ذلك بالآثار، أن جماعة من الفقهاء وأهل النظر احتجوا على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية، فقال (1):

«فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني- رحمه الله-: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فأن قال: نعم، أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد.

وإن قال: حكمت به بغير حجة.

_________

(1) «جامع بيان العلم وفضله».

 

(1/54)

 

 

قيل له: فلم أرقت الدماء، وأبحث الفروج، وأتلفت الأموال، قد حرم الله ذلك إلا بحجة؟

قال الله عز وجل: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} (1) أي من حجة بهذا؟

فإن قال: أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة، لأني قلدت كبيرًا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت على.

قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك، فتقليد معلم معلمك أولى. لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك: كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك.

فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه.

وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له: كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علمًا؟ ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علمًا، وهذا تناقض؟

فإن قال: لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك.

قيل له: كذلك من تعلم من معلمك، فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فلزمك تقليده وترك تقليد معلمك.

وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك. لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك.

فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء، أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع من دونه في قياس قوله والأعلى للأدنى أبدًا.

وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضًا وفسادًا. اهـ.

ثم قال أبو عمر - رحمه الله - بعد هذا ما نصه:

يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟

_________

(1) سورة يونس، الآية: 68.

 

(1/55)

 

 

فإن قال: قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم أُحصها، والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم منى.

قيل له: أما العلماء، إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه. ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض. فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض؟.

وكلهم عالم، والعالم الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه.

فإن قال: قلدته لأني أعلم أنه صواب.

قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع؟

فإن قال: نعم. أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل.

وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني.

قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك. فإنك تجد من ذلك خلقًا كثيرًا ولا تخُصَّ من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك.

فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس.

قيل له: فإنه إذًا أعلم من الصحابة، وكفى بقول مثل هذا قبحًا.

فإن قيل: أنا أقلد بعض الصحابة.

قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم، ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟

على أن القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.

وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار، عن ابن القاسم عن مالك، قال: ليس كل ما قال رجل قولاً وإن كان له فضل يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (1). فإن قال: قصري وقلة علمي يحملني على التقليد.

قيل له: أما من قلد فيما ينزل من أحكام شريعته عالمًا يتفق له على علمه،

_________

(1) سورة الزمر، الآية: 18.

 

(1/56)

 

 

فيصدر في ذلك عما يخبره - فمعذور لأنه قد أدى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولابد له من تقليد عالم، فيما جهله، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.

ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه؟.

وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب، فيما خالفه فيه.

فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى، لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة.

وكفى بهذا جهلاً وردًّا للقرآن، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1). وقال: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (2).

وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ويتيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا. اهـ. كله من جامع ابن عبد البر، رحمه الله.

(11) التقليد والاتباع:

قال الشنقيطي، رحمه الله (3):

اعلم أن مما لا بد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن محل الاتباع لا يجوز التقليد فيه بحال.

وإيضاح ذلك: أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، لا يجوز فيه التقليد بحال.

لأن كل اجتهاد يخالف النص فهو اجتهاد باطل، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد.

لأن نصوص الكتاب والسنة حاكمة على كل المجتهدين، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنًا من كان.

_________

(1) سورة الإسراء، الآية: 36.

(2) سورة البقرة، الآية: 80.

(3) «أضواء البيان» (7/ 547 - 550).

 

(1/57)

 

 

ولا يجوز التقليد فيما خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا إذ لا أسوة في غير الحق. فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط.

ولا اجتهاد، ولا تقليد فيما دل عليه نص من كتاب أو سنة، سالم من المعارض.

والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم.

وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه.

وهو قوله: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة.

وقال في موضع آخر من كتابه:

كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح.

وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع. اهـ.

وقال ابن القيم -رحمه الله - في إعلام الموقعين:

وقد فرق الإمام أحمد -رحمه الله - بين التقليد والاتباع.

فقال أبو داود: سمعته يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد في التابعين مخير. انتهى محل الغرض منه.

قال مقيده -عفا الله عنه، وغفر له-: أما كون العمل بالوحي اتباعًا لا تقليدًا فهو أمر قطعي.

والآيات الدالة على تسميته اتباعًا كثيرة جدًّا:

كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1).

وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (2) الآية.

_________

(1) سورة الأعراف، الآية: 203.

(2) سورة الأعراف، الآية: 3.

 

(1/58)

 

 

وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} (1).

وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (2).

وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3).

وقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (4).

وقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (5).

والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.

فالعمل بالوحي هو الاتباع كما دلت عليه الآيات.

ومن المعلوم الذي لا شك فيه، أن اتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه بوجه من الوجوه، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه.

فاتضح من هذا الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن مواضع الاتباع ليست محلاًّ أصلاً للاجتهاد ولا للتقليد.

فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها البتة.

لأن اتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائنًا من كان كما لا يخفى.

وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد. وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد.

فجعل شرط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط، كما ترى.

_________

(1) سورة الزمر، الآية: 55.

(2) سورة يونس، الآية: 15.

(3) سورة الأنعام، الآية: 155.

(4) سورة الأنعام، الآية: 106.

(5) سورة الأحقاف، الآية: 9.

 

(1/59)

 

 

والتحقيق أن اتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه.

وأنه يصح علم حديث والعمل به، وعلم آية والعمل بها.

ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد.

فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة، ويعمل بكل ما علم من ذلك، كما كان عليه أول هذه الأمة من القرون المشهود لها بالخير.

(12) تنبيه لمقلَّدي الأمة:

اعلم أن كل من يرى أنه لابد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد غير ذلك الإمام:

يجب عليه أن بتنبَّه تنبُّهًا تامًّا للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقًّا، وبين ما أُلحق بعده على قواعد مذهبه، وما زاده المتأخرون وقتًا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه لتبرأ منها وأنكر على ملحقها، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح. ويزيده بطلانًا نسبته إلى الله ورسوله، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم (1).

(13) اتباع الدليل لا يعني هجر أقوال الأئمة:

يزعم بعض مقلدة المذاهب أن الدعوة إلى اتباع الدليل من الكتاب والسنة وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها؛ ترك للأخذ بأقوالهم مطلقًا والاستفادة من اجتهاداتهم!!.

قال العلامة الألباني رحمه الله (2):

إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب، بل هو باطل ظاهر البطلان، كما

_________

(1) «أضواء البيان» للشنقيطي (7/ 576) وما بعدها، وهناك أمثلة على ذلك فراجعها إن شئت.

(2) مقدمة «صفة صلاة النبي» (ص 69 - 70).

 

(1/60)

 

 

يبدو ذلك جليًّا من الكلمات السابقات، فإنها كلها تدل على خلافه، وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب دينًا، ونصبها مكان الكتاب والسنة؛ بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع، أو عند إرادة استنباط أحكام جديدة لحوادث طارئة؛ كما يفعل متفقهة هذا الزمان، وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية، والنكاح والطلاق، وغيرها دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة ليعرفوا الصواب منها من الخطأ، والحق من الباطل، وإنما على طريقة «اختلافهم رحمة»! وتتبع الرخص والتيسير أو المصلحة- زعموا- وما أحسن قول سليمان التيمى، رحمه الله تعالى:

«إن أخذت برخصة كل عالم؛ اجتمع فيك الشر كله».

رواه ابن عبد البر (2/ 91 - 92) وقال عقبه:

«هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا».

فهذا الذي ننكره، هو الإجماع كما ترى.

وأما الرجوع إلى أقوالهم والاستفادة منها، والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح- فأمر لا ننكره، بل نأمر به ونحض عليه؛ لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة.

قال العلامة ابن عبد البر - رحمه الله تعالى- (2/ 172):

«فعليك يا أخي! بحفظ الأصول والعناية بها، واعلم أن من عنى بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن، ونظر في أقاويل الفقهاء- فجعلها عونًا له على اجتهاده، ومفتاحًا لطرائق النظر، وتفسيرًا لجمل السنن المحتملة للمعاني- ولم يقلد أحدًا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها، واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم، ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرءوا أنفسهم منه؛ فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه، والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم.

 

(1/61)

 

 

ومن أعفَّ نفسه من النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السنن برأيه، ورام أن يردها إلى مبلغ نظره؛ فهو ضال مضل، ومن جهل ذلك كله أيضًا وتقحم في الفتوى بلا علم، فهو أشد عمى، وأضل سبيلاً».

فهذا هو الحق ما به خفاء

فدعني عن بنيات الطريق ا. هـ.

أقول: في هذه التنبيهات ما يكفي المنصف في رجوعه إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ونبذ ما يخالفهما، وفي ردِّه عن التقليد على غير هدى، فإن أبى أحدهم إلا التقليد، فنقول: قد نقل ابن عبد البر وغيره من العلماء «الإجماع على أن المقلِّد ليس معدودًا من أهل العلم» ولا يجوز للمقلِّد الاعتراض على المجتهد، فإن قال: لست بمجتهد، قلنا: إن الاجتهاد يتجزأ كما ذكر أهل العلم، وليس من شرط المجتهد أن يجتهد في كل مسألة، فلا يُقبل اعتراضك، «فما للأعمى ونقد الدراهم»!!.

(14) وأخيرًا: هل في الاختلاف توسعة ورحمة؟ وهل الحق يتعدد؟

كثير ممن ينتسبون إلى المذاهب الفقهية - خصوصًا هذه الأيام- هم على النقيض من أولئك المتشبثين بمذهب بعينه لا يحيدون عنه؛ فهم يرون صحة الأخذ بأي مذهب كان مهما كان مستنده، فأجازوا اختيار ما راق لهم ووافق هواهم وحقق مصالحهم من هذه المذاهب، ولو كان الدليل على خلافه، بحجة أنه قال به بعض العلماء، وأن هذا من التوسعة على الأمة مستدلين بحديث «اختلاف أمتي رحمة»!!.

وقد أجاب عن هذه الشبهة العلامة الألباني -رحمه الله- فقال (1):

والجواب من وجهين:

الأول: أن الحديث لا يصح، بل هو باطل لا أصل له؛ قال العلامة السبكي:

«لم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع».

قلت: وإنما روى بلفظ:

«... اختلاف أصحابي لكم رحمة».

_________

(1) «صفة الصلاة» (ص: 59 - 66).

 

(1/62)

 

 

و «أصحابي كالنجوم؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم».

وكلاهما لا يصح: الأول واه جدًّا، والآخر موضوع، وقد حققت القول في ذلك كله في «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» (رقم 58 و59 و61).

الثاني: أن الحديث -مع ضعفه- مخالف للقرآن الكريم، فإن الآيات الواردة فيه -في النهي عن الاختلاف في الدين، والأمر بالاتفاق فيه- أشهر من أن تذكر، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال، قال الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (1). وقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (2). وقال: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (3)، فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون، وإنما يختلف أهل الباطل؛ فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة؟!

فثبت أن هذا الحديث لا يصح، لا سندًا ولا متنًا، وحينئذ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة الذي أمر به الأئمة.

2 - وقال آخرون: إذا كان الاختلاف في الدين منهيًّا عنه؛ فماذا تقولون في اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم واختلاف غيرهم من المتأخرين؟

فالجواب: نعم؛ هناك فرق كبير بين الاختلافين، ويظهر ذلك من شيئين:

الأول: سببه.

والآخر: أثره.

فأما اختلاف الصحابة؛ فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم؛ لا اختيارًا منهم للخلاف، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم، استلزمت اختلافهم ثم زالت من بعدهم، ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليًّا، ولا يلحق أهله الذم الوارد في الآيات السابقة وما في معناها؛ لعدم تحقق شرط المؤاخذة، وهو القصد أو الإصرار عليه.

_________

(1) سورة الأنفال، الآية: 46.

(2) سورة الروم، الآيتان: 31، 32.

(3) سورة هود، الآيتان: 118، 119.

 

(1/63)

 

 

وأما الاختلاف القائم بين المقلدة؛ فلا عذر لهم فيه غالبًا، فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة، فيدعها لا لشيء إلا لأنها خلاف مذهبه، فكأن المذهب عنده هو الأصل، أو هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ!.

وآخرون منهم على النقيض من ذلك، فإنهم يرون هذه المذاهب - على ما بينها من اختلاف واسع- كشرائع متعددة، كما صرح بذلك بعض متأخريهم: لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء، ويدع ما شاء، إذ الكل شرع! وقد يحتج هؤلاء وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل: «اختلاف أمتي رحمة»، وكثيرًا ما سمعناهم يستدلون به على ذلك!.

ويعلل بعضهم هذا الحديث ويوجهونه بقولهم: إن الاختلاف إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة! ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده.

قال ابن القاسم:

«سمعت مالكًا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناس: «فيه توسعة»؛ ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب».

وقال أشهب:

«سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أتراه من ذلك في سعة؟.

فقال: لا والله حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا؟! ما الحق والصواب إلا واحد».

وقال المزني صاحب الإمام الشافعي:

«وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطَّأ بعضهم بعضًا، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها، ولو كان قولهم كله صوابًا عندهم؛ لما فعلوا ذلك، وغضب عمر بن الخطاب من اختلاف أُبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في الثوب الواحد؛ إذ قال أُبي: إن الصلاة في الثوب الواحد حسن جميل وقال ابن

 

(1/64)

 

 

مسعود: إنما كان ذلك والثياب قليلة. فخرج عمر مغضبًا، فقال: اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن ينظر إليه ويؤخذ عنه! وقد صدق أُبي، ولم يأل ابن مسعود، ولكني لا أسمع أحدًا يختلف فيه بعد مقامي هذا إلا فعلت به كذا وكذا».

وقال الإمام المزني أيضًا:

«يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة، فقال أحدهما: حلال، والآخر: حرام؛ أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق: أبأصل قلت هذا أم بقياس؟ فإن قال: بأصل؛ قيل له: كيف يكون أصلاً والكتاب ينفي الاختلاف؟! وإن قلت: بقياس؛ قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل، فضلاً عن عالم».

فإن قال قائل: يخالف ما ذكرته عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد ما جاء في كتاب «المدخل الفقهي» للأستاذ الزرقا (1/ 89):

«ولقد همَّ أبو جعفر المنصور ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك وكتابه «الموطأ» قانونًا قضائيًّا للدولة العباسية، فنهاهما مالك عن ذلك وقال:

إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب».

وأقول: إن هذه القصة معروفة مشهورة عن الإمام مالك -رحمه الله- لكن قوله في آخرها: «وكل مصيب» مما لا أعلم له أصلاً في شيء من الروايات والمصادر التي وقفت عليها، اللهم! إلا رواية واحدة أخرجها أبو نُعيم في «الحلية» (6/ 332) بإسناد فيه المقدام بن داود، وهو ممن أوردهم الذهبي في «الضعفاء»، ومع ذلك فإن لفظها: «وكل عند نفسه مصيب»، فقوله: «عند نفسه» يدل على أن رواية «المدخل» مدخولة، وكيف لا تكون كذلك وهي مخالفة لما رواه الثقات عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد كما سبق بيانه؟! وعلى هذا كل الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة المجتهدين وغيرهم.

قال ابن عبد البر (2/ 88).

 

(1/65)

 

 

«ولو كان الصواب في وجهين متدافعين؛ ما خطَّأ السلف بعضهم بعضًا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابًا كله، ولقد أحسن من قال:

إثبات ضدين معًا في حال

أقبح ما يأتي من المحال

فإن قيل: إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام؛ فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه «الموطأ» ولم يجبه إلى ذلك؟

فأقول: أحسن ما وقفت عليه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في «شرح اختصار علوم الحديث» (ص 31) وهو أن الإمام مالك قال: «إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها».

وذلك من تمام علمه وإنصافه، كما قال ابن كثير، رحمه الله تعالى.

فثبت أن الخلاف شرٌّ كلُّه، وليس رحمة، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم، ووفقنا لاتباعهم.

فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة.

وخلاصته:

أن الصحابة اختلفوا اضطرارًا، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

وأما المقلدة - فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منه- فلا يتفقون ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه، فشتان إذن بين الاختلافين.

ذلك هو الفرق من جهة السبب.

وأما الفرق من جهة الأثر فهو أوضح؛ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم -مع اختلافهم المعروف في الفروع - كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة، ويصدع الصفوف، فقد كان فيهم مثلًا من يرى مشروعية الجهر بالبسملة، ومن يرى عدم مشروعيته، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين، ومن لا يراه، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة، ومن لا يراه،

 

(1/66)

 

 

ومع ذلك فقد كانوا يصلون جميعًا وراء إمام واحد، ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلاف مذهبي.

وأما المقلدون فاختلافهم على النقيض من ذلك تمامًا؛ فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين؛ ألا وهو الصلاة، فهم يأبون أن يصلوا جميعًا وراء إمام واحد؛ بحجة أن صلاة الإمام باطلة أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه، وقد سمعنا ذلك، ورأيناه كما رآه غيرنا، كيف لا وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة اليوم على الكراهة أو البطلان؟! وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع، يصلى فيها أئمة أربعة متعاقبين، وتجد أناسًا ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي!

بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين؛ مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعية، ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية -وهو الملقب بـ «مفتي الثقلين» - فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية، وعلل ذلك بقوله: «تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب»! ومفهوم ذلك -ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم- أنه لا يجوز العكس، وهو تزوج الشافعي بالحنفية، كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة؟!

هذان مثالان من أمثلة كثيرة توضح للعاقل الأثر السيء الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه؛ بخلاف اختلاف السلف، فلم يكن له أي أثر سيء في الأمة، ولذلك فهم في منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين -بخلاف المتأخرين- هدانا الله جميعًا إلى صراطه المستقيم.

 

(1/67)

 

 

1 - كتاب الطهارة

 

(1/69)

 

 

تعريف الطهارة وأهميتها

الطهارة لغة: النظافة والخلوص من الأوساخ أو الأدناس الحسية، كالأنجاس من بول وغيره، والمعنوية: كالعيوب والمعاصي.

والتطهير: التنظيف، وهو إثبات النظافة في المحل (1).

والطهارة شرعًا: رفع ما يمنع الصلاة من حديث أو نجاسة بالماء [أو غيره] أو رفع حكمه بالتراب (2).

وأما حكم الطهارة: فإن طهارة النجس وإزالته واجبة مع الذكر والقدرة، قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (3). وقال سبحانه: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (4). وأما الطهارة من الحدث فتجب لاستباحة الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور» (5).

وأما أهميتها: فإن الطهارة:

1 - شرط لصحة صلاة العبد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ» (6).

فإن أداء الصلاة بالطهارة تعظيم لله، والحدث والجنابة -وإن لم يكونا نجاسة مرئية- فهي نجاسة معنوية توجب استقذار ما حلَّ بها، فوجودها يخل بالتعظيم، وينافي مبدأ النظافة.

2 - وقد امتدح الله تعالى المتطهرين، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (7) وأثنى عز وجل على أهل مسجد قباء بقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (8).

_________

(1) اللباب شرح الكتاب (1/ 10) والدر المختار (1/ 79).

(2) المغنى لابن قدامة (1/ 12) ط. هجر.

(3) سورة المدثر، الآية: 4.

(4) سورة البقرة، الآية: 125.

(5) صحيح مسلم (224).

(6) متفق عليه: البخاري (135)، ومسلم (225).

(7) سورة البقرة، الآية: 22.

(8) سورة التوبة، الآية: 108.

 

(1/70)

 

 

3 - أن التقصير في الاستبراء من النجاسة، سبب من أسباب التعذيب في القبر: فعن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: «إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يستنزه من بوله ....» الحديث (1).

 

أنواع الطهارة

يقسم العلماء الطهارة الشرعية إلى قسمين:

1 - طهارة حقيقية: وهي الطهارة عن الخبث أي: النجس، وتكون في البدن والثوب والمكان.

2 - طهارة حُكمية: وهي الطهارة من الحدث، وهي تختص بالبدن، وهذا النوع من الطهارة ثلاثة أنواع:

طهارة كبرى: وهي الغُسل، وصغرى: وهي الوضوء، وبدل عنهما عند تعذرهما: وهو التيمم.

 

أولاً الطهارة الحقيقية

المقصود بالنجاسة:

النجاسة: ضد الطهارة، والنجس: اسم لعين مستقذرة شرعًا، ويجب على المسلم التنزه عنها وغسل ما يصيبه منها.

أنواع النجاسات

الأعيان التي دلَّ الدليل الشرعي على نجاستها هي:

1، 2 - غائط الإنسان وبوله: وهما نجسان باتفاق العلماء:

أما الغائط فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور» (2) ويدل على نجاسته كذلك عموم الأحاديث الآمرة بالاستنجاء وستأتي قريبًا.

وأما البول فلحديث أنس: أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه لا تزرموه» قال: فرغ دعا بدلو من ماء فصبَّه عليه (3).

_________

(1) أبو داود (20)، والنسائي (31 - 2069)، وابن ماجه (347) بسند صحيح.

(2) أبو داود (385) بسند صحيح.

(3) متفق عليه. البخاري (6025)، ومسلم (284).

 

(1/71)

 

 

3، 4 - المَذْىُ والوَدْىُ:

المذي: ماء دقيق لزج يخرج عند شهوة كالملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته، ولا يكون دافقًا ولا يعقبه فتور، وربما لا يُحس بخروجه، ويكون للرجل والمرأة وهو في النساء أكثر (1)، وهو نجس باتفاق العلماء (2) ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الفرج منه.

ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» (3).

أما الودي: فهو ماء أبيض ثخين يخرج بعد البول. وهو نجس إجماعًا.

وعن ابن عباس قال: «المني والودي والمدي، أما المني فهو الذي منه الغسل، وأما الودي والمذي فقال: اغسل ذكرك -أو مذاكيرك- وتوضأ وضوءك للصلاة» (4).

5 - دم الحيض:

لحديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع؟ فقال: «تحته ثم تقرصه (5) بالماء ثم تنضحه، ثم تصلي فيه» (6).

6 - روث ما لا يؤكل لحمه:

فعن عبد الله بن مسعود قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبرز فقال: «ائتني بثلاثة أحجار» فوجدت له حجزين وروثة [حمار] فأمسك الحجرين وطرح الروثة، وقال: «هي رجس» (7).

ومعنى رجس أي: نجس.

فدل هذا على أن روثة ما لا يؤكل لحمه نجسة.

7 - لعاب الكلب:

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب» (8).

_________

(1) انظر فتح الباري (1/ 379)، وشرح مسلم للنووي (1/ 599).

(2) انظر «المجموع» للنووي (2/ 6)، والمغني لابن قدامة (1/ 168).

(3) متفق عليه. البخاري (269)، ومسلم (303).

(4) سنن البيهقي (1/ 115). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (190).

(5) تقرصه أي: تدلكه بأطراف أصابعها ليتحلل ويخرج.

(6) متفق عليه: البخاري (227)، ومسلم (291).

(7) صحيح: البخاري (156)، والترمذي (17)، والنسائي (42)، وابن خزيمة وزيادة [حمار] له.

(8) صحيح: مسلم (279).

 

(1/72)

 

 

وقد دل على أن لعاب الكلب نجس.

8 - لحم الخنزير:

وهو نجس باتفاق أهل العلم لصريح قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (1).

9 - الميتة:

وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة شرعية، وهي نجسة بالإجماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» (2).

والإهاب: جلد الميتة.

ويستثنى من ذلك:

1 - ميتة السمك والجراد: فإنهما طاهرتان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحل لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» (3).

2 - ميتة ما لا دم له سائل: كالذباب والنحل والنمل والبق ونحوها.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله أو ليطرحه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء» (4).

3 - عظم الميتة وقرنها وظفرها وشعرها وريشها، كل هذا طاهر على الأصل وقد علق البخاري في صحيحه (1/ 342): قال الزهري -في عظام الميتة نحو الفيل وغيره- أدركت ناسًا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها، لا يرون به بأسًا.

وقال حماد: لا بأس بريش الميتة.

10 - ما قطع من الحيوان وهو حي:

وما قطع من الحيوان وهو حي له حكم الميتة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» (5).

_________

(1) سورة الأنعام، الآية: 145.

(2) صحيح: مسلم (366).

(3) أخرجه ابن ماجه (3218، 3314)، وأحمد (2/ 97) بسند صحيح.

(4) صحيح: البخاري (3320).

(5) أخرجه الترمذي (1480)، وأبو داود (2858)، وابن ماجه (3216).

 

(1/73)

 

 

11 - سؤر السباع والدواب التي لا يؤكل لحمها:

السؤر: هو ما بقي في الإناء بعد الشرب.

ويدل على نجاسته قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» (1).

أما الهرة فما دونها فسؤره طاهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (2).

12 - لحم ما لا يؤكل لحمه من الحيوان:

وذلك لحديث أنس رضي الله عنه قال: أصبنا من لحم الحمر -يعني يوم خيبر- فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر فإنها رجس، أو: نجس» (3).

ولحديث سلمة بن الأكوع قال: لما أمسى اليوم الذي فتحت عليهم فيه خيبر أوقدوا نيرانًا كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذه النار على أي شيء توقدون»؟ قالوا: على لحم، قال: «على أي لحم؟» قالوا: على لحم الحمر الإنسية، فقال: «أهريقوها واكسروها». فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها؟ قال: «أو ذاك» (4).

ففي الحديثين دلالة على نجاسة لحوم الحمر الأهلية لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول: «فإنها رجس، أو: نجس» ولأمره صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني بكسر الآنية أولاً، ثم إباحته للغسل ثانيًا.

 

هل يُعَدُّ المني طاهرًا أم نجسًا؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: يقول بنجاسة المني وبه قال أبو حنيفة ومالك وهو رواية عن أحمد واستدلوا على ذلك بحديث عائشة لما سئلت عن المني يصيب الثوب فقالت:

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (63)، والنسائي (1/ 46)، والترمذي (67) وهو صحيح كما في صحيح الجامع [758].

(2) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 303)، وأصحاب السنن وانظر الإرواء (173).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1940)، وأحمد (3/ 121) وهو في البخاري بدون لفظ «فإنه رجس».

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1802).

 

(1/74)

 

 

كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء» (1). والغسل لا يكون إلا لشيء نجس.

القول الثاني: قال أصحابه بطهارة المني وممن قال بذلك الشافعي وداود وهو أصح الروايتين عن أحمد واستدلوا على ذلك بحديث عائشة في المني قال: «كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم» (2).

وبحديثها أيضًا أن ضيفًا نزل بعائشة فأصبح يغسل ثوبه فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركًا فيصلى فيه» (3). والاكتفاء بالفرك يدل على طهارته.

وقد أجاب القائلون بالنجاسة بأن الفرك لا يدل على الطهارة وإنما يدل على كيفية التطهير كما أن تطهير النعل يكون بمسحها في التراب.

ويجاب عن هذا (4) بأن فرك عائشة للمني تارة وغسله تارة أخرى لا يقتضي تنجيسه، فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ، وهكذا قال غير واحد من الصحابة: كسعد بن أبي وقاص، وابن عباس وغيرهما: «إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، أمطه عنك ولو بإذخرة».

فظهر بهذا أن فعل عائشة رضي الله عنها، إنما هو من باب اختيار النظافة (5).

ويتأيد الحكم بطهارة المني أن الصحابة كانوا يحتلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المني يصيب بدن أحدهم وثيابه، وهذا مما تعم به البلوى، فلو كان نجسًا لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإزالته كما أمرهم بالاستنجاء ... ، ولم ينقل أحد هذا، فعلم يقينًا أن إزالته لم تكن واجبة، والله أعلم (6).

 

هل تُعَدُّ الخمر من النجاسات؟

اختلف العلماء في حكم الخمر على قولين:

الأول: أنها نجسة: وهو مذهب جمهور العلماء، منهم الأئمة الأربعة واختاره شيخ الإسلام، وحجتهم:

_________

(1) متفق عليه. البخاري (230)، ومسلم (289).

(2) صحيح: مسلم (288).

(3) صحيح: مسلم (288).

(4) «مجموع الفتاوى» (21/ 605).

(5) شرح مسلم.

(6) «مجموع الفتاوى» (21/ 604).

 

(1/75)

 

 

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1).

قالوا: الرجس هو النجس، فحكموا بنجاسة عين الخمر نجاسة حسية.

القول الثاني: أنها طاهرة: وبه قال ربيعة والليث والمزني وغيرهم من السلف، ورجَّحه الشوكاني والصنعاني وأحمد شاكر والألباني -رحمهم الله- وهو الراجح، لما يأتي:

[1] أنه ليس في الآية دلالة على نجاسة الخمر، وذلك من أوجه:

(أ) أن لفظة (رجس) من المشتركات اللفظية، فهي تحتمل معان كثيرة (2)، منها: القذر، المحرم، القبيح، العذاب، اللعنة، الكفر، الشر، الإثم، والنجس وغيرها.

(ب) أننا لم نقف على قول لأحد من السلف فسَّر الرجس في هذه الآية بالنجس بل قال ابن عباس: (الرجس: السخط) وقال ابن زيد: (الرجس: الشر).

(جـ) أن لفظة (رجس) قد وردت في كتاب الله -في غير هذه الآية- في ثلاثة مواضع وليس في واحد منها (الرجس) بمعنى النجس: فالرجس في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (3). معناه: العذاب وفي قوله في شأن المنافقين: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ} (4). المراد: علمهم رجس أي قبيح.

وفي قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (5). سمى الأوثان رجسًا لأنها سبب الرجز والعذاب، وليس المراد بها النجاسة الحسية، فإن عين الحجارة والأوثان ليست بنجسة، وفي قوله {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ .... فَإِنَّهُ رِجْسٌ} محتمل ...

(د) لما وقع الخمر في الآية مقترنًا بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرجسية إلى غير النجاسة الشرعية، وهكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (6). لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين.

_________

(1) سورة المائدة، الآية: 90.

(2) انظر «النهاية» لابن الأثير، و «لسان العرب»، و «مختار الصحاح»، والتفاسير.

(3) سورة الأنعام، الآية: 125.

(4) سورة التوبة، الآية: 95.

(5) سورة الحج، الآية: 30.

(6) سورة التوبة، الآية: 28.

 

(1/76)

 

 

(و) أن تحريم الخمر لا يستلزم نجاستها، أما النجاسة فإنه يلازمها التحريم فإنه يحرُم لبس الحرير والذهب وهما طاهران ضرورة شرعًا وإجماعًا.

(هـ) أن (الرجس) في الآية مقيد بكونه (من عمل الشيطان) فهو رجس عملي بمعنى قبيح أو محرم أو إثم، وليس رجسًا عينيًا تكون به هذه الأشياء نجسة.

[2] ومما يستدل به على طهارة الخمر: حديث أنس في قصة تحريم الخمر، وفيه «... فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، .... قال: فخرجت فأهرقتها فجرت في سكك المدينة» (1).

[3] وفي حديث الرجل الذي كان معه مزادتان فيهما خمر: «... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله الذي حرم شربها حرم بيعها، ففتح [الرجل] المزادتين حتى ذهب ما فيهما ...» (2).

فلو كانت الخمر نجسة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الماء على الأرض لتطهيرها كما أمر بالصب على بول الأعرابي، ولأمرهم بالاحتراز منها.

ولو كانت نجسة لأمر صاحب المزادتين بغسلهما.

[4] أن الأصل الطهارة، ولا ينقل عنها إلا ناقل صحيح، ولم يقم الدليل على النجاسة فتبقى على الأصل. والله أعلم.

 

هل يعتبر الدم من النجاسات؟

الدم على أقسام:

1 - دم الحيض: وهو نجس باتفاق العلماء، وقد تقدم الدليل على نجاسته.

2 - دم الإنسان (3): وهو مختلف فيه، فالمشهور عند أصحاب المذاهب الفقهية أن الدم نجس، وليس عندهم حجة، إلا أنه محرم بنص القرآن في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (4). فاستلزموا من التحريم النجاسة - كما فعلوا في الخمر - ولا

_________

(1) صحيح: البخاري (2332)، ومسلم (1980).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1206)، ومالك (1543).

(3) تفسير القرطبي (2/ 221)، والمجموع (2/ 511)، والمحلى (1/ 102)، والكافي (1/ 110)، وبداية المجتهد، والسيل الجرار (1/ 31)، والشرح الممتع (1/ 376)، والسلسلة الصحيحة، وتمام المنة (ص 50).

(4) سورة الأنعام، الآية: 145.

 

(1/77)

 

 

يخفى ما فيه، لكن نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على نجاسته، وسيأتي الكلام في ذلك.

بينما ذهب جماعة من المتأخرين منهم الشوكاني وصديق خان والألباني وابن عثيمين -رحمهم الله- إلى القول بطهارته لعدم ثبوت الإجماع عندهم، واستدلوا كذلك بما يأتي:

1 - أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم الليل على النجاسة، ولا نعمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل دمْ غير دم الحيض، مع كثرة ما يصيب الإنسان من جروح ونحوها، فلو كان الدم نجسًا لبينه صلى الله عليه وسلم لدعاء الحاجة إلى ذلك.

2 - أن المسلمين ما زالوا يصلون في جراحاتهم، وقد يسيل منهم الدم الكثير، الذي ليس محلاًّ للعفو، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بغسله، ولم يرد أنهم كانوا يتحرزون عنه تحرزًا شديدًا:

- قال الحسن: «ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم» (1).

وفي حديث الصحابي الأنصاري «الذي قام يصلي في الليل، فرماه المشرك بسهم، فوضعه، فنزعه، حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ومضى في صلاته وهو يموج دمًا» (2).

قال الألباني (3) -رحمه الله -: وهو في حكم المرفوع، لأنه يُستبعد عادة أن لا يطَّلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فلو كان الدم الكثير ناقضًا لبينه صلى الله عليه وسلم، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو معلوم من علم الأصول، وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم خفى ذلك عليه، فما هو بخاف على الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فلو كان ناقضًا أو نجسًا لأوحى بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر لا يخفى على أحد. اهـ.

وفي حديث مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «صلى عمر وجُرحه يثعب دمًا» (4).

أي: يجري دمًا.

_________

(1) إسناده صحيح: رواه البخاري معلقًا (1/ 336) ووصله ابن أبي شيبة بسند صحيح كما في الفتح (1/ 337).

(2) صحيح: علقه البخاري (1/ 336) ووصله أحمد وغيره وهو صحيح.

(3) «تمام المنة» (51، 52).

(4) صحيح: أخرجه مالك (82) وعنه البيهقي (1/ 357) وغيره بسند صحيح.

 

(1/78)

 

 

3 - لحديث عائشة -في قصة موت سعد بن معاذ- قالت: «لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل في الأكحل، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب .... فبينما هو ذات ليلة إذ تفجر كَلْمُه فسال الدم من جرحه حتى دخل خباء إلى جنبه، فقالوا: يا أهل الخباء ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فنظروا، فإذا سعد قد انفجر كَلْمُه والدم له هدير فمات» (1).

قلت: ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء عليه لا سيما وهو في المسجد كما أمر بالصب على بول الأعرابي.

4 - أن ابن رشد لما ذكر اختلاف العلماء في دم السمك، ذكر أن السبب في اختلافهم هو اختلافهم في ميتته، فمن جعل ميتته داخلة تحت عموم التحريم جعل دمه كذلك ومن أخرج ميتته أخرج دمه قياسًا على الميتة.

ونقول: هم يقولون بطهارة ميتة الآدمي، فكذلك دمه على قاعدتهم.

ولذا قال ابن رشد عقبه: «والنص إنما دلَّ على نجاسة دم الحيض، وما سوى ذلك فهو على الأصل المتفق عليه بين المتنازعين، وهو الطهارة، فلا يخرج منه إلا بنص تقوم به الحجة» اهـ.

فإن قيل: ألا يقاس على دم الحيض، ودم الحيض نجس؟

قلنا: هذا قياس مع الفارق:

فإن دم الحيض دم طبيعة وجبلة النساء، قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم» (2) وقال في الاستحاضة: «إنه دم عرق» (3).

ثم إن دم الحيض دم غليظ منتن له رائحة مستكرهة، فأشبه البول والغائط، لا الدم الخارج من غير السبيلين.

3 - دم الحيوان مأكول اللحم: والقول فيه كالقول في دم الآدمي من جهة عدم الدليل على النجاسة، فتستصحب البراءة الأصلية.

ويؤيد القول بطهارته أيضًا:

حديث ابن مسعود قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3100) مختصرًا، والطبراني في «الكبير» (6/ 7).

(2) صحيح: البخاري (294)، ومسلم (1211).

(3) صحيح: البخاري (327)، ومسلم (333).

 

(1/79)

 

 

وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد، فيضعه على كتفيه، فانبعث أشقاهم، فملا سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا فضحكوا .... الحديث» (1).

فلو كان دم الجزور نجسًا لألقى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه، أو خرج من صلاته.

وقد صح «أن ابن مسعود صلى وعلى بطنه فرث ودم جزور نحرها ولم يتوضأ» (2).

وإن كان هذا الأثر قد يُنازع في الاستدلال على طهارة دم الحيوان، لأن ابن مسعود لم يكن يرى طهارة البدن والثوب شرطًا لصحة الصلاة، ويرى أنها مستحبة.

قلت: لو ثبت الإجماع على نجاسة الدم لم نلتفت إلى أدلة المتأخرين، وإن لم يثبت فالأصل الطهارة ولسنا بحاجة إلى هذه الأدلة، والذي ظهر لي -بعد اختياري للقول بالطهارة على مدى عشر سنوات- أن الإجماع في المسألة ثابت، قد نقله غير واحد من أهل العلم ولم يثبت ما ينقضه، وأعلى هذه النقولات ما نقل عن الإمام أحمد ثم ما نقله ابن حزم - خلافًا لمن ظن أن مذهبه القول بالطهارة!! - ومما وقفته من ذلك:

قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 240):

سئل أحمد: الدم والقيح عندك سواء؟ قال: لا، الدم لم يختلف الناس فيه.

وقال مرة: القيح والصديد والمدة عندي أسهل من الدم. اهـ.

وقد نقل ابن حزم في مراتب الإجماع: اتفاق العلماء على نجاسة الدم.

وكذا نقل -هذا الاتفاق - الحافظ في «الفتح» (1/ 420).

وقال ابن عبد البر في التمهيد (22/ 230):

وحكم كل دم كدم الحيض إلا أن قليل الدم متجاوز عنه لشرط الله عز وجل في نجاسة الدم أن يكون مسفوحًا فحينئذ هو رجس والرجس نجاسة وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس. اهـ.

وقال ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 79):

_________

(1) صحيح: البخاري (240)، وسملم (1794).

(2) إسناده صحيح: مصنف عبد الرزاق (1/ 25)، وابن أبي شيبة (1/ 392).

 

(1/80)

 

 

اتفق العلماء عل أن الدم حرام نجس لما يؤكل ولا ينتفع به، وقد عينه الله تعالى هاهنا مطلقًا، وعينه في سورة الأنعام مقيدًا بالمسفوح، وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعًا. اهـ.

وقال النووي في المجموع (2/ 576):

والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافًا عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف. اهـ.

قلت (أبو مالك): الذي يترجح لدى أن الدم نجس لثبوت الإجماع حتى ينقل عن إمام يتقدم على أحمد -رحمه الله- القول بالطهارة، والله أعلم.

 

هل «قيء الآدمي» نجس؟

قد تقدم مرارًا أن الأصل في جميع الأشياء: الطهارة، وأنه لا ينقل عن ذلك الأصل إلا بناقل صحيح للاحتجاج به، غير معارض بما يرجح عليه أو يساويه، فإن وجدنا ذلك فبها ونعمت، وإن لم نجد ذلك وجب علينا الوقوف في موقف المنع لمدعي النجاسة، لأن هذه الدعوى تفيد أن الله تعالى قد أوجب على عباده غسل هذه الأعيان، التي يزعم أنها نجسة وأن وجودها يمنع الصلاة بها، فما الدليل على ذلك؟!

والقيء ونحوه من هذا القبيل فلم يصح فيه ما ينقله عن الطهارة الأصلية، وقد ورد فيه حديث عمار: «إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني» لكنه ضعيف لا يحتج به. والله أعلم.

وقد ثبت عن أبي الدرداء «أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ» (1).

وليس في هذا الحديث دلالة على نجاسة القيء، وليس فيه دليل على وجوب الوضوء منه، ولا يدل على نقض الوضوء به، وإنما غايته مشروعية الوضوء من القيء، لأن مجرد فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الوجوب.

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2381)، والترمذي (87)، وأحمد (6/ 443) وغيرهم.

 

(1/81)

 

 

هذا على أنه ليس كل ما ينقض الوضوء يُعدَّ نجسًا، وإلى هذا ذهب ابن حزم واختاره شيخ الإسلام في الفتاوى.

ما حكم الإفرازات التي تخرج من فرج المرأة وما يسمى برطوبة فرج المرأة؟

للعلماء في رطوبة فرج المرأة مذهبان (1):

الأول: أنه نجس: لأنه في الفرج لا يخلق منه الولد، أشبه المذي، واستدلوا، بحديث زيد بن خالد أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمْنِ؟ قال عثمان: «يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره» قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .... الحديث (2).

وحديث أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم يُنزل؟

قال: «يغسل ما مسَّ المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي» (3).

قالوا: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل ما أصيب من فرج المرأة دليل على نجاسة رطوبة الفرج.

واعترض: بأن الحديثين منسوخان (4) بأحاديث الأمر بالغُسل كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.

وبأنه يحتمل أن يكون الأمر بالغسل من أجل المذي الذي يخرج منه أو منها.

واستدلوا كذلك على نجاسته بكونه خارجًا من أحد السبيلين، والقاعدة: «أن ما خرج من السبيلين فهو نجس عدا المني».

القول الثاني: أن إفرازات الفرج طاهرة (5): ويستدل لهذا المذهب بما يلي:

1 - أن عائشة رضي الله عنها كانت تفرك المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من جماع فإنه

_________

(1) المغنى (2/ 88)، والمجموع (1/ 570).

(2) صحيح الإسناد: أخرجه البخاري (292)، ومسلم (347) وهو منسوخ.

(3) صحيح الإسناد: أخرجه البخاري (293)، ومسلم (346) وهو منسوخ.

(4) انظر «فتح الباري» (1/ 473).

(5) انظر «جامع أحكام النساء» (1/ 68) لشيخنا مصطفى بن العدوي حفظه الله.

 

(1/82)

 

 

ما احتلم نبي قط (1)، وهو يلاقي رطوبة الفرج، ولأننا لو حكمنا بنجاسة فرج المرأة لحكمنا بنجاسة منيها، لأنه يخرج من فرجها فيتنجس برطوبته.

2 - أن هذه الإفرازات أمر لا يخفى، وهي كثيرة في النساء، ولا شك أنه كان موجودًا في النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كنساء زماننا، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهن بالغسل منه أو الوضوء منه.

3 - أن مخرج هذه الإفرازات غير مخرج البول النجس.

4 - أن قول الفقهاء (كل ما خرج من السبيلين نجس، عدا المني) فهذا ليس قولاً عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ولم ينعقد عليه إجماع الأمة، بل قد ورد أن بعض ما يخرج من السبيلين لا ينقض الوضوء كدم الاستحاضة على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله.

قلت: والذي يترجح عندي التفصيل: فإن كانت هذه الإفرازات تخرج من المرأة عند ملاعبة الزوج أو إرادة الجماع ونحوه خاصة، فهذا هو المذي، وقد عرفت أنه نجس يجب غسله، وأنه ناقض للوضوء.

وأما إذا كانت هذه الإفرازات تخرج من فرج المرأة في غالب الأوقات، وتزداد أثناء الحمل، وعند بذل المجهود أو المشي الكثير، فهذه طاهرة على الأصل لعدم الدليل على نجاستها، والله أعلم.

ما يعفى عنه من النجاسات:

تعدد أقوال الفقهاء في نوع وقدر النجاسة التي قد تصيب الثوب أو المكان أو البدن ويكون معفوًّا عنها (2).

إلا أن الضابط لما يُعفى عنه من النجاسات هو الضرورة أو عموم البلوى مع تعذُّر الاحتراك منها، وحصول الحرج والمشقة في إزالتها.

كيفيات التطهير لأنواع النجاسات التي ورد النص ببيانها:

أ- تطهير الثوب من دم الحيض: يكون بفرجه وقشره، ثم دلكه بأطراف الأصابع ليتحلل ويخرج، ثم تغسله بالماء، لحديث أسماء بنت أبي بكر قالت:

_________

(1) كذا قال في «المغنى» (2/ 88) وقال شيخنا: هذا يحتاج إلى نص من الكتاب أو السنة، ولم نقف على نص في مثل هذا.

(2) «الفقه الإسلامي وأدلته» (169 - 177).

 

(1/83)

 

 

جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اله، إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع؟

فقال: «تَحُتُّهُ، ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه، ثم تصلي فيه» (1).

ولحديث عائشة قالت: «كانت إحدانا تحيض، ثم تقترص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه» (2).

وإذا أرادت المرأة أن تستخدم عودًا أو غيره لتزيل الدم به، أو أن تغسله بالماء والصابون ونحوه من المنظفات فهو أحسن:

لحديث أم قيس بنت محصن قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب، قال: «حُكِّيه بِضِلَع، واغسليه بماء وسدر» (3).

2 - تطهير الثوب من بول الرضيع: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُغسل من بول الجارية، ويُرَشُّ من بول الغلام» (4).

3 - تطهير الثوب من المذي: لما كان المذي مما يكثر حدوثه، وتعم به البلوى، جاء التخفيف في تطهيره من الشارع، فيكفي أن يرش الثوب بالماء في مكان المذي، لحديث سهل بن حنيف أنه كان يلقى من المذي شدة وعناءً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: «يكفيك أن تأخذ كفًّا من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه قد أصاب منه» (5).

4 - تطهير ذيل ثوب المرأة: إذا تنجَّس ذيل ثوب المرأة، فإنه يطهر بملامسته للأرض الطاهرة، فقد سألت امرأة أمَّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ فقالت أم سلمة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يطهره ما بعده» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (291).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (308)، وابن ماجه (630).

(3) حسن: أخرجه أبو داود (363)، والنسائي (1/ 195)، وابن ماجه (628).

(4) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (376)، والنسائي (1/ 158)، وابن ماجه (526) وله شواهد.

(5) حسن: أخرجه أبو داود (210)، والترمذي، وابن ماجه (506).

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (383)، والترمذي (143)، وابن ماجه (531).

 

(1/84)

 

 

5 - تطهير أسفل النعل:

عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثًا فلمسحه بالأرض، ثم ليصلِّ فيهما» (1).

6 - تطهير الإناء إذا ولغ فيه الكلب:

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب» (2).

7 - تطهير جلد الميتة بالدباغ:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دُبغ الإهاب فقد طَهُر» (3).

8 - تطهير الأرض من البول ونحوه: يكون بالصب عليه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة الماء على بول الأعرابي في المسجد (4)، وإنما أمر بذلك استعجالاً للنظافة، وإلا فلو ترك حتى جف وذهب أثر النجاسة طهرت.

9 - تطهير البئر أو السمن إذا وقعت فيها نجاسة: ويكون بنزح وإزالة النجس وما حوله ويبقى سائره طاهرًا، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن؟ فقال: «ألقوها، وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم» (5).

هل يتعيَّن الماء لإزالة النجاسة؟ أم يجوز إزالتها بغيره من المائعات وغيرها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين:

الأول: يشترط الماء لإزالة النجاسة، ولا تصح بغيره إلا بدليل:

وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد، وهو مذهب الشافعي في الجديد، وانتصر له الشوكاني ومن تبعه (6)، وحجتهم:

1 - قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} (7). وغيره من الأدلة الدالة على طهورية الماء.

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (646).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (279)، وأبو داود (71).

(3) صحيح: أخرجه مسلم وغيره.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (219)، ومسلم (284).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (الذبائح - باب 34).

(6) بداية المجتهد (1/ 99)، والأم (1/ 49)، والسيل الجرار (1/ 49).

(7) سورة الأنفال، الآية: 11.

 

(1/85)

 

 

2 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الماء على بول الأعرابي (1).

قالوا: والأمر للوجوب فلا يجزئ في إزالة النجاسة غير الماء!!

3 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي ثعلبة - بغسل آنية أهل الكتاب بالماء (2).

4 - قال الشوكاني: «الماء هو الأصل في تطهير النجاسات لوصف الشارع له [بكونه] طهورًا، فلا يعدل إلى غيره إلا إذا ثبت ذلك عن الشارع، وإلا فلا، لأنه عدول عن المعلوم كونه طهورًا إلى ما لا يعلم كونه طهورًا، وذلك خروج عما تقتضيه المسالك الشرعية» اهـ.

الثاني: يجزئ التطهير بكل ما يزيل النجاسة ولا يشترط الماء:

وهذا مذهب أبي حنيفة، والرواية الأخرى عن مالك وأحمد، والقول القديم للشافعي، وابن حزم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا العلامة ابن عثيمين (3)، وهو الراجح لما يأتي:

1 - أن كون الماء طهور (طاهرًا ومطهرًا) لا يمنع من كون غيره مطهرًا كذلك، فإن القاعدة (أن عدم السبب المعين لا يقتضي انتفاء المسبب المعين، سواء كان دليلاً أو غير دليل) لأن المؤثر قد يكون شيئًا آخر، وهذا هو الواقع في النجاسة (4).

قلت: بل بعض المائعات كالخل والمطهرات الصناعية تزيل النجاسة كالماء وأبلغ منه.

2 - أن الشارع أمر بإزالة النجاسة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال كل نجاسة بالماء.

3 - أن الشرع قد أذن في إزالة بعض النجاسات بغير الماء: كالاستجمار بالحجارة، ودلك النعلين بالتراب، وتطهير ذيل الثوب بالأرض، وغير ذلك مما تقدم.

4 - أن إزالة النجاسة ليست من باب المأمور، بل من باب اجتناب المحظور، فإذا حصل بأي سبب ثبت الحكم، ولذلك لا يشترط لإزالة النجاسة نية، ولكن إن

_________

(1) متفق عليه: وقد تقدم قريبًا.

(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (5170)، ومسلم (1930).

(3) البدائع (1/ 83)، وفتح القدير (1/ 200)، ومجموع الفتاوى (21/ 475)، والمحلى (1/ 92 - 94)، والشرح الممتع (1/ 361 - 363).

(4) الشرح الممتع (1/ 362).

 

(1/86)

 

 

زالت بفعل العبد ونيته أثيب على ذلك، وإلا إذا عدمت بغير فعله ولا نيته زالت المفسدة، ولم يكن له ثواب ولم يكن عليه عقاب.

ويؤيد هذا أن الخمر المنقلبة خلاًّ بنفسها تطهر -عند القائلين بالنجاسة- باتفاق المسلمين.

قلت: فالراجح أن النجاسة إذا زالت بأي شيء زال بذلك حكمها وصارت طاهرة.

وهنا فوائد:

1 - فائدة هذه المسألة أن من كان على ثوبه أو بدنه نجاسة فاستعمل شيئًا من المنظفات الطاهرة -غير الماء- لإزالتها، فإنه يجزئه ولا يلزم أن يغسله بالماء.

2 - لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة، لما في ذلك من فساد الأموال (1).

3 - أن ما يحصل به الطهارة بغير الماء من المائعات وغيرها إنما هو في النجاسات الحقيقية التي تكون على الثوب أو البدن أو المكان، أما التطهير الحكمي (طهارة الحدث) كالوضوء والغسل ونحوه فلا يجزئ فيه غير الماء.

 

الاستنجاء

معنى الاستنجاء وحكمه:

الاستنجاء: استفعال من (نجوت الشجرة) أي: قطعتها، فكأنه قطع الأذى عنه.

وفي الاصطلاح: إزالة ما خرج من السبيلين (القُبُل والدُّبر) بماء أو حجر أو ورق ونحوها.

ويطلق عليه أيضًا: (الاستجمار): لأنه يستعمل الجمار (وهي الحجارة الصغيرة) في استجماره، ويطلق عليه كذلك: (الاستطابة) لأنه يُطيِّب جسده بإزالة الخبث عنه (2).

وأما حكمه: فالاستنجاء واجب من كل خارج معتاد من السبيلين كالبول والمذي والغائط -عند جمهور العلماء خلافًا لأبي حنيفة (3) - لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا

_________

(1) مجموع الفتاوى (21/ 475).

(2) المغني (1/ 205) ط. هجر بتصرف يسير.

(3) قال الحنفية: الاستنجاء سنة مؤكدة ما لم تتجاوز النجاسة المخرج، واستدلوا بحديث: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» وهو حديث ضعيف، انظر: ضعيف الجامع (5468).

 

(1/87)

 

 

ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه» (1) وهذا أمر، وهو للوجوب، ثم قوله (فإنها تجزئ) والإجزاء إنما يستعمل في الواجب، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» (2).

والنهي عن الاقتصار على أقل من ثلاثة يقتضي التحريم، وإذا حرم ترك بعض النجاسة فترك جميعها أولى.

 

بم يكون الاستنجاء؟

يجزئ الاستنجاء بأحد شيئين:

1 - الحجارة ونحوها من كل جامد مزيل للنجاسة غير محترم:

كالورق والخرق والخشب وما يحصل به الإنقاء من النجاسة.

فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه» (3).

ولا يجوز الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، على الراجح:

(أ) لحديث سلمان قال: «لقد نهانا [أي النبي صلى الله عليه وسلم] أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم» (4).

(ب) وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثًا» (5).

(جـ) عن خلال بن السائب عن أبيه مرفوعًا: «إذا دخل أحدكم الخلاء فليتمسح بثلاثة أحجار» (6).

_________

(1) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (40)، والنسائي (1/ 18)، وأحمد (6/ 108 - 133) بسند ضعيف وله شواهد تقويه. وانظر «الإرواء» (44).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (262)، والنسائي (1/ 16)، والترمذي (16)، وأبو داود.

(3) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (40)، والنسائي (1/ 18)، وأحمد (6/ 108 - 133) بسند ضعيف وله شواهد تقويه. وانظر «الإرواء» (44).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (262)، والنسائي (1/ 16)، والترمذي (16)، وأبو داود.

(5) صحيح: أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن خزيمة، وقال الحويني -حفظه الله- في «بذل الإحسان» (1/ 351): سنده صحيح.

(6) حسن بما تقدم: أخرجه الطبراني في «الكبير» (7/ 6623) وانظر «البذل» (1/ 352).

 

(1/88)

 

 

قلت: فإن حصل الإنقاء بثلاثة الأحجار فبها ونعمت، وإلا وجب الزيادة على الثلاثة حتى ينقى.

ولا يجوز الاستجمار بالعظم أو الروث:

لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم [من الجن]» (1).

وعن ابن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أَجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: «هذا ركس» (2).

2 - الاستنجاء بالماء:

فعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء، وعنزة، فيستنجي بالماء» (3).

والاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار، فقد امتدح الله تعالى أهل قباء لاستنجائهم بالماء:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «نزلت هذه الآية في أهل قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} (4). قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية» (5).

قال الترمذي (1/ 31): وعليه العمل عند أهل العلم، يختارون الاستنجاء بالماء وإن كان الاستنجاء بالحجارة يجزئ عندهم، فإنهم استحبوا الاستنجاء بالماء، ورأوه أفضل، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. اهـ.

لا يُستنجى من خروج الريح ولا يلزم الاستنجاء قبل الوضوء:

من خرجت منه ريح أو قام من نومه فليس عليه الاستنجاء، قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافًا، قال أبو عبد الله: ليس في الريح استنجاء في كتاب الله،

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (682)، والترمذي (18)، وأحمد (1/ 436).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (156)، وغيره، وقد تقدم.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (151)، ومسلم (270، 271) وغيرهما.

(4) سورة التوبة، الآية: 108.

(5) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (44)، والترمذي (3100)، وابن ماجه (357) بسند ضعيف وله شواهد يتقوى بها، انظر الإرواء (45).

 

(1/89)

 

 

ولا في سنة رسوله، إنما عليه الوضوء .... وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (1): إذا قمتم من النوم، ولم يأمر بغيره، فدلَّ على أنه لا يجب، ولأن الوجوب من الشرع، ولم يرد بالاستنجاء هنا نص، ولا هو في معنى المنصوص عليه، لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة هاهنا. اهـ (2).

وليس الاستنجاء مما يجب أن يُوصل بالوضوء، ولا يسن ولا يستحب، كما يظنه كثير من الناس، بل هو عبادة مفردة، والمقصود منه إنقاء المحل من النجاسة. ولم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما توضأ استنجى أو أمر بذلك.

 

بعض الآداب في الاستنجاء

من الآداب التي ينبغي التأدب بها عند الاستنجاء:

1 - ألا يستنجي بيمينه:

لحديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء» (3).

وعن سلمان قال: قال لي رجل: إن صاحبكم ليعلمكم حتى الخراءة؟

قال: «أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي بأيماننا، أو نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار» (4).

2 - أن لا يمس الفرج بيمينه:

لحديث أبي قتادة السابق.

3 - أن يدلك يده بالأرض - بعد الاستنجاء- أو يغسلها بالصابون ونحوه:

فعن أبي هريرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة، فاستنجى ثم مسح يده على الأرض» (5).

_________

(1) سورة المائدة، الآية: 6.

(2) المغنى لابن قدامة (1/ 206) ط هجر.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (153)، ومسلم (267) وغيرهما.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (262)، وأبو داود (7)، والترمذي (16)، والنسائي (1/ 16).

(5) حسن لغيره: أخرجه (45)، وابن ماجه (678)، والنسائي (1/ 45)، وانظر المشكاة (360).

 

(1/90)

 

 

ويؤيده ما في حديث ميمونة: «... ثم صب (أي النبي) على فرجه فغسل فرجه بشماله ثم ضرب بيده على الأرض فغسلها» (1).

4 - أن ينضح فرجه وسراويله بالماء بعد البول لدفع الوسواس:

فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضأ مرة فنضح فرجه» (2).

كيف يستنجي من به مرض سلس البول ونحوه؟

من ابتلي بسلس البول ونحوه:

فإنه يستنجي ويتوضأ لكل صلاة، ثم لا يضره ما نزل منه ما لم يدخل وقت الصلاة الأخرى، وهذا أصح قولي العلماء، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم.

والمبتلى بسلس البول له حكم المستحاضة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأنها:

«إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها، فاغسلي عنك الدم وصلي» (3) وعند البخاري: قال: وقال أبي: «ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» (4).

قلت: وإنما كان هذا هو حكم المعذور، رفعًا للحرج عنه، وقد جاءت الشريعة برفع الحرج عن الأمة، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (266)، ومسلم (317).

(2) صحيح: أخرجه الدارمي (711)، والبيهقي (1/ 161)، وقال الألباني في «تمام المنة» (ص 66): وسنده صحيح على شرط الشيخين. اهـ.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (228)، ومسلم (333) وغيرهما وقد رواه النسائي (1/ 185) بلفظ «فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي» بزيادة «وتوضئي» وهي شاذة كما أعلها النسائي والبيهقي (1/ 327) وأشار مسلم إلى تعليلها ولم يخرجها البخاري وانظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا مصطفى العدوي -رفع الله قدره- (1/ 223 - 226).

(4) هذا يحتمل أن يكون مرفوعًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون من قول عروة بن الزبير راوي الحديث عن عائشة، أفتى به النسوة اللاتي سألنه عن ذلك كما عند الدارمي (1/ 199)، وإلى الاحتمال الأول مال الحافظ في «الفتح» (1/ 332) وإلى الاحتمال الثاني ذهب البيهقي في «السنن» (1/ 344) ورجحه شيخنا -حفظه الله- في «جامع أحكام النساء» (1/ 227).

(5) سورة البقرة، الآية: 185.

 

(1/91)

 

 

وذهب مالك وغيره إلى أنه لا يلزمه الاستنجاء ولا الوضوء من ذلك إلا إذا أحدث حدثًا آخر.

قلت: أما عدم الإلزام بالوضوء لكل صلاة ما لم يحدث فلعله أن يكون له وجه عند من يُضعِّف زيادة «وتوضئي لكل صلاة» في الحديث المتقدم على أن الأرجح الوضوء لكل صلاة كما سيأتي في «الحيض» أما عدم الإلزام بالاستنجاء، فلا وجه له، فإنه قد خرج منه ما يوجب الاستنجاء، وكان بوسعه أن يفعله قبل الصلاة بلا مشقة فوجب عليه، وإنما يعفى له عما نزل أثناء صلاته رفعًا للمشقة، والله أعلم.

من آداب قضاء الحاجة:

من أراد أن يقضي حاجته من بول أو غائط، فينبغي له التأدب بما يأتي:

1 - التستر والبعد عن الناس لا سيما في الخلاء:

فعن جابر رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي البراز [يعني الفضاء] حتى يغيب فلا يرى» (1).

2 - عدم اصطحاب ما فيه ذكر الله تعالى (2):

كالخاتم المنقوش عليه اسم الله، ونحو ذلك، لأن تعظيم اسم الله تعالى مما يعلم من الدين بالضرورة، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (3).

على أنه قد ورد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه» (4) لكنه حديث منكر أعله الحفاظ.

ومن المعلوم أن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان نقشه فيه «محمد رسول الله» (5).

قلت: وإذا كان هذا الخاتم أو نحوه مستورًا بساتر - كأن يوضع في الجيب ونحوه - جاز الدخول به، قال أحمد بن حنبل: «إن شاء جعله في باطن كفه».

وإن خاف ضياعه إن تركه خارجًا، جاز الدخول به للضرورة، والله أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2)، وابن ماجه (335) واللفظ له.

(2) انظر المجموع (2/ 87)، والمغنى (1/ 227)، والأوسط (1/ 342).

(3) سورة الحج، الآية: 32.

(4) ضعيف: أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وضعفه الألباني.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (5872)، ومسلم (2092) وغيرهما.

 

(1/92)

 

 

3 - التسمية والاستعاذة عند الدخول:

وهذا إذا كان سيدخل البنيان (دورة المياه) ويقولها عند تشمير الثياب إذا كان في الفضاء:

لقوله صلى الله عليه وسلم: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء، أن يقول: بسم الله» (1).

وعن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» (2).

4 - تقديم الرجل اليسرى في الدخول، واليمنى في الخروج:

ولم أقف في هذا على نص خاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قال الشوكاني في «السيل الجرار» (1/ 64):

وأما تقديم اليسرى دخولاً واليمنى خروجًا، فله وجه، لكون التيامن فيما هو شريف، والتياسر فيما هو غير شريف، وقد ورد ما يدل عليه في الجملة. اهـ.

5 - عدم استقبال القبلة أو استدبارها عند القعود لقضاء الحاجة:

لحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا».

قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله تعالى (3).

لكن، قد صح عن ابن عمر أنه قال: «لقد رقيت يومًا على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته» (4).

وإذا كان مستقبلاً بيت المقدس -وهو بالمدينة- فهو مستدبر للكعبة!!

قلت: وفي فهم هذين الحديثين أربعة أقوال مشهورة لأهل العلم (5).

_________

(1) صححه الألباني. أخرجه الترمذي وابن ماجه، وانظر «صحيح الجامع» (3611).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (142)، ومسلم (375).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264) وغيرهما.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (145)، ومسلم (266) وغيرهما.

(5) ذكرها النووي في المجموع (2/ 82) وزاد عليها الحافظ في «الفتح» (1/ 296) ثلاثة أخرى.

 

(1/93)

 

 

الأول: أن النهي عن استقبال القبلة واستدبارها مطلق سواء في البنيان أو الصحراء.

وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وابن حزم، واختاره شيخ الإسلام، ونقله ابن حزم عن أبي هريرة وأبي أيوب وابن مسعود وسراقة بن مالك، وعن عطاء والنخعي والثوري والأوزاعي وأبي ثور (1)، واحتجوا بحديث أبي أيوب المتقدم.

وأجابوا عن حديث ابن عمر بأمور:

(أ) أن الحاظر مقدم على المبيح.

(ب) أنه ليس فيه أن ذلك كان بعد النهي عن الاستقبال والاستدبار.

(جـ) أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة إلا ما يدل دليل على أنه أراد الاقتداء به في ذلك وإلا كان فعله خاصًّا به.

قلت: وربما تأيد هذا الأخير بأن رؤية ابن عمر للنبي صلى الله عليه وسلم اتفقت له من غير قصد، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بهذا بيان حكم شرعي جديد.

الثاني: أن النهي خاص بالصحراء دون البنيان: وبه قال مالك والشافعي وأصح الروايتين عن أحمد وإسحاق، وقد سلكوا بهذا مسلك الجمع بين الدليلين، وقالوا: إن قاعدة (القول مقدم على الفعل) إنما يعمل بها في حالة ثبوت الخصوصية ولا دليل عليها.

الثالث: أنه يجوز الاستدبار فقط دون الاستدبار: وقد حكى عن أبي حنيفة وأحمد، عملاً بظاهر حديث ابن عمر مع حديث أبي أيوب.

الرابع: جواز الاستقبال والاستدبار مطلقًا: وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود، وحجتهم أن الأحاديث تعارضت فيرجع إلى أصل الإباحة.

قلت: ولعل القول الأول -وهو التحريم مطلقًا- هو الأقوى دليلاً والأحوط عملاً، والله أعلم.

6 - اجتناب الكلام مطلقًا إلا للحاجة:

فعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يبول- فسلَّم عليه فلم يرد عليه» (2).

_________

(1) المحلى (1/ 194)، والفتح (1/ 296)، والأوسط (1/ 334) وما بعدها، والسيل الجرار (1/ 69)، والاختيارات الفقهية (8).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (370)، وأبو داود (16)، والترمذي، والنسائي (1/ 15)، وابن ماجه (353).

 

(1/94)

 

 

ورد السلام واجب، فتركه يدل على تحريم الكلام -لا سيما- إذا كان بذكر الله تعالى.

لكن إذا تكلم للحاجة التي لابد منها كإرشاد أحد، أو طلب ماء أو نحوه فإنه يباح للضرورة والله أعلم.

7 - اجتناب قضاء الحاجة في طريق الناس ومستظلهم ونحو ذلك:

فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا اللاعنين» قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم» (1).

8 - اجتناب التبول في المستحم (مكان الاغتسال):

وخصوصًا إذا كان يتجمع الماء فيه مثل «البانيو» ونحوه، فقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل في مغتسله» (2).

9 - اجتناب التبول في الماء الراكد الذي لا يجري:

لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يبال في الماء الراكد» (3).

10 - ارتياد المكان الرخو اللين عند التبول، واجتناب المكان الصلب، احترازًا من ارتداد النجاسة عليه.

11 - التزام آداب الاستنجاء التي تقدم ذكرها.

12 - أن يقول إذا خرج: «غفرانك»:

فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك» (4).

 

هل يجوز للرجل أن يبول قائمًا؟

في هذا الباب خمسة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة صحاح، في أحدها إنكار عائشة لبوله صلى الله عليه وسلم قائمًا، وفي الثاني حكاية بوله قائمًا وفي الثالث حكاية بوله جالسًا.

وحديثان ضعيفان، في أحدهما نهيه عن البول قائمًا، وفي الآخر: وصف البول قائمًا بأنه من الجفاء، وإليك هذه الأحاديث:

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (68)، وأبو داود (25).

(2) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 130)، وأبو داود (28).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (281)، والنسائي (1/ 34).

(4) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (7)، وأبو داود (30)، وأحمد (6/ 155).

 

(1/95)

 

 

1 - حديث عائشة قالت: «من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا» (1).

2 - حديث حذيفة «أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سباطة قوم، فبال قائمًا، فتنحيت فقال: «ادنه» فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ ومسح على خفيه» (2).

3 - حديث عبد الرحمن بن حسنة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كهيئة الدَّرقة، فوضعها ثم جلس خلفها فبال إليها ...» (3).

4 - عن ابن عمر قال: قال عمر: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبول قائمًا، فقال: «يا عمر، لا تبل قائمًا» قال: فما بلت قائمًا بعد (4).

5 - عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائمًا، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده» (5).

قلت: ولأجل هذه الأحاديث، اختلف أهل العلم في حكم البول قائمًا على ثلاث أقوال (6):

الأول: أنه يكره من غير عذر: وبه قالت عائشة وابن مسعود وعمر في إحدى الروايتين وأبي موسى والشعبي وابن عيينة والحنفية والشافعية.

الثاني: أنه جائز مطلقًا: وبه قال عمر - في الرواية الأخرى - وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد وأنس وأبو هريرة وحذيفة وهو قول الحنابلة.

الثالث: أنه إذا كان في موضع رخو لا يرد البول عليه جاز وإلا منع: وهو مذهب مالك ورجحه ابن المنذر.

_________

(1) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (12)، والنسائي (1/ 26)، وابن ماجه (307)، وأحمد (6/ 136).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (226)، ومسلم (273) وغيرهما.

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (»)، والنسائي (1/ 27)، وابن ماجه (346)، وأحمد (4/ 196).

(4) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (308)، والبيهقي (1/ 202)، والحاكم (1/ 185) وعلقه الترمذي وضعفَّه (1/ 67 - أحوذي).

(5) منكر: أخرجه البخاري في «التاريخ» (496) والبزار (1/ 547) وأنكره البخاري والترمذي وإنما ثبت من قول ابن مسعود.

(6) المجموع (2/ 98)، والأوسط (1/ 333).

 

(1/96)

 

 

قلت: والراجح أنه لا كراهة في البول قائمًا ما دام يأمن ارتداد البول عليه، لأمور:

1 - أنه لم يصح شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ذلك.

2 - أن ما ورد في بوله صلى الله عليه وسلم جالسًا لا ينافي جواز البول قائمًا بل يفيد جواز الأمرين.

3 - لثبوت البول قائمًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

4 - أن نفي عائشة لبول النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا مبني على علمها بفعله في بيته فلا ينفي ما وقع منه من البول قائمًا خارجه، ولا شك أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، وأن من علم -كحذيفة وغيره- حجة على من لم يعلم، وأن المثبت مقدم على النافي. والله أعلم.

 

سنن الفطرة

ما المقصود بسنن الفطرة؟ وما هي؟

«سنن الفطرة» هي: الخصال التي إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها، وحشرهم عليها، واستحبها لهم، ليكونوا على أكمال الصفات، وأشرف صورة.

وهي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه (1).

ويتعلق بخصال الفطرة مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبُّع، منها:

تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلاً (2).

أما بعض هذه الخصال فقد ورد في:

1 - حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الآباط» (3).

2 - حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل

_________

(1) نيل الأوطار (1/ 109)، وعمدة القاري للعيني (» / 45).

(2) فيض القدير للمناوي (1/ 38).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (5891)، ومسلم (257).

 

(1/97)

 

 

البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، قال مصعب - أحد رواة الحديث-: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة» (1).

والحاصل من الحديثين أن خصال الفطرة ليست منحصرة في هذه العشر، ولكن منها:

 

1 - الختان.

2 - انتقاص الماء، أي: الاستنجاء.

3 - السواك.

4 - تقليم الأظفار.

5 - قص الشارب.

6 - إعفاء اللحية.

7 - الاستحداد، وهو حلق الشعر حول الفرج (شعر العانة).

8 - نتف شعر الإبط.

9 - غسل البراجم وهي: المواضع التي تتجمع فيها الأوساخ كعقد الأصابع ومعاطف الأذن ونحوها.

10 - المضمضة والاستنشاق.

الختان

معناه وحكمه:

الختان: مصدر (ختن) أي: قطع، والختن: قطع الجلدة التي تغطي الحشفة من الذكر، وقطع الجلدة التي في أعلى فرج الأنثى (2).

وأما حكمه: فللعلماء فيه ثلاثة أوجه:

1 - أنه واجب على الذكر والأنثى.

2 - أنه مستحب لهما.

3 - أنه واجب على الذكر مستحب للأنثى.

قال ابن قدامة في «المغنى» (1/ 85): فأما الختان فواجب على الرجال، ومكرمة في حق النساء وليس بواجب عليهن، هذا قول كثير أهل العلم. اهـ.

وقال النووي في «المجموع» (1/ 301): والمذهب الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور أنه واجب على الرجال والنساء ... اهـ.

_________

(1) حسن: أخرجه مسلم (261)، وأبو داود (52)، والترمذي (2906)، والنسائي (8/ 126)، وابن ماجه (293).

(2) انظر «تحفة المودود» لابن القيم (ص: 106، 132)، و «المجموع» (1/ 301).

 

(1/98)

 

 

قلت: أما ختان الذكر، فالظاهر انه واجب لما يأتي:

1 - لأنه ملة إبراهيم عليه السلام: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعد ما أتت عليه ثمانون سنة» (1).

وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (2).

2 - ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل أسلم: «ألق عنك شعر الكفر واختتن» (3).

3 - أن الختان من شعار المسلمين وميزة لهم عن اليهود والنصارى، فكان واجبًا كسائر الشعائر.

4 - أنه قطع شيء من البدن -وهو حرام- والحرام لا يستباح إلا بواجب.

وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، وشدد فيه مالك حتى قال: من لم يختتن لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته، ونقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة، لكن السنة عنده تركها إثم (4).

أما الأنثى: فإنه يُشرع ختانها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» (5) والختانان: هما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الجارية، ففيه بيان أن البنات كُنَّ يختتنَّ.

وقد ورد في إيجاب الختان على الأنثى أحاديث لا يخلو أحدها من مقال، منها حديث أم عطية: أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6298)، ومسلم (370).

(2) سورة النحل، الآية: 123.

(3) حسنه الألباني بشواهده: أخرجه أبو داود (356)، والبيهقي (1/ 172) وفي سنده مجهولان وانقطاع، لكن حسنه الألباني بشواهده التي عزاها إلى صحيح أبي داود (383)، في «الإرواء» (79) ولم أقف عليها، وقد ضعفه النووي والشوكاني.

(4) «تحفة المودود» (ص: 113).

(5) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه (611) وهو في الصحيحين بلفظ «ومس الختان الختان فقد وجب الغسل».

(6) ضعيف: أخرجه أبو داود (5271) وضعَّفه.

 

(1/99)

 

 

وفي رواية: «إذا خفضت فأشمِّي ولا تنهكي، فإنه أنضر للوجه، وأحظى عند الزوج» (1).

وهذه أحاديث ضعيفة الإسناد، وإن كان صححها العلامة الألباني في «السلسلة الصحيحة (722).

وإذا كان كذلك، فلقائل أن يقول: الختان واجب على النساء - وإن كانت هذه الأحاديث ضعيفة - كالرجال لأن الأصل تساويهما في الأحكام إلا ما دلَّ الدليل على التفريق، ولا دليل.

ولآخر أن يقول: بل هو مستحب ومكرمة للنساء وليس بواجب، ووجه التفريق (2) بين الرجال والنساء، أن الختان في حق الرجال فيه مصلحة تعود إلى شرط من شروط الصلاة وهي الطهارة، لأنه إذا بقيت هذه الجلدة، فإن البول يبقى ويتجمع بها.

أما في حق المرأة فغاية فائدته: أنه يقلل من شهوتها، وهذا طلب كمال وليس من باب إزالة الأذى.

قلت: فختان الإناث دائر بين الاستحباب والوجوب، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء» (3) لكنه ضعيف ولو صح لكان حاسمًا للنزاع، والله أعلم.

 

السواك

معناه ومشروعيته:

السواك: مأخوذ من (ساكَ) إذا دلَكَ، وهو في الاصطلاح: استعمال عود أو نحوه في الأسنان، ليذهب الصفرة وغيرها عنها (4).

والسواك يستحب في جميع الأوقات لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب» (5).

_________

(1) منكر: أخرجه الخطب في «التاريخ» (5/ 327)، وانظر «جامع أحكام النساء» (1/ 19).

(2) هذا الوجه أفاده العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- كما في «الممتع» (1/ 134).

(3) ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 75).

(4) نيل الأوطار (1/ 102).

(5) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 50)، وأحمد (6/ 47، 62) وغيرهما.

 

(1/100)

 

 

ويتأكد استحباب السواك في الأوقات الآتية:

1 - عند الوضوء: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«لولا أن أشق على أمتي، أمرتهم بالسواك مع الوضوء» (1).

2 - عند الصلاة: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (2).

3 - عند قراءة القرآن: لحديث عليٍّ قال: أُمرنا بالسواك، وقال: «إن العبد إذا قام يصلى أتاه ملك فقام خلفه يستمع القرآن ويدنو، فلا يزال يستمع ويدنو حتى يضع فاه على فيه، فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك» (3).

4 - عند دخول البيت: لحديث المقدام بن شريح عن أبيه قال: سألت عائشة، قلت: بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك.

5 - عند القيام لصلاة الليل:

لحديث حذيفة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك» (4) يعني: يدلك أسنانه بالسواك.

ويستحب في السواك استعمال عود «الأراك» فإن لم يجد فيجزئ غيره مما تحصل به تنقية الفم وتنظيف الأسنان، كاستعمال «فرشاة الأسنان» مع المعجون الخاص بذلك، والله أعلم.

هل في تقليم الأظفار وقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة توقيت معين؟

هذه الخصال لا تتوقَّت بوقت معين، وإنما الضابط فيها الحاجة، فأي وقت احتيج إلى الأخذ منها كان ذلك وقته.

لكي ينبغي أن لا يُترك شيء من هذا أكثر من أربعين يومًا:

لحديث أنس بن مالك قال: «وُقِّتَ لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة» (5).

_________

(1) أخرجه أحمد، وهو في «صحيح الجامع» (5316).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (6813)، ومسلم (252).

(3) صحيح الألباني: أخرجه البيهقي (1/ 38)، وانظر «الصحيحة» (1213).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (246)، ومسلم (255).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (257) وغيره.

 

(1/101)

 

 

إعفاء اللِّحية

حكم إعفاء اللحية:

إعفاء اللحية واجب على الرجال، لما يأتي:

1 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها، والأمر للوجوب، وليس هناك قرينة تصرفه إلى الندب، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين: وفرِّوا اللِّحى، وأحفوا الشوارب» (1).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «جُزُّوا الشوارب، وأرخوا اللِّحى، خالفوا المجوس» (2).

2 - أن في حلقها تشبُّهًا بالكفار، كما في الحديثين السابقين.

3 - أن حلقها من تغيير خلق الله، وطاعة للشيطان القائل {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (3).

4 - أن في حلقها تشبُّهًا بالنساء وقد: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء» (4).

ولذا قال شيخ الإسلام: «ويحرم حلق لحيته» (5) ونقل ابن حزم وغيره الإجماع على حرمة حلق اللحية (6).

هل يجوز قصُّ ما زاد عن القبضة من اللحية؟

ذهب بعض العلماء إلى جواز أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية، وتعلقوا بحديث ابن عمر «أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل أخذه» (7).

قالوا: وهو راوي حديث الأمر بتوفير اللحية، فهو أعرف بمرويهِّ!

وليس لهم في هذا الأثر حجة لأمور (8):

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5892)، ومسلم (259).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (260).

(3) سورة النساء، الآية: 119.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (5885)، والترمذي (2935).

(5) «الاختيارات الفقهية» لعلاء الدين البعلي (ص 10)، وانظر «الفورع» لابن مفلح (1/ 291).

(6) «مراتب الإجماع»، و «رد المحتار» (2/ 116).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (5892)، ومسلم (259).

(8) أفاده الشيخ الحبيب وحيد عبد السلام بالي -رفع الله قدره- في «الإكليل» (1/ 96).

 

(1/102)

 

 

1 - أن ابن عمر رضي الله عنه كان يفعله إذا حلَّ من إحرامه في الحج والعمرة، وهم يجيزونه في كل حال.

2 - أن فعل ابن عمر هذا مخرَّج على تأوُّله لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (1). في النسك أن الحلق للرأس، والتقصير من اللحية (2).

3 - أن الصحابي إذا قال أو فعل خلاف ما رواه، فإن العبرة بما رواه لا بفهمه وفعله، فالعبرة بالمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى ما تقدم فالصواب وجوب ترك اللحية وعدم الأخذ منها عملاً بعموم الأوامر الواردة في الأحاديث الصحاح (أعفوا .. أرخوا .. أرجوا .. وفروا .. أوفروا) كما ذهب إليه الجماهير من العلماء، والله أعلم.

 

ثانيًا الطهارة الحكمية:

أنواع المياه:

المياه على اختلاف أصنافها، لا تخرج عن نوعين:

1 - الماء المطلق (الماء الطهور): هو الباقي على أصل خلقته، وهو كل ما نبع من الأرض أو نزل من السماء، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} (3).

ويدخل في هذا: مياه الأنهار والثلوج والبَرَد والآبار، حتى وإن تغير بطول مكثه أو بمخالطة طاهر لا يمكن صونه عنه.

وكذلك مياه البحار، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -لما سئل عن ماء البحر-:

«هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتتُه» (4).

وهذا يجوز الوضوء والغسل به بلا خلاف بين أهل العلم، وإن خالطه طاهر يسير ما دام داخلاً تحت اسم الماء، ففي حديث أم هانئ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد من قصعة فيها أثر العجين» (5).

_________

(1) سورة الفتح، الآية: 27.

(2) انظر «شرح الكرماني على البخاري» (21/ 111) عن السابق.

(3) سورة الأنفال، الآية: 11.

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 176)، وابن ماجه (386).

(5) صحيح: أخرجه النسائي (240)، وابن ماجه (378).

 

(1/103)

 

 

ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن غسَّلن ابنته زينب بقوله: «اغسلنها ثلاثًا بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا» (1).

أما إذا خالطه طاهر فأخرجه عن مسمى الماء إلى مسمى آخر كالشاي مثلًا فلا يجوز التطهر به وكذلك لا يجوز التطهر من الحدث بما اعتصر من الطاهرات كماء الورد ونحوه لأنه ليس ماءً على الحقيقة، قال ابن المنذر (2): «أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم أن الوضوء غير جائز بماء الورد، وماء الشجر، وماء العصفر، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق يقع عليه اسم الماء» اهـ.

2 - الماء النجس: وهو الذي خالطته نجاسة وأثرت في أحد أوصافه: فغيرت ريحه أو لونه أو طعمه، بحيث يظن مستعمله أنه يستعمل النجاسة.

وهذا لا يجوز الوضوء به، لأنه نجس في نفسه.

الوضوء بالماء المتساقط من أعضاء الوضوء:

الماء المتساقط من أعضاء المتوضئ ونحوه يسمى «الماء المستعمل» وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم فيه: هل يخرج بذلك عن كونه مطهرًا أم لا؟

والراجح أنه يبقى مطهرًا ما دام لم يخرج عن اسم الماء المطلق، ولم تخالطه نجاسة فأثرت في أحد أوصافه.

وهذا مذهب علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي أمامة، وجماعة من السلف، والمشهور من مذهب مالك، وهو إحدى الروايتين عن الشافعي وأحمد، ومذهب ابن حزم، وابن المنذر، واختاره شيخ الإسلام (3) ويؤيد هذا القول ما يأتي:

1 - أن الأصل أن الماء طهور ولا ينجسه شيء، قال صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء» (4) إلا إذا تغير أحد أوصافه، أو خرج عن اسم الماء المطلق بملاقاة طاهر.

2 - أنه قد ثبت أن الصحابة كانوا يستعملون فضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم:

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1253)، ومسلم (939).

(2) المغني (1/ 11)، والمحلى (1/ 199).

(3) المغنى (1/ 31)، والمجموع (1/ 205)، والمحلى (1/ 183)، ومجموع الفتاوى (20/ 519)، والأوسط (1/ 285).

(4) حسن: أخرجه أبو داود (266)، والترمذي (66)، والنسائي (1/ 174).

 

(1/104)

 

 

(أ) فعن أبي جحيفة قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأُتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به» (1).

قال الحافظ في الفتح (1/ 353): ويحتمل أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة بينة على طهارة الماء المستعمل. اهـ.

(ب) وفي حديث المسور بن مخرمة: «... وإذا توضأ النبي صلى الله عليه وسلم كادوا يقتتلون على وضوئه» (2).

(جـ) عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه، ثم قال له ولبلال: «اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما» (3).

3 - عن ابن عمر قال: «كان الرجال والنساء يتوضئون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا» (4).

وفي رواية: «كنا نتوضأ نحن والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ندلي فيه أيدينا».

4 - عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يغتسل بفضل ميمونة» (5).

5 - عن الرُّبيّع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم: «مسح برأسه من فضل ماء كان في يده» (6).

6 - قال ابن المنذر في الأوسط (1/ 288): وفي إجماع أهل العلم أن الندى الباقي على أعضاء المتوضئ والمغتسل وما قطر منه على ثيابهما طاهر، دليل على طهارة الماء المستعمل، وإذا كان طاهرًا فلا معنى لمنع الوضوء به بغير حجة يرجع إليها من خالف القول. اهـ.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (187).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (189).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (188).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (193)، وأبو داود (79)، والنسائي (1/ 57)، وابن ماجه (381)، والرواية بعده لأبي داود بسند صحيح.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (323) وهو في الصحيحين بلفظ «كانا يغتسلان من إناء واحد».

(6) حسن: أخرجه أبو داود (130)، والدارقطني (1/ 87).

 

(1/105)

 

 

هذا، وقد قالت طائفة من العلماء: لا يجوز الوضوء بالماء المستعمل، وبهذا قال مالك والأوزاعي والشافعي -في إحدى الروايتين- وأصحاب الرأي (1).

ولم يسلم لهم من الأدلة ما يُطمأن إليه، فليراجعها من شاء في المراجع المشار إليها.

يجوز للرجل أن يغتسل بفضل المرأة:

لأهل العلم في حكم تطهر الرجل بالماء المتبقي من وضوء المرأة أو غسلها مذهبان:

الأول: لا يجوز للرجل التطهر بفضل المرأة:

وهو مذهب ابن عمر وعبد الله بن سرجس رضي الله عنهما وأم المؤمنين جويرية بنت الحارث والحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق والشعبي وداود الظاهري (2) وحجتهم:

1 - ما رُوي عن الحكم بن عمرو -وهو الأقرع- أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» (3).

2 - وعن حميد الحميري قال: لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة [وليغترفا جميعًا]» (4).

3 - ما رُوي عن علي بن أبي طالب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلون من إناء واحد، ولا يغتسل أحدهما بفضل صاحبه» (5).

الثاني: أنه يجوز للرجل التطهر بفضل المرأة:

وبه قال عمر وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجماعة من السلف، وأبو عبيد وابن المنذر، وهو مذهب الحنفية، ومالك والشافعي ورواية أحمد (6) واحتجوا بما يأتي:

_________

(1) الاستذكار (1/ 253)، والتمهيد (4/ 43)، والمغنى (1/ 19)، والأوسط (1/ 285).

(2) الأوسط (1/ 292)، والمغنى (1/ 282).

(3) أعلَّه الأئمة. أخرجه أبو داود (82)، والترمذي (64)، والنسائي (1/ 179)، وابن ماجه (373)، وأحمد (5/ 66) وأعله البخاري والدارقطني والنووي، وصححه ابن حجر والألباني في الإرواء (1/ 43).

(4) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (81)، والنسائي (1/ 130)، والبيهقي (1/ 190).

(5) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1/ 133).

(6) مصنف عبد الرزاق (1/ 110)، وابن أبي شيبة (1/ 38)، والأوسط (1/ 297)، والطهور لأبي عبيد (236)، والمبسوط (1/ 61)، والأم (1/ 8)، والمغنى (1/ 283).

 

(1/106)

 

 

1 - عن عبد الله بن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة» (1).

2 - عن ابن عباس قال: «اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إني كنت جنبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الماء لا يجنب» (2).

3 - عن عائشة قالت: «كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، كلانا جنب» (3) وفي رواية: «... نغترف منه جميعًا».

الراجح:

الذي يسلم من أدلة المذهب الأول حديث الرجل الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين -على أنه قد غمز فيه البيهقي- مع أدلة المذهب الثاني، ويمكن الجمع بين الأدلة بأحد أمرين (4):

1 - أن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء، وأحاديث الجواز على الماء المتبقي في الإناء، وبهذا جمع الخطابي.

2 - أن يحمل النهي على التنزيه مع جواز الأمرين.

قلت: ولعل هذا الثاني أولى والله أعلم.

 

الوضوء

تعريفه، ودليل مشروعيَّته:

الوضوء لغة: من الوضاءه، وهي النظافة والنضارة، والوُضوء (بالضم): الفعل، و (بالفتح): ماؤه، ومصدر أيضًا أو لغتان (5).

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه.

(2) أخرجه أبو داود (68)، والترمذي (65)، والنسائي (1/ 173)، وابن ماجه (370) وقد أعله بعض العلماء برواية سماك عن عكرمة، فهي مضطربة، لكن رد عليهم الحافظ في «الفتح» بأن شعبة قد رواه عنه، وهو لا يحمل عن شيوخه إلا صحيح حديثهم، والله أعلم.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (299)، ومسلم (321).

(4) «فتح الباري» (1/ 300 - المعرفة)، و «سبل السلام» (1/ 28)، و «نيل الأوطار» (1/ 26).

(5) «القاموس» (1/ 33)، و «مختار الصحاح» (575)، و «المجموع» (1/ 355).

 

(1/107)

 

 

وفي الاصطلاح: استعمال الماء على أعضاء مخصوصة (الوجه واليدين والرأس والرجلين) يرفع به ما يمنع الصلاة ونحوها.

وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع:

(أ) فأما الكتاب، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} (1).

(ب) وأما السنة، فمن ذلك:

1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُقبَلُ صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (2).

2 - وعن ابن عمر قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلول» (3).

3 - وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أُمرتُ بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» (4).

4 - وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (5).

(جـ) وأما الإجماع، فقد اتفق علماء الأمة على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة إذا وجد السبيل إليها (6).

من فضائل الوُضوء:

(أ) أنه يعتبر نصف الإيمان: كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان ....» (7).

_________

(1) سورة المائدة، الآية: 6.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225) وغيرهما.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (224).

(4) صحيح: أخرجه الترمذي (1848)، وأبو داود (3760)، والنسائي (1/ 73)، وانظر «صحيح الجامع» (2333).

(5) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (3)، وأبو داود (60)، وابن ماجه (275)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (5761).

(6) «الأوسط» لابن المنذر (1/ 107).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (223) وغيره.

 

(1/108)

 

 

(ب) أنه يكفِّر صغائر الذنوب:

1 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضَّأَ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إلهيا مع قطر الماء - أو مع آخر قطر الماء-، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيًّا من الذنوب» (1).

2 - وعن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ هكذا غفر له ما تقدَّم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة» (2).

ويتأكد هذا الفضل والثواب لمن صلى عقب هذا الوضوء فريضة أو نافلة:

3 - ففي حديث عثمان -في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ مثل وضوئي هذا ثم قام فصلى ركعتين لا يحث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه» (3).

(جـ) أنه يرفع درجات العبد:

فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدراجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» (4).

(د) أنه سبيل إلى الجنة:

1 - فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، إني سمعت دفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة». قال: «ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (244) وغيره.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (229) وغيره.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (6433)، مسلم (226) وغيرهما.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (251) وغيره.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1148)، ومسلم (2458).

 

(1/109)

 

 

2 - وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين، يُقبِل عليهما بقلبه ووجهه، وجبت له الجنة» (1).

(هـ) أنه علامة تميِّز هذه الأمة عند ورود الحوض:

فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا -إن شاء الله- بكم عن قريب لاحقون، وددت لو أنا قد رأينا إخواننا» قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد» فقالوا: كيف تعرف من لم يأت من أمتك يا رسول الله؟ قال: «أرأيت لو أن رجلاً له خيل غُرٌّ محجَّلة بين ظَهْري خيل دُهْم بهم ألا يعرف خيله؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فإنهم يأتون غُرًّا مُحجَّلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليَادَنَّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضال أناديهم ألا هَلُمَّ فيقال: إنهم قد بدَّلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا» (2).

والغرة: اللمعة البيضاء تكون في جبهة الفرس، والمراد هنا: النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والتحجيل: بياض يكون في ثلاثة قوائم من قوائم الفرس، والمراد به أيضًا: النور (3).

(و) أنه نور للعبد يوم القيامة:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغ الحلية من المؤمنين حيث يبلغ الوضوء» (4) والحلية هي: النور يوم القيامة.

(ز) أنه حلٌّ لعقدة الشيطان:

فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّتْ عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن صلى انحلَّت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (235)، والنسائي (1/ 80) وغيرهما.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (235)، والنسائي (1/ 80).

(3) «شرح مسلم» للنووي (3/ 100).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (250)، والنسائي (1/ 80).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1142)، ومسلم (776).

 

(1/110)

 

 

صفة الوضوء الكامل (إجمالاً):

عن حُمران مولى عثمان أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفَّيه ثلاث مرارٍ، فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق [واستنثر] ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه» (1).

ومن هذا الحديث وغيره -مما سيأتي تفصيله- يمكن أن نلخص صفة الوضوء فيما يأتي:

1 - ينوي الوضوء لرفع الحدث.

2 - يذكر اسم الله تعالى.

3 - يغسل كفيه ثلاث مرات.

4 - يأخذ الماء بيمينه فيجعله في فمه وأنفه -من غرفة واحدة- فيتمضمض ويستنشق.

5 - ثم يستنثر بشماله، يفعل هذا ثلاث مرات.

6 - يغسل وجهه كله ثلاث مرات مع تخليل لحيته.

7 - بغسل يديه - اليمنى ثم اليسرى- إلى ما فوق المرفقين مع تخليل أصابع اليدين.

8 - يمسح رأسه كله مدبرًا ومقبلاً مرة واحدة.

9 - يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما.

10 - يغسل قدميه مع الكعبين -اليمنى ثم اليسرى- مع تخليل أصابع القدمين.

النية شرط (2) لصحة الوضوء:

يشترط لصحة الوضوء: النية، وهي عزم القلب على فعل الوضوء امتثالاً

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (158)، ومسلم (226).

(2) الشرط: هو ما يلزم من عدم العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، ويكون الشرط سابقًا على الفعل خارجًا عن ماهيته.

 

(1/111)

 

 

لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما هو الشأن في سائر العبادات المحضة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ...» (2) وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود (3).

بينما ذهب أبو حنيفة إلى أن الوضوء لا يشترط له النية (4) بناء على أنه عبادة معقولة وليست مقصودة لذاتها فأشبهت طهارة الخبث، وقول الجمهور هو الصواب، «لأن النص قد دلَّ على الثواب في كل وضوء، ولا ثواب لغير مَنْوى إجماعًا، ولأنه عبادة لا تعلم إلا بالشرع فكانت النية شرطًا فيها» (5).

النية محلها القلب:

قال شيخ الإسلام (6) -رحمه الله-: محل النية القلب دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين في جميع العبادات: الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والعتق والجهاد وغير ذلك ... اهـ.

فلا يشرع الجهر بها ولا تكريرها، بل من اعتاده ينبغي تأديبه وتعزيره بعد تعريفه لا سيما إذا آذى به وكرره، والجاهر بالنية مسيء، ولو اعتقده دينًا وتعبد الله بالنطق بها فقد ابتدع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا ينطقون بالنية مطلقًا، ولم يحفظ عنهم ذلك، ولو كان مشروعًا لبينه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم إنه ليس هناك حاجة إلى التلفظ بالنية لأن الله يعلم بها (7).

فوائد:

1 - قال شيخ الإسلام: «.. ولو تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه كان الاعتبار بما نوى لا بما لفظ، ولو تكلم بلسانه ولم تحصل النية في قلبه لم يجز ذلك باتفاق أئمة المسلمين، فإن النية هي جنس القصد والعزم ...» اهـ.

_________

(1) سورة البينة، الآية: 5.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).

(3) «بداية المجتهد» (1/ 6)، و «المجموع» (1/ 347)، و «التمهيد» (22/ 100، 101).

(4) «بدائع الصنائع» (1/ 19 - 20) وانظر السابق.

(5) نحوه في «الفروع» لابن مفلح (1/ 111).

(6) «مجموعة الرسائل الكبرى» (1/ 243).

(7) انظر: زاد المعاد (1/ 196)، وإغاثة اللهفان (1/ 134)، وبدائع الفوائد (3/ 186)، و «الفروع» (1/ 111)، و «الشرح الممتع» (1/ 159).

 

(1/112)

 

 

2 - إذا اجتمعت أحداث توجب الوضوء (كما لو بال ثم تغوط ثم نام ...) فإن نوى رفع الحدث عن واحد منها ارتفع عن الجميع -على الصحيح- لأن الحدث وصف واحد وإن تعددت أسبابه (1).

3 - الأَوْلى أن ينوي المتوضئ رفع الحدث مطلقًا خروجًا من خلاف العلماء في إجزاء بعض صور النية عن سائرها، وهذه الصور هي: أن ينوي رفع الحدث، أو أن ينوي الطهارة لما تجب له، أو أن ينوي الطهارة لما تسن له، أو أن ينوي تجديد الوضوء المسنون (2).

 

أركان الوضوء

أركان الوضوء هي ما يتركب منه حقيقته، بحيث إذا تخلف ركن منها، بطل الوضوء، ولا يعتد به شرعًا، وهي:

1 - غسل الوجه كله:

والوجه: ما تحصل به المواجهة، وحدُّه: من منحنى الجبهة من الرأس (أو من منابت الشرع المعتاد) إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا.

وغسل الوجه ركن من أركان الوضوء لا يصح بدونه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (3). وقد أثبت كل من روى صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم غسل الوجه، وأجمع على هذا أهل العلم.

وتجب المضمضة والاستنشاق:

المضمضة هي: غسل الفم وتحريك الماء فيه.

والاستنشاق هو: إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه.

والاستنثار هو: إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق.

وهما واجبان -في الوضوء- في أصح أقوال العلماء، وذلك لما يأتي:

1 - أن الله تعالى قد أمر بغسل الوجه -كما تقدم- والفم والأنف منه، ولا موجب لتخصيصه بظاهره دون باطنه فإن الجميع في لغة العرب يسمى وجهًا، فإن

_________

(1) انظر «المجموع» (1/ 385)، و «الشرح الممتع» (1/ 165).

(2) انظر خلاف العلماء في هذه المسائل في «المجموع» (1/ 385) وما بعدها.

(3) سورة المائدة، الآية: 6.

 

(1/113)

 

 

قلت: قد أُطلق على خرم الفم والأنف اسمٌ خاص فليسا في لغة العرب وجهًا؟! قلنا: وكذلك أطلق على الخدين والجبهة وظاهر الأنف والحاجبين وسائر أجزاء الوجه أسماء خاصة، فلا تسمى وجهًا! وهذا في غاية السقوط لاستلزامه عدم وجوب غسل الوجه (1).

2 - أن الله تعالى أمر بغسل الوجه مطلقًا وفسَّره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وتعليمه، فمضمض واستنشق في كل وضوء توضأه، ولم ينقل عنه أنه أخل به أبدًا مع اقتصاره على أقل ما يجزئ، وفعله صلى الله عليه وسلم إذا خرج امتثالاً لأمر كان حكمه حكم ذلك الأمر في اقتضاء الوجوب (2).

3 - أنه ثبت الأمر بالاستنشاق والاستنثار من قوله صلى الله عليه وسلم:

(أ) «من توضأ فليستنثر» وفي رواية: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم ليستنثر» (3).

(ب) «إذا توضأ أحدكم فليستنشق ...» (4).

(جـ) «... وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (5).

قال شيخ الإسلام (6): «.. وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الاستنشاق بالأمر، لا لأنه أولى بالتطهير من الفم، كيف والفم أشرف لأنه محل الذكر والقراءة، وتغيُّره بالخلوف أكثر؟ لكن يشبه -والله أعلم- أن الفم لما شرع له التطهير بالسواك وأوكد أمره، وكان غسله بعد الطعام مشروعًا، وقبل الطعام على قول، علم اعتناء الشارع بتطهيره بخلاف الأنف فإنه ذُكر لبيان حُكْمه خشية أن يُهمل» اهـ.

4 - أنه قد جاء الأمر بالمضمضة كذلك في أحاديث، أحسنها حالاً: حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأت فمضمض» (7).

_________

(1) انظر «نيل الأوطار» (1/ 174) ط. الجيل، و «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 563).

(2) «شرح العمدة» لابن تيمية (1/ 178)، و «التمهيد» لابن عبد البر (4/ 36).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (161)، ومسلم (237).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (237).

(5) صحيح: وسيأتي مرارًا.

(6) «شرح العمدة» (1/ 179 - 180).

(7) صحيح: أخرجه أبو داود (140)، والترمذي (38)، والنسائي (1/ 66)، وابن ماجه (448).

 

(1/114)

 

 

قلت: ولو قال قائل بأن أدلة إيجاب المضمضة والاستنشاق مصروفة إلى الندب بحديث رفاعة بن رافع في قصة المسيء صلاته أنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء: «إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ...» الحديث (1).

فلم يذكر المضمضة أو الاستنشاق فيما أمر الله به، فوافق الآية الكريمة، وذكر الوجه فيهما ليس مجملاً حتى يقال إنه مبين بالسنة. فهذا أيضًا قول قوي ومتجه والله أعلم.

فائدة: اعلم أن العلماء اختلفوا في حكم المضمضة والاستنشاق في الطهارتين (الوضوء والغسل) على أربعة أقوال (2).

الأول: أنهما واجبان في الغسل دون الوضوء، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحاب الرأي.

الثاني: أنهما سنة في الغسل والوضوء، وبه قال مالك والشافعي والليث والأوزاعي وجماعة.

الثالث: أنهما واجبان في كل من الغسل والوضوء، وبه قال عطاء وابن جريج وابن المبارك وإسحاق ورواية عن أحمد، وهو مشهور مذهب الحنابلة.

الرابع: أن الاستنشاق واجب فيهما، والمضمضة سنة فيهما، وبه قال: أحمد -في رواية- وأبو عبيد وأبو ثور وطائفة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر.

غسل اللحية وسائر شعر الوجه (3):

إذا كانت الشعور النابتة على الوجه (اللحية والشارب والعنفقة (4) والحاجبان وأهداب العينين) كثيفة لا تصف البشرة أجزأه غسل ظاهرها، وإن كانت تصف البشرة وجب غسلها معه، وإن كان بعضها خفيفًا والبعض الآخر كثيفًا وجب غسل بشرة الخفيف معه وظاهر الكثيف.

وأما ما استرسل من اللحية: فعند أبي حنيفة ورواية عن أحمد أنه لا يجب

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (859)، والترمذي (302)، والنسائي (2/ 20، 193)، وابن ماجه (460) وغيرهم.

(2) «اختلاف العلماء» للمروزي (ص 23 - 24)، و «التمهيد» (4/ 34)، و «الأوسط» (1/ 379)، و «التحقيق» لابن الجوزي (1/ 143)، و «المحلى» (2/ 50).

(3) «شرح فتح القدير» (1/ 12)، و «المغنى» (1/ 87)، و «المجموع» (1/ 380).

(4) العنفقة: الشعر النابت بين الشفة السفلى والذقن.

 

(1/115)

 

 

غسل المسترسل منها، وإنما يكفيه غسل ما كان على حد الوجه، لأن المراد بالوجه البشرة فقط.

وعند الشافعي وظاهر مذهب أحمد أنه يجب غسل المسترسل مهما كان، لأنه نابت في محل الفرض فيدخل في مسمَّاه ظاهرًا، وهو الأظهر والله أعلم.

2 - غسل اليدين إلى المرفقين:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1).

وقد أجمع العلماء على وجوب غسل اليدين في الوضوء.

واعلم أن «إلى» في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. بمعنى «مع» كقوله سبحانه: {وَلاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (2). وكقوله: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (3). أي: مع قوتكم، وقال المبِّرد: إذا كان الحد من الجنس المحدود دخل فيه.

وعلى هذا فيجب إدخال المرفقين في الغَسل، وهذا مذهب الجمهور خلافًا لبعض المالكية (4).

ويؤيده فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة: «أنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ» (5).

ثم إن القاعدة: «أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» ولا يتم معرفة غسل اليد كاملة إلا إذا أدار الماء على المرفقين (6).

3 - مسح الرأس: قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} (7) وقد أجمع العلماء على أن مسح الرأس فرض، واختلفوا في القدر المجزئ منه على ثلاثة أقوال:

_________

(1) سورة المائدة، الآية: 6.

(2) سورة النساء، الآية: 2.

(3) سورة هود، الآية: 52.

(4) المبسوط (1/ 6)، وبداية المجتهد (1/ 11)، والمجموع (1/ 389)، والمغنى (1/ 90).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (246).

(6) «اختيارات ابن قدامة» للغامدي (1/ 164).

(7) سورة المائدة، الآية: 6.

 

(1/116)

 

 

الأول: وجوب مسح الرأس كاملاً في حق الرجل والمرأة سواء: وهو مذهب مالك وظاهر مذهب أحمد وجماهير أصحابه وأبي عبيد وابن المنذر واختاره ابن تيمية (1) واستدلوا بما يلي:

1 - قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}. والباء للإلصاق، فيكون التقدير: (وَامْسَحُوا رُؤُوسِكُمْ) كما أنه يمسح الوجه للتيمم، لأنهما في التنزيل بلفظ واحد، قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} (2) أي جميعها.

2 - أن هذا الأمر فسَّرته السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما توضأ مسح رأسه كله، ومن ذلك: حديث عبد الله بن زيد قال: «أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر (3)، فتوضأ فغسل وجهه ثلاثًا، ويديه مرتين إلى المرفقين، ومسح برأسه فأقبل به وأدبر، وغسل رجليه» (4) وفي لفظ «ومسح رأسه كله».

3 - حديث المغيرة بن شعبة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح على خفيه، ومقدم رأسه وعلى عمامته» (5) فلو أجزأ مسح مقدم الرأس لما مسح على العمامة فدلَّ على وجوب الاستيعاب.

الثاني: يجزئ مسح بعض الرأس: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي (6)، واختلفوا في القدر المجزئ فقيل ثلاث شعرات وقيل ربع الرأس وقيل النصف!! وحجتهم:

1 - أن الباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} للتبعيض وليست للإلصاق.

2 - ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسحه على الناصية (مقدم الرأس).

الثالث: وجوب مسح الرأس كله للرجل دون المرأة: وهو رواية عن أحمد أنه قال: أرجو أن تكون المرأة في مسح الرأس أسهل، كانت عائشة رضي الله عنها تمسح مقدم

_________

(1) «المدونة» (1/ 16)، و «المغنى» (1/ 92)، و «الطهور» (ص: 358)، و «الأوسط» (1/ 399)، ومجموع الفتاوى (21/ 123).

(2) سورة المائدة، الآية: 6.

(3) التور: إناء أو قدح، والصُّفر: جيِّد النحاس.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (185)، ومسلم (235).

(5) أخرجه مسلم (275)، وأبو داود (150)، والترمذي (100) وقد تُكلِّم فيه وصححه الألباني، رحمه الله.

(6) «المبسوط» (1/ 8)، و «المجموع» (1/ 399)، و «المغنى» (1/ 92).

 

(1/117)

 

 

رأسها قال ابن قدامة: «وأحمد من أهل الحديث، ولا يستدل بحادثة عين إلا إذا ثبتت عنده إن شاء الله» (1).

قلت (أبو مالك): الذي يترجح مما تقدم أنه يجب مسح الرأس كله في الوضوء لقوة أدلته وأما من قال بأن الباء في الآية للتبعيض، فقد أنكره سيبويه في خمسة عشر موضعًا من كتابه، وقال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. اهـ (2).

ثم إنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة (3).

وأما المرأة فلا أعلم دليلاً على التفريق بينها وبين الرجل في ذلك، لكن يجوز لها أن تمسح على خمارها، ولو مسحت مقدم رأسها مع الخمار فهو أولى خروجًا من الخلاف. والله أعلم.

فائدة: إذا كان الرأس ملبدًا بحناء ونحوها جاز المسح عليه: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في إحرامه ملبِّدًا رأسه -كما سيأتي في الحج- فلا يُتكلف نقضه لأجل الوضوء، فإن ما وضع على الرأس من ذلك تابع له، والله أعلم.

4 - مسح الأذنين:

يجب مسح الأذنين مع الرأس، لأنهما منه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأذنان من الرأس» (4) والحديث ضعيف مرفوعًا على الراجح، لكنه ثابت عن جمع من السلف منهم ابن عمر (5).

ويشهد لذلك الأحاديث التي فيها «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأذنيه مرة

_________

(1) «المغنى (1/ 93).

(2) «نيل الأوطار» (1/ 155)، و «المغنى» (1/ 87).

(3) «مجموع الفتاوى» (21/ 122)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 571)، و «سبل السلام» (1/ 107).

(4) ضعيف: وله طرق كثيرة كلها معلولة وقد اختلف في تحسينه بمجموعها، بل ذهب العلامة الألباني -رحمه الله- في «الصحيحة» (1/ 55) إلى أنه ربما يرتقى إلى درجة المتواتر عند بعض العلماء (!!) وقد تعقبه شيخنا -حفظه الله- في «النظرات» ورجح ضعفه وهو الصواب، وقد ضعفه الشيخ مشهور حسن -حفظه الله- بعد بحث رائق في حاشيته على «الخلافيات» للبيهقي (1/ 448).

(5) إسناده حسن: أخرجه الدارقطني (1/ 98)، وابن أبي شيبة (1/ 28) وغيرهما.

 

(1/118)

 

 

واحدة» (1).

وهي كثيرة عن عليٍّ وابن عباس والربيِّع وعثمان، قال الصنعاني: «كلهم متفقون على أن مسحهما مع الرأس مرة واحدة، أي: بماء واحد، كما هو ظاهر لفظة «مرة» إذ لو كان يؤخذ للأذنين ماء جديد ما صدق أنه «مسح على رأسه وأذنيه مرة واحدة» وإن احتمل أن المراد أنه لم يكرر مسحهما وأنه أخذ لهما ماء جديدًا فهو احتمال بعيد» اهـ (2).

قلت: وإن أخذ لأذنيه ماءً جديدًا فلا بأس كذلك، لثبوته عن ابن عمر (3).

تنبيه: لا يشرع مسح الرقبة في الوضوء، لأنه لم يصح فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).

6 - غسل الرجلين مع الكعبين (5):

وغسل الرجلين واجب عند جماهير أهل السنة، لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} (6). بنصب «أرجلكم» عطفًا على المغسولات.

وكل من روى صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أثبت غسل الرجلين إلى الكعبين، ومن ذلك حديث عثمان الذي فيه: «... ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ..» (7). والكعبان داخلان في الغسل، لأن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه -كما تقدم- ويدل على هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة فأدركنا وقد أرهَقْنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثًا (8).

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (133)، والترمذي (36)، والنسائي (1/ 74)، وابن ماجه (439) وغيرهم وله طرق يصح بها عن ابن عباس، وأصله عند البخاري (157) مختصرًا، وله شاهد من حديث الربيع بنت معوِّذ، أخرجه أبو داود (126)، والترمذي (33)، وابن ماجه (418) وكذا من حديث المقدام بن معد يكرب.

(2) «سبل السلام» (1/ 49).

(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (29)، والبيهقي (1/ 65).

(4) «مجموع الفتاوى» (1/ 56)، و «زاد المعاد» (1/ 49)، وانظر «السلسلة الضعيفة» (69 - 744).

(5) الكعبان: هما العظمتان الناتئتان على جانبي القدم.

(6) سورة المائدة، الآية: 6.

(7) صحيح: أخرجه البخاري (158)، ومسلم (226).

(8) صحيح: أخرجه البخاري (161)، ومسلم (241).

 

(1/119)

 

 

وأما ما ورد من مسحه صلى الله عليه وسلم في وضوئه فمحمول على مسح الخفين وهو رخصة كما سيأتي، وقد خالف في هذه المسألة الرافضة وأكثر الشيعة فقالوا بوجوب مسح القدمين دون غسلهما، والصحيح المعمول به الأول، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين» (1).

تخليل أصابع اليدين والرجلين: الأصابع وما بينهما جزء من محل الفرض فيجب غسلها فإذا لم يتم غسلها إلا بتخليلها وجب تخليلها وإلا فهو مستحب كما سيأتي.

7 - الترتيب:

وهو تطهير أعضاء الوضوء عضوًا عضوًا بالترتيب الذي أمر الله به في الآية الكريمة فيغسل الوجه ثم اليدين ثم يمسح الرأس ثم يغسل القدمين، والترتيب واجب في أصح قولي العلماء، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وأبي ثور وأبي عبيد والظاهرية (2).

واستدلوا على الوجوب بما يلي:

1 - أن الله تعالى قد ذكر في الآية فرائض الوضوء مرتبة مع فصل الرجلين عن اليدين - وصرفهما الغسل- بالرأس الذي فرضه المسح، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة وهي هنا إيجاب الترتيب (3).

2 - أن كل من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاه مرتبًا (4)، وفِعله مفسر لكتاب الله تعالى.

3 - لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتبًا ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» (5). لكنه حديث ضعيف.

وقد ذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي (6) إلى أن الترتيب مستحب وليس بواجب، وحجتهم:

_________

(1) «فتح الباري» (1/ 266)، و «المغنى» (1/ 120).

(2) «المجموع» (1/ 433)، و «المغنى (1/ 100)، و «المحلى» (2/ 66).

(3) نحوه في «المغنى» (1/ 100).

(4) روى عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة وضوئه عشرون صحابيًّا كلهم مرتبًا ما عدا حديثين ضعيفين وقد صححهما الألباني -رحمه الله- في «تمام المنة» (ص 85) بما لا يسلم له.

(5) ضعيف: انظر «الإرواء» (85).

(6) «المدونة» (1/ 14)، و «المبسوط» (1/ 55)، و «شرح فتح القدير» (1/ 30).

 

(1/120)

 

 

1 - أن العطف في الآية لا يقتضي الترتيب، وفيما تقدم رد على هذا.

2 - ما رُوي عن عليٍّ وابن مسعود أنهما قالا: «ما أبالي بأي أعضائي بدأت» (1). ويجاب عن هذا بما قاله الإمام أحمد، كما في «مسائل ابنه عبد الله» (27 - 28):

«إنما يعني: اليسرى قبل اليمنى، ولا بأس أن يبدأ بيساره قبل يمينه، لأن مخرجها من الكتاب واحد، قال تعالى: {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (2). فلا بأس أن يبدأ باليسار قبل اليمين» اهـ.

قلت: وإن كان الأولى البدء باليمين ابتاعًا للسنة والله أعلم.

8 - الموالاة: وهي المتابعة بين أعضاء الوضوء في الغسل بحيث لا يجف العضو قبل غسل ما يليه في الزمان المعتد.

وقد ذهب الشافعي في قوله القديم، وأحمد في المشهور، إلى وجوب الموالاة، وكذلك مالك إلا أنه فرق بين من تعمد التفريق وبين المعذور وهو الذي اختاره شيخ الإسلام (3).

ويدل على الوجوب حديث عمر بن الخطاب أن رجلاً توضأ فترك موضع ظُفُر على قدميه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» فرجع ثم صلى (4).

وفي رواية عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي في ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة» (5).

_________

(1) أثر علي أخرجه أحمد في «العلل» (1/ 205)، وابن أبي شيبة (1/ 55)، والدارقطني (1/ 88) وسنده ضعيف، وأثر ابن مسعود أخرجه البخاري في «التاريخ» (1650)، وأبو عبيد في الطهور (325) بسند حسن بلفظ: «إن شاء بدأ في الوضوء بيساره» كما قال الإمام أحمد.

(2) سورة المائدة، الآية: 6.

(3) «الأم» (1/ 30)، و «المجموع» (1/ 451)، و «كشاف القناع» (1/ 93)، و «المدونة» (1/ 15)، و «الاستذكار» (1/ 267)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 135).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (232)، وابن ماجه (666)، وأحمد (1/ 21)، وقد تُكلم فيه، إلا أن له شواهد يصح بها بلا ريب، وانظر «التلخيص» (1/ 95)، و «الإرواء» (86).

(5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود 0175)، وأحمد (3/ 424) من طريق بقية بن الوليد عن بحير عن خالد به، وقد صرَّح بقية بسماعه من بحير عند أحمد، وجوَّد أحمد إسناده، ولذا صححه الألباني في الإرواء (86)، قلت: وهو حسن لولا ما يخشى من تسوية بقيَّة ولم يصرح بسماع بحير من خالد!!.

 

(1/121)

 

 

وذهب أبو حنيفة والشافعي في الجديد إلى أن الموالاة ليست واجبة وهو رواية عن أحمد وهو مذهب ابن حزم (1)، قالوا:

1 - لأن الله تعالى أوجب غسل الأعضاء، فمن أتى بغسلها فقد أتى بالذي عليه، فرَّقها أو أتى بها نسقًا متتابعًا.

2 - ولما رواه نافع «أن ابن عمر توضأ في السوق فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ثم دُعيِ إلى جنازة فدخل المسجد ثم مسح على خفيه وصلى» (2).

3 - ضعَّفوا الحديث الذي فيه الأمر بإعادة الوضوء والصلاة.

4 - أوَّلوا قوله صلى الله عليه وسلم: «ارجع فأحسن وضوءك» بأن المراد الإتمام بغسل ما لم يصبه الماء من القدم.

قلت: الفاصل في النزاع -مما تقدم- حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه الأمر بإعادة الوضوء والصلاة، فمن صححه قال بالوجوب، وإلا فباقي الأدلة محتملة، والذي يظهر لي وجوب الموالاة لهذا الحديث، ولأن الوضوء عبادة واحدة فلا تفرُّق، وأما أثر ابن عمر فظاهر أنه في حال عذر واضطرار فلا يقاس عليها حال الاختيار، والله أعلم.

لكن إذا حصل تفريق يسير بين غسل الأعضاء فلا يضر، والله أعلم.

سنن الوضوء:

1 - السواك: وقد تقدم استحبابه في «سنن الفطرة».

2 - التسمية في أوله: التسمية في ذاتها أمر حسن مشروع في الجملة، وقد ورد في التسمية عند الوضوء أحاديث ضعيفة -وإن صححها بعض العلماء- ومن ذلك حديث «ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (3).

وثمة أحاديث أخرى ضعيفة جدًّا لا تصلح للاحتجاج، ولذا قال الإمام أحمد: لا أعلم في هذا الباب حديثًا له إسناد جيد. اهـ.

_________

(1) «المبسوط» (1/ 56)، و «الأم» (1/ 30)، و «المجموع» (1/ 451)، و «المحلى» (2/ 70).

(2) إسناده صحيح: أخرجه مالك (48)، وعنه الشافعي (16)، والبيهقي في «المعرفة» (99).

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (101)، والترمذي (25)، وأحمد (2/ 418) وغيرهم والراجح ضعفه، وقد حسنه الألباني -رحمه الله- في «الإرواء» (1/ 122) وللشيخ الفاضل أبي إسحاق الحويني -حفظه الله- جزء في تصحيحه، والأمر فيه قريب والله أعلم.

 

(1/122)

 

 

قلت: ويؤيد عدم إيجاب التسمية أن من حكوا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التسمية، وهذا مذهب الثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وهو رواية عن أحمد (1).

3 - غسل الكفين في أوله: لما في حديث عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: «... فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلها ...» (2).

4 - المضمضة والاستنشاق من كفٍّ واحدة ثلاثًا: لما في حديث عبد الله بن زيد في تعليمه وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه تمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثًا» (3).

5 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم: لحديث لقيط بن صبرة مرفوعًا: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (4).

6 - تقديم اليمنى على اليسرى: ففي حديث ابن عباس في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: «... ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرشَّ على رجله اليمنى، حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى ...» (5).

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يحب التيامن في تنعله وترجُّله وطهوره وفي شأنه كله» (6).

7 - غسل الأعضاء ثلاثًا: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «توضأ مرة مرة» (7). وأنه «توضأ مرتين مرتين» (8) وأكمل الوضوء وأتمُّه أن تغسل الأعضاء ثلاثًا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديثي عثمان وعبد الله بن زيد، وقد تقدما.

_________

(1) «فتح القدير» (1/ 22)، و «مواهب الجليل» (1/ 266)، و «مجموع» (1/ 385)، و «الإنصاف» (1/ 128).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (159)، ومسلم (226).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (235)، والترمذي (28)، وابن ماجه (405).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (142)، والنسائي (1/ 66)، وابن ماجه (407)، وأحمد (4/ 33).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (140).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (168)، ومسلم (268).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (156)، عن ابن عباس.

(8) صحيح: أخرجه البخاري (157)، عن عبد الله بن زيد.

 

(1/123)

 

 

تنبيهان:

(أ) مسح الرأس يكون مرة واحدة: فلا يتناوله التثنية والتثليث التي وردت مجملة في أحاديث صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم، وأما الروايات التي فيها تثليث مسح الرأس فلا يصح منها شيء، وأما الروايات التي فيها أنه مسح مرتين فهي تأويل لقوله «فأقبل بهما وأدبر» -كما قال ابن عبد البر (1) - ولا يقال في رد اليدين على الرأس في مسحه أنه تكرار لأن التكرار إنما يكون باستئناف أخذ الماء، ثم إن استحباب التكرار مقصور على المغسول دون الممسوح (2)، ومن أقوى ما يدل على عدم تكرار مسح الرأس حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي فسأله عن الوضوء فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: «هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم» (3).

قال الحافظ في الفتح (1/ 298): «فإن رواية سعيد بن منصور فيها التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدلَّ على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحب، ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح -إن صحت- على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس جميعًا بين الأدلة» اهـ.

قلت: وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد -في الصحيح عنه- خلافًا للشافعي -رحمهم الله- (4).

(ب) يكره الزيادة على الثلاث لمن أسبغ:

الثلاث في أعضاء الوضوء أكمل الوضوء وأتمُّه، ويكره الزيادة عليها، لحديث: «فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم» ومحل هذا ما لم تكن هذه الزيادة لتمام نقصان، وأما إن أسبغ وضوءه بالثلاث أو بما دونها فيكره الزيادة على الثلاث وهذا مما لا خلاف فيه (5).

_________

(1) «الخلافيات» للبيهقي (1/ 336) تعليق الشيخ مشهور آل سلمان - أثابه الله- وانظر «الطهور» لأبي عبيد (ص 359).

(2) «مقدمات ابن رشد على المدونة» (ص 16).

(3) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 88)، وابن ماجه (422)، وأحمد (2/ 180).

(4) «المبسوط» (1/ 5)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 98)، و «المغنى» (1/ 127)، و «الأم» (1/ 26).

(5) «التمهيد» لابن عبد البر (20/ 117) بنحوه مختصرًا.

 

(1/124)

 

 

8 - تخليل اللحية الكثيفة:

تقدم أن اللحية إذا كانت كثيفة لا تصف البشرة فإنه يجزئ غسل ظاهرها، ونزيد هنا أنه يستحب تخليلها بالماء، لحديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفًّا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته، وقال: «هكذا أمرني ربي عز وجل» (1)، وهذا الأمر مصروف إلى الاستحباب بحديث رفاعة بن رافع -المتقدم- في قصة المسيء صلاته.

9 - دلك الأعضاء: لحديث عبد الله بن زيد قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ فجعل يَدْلُك ذراعيه» (2).

10 - تخليل أصابع اليدين والرجلين: لقوله صلى الله عليه وسلم: «أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (3).

وإذا كانت الأصابع وما بينها لا تغسل إلا بالتخليل فهو حينئذٍ واجب كما قدمنا.

11 - الزيادة في الغسل على محل الفرض:

يستحب إسباغ الوضوء وزيادة غسل الوجه إلى مقدم الرأس (ويسمى إطالة الغرة) وغسل ما فوق المرفقين والكعبين (ويسمى إطالة التحجيل) ففي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء» قال أبو هريرة: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (4).

وعن أبي هريرة «أنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ» (5).

وعنه قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» (6).

_________

(1) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (145)، والبيهقي (1/ 54)، والحاكم (1/ 149)، وانظر «الإرواء» (92).

(2) صحيح: أخرجه ابن حبان (1082)، والبيهقي (1/ 196).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (36)، ومسلم (246).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (246).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (250).

 

(1/125)

 

 

12 - الاقتصاد في استعمال الماء: لحديث أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمُدِّ» (1) والصاع: أربعة أمداد، والمُدُّ: قرابة نصف اللتر المعروف.

13 - الدعاء بعد الوضوء:

عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ ثم يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» (2).

وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رقٍّ ثم طبع بطابع فلا يكسر إلى يوم القيامة» (3).

14 - صلاة ركعتين بعد الوضوء:

لحديث عثمان قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه» (4).

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الصبح: «يا بلال، أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دُفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة؟» قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طُهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي (5).

يجوز تنشيف الأعضاء بعد الوضوء: لعدم ورود المانع من ذلك، والأصل الإباحة، فإن قيل: قد ثبت أن ميمونة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم -بعد اغتساله- بمنديل فلم ينفض بها وانطلق وهو ينفض يديه» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (198)، ومسلم (325).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (234).

(3) صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (9909)، والحاكم (1/ 564) وله شواهد.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (6433)، ومسلم (226).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1149)، ومسلم (2458).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (270).

 

(1/126)

 

 

فنقول: هذه واقعة عين تحتمل عدة أمور: فإنه إما أن يكون رد المنديل لسبب فيه كعدم نظافته أو أنه يخشى أن يبله بالماء أو غير ذلك، ثم إن إتيانها رضي الله عنها بالمنديل فيه إشعار أن التنشيف كان من عادته (1)، ويتأيد الجواز بما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: «توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه فمسح بها» (2).

قال الترمذي (54): «وقد رخَّص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء، ومن كرهه إنما كرهه من قِبَل أنه قيل: إن الوضوء يوزن» اهـ.

لا يصح الوضوء مع وضع «المانيكير» على الأظفار (3):

لأنه يمنع نفاذ الماء إلى محل الفرض، أما اللون وحده كالخضاب بالحناء ونحوه فلا يؤثر، وإن كان الأفضل إزالته -كذلك- قبل الوضوء والصلاة، لقول ابن عباس: «نساؤنا يختضبن أحسن خضاب: يختضبن بعد العشاء، وينزعن قبل الفجر» (4).

وعن إبراهيم النخعي -في المرأة تخضب يديها على غير وضوء ثم تحضُرها الصلاة - قال: «تنزع ما على يديها إذا أرادت أن تصلي» (5).

 

نواقض الوضوء

وهي ما يبطل بها الوضوء، وهي:

1 - خروج البول أو الغائط أو الريح من السبيلين:

فأما البول والغائط فلقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} (6) والغائط كناية عن قضاء الحاجة من بول أو غائط، وقد أجمع العلماء على انتقاض الوضوء بخروجهما من السبيلين «القُبُل والدُّبُر» (7).

وأما خروجهما من غير القبل والدبر -كالخروج من جرح في المثانة أو البطن-

_________

(1) أفاده في «الشرح الممتع» (1/ 181)، وانظر «زاد المعاد» (1/ 197).

(2) إسناده قريب من الحسن: أخرجه ابن ماجه (468، 3564).

(3) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 39).

(4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 120).

(5) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (1/ 77، 78).

(6) سورة المائدة، الآية: 6.

(7) «الإجماع» (ص 17)، و «الأوسط» (1/ 147) لابن المنذر.

 

(1/127)

 

 

فتنازع فيه العلماء، فمن اعتبر الخارج وحده - كأبي حنيفة والثوري وأحمد وابن حزم - قالوا: ينقض الوضوء بكل نجاسة تسيل من الجسد من أي موضع خرجت.

ومن اعتبر المخرجين -كالشافعي- قال: ينقض إذا خرج منهما ولو لم يكن نجسًا كالحصاة ونحوها (1).

وأما الريح فإن خرجت من الدبر -بصوت أو بدونه- فناقضة للوضوء كذلك إجماعًا ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» فقال رجل من حضرموت: ما الحديث يا أبا هريرة؟ قال: فُساء أو ضراط (2).

وإن خرجت الريح من القُبُل، فقال الجمهور (3): تنقض، وقال أبو حنيفة ووافقه ابن حزم: لا تنقض الوضوء، لأن «الفساء والضراط» اسمان لا يقعان على الريح إلا إن خرجت من الدبر (4).

قلت: إن وجد الريح التي تُعرف فهي ناقضة سواء خرجت من القبل أو الدبر، وإلا فمن الدبر وحده.

تنبيه: قد تحس المرأة بشيء يشبه الريح ينبعث من الفرج، فهذا اختلاج -أي: انجذاب وتحرك- وليس بريح خارجة، فلا تنقض وضوءها إذ هي بمنزلة الجشاء ونحوه، لكن إن كانت المرأة مفضاه -وهي التي اختلط مسلك بولها وغائطها- فإنها تتوضأ احتياطًا لاحتمال أن يكون خروج الريح من الدبر. والله أعلم.

2 - خروج المني والودي والمذي:

خروج المني ناقض إجماعًا ويوجب الغُسل -كما سيأتي- وكل ما يوجب الغسل يبطل الوضوء إجماعًا (5)، والمذي ناقض لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذَّاءً، فأمرت رجلاً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فسأل فقال: «توضأ واغسل ذكرك» (6) ونحوه الودي، فالواجب فيهما أن يغسل فرجه ويتوضأ،

_________

(1) «المحلى» (1/ 232)، و «بداية المجتهد» (1/ 40)، و «الأوسط» (1/ 137).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225) لكن عنده بدون قول أبي هريرة.

(3) «بداية المجتهد» (1/ 40)، و «الأم» (1/ 17).

(4) «المحلى» (1/ 232)، و «المبسوط» (1/ 83).

(5) «الإفصاح» (1/ 78)، و «الإجماع» (ص 31).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (269)، ومسلم (303).

 

(1/128)

 

 

وقال ابن عباس: «المني والودي والمذي: أما المني فهو الذي منه الغسل، وأما الودي والمذي فقال: اغسل ذكرك -أو مذاكيرك- وتوضأ وضوءك للصلاة» (1).

فائدة: من كان مُبتلىً بسلس بول أو سلس مذي أو كان يتكرر عنده خروج شيء مما تقدم حتى يشق عليه -لعلة في جسده- فإنه يغسل ما أصاب ثوبه وبدنه ويتوضأ لكل صلاة -كالمستحاضة كما سيأتي- ثم لا يضره ما خرج من صلاته أو فيما بين وضوئه وصلاته.

3 - النوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك:

اختلفت الآثار الواردة في الوضوء من النوم وتعارضت ظواهرها، فهناك أحاديث يدل ظاهرها على أنه ليس في النوم وضوء أصلاً، وأخرى يوجب ظاهرها أن النوم حدث، فذهب العلماء فيها مذهبين: مذهب الجمع ومذهب الترجيح، فمن ذهب مذهب الترجيح إما أسقط الوضوء من النوم مطلقًا وقال: ليس بحدث، وإما أوجبه مطلقًا وقال: النوم حدث. ومن ذهب مذهب الجمع قال: النوم ليس حدثًا وإنما هو مظنة للحدث، وهؤلاء اختلفوا في صفة النوم الذي يجب منه الوضوء، فهذه ثلاثة مسالك للعلماء، تفرع منها ثمانية أقوال (2) وهي:

الأول: النوم لا ينقض الوضوء مطلقًا: وهو محكي عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وأبو موسى الأشعري، وهو قول سعيد بن جبير ومكحول وعبيدة السلماني والأوزاعي وغيرهم، وحجتهم:

1 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أقيمت الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلاً، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلى بهم» (3).

2 - وعن قتادة قال: سمعت أنسًا يقول: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يصلُّون ولا يتوضَّأون» قال: قلت: سمعته من إنس؟ قال: إي والله (4).

وفي لفظ «ينتظرون الصلاة فينعسون حتى تخفق رؤوسهم، ثم يقومون إلى الصلاة».

_________

(1) إسناده صحيح: البيهقي (1/ 115).

(2) انظرها في «المحلى» (1/ 222 - 231)، و «الاستذكار» (1/ 191)، و «الأوسط» (1/ 142)، وفتح الباري (1/ 376)، و «شرح مسلم» للنووي (2/ 370 - قلعجي)، وعنه «نيل الأوطار» (1/ 241).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (6192)، ومسلم (376) واللفظ له.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (376)، والترمذي (78).

 

(1/129)

 

 

3 - حديث ابن عباس قال: بتُّ عند خالتي ميمونة «فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني قال: فصلى إحدى عشرة ركعة» (1).

4 - حديث ابن عباس في مبيته عند ميمونة وفيه: «.. ثم نام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ثم خرج إلى الصلاة» (2) وفي لفظ «ثم قام فصلى ولم يتوضأ».

الثاني: النوم ينقض الوضوء مطلقًا: لا فرق بين قليله وكثيره، وهو مذهب أبي هريرة وأبي رافع وعروة بن الزبير وعطاء والحسن البصري وابن المسيب والزهري والمزني وابن المنذر وابن حزم، وهو اختيار الألباني:

1 - لحديث صفوان بن عسال قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم إلا من جنابة» (3) قالوا: فعمَّ صلى الله عليه وسلم كلَّ نوم ولم يخص قليله من كثيره، ولا حالاً من حال، وسوَّى بينه وبين الغائط والبول.

2 - ولما رُوى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «العينان وكاء السَّه (4)، فمن نام فليتوضأ» (5) وهو ضعيف.

3 - حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه» (6). وقد استدل به البخاري في «صحيحه» على إيجاب الوضوء من النوم، والذي يظهر لي أن في الاستدلال به على ذلك نظرًا، فإن جعل العلة من الانصراف من الصلاة لأجل النوم هي خشية أن يدعو على نفسه أو

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763) واللفظ له.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (117)، ومسلم (184)، وأحمد (1/ 341).

(3) حسن: أخرجه النسائي (1/ 32)، والترمذي (3535)، وابن ماجه (478)، وانظر «الإرواء» (104).

(4) «السَّه»: حلقة الدبر، و «الوكاء» الخيط الذي يربط به فم القربة، فجعل اليقظة للعين مثل الوكاء للقربة، فإذا نامت العين استطلق ذلك الوكاء وكان منه الحدث.

(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (203)، وابن ماجه (477) وغيرهما وهو ضعيف على الأرجح، وقد حسنه الألباني.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (212)، ومسلم (222).

 

(1/130)

 

 

يتكلم بما لا يعلم وأن لا يحضر قلبه فينتفي الخشوع، وهذا لا تعلق له بالوضوء من النوم، بل ربما استدل به القائلون بعدم النقض بالنوم، فلينظر.

4 - قالوا: أهل العلم مجمعون على إيجاب الوضوء على من زال عقله بجنون أو أغمى عليه على أي حال كان ذلك منه، فكذلك النائم.

الثالث: كثير النوم ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض: وهذا قول مالك ورواية عن أحمد وبه قال الزهري وربيعة والأوزاعي (!!)، وقد حملوا حديث أنس في نوم الصحابة على النوم القليل، واستدلوا بحديث أبي هريرة: «من استحق النوم فقد وجب عليه الوضوء» (1).

والصحيح أنه موقوف عليه، وحديث ابن عباس: «وجب النوم على كل نائم إلا من خفق رأسه خفقة أو خفقتين» (2).

الرابع: لا ينقض النوم إلا إذا نام مضطجعًا أو متكئًا: وأما من نام على هيئة من هيئات الصلاة كالراكع والساجد والقائم والقاعد فلا ينتقض وضوؤه سواء كان في الصلاة أو لم يكن. وهو قول حماد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وداود وقول للشافعي، وحجتهم:

1 - ما رُوى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على من نام جالسًا وضوء حتى يضع جنبه» (3) وهو ضعيف لا يصح.

2 - حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به الملائكة يقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي» (4) وقاسوا سائر هيئات المصلي على السجود، قلت: وهو ضعيف الإسناد، قال البيهقي: ثم ليس فيه أنه لا يخرج من صلاته، والقصد منه -إن صح- الثناء على العبد المواظب على الصلاة حتى يغلبه النوم ... اهـ.

_________

(1) صحيح موقوفًا: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 158)، وعبد الرزاق (481) موقوفًا بسند صحيح وقد ورد مرفوعًا ولا يصح كما قال الدارقطني في «العلل» (8/ 328)، وانظر «الضعيفة» (954).

(2) ضعيف موقوفًا ومرفوعًا: أخرجه عبد الرزاق (479)، والبيهقي (1/ 119)، وانظر «علل الدارقطني» (8/ 310).

(3) منكر: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 2459)، والدارقطني (1/ 160)، والطبراني في «الأوسط».

(4) ضعيف: وانظر «السلسلة الضعيفة» (953).

 

(1/131)

 

 

الخامس: لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد: وعزاه النووي إلى أحمد، ولعل وجهه أن هيئة الركوع والسجود مظنة للانتقاض.

السادس: لا ينقض إلا نوم الساجد وهو مروي عن أحمد كذلك.

السابع: لا ينقض النوم في الصلاة بحال وينقض خارجها: وهو مروي عن أبي حنيفة للحديث الذي تقدم في القول الرابع.

الثامن: لا ينقض إذا نام جالسًا ممكِّنًا مقعدته من الأرض سواء في الصلاة أو خارجها، قل أو كثر:

وهو مذهب الشافعي، لأن النوم عنده ليس حدثًا في نفسه وإنما هو مظنة الحدث، قال الشافعي: «لأن النائم جالسًا يكل للأرض فلا يكاد يخرج منه شيء إلا انتبه له» اهـ. فاختاره الشوكاني، قلت: والقائلون بهذا القول حملوا حديث أنس في نوم الصحابة على أنهم كانوا جلوسًا، وقد ردَّه الحافظ في «الفتح» (1/ 251) بقوله: «لكن في مسند البزار بإسناد صحيح في هذا الحديث: فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة» (1) اهـ.

الراجح: أن النوم المستغرق الذي ليس معه إدراك، بحيث لا يشعر صاحبه بالأصوات، أو بسقوط شيء من يديه، أو سيلان ريقه ونحو ذلك، فغنه ناقض للوضوء، لأنه مظنة للحدث، سواء كان قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا أو راكعًا أو ساجدًا، لا فرق بين شيء من هذا، فإن كان أصحاب القول الأول يعنون بالنوم هذا النوع فنحن معهم، وإلا فالنوم اليسير وهو النعاس الذي يشعر الإنسان بما تقدم، لا ينقض على أي حال كان، لحديث نوم الصحابة حتى تخفق رءوسهم وحديث ابن عباس في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا تجتمع الأدلة كلها الواردة في الباب، ولله الحمد والمنة.

فائدة: لما كان النوم مظنة الحدث الموجب للوضوء، وكُلَ انتقاضه إلى المتوضئ بحسب حالته في النوم، وما يغلب على ظنِّه، فإذا شَك: هل نومه مما ينقض أو ليس ينقض؟ فالأظهر أن لا يحكم بنقض الوضوء، لأن الطهارة ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك وهذا اختيار شيخ الإسلام في «الفتاوى» (21/ 230).

_________

(1) إسناد صحيح: أخرجه البزار ونحوه أخرجه أبو داود في «مسائل أحمد» (ص 318)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين وانظر «تمام المنة» (ص 100).

 

(1/132)

 

 

24 - زوال العقل، بالسُّكْر أو الإغماء أو الجنون: وهذا ناقض إجماعًا (1)، والذهول عند هذه الأمور أبلغ من النوم.

5 - مَسُّ الفَرْج بلا حائل سواء بشهوة أو بدونها:

لأهل العلم في الوضوء من مس الذكر أربعة أقوال، قولان بالترجيح وقولان بالجمع:

الأول: مس الذكر لا ينقض الوضوء مطلقًا: وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايات عن مالك، وهو مروي عن طائفة من الصحابة (2)، واستدلوا بما يلي:

(أ) حديث طلق بن عليٍّ أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل هو إلا بضعة منك» (3) وفي لفظ أن الرجل السائل قال: «بينا أنا في الصلاة إذْ ذهبتُ أحكُّ فخذي، فأصابت يدي ذكري» فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما هو منك» (4).

(ب) قالوا: لا خلاف في أن الذكر إذا مسَّ الفخذ لا يوجب وضوءًا، ولا فرق بين اليد والفخذ، وتكلموا في حديث بسرة (5) -الآتي- الذي فيه الأمر بالوضوء من مسِّ الذكر.

الثاني: مس الذكر ينقض الوضوء مطلقًا: وهو مذهب مالك -في المشهور عنه- والشافعي وأحمد وابن حزم وهو مروي عن أكثر الصحابة رضي الله عنهم (6) وحجتهم:

(أ) حديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مس ذكره فليتوضأ» (7).

_________

(1) «الأوسط» لابن المنذر (1/ 155).

(2) «البدائع» (1/ 30)، و «شرح فتح القدير» (1/ 37)، و «المدونة» (1/ 8 - 9)، و «الاستذكار» (1/ 308 وما بعدها).

(3) إسناده لين: أخرجه أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (1/ 101) واختلف في صحته والأظهر ضعفه لأجل قيس بن طلق. وقد صححه الألباني ولكلٍّ وجهه ولا نحجر الواسع، والله أعلم.

(4) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (183)، وأحمد (4/ 23)، والبيهقي (1/ 135) وغيرهم.

(5) «الأوسط» (1/ 203)، وانظر «شرح معاني الآثار» (1/ 71 - 79).

(6) «الاستذكار» (1/ 308)، و «المدونة» (1/ 8 - 9)، و «الأم» (1/ 19)، و «المجموع» (1/ 24)، و «المغنى» (1/ 178)، و «الإنصاف» (1/ 202)، و «المحلى» (1/ 235).

(7) صحيح: أخرجه أبو داود (181)، والنسائي (1/ 100)، وابن حبان (1112).

 

(1/133)

 

 

(ب) حديث أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مسَّ فرجه فليتوضأ» (1).

وقد ورد نحوهما من حديث أبي هريرة وأروى بنت أنيس وعائشة وجابر وزيد بن خالد وعبد الله بن عمرو.

قالوا: وحديث بسرة يرجَّح على حديث طلق، وذلك لأمور منها:

1 - أن حديث طلق معلول وقد أعلَّه أبو زرعة وأبو حاتم، وبالغ النووي في المجموع (2/ 42) فحكى اتفاق الحفاظ على تضعيفه!

2 - أنه لو صح لكان حديث أبي هريرة -الذي في معنى حديث بسرة- مقدمًا عليه لأن طلقًا قدم المدينة وهم يبنون المسجد، وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد ذلك بست سنين فيكون ناسخًا لحديث طلق (2).

3 - أن حديث طلق مُبقٍ على الأصل، وحديث بسرة ناقل، والناقل مقدم لأن أحكام الشارع ناقلة عما كانوًا عليه.

4 - أن رواة النقض بالمس أكثر وأحاديث أشهر.

5 - أنه قول أكثر الصحابة.

6 - أن حديث طلق محمول على أنه حكَّ فخذه فأصاب ذكره وراء الثوب كما تدل عليه رواية أنه كان في الصلاة.

الثالث: ينقض إذا كان مس الذكر بشهوة ولا ينقض إذا مسَّ بدونها: وهو رواية عن مالك، واختاره العلامة الألباني (3)، والقائلون بهذا حملوا حديث بسرة على ما إذا كان لشهوة وحديث طلق على ما إذا كان لغير شهوة، قالوا: دل عليه قوله: «إنما هو بضعة منك» فإذا مس ذكره بغير شهوة صار كأنما مس سائر أعضائه.

الرابع: الوضوء من مسِّ الذكر مستحب مطلقًا وليس بواجب: وهو مذهب

_________

(1) صحيح لشواهده: أخرجه ابن ماجه (481)، وأبو يعلى (7144)، والبيهقي (1/ 130)، وانظر «الإرواء» (117).

(2) وممن قال بالنسخ: الطبراني في «الكبير» (8/ 402)، وابن حبان (3/ 405 - إحسان)، وابن حزم في «المحلى» (1/ 239)، والحازمي في «الاعتبار» (77)، وابن العربي في «العارضة» (1/ 117)، والبيهقي في «الخلافيات» (2/ 289).

(3) انظر مراجع المالكية التي تقدمت، و «تمام المنة» (ص 103) وهناك عزا هذا القول إلى أنه اختيار ابن تيمية قال: «على ما أذكر» قلت: بل مذهب ابن تيمية الرابع كما سترى فجلَّ من لا يسهو.

 

(1/134)

 

 

أحمد في إحدى الروايتين وشيخ الإسلام ابن تيمية، وكأنه الذي مال إليه العلامة ابن عثيمين -رحمهما الله تعالى- إلا أنه استحبه إذا مس بغير شهوة، وقوى إيجابه إذا كان لشهوة احتياطًا (1)، فحملوا حديث بسرة على الاستحباب وحديث طلق على أن السؤال فيه كان عن الوجوب.

ويُستدل للقولين الأخيرين القائمين على مسلك الجمع بما يلي:

1 - أن دعوى النسخ بتقدم إسلام طلق وتأخر إسلام بسرة فيها نظر، لأن هذا ليس دليلاً على النسخ عند المحققين من أئمة الأصول، لأنه ربما يكون المتقدم حدث به عن غيره.

2 - أن في حديث طلق علة لا يمكن أن تزول وهي كون الذكر بضعة منه وإذا ربط الحكم بعلة لا يمكن أن تزول فلا يزول الحكم، فلا يمكن النسخ.

3 - ثم إنه لا يصار إلى النسخ إلا بعد تعذُّر الجمع لا سيما ولا يصح النسخ كما تقدم.

قلت: «أبو مالك»: القول الأخير من القوة بمكان، لكن إذا صح حديث طلق ابن علي، وهذا غير مسلَّم بل القول بضعفه متجه، فيتألَّق القول بأن مسَّ الذكر ناقض للوضوء مطلقًا سواء مسَّه بشهوة أو بدونها، لأن الشهوة لا حد لها ولا دليل على اعتبارها، والله أعلم.

فوائد تتعلق بما سبق:

1 - المرأة إذا مست فرجها تتوضأ: لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مسَّ ذكره فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ» (2) ويؤيد هذا قول عائشة رضي الله عنها: «إذا مست المرأة فرجها توضأت» (3) والأصل أن النساء شقائق الرجال في الأحكام، وهذا مذهب الشافعي وأحمد، خلافًا لأبي حنيفة ومالك!!

2 - مسُّ فَرْج الغير: إذا مسَّ الرجل فرج امرأته أو مست ذكره فلا دليل على انتقاض وضوء أحدهما إلا إذا أمذى أو أمنى فينتقض لذلك لا لمجرد المسِّ، وقال

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (21/ 241)، و «الشرح الممتع» (1/ 233).

(2) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (2/ 223)، والبيهقي (1/ 132).

(3) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «مسنده» (90)، والبيهقي (1/ 133)، وصحح الحاكم وقفه (1/ 138).

 

(1/135)

 

 

مالك والشافعي يجب الوضوء (1)، وهذا مبنى على مذهبهما في نقض الوضوء بلمس المرأة، وسيأتي أن الراجح خلافه.

وكذلك مسُّ المرأة أو الرجل لذكر الصبي ونحوه لا ينقض الوضوء وقد وافق في هذا مالك وهو قول الزهري والأوزاعي (2).

3 - مسُّ الفجر يستوي فيه الخطأ والعمد (3): وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وإسحاق وأحمد.

وذهب طائفة إلى أن الناقض إنما هو تعمد المسِّ وقصده منهم مكحول وجابر ابن زيد وسعيد بن جبير وهو مذهب ابن حزم واستدل بقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (4).

والأظهر الأول، قال ابن المنذر: واللازم لمن جعل مس الذكر بمعنى الحدث الذي يوجب الوضوء أن يجعل خطأه وعمده سواء كسائر الأحداث. اهـ.

قلت: الخطأ والنسيان -فيما يتعلق بالشروط والأركان- يرفعان الإثم لا الحكم والله أعلم.

4 - المسُّ من فوق الثوب لا ينقض: لأنه لا يسمى مسًّا كما هو واضح ويؤيده حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ» (5).

5 - مسُّ الدُّبُر لا ينقض (6): لأن الدبر لا يسمى فرجًا، ولا يصح أن يقاس على الذكر لعدم العلة الجامعة بين مس الدبر والذكر، فإن قيل: كلاهما مخرج للنجاسة، فيقال: ليس هذا علة انتقاض الوضوء من مسهِّ، ثم إن مس النجاسة لا ينقض الوضوء، فكيف بمس مخرجها؟!! وهذا قول مالك والثوري وأصحاب الرأي خلافًا للشافعي.

6 - من النواقض أكل لحم الإبل:

يجب على من أكل لحوم الإبل نيئة أو مطبوخة أو مشوية أن يتوضأ، لحديث

_________

(1) «مواهب الجليل» (1/ 296)، و «الأم» (1/ 20).

(2) «الكافي» لابن عبد البر (1/ 149)، و «الأوسط» (1/ 210).

(3) «المحلى» (1/ 241)، و «الأوسط» (1/ 205 - 207).

(4) سورة الأحزاب، الآية: 5.

(5) حسن: أخرجه الدارقطني (1/ 147)، والبيهقي (1/ 133)، وانظر «الصحيحة» (1235).

(6) «المحلى» (1/ 238)، و «الأوسط» (1/ 212).

 

(1/136)

 

 

جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم، توضأ من لحوم الإبل» (1).

وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «توضأوا من لحوم الإبل، ولا توضأوا من لحوم الغنم» (2).

وهذا مذهب أحمد وإسحاق وأبي خيثمة وابن المنذر وابن حزم وهو أحد قولي الشافعي واختاره شيخ الإسلام وهو مروي عن ابن عمر وجابر بن سمرة، بينما ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالك والشافعي والثوري وطائفة من السلف إلى أنه لا يجب الوضوء من أكل لحوم الإبل وإنما يستحب (3)، لحديث جابر قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار» (4) قالوا: فقوله: «مما مست النار» تشمل لحوم الإبل كذلك وقد ثبت نسخه.

ويجاب عن هذا بأمرين (5): الأول: أن حديث جابر عام، وما ورد في نقض الوضوء بلحم الإبل خاص، والعام يحمل على الخاص، فيخرج منه ما قام الدليل على تخصيصه، ولا يقال بالنسخ لإمكان الجمع.

الثاني: أن الأمر الوارد بالوضوء من لحوم الإبل إنما هو حكم فيها خاصة سواء مستها النار أو لم تمسها، فليس مس النار إياها -إن طبخت- بموجب للوضوء فحكمها خارج عن الأخبار الواردة بالوضوء مما مست النار وبنسخ الوضوء منه.

وقال بعضهم: المراد بالوضوء في الحديث: (غسل اليد)!! وهذا باطل (6)، فإن الوضوء لم يرد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إلا وضوء الصلاة، ثم إنه في رواية مسلم لحديث جابر بن سمرة قرن الأمر بالوضوء من لحم الإبل بالصلاة في مباركها مفرقًا بين ذلك وبين الصلاة في مرابض الغنم، وهذا مما يفهم منه وضوء الصلاة قطعًا.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (360)، وابن ماجه (495).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494).

(3) «المبسوط» (1/ 80)، و «مواهب الجليل» (1/ 302)، و «المجموع» (1/ 57)، و «المغنى» (1/ 138)، و «المحلى» (1/ 241)، و «الأوسط» (1/ 138).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (192)، الترمذي (8)، والنسائي (1/ 108).

(5) «المحلى» (1/ 244)، و «الممتع» (1/ 249).

(6) «مجموع الفتاوى» (21/ 260 - وما بعدها).

 

(1/137)

 

 

فالراجح: أنه يجب الوضوء من أكل لحم الإبل على كل حال، ولذا قال النووي في «شرح مسلم» (1/ 328 - قلعجي): وهذا المذهب أقوى دليلاً وإن كان الجمهور على خلافه .. اهـ.

تنبيهان:

الأول: عزا النووي في «شرح مسلم» (1/ 328) القول بعدم الوضوء من لحوم الإبل إلى الخلفاء الراشدين الأربعة (!!) وهذه دعوى لا دليل عليها ولا يعرف السند إليهم بذلك، وقد نبه على خطأ هذه الدعوى ابن تيمية -رحمه الله- فقال: «وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة أنهم لم يكونوا يتوضأون من لحوم الإبل، فقد غلط عليهم، وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم أنهم لم يكونوا يتوضأون مما مست النار ......» اهـ (1).

الثاني: قصة مشهورة لا أصل لها (2).

اشتهرت بين العوام قصة يرددونها إذا سمعوا بعض طلاب العلم يذكر وجوب الوضوء من لحم الإبل وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه فوجد ريحًا من أحدهم، فاستحيا أن يقوم من بين الناس، وكان قد أكل لحم جزور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل لحم جزور فليتوضأ» فقام جماعة كانوا أكلوا من لحمه، فتوضأوا!! وهذه القصة ضعيفة من جهة السند ومنكرة من جهة المتن.

أمور لا تنقض الوضوء:

هذه أمور اختلف أهل العلم في انتقاض الوضوء بها، والتحقيق أنها لا تنقضه، فمن ذلك:

[1] لمس الرجل المرأة بدون حائل:

هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال للعلماء: الأول: أن لمس الرجل المرأة ناقض للوضوء مطلقًا، وهو مذهب الشافعي ووافقه ابن حزم، وهو قول ابن مسعود وابن عمر (3).

الثاني: أنه لا ينقض مطلقًا، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن

_________

(1) «القواعد النورانية» (ص 9) عن «تمام المنة» (ص 105).

(2) انظر «الضعيفة» للألباني (1132) و «قصص لا تثبت» لمشهور حسن (ص: 59).

(3) «الأم» (1/ 15)، و «المجموع» (2/ 23 وما بعدها)، و «المحلى» (1/ 244).

 

(1/138)

 

 

الشيباني، وهو قول ابن عباس وطاوس والحسن وعطاء، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (1)، وهو الراجح.

الثالث: أن المس ينقض إذا كان بشهوة، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه (2).

قلت: عمدة ما استدل به القائلون بنقض الوضوء من مس المرأة، قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (3) وصح عن ابن مسعود وابن عمر «أن المس ما دون الجماع» (4).

لكن خالفهما حبر الأمة ابن عباس فقال: «المسُّ واللمس والمباشرة: الجماع ولكن الله يكني ما شاء بما شاء» (5) ولا شك أن تفسيره مقدم على غيره، ثم إن في الآية نفسها دليلاً عليه، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا} (6). هذه طهارة بالماء عن الحدث الأصغر، ثم قال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وهذه طهارة بالماء عن الحدث الأكبر، ثم قال: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. فقوله {فَتَيَمَّمُوا} هذا بدل عن الطهارتين، فكان قوله {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} بيان سبب الصغرى، وقوله {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} بيان سبب الكبرى (7).

ولْيُعلم أن تأويل الشافعي نفسه لمعنى المسِّ في الآية الكريمة لم يكن من منه على سبيل الجزم والقطع، بل الظاهر عن عبارته أنه ذكره على شيء من الحذر (8) فقال في «الأم» (1/ 12) بعد ذكر الآية:

«فأشبه أن يكون أوجب الوضوء من الغائط وأوجبه من الملامسة وإنما ذكرها

_________

(1) «المبسوط» (1/ 68)، و «البدائع» (1/ 30)، و «الأوسط» (1/ 126)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 410).

(2) «المدونة» (1/ 13)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 119)، و «المغنى» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 145).

(3) سورة المائدة، الآية: 6.

(4) صحيح: «تفسير الطبري» (1/ 502) بأسانيد صحيحة.

(5) إسناده صحيح: أخرجه الطبري (9581)، وابن أبي شيبة (1/ 166).

(6) سورة المائدة، الآية: 6.

(7) «الشرح الممتع» (1/ 239)، ونحوه في «الأوسط» (1/ 128).

(8) أفاده الشيخ مشهور -حفظه الله- في تحقيقه «للخلافيات» (2/ 217).

 

(1/139)

 

 

موصولة بالغائط بعد ذكر الجنابة، فأشبهت الملامسة أن تكون باليد، والقبلة غير الجنابة» اهـ.

ويؤيد هذا أن ابن عبد البر نقل عن الشافعي أنه قال: «إن ثبت حديث معبد بن نباتة (1) في القبلة لم أر فيها ولا في اللمس وضوء» اهـ ونقل الحافظ في «التلخيص» (ص: 44) نحوه!!

قلت: ومما يؤيد أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء ما يلي:

1 - حديث عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ....» (2).

2 - وعنها قالت: «كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجليَّ، فإذا قام بسطتهما» قالت: «والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح» (3) وفي لفظ: «حتى إذا أراد أن يوتر مسَّني برجله» (4).

3 - قد كان المسلمون دائمًا يمسون نساءهم، وما نقل أحد عنه أنه كان يأمر المسلمين بالوضوء من ذلك، ولا نقل عن الصحابة على حياته أنه توضأ من ذلك، ولا نقل عنه أنه توضأ من ذلك، بل قد نُقل عنه في «السنن»: «أنه كان يقبل بعض نسائه، ولا يتوضأ» (5) وقد اختلف في صحة هذا الحديث، لكن لا خلاف أنه لم ينقل عنه الوضوء من المسِّ» (6) اهـ. وأما القول بالنقض بشهوة وعدمه بدونها فلا برهان عليه، لكن قد يقال: إن توضأ من المسِّ بشهوة -دون الجماع- فهو حسن لإطفاء الشهوة كما يستحب الوضوء من الغضب لإطفائه، وأما وجوبه فلا، والله أعلم.

_________

(1) وهو حديث عائشة في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه قبل الخروج للصلاة وسيأتي، فلما علَّق الحكم على ثبوته دلَّ على تردده في تأويل الآية.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (222)، وأبو داود (865)، والترمذي (3819).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (382)، ومسلم (272) وغيرهما.

(4) إسناده صحيح: أخرجه النسائي (1/ 101).

(5) أعلَّه الأئمة: أخرجه أبو داود (178)، والنسائي (1/ 104)، وأعلَّه المتقدمون وانظر «سنن الدارقطني» (1/ 135 - 142).

(6) «مجموع الفتاوى» (21/ 410، 20/ 222) ومواضع أخرى.

 

(1/140)

 

 

[2] خروج الدم من غير المخرج المعتاد، سواء كان بجرح أو حجامة، قليلاً أو كثيرًا:

فهذا غير ناقض في أصح قولي العلماء، وهو مذهب الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة: ينقض، وهو مذهب الحنابلة إذا كان الدم كثيرًا (1)، والأول أرجح لأمور:

1 - أن الأحاديث التي توجب الوضوء منه لا يصح منها شيء.

2 - أن الأصل البراءة، والمتوضئ وضوءًا صحيحًا لا ينتقض إلا بنص أو إجماع.

3 - حديث جابر بن عبد الله في قصة غزوة ذات الرقاع وفيه: «... اضطجع المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، فرماه [رجل] بسهم فوضعه فيه فنزعه، حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ثم انتبه صاحبه، فلما عرف أنهم قد قدروا به هرب، فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله ألا أنبهتني أوَّل ما رمى؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها» (2).

«ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك ولم ينكر عليه الاستمرار في الصلاة بعد خروج الدم، ولو كان الدم ناقضًا لبيَّن ذلك له ولمن معه في تلك الغزوة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز» (3).

4 - وقد ثبت «أن عمر بن الخطاب -لما طعن- صلى وجرحه يثعب دمًا».

5 - وقد تواترت الأخبار -في أن المجاهدين في سبيل الله كانوا يذوقون آلام الجراحات ولا يستطيع أحد أن ينكر سيلان الدماء من جراحاتهم وتلويث ثيابهم، ومع هذا يصلون على حالهم ولم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بالخروج من الصلاة أو منعهم منها، ولذا قال الحسن البصري: «ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم» (4).

_________

(1) «الأم» (1/ 180)، و «المجموع» (2/ 55)، و «الاستذكار» (2/ 269)، و «المبسوط» (1/ 74)، و «المغنى» (1/ 184).

(2) إسناده ضعيف: أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 280)، ووصله أبو داود (195)، وأحمد (3/ 343)، وابن حبان (1096)، والحاكم (1/ 156)، والدارقطني (1/ 223) وسنده ضعيف لأجل عقيل بن جابر، ورأى الألباني في «صحيح أبي داود» (193) تصحيحه!!.

(3) «السيل الجرار» (1/ 99).

(4) أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 280)، ووصله ابن أبي شيبة بسند صحيح كما في «الفتح» (1/ 281).

 

(1/141)

 

 

[3] القيء ونحوه:

ومذاهب العلماء في هذه المسألة كمذاهبهم في خروج الدم تمامًا، والصواب أنه لا ينقض الوضوء، لعدم صحة شيء من الأدلة في إيجابه، ولأن الأصل البراءة.

وأما حديث معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء «أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء، فأفطر فتوضأ» (1).

فلا ريب في أنه لا يفيد وجوب الوضوء من القيء لأنه مجرد فعل، فغايته أن يدل على الاستحباب. والله أعلم.

[4] القهقهة في الصلاة أو خارجها:

أجمع أهل العلم على أن الضحك في غير الصلاة لا ينقض طهارة ولا يوجب وضوءًا، وأجمعوا على أن الضحك في الصلاة يبطل الصلاة، واختلفوا في نقض الوضوء من الضحك في الصلاة، فذهب أبو حنيفة وأصحاب الرأي والثوري والحسن والنخعي إلى أنه ينقض الوضوء، واحتجوا بحديث منقطع لا يثبت وهو حديث أبي العالية «أن رجلاً ضرير البصر جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فتردَّى في حفرة في المسجد فضحك طوائف من القوم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة» (2).

وإنما الثابت حديث جابر موقوفًا: أنه سئل عن الرجل يضحك في الصلاة؟ فقال: «يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء» (3).

وهذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور (4).

[5] تغسيلُ الميت وحَمْلُه:

من غسَّل ميتًا أو حمله فلا ينتقض وضوؤه -على الراجح- لكن استحب بعض أهل العلم لمن غسَّل ميتًا أن يغتسل ولمن حمله أن يتوضأ لحديث أبي هريرة

_________

(1) صحيح: أخرجه الترمذي (87)، وأبو داود (2381)، وانظر «الإرواء» (111).

(2) إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه الدارقطني (1/ 162)، وابن عدي (2/ 716).

(3) صحيح موقوفًا: أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 280)، ووصله البيهقي (1/ 144)، والدارقطني (1/ 172).

(4) «المجموع» (2/ 61)، و «الكافي» (1/ 151)، و «المغنى» (1/ 117)، و «الأوسط» (1/ 227).

 

(1/142)

 

 

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من غسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (1) إن صحَّ الحديث.

[6] شكُّ المتوضئ في الحَدَث:

من توضأ وضوءًا صحيحًا ثم شك هل أحدث أم لا، فهو باقٍ على أصل ما أيقن به من الطهارة حتى يوقن بالحدث وإن شك في الحدث وهو في الصلاة، لم ينصرف حتى يستيقن الحدث، لحديث عبد الله بن زيد قال: «شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يُخيَّل إليه الشيء في الصلاة؟ قال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» (2).

قال البغوي في «شرح السنة» (1/ 353): «معناه: حتى يتيقَّن الحدث، لأن سماع الصوت أو وجود الريح شرط» اهـ.

وجوب الوضوء لأجل الصلاة لا غير:

يجب الوضوء لمن أراد الصلاة -وهو مُحدث- سواء كانت فرضًا أو نفلاً أو جنازة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا ...} (3) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» (4).

ولا يجب الوضوء لغير الصلاة، ولا يحرم على المحدث شيء غير الصلاة، وإنما يستحب عند أمور تأتي.

وأما الطواف بالكعبة:

فلم نقف على دليل صحيح صريح يُلزم الطائفين بالوضوء، وقد كانت أعداد من المسلمين لا يحصيهم إلا الله عز وجل يطوفون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد لنا أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا منهم بالوضوء لطوافه مع احتمال انتقاض وضوء كثير منهم أثناء الطواف، ودخول كثير منهم الطواف بلا وضوء، وخاصة في تلك الأيام

_________

(1) أخرجه أبو داود (3162)، والترمذي (993)، وابن ماجه (1463)، وأحمد (2/ 433)، وحسنه الترمذي وابن حجر والألباني في «الإرواء» (1/ 174) لكن الظاهر أنه يحتاج إلى تتبع!! فقد أعِلَّ.

(2) سورة المائدة، الآية: 6.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (224) وغيره.

(4) «جامع أحكام النساء» لشيخنا، حفظه الله (2/ 515).

 

(1/143)

 

 

التي يشتد فيها الزحام كطواف القدوم والإفاضة، فلما لم يرد دليل على إيجاب الوضوء للطواف، وليس هناك إجماع من أهل العلم على الوجوب مع الاحتياج إلى ذلك، دلَّ على عدم الوجوب» اهـ (1).

وقد استدل العلماء على إيجاب الوضوء للطواف بحديث ابن عباس مرفوعًا: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام ...» (2) قالوا: إذا كان الطواف صلاة فيجب له الوضوء كالصلاة، لكن هذا مردود بأمرين:

الأول: أن الحديث لا يصح مرفوعًا، والصواب أنه موقوف من كلام ابن عباس كما رجَّحه الترمذي والبيهقي وابن تيمية وابن حجر وغيرهم.

الثاني: على فرض صحته، فلا يلزم منه أن الطواف يشبه الصلاة في كل شيء حتى يشترط له ما يشترط للصلاة (3)، ثم إن الصلاة الشرعية التي يشترط لها الطهارة ونحوها ما كان تحريمها التكبير وتحليلها التسليم.

ولذا قال شيخ الإسلام: «وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب، ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى [أي: الوضوء] فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه ...» اهـ (4) وإلى هذا ذهب أبو محمد بن حزم (5).

وأما مس المصحف:

فقد ذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء إلى أنه لا يجوز للمُحدِث أن يمسَّ المصحف (6)، وغاية ما استدلوا به أمران:

1 - قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (7).

_________

(1) موقوف: أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم، ولا يصح مرفوعًا، وإنما الصواب وقفه كما بينه شيخنا -رفع الله قدره- في «جامع أحكام النساء» (2/ 515 - 521) خلافًا للعلامة الألباني -رحمه الله- الذي صحح رفعه في «الإرواء» (1/ 156).

(2) انظر «مجموع الفتاوى» (26/ 198)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 522) ففيه أحد عشر فرقًا بين الصلاة والطواف.

(3) «مجموع الفتاوى» (26/ 298).

(4) «المحلى» (7/ 179).

(5) «المجموع» (1/ 17)، و «الاستذكار» (8/ 10)، و «المغنى» (1/ 147)، و «الأوسط» (2/ 102).

(6) سورة الواقعة، الآية: 79.

(7) ضعيف: له أسانيد ضعيفة وبعضها صحيفة لا سند لها، وقد اختلف في ترقيتها بمجموعها إلى الحسن، فصححه الألباني في «الإرواء» (1/ 158) والأظهر أنه لا يرتقى فالله أعلم.

 

(1/144)

 

 

2 - حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابًا وفيه: «لا يمسُّ القرآن إلا طاهر» (1).

قلت: ويُجاب عما استدلوا به بما يلي:

1 - أما الآية الكريمة فلا يتم الاستدلال بها إلا بعد جعل الضمير في (يمسهُّ) راجعًا إلى القرآن، والظاهر الذي عليه أكثر المفسِّرين أنه عائد على الكتاب المكنون الذي في السماء وهو اللوح المحفوظ، والمطهرون: هم الملائكة، ويُشعر بهذا سياق الآيات الكريمة: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (2). ويتأيد هذا بقوله تعالى {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (3).

2 - وأما الحديث فضعيف لا يصلح للاحتجاج، لأنه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد.

وعلى فرض صحته، وأن الضمير في الآية عائد على القرآن، فنقول:

«الطاهر» من المشتركات اللفظية، فيطلق على المؤمن، وعلى الطاهر من الحدث الأكبر، وعلى الطاهر من الحدث الأصغر، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، فرجعت المسألة إلى المقرر في الأصول:

فمن أجاز حمل المشترك اللفظي على جميع معانيه، حمله عليها هنا، لن لما كان إطلاق اسم النجس على المؤمن المُحدِث أو الجنب لا يصح لا حقيقة ولا مجازًا ولا لغة لقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس» (4) وثبت أن المؤمن طاهر دائمًا، امتنع أن يتناوله الآية والحديث، فيتعين حمل اللفظ على من ليس بمشترك، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (5). ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو.

_________

(1) سورة الواقعة، الآيات: 77 - 79.

(2) سورة عبس، الآيات: 13 - 16.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (279)، ومسلم (371).

(4) سورة التوبة، الآية: 28.

(5) مستفاد من «نيل الأوطار» (1/ 260 - دار الحديث).

 

(1/145)

 

 

ومن قال: المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يُبيَّن، قال: لا حجة في الآية أو الحديث حتى ولو صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثًا أكبر أو أصغر (1).

فعلم أنه لا دليل على إيجاب الوضوء لمسِّ المصحف، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وابن حزم وبه قال ابن عباس وجماعة من السلف واختاره ابن المنذر (2)، والله أعلم.

فائدة: قراءة القرآن -من غير مسٍّ- للمحدث: سواء الحدث الأصغر أو الأكبر فلا بأس بها -في أظهر أقوال العلماء- والأمر فيها أيسر من الأمر في مسِّ المصحف لأمور:

1 - لا يصح شيء مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من القراءة، وكل ما ورد ضعيف لا تقوم به حجة، كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن»، وحديث ابن رواحة: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحد منا القرآن وهو جنب»، وحديث عبد الله بن مالك: «إذا توضأت وأنا جنب أكلت وشربت، ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل» فكلها لا تصح (3).

2 - ثبت عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه» (4).

3 - أنه صلى الله عليه وسلم أمر الحُيَّض بالخروج يوم العيد «فيكُنَّ خلف الناس فيكبرون بتكبيرهم ويدعون بدعائهم ...» (5) ففيه أن الحائض تكبر وتذكر الله تعالى.

4 - وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة وهي حائض: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (6) ومعلوم أن الحاج يذكر الله ويقرأ القرآن.

_________

(1) «البدائع» (1/ 33)، و «حاشية ابن عابدين» (1/ 173)، و «المحلى» (1/ 81)، و «الأوسط» (2/ 103).

(2) انظرها في «الإرواء» (192، 485) للعلامة الألباني وتعليق الشيخ مشهور على «الخلافيات» للبيهقي (2/ 11) فليراجع.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (373)، وعلقه البخاري قبل الحديث (608).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (971)، ومسلم (890).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1650).

(6) «مجموع الفتاوى» (21/ 459)، و «الأوسط» (2/ 97).

 

(1/146)

 

 

فعلم أنه لا يُمنع المحدث من قراءة القرآن، قال شيخ الإسلام: وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد. اهـ (1).

ما يستحب له الوضوء:

1 - عند ذكر الله عز وجل: ويدخل فيه مطلق الذكر وقراءة القرآن والطواف بالكعبة وغيرها.

ويستحب الوضوء لذلك، لحديث المهاجر بن قنفذ: «أنه سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى توضأ، فرد عليه، وقال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة» (2).

وإن كان هذا ليس بلازم لحديث عائشة عند مسلم (4/ 68): «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه».

2 - عند النوم:

فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك ...» الحديث (3).

3 - للجنب إذا أراد الأكل أو الشرب أو النوم أو معاودة الجماع:

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبًا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة» (4).

وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (17)، والنسائي (1/ 16)، وابن ماجه (350)، والدارمي (2/ 287)، وأحمد 05/ 80)، وهو صحيح كما في «السلسلة الصحيحة» (834).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710) وغيرهما.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (288)، ومسلم (305) واللفظ له، وأبو داود (222)، والترمذي (118)، والنسائي (1/ 138) وغيرهم.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (3/ 217)، وأبو داود (217)، والترمذي (141)، والنسائي (1/ 42).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (248)، ومسلم (316) وغيرهما.

 

(1/147)

 

 

4 - الوضوء قبل الاغتسال:

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة» (1).

5 - الوضوء بعد الأكل مما مسته النار (المطبوخ على النار):

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «توضأوا مما مست النار» (2) والأمر هنا للاستحباب لحديث عمرو بن أمية الضمري قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة، فأكل منها، فدعى إلى الصلاة، فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ» (3).

6 - تجديد الوضوء لكل صلاة:

لحديث بريدة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد ....» الحديث (4).

7 - الوضوء كلما حدث ناقض:

لما تقدم من حديث بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع خشخشته [صوت نعليه] أمامه في الجنة، فقال: «بم سبقتني إليها؟» قال: يا رسول الله، ما أذنت قط إلا صليت ركعتين ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: «لهذا» (5).

8 - الوضوء من القيء:

لحديث معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ»، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (351)، وأبو داود (192)، والترمذي (79)، والنسائي (1/ 105)، وابن ماجه (485).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1/ 50)، ومسلم (4/ 45 نووي)، وابن ماجه (490).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (277)، وأبو داود (171)، والترمذي (61)، والنسائي (1/ 89)، وابن ماجه (510).

(4) إسناده صحيح. أخرجه بذكر الوضوء عند الحدث: الترمذي (3689)، وأبو داو (3055)، وأحمد (21962) واللفظ له، وأصله في الصحيحين دون موضع الشاهد.

(5) صحيح: أخرجه الترمذي (87)، وأبو داود (2381) بسند صحيح.

(6) «نيل الأوطار» (1/ 241).

 

(1/148)

 

 

المسح على الحوائل

أولاً: المسح على الخفين:

تعريف: الخُف: نعل من أدم (جلد) يغطي الكعبين (1) (والكعبان: العظمتان الناتئتان في القدم).

والمسح لغة: مصدر مسح، وهو إمرار اليد على الشيء بسطًا (2)، والمسح على الخفين: إصابة البلية لخف مخصوص في محل مخصوص وزمن مخصوص (3) بدل غسل الرجلين في الوضوء.

مشروعية المسح على الخفين:

أجمع أهل العلم على أن من أكمل طهارته ثم لبس خفيه، وأحدث، أن له أن يمسح عليهما (4)، قال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز، وذلك أن كل من روى عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كره المسح على الخفين، فقد روى عنه غير ذلك (5) وقد ثبتت مشروعيته بالسنة الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسن ما يدل على مشروعيته حديث همام قال: «بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه» قال الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة (6).

حُكم المسح على الخفين:

المسح على الخفين جائز والغَسل أفضل منه عند الجمهور، وعند الحنابلة: الأفضل المسح على الخفين أخذًا بالرخصة (7).

والصواب: أن الأفضل في حق كل أحد بحسب قدمه، فللابس الخف أن

_________

(1) «القاموس المحيط»، و «مقاييس اللغة».

(2) «الدر المختار» (1/ 174).

(3) «الإجماع» لابن المنذر (20)، و «الأوسط» (1/ 434).

(4) «الأوسط» (1/ 434)، و «سنن البيهقي» (1/ 272)، و «الفتح» (1/ 305).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (387)، ومسلم (1568) واللفظ له.

(6) «فتح القدير» (1/ 126)، و «الشرح الصغير» (1/ 227)، و «المجموع» (1/ 502)، و «منتهى الإرادات» (1/ 32).

(7) وهذا اختيار شيخ الإسلام كما في «الاختيارات» (ص 13).

 

(1/149)

 

 

يمسح عليه، ولا ينزع خفيه اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولمن قدماه مكشوفتان الغَسل، ولا يتحرى لبسه ليمسح عليه (1) ولا يتحرى نزعه -في المدة- ليغسل رجليه، والله أعلم.

مدة المسح على الخفين:

حدد الشرع مدة المسح على الخفين بثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وعلى هذا جماهير العلماء: الأحناف والحنابلة وظاهر مذهب الشافعي في الجديد والظاهرية (2).

ويدل على ذلك ما يلي:

1 - حديث عليٍّ رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم» (3).

2 - حديث عوف بن مالك الأشجعي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك: ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم» (4).

3 - حديث صفوان بن عسال قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم» (5).

وخالف في هذا مالك -وهو القول القديم للشافعي- فرأى عدم التوقيت وأن له أن يمسح على خفيه ما لم ينزعهما أو تصبه جنابة!! وبه قال الليث (6)، واستدلوا بأحاديث ضعيفة منها:

1 - ما يُروى عن أُبيِّ بن عمارة قال: قلت: يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: «نعم» قلت: يومًا؟ قال: «يومًا»، قلت: ويومين؟ قال: «ويومين» قلت: وثلاثة؟ قال: «وما شئت» (7).

_________

(1) «المبسوط» (1/ 98)، و «الأم» (1/ 34)، و «المغنى» (1/ 209)، و «المحلى» (2/ 80).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (276)، والنسائي (1/ 84).

(3) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 27) بسند صحيح وله شاهد من حديث أبي بكرة عند ابن ماجه (556) وغيره.

(4) حسن: تقدم قريبًا.

(5) «المدونة» (1/ 41)، و «بداية المجتهد» (1/ 24).

(6) ضعيف: أخرجه أبو داود (158) وقال ابن عبد البر: هو حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم.

(7) ضعيف: أخرجه أبو داود (157)، والترمذي، وابن ماجه (553).

 

(1/150)

 

 

2 - ما يُروى عن خزيمة بن ثابت قال: «جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، ولو استزدناه لزادنا» (1) يعني المسح على الخفين للمسافر، وهذا لو صح لم تقم به حجة لأنه ظن الصحابي ولم نتعبد به.

3 - ما يُروى عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصلِّ فيهما، وليمسح عليهما، ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة» (2).

وهذه كلها أحاديث ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها.

4 - أثر عقبة بن عامر أنه قال: خرجت من الشام إلى المدينة، فخرجت يوم الجمعة، ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب فقال: متى أولجت خفيك في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: وهل نزعتهما؟ قلت: لا، قال: أصبت (3). وهو ضعيف كذلك، قال البيهقي: قد روينا عن عمر التوقيت، فإما أن يكون رجع إليه حين بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون قوله الموافق للسنة الصحيحة المشهورة أولى. اهـ. ولذا قال ابن حزم في «المحلى» (2/ 93): ولا يصح خلاف التوقيت عن أحد من الصحابة إلا ابن عمر فقط. اهـ.

بداية مدة المسح: تقرر أن مدة المسح للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، فمتى يبدأ حساب هذه المدة؟ لأهل العلم في هذا أقوال:

الأول: يبدأ من أول حدث بعد اللبس، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وظاهر مذهب الحنابلة (4)، قالوا: لأن ما بعد الحدث زمن يستباح فيه المسح، فكان من وقته كبعد المسح.

الثاني: يبدأ من وقت اللبس، وهو قول الحسن البصري (5).

الثالث: أنه يمسح خمس صلوات (أو خمس عشرة للمسافر) لا يمسح أكثر من ذلك، وهو مذهب الشعبي وإسحاق وأبي ثور وغيرهم (6).

_________

(1) ضعيف: أخرجه البيهقي (1/ 280).

(2) ضعيف: أخرجه البيهقي (1/ 280)، والطحاوي (1/ 48)، والدارقطني (72).

(3) «المبسوط» (1/ 99)، و «المجموع» (1/ 470)، و «المغنى» (1/ 291)، و «الأوسط» (1/ 443).

(4) «الإكليل شرح منار السبيل» للشيخ وحيد عبد السلام، نفع الله به (1/ 136).

(5) «المغنى» (1/ 291)، و «المجموع» (1/ 466)، و «الأوسط» (1/ 444).

(6) «المحلى» لابن حزم (2/ 95 - وما بعدها).

 

(1/151)

 

 

الرابع: يبدأ من حين يجوز له المسح بعد الحدث سواء مسح أو لم يمسح ولم يتوضأ، بحيث لو مسح بعد ما مضى بعض المدة كان له أن يمسح باقيها فقط، وهو مذهب ابن حزم وقد ناقش أكثر المذاهب، فليراجع (1).

الخامس: يبدأ من حين أول مسح بعد الحدث (2): وهو قول أحمد بن حنبل والأوزاعي، واختاره النووي وابن المنذر وابن عثيمين، وهو أرجح الأقوال، لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يمسح المسافر» ولا يمكن أن يصدق عليه أنه ماسح إلا بفعل المسح، ولا يجوز العدول عن هذا الظاهر بغير برها. والله أعلم.

وعلى هذا، لو أن رجلاً توضأ عند صلاة الظهر، ولبس خفيه الساعة الثانية عشرة مثلًا وبقي على طهارة حتى الساعة الثالثة عصرًا، ثم أحدث ولم يتوضأ إلا الساعة الرابعة -بعد العصر- ومسح على خفيه، فله أن يمسح عليهما حتى الساعة الرابعة عصرًا من اليوم التالي -إن كان مقيمًا- ومن اليوم الرابع إذا كان مسافرًا.

إذا مسح المقيم ثم سافر:

من مسح على خفيه -وهو مقيم- أقل من يوم وليلة، ثم سافر، فللعلماء فيه قولان:

الأول: له أن يمسح حتى يتم ثلاثة أيام بلياليهن (بما في ذلك ما مسحه وهو مقيم): وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ورواية عن أحمد وبه قال ابن حزم (3).

الثاني: له أن يمسح حتى يتم يومًا وليلة ثم يلزمه غسل رجليه إذا توضأ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق (4).

والأرجح أنه له المسح حتى تمام ثلاث الأيام ولياليهن، لأن هذا الرجل إذا انتهى يوم وليلة وهو مسافر فله أن يتم المدة لظاهر حديث «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن» والله أعلم.

_________

(1) «مسائل أحمد» لأبي داود (10)، و «المحلى» (2/ 95).

(2) «اختلاف العلماء» للمروزي (ص 31)، و «المغنى» (1/ 299)، و «المحلى» (2/ 109).

(3) «الأم» (1/ 35)، و «اختلاف العلماء» (ص 31)، و «الأوسط» (1/ 446).

(4) «الأوسط» (1/ 446).

 

(1/152)

 

 

إذا مسح -وهو مسافر- ثم أقام:

من مسح على خفيه وهو مسافر يومًا وليلة أو أكثر ثم قدم الحضر، فلابد أن يخلع خفيه، ويغسل رجليه إذا توضأ، ثم يكون له ما للمقيم.

وإن كان مسح -وهو مسافر- أقل من يوم وليلة، جاز له إذا قدم الحضر أن يكمل ما تبقى من اليوم والليلة ثم عليه أن يخلعه.

وقد نقل ابن المنذر إجماع كل من يقول بالتحديد في المسح من أهل العلم على هذا (1).

شرط المسح على الخفين:

يشترط لجواز المسح على الخفين أن يلبسهما على طهارة، فعن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير، فأفرغت عليه من الإداوة، فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال: «دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين» فمسح عليهما (2).

والحديث قد جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطًا لجواز المسح، والمعلَّق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط، وقد حمل الجمهور الطهارة على الشرعية في الوضوء (3).

فائدة:

من توضأ فغسل إحدى رجليه وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، فقال مالك والشافعي وأحمد (4): لا يجوز له إن أحدث أن يمسح عليهما، لأنه لبس الخف قبل تمام الطهارة، فإن نزع الأول ثم لبسه جاز له المسح عندهم وقال أبو حنيفة وأحمد -في إحدى الروايتين- وابن حزم واختاره ابن المنذر وشيخ الإسلام (5) أنه يجوز له المسح عليهما لصدق أنه أدخل كلاًّ من رجليه وهي طاهرة.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (206)، ومسلم (232).

(2) «فتح الباري» (1/ 370) بتصرف.

(3) «الموطأ» (1/ 46)، و «الأم» (1/ 33)، و «المغنى» (1/ 282).

(4) «المبسوط» (1/ 99)، و «الأوسط» (1/ 442)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 209)، و «المحلى» (2/ 100).

(5) «الأم» (1/ 28)، و «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 18)، و «المغنى» (1/ 287).

 

(1/153)

 

 

قلت: القول بالجواز لا غبار عليه، إلا أن يدلَّ دليل على أن الطهارة لا تتبعَّض فيتَّجه المنع، وعلى كلٍّ الأحوط إدخالهما في الخفين بعد تمام الوضوء، والله أعلم.

هل يمسح على الخف المُخرَّق؟

اشترط أكثر الفقهاء لجواز المسح على الخف أن يكون ساترًا للمحل المفروض غسله في الوضوء، فمنعوا المسح على الخف المخرق لأنه يرى منه مواضع الوضوء التي فرضها الغسل، ولا يجتمع غسل ومسح، فغلب حكم الغسل، وهذا مذهب الشافعي وأحمد (1).

وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز المسح على الخف المخرق ما دام المشي فيه ممكنًا واسمه باقيًا، وهو قول الثوري وإسحاق وأبي ثور وابن حزم واختاره ابن المنذر وابن تيمية (2) وهو الصواب لأن الإذن بالمسح على الخفين عام يدخل فيه كل ما وقع عليه اسم الخف على ظاهر الأخبار ولا يستثنى خف دون خف إلا بدليل، ولو كان الخرق يمنع من المسح لبينه صلى الله عليه وسلم لا سيما مع كثرة فقراء الصحابة في عهده، والغالب أن لا تخلو خفافهم من الخروق.

محل المسح وصفته:

المشروع في المسح على الخفين أن يمسح ظاهرهما لا باطنهما مرة واحدة لحديث علي بن أبي طالب قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه» (3).

وهذا مذهب الثوري والأوزاعي وأحمد وأبي حنيفة وأصحابه (4) وهو الصواب.

وقال مالك والشافعي (5): يمسح ظاهرهما وباطنهما، وإن اقتصر على أعلاه

_________

(1) «المدونة» (1/ 44)، و «المبسوط» (1/ 100)، و «الأوسط» (1/ 449)، و «المحلى» (2/ 100)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 173).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (162)، والدارقطني (73)، والبيهقي (2/ 111)، وانظر «الإرواء» (103).

(3) «اختلاف العلماء» (ص 30)، و «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 21)، و «الأوسط» (1/ 453)، و «المحلى» (2/ 111).

(4) «نهاية المحتاج» (1/ 191)، و «المدونة» (1/ 39)، و «الخرشى» (1/ 177).

(5) ضعيف أخرجه أبو داود (165)، والترمذي (97)، وابن ماجه (550)، وأحمد (4/ 251) وأعلَّه أحمد والبخاري وأبو حاتم والدارقطني وابن حجر.

 

(1/154)

 

 

أجزأ، واستُدل له بحديث المغيرة بن شعبة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح أسفل الخف وأعلاه» (1) وهو ضعيف بل الثابت عن المغيرة قوله: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظهر الخفين» (2) فلا يكون المسح إلا على أعلى الخف فقط.

فإن اقتصر على باطن الخف دون أعلاه لم يجزئه المسح، والله أعلم.

ما يبطل به المسح على الخفين:

تقدم في حديث صفوان بن عسَّال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم» فعلم أن المسح على الخفين لا يصح إذا حدث أحد الأمور الآتية:

1 - الجنابة: وغيرها مما يوجب الغُسل، كالطهر من الحيض والنفاس.

2 - انقضاء مدة المسح.

3 - نزع الخف والإحداث قبل لبسه:

فإذا نزع خفَّه -ولو قبل انقضاء المدة- ثم أحدث، فلا يجوز أن يلبسه ويمسح عليه، لأنه حينئذ لم يدخل رجله على طهارة.

فإن حدث شيء من هذه الأمور الثلاثة لم يحل له أن يمسح على خفيه، وإنما يجب عليه إذا أحدث أن يتوضأ ويغسل رجليه ولابد، ثم يكون له أن يلبس خفيه ويمسح كما تقدم.

تنبيه: بطلان المسح لا يعني انتقاض الوضوء:

من كان يمسح على خفيه، ثم خلعهما، ولم يُحدث، فللعلماء في حكمه أربعة أقوال:

الأول: عليه أن يعيد الوضوء، وهو مذهب النخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق (3) والشافعي في القديم قالوا: لأن المسح أقيم مقام الغسل فإذا أزال الممسوح بطلب الطهارة في القدمين فتبطل جميعها لأنها لا تتجزأ.

الثاني: عليه أن يغسل قدميه فقط، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور والقول الجديد للشافعي (4).

_________

(1) حسن: أخرجه أبو داود (161)، والترمذي (98) وغيرهما.

(2) «اختلاف العلماء» (ص 31)، و «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 19)، «المجموع» (1/ 557).

(3) «اختلاف العلماء» (ص 31)، و «الأوسط» (1/ 458).

(4) «المدونة» (1/ 41).

 

(1/155)

 

 

الثالث: عليه أن يغسل قدميه فور خلعه، فإن تأخر أعاد الوضوء: وهو مذهب مالك والليث (1).

الرابع: ليس عليه وضوء ولا غسل لقدميه، وهو رواية عن النخعي وبه قال الحسن البصري وعطاء وابن حزم واختاره النووي وابن المنذر وابن تيمية (2)، وهو الصواب: لأنه -والخف عليه- طاهر كامل الطهارة بالسنة الثابتة، ولا يجوز نقض ذلك إذا خلع خفه إلا بحجة من سنة أو إجماع، وليس عند القائلين بإعادة الوضوء أو غسل الرجلين حجة، ويقوي هذا القول ما ثبت عن أبي ظبيان «أنه رأى عليًّا رضي الله عنه بال قائمًا، ثم دعا بماء، فتوضأ ومسح على نعليه، ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى» (3).

ثم يقاس على من مسح الشعر ثم حلقه فإنهم لا يقولون بإعادة مسح الرأس أو إعادة الوضوء!! وهذا هو الحق في المسألة، فإذا خلع خفيه ولم يُحدث فإن له أن يصلي ما شاء حتى ينتقض وضوؤه والله أعلم.

 

ثانيًا: المسح على الجوربين والنعلين

[1] المسح على الجوربين:

الجورب: هو ما يلبسه الإنسان في قدميه سواء كان مصنوعًا من الصوف أو القطن أو الكتاب أو نحو ذلك، وهو ما يُعرف «بالشراب».

وللعلماء في حكم المسح على الجوربين ثلاثة أقوال:

الأول: أنه لا يجوز المسح عليهما إلا أن يكون عليهما نعل جلد: وهو مذهب أبي حنيفة (ثم رجع عنه) ومالك والشافعي (4)، قالوا: لأن الجورب لا يسمى خفًّا فلا يأخذ حكمه، ولا يثبت في المسح على الجوربين حديث (!!).

الثاني: يجوز المسح عليهما بشرط أن يكونا صفيقين ساترين محل الفرض: وهو مذهب الحسن وابن المسيب وأحمد، وفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة (5).

_________

(1) «المحلى» (2/ 105)، و «الأوسط» (1/ 460)، و «المجموع» (1/ 558)، و «الاختيارات» 0ص 15).

(2) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (1/ 288)، والطحاوي (1/ 58)، وانظر «تمام المنة» (ص 115).

(3) «المبسوط» (1/ 102)، و «المدونة» (1/ 40)، و «الأم» (1/ 33)، و «الأوسط» (1/ 465).

(4) «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 21)، و «الأوسط» (1/ 464)، و «المجموع» (1/ 540)، و «فتح القدير» (1/ 157).

(5) «المحلى» (2/ 86)، و «المسائل الماردينية» (ص 58)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 184)، و «الممتع» (1/ 190)، و «أضواء البيان» (2/ 18، 19) وفيه بحث نفيس.

 

(1/156)

 

 

الثالث: يجوز المسح على الجوربين مطلقًا ولو كانا رقيقين: وهو ظاهر مذهب ابن حزم وابن تيمية، واختاره ابن عثيمين والعلامة الشنقيطي (1)، وهو الراجح. واستدل أصحاب القولين الأخيرين على جواز المسح على الجوربين بما يلي:

1 - حديث المغيرة بن شعبة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين» (2).

2 - عن الأزرق بن قيس قال: «رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما؟ قال: إنهما خفان، ولكن من صوف» (3).

فصرَّح أنس رضي الله عنه بأن الخف أعم من أن يكون من جلد، وهو صحابي من أهل اللغة.

3 - أنه قد قال بالمسح على الجوربين من الصحابة أحد عشر صحابيًا منهم عمر وابنه عبد الله وعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم، وليس لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعًا، ثم منع الجمهور المسح على الجوربين الرقيقين لأنهما غير ساترين لمحل الفرض، وقد تقدم أن هذا ليس بشرط -على التحقيق- قياسًا على الخف المخرق، ولأن غالب ما يلبس اليوم من الجوارب الرقيقة نسبيًّا، فاشتراط هذه الشروط يناقض مقصود الشارع من التوسعة بالتضييق والجرح، والله أعلم.

فائدة: يدخل في معنى الجورب: اللفائف التي تُلف على القدمين لعذر، فهذه يشق حلُّها، فله أن يمسح عليها كما اختاره شيخ الإسلام.

وأحكام المسح على الجوربين هي نفس أحكام المسح على الخفين.

إذا لبس جوربًا فوق جورب: هذا له حالات:

1 - إذا توضأ ثم لبس جوربين، فإن له -إذا أحدث- أن يمسح على الأعلى منهما، وهذا مذهب الحنفية والراجح عند المالكية والحنابلة والقول القديم للشافعي وخالفهم في الجديد (4).

_________

(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (159)، والترمذي (99)، وأحمد (4/ 252) وهو متكلم فيه، وانظر «الإرواء» (101).

(2) صححه أحمد شاكر: أخرجه الدولابي في «الكنى» (1/ 181).

(3) «حاشية ابن عابدين» (1/ 179)، و «جواهر الإكليل» (1/ 24)، و «روضة الطالبين» (1/ 127)، وكلامهم هناك على الخفاف والحكم واحد.

(4) وصرح بهذا الحنابلة كما في «كشاف القناع» (1/ 117 - 118).

 

(1/157)

 

 

2 - إذا توضأ ولبس جوربين، ثم مسح عليهما، ونزع الأعلى بعد المسح، جاز له إتمام المدة بالمسح على الأسفل، لأنه يصدق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين.

3 - إذا توضأ ولبس جوربًا، ولم يُحدث حتى لبس عليه آخر، مسح على أيهما شاء (1).

4 - إذا توضأ ولبس جوربًا واحدًا ومسح عليه ثم لبس عليه آخر -فإن كان على طهارة- صح أن يمسح على الأعلى، لأنه يصدق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين (2)، وإن كان أحدث ثم لبس الآخر لم يجز له المسح على الأعلى بل يجوز على الأسفل.

[2] المسح على النعلين:

وقد تقدم حديث المغيرة بن شعبة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين» (3) وهو -على القول بصحته- يحتمل أمرين:

1 - أن يكون لَبِس النعلين فوق الجوربين، ومسح عليهما، فيكون حكمهما معًا كما تقدم في لبس جورب فوق جورب أو خف فوق خف.

2 - أن يكون المغيرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح مرة على الجوربين وأخرى على النعلين، فيكون دليلاً على جواز المسح على النعلين ولو بدون جوربين، وهذا وإن كان بعيدًا بعض الشيء إلا أنه يستدل على جواز ذلك بما تقدم في حديث أبي ظبيان «أن علي بن أبي طالب توضأ ومسح على نعليه ثم دخل المسجد، فخلع نعليه، ثم صلى ...» (4) وليس فيه ذكر الجوربين.

وربما يتأيد جواز المسح على النعلين -كذلك- بأن لا يشترط أن يكون الممسوح عليه ساترًا لمحل الفرض على التحقيق، والله أعلم.

_________

(1) صرح بهذا الحنابلة كما في «كشاف القناع» (1/ 117 - 118) بأنه لا يمسح، قال: «لأن الخف الممسوح بدل عن غسل ما تحته، والبدل لا يجوز له بدل آخر، بل يمسح على الأسفل لأن الرخصة تعلقت به»!! قلت: في هذا نظر، لأن للمسألة ضابطًا واحدًا هو أن يدخل رجليه طاهرتين، وهذا حاصل ولو بالمسح على الأسفل قبل لبس الأعلى ويستباح به الصلاة.

(2) تقدما قريبًا.

(3) تقدما قريبًا.

(4) «مسائل أبي داود» (8)، و «المغنى» (1/ 300)، و «المجموع» (1/ 406)، و «الأوسط» (1/ 468)، و «المحلى» (2/ 58)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 184).

 

(1/158)

 

 

ثالثًا: المسح على غطاء الرأس:

1 - المسح على العمامة في الوضوء:

يجوز المسح على العمامة -بدل مسح الرأس- في الوضوء مطلقًا وهو مذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور والأوزاعي وابن حزم وابن تيمية، وهو قول أبي بكر وعمر وأنس وغيرهم من الصحابة (1)، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك:

فعن عمرو بن أمية الضمري قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والعمامة». ومثله عن المغيرة بن شعبة (2)، وعن بلال قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار» (3) والخمار: غطاء الرأس، والمراد: العمامة.

بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي (4) إلى أنه لا يمسح على العمامة وحدها، بل يمسح عليها مع الناصية، فتكون الناصية هي الفرض والعمامة فضلاً، بناء على تجويزهم مسح بعض الرأس!! لكن قال الشافعي: إن صح حديث المسح على العمامة فبه أقول، وقد صح بلا ريب فهو قوله.

واحتج المانعون من المسح على العمامة بحديث جابر بن عبد الله قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حسر العمامة عن رأسه ومسح على ناصيته» (5) ولم أجده مسندًا!!

وبحديث المغيرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وعلى الناصية والخفين» (6).

قلت: والراجح أنه يجوز مطلقًا المسح على العمامة لثبوت الأخبار به عن النبي صلى الله عليه وسلم ولعمل الخليفتين من بعده به، ولأنه ليس عند المانعين حجة معتبرة (7)، وإن كان الأولى أن يمسح جزءًا من الناصية مع العمامة خروجًا من الخلاف، والله أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (205).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (275).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (285).

(4) «حاشية ابن عابدين» (1/ 181)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 164)، و «المجموع» (1/ 407).

(5) لم أهتد إليه: ولا يوجد في شيء مما لدى من كتب الحديث، وقد ذكره ابن المنذر (1/ 469) بدون إسناد.

(6) صحيح: تقدم في «الوضوء».

(7) انظر حججهم والرد عليها في «المحلى» (2/ 61).

 

(1/159)

 

 

2 - مسح المرأة على الخمار:

قال شيخ الإسلام: «إن خافت المرأة من البرد ونحوه، مسحت على خمارها، فإن أم سلمة كانت تمسح على خمارها، وينبغي أن تمسح مع هذا بعض شعرها، وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك، ففيه نزاع بين العلماء» اهـ (1).

قلت: فذهب الحنفية ومالك والشافعي والحنابلة -في رواية (2) - إلى أنه لا يجوز، لما يُروى عن عائشة أنها أدخلت يدها تحت الخمار، ومسحت برأسها، وقالت: «بهذا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم» (3).

قالوا: ولأنه ملبوس لرأس المرأة ولا مشقة في نزعه فلم يجز المسح عليه.

وذهب الحسن البصري إلى جواز المسح على الخمار، وهو قول عند الحنابلة -لكنهم اشترطوا أن تكون خُمر النساء مدارة تحت الحلوق!! - قياسًا على العمامة إذ الخمار ملبوس للرأس معتاد.

قلت: لو صح حديث عائشة لكان حاسمًا في المنع، وإلا فالقياس على العمامة متجه، والأحوط أن تمسح مع الخمار مقدَّم رأسها والله أعلم.

3 - المسح على القلنسوة (الطاقية) في الوضوء:

ذهب جمهور العلماء إلى أ، هـ لا يجوز المسح -في الوضوء- على القلنسوة بدلاً من الرأس، لأن الفرض مسح الرأس، وعُدل عنه في العمامة لمشقة نزعها عند الجمهور أو للنص عند أحمد.

وذهب ابن حزم وابن تيمية (4) والمحققون من أهل العلم إلى جواز المسح على القلنسوة، لأنه لما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على العمامة أو الخمار، علمنا أن مباشرة الرأس بالماء ليس فرضًا، فأي شيء لبس على الرأس جاز المسح عليه، وإن لم يكن ساترًا لمحل الفرض، ولو لم يشق نزعه، وهو الصواب والله أعلم.

فائدة لا يشترط لبس أغطية الرأس على طهارة لجواز المسح عليها: فلا تقاس على الخفين، لعدم العلة الجامعة بينهما، وإنما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبس

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (21/ 218).

(2) «المدونة» (1/ 42)، و «الأم» (1/ 26)، و «البدائع» (1/ 5)، و «المغنى» (1/ 305).

(3) لم أقف عليه: وإنما ذكره الكاساني في «البدائع» (1/ 5) ولم أره في شيء من كتب الحديث!!.

(4) «المحلى» (2/ 58)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 184 - 187، 214).

 

(1/160)

 

 

الخفين على الطهارة، ولم ينص على ذلك في العمامة والخمار، ولو وجب لبيَّنه صلى الله عليه وسلم (1).

قلت: هذا، على أن الخفين بدل عما فرضه الغَسل، وأما الرأس ففرضه المسح، وما كان على الرأس فآخذ حكمه، فافترقا، والله أعلم.

ولا توقيت ولا تحديد لمدة المسح على أغطية الرأس: لعدم صحة القياس على مسح الخفين، وقد مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على العمامة والخمار ولم يوقت في ذلك وقتًا وهذا مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2).

 

رابعًا: المسح على الجَبيرَة

الجبيرة: عيدان تجبر بها العظام المكسورة لتتماسك، وقد استعيض عنها في هذه الأيام بالجبس.

ومن كان على أحد أعضاء الوضوء -كالذراعين أو الرجلين- جبيرة، فإنه يجوز له أن يمسح عليها عند جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم (3)، واستدلوا بما يلي:

1 - حديث جابر في الذي أصابته الشجة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يكفيه أن يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها» (4) وهو ضعيف.

2 - قول ابن عمر: «من كان له جرح معصوب عليه، توضأ ومسح على العصائب، ويغسل ما حول العصائب» (5) ولا يُعلم لابن عمر مخالف من الصحابة.

3 - القياس على المسح على الخفين، فإن المسح عليهما لغير ضرورة جائز، فكيف بالجبيرة وهي ضرورة فهي أولى.

وذهب ابن حزم إلى أن من كانت عليه جبيرة فليس عليه أن يمسح عليها، وأنه يسقط حكم ذلك المكان (6).

_________

(1) «المحلى» (2/ 64).

(2) «المحلى» (2/ 65).

(3) «شرح فتح القدير» (1/ 140)، و «المدونة» (1/ 23)، و «المغنى» (1/ 203)، و «المجموع» (2/ 327).

(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (236) وغيره، وانظر «الإرواء» (105).

(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 126)، والبيهقي (1/ 228).

(6) «المحلى» (2/ 74).

 

(1/161)

 

 

قلت: هذا لأنه يضعِّف أحاديث المسح على العصائب، ولا يرى القياس حجة!! وهذه الأحاديث لا تصح كما قال، وأما القياس فلا شك أنه حجة إذا تحققت أركانه وشروطه، لكن قد يقال إن القياس هنا فاسد لاختلاف حكم الفرع عن الأصل، فهو قياس واجب (المسح على الجبيرة عند الجمهور) على مباح (المسح على الخفين فيتألق حينئذٍ مذهب ابن حزم والله أعلم.

فوائد:

1 - المسح على الجبيرة -يجزئ في الوضوء والغُسل على سواء: لأن الجبيرة ضرورة فلا يفرق فيها بين الحدث الأصغر والأكبر، بخلاف المسح على الخفين فإنه رخصة.

2 - لا يشترط وضع الجبيرة على طهارة ولا التوقيت:

لا يشترط أن توضع الجبيرة على طهارة لأن هذا ينافي مقصد الشرع في إباحة المسح من رفع الحرج والمشقة، ولأن حال الجبيرة اضطرار يأتي مفاجأة بخلاف الخفين، ثم لعدم النص أو الإجماع.

وكذلك لا توقيت للمسح عل الجبيرة بل متى نزعت أو برئ العضو لم يجز المسح.

3 - اللفائف الطبية على أعضاء الوضوء لها حكم الجبيرة: كما حققه شيخ الإسلام (1).

الغُسْل

تعريفه: المراد بالغُسل: فعل الاغتسال، وهو لغة: سيلان الماء على الشيء، والغُسل شرعًا: إفاضة الماء الطهور على جميع البدن على وجه مخصوص (2).

مُوجبِات الغُسل: وهي الأمور التي توجب الغُسل على الصفة الشرعية التي تأتي فيما بعد:

[1] خروج المَنيِّ -على وجه الصحة- في اليقظة أو النوم:

لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} (3). وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا} (4).

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (21/ 185).

(2) «كشاف القناع» (1/ 158).

(3) سورة المائدة، الآية: 6.

(4) سورة النساء، الآية: 43.

 

(1/162)

 

 

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الماء من الماء» (1) والمراد: أن الاغتسال (بالماء) يكون إذا أنزل (الماء) وهو المني.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: «إذا فَضَخْتَ الماء فاغتسل» (2) وفي لفظ: «إذا حذفت» ولا يكون بهذه الصفة إلا إذا خرج بشهوة كما قال الله تعالى: {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} (3).

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «جاءت أم سليم -امرأة أبي طلحة- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غُسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، إذا رأت الماء» (4) وهو دالٌّ على أنه لا يشترط للغسل من الاحتلام أن يخرج بشهوة ودفق، بل إذا رأى المني في ثوبه وجب الغسل وإلا فلا غسل عليه وإن ذكر أنه احتلم، لحديث عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلامًا؟ فقال: «يغتسل» وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل؟ فقال: «لا غُسل عليه» (5).

تنبيهان:

1 - المرأة في كل ما تقدم كالرجل سواء بسواء.

2 - من سال منه المني بلا شهوة: لمرض أو برد أو نحوه، فلا غسل عليه في أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور، خلافًا للشافعي وابن حزم.

وقد أجمع العلماء (6) على إيجاب الغسل بخروج المني بشهوة -في اليقظة- وبالاحتلام مع خروج المني، إلا ما يُروى عن إبراهيم النخعي أنه كان لا يرى على المرأة الغسل من الاحتلام، قال الشوكاني: ما أظنها تصح الرواية عنه، ولو صحت لكان قوله مخالفًا لإجماع من قبله من المسلمين، ومن بعده. اهـ.

[2] التقاء الختانين ولو من غير إنزال: فإذا غابت حشفة ذكر الرجل في فرج المرأة فقد وجب عليهما الغسل أنزلا أو لم ينزلا، لحديث أبي هريرة عن النبي

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (343)، وأبو داود (214).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (206)، والنسائي (193)، وأحمد (1/ 247) وأصله في «الصحيحين».

(3) سورة الطارق، الآية: 6.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (282)، ومسلم (313).

(5) صحيح: أخرجه الترمذي (113)، وأبو داود (233).

(6) «المجموع» (1/ 139)، و «بداية المجتهد» (1/ 58)، و «السيل الجرار» (1/ 104).

 

(1/163)

 

 

صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جلس بين شُعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل [وإن لم ينزل]» (1).

وعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يَكْسَل: هل عليهما غسل؟ -وعائشة جالسة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» (2).

قال النووي: «وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان فيه خلاف لبعض الصحابة، ومن بعدهم، ثم انعقد الإجماع على ما ذكرناه» اهـ.

قلت: أما خلاف الصحابة في هذه المسألة فمنه حديث زيد بن خالد «أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمْن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عند ذلك عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك» (3).

وذهب داود الظاهري إلى عدم وجوب الغسل إن لم ينزل لحديث: «إنما الماء من الماء» (4).

وحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «إذا أُعجلت -أو: قحطت- فعليك الوضوء» (5).

فأما هؤلاء الصحابة فقد ثبت عنهم الرجوع عن القول بعدم إيجاب الغسل (6).

وأما قول داود فقد خالف فيه الجماهير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والفقهاء من التابعين ومن بعدهم فرأوا أن حديث «الماء من الماء» وما في معناه كان في أول الإسلام ثم نسخ، قال الترمذي (1/ 185): «وهكذا روى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبي بن كعب (7) ورافع بن خديج والعمل على هذا عند أكثر

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (291)، ومسلم (348) والزيادة له.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (350).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (292)، ومسلم (347).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (343) وقد تقدم.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (180)، ومسلم (345).

(6) انظر الآثار عنهم في «جامع أحكام النساء» لشيخنا، حفظه الله (1/ 89، 90).

(7) حديث أبي صحيح بطرقه كما بيَّنه شيخنا أبو عمير الأثري -أمتع الله بحياته- في «شفاء العيي بتحقيق مسند الشافعي» (100).

 

(1/164)

 

 

أهل العلم، وعلى أنه إذا جامع امرأته في الفرج وجب عليهما الغسل وإن لم ينزل» اهـ.

فوائد (1):

1 - إذا مس ذكره الرجل فرج المرأة دون إيلاج فيه، فليس عليهما غسل بالاتفاق (2) وعن إبراهيم النخعي أنه سئل عن الرجل يجامع امرأته في غير الفرج فينزل الماء؟

قال: «يغتسل هو ولا تغتسل هي، ولكن تغسل ما أصاب منها» (3).

2 - إذا باشر الرجل زوجته، وأدخل ما دون الحشفة، فنزل منيُّه في فرجها، ولم تُمنِ هي، لم يلزمها الغسل.

قال النووي: «إذا استدخلت المرأة المني في فرجها أو دُبرها، ثم خرج منها لم يلزمها الغُسل، هذا هو الصواب الذي قطع به الجمهور» اهـ (4).

3 - إذا جامع الرجل زوجته ثم اغتسلت، وبعد ذلك خرج من فرجها ماء الرجل، فلا يلزمها الغسل، أما هل يلزمها الوضوء؟ يلزمها الوضوء على قول الجمهور (5) لأنه خارج من أحد السبيلين -وإن كان طاهرًا- وقال ابن حزم (6):

الوضوء إنما يجب عليها من حدثها لا من حدث غيرها، وخروج ماء الرجل من فرجها ليس إنزالاً منها ولا حدثًا منها فلا غسل عليها ولا وضوء. اهـ.

قلت: أما قاعدة الوضوء من كل خارج من السبيلين فهي غير مسلَّمة كما تقدم، على أن مجرى المني من المرأة غير مجرى البول، فيظهر مذهب ابن حزم، إلا أنه يُحترز من أن يخالط هذا المني مذي المرأة، فالأحوط أن تتوضأ والله أعلم.

4 - إذا جامع زوجته الصغيرة -التي لم تحض- أو كان الواطئ للمرأة صغيرًا

_________

(1) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 46).

(2) «المغنى» لابن قدامة (1/ 204).

(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (971)، وانظر آثارًا نحوه عن بعض السلف في «جامع أحكام النساء» (1/ 95).

(4) «المجموع (2/ 151)، وانظر «المحلى» (2/ 7).

(5) «المجموع (2/ 151).

(6) «المحلى (2/ 6).

 

(1/165)

 

 

لم يبلغ فإنه يلزمها أيضًا الغسل، كما قال الإمام أحمد: «تُرى عائشة حين كان يطؤها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تغتسل؟!!» اهـ (1).

5 - إذا دعا الرجل زوجته إلى الجماع، فليس لها أن تمنعه من هذا بحجة عدم وجود الماء للاغتسال، قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (21/ 454): «وليس للمرأة أن تمنع زوجها الجماع، بل يجامعها، فإن قدرت على الاغتسال وإلا تيممت وصلت» اهـ.

[3]، [4] الحيض والنفاس: وهما سببان موجبان للغُسل، لكن لما كان الاغتسال من السبب لا يتم إلا بعد انقطاعه والفراغ منه، وجب الغسل بعد انقطاع الحيض والنفاس.

فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلِّي» (2).

والنفاس كالحيض بالإجماع، ثم إنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التعبير بالنفاس عن الحيض والعكس.

وستأتي أحكام الحيض والنفاس مفصلة، إن شاء الله.

[5] إسلام الكافر:

للعلماء في حكم اغتسال الكافر إذا أسلم ثلاثة أقوال:

الأول: يجب الغُسل على الكافر مطلقًا: وهو مذهب مالك وأحمد وأبي ثور وابن حزم واختاره ابن المنذر والخطابي (3) واستدلوا بما يلي:

1 - حديث قيس بن عاصم «أنه لما أسلم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر» (4) والأصل في الأمر الوجوب.

2 - ما في حديث أبي هريرة في إسلام ثمامة بن أثال من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل» (5).

_________

(1) «المغنى» (1/ 206).

(2) صحيح: وسيأتي تخريجه في «الحيض».

(3) «مواهب الجليل» (1/ 311)، و «المغنى» (1/ 152)، و «المجموع» (2/ 175)، و «المحلى» (2/ 4).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (355)، والترمذي (605)، والنسائي (1/ 109) وانظر «المشكاة» (543).

(5) صحيح: أخرجه أحمد (2/ 304)، وابن خزيمة (252)، وأصله في الصحيحين بدون الأمر بالغسل وانظر «الإرواء» (128).

 

(1/166)

 

 

3 - قصة إسلام أسيد بن حضير وفيها أنه سأل مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة: كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ فقالا: «تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ....» الحديث (1).

الثاني: يستحب الغسل للكافر، إلا إذا كان على جنابة قبل إسلامه فيجب الغُسل: وهو مذهب الشافعي وقول عند الحنفية (2).

الثالث: لا يجب عليه الغُسل مطلقًا: وهو مذهب أبي حنيفة (3).

واستدل الفريقان بما يلي:

1 - قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (4).

2 - حديث عمرو بن العاص مرفوعًا: «الإسلام يهدم ما قبله» (5).

وفي الاستدلال بالآية والحديث نظر: فالمراد بهما غفران الذنوب، فقد أجمعوا على أن الذي أسلم لو كان عليه دين أو قصاص لا يسقط بإسلامه، ولأن إيجاب الغسل ليس مؤاخذة وتكليفًا بما وجب في الكفر، بل هو إلزام شرط من شروط الصلاة في الإسلام فإنه جنب، والصلاة لا تصح من الجنب، ولا يخرج بإسلامه عن كونه جنبًا (6).

3 - قالوا: أسلم خلق كثير لهم الزوجات والأولاد، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وجوبًا، ولو وجب لأمرهم به.

وفيه نظر: «فالظاهر الوجوب لأن أمر البعض قد وقع به التبليغ، ودعوى عدم الأمر لمن عداهم لا يصلح متمسكًا لأن غاية ما فيها عدم العلم بذلك، وهو ليس علمًا بالعدم» (7). فالأرجح أنه يجب على الكافر -سواء كان أصليًّا أو مرتدًّا- إذا أسلم أن يغتسل مطلقًا، ومما يشعر بأن الاغتسال عند الدخول في الإسلام كان

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه الطبري في «التاريخ» (1/ 560)، وابن هشام في «السيرة» (2/ 285).

(2) «المجموع» (1/ 174)، و «الأم» (1/ 38) و «ابن عابدين» (1/ 167).

(3) «المبسوط» و «شرح فتح القدير» (1/ 59).

(4) سورة الأنفال، الآية: 38.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (121) من حديث عمرو بن العاص.

(6) «المجموع» (2/ 174).

(7) «نيل الأوطار» (1/ 281).

 

(1/167)

 

 

مشهورًا عند الصحابة ما في قصة إسلام أمَّ أبي هريرة: «أنها اغتسلت ولبست درعها ...» (1) وقصة إسلام أسيد بن حضير التي تقدمت. والله أعلم.

[6] صلاة الجمعة: فإن غُسل الجمعة واجب يأثم تاركه في أصح قولي العلماء، وبه قال أبو هريرة وعمار بن ياسر وأبو سعيد الخدري، والحسن، وهو رواية عن مالك وأحمد وهو مذهب ابن حزم (2). لما يأتي:

1 - حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» (3).

2 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل» (4).

3 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا، يغسل رأسه وجسده» (5).

4 - حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق على كل مسلم السواك، وغسل يوم الجمعة، وأن يمس من طيب أهله إن كان» (6).

5 - حديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى من راح الجمعة أن يغتسل» (7).

6 - وعن ابن عمر قال: «أُمرنا بالاغتسال يوم الجمعة، وأن لا نتوضأ من موطأ» (8).

قالوا: وجعل ما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حق لله على كل مسلم وأنه واجب على كل محتلم، ليس واجبًا ولا هو حق بمثل هذه الأدلة الآتية، فهذا أمر تقشعر منه الجلود!! (9).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (2491)، وأحمد (7911).

(2) «المحلى» (2/ 12)، و «الأوسط» (4/ 43).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (879)، ومسلم (846).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (2/ 6)، ومسلم (844).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (2/ 318)، ومسلم (849).

(6) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 34)، وانظر «الصحيحة» (1796).

(7) صحيح: أخرجه أبو داود (338)، والنسائي (3/ 89)، وأحمد (3/ 65).

(8) إسناده حسن: أخرجه أبو بكر المروزي في «الجمعة وفضلها».

(9) نحوه في «المحلى» (2/ 12).

 

(1/168)

 

 

بينما ذهب جمهور العلماء ومعهم ابن مسعود وابن عباس من الصحابة إلى أن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب، ومن أهم ما استدلوا به:

1 - حديث سمرة بن جندب مرفوعًا: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» (1) وهذا أصرح ما استدلوا به لكنه ضعيف على الراجح.

2 - حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ...» (2) قالوا: لو كان الغسل للجمعة واجبًا لما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر الوضوء.

وقد أجاب عنه الحافظ في «الفتح» (2/ 422) فقال: «ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيح بلفظ: «من اغتسل» فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب، فاحتاج إلى إعادة الوضوء» اهـ.

قلت: ولهم أدلة أخرى استقصيتها وناقشتها دليلاً دليلاً في كتابي «اللمعة في آداب وأحكام الجمعة» وخلاصة المسألة أن أدلة الموجبين أصح سندًا وأقوى دلالة وأحوط عملاً، والله أعلم.

[7] الموت: وهو من أسباب وجوب الغُسل لكن ليس على الميت وإنما على من حضره من المسلمين، وسيأتي تفصيله في موضعه من «كتاب الجنائز» إن شاء الله.

الأغسال المُسْتَحَبَّة:

1 - الاغتسال للعيدين: وقد ورد عن الفاكه بن سعد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى» (3) لكنه ضعيف.

لكن ربما يستدل على استحباب ذلك بأنه ثابت عن علي بن أبي طالب وابن عمر: فعن زادذان أن رجلاً سأل عليًّا رضي الله عنه عن الغسل؟ فقال: «اغتسل كل يوم إن شئت، فقال: لا، الغسل الذي هو الغسل؟ قال: «يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر» (4).

_________

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود 354)، والنسائي (3/ 94)، والترمذي (497)، وغيرهم وله طرق استقصيتها وتكلمت عليها في «اللمعة في آداب وأحكام الجمعة» وقد حسنَّه العلامة الألباني.

(2) إسناده صحيح: أخرجه مسل (857)، والترمذي (498) وغيرهما.

(3) ضعيف جدًّا: أخرجه ابن ماجه (1316).

(4) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «مسنده» (114)، ومن طريقه البيهقي (3/ 278).

 

(1/169)

 

 

وعن نافع: «أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى» (1).

2 - الاغتسال بعد الإفاقة من الإغماء: لأن النبي صلى الله عليه وسلم «اغتسل من الإغماء» (2) وذلك كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم وقد نُقل الإجماع على استحبابه، وقاس العلماء الإفاقة من الجنون على الإغماء.

3 - الاغتسال للإحرام بالحج أو العمرة: لحديث زيد بن ثابت أنه: «رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرَّدَ لإهلاله واغتسل» (3).

وتغتسل المرأة ولو كانت حائضًا أو نفساء، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس -حينما ولدت في الحج- بالغُسل (4)، وسيأتي في «الحج».

4 - الغسل لدخول مكة: لحديث ابن عمر: «أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارًا، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله» (5).

5 - الاغتسال عند كل جماع إذا تعدد: لحديث أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات ليلة على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله ألا تجعله واحدًا؟ قال: «هذا أزكى وأطيب وأطهر» (6).

6 - الاغتسال بعد تغسيل الميت (إن صَحَّ الحديث):

فقد ورد من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من غسَّل ميتًا فليغتسل» (7).

7 - اغتسال المستحاضة لكل صلاة: وقد ورد أمر المستحاضة بالغسل عند كل صلاة في جملة من الأحاديث الضعيفة (8).

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه مالك (426)، وعنه الشافعي في «الأم» (1/ 231).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (687)، ومسلم (418) في حديث طويل عن عائشة.

(3) حسن: أخرجه الترمذي (831)، وانظر «الإرواء» (149).

(4) صحيح: وسيأتي في «الحج».

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1573)، ومسلم (1259).

(6) حسن: أخرجه أبو داود (216)، وابن ماجه (560).

(7) أخرجه أبو داود (3162)، والترمذي (993)، وابن ماجه (1461)، وقد حسنه الترمذي وابن حجر والألباني وانظر «الإرواء» (1/ 174) لكن يبدو أنه يحتاج إلى شيء من التتبع، فقد أُعل الحديث.

(8) راجعه في «جامع أحكام النساء» (1/ 230 - 237).

 

(1/170)

 

 

لكن ثبت عن عائشة: أن أم حبيبة استُحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمرها أن تغتسل فقال: «هذا عرق» فكانت تغتسل لكل صلاة (1).

قال الشافعي -رحمه الله-: إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي (2) وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولا شك -إن شاء الله- أن غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به وذلك واسع لها. اهـ (3).

قلت: وهذا قول جمهور العلماء من السلف والخلف: أن المستحاضة لا يجب عليها الغسل لكل صلاة.

النية شرط لصحة الغُسل: لأن الغسل عبادة لا تعلم إلا بالشرع فكانت النية شرطًا فيها، وهي عزم القلب على فعل الغسل امتثالاً لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4) والإخلاص: النية في التقرب إلى الله تعالى، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (5) وهذا عمل (6).

ركن الغسل: تعميم جميع البدن بالماء:

فحقيقة الغسل: إفاضة الماء على جميع الجسد، ووصوله إلى كل الشعر والبشرة، وهذا ثابت في جميع الأحاديث الواصفة لغسل النبي صلى الله عليه وسلم -وسأذكرها قريبًا- ومن ذلك ما في حديث عائشة رضي الله عنها: «... ثم يفيض على جسده كله» (7) قال الحافظ في «الفتح» (1/ 361): هذا التأكيد يدل على أنه عمم جميع جسده بالغسل. اهـ.

وفي حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما أنا فآخذ ملء كفي ثلاثًا فأصبُّ على رأسي، ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي» (8).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (327)، ومسلم (334).

(2) وهذا الأمر بالاغتسال مطلق فلا يدل على التكرار، فلعلها فهمت طلب ذلك منها بقرينة فلهذا كانت تغتسل لكل صلاة. (فتح الباري 1/ 509).

(3) «سنن البيهقي» (1/ 349).

(4) سورة البينة، الآية: 5.

(5) صحيح: وقد تقدم.

(6) وانظر مبحث «النية شرط لصحة الوضوء» (ص 40).

(7) صحيح: يأتي نصُّه وتخريجه قريبًا.

(8) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ أحمد (4/ 81) وهو في البخاري (254)، ومسلم (327) مختصرًا.

 

(1/171)

 

 

ويدلُّ على أن تعميم البدن بالماء هو فرض الغسل لا غيره، حديث أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضُفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: «لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» (1).

وأما دلك الأعضاء والمضمضة والاستنشاق في الغسل، فالراجح في كل هذا الاستحباب كما يأتي تحريره، وهو مذهب الجمهور.

المستحبَّات في الغسل (صفة الغسل الكامل):

العمدة في هذا الباب حديثان:

1 - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا اغتسل من الجنابة: بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يُدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب [وفي رواية: حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض] على رأسه ثلاث غُرَف بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله» (2).

2 - حديث ميمونة رضي الله عنها قالت: «وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماءً للغسل [وسترته] فغسل يديه مرتين أو ثلاثًا، ثم أفرغ [بيمينه] على شماله، فغسل مذاكيره (وفي رواية: فرجه وما أصابه من الأذى) ثم دلك يده بالأرض أو بالحائط [ثم غسلها] ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه وغسل رأسه، ثم صب على جسده ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته خرقة فقال بيده هكذا ولم يرُدْها» (3).

قلت: من هذين الحديثين وغيرهما نخلص إلى أن المستحب أن يكون غسل الجنابة على الصفة الآتية: (بعد أن ينوي رفع الحدث الأكبر):

1 - يغسل يديه ثلاثًا قبل إدخالها في الإناء أو بدء الغسل: لما في حديث عائشة: «بدأ فغسل يديه ...» وفي لفظ مسلم (317) لحديث ميمونة: «فغسل كفيه مرتين أو ثلاثًا ثم أدخل يده في الإناء ...».

قال الحافظ في الفتح (1/ 429): يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذر، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم. اهـ.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (330)، وأبو داود (251)، والنسائي (1/ 131)، والترمذي (105)، وابن ماجه (603).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (248)، ومسلم (316).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (266)، ومسلم (317).

 

(1/172)

 

 

2 - يغسل فرجه وما أصابه من الأذى بشماله: لما في حديث ميمونة، وأما إمساك الفرج باليمين فمكروه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يتنفس في الإناء» (1).

3 - يغسل يده -بعد غسل فرجه- وينقيها بالصابون ونحوه كالتراب: ففي حديث ميمونة: «ثم قال بيده الأرض فمسحها بالتراب ثم غسلها ...» وفي لفظ «ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكًا شديدًا» (2).

قال النووي في «شرح مسلم» (3/ 231): «فيه أنه يستحب للمستنجي بالماء إذا فرغ أن يغسل يده بالتراب أو أشنان [نحو الصابون] أو يدلكها بالتراب أو بالحائط ليذهب الاستقذار منها» اهـ.

4 - يتوضأ وضوءًا كاملاً كالوضوء للصلاة: وهو ثابت في حديثي عائشة وميمونة. قال الحافظ في «الفتح» (1/ 429): «يحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغُسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل، ويحتمل أن يكتفي بغسلهما في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدَّم غسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبر» اهـ.

قلت: والوضوء قبل الاغتسال سنة عند جماهير العلماء خلافً لأبي ثور وداود الظاهري (3).

فائدتان:

الأولى: حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل:

قد تقدم في «الوضوء» أن للعلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل أربعة أقوال، فأما الوضوء فقد رجحنا هناك أنه يجب فيه المضمضة والاستنشاق، وأما الغسل:

فذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، ومشهور مذهب أحمد وعطاء وابن المبارك إلى أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل (4)، ومما استدلوا به:

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (154)، ومسلم (267).

(2) هذا لفظ مسلم (317).

(3) «فتح الباري» (1/ 426)، و «المجموع» (2/ 186)، و «الاستذكار» (3/ 59).

(4) انظر مراجع المسألة في «أركان الوضوء».

 

(1/173)

 

 

1 - ما رُوى مرفوعًا: «المضمضة والاستنشاق ثلاثًا للجنب فريضة» (1).

2 - ما رُوى مرفوعًا: «من ترك موضع شعرة من جسده لم يغسلها فعل به كذا وكذا في النار» (2).

3 - ما رُوى مرفوعًا: «أداء الأمانة غسل الجنابة، وتحت كل شعرة جنابة» (3).

وكل هذه أحاديث ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها.

4 - فعل النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في حديث ميمونة (بدلالة الظاهر9 وفي حديث عائشة (ضمن الوضوء) فهو بيان لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} (4).

5 - أن غسل جميع البدن واجب والوجه منه، فوجب المضمضة والاستنشاق، لأنهما من الوجه كما قلنا في الوضوء.

بينما ذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وهم الجمهور، إلى أنهما سنة في الغسل واستدلوا بما يأتي:

1 - أن الوضوء في الغسل غير واجب [كما تقدم] والمضمضة والاستنشاق من توابع الوضوء، فإذا سقط الوضوء، سقطت توابعه (5).

2 - أن فعله صلى الله عليه وسلم لهما في الغسل لا يدل بمجرده على الوجوب لكن على الندب والاستحباب، ولا يدل على الوجوب إلا إذا كان بيانًا لمجمل تعلَّق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك (6).

3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر -لما سأله عن الجنابة تصيبه ولا يجد الماء-: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته» (7).

_________

(1) موضوع: أخرجه الدارقطني (1/ 115) وروى مرسلاً، وانظر «نصب الراية» (1/ 78).

(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (249)، وابن ماجه (599)، وأحمد (1/ 94)، وانظر «الضعيفة» (930).

(3) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (598) بسند ضعيف، وانظر التلخيص (1/ 142)، والظاهر أن الصواب وقفه على أبي أيوب والله أعلم.

(4) سورة المائدة، الآية: 6.

(5) «فتح الباري» (1/ 443).

(6) «فتح الباري» (1/ 432).

(7) ضعيف: أخرجه الترمذي (124)، وأبو داود (233)، والنسائي (1/ 171) وغيرهم من طرق أرجحها: أبو قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر مرفوعًا كما في «العلل» للدارقطني (1113)، وابن أبي حاتم (1/ 11) وعمرو لا يُعرف، وله شاهد عن أبي هريرة اختلف في تحسينه به وقد صححه الألباني في «الإرواء» (153).

 

(1/174)

 

 

قالوا: والبشرة ظاهر الجلد، فلا يدخله المضمضة والاستنشاق.

4 - حديث جبير بن مطعم قال: تذاكرنا غسل الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما أنا فآخذ ملء كفِّي ثلاثًا فأصب على رأسي، ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي» (1).

وفي لفظ: «أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت» (2) ولا يصح هذا اللفظ.

5 - قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: «إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضين عليك الماء، فإذا أنت قد طهرت» (3).

قلت: لولا حديث أم سلمة الأخير لكان لإيجاب المضمضة والاستنشاق وجه قوي، لكن حديث أم سلمة يدل دلالة أكيدة على أن القدر المجزئ في الغسل هو المذكور وليس فيه ذكر المضمضة والاستنشاق، ولا يقال: إنهما داخلان في قوله (ثم تفيضين عليك الماء) فإن معنى الإفاضة لا يتناولهما كما هو واضح، فيترجَّح لي مذهب الجمهور من استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوجوب، والله أعلم.

الثانية: متى يكون غسل الرجلين؟

الظاهر من حديث ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم أخَّر قدميه حتى أتمَّ غسله، ففي لفظ البخاري (260): «... فلما فرغ من غسله غسل رجليه».

وأما حديث عائشة فليس فيه إلا أنه كان يتوضأ قبل الغسل (4)، فكان للعلماء في هذين الحديثين أربعة اتجاهات (5):

_________

(1) صحيح: وتقدم قريبًا.

(2) نقل الشوكاني عن الحافظ قوله: قوله (فإذا أنا قد طهرت) لا أصل له من حديث صحيح ولا ضعيف ... اهـ.

(3) صحيح: وتقدم قريبًا.

(4) في رواية لمسلم (316) عن عائشة في آخر هذا الحديث: «... ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه» وهي زيادة غير محفوظة، وانظر «علل مسلم» للهروي (69)، و «التمهيد» (22/ 93)، و «فتح الباري» لابن رجب (1/ 234).

(5) «فتح الباري» لابن حجر (1/ 362)، و «المغنى» (1/ 288)، و «شرح العمدة» (1/ 371)، و «الخلافيات» للبيهقي (2/ 425).

 

(1/175)

 

 

الأول: أنه يستحب تأخير غسل الرجلين في الغسل، لحديث ميمونة وهو مذهب الجمهور.

الثاني: أنه يتوضأ وضوءًا كاملاً قبل الغسل، لحديث عائشة لأنه إخبار بغالب فعله صلى الله عليه وسلم بخلاف حديث ميمونة فإنها أخبرت عن غسل واحد، وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك وأحمد.

الثالث: أنه مخيَّر بين تقديم غسل الرجلين مع الوضوء أو تأخيره، وهو رواية عن أحمد.

الرابع: إذا كان يغتسل في مكان غير نظيف أخر رجليه، وإلا قدَّمه مع الوضوء، وهو مذهب مالك.

قلت: وهذا الأخير أرجح، وعلى كلٍّ فالأمر فيه واسع والله أعلم.

5 - يفيض الماء على رأسه ثلاثًا حتى يبلغ أصول الشعر.

6 - ويبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر.

7 - مع تخليل الشعر.

ففي حديث عائشة: «ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ....».

وعنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب (1)، فأخذ بكفه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقال بهما على رأسه» (2).

وعنها قالت: «كنا إذا أصاب إحدانا جنابة، أخذت بيدها ثلاثًا فوق رأسها، ثم تأخذه بيدها على شقِّها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر» (3).

فائدة: هل يخلل لحيته في الغسل؟

قال جمهور العلماء: مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حزم (4)، لا يلزمه تخليلها وإنما يستحب، قلت: هذا محلُّه إذا كان الماء يصل إلى البشرة وإلا فيجب

_________

(1) الحلاب: إناء يسع قدر حلبة ناقة (معالم السنن للخطابي 1/ 69).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (258)، ومسلم (318).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (277).

(4) «المحلى» (2/ 33)، و «الأوسط» (2/ 127)، و «التمهيد» (22/ 95).

 

(1/176)

 

 

تخليلها لإيصال الماء إليها، والأحوط على كل حال أن يخلل لحيته لعموم قول عائشة: «فيخلل بها أصول شعره».

8، 9 - يفيض الماء على سائر جسده، بادئًا بشقه الأيمن ثم الأيسر.

وإفاضة الماء على الجسد ثابتة في جميع الأحاديث الواصفة لغسله صلى الله عليه وسلم.

وأما التيامن، فلحديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره وفي شأنه كله» (1).

فائدتان:

الأولى: الإفاضة على سائر الجسد تكون مرة واحدة: وهذا واضح من سياق حديثي عائشة وميمونة، ففيهما التثليث في غسل اليدين والرأس وأما سائر الجسد فقالت عائشة: «ثم يفيض على جسده كله» وقالت ميمونة: «ثم أفاض على جسده» قال ابن بطال (2): لأنه لم يقيد بعدد، فحمل على أقل ما يسمى، وهو المرة الواحدة لأن الأصل عدم الزيادة عليها» اهـ.

قلت: وهذا ظاهر مذهب أحمد وأصحاب مالك واختاره شيخ الإسلام، والجمهور على استحباب التثليث.

الثانية: حكم دلك أعضاء الغسل (3):

اختلف العلماء: هل يشترط في الغسل إمرار اليد على جميع الجسد، أم يكفي فيها إفاضة الماء على جميع الجسد وإن لم يمرر يديه على بدنه؟ وهي مسألة لغوية: هل يتحقق الغسل بإفاضة الماء أم لا يتحقق إلا بالدلك على الشيء؟

فذهب جمهور العلماء -خلافًا لمالك والمزني من الشافعية- إلى أن الدلك لا يجب، بل يستحب في الغسل، فلو صب الإنسان على نفسه الماء على جميع جسده فقد أدى ما أوجب الله عليه، وكذلك لو غطس في الماء فأصاب الماء جميع جسده.

وأدلة الفريقين في هذه المسألة هي عين الأدلة التي تقدمت في حكم المضمضة والاستنشاق.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (168)، ومسلم (268).

(2) «فتح الباري» (1/ 439).

(3) «المحلى» (2/ 30)، و «الاستذكار» (3/ 63)، و «المغنى» (1/ 290)، و «بداية المجتهد» (1/ 55)، و «السيل الجرار» (1/ 113).

 

(1/177)

 

 

والظاهر أن الدلك مستحب وليس واجبًا.

ويقوي هذا المذهب -مع حديث أم سلمة- حديث عمران بن حصين في قصة المزادتين وفيه: (... وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناءً من ماء، قال: «اذهب فأفرغه عليك») (1).

وعلى هذا فلو وقف الإنسان تحت «الدش» ووصل الماء إلى جميع البدن فقد صح غُسله مع النية.

غسل المرأة من الجنابة:

صفة غسل المرأة من الجنابة كغسل الرجل تمامًا.

ولا يلزم المرأة -إذا كان لها ضفيرة- أن تنقض شعرها (تحل ضفائرها) لكن عليها أن توصل الماء إلى أصول شعرها.

لحديث ميمونة قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: «لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين» (2).

وعن عائشة قالت: «كنا نغتسل وعلينا الضماد (3) ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحلاَّت ومُحرمات» (4).

وقد أنكرت عائشة على عبد الله بن عمرو أَمْرَه للنساء بنقض رؤوسهن عند الغسل (5).

غُسل المرأة من الحيض والنفاس (6):

1 - استعمال الصابون ونحوه من المنظفات مع الماء: لحديث عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض، فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (344).

(2) صحيح: تقدم كثيرًا.

(3) الضماد: ما يلطخ به الشعر مما يلبده ويسكنه كالصمغ فيكون كالضفيرة.

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (254)، والبيهقي (2/ 182).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (331)، والنسائي (1/ 203)، وابن ماجه (604).

(6) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 49)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا (1/ 116 وما بعدها) مع شيء من الزيادة.

 

(1/178)

 

 

فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسَّكة فتطهر بها» فقالت أسماء: وكيف تطهر بها؟ فقال: «سبحان الله تطهرين بها» فقالت عائشة -كأنها تخفي ذلك-: تتبعين بها أثر الدم (1).

2 - أن تحلَّ ضفائرها حتى يصل الماء إلى أصول الشعر: لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق «ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها ...» وهو دليل على أنه لا يكتفي فيه بمجرد إفاضة الماء كغسل الجنابة، لا سيما وفي الحديث نفسه أنها سألته عن غسل الجنابة فقال: «ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها» ولم يذكر الدلك الشديد ففرَّق بين غسل الجنابة والحيض.

وقد اختلف العلماء في حكم نقض الضفائر في غسل المحيض: فذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى أنه مستحب وليس بواجب (2) وحجتهم:

1 - أن الحديث ليس صريحًا في إيجاب نقض الضفيرة.

2 - أن حديث عائشة الذي في قصة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «فأدركني يوم عرفة وأنا حائض فشكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «دعي عُمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ...» (3) قالوا: هذا غسل للإحرام وليس غسلاً للحيض فلا يصلح دليلاً.

3 - وأما حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها -وكانت حائضًا-: «انقضي شعرك واغتسلي» (4) قالوا: هذا الحديث يُرَدُّ إلى الحديث السابق فهو حديث واحد، ومن ثم أعلوا لفظة «واغتسلي» وحملوه على غسل الإحرام.

4 - إنكار عائشة على عبد الله بن عمرو أمره للنساء بنقض رؤوسهن في الغسل.

بينما ذهب الإمام أحمد والحسن وطاووس إلى أن نقض المرأة ضفائرها في غسل المحيض واجب للأحاديث السابقة، وكأنه الأرجح في المسألة كما حققه العلامة ابن القيم -رحمه الله- (5) وردَّ على اعتراض الجمهور بما يأتي:

1 - أما قولهم في حديث عائشة في حجِّها: إنه كان في الإحرام فصحيح، لكن غسل الحيض آكد الأغسال وقد أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يأمر به في سواه من زيادة التطهر والمبالغة فيه فأمرها بنقضه -وهو غير رافع لحدث الحيض- تنبيهًا على وجوب نقضه إذا كان رافعًا للحدث بطريق الأولى.

2 - وأما حديثها أنه قال لها وهي حائض: «انقضي شعرك واغتسلي».

فكونه غير حديث الحج وارد جدًّا لا سيما ورجال السند من المكثرين.

3 - وأما إنكار عائشة على عبد الله بن عمرو، إنما كان لأمره للنساء بنقض رؤوسهن في غسل الجنابة بلا شك، فقد قالت: «يا عجبًا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقض رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ...» (6).

وإنما كانت تغتسل معه صلى الله عليه وسلم من الجنابة التي يشتركان فيها لا من الحيض!! وعلى هذا فيجب على المرأة أن تحل ضفائرها في

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (314)، ومسلم (332) واللفظ له.

(2) «المغنى» (1/ 227)، و «المحلى» (2/ 38)، و «نيل الأوطار» (1/ 311)، و «تهذيب السنن» (1/ 293) مع العون.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (317)، ومسلم (1211).

(4) إسناده صحيح: أخرجه ابن ماجه (641)، وانظر «الإرواء» (1/ 167).

(5) «تهذيب السنن» (1/ 293 - وما بعدها) مع عون المعبود.

(6) صحيح: أخرجه مسلم (331)، والنسائي (1/ 203)، وابن ماجه (604).

 

(1/179)

 

 

غسل المحيض والنفاس خاصة، وهو الأحوط والله أعلم.

3 - أن تتبع أثر الدم بقطعة عليها مسك أو نحوه:

فيستحب أن تستعمل قطعة قماش أو قطن عليها شيء من المسك وتدخلها في فرجها بعد الاغتسال، وكذلك تطيب جميع المواضع التي أصابها الدم من بدنها، وذلك لتطييب المحل من الرائحة الكريهة، وهذا ثابت في حديث عائشة المتقدم.

ويرخص للمرأة أن تفعل هذا حتى وهي في فترة الإحداد على زوجها أو ميتها لحديث أم عطية فيما تمنع منه الحادَّة: «... ولا نتطيب ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب، وقد رخصَّ لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كُسْثِ أظفار ...» (1).

وسيأتي هذا في موضعه من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (313).

 

(1/180)

 

 

تنشيف الأعضاء بعد الغسل:

تقدم في حديث ميمونة في صفة غُسل النبي صلى الله عليه وسلم: «فناولته ثوبًا (وفي رواية: المنديل) فلم يأخذه وهو ينفض يديه» (1) وقد استُدل بهذا على كراهة التنشيف بعد الغسل ولا حجة فيه لأمور (2):

1 - أنها واقعة حالة يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة أو لكونه كان مستعجلاً أو غير ذلك.

2 - أن في الحديث دليلاً على أنه صلى الله عليه وسلم كان من عادته التنشيف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل.

3 - نفض الماء بيده يدل على عدم الكراهة في التنشيف لأن كلاًّ منهما إزالة.

فالحاصل: أنه لا بأس بالتنشيف بعد الغسل، والله أعلم.

 

مسائل تتعلق بالغسل

لا يلزم الوضوء بعد الغسل:

من اغتسل غسلاً شرعيًا وأراد أن يصلي فلا يلزمه أن يتوضأ، حتى وإن لم يكن توضأ في اغتساله، فإن طهارة الجنابة تقضي على طهارة الحدث، لأن موانع الجنابة أكثر من موانع الحدث، فدخل الأقل في الأكثر.

فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة» (3) وفي رواية: «يغتسل ويصلي ركعتين، ولا أراه يُحدث وضوءًا بعد الغسل» (4).

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا لم تمسَّ فرجك بعد أن تقضي غُسلك، فأي وضوء أسبغ من الغسل» (5).

قلت: ويتفرَّع على هذا انه لا يجب على المغتسل من الجنابة أن ينوي رفع

_________

(1) صحيح: تقدم كثيرًا.

(2) «الفتح» (1/ 432)، وانظر «المجموع» (1/ 459).

(3) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (107)، والنسائي (1/ 137)، وابن ماجه (579).

(4) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (250)، وأحمد (6/ 119).

(5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (1039).

 

(1/181)

 

 

الحدث الأصغر، وهو مذهب الجمهور واختاره ابن تيمية (1). وعند الحنابلة أنه إذا نوى الطهارتين أجزأ منهما، وإن نوى الغسل وحده فليس له إلا ما نوى (2).

إذا اجتمع موُجِبان للغسل: كحيض وجنابة، أو جنابة وجمعة، فإنه يجزئ عنهما غسل واحد إذا نواهما معًا، وهو قول أكثر أهل العلم (3).

إذا أجنبت المرأة ثم حاضت قبل أن تغتسل:

فأصلح أقوال العلماء أنه لا يلزمها أن تغتسل للجنابة وإنما يلزمها إذا طهرت أن تغتسل للجنابة والحيض معًا وتنويهما جميعًا، وهذا مذهب أحمد (4) وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يلزمها الغسل للجنابة ثم إذا زالت الحيضة اغتسلت للحيض، وهو مذهب عطاء والنخعي والحسن، وقال بعضهم: يلزمها غسل فرجها ثم إذا طهرت تغتسل، ولا حجة لأحد هذين القولين، والصواب الأول.

ولا ينفي هذا أنها إذا أرادت أن تغتسل للجنابة أو أن تغسل فرجها ثم تغتسل إذا طهرت - فعلت ولا حرج عليها، وإنما لا يلزمها.

يجوز غُسل الرجل بفضل ماء المرأة: وقد تقدم تحريره في «أحكام المياه».

يجوز للرجل الاغتسال مع زوجته: ويجوز لكل منهما أن ينظر لعورة الآخر من غير كراهة، فعن عائشة قالت: «وكنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد [فيبادرني حتى أقول: دع لي دع] كلانا جنب» (5).

لا يجوز الاغتسال عريانًا أمام الناس: فإن استتر عن نظر الناس فلا بأس، وقد تقدم في حديث ميمونة «وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماءً للغسل [وسترته] فغسل يديه .... الحديث».

_________

(1) «المبسوط» (1/ 44)، و «الشرح الصغير» (1/ 65)، و «الأم» (1/ 36)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 397)، و «المحلى» (2/ 44).

(2) «العدة شرح العمدة» (ص 48).

(3) «المغنى» (1/ 292) بل نقل في «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» (ص 51) الإجماع عليه، وهذا منقوض بخلاف ابن حزم في «المحلى» (ص/ 42 - 47). ووافقه العلامة الألباني في «تمام المنة» (ص 126).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (299)، ومسلم (321).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (299)، ومسلم (321).

 

(1/182)

 

 

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام اغتسل عريانًا (1) وكذلك أيوب عليه السلام (2) وهذا في الخلوة.

من أَحْدَثَ أثناء الغُسل:

الجنب إذا أحدث قبل أن يتم غُسله فإنه يتمُّه ولا يعيده، لأن الحدث لا ينافي الغسل، فلا يؤثر وجوده فيه كغير الحدث، وإنما عليه أن يتوضأ، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم: عطاء والثوري ويشبه مذهب الشافعي واختاره ابن قدامة وابن المنذر (3).

مسائل تتعلق بالجُنُبِ:

يجوز للجُنب تأخير الغُسل: ولا يجب عليه أن يغتسل فور حصول الجنابة، وإن كان الأفضل والأزكى المبادرة بالغسل.

فعن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة، وهو جنب، فانخنس منه، فذهب فاغتسل، ثم جاء فقال: «أين كنت يا أبا هريرة؟» قال: كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: «سبحان الله، إن المسلم لا ينجس» (4).

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة» (5).

ثم إن التعجيل بغسل الجنابة إنما هو للصلاة بالدرجة الأولى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما نام قبل أن يغتسل كما سيأتي.

يجوز للجنب أن ينام قبل أن يغتسل، إذا توضأ:

فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ وضوءه للصلاة» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (278)، ومسلم (339).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (279).

(3) «المغنى» (1/ 290)، و «الأوسط» (2/ 112).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (283)، ومسلم (371).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (284)، ومسلم (309).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (288)، ومسلم (305).

 

(1/183)

 

 

وسألها عبد الله بن قيس قال: «كيف كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ فقالت: «كل ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام» فقال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة» (1).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب -لما سأله عن الجنابة تصيبه من الليل-: «توضأ، واغسل ذكرك، ثم نَمْ» (2).

لا حرج على الجنب في قراءة القرآن ومس المصحف:

وقد تقدم تحريره في «الوضوء» فليراجع.

هل يجوز للحائض والجنب دخول المسجد والمكث فيه؟

ذهب جمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم -خلافًا للظاهرية- إلى تحريم مكث الحائض والنفساء والجنب في المسجد، وهو مروي عن ابن عباس وابن مسعود من الصحابة (3).

واستدل المانعون بما يأتي:

1 - قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا ...} (4).

قالوا: المراد بالصلاة: مواضع الصلاة وهي المساجد، ففي الآية منع الجنب من دخولها إلا في حالة كونه مسافرًا، ثم قاسوا الحائض والنفساء على الجنب!!

وأجاب المبيحون: بأن هذا أحد تأويلي السلف لمعنى الآية، والتأويل الآخر أن المراد الصلاة ذاتها لا المسجد فيكون المعنى: ولا تقربوا الصلاة جنبًا إلا بعد أن تغتسلوا إلا في حال السفر فصلُّوا بالتيمم ولذا قال بعدها: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}.

ثم في قياس الحائض على الجنب نظر، لأن الحائض معذورة ولا يمكن أن تغتسل قبل أن تطهر ولا تملك رفع حيضتها، بخلاف الجنب فيمكنه الاغتسال.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (307).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (209)، ومسلم (306).

(3) «المجموع» (2/ 184) وما بعدها، و «المغنى» (1/ 145)، و «اللباب شرح الكتاب» (1/ 43) وأجاز الشافعي وأحمد المرور في المسجد دون المكث، و «المحلى» (2/ 184) وما بعدها).

(4) سورة النساء، الآية: 43.

 

(1/184)

 

 

2 - حديث جسرة بنت دجاجة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لا أُحِلُّ المسجد لحائض ولا جنب» (1).

وأجاب المبيحون: بأن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به، فإن مداره على جسرة وهي لا تحتمل التفرد.

3 - حديث أم عطية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج العواتق وذوات الخدور، والحيض في صلاة العيد ليشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصُلَّى» (2).

قالوا: فإذا كان هذا في شأن مصلى العيد فالمسجد أولى بالمنع.

وأجاب المبيحون: بأن المراد بالمصلى في الحديث: الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون العيد في الفضاء لا في المسجد، والأرض كلها مسجد ولا يجوز أن يخص المنع بعض المساجد دون البعض.

ثم قد رُوى الحديث نفسه بلفظ «فأما الحيض فيعتزلن الصلاة» وهي في صحيح مسلم وغيره.

4 - حديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغى إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجِّله وأنا حائض» (3) قالوا: فامتنعت من ترجيله في المسجد لأنها حائض.

وأجاب المبيحون: بأنه ليس صريحًا فيما استدلوا به، فقد يكون عدم دخولها لعلة أخرى غير الحيض كأن يكون بالمسجد رجال ونحو ذلك.

ثم استدل المبيحون لدخول الحائض والجنب المسجد بما يأتي:

1 - البراءة الأصلية، فحيث لم يصح النهي فالأصل الإباحة وقد أبيح للمسلم أن يصلي في أي مكان أدركته فيه الصلاة.

2 - أنه قد ثبت أن المشركين دخلوا المسجد وقد حبسهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (4).

_________

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2332)، والبيهقي (2/ 442)، وابن خزيمة (2/ 284)، وانظر «الإرواء» (193).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (324)، ومسلم (890).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (2029)، وسيأتي في «الاعتكاف».

(4) سورة التوبة، الآية: 28.

 

(1/185)

 

 

وأما المسلم فهو طاهر على كل حال لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم لا ينجس» (1) فكيف يمنع المسلم دخوله ويباح للكافر؟!

وأجاب المانعون: بأن الشرع فرَّق بين المسلم والكافر، فقام الدليل على تحريم مكث الجنب والحائض (!!) وثبت حبس الكفار فيه، فإذا فرَّق الشرع لم يجز التسوية، فهذا قياس مع النص وهو فاسد (!!) قلت: هذا إذا ثبت النص كما لا يخفى!

3 - حديث عائشة: «أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب، فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد» (2).

قالوا: فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمعهود من النساء الحيض، فلم يمنعها صلى الله عليه وسلم من ذلك ولا أمرها أن تعتزله في حيضتها.

وأجاب المانعون: الظاهر أن هذه المرأة لم يكن لها أهل ولا مأوى سوى المسجد فكان مقامها فيه اضطرارًا، فلا يقاس عليها غيرها وهذه واقعة حالة خاصة فلا يعارض بها الدليل الصريح (!!) في المنع.

4 - حديث أبي هريرة «في المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد وماتت فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ....» (3).

فهذه امرأة غير مضطرة تقم المسجد في كل وقت ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتزال المسجد في الحيض.

5 - حديث أبي هريرة في مبيت أهل الصفة في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).

وأجاب المانعون: بأن أهل الصفة لم يكن لهم أهل ولا مال كما هو واضح في نص الحديث.

6 - ثبت في الصحيح «أن ابن عمر كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له» (5).

_________

(1) صحيح: وقد تقدم قريبًا.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (439).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (458)، ومسلم (956) وفيهما على الشك هل هي امرأة أو رجل لكن يتأيد أنها امرأة بلفظ الحديث عند ابن خزيمة والبيهقي (4/ 48) بسند حسن.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (6452)، والترمذي (479).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (3530)، ومسلم (2479).

 

(1/186)

 

 

والشاب يعتريه الاحتلام كثيرًا ولم يُنه عن المكث في المسجد حال الجنابة.

وأجاب المانعون: بأنه لم يُذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على هذا منه وأقره!!

وردَّ المبيحون: بأنه لو خفى هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى على الله تعالى فكان ينبغي أن يخبره الوحي بذلك فينهاه، وأجيب: بأنه لا يلزم أن ينزل الوحي معلمًا بكل خطأ من حصابي، فكم وقع الصحابة في مخالفات لعدم علمهم بالدليل الوارد في المسألة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

7 - أن عائشة رضي الله عنها لما حاضت في الحج فأجاز لها ما يفعل الحاج ولم ينهها إلا عن الطواف بالبيت (1)، فدلَّ على جواز دخولها المسجد، لأن الحاج له ذلك.

وأجاب المانعون: أنه إنما أراد أن يعلمها أنه يجوز للحائض أن تقوم بكل مناسك الحج إلا الطواف، وأما حكم دخولها المسجد فمعلوم عندها أنه ممنوع إذ هي رواية الحديث، ثم إنه لم ينهها عن الصلاة وهي حائض -والحجاج يصلون- فهل يقال: إن لها أن تصلي وهي حائض؟!!

قلت: وهذا جواب متجه لكن إذا ثبت حديث النهي وهو ضعيف.

8 - حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناوليني الخمرة من المسجد» فقلت: إني حائض، قال: «إن حيضتك ليست في يدك» (2) وهذا مشعر أن الخمرة كانت في المسجد فأصرَّ على دخولها المسجد لمناولته الخمرة.

وأجاب المانعون: بأن الحديث ورد بلفظ آخر: «بينما رسول الله في المسجد فقال: «يا عائشة ناوليني الثوب» فقالت: إني حائض، فقال: «إن حيضتك ليست في يدك» (3). وهو صريح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد وكانت عائشة والخمرة خارجه. فأمرها بإدخال يدها لا بأن تدخل بنفسها.

قلت: هذا الحديث محتمل فينبغي إسقاطه من أدلة الفريقين.

9 - أثر عطاء بن يسار قال: «رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد، وهم مجنبون، إذا توضأوا وضوء الصلاة» (4).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1650)، وسيأتي في «الحج».

(2) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (298)، وأبو داود (261)، والترمذي (134)، والنسائي (2/ 192).

(3) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (299)، والنسائي (1/ 192).

(4) إسناده حسن: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (4/ 1275).

 

(1/187)

 

 

قلت: بعد هذا العرض لحجج المانعين والمبيحين لمكث الجنب والحائض والنفساء في المسجد، فالذي يظهر أن أدلة المانعين لا ترقى للقطع بالحُرمة، وإن كنت أتوقف في هذه المسألة، والله أعلم بالصواب.

 

التيمُّم (1)

التيمم لغة وشرعًا (2):

التيمم لغة: القصد، يقال: (تيممت فلانًا ويممته وتأممته وأممته، أي: قصدته).

قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} (3).

وشرعًا: القصد إلى الصعيد (وجه الأرض) للتطهير لاستباحة ما يبيحه الوضوء والغسل.

مشروعية التيمم:

ثبتت مشروعية التيمم بالكتاب والسنة والإجماع:

1 - فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (4).

2 - ومن السنة:

-قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وعنده طهوره» (5).

-وحديث عمران بن حصين قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ مع القوم، فقال: «يا فلان، ما منعك ألا تصلي مع القوم؟» فقال: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» فلما حضر الماء أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل إناء من ماء فقال: «اغتسل به» (6).

3 - وأما الإجماع: فقال: ابن قدامة في «المغنى (1/ 148):

_________

(1) استفدت كثيرًا في هذا الباب من بحث كان أعدَّه شقيقي طارق سالم -أثابه الله- تمهيدًا للحصول على «الماجستير» في الشريعة.

(2) المجموع (2/ 238)، والمغنى (1/ 148)، والمبسوط (1/ 106).

(3) سورة البقرة، الآية: 267.

(4) سورة المائدة، الآية: 6.

(5) حسن: أخرجه أحمد (2/ 222) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (348)، ومسلم (1535).

 

(1/188)

 

 

«وأما الإجماع، فأجمعت الأمة على جواز التيمم في الجملة» اهـ.

عَمَّ يجزئ التيمم؟

التيمم بدل عن الوضوء والغسل عند انعدام الماء أو تعذُّر استعماله، قال النووي: هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود (1) وإبراهيم النخعي التابعي، فإنهم منعوه [يعني: منعوا التيمم عن الحدث الأكبر] قال ابن الصباغ وغيره: وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا.

واحتج أصحابنا والجمهور بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}. ثم قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهو عائد إلى المحدث والجنب جميعًا .... اهـ (2).

قلت: وثمة دليل آخر على مشروعية التيمم من الحدث الأكبر، وهو قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (3).

فالمراد بالملامسة في الآية: الجماع، على قول فريق من أهل العلم منهم ابن عباس رضي الله عنهما (4).

ثم قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على إجزاء التيمم عن الجنابة ومن ذلك:

1 - حديث عمران بن حصين المتقدم وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أصابته جنابة: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» (5).

2 - حديث عمار بن ياسر قال: أجنبت فتمعَّكْت في التراب، فأخبرت

_________

(1) جاء في صحيح البخاري (345)، ومسلم (796) منع ابن مسعود التيمم من الجنابة، واحتجاج أبي موسى عليه بالآية، قلت: لعل منع ابن مسعود ذلك مُخَرَّج على ما صح عنه عند الطبري (9606) في تفسيره لقوله تعالى {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} بأن «الملامسة ما دون الجماع» فليُحرر.

(2) المجموع (2/ 240).

(3) سورة النساء، الآية: 43.

(4) «تفسير الطبري» (9583) بسند صحيح عنه.

(5) متفق عليه: وتقدم قريبًا.

 

(1/189)

 

 

النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «إنما كان يكفيك هكذا: وضرب يديه على الأرض، ومسح وجهه وكفيه» (1).

هل يُيَّمَّم الميت إذا عُدم الماء؟

يُيمم الميت كالحي إذا عدَم الماء، لأن غسله فرض، وقد تقدم أن التراب طهور إذا لم يوجد الماء، وهذا عام لكل طهور واجب ولا خلاف في أن كل غسل طهور (2).

الأحوال التي يباح فيها التيمم

يُباح التيمم في حالتين:

1 - عند انعدام الماء سواء في السفر أو الحضر.

2 - عند تعذُّر استعماله، ولهذا صور تأتي، إن شاء الله.

قال الله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (3).

لا يشترط أن يكون السفر طويلاً حتى يشرع للمسافر التيمم.

للمسافر -إذا عدم الماء- أن يتيمم سواء كان سفره طويلاً أو قصيرًا في أصح قولي العلماء (4)، لإطلاق السفر في الآية الكريمة.

ويشهد لذلك:

1 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء .... فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ...» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (338)، ومسلم (798).

(2) انظر المحلى (2/ 158).

(3) سورة المائدة، الآية: 6.

(4) المحلى (2/ 116)، والمغنى (1/ 148).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (334)، ومسلم (764).

 

(1/190)

 

 

2 - وعن ابن عمر: «أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم فمسح وجهه ويديه، وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة» (1).

قال الشافعي: (الجرف) قريب من المدينة.

الصحيح أن المسافر يتيمم في سفره -إذا عدم الماء- سواء سافر لطاعة أو لمعصية، لأن التيمم عزيمة فلا يجوز تركه بخلاف بقية الرخص، ولأنه حكم لا يختص بالسفر فأبيح في سفر المعصية كمسح يوم وليلة (2).

قلت: ولأنه لا يسقط عنه فرض فلزمه أن يحقق شرط صحتها (التيمم) ويبقى في حقه الإثم لأجل سفر المعصية. والله أعلم.

من كان معه ماء لا يكفي إلا لبعض أعضائه: فلأهل العلم في هذه المسألة مذهبان:

الأول: أنه يغسل ما استطاع من أعضاء ويتيمم عن الباقي:

وهو مذهب أحمد، وأحد القولين للشافعي، وبه قال ابن حزم (3) وحجتهم:

قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» (5).

قال ابن حزم: وهذا مستطيع لأن يأتي ببعض وضوئه أو ببعض غسله، غير مستطيع على باقيه، ففرض عليه أن يأتي من الغسل بما يستطيع في الأول من أعضاء الوضوء وأعضاء الغسل حيث بلغ، فإذا نفد لزمه التيمم لباقي أعضائه ولابد، لأنه غير واجد للماء في تطهيرها، فالواجب عليه تعويض التراب كما أمره الله تعالى ... اهـ.

الثاني: أنه يتيمم ابتداء: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين عند الشافعية، وبه قال جماعة من السلف (6).

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه مالك (الطهارة - ص 73)، والبيهقي (1/ 224).

(2) المحلى (2/ 116)، والمغنى (1/ 148).

(3) المحلى (2/ 137)، والمغنى (1/ 150)، والأوسط (2/ 32).

(4) سورة التغابن، الآية: 16.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (3199).

(6) المجموع (2/ 312)، ومجموع الفتاوى (21/ 453).

 

(1/191)

 

 

قالوا: لأنه لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التيمم، إما هذا وإما هذا، واحتج ابن المنذر لهذا المذهب فقال (1):

«قال الله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} الآية، فأوجب على الجنب الاغتسال بالماء، فإن لم يجد تيمَّمَ، وأوجب على المُظاهر رقبة، فإن لم يجد صام شهرين، فلما كان الواجد بعض رقبة في معنى من لا يجد، وفرضه الصوم، كان الواجد من الماء ما يغسل به بعض بدنه في معنى من لا يجد، وفرضه الصوم، كان الواجد من الماء ما يغسل به بعض بدنه في معنى من لا يجد وفرضه التيمم، والجواب في المتمتع يجد بعض ثمن الهدى، والحانث في يمينه يجد ما يطعم أقل من عشرة مساكين، حكم من ذكرنا، فأما أن يفرض على بعض من ذكرنا فرضين فغير جائز» اهـ.

قلت: ولعل الأظهر أنه يتيمم ابتداءً، لعدم الجمع بين الأصل والبدل، ولأنه لو لم يكن معه ما يكفي جميع أعضاء الوضوء أو الغسل، فاستعمل البدل (التيمم) فإنه يكون أتى ما استطاع من أمر الله ورسوله كذلك، على أن الذي يظهر لي أن هذا الذي يتيمم بعد غسل بعض الأعضاء إنما حصلت له الطهارة بالتيمم وحده لا بمجموع الغسل والتيمم، فلم يكن لغسل بعض الأعضاء -مع تيقن عدم كفاية الماء - معنى والله أعلم.

من كان معه ماء، إلا أنه يخاف على نفسه أو رفيقه أو دابته العطش إن استعمله:

قال ابن المنذر (2):

«أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا خشي على نفسه العطش ومعه مقدار يتطهر به من الماء، أنه يُبقى ماءه للشرب ويتيمم» اهـ.

وقال ابن قدامة (3): «والخائف على بهائمه خائف من ضياع ماله فأشبه ما لو وجد ماء بينه وبينه لص أو سبع يخافه على بهيمته أو شيء من ماله، وإن وجد عطشان يخاف تلفه لزمه سقيه وتيمم» اهـ.

_________

(1) الأوسط لابن المنذر (2/ 34).

(2) الأوسط (2/ 28).

(3) المغنى (1/ 165)، وانظر المجموع (2/ 281).

 

(1/192)

 

 

[مسألة]: إذا اجتمع ميِّتٌ، وجنبٌ، وحائضٌ، ومن على بدنِه نجاسةٌ، والماءُ لا يكفي إلا أحدَهم فمن أحق به؟

1 - إذا كان الماء ملكًا لأحدهم فهو أحق به، وبهذا قطع الجمهور (1).

2 - وإذا كان الماء مباحًا لهم، فعلى ما يأتي:

(أ) الميت أحق به من أصحاب الأحداث، كما قال الشافعي وأحمد (2) وذلك لعلتين، إحداهما: أنه خاتمة أمره فخُصَّ بأكمل الطهارتين، والأحياء سيجدون الماء، والثانية: أن القصد من غسل الميت تنظيفه ولا يحصل بالتراب، والقصد من طهارة الأحياء استباحة الصلاة، وهي حاصلة بالتيمم.

(ب) صاحب النجاسة أحق بالماء من أصحاب الأحداث، وبه قال الشافعية والحنابلة (3)، قال النووي: لأنه لا بدل لطهارته. اهـ.

(جـ) الحائض أحق بالماء من الجنب، لغلظ حدثها، ولأنها تقضي حق الله تعالى وحق زوجها في إباحة وطئها.

وفي المسألة خلاف: فعند الحنابلة والشافعية وجهان وعند الشافعية وجه ثالث وهو أنهما يستويان ويقرع بينهما (4).

(ء) إذا اجتمع الجنب والمحدث: فالعبرة بالماء الموجود فإن كان يكفي للاغتسال فالجنب أحق به وإلا فالمحدث (5).

(هـ) إذا اجتمع الميت ومن على بدنه نجاسة، ففيه خلاف (6)، فمن اعتبر العلة التي ذكرناها في تقديم الميت على المحدث قال: الماء من حق الميت.

ومن اعتبر أن من على بدنه نجاسة لا بدل لطهارته، قال: هو الأحق.

تيمم المريض الذي يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء:

ذهب جمهور العلماء (أبو حنيفة والشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم) إلى أن

_________

(1) المجموع (2/ 316)، والمغنى (1/ 170).

(2) المجموع (2/ 318)، والمغنى (1/ 170).

(3) المغنى (1/ 171)، والمجموع (2/ 319).

(4) المغنى (1/ 171)، والمجموع (2/ 319).

(5) السابق.

(6) المغنى (1/ 170)، والمجموع (2/ 318).

 

(1/193)

 

 

المريض إذا خشي على نفسه الهلاك من استعمال الماء، فيجوز له أن يتيمم، لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ..... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1). قال مجاهد: «وهي للمريض تصيبه الجنابة إذا خاف على نفسه فله الرخصة في التيمم مثل المسافر إذا لم يجد الماء» (2). ولقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (3).

بينما منع عطاء (4) والحسن تيمم المريض إلا عند فقد الماء، لظاهر الآية.

والجواب عن هذا: أن الآية حجة لنا وتقديرها: (وإن كنتم مرضى فعجزتم أو خفتم من استعمال الماء، أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماءً، فتيمموا) (5).

إذا خاف المريض -باستعماله الماء- زيادة المرض أو تأخر البرؤ فهل يتيمم؟

ذهب الجمهور (6) (أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين وابن حزم) إلى أنه لا يشترط خوف الهلاك حتى يتيمم المريض، بل من كان الوضوء يزيد مرضه أو يؤخر برؤه، فإنه يتيمم، لعموم آية المائدة.

ولعموم قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (7).

قال ابن حزم: فالحرج والعسر ساقطان -ولله الحمد- سواء زادت علته أو لم تزد، وكذلك إن خشي زيادة علته فهو أيضًا عسر وحرج. اهـ.

ورُوى عن أحمد والشافعي في أحد قوليه: أنه يشترط خوف الهلاك لإباحة التيمم، ومذهب الجمهور أصح والله أعلم.

من كانت به جراح، فماذا يفعل؟

هذه المسألة تتفرع على أصل وهو: (هل يُجمع بين الأصل والبديل أي الوضوء -أو الغسل- والتيمم أم لا؟) وقد تقدم تحريره (8).

_________

(1) سورة المائدة، الآية: 6.

(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح.

(3) سورة النساء، الآية: 29.

(4) روى هذا عبد الرزاق في «المصنف» (861) بسند صحيح.

(5) المجموع (2/ 330).

(6) المبسوط (1/ 121)، والمجموع (2/ 331)، والمحلى (2/ 116)، والأوسط (2/ 26)، ومجموع الفتاوى (21/ 399).

(7) سورة البقرة، الآية: 185.

(8) راجع ص (192).

 

(1/194)

 

 

فمن منع الجمع بينهما -كأبي حنيفة ومالك وهو ما رجَّحناه قريبًا- ذهب إلى اتباع الأقل للأكثر، بحيث إذا كان أكثر جسده جريحًا تيمم دون غسل باقي الأعضاء الصحيحة، وإن كان أكثر صحيحًا غسل جسده وترك موضع الجرح (1).

ومن أجاز الجمع بين الغسل والتيمم قال: يغسل الصحيح من الجسد ويتيمم عن المجروح، وهو قول الشافعي وأحمد، وكأنه اختيار شيخ الإسلام (2).

قلت: والظاهر أن الأول أصح -كما تقدم- ولا يصح في هذا الباب شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لكن يُروى حديث جابر قال:

خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، قال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم [ويعصر -أو يعصب- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده]» (3).

وهو حديث ضعيف ضعَّفه البيهقي وابن حزم وغيرهما وهو كذلك، وإن كان قد حسنه -بدون ما بين المعكوفتين- الألباني بما لا يُسَلَّم.

وقد رُوى عن ابن عمر قال: «إذا لم تكن على الجرح عصائب، غسل ما حوله، ولم يغسله» (4).

وقد صح عن عبيد بن عمير في رجل أصابته جنابة وبه جراحة: «ليغسل ما حوله ولا يقرب جراحته الماء» (5).

وهذا موافق لمذهب أبي حنيفة ومالك، وهو الراجح والله أعلم.

_________

(1) المبسوط (1/ 112)، والمجموع (2/ 333).

(2) المغنى (1/ 162)، والمجموع (1/ 162)، ومجموع الفتاوى (21/ 466).

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (336)، والدارقطني (1/ 190)، والبيهقي (1/ 237) وسنده ضعيف، وقد حسنه الألباني بحديث ابن عباس عند أبي داود (337)، وابن ماجه (572) لكنه منقطع لا يصلح للاستشهاد.

(4) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (1/ 228).

(5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (865).

 

(1/195)

 

 

هل يجوز لمن خشي على نفسه برودة الماء أن يتيمم للجنابة؟

يجوز لمن خشي على نفسه الموت بسبب برودة الماء أن يتيمم، لأنه بمنزلة المريض، وهذا مذهب جماهير العلماء (1)، وحجتهم في هذا:

1 - قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (2).

2 - ما رُوى عن عمرو بن العاص أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرودة فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنب؟» فقلت: ذكرت قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}. فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا» (3).

وهذا حديث مختلف فيه، والراجح ضعفه، إلا أن قواعد الشرع تشهد له، ويؤيد هذا المذهب كذلك قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (4). وذلك بعد ذكر التيمم، فكأنه أشار إلى أن التيمم يشرع عند وجود الحرج في استعمال الماء، ولا شك أن شدة البرودة من هذا الحرج، لكن ينبغي أن ينبه على أن التيمم لا يُشرع -في هذه الحالة- إلا بعد العجز عن تسخين الماء، والله أعلم.

من ضاق عليه الوقت بحيث لو استعمل الماء فات وقت الصلاة، فهل له أن يتيمم؟

في هذه المسألة قولان للعلماء:

الأول: لا يجوز له التيمم وإن فات الوقت:

وبه قال الشافعية والحنابلة وأبو يوسف (5)، وحجتهم ما يلي:

_________

(1) المبسوط (1/ 122)، والمجموع (2/ 330)، والاستذكار (3/ 173)، والمغنى (1/ 163)، والمحلى (2/ 134)، ومجموع الفتاوى (21/ 399).

(2) سورة النساء، الآية: 29.

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (334)، وأحمد (4/ 203)، والدارقطني (1/ 178)، والحاكم (1/ 177)، والبيهقي (1/ 225) وقد أعل سنده ومتنه، وقد صححه الألباني في الإرواء (1/ 182) بما لا يسلم.

(4) سورة المائدة، الآية: 6.

(5) المغنى (1/ 166)، والمجموع (2/ 280)، والاستذكار (3/ 171)، وتمام المنة (ص 132).

 

(1/196)

 

 

1 - قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1). قالوا: فجعل فقدان الماء شرطًا لإباحة التيمم.

2 - حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (2).

3 - حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول» (3).

فهو مأمور باستعمال الماء فإن أدرك الصلاة فبها، وإن فاتت -بكسبه وتكاسله- فهو الذي سعى إلى هذه النتيجة.

الثاني: يشرع له التيمم والصلاة قبل خروج الوقت:

وبه قال أهل الرأي والأوزاعي ومالك وابن حزم واختاره شيخ الإسلام (4)، وقيده الأحناف بأنه يجوز إذا كانت الصلاة التي تفوت لا بدل لها كالجنازة (5).

وحجة القائلين بهذا القول:

1 - حديث أبي جهيم الأنصاري قال: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلَّم عليه، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام» (6).

قالوا: فهذا أصل في جواز التيمم لخوف فوات الواجب.

2 - قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (3/ 171): فكل من لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة كان له أن يتيمم إن كان مريضًا أو مسافرًا بالنص، وإن كان حاضرًا صحيحًا فبالمعنى، والله تعالى أعلم. اهـ.

3 - قال شيخ الإسلام: وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته

_________

(1) سورة المائدة، الآية: 6.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (6954)، ومسلم (526).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (524)، والترمذي (1)، وابن ماجه (272).

(4) المغنى (1/ 166)، والمحلى (2/ 117)، ومجموع الفتاوى (21/ 439، 456)، والأوسط (2/ 30).

(5) المبسوط (1/ 118، 119).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (337)، ومسلم (800).

 

(1/197)

 

 

كالجنازة وصلاة العيد وغيرهما مما يخاف فوته، فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة ... اهـ.

وقال وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجماعة الواجبة إلا بالتيمم، فإنه يصليها بالتيمم. اهـ.

قلت: ولعل الأظهر أنه يتيمم حتى يدرك الصلاة، لأن التيمم إنما شرع لإدراك وقت الصلاة وخوف فوته، محافظة على الوقت، والله أعلم.

من استيقظ من نومه وقد ضاق وقت الصلاة، فهل يتيمم لإدراك الوقت؟

في هذه المسألة مذهبان (1) كالذين في المسألة التي قبلها:

الأول: يتيمم ويصلي في الوقت: وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وابن حزم.

الثاني: يغتسل ويصلي ولو بعد خروج الوقت: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأحد القولين عن مالك، واختاره شيخ الإسلام.

وهو الراجح، لأن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أما إنه ليس في نوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه بها» (2) قال ابن تيمية (» / 35): وإذا كان كذلك فإذا استيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الاغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها، فقد صلى الصلاة في وقتها ولم يفوتها، بخلاف من استيقظ في أول الوقت فإن الوقت في حقه قبل طلوع الشمس فليس له أن يفوت الصلاة ... اهـ.

ما الصعيد الذي يجوز التيمم به؟

لأهل العلم في «الصعيد» الذي يجوز التيمم به رأيان:

الأول: وجه الأرض مطلقًا سواء الحصباء والجبل والرمل والتراب:

وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك واختاره شيخ الإسلام، وكذا ابن حزم لكنه اشترط فيما إذا كان وجه الأرض -من غير التراب- أن يكون متصلاً بها (3).

_________

(1) الأوسط (2/ 30)، والمحلى (2/ 117)، ومجموع الفتاوى (22/ 35 - 36).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1532)، وأبو داود (437)، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك»، وفي لفظ لمسلم من حديث أنس: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها».

(3) الاستذكار (3/ 157)، والمبسوط (1/ 108)، ومجموع الفتاوى (21/ 364)، والمحلى (2/ 158).

 

(1/198)

 

 

ومما احتج به هؤلاء:

1 - قوله تعالى: {صَعِيداً زَلَقاً} (1). وقوله: {صَعِيداً جُرُزاً} (2). قال في الاستذكار (3/ 158): و (الجرز) الأرض الغليظة التي لا تنبت شيئًا. اهـ.

2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «... وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» (3).

3 - قوله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على صعيد واحد» (4) أي: أرض واحدة.

4 - قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره» (5).

5 - حديث أبي الجهيم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الجدار فتيمم على الرجل السلام» (6).

6 - ما رُوى عن ابن عباس أنه قال: «أطيب الصعيد الحرث وأرض الحرث» (7).

الثاني: أن الصعيد هو التراب ولا يجزئ غيره:

وهذا مذهب الشافعي والحنابلة وأبي ثور وإليه جنح ابن المنذر (8) ومما احتجوا به:

1 - زيادة وردت في حديث «جعلت لي الأرض مسجدًا، [وجعلت تربتها لي طهورًا]» (9).

قالوا: فهذه الرواية مخصصة لرواية: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا».

2 - ما رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء:

_________

(1) سورة الكهف، الآية: 40.

(2) سورة الكهف، الآية: 8.

(3) صحيح: وتقدم قريبًا.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (472).

(5) حسن: وتقدم قريبًا.

(6) صحيح: تقدم قريبًا.

(7) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 161).

(8) المغنى (1/ 155)، والمجموع (2/ 246)، والاستذكار (3/ 159)، والأوسط (2/ 43).

(9) صحيح أخرجه مسلم (522)، وابن حبان (1697)، والدارقطني (1/ 175)، والبيهقي (1/ 213 - 230) وقد تكلم في الزيادة، والصواب ثبوتها.

 

(1/199)

 

 

نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم» (1).

قلت: والذي يترجح -عندي- هو القول الأول بأنه يجوز التيمم بكل ما يطلق عليه اسم الأرض، أو حمل شيئًا من الأرض كالغبار ونحوه.

وأما القول الثاني ففيه نظر من وجهين:

الأول: أنه لا يثبت شيء مما استدلوا به كما رأيت.

الثاني: أنهم حملوا معنى التربة في الحديث على التراب، وفيه نظر، ففي حديث أبي هريرة -عند مسلم- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله -عز وجل- التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين ....» الحديث قال في «لسان العرب»: (خلق الله التربة يوم السبت): يعني الأرض. اهـ.

قلت: وهذا المعنى واضح من الحديث ولله الحمد.

فاقد الطهورين:

أصح قولي العلماء فيمن فقد الطهورين (الماء والصعيد) أنه يصلي على حاله في الوقت ولا إعادة عليه.

وهو مذهب الشافعي وأحمد وأصحابهما وابن حزم واختاره ابن تيمية (2) واحتجوا بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3).

وقوله سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (4).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» (5).

قالوا: فهذا قد فعل ما في استطاعته من الصلاة، وسقط عنه ما لم يطقه من التطهر، فهو بذلك مؤدٍّ ما أمر به، ومن أدى ما أمر به فلا قضاء عليه.

قلت: ولعله أن يتأيد هذا المذهب بحديث عائشة قالت: «بعث رسول الله

_________

(1) منكر أخرجه أحمد (1/ 98)، والبيهقي (1/ 213).

(2) المغنى (1/ 157)، والمجموع (2/ 321)، والمحلى (2/ 138)، والفتاوى (21/ 467).

(3) سورة التغابن، الآية: 16.

(4) سورة البقرة، الآية: 286.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (3199).

 

(1/200)

 

 

أسيد بن الحضير -وأنا سامعة- في طلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم» (1).

والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم -عند فقد الماء- على الصلاة بغير وضوء ولم يأمرهم بالإعادة، فإذا فقدوا الصعيد كذلك فالحكم هو هو. والله أعلم.

هذا، وقد ذهب أبو حنيفة وأصحاب الرأي ومالك والأوزاعي إلى أنه لا يصلى حتى يقدر على الوضوء أو التيمم وإن خرج الوقت (2).

مسائل تتعلق بالنية في التيمم:

تجزئ نية رفع الحدث عن استباحة الصلاة: أصح أقوال العلماء أن التيمم يقوم مقام الماء مطلقًا، يستباح به ما يستباح بالماء، ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده، وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة، والعكس، وهذا قول أكثر أهل العلم خلافًا لمالك، رحمه الله (3).

قال شيخ الإسلام (4): وهذا القول هو الصحيح، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار، فإن الله جعل التيمم مطهرًا كما جعل الماء مطهرًا، فقال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ} (5) ..... فمن قال: إن التراب لا يطهر من الحدث، فقد خالف الكتاب والسنة، وإذا كان مطهرًا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيًا مع أن الله طهر المسلمين بالتيمم من الحدث، فالتيمم رافع للحدث، مطهر لصاحبه، لكنه رفع مؤقت إلى أن يقدر على استعمال الماء، فإنه بدل عن الماء، فهو مطهر ما دام الماء متعذرًا ... اهـ.

قلت: فالتيمم يشرع لأجل الصلاة والطواف وقراءة القرآن ومس المصحف وغير ذلك مما يشرع له الوضوء والغسل ما دام الماء متعذرًا.

ومن نوى بالتيمم رفع الحدث، أبيح له كل ما يستباح بالوضوء والغسل، والله أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5882)، ومسلم (795).

(2) الأوسط (2/ 45)، والاستذكار (3/ 150)، والمحلى (2/ 139).

(3) المجموع (2/ 255)، والمغنى (1/ 158)، ومجموع الفتاوى (12/ 436)، والمبسوط (1/ 117).

(4) مجموع الفتاوى (21/ 436).

(5) سورة المائدة، الآية: 6.

 

(1/201)

 

 

من تيمم بنية رفع الجنابة فهل يجزئه عن الحدث؟

من تيمم بنية رفع الجنابة أجزأه ذلك عن الحدث في أصح قولي العلماء كأبي حنيفة والشافعي (1)، وهذا لأمرين:

1 - أن طهارتهما واحدة فسقطت إحداهما بفعل الأخرى كالبول والغائط.

2 - أن التيمم بدل عن استعمال الماء، فيأخذ حكمه، والراجح أن الغسل يغني عن الوضوء للحدث، فكذلك التيمم.

وأما إجزاء من نوى التيمم للحدث الأصغر عن الجنابة فمحل نظر، فمن نظر إلى العلة الأولى قال بالإجزاء، ومن نظر إلى أنه بدل عن الماء منعه.

وذهب مالك وأبو ثور والحنابلة وابن حزم (2) إلى أنه لا يجزئ نية أحدهما عن الآخر لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (3).

الكيفية الصحيحة للتيمم:

الكيفية الصحيحة للتيمم التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن:

(يضرب على الصعيد باليدين ضربة واحدة، ثم ينفخهما فيمسح بهما وجهه وكفَّيه)

وهذا مذهب الحنابلة وابن حزم، وبه قال جماعة من السلف، واختاره ابن تيمية (4) ويدل على هذا:

12 - حديث عمار بن ياسر وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيك» هكذا وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (5).

2 - ويشهد له حديث أبي هريرة قال: «لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجده فانطلقت أطلبه فاستقبلت فلما رآني عرف الذي جئت له، فبال، ثم ضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه» (6).

_________

(1) المغنى (1/ 166).

(2) المغنى (1/ 166)، والمحلى (2/ 138).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (رقم 1).

(4) المغنى (1/ 159)، والمحلى (2/ 146)، والفتاوى (21/ 422).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (338)، ومسلم (798).

(6) إسناده لين: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 159) ويشهد له ما قبله.

 

(1/202)

 

 

هذا، وقد ذهب فريق من العلماء إلى أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين.

وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وبه قال الثوري والليث، وهو مروي عن ابن عمر، والشعبي والحسن البصري وغيرهم (1) وحجتهم:

1 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» (2).

2 - حديث ابن عمر في قصة رجل مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على حاجته فسلم عليه وفيه: «ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام ....» (3).

3 - ما في رواية لحديث أبي جهيم وفيه: «... حتى قام إلى جدار فحتَّه بعصا كانت معه ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد عليَّ السلام» (4).

4 - حديث عمار «أنه كان يحدث أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم» (5).

قلت: والراجح أن التيمم ضربة واحدة للوجه واليدين إلى الرسغين كما تقدم، وذلك لأمرين:

1 - أن أدلة المخالفين كلها ضعيفة لا يثبت منها حديث مرفوع.

2 - أن حكم التيمم معلق على مطلق اليدين، فلم يدخل فيه الذراع، كقطع يد السارق، ويدل على هذا احتجاج ابن عباس على تحديد مكان القطع في السرقة المنصوص عليه، بقوله تعالى في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} (6). وكانت السنة في القطع من الكفين.

_________

(1) المبسوط (1/ 106)، والاستذكار (3/ 162)، والمجموع (2/ 242).

(2) ضعيف: أخرجه الحاكم (1/ 179)، والبيهقي (1/ 207) ورجَّح وقفه.

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1/ 88)، والبيهقي (1/ 206) وأنكره الإمام أحمد.

(4) منكر: أخرجه الشافعي في مسنده (130) والبيهقي (1/ 205) وقد خالفت رواية الصحيحين التي تقدمت.

(5) مضطرب: أخرجه أبو داود (1/ 84)، وابن ماجه (571)، والنسائي (1/ 168)، والبيهقي (1/ 208).

(6) سورة المائدة، الآية: 6.

 

(1/203)

 

 

نواقض التيمم

كل حدث ينقض الوضوء، فإنه ينقض التيمم، هذا ما لا خلاف فيه من أحد من أهل الإسلام (1).

مسائل تتعلق بالتيمم:

هل تصح الصلاة بالتيمم إذا وجد الماء قبل الشروع في الصلاة؟

قال ابن عبد البر (2): وأجمع العلماء على أن من تيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة - أن تيممه باطل لا يجزيه أن يصلى به، وأنه عاد بحاله قبل التيمم. اهـ.

من تيمم وصلى، ثم حضر الماء وهو في الصلاة فهل يتم صلاته أو يقطعها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

الأول: يقطع الصلاة ويلزمه استعمال الماء ثم يستأنف الصلاة من أولها:

وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وبه قال الثوري وابن حزم (3) وحجتهم:

1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» (4).

قالوا: وهذا واجد للماء.

2 - قالوا: ولأنه قدر على استعمال الماء، فبطل تيممه كالخارج من الصلاة.

3 - قالوا: ولأن التيمم طهارة ضرورة، فبطلت بزوال الضرورة، كطهارة المستحاضة إذا انقطع دمها.

الثاني: يمضي في صلاته ولا يقطعها:

وهو مذهب مالك والشافعي، ورواية ثانية عن احمد، وقيل: إنه رجع عنها، وبه قال أبو ثور، وداود، وابن المنذر (5)، وحجتهم:

_________

(1) المحلى لابن حزم (2/ 122).

(2) الاستذكار (3/ 167).

(3) المبسوط (1/ 120)، والمغنى (1/ 167)، والاستذكار (3/ 170)، والمحلى (2/ 126).

(4) ضعيف واختلف في تحسينه: أخرجه الترمذي (124)، وأبو داود (329)، والنسائي (1/ 171) وقد تقدم في «الغسل».

(5) الاستذكار (3/ 169)، والمجموع (2/ 357)، والأوسط (2/ 65).

 

(1/204)

 

 

1 - قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1) قالوا: قالوا: فلا يجوز له أن يخرج من الصلاة لذلك.

2 - أن للطهارة وقتًا، وللصلاة وقتًا، وهو حينئذ غير متعبد بفرض الطهارة -بعد التلبس بالصلاة- فقد تيمم كما أُمر وخرج من فرض الطهارة بالتكبير، ولا يجوز نقض طهارة قد مضى وقتها، وإبطال ما صلى من الصلاة كما فرض عليه فأمر به إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع.

قلت: والأظهر -عندي- أنه يمضي في صلاته، لعدم ثبوت ما يوجب قطع الصلاة بعد الدخول فيها، كما أن الصائم -صيام كفارة- إذا شرع في صومه ثم وجد رقبة، فإنه لا يلغي صومه، والله أعلم.

من صلى بالتيمم، ثم حضر الماء وهو في الوقت فهل يعيد الصلاة؟

من صلى بالتيمم ثم حضر الماء وهو في الوقت فليس عليه إعادة الصلاة -في أصح قولي العلماء- كما ذهب إليه مالك والثوري والأوزاعي والمزني والطحاوي، وأحمد في إحدى الروايتين، وبه قال ابن حزم (2).

بينما قال أبو حنيفة والشافعي (3): عليه الإعادة عند القدرة على الماء.

وردَّ عليهما ابن حزم فقال: «أما قول أبي حنيفة والشافعي فظاهر الفساد، لأنه لا يخلو أمرهما له بالتيمم والصلاة من أن يكونا أمراه بصلاة هي فرض الله تعالى عليه، أو بصلاة لم يفرضها الله تعالى عليه، ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن قال مقلدهما: أمراه بصلاة هي فرض عليه، قلنا: فلم يعيدها بعد الوقت إن كان قد أدى فرضه؟ وإن قالوا: بل أمراه بصلاة ليست فرضًا عليه، أقر بأنهما ألزماه ما لا يلزمه، وهذا خطأ». اهـ.

قلت: نعم، لا يجب عليه الإعادة، لكن يستحب أن يعيدها ما دام في الوقت -وحضر الماء- دون إيجاب:

لحديث أبي سعيد الخدري، قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد

_________

(1) سورة محمد، الآية: 33.

(2) انظر المجموع (2/ 353)، والمحلى (2/ 139).

(3) المجموع (2/ 353).

 

(1/205)

 

 

أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد: «لك الأجر مرتين» (1).

 

الحيض والنفاس (2)

الدماء الطبيعية الخارجة من المرأة، تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 - دم الحيض.

2 - دم النفاس.

3 - دم الاستحاضة.

دم الحيض (3):

ودم الحيض: هو الدم الأسود الخاثر [يعني: الغليظ] الكريه الرائحة الذي يجري من المرأة من موضع مخصوص في أوقات معلومة.

والحيض شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم جميعًا، كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة -كما في الصحيحين-: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ...» الحديث.

بل إن ابتداء الحيض كان مع حواء -عليها السلام- أيضًا، فقد عزاه الحافظ في الفتح (1/ 400) إلى الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال: «إن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة».

ولا حدَّ لأقل الحيض ولا لأكثره، وإنما مرد ذلك إلى العادة: لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم دليل صحيح يوضح أقل الحيض ولا أكثره.

قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (21/ 623):

وأما الذين يقولون: أكثر الحيض خمسة عشر كما يقوله الشافعي وأحمد ويقولون أقله يوم -كما يقوله الشافعي وأحمد- أو لا حد له كما يقوله مالك، فهم يقولون: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في هذا شيء، والمرجع في ذلك إلى العادة كما قلنا والله أعلم (4).

_________

(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (334)، والنسائي (1/ 213).

(2) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 55 - 69) ولم أزد عليه إلا شيئًا يسيرًا خشية التطويل، وإلا فالباب من أوسع أبواب الفقه.

(3) ومن أسماء الحيض أيضًا: الطمث - العراك - الضحك - الإكبار - الإعصار (المهذب 1/ 341).

(4) جامع أحكام النساء (1/ 179)، وانظر: المحلى (2/ 191)، والمغنى (1/ 308).

 

(1/206)

 

 

إقبال المحيض وإدباره (1):

1 - يُعَرف «إقبال المحيض» بالدفعة من الدم في وقت إمكان الحيض وهو دم أسود ثخين منتن.

2 - أما إدبار المحيض: أي انتهاء الحيض، فيعرف بانقطاع الدم والصفرة والكدرة، وهذا يتحقق بأحد شيئين:

(أ) الجفوف: وهو أن يخرج ما يُحتشى به الرحم جافًّا، بمعنى أن المرأة تضع في فرجها شيئًا (قماشة أو قطنة) فيخرج جافًا.

(ب) القَصَّة البيضاء: وهي ماء أبيض يخرج من الرحم عند انقطاع دم الحيض.

وقد ورد عن مولاة عائشة أنها قالت:

كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة [أي: الخرقة] فيها الكُرسف [أي: القطن] فيه الصفرة من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة (2).

ما حكم الصُّفرة والكُدرة بعد الطهر عن المحيض؟

الصفرة والكدرة هو الماء الذي تراه المرأة كالصديد ويعلوه اصفرار.

وهذا إذا رأته المرأة بعد انقطاع الدم أو بعد الجفوف، فلا يعد حيضًا وهي طاهرة فتصلي وتصوم ويأتيها زوجها.

وذلك لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت:

«كنا لا نعد الكدرة والصفرة [بعد الطهر] شيئًا» (3).

_________

(1) جامع أحكام النساء (1/ 200) وما بعدها.

(2) حسن لغيره: أخرجه مالك (ص 59)، والبخاري تعليقًا (1/ 420 - فتح) وعبد الرزاق (1/ 302) بسند فيه ضعف لكن له شاهد عند الدارمي (1/ 214)، والبيهقي (1/ 337) فيصح به، والله أعلم.

(3) أخرجه أبو داود (307)، والنسائي (1/ 186)، وابن ماجه (647) وغيرهم والزيادة لا تثبت إلا أن معناها هو مقتضى الحديث كما بوبه البخاري -رحمه الله- وقد أخرجه بدون الزيادة (326).

 

(1/207)

 

 

فوائد:

1 - إذا رأت المرأة الطهر ولم تجد ماءً للغُسل، فإنها تتيمم ويأتيها زوجها، وبهذا قال عدد كبير من أهل العلم (1).

2 - إذا استمر الدم بالمرأة أكثر من عادتها، ماذا تفعل؟

فمثلاً إذا كانت امرأة تحيض عادة ستة أيام كل شهر، فزادت في شهر وأصبح سبعة أو ثمانية أو عشرة، ماذا تصنع؟

فنقول: هذه المرأة لا يخلو حالها من أمرين:

أن تكون ممن تستطيع تمييز دم الحيض عن غيره.

فهذه تنظر إلى هذا الدم فإن كان لونه ورائحته وطبيعته كحال دم الحيض، فإنها تبقى ممتنعة من الصلاة والصيام والجماع كما كانت، لأنه لا يوجد حد معين لتوقيت الحيض كما تقدم، وإن وجدته مخالفًا لدم الحيض فإنها تغتسل وتصلي.

أما إذا كانت ممن لا يستطيع تمييز الدم -وهذا موجود في بعض النساء- فإنها تبقى لا تصلي ولا تصوم ولا يأتيها زوجها حتى تتطهر لأنه ليس هناك حد لأكثر الحيض (2).

3 - إذا كان الدم في أيام العادة الشهرية يأتي يومين -مثلًا- ثم ينقطع في الثالث ثم يأتي في الرابع وهكذا.

فالصواب أن انقطاع الدم في أيام الحيض المعروفة يعد حيضًا لا عبرة بانقطاع الدم، وإنما العبرة برؤية علامة الطهر وهي: القصة البيضاء التي تعرفها النساء (3).

4 - هل تحيض الحامل؟ (4)

للعلماء في هذا وجهان:

فذهب أكثر العلماء إلى أن الحامل لا تحيض، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «لا توضأ حامل [حتى تضع] ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» (5).

_________

(1) مجموع الفتاوى (1/ 625)، والمحلى (2/ 171)، وشرح مسلم (1/ 593)، وجامع أحكام النساء (1/ 152).

(2) جامع أحكام النساء (1/ 215) وفتاوى المرأة لابن عثيمين.

(3) فتاوى المرأة، جمع محمد المسند (ص 26).

(4) جامع أحكام النساء (1/ 208) وما بعدها.

(5) حسن لغيره: أخرجه أبو داود (2157)، وأحمد (3/ 62)، وله شاهد عند الدارقطني (3/ 257).

 

(1/208)

 

 

فقالوا: إن استبراء الأمة اعتبر بالمحيض لتحقق براءة الرحم، فلو كانت الحامل تحيض لم تتم البراءة بالحيض.

وذهب بعضهم -منهم الشافعي- إلى أن الحامل تحيض.

والصواب في هذا أن يقال: إن الأصل والقاعدة العامة الغالبة أن الحامل لا تحيض، لكن قد تشذ امرأة فينزل بها دم وهي حامل فينظر في هذا الدم، فإن كان كدم الحيض لونًا ورائحة وطبيعة وفي وقت الحيض فإنه يُعدُّ حيضًا تترك له الصلاة والصوم ويعتزلها زوجها، لكن هذا الحيض، لا يعتد به في مسألة العدة لأن الله تعالى قال: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) أما إذا كان الدم النازل على الحامل يخالف طبيعة دم الحيض وفي غير أوانه فلا يكون دم حيض وليس له اعتبار، كدم الاستحاضة.

ما يحرم على الحائض والنفساء:

1 - الصلاة:

أجمع العلماء على أنه يحرم على الحائض والنفساء الصلاة: فرضها ونفلها، وأجمعوا على أنه يسقط عنها فرض الصلاة فلا تقضيه إذا طهرت (2).

عن أبي سعيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ فذلك نقصان دينها» (3).

وعن معاذة أن امرأة قالت لعائشة: «أتجزئ إحدانا صلاتها إذا طهرت؟».

فقالت: أحرورية (4) أنت؟ كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله» (5).

فوائد:

1 - إذا حاضت المرأة قبيل العصر -مثلًا- ولم تكن صلت الظهر، فهل يلزمها قضاء الظهر إذا طهرت؟

إذا أتى المرأة الحيض قبيل العصر مثلًا ولم تصل الظهر، فإذا طهرت فإنها

_________

(1) سورة الطلاق، الآية: 4.

(2) المجموع للنووي (2/ 351)، والمحلى (2/ 175) لابن حزم.

(3) صحيح أخرجه البخاري (1951)، ومسلم (80) وغيرهما.

(4) صفة لمن يعتقد مذهب الخوارج، وكان بعضهم يوجب قضاء الصلاة على الحائض؟!!.

(5) صحيح أخرجه البخاري (321)، ومسلم (ص 265).

 

(1/209)

 

 

تقضي تلك الصلاة التي وجبت عليها قبل العادة (وهي الظهر) عند الجمهور، فقد ثبتت الصلاة في حقها ولزمها أن تقضيها، ما دام قد دخل وقتها وهي طاهرة بمقدار الركعة، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (1) وهناك قول آخر أنه لا يلزمها قضاء الظهر، ويستدل القائلون به، بأن النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنَّ يحضن في كل الأوقات ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة بعد طهرها أن تصلي صلاة فاتتها قبل نزول الحيض عليها، قال شيخ الإسلام في الفتاوى (23/ 235): «والأظهر في الدليل مذهب أبي حنيفة ومالك أنها لا يلزمها شيء لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء، ولأنها أخرت تأخيرًا جائزًا غير مفرطة، وأما النائم أو الناسي وإن كان غير مفرط أيضًا فإن ما يفعله ليس قضاء بل ذلك وقت الصلاة في حقه حين يستيقظ ويذكر ...» اهـ.

2 - إذا طهرت الحائض قبيل العصر -مثلًا- فلما اغتسلت دخل وقت العصر، فهل يلزمها أن تصلي الظهر؟

والجواب أنه يلزمها إذا طهرت -من حيض أو نفاس- قبل غروب الشمس أن تصلي الظهر والعصر من هذا اليوم، وكذلك إذا طهرت قبل طلوع الفجر لزمها أن تصلي المغرب والعشاء من هذه الليلة لأن وقت الصلاة الثانية وقت للصلاة الأولى في حالة العذر.

قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (2/ 334): «ولهذا كان مذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد إذا طهرت الحائض في آخر النهار صلت الظهر والعصر جميعًا، وإذا طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء جميعًا، كما نقل ذلك عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة وابن عباس، لأن الوقت مشترك بين الصلاتين في حال العذر، فإذا طهرت في آخر النهار فوقت الظهر باق فتصليها قبل العصر، وإذا طهرت في آخر الليل فوقت المغرب باقٍ في حال العذر فتصليها قبل العشاء ...» اهـ. والله أعلم.

2 - الصيام: وقد انعقد الإجماع على أن الحائض والنفساء تدع الصيام، ولكنها تقضي صيام رمضان.

فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «كان يصيبنا ذلك [تعني: الحيض] فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (2).

_________

(1) سورة النساء، الآية: 103.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (265)، وأبو داود (263).

 

(1/210)

 

 

فوائد:

1 - إذا طهرت الحائض قبل الفجر ولم تغتسل فهل تصوم؟

والجواب: أن الحائض إذا طهرت قبل الفجر ونوت الصيام صح صومها ولا يتوقف صحة الصيام على الغُسل بخلاف الصلاة وهو قول الجمهور (1).

2 - إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس فهل تصوم باقي النهار؟

والجواب: لا يلزمها أن تمسك بقية النهار فهي قد أفطرت في أوله وستقضي يومًا عنه فلا داعي للإمساك باقي اليوم.

فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: المرأة تصبح حائضًا ثم تطهر في بعض النهار أتتمه؟ قال: لا، هي قاضية (2).

3 - الجماع: (الوطء في الفرج)

وطء الحائض في الفرج [الجماع] لا يجوز باتفاق الأئمة (3)، كما حرم الله تعالى ذلك بقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (4).

وقال صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» (5).

قال شيخ الإسلام في الفتاوى (21/ 624):

ووطء النفساء كوطء الحائض حرام باتفاق الأئمة. اهـ.

فوائد:

1 - «لو اعتقد مسلم حِلَّ جماع الحائض في فرجها -صار كافرًا مرتدًّا-، ولو فعله إنسان غير معتقد حله: فإن كان ناسيًا أو جاهلاً بوجود الحيض أو جاهلاً بتحريمه أو مكرهًا فلا إثم عليه ولا كفارة.

وإن وطئها عامدًا عالمًا بالحيض والتحريم مختارًا فقد ارتكب معصية كبيرة وتجب عليه التوبة» (6).

_________

(1) فتح الباري (1/ 192).

(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (1292) بسند صحيح.

(3) المحلى (2/ 162)، ومجموع الفتاوى (21/ 624)، وتفسير الطبري (4/ 378).

(4) سورة البقرة، الآية: 222.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (302)، وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه.

(6) النووي في شرح مسلم (3/ 204).

 

(1/211)

 

 

وهل عليه حينئذ كفارة؛ قال الجمهور -خلافًا لأحمد- ليس عليه كفارة، قلت: وهو الصواب، وأما حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض أنه قال: «يتصدق بدينار أو نصف دينار» (1) فالراجح ضعفه، والأصل في أموال المسلمين الحرمة فلا يحل مال المسلم إلا بنص.

2 - الذي يمنع من الاستمتاع بالحائض هو الفرج فقط (2)، فللزوج أن يتلذذ من امرأته الحائض بكل شيء ما عدا الإيلاج في الفرج، والدليل على هذا حديث أنس أنه لما نزل قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (3).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» (4).

وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا أراد من الحائض شيئًا ألقى على فرجها ثوبًا» (5).

قلت: وأقوى ما يتأيد به هذا القول حديث مسروق أنه قال لعائشة: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي! فقالت: إنما أنا أمُّك وأنت ابني، فقال: ما للرجل ما امرأته وهي حائض؟ قالت: «له كل شيء إلا فرجها» (6).

ولا شك أن عائشة من أعلم الناس بحكم هذه المسألة لأنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم.

تنبيه: هناك قول آخر للعلماء: أن ما يجوز للرجل الاستمتاع به من امرأته الحائض هو كل شيء ما عدا ما بين السرة إلى الركبة ولهذا القول أدلته (7) لكن القول الأول أرجح والله أعلم.

3 - إذا طهرت المرأة من الحيض فلا يحل لزوجها أن يجامعها إلا إذا اغتسلت.

فقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (8).

_________

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (264)، والنسائي (1/ 153)، وابن ماجه (640).

(2) وهو مذهب الثوري وأحمد وإسحاق، ومحمد بن الحسن والطحاوي من الحنفية وأصبغ في المالكية وأحد القولين للشافعية واختاره ابن المنذر والنووي (فتح الباري 1/ 404) وهو مذهب ابن حزم.

(3) سورة البقرة، الآية: 222.

(4) تقدم قبله.

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (272) بسند صحيح.

(6) إسناده صحيح: أخرجه الطبري في «التفسير» (4/ 378) بسند صحيح وله عدة طرق.

(7) وهذا مذهب أكثر العلماء، انظر «جامع أحكام النساء» (1/ 140) وما بعدها إن شئت.

(8) سورة البقرة، الآية: 222.

 

(1/212)

 

 

قال مجاهد: للنساء طهران: طهر قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: إذا اغتسلن ولا تحل لزوجها حتى تغتسل، يقول: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} من حيث يخرج الدم فإن لم يأتها من حيث أمر الله فليس من التوابين ولا من المتطهرين» (1).

وقد أطبق أهل العلم على أن المرأة لا يأتيها زوجها -وإن رأت الطهر- حتى تغتسل، خلافًا لابن حزم.

وهنا سؤال: إذا كانت زوجة المسلم كتابية فهل تجبر على الاغتسال أم لا؟

والجواب: أنها تجبر على الاغتسال ولا يجوز لزوجها أن يقربها إلا بعد أن تغتسل لأن الآية لم تخص مسلمة من غيرها (2).

4 - على الحائض أن تمتنع من زوجها إذا أراد جماعها، لكن إذا غلبت على أمرها فلا شيء عليها، وتستغفر الله (3).

5 - الطواف: وهو حرام على الحائض بالإجماع، لحديث عائشة أنها لما حاضت في الحج قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (4).

وسيأتي مزيد بيان لهذا في أبواب الحج، إن شاء الله تعالى.

أمور لا بأس بها للحائض:

1 - ذكر الله وقراءة القرآن:

تقدم أنه يجوز للحائض والجنب -على الراجح- وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد (5).

قال ابن حزم في المحلى (1/ 77، 78): قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى أفعالُ خير، مندوب إليها مأجور فاعلها، فمن ادعى المنع فيها في بعض الأحوال كُلِّف أن يأتي بالبرهان. اهـ.

_________

(1) أخرجه عبد الرزاق (1272)، والبيهقي (1/ 310) بسند صحيح إلى مجاهد.

(2) تفسير القرطبي (3/ 90).

(3) جامع أحكام النساء (1/ 180).

(4) أخرجه البخاري (1650).

(5) نقل هذا شيخ الإسلام في «الفتاوى» (21، 459).

 

(1/213)

 

 

2 - السجود إذا سَمِعَتْ أية سجدة:

فليس هناك مانع من سجود المرأة الحائض إذا سمعت السجدة، فليست السجدة بصلاة، ولا يشترط لها الطهارة.

فقد ثبت في صحيح البخاري (4862) أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا سورة النجم فسجد فيها وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.

ومن البعيد أن يقال إن الجميع كانوا على وضوء، ثم إن سجدة التلاوة ليست بصلاة، وبنحو هذا قال الزهري وقتادة كما في مصنف عبد الرزاق (1/ 321) (1).

3 - مس المصحف:

ولا نعلم دليلاً صريحًا يمنع الحائض من مس المصحف، وإن كان أكثر أهل العلم قد ذهبوا إلى أن الحائض لا يجوز لها أن تمس المصحف، وقد تقدم تحريره.

4 - قراءة الرجل القرآن وهو في حجر امرأته الحائض:

لحديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ورأسه في حِجري وأنا حائض» (2).

5 - شهود العيدين:

وهذا لا بأس به، بل إنه يستحب للحُّيض أن يخرجن لشهود العيد لكن يعتزلن الصلاة.

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج العواتق وذوات الخدور والحُيَّض وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحُيَّض المصلى» (3).

6 - دخول المسجد:

وفي هذا الأمر خلاف واسع بين العلماء قد تقدم مفصلاً (4) والحاصل أننا لم نقف على دليل صحيح صريح يمنع الحائض من دخول المسجد، والأصل الإباحة حتى يوجد المانع ومع هذا فإن المرء لا يزال يستخير الله في هذه المسألة.

7 - مؤاكلة ومشاربة الزوج للحائض:

فعن عائشة قالت: «كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه

_________

(1) جامع أحكام النساء (1/ 174) بمعناه.

(2) أخرجه البخاري (7549) ومسلم (ص 246) وغيرهما.

(3) أخرجه البخاري في مواضع، منها رقم (324).

(4) في آخر باب «الغُسل».

 

(1/214)

 

 

على موضع فيَّ» (1).

8 - خدمة المرأة الحائض لزوجها:

كأن تغسل رأسه أو تُرجِّله وتُسرِّحه، فعن عائشة قالت: «كنت أُرجِّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض» (2).

9 - نوم الحائض مع زوجها في لحاف واحد:

فعن أم سلمة قالت: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميصة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي. قال: أنفست؟ قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة (3).

قال النووي في شرح مسلم (1/ 954): فيه جواز النوم مع الحائض والاضطجاع معه في لحاف واحد ... اهـ.

 

دم النفاس

النفاس: هو الدم الخارج بسبب الولادة.

1 - توقيت النفاس:

ليس لأقل مدة للنفاس حَدٌّ:

وقد أجمع العلماء (4) على أنها متى رأت الطهر -ولو قبل الأربعين- أنها تغتسل وتصلى ويأتيها زوجها.

أما أقصى مدة تنتظرها المرأة إذا استمر بها الدم، فذهب الجمهور إلى أن أقصى مدة النفاس أربعون يومًا ثم تغتسل وتصلي، واستدلوا بحديث أم سلمة قالت: «كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يومًا أو أربعين ليلة» (5).

_________

(1) أخرجه مسلم (300)، وأبو داود (259)، والنسائي (1/ 56)، وابن ماجه (643)، ومعنى (أتعرق العرق): آخذ اللحم بأسناني.

(2) أخرجه البخاري (295)، ومسلم (297).

(3) أخرجه البخاري (298)، ومسلم (296) وغيرهما.

(4) نقله الترمذي في السنن (1/ 429).

(5) أخرجه أبو داود (307)، والترمذي (139)، وابن ماجه (648) وقد اختلف في تحسينه والراجح ضعفه والله أعلم، إلا أن العلم عليه.

 

(1/215)

 

 

2 - أجمع العلماء على أن النفاس كالحيض في جميع ما يحل ويحرم ويكره ويندب (1).

3 - يختلف النفاس عن الحيض في أن العدة لا تحصل به، لأن العدة تنقضي بوضع الحمل قبله (2).

 

دم الاستحاضة

الاستحاضة: جريان الدم في غير أوقات الحيض والنفاس، أو متصلاً بهما، وهو دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة، إنما هو عرق انقطع، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرؤ منه (3).

وحكمه: تكون المراة طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع العلماء.

توقيت الاستحاضة:

إذا خرج هذا الدم في غير وقت الحيض والنفاس غير متصل بهما، فلا إشكال في هذا.

أما إذا كان جريان هذا الدم متصلاً، فكيف تصنع؟

فنقول: هذه المرأة لا تخلو من أربع حالات:

1 - إما أن تكون ذات عادة معروفة، تعرف قدر حيضتها، فهذه تنتظر قدر حيضتها ثم تغتسل وتصلي وما زاد على حيضتها فهو دم استحاضة ليس بحيض.

فعن عائشة قالت: إن أم حبيبة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دمًا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي» (4).

2 - وإما أن تكون المرأة لا تعرف حيضتها، لكن تستطيع تمييز دم الحيض من الاستحاضة فتنظر إلى دم حيضها فتترك الصلاة ثم تغتسل وتصلي بعد إدباره.

فعن عائشة قالت: جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أُستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: «لا، إنما ذلك

_________

(1) نيل الأوطار للشوكاني (1/ 286).

(2) المغنى لابن قدامة (1/ 350).

(3) وهو ما يسمى بالنزيف.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (ص 264 - عبد الباقي)، وأبو داود (279)، والنسائي (1/ 119).

 

(1/216)

 

 

عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي» (1).

3 - وإما أن تكون المرأة مبتدأة، بمعنى أنها لم يسبق لها الحيض، فهي غير مميزة لدم الحيض عن غيره من الدماء، فهذه تبنى على حال أغلب النساء، فإن كان الغالب من حال النساء حولها أن يحضن مثلًا في الشهر ستة أو سبعة أيام، فإنها تنتظر من ابتداء حيضتها ستة أو سبعة أيام وتعتبرها أيام حيض، وبعدها تغتسل ولا عبرة بالدم بعد ذلك فإنه استحاضة.

وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش: «إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيَّضي ستة أيام أو سبعة في علم الله ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي أربعًا وعشرين ليلة أو ثلاثًا وعشرين وأيامهن، وصومي، فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطُهرن» (2).

4 - وأما أن تكون المرأة ناسية لعادتها قدرًا ووقتًا ولا تستطيع تمييز الحيض من الاستحاضة (3): فللعلماء في هذه أقوال: أظهرها أنها كالمبتدأة غير المميزة التي تقدم حكمها والله أعلم.

أحكام المستحاضة:

1 - المستحاضة في حكم الطاهرة فلا يحرم عليها شيء مما يحرم بالحيض.

2 - المستحاضة تصوم وتصلي وتقرأ القرآن وتمس المصحف وتسجد للتلاوة وللشكر وغيرها كالطاهرة بالإجماع.

3 - لا يلزم للمستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة ما لم تُحدث لأن الراجح ضعف الأخبار الواردة في ذلك (4)، والأفضل أن تتوضأ أو تغتسل لكل صلاة لحديث عائشة أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمرها أن تغتسل فقال: «هذا عرق» فكانت تغتسل لكل صلاة (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (228)، ومسلم (ص 262) وغيرهما.

(2) أخرجه أبو داود 0287)، والشافعي في الأم (1/ 51)، وابن ماجه (622)، والترمذي في الطهارة (باب 95) وسنده لين، وقد حسنه الألباني في الإرواء (205).

(3) وهذه يسميها العلماء: المتحيرة.

(4) راجعها في «جامع أحكام النساء» (1/ 230) وما بعدها.

(5) أخرجه البخاري (327)، ومسلم (262) وغيرهما.

 

(1/217)

 

 

4 - يجوز للمستحاضة أن يجامعها زوجها ما دام في غير وقت الحيض وإن كان الدم جاريًا، وهو قول أكثر العلماء (1).

5 - يجوز للمستحاضة أن تعتكف في المسجد، فعن عائشة قالت: «اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي» (2).

وقد نقل النووي في شرح مسلم (1/ 631) الإجماع على أن المستحاضة في الاعتكاف كالطاهرة.

_________

(1) المجموع (2/ 372)، والمغنى (1/ 339).

(2) البخاري.

 

(1/218)

 

 

2 - كتاب الصلاة

 

(1/219)

 

 

تعريف الصلاة (1):

الصلاة لغةً: الدعاء، وسميت الصلاة الشرعية صلاة لاشتمالها عليه، وبهذا قال الجمهور من أهل اللغة وغيرهم من أهل التحقيق.

قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (2). أي: ادع لهم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا دعى أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليصلِّ ...» (3) أي: ليدعُ لصاحب الطعام.

والصلاة في الاصطلاح: التعبدُّ لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة مُفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، مع النية، بشرائط مخصوصة.

 

منزلتها من الدين:

1 - الصلاة آكد الفروض بعد الشهادتين وأفضلها، وأحد أركان الإسلام، فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان والحج» (4).

2 - وشدد الشارع النكير على تاركها حتى نسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفر، فقال: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة» (5).

وقال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (6).

وقال عبد الله بن شقي (تابعي): «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركُه كفر غير الصلاة» (7).

3 - والصلاة عمود الدين لا يقوم إلا به، كما قال صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» (8).

_________

(1) «مواهب الجليل» (1/ 277) و «المجموع» (3/ 3) و «كشاف القناع» (1/ 221).

(2) سورة التوبة، الآية: 103.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1431) وسيأتي.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (987)، وأبو داود (1658)، والنسائي (1/ 231) وغيرهم.

(6) صحيح: أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي (1/ 231)، وابن ماجه (1079)، وانظر طرقه في «تعظيم قدر الصلاة» (894 - بتحقيقي).

(7) إسناد صحيح: أخرجه الترمذي (2622)، وابن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (948 - بتحقيقي).

(8) أخرجه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973).

 

(1/220)

 

 

4 - وهي أول ما يحاسب عليه العبد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر».

5 - كانت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة».

6 - وقد كانت الصلاة آخر وصية وصىَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عند مفارقته الدنيا، إذ قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة وما ملكت أيمانكم».

7 - وهي العبادة الوحيدة التي لا تنفكُ عن المكلَّف، وتبقى ملازمة له طول حياته لا تسقط عنه في أية حال.

8 - وللصلاة من المزايا ما ليس لغيرها من سائر العبادات ومن ذلك:

(أ) أن الله سبحانه وتعالى تولىَّ فرضيتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخاطبته له ليلة المعراج.

(ب) أنها أكثر الفرائض ذكرًا في القرآن الكريم.

(جـ) أنها أول ما أوجب الله على عباده من العبادات.

(د) أنها فرضت في اليوم والليلة خمس مرات بخلاف بقية العبادات والأركان.

الصلاة قسمان: فرض وتطوُّع:

1 - فالفرض: هو الذي من تركه عامدًا كان عاصيًا لله عز وجل، وهو نوعان:

 

(أ) فرض عين: متعين على كل بالغ عاقل، ذكر أو أنثى، حر وعبد، كالصلوات الخمس.

(ب) فرض كفاية: إذا قام به بعض الناس سقط عن سائرهم، كالصلاة على الجنازة.

2 - والتطوع: هو ما لا يكون تاركه عمدًا عاصيًا لله تعالى، كالسنن الراتبة والوتر وغيرها مما سيأتي، لكن يستحب أداء صلاة التطوع، ويكره تركها.

أولاً: الصلوات الخمس

حكم تارك الصلاة: تارك الصلاة له حالتان: إما تركها جاحدًا لفرضيَّتها منكرًا لوجوبها، وإما أن يتركها تهاونًا وكسلاً وهو مُقرٌّ بوجوبها عليه:

 

(1/221)

 

 

[1] تارك الصلاة جحودًا (1): من ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها، أو جحد وجوبها ولم يترك فعلها في الصورة، فهو كافر مرتدٌّ بإجماع المسلمين.

ويستتيبه الإمام، فإن تاب وإلا قتله بالردَّة، ويترتب عليه جميع أحكام المرتدين، هذا إذا كان قد نشأ بين المسلمين، فأما إن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة من المسلمين بحيث يجوز أن يخفى عليه وجوبها، فلا يُكفَّر بمجرد الجحد، بل نعرفه بوجوبها، فإن جحد بعد ذلك كان مرتدًّا.

[2] تارك الصلاة تكاسلاً وتهاونًا من غير جحدها:

لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا [من غير عذر شرعي] من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة (2).

ثم اختلف أهل العلم في حكمه على قولين:

الأول: أنه فاسق عاصٍ مرتكب لكبيرة، وليس بكافر: وبه قال الأكثرون، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي -في المشهور عنه- وأحمد في إحدى الروايتين (3).

الثاني: أنه كافر خارج عن ملة الإسلام: وهو مذهب سعيد بن جبير والشعبي والنخعي والأوزاعي وابن المبارك وإسحاق وأصح الروايتين عن أحمد، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، وحكاه ابن حزم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة (4).

_________

(1) «المجموع» (3/ 16) بتصرف يسير، وانظر المراجع المشار إليها في المسألة الآتية.

(2) «الصلاة وحكم تاركها» لابن القيم (ص: 6) والزيادة بين القوسين مني ولا يخفى أهميتها.

(3) «حاشية ابن عابدين» (1/ 235)، و «الفتاوى الهندية» (1/ 50)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 189)، و «مواهب الجليل» (1/ 420)، و «مغنى المحتاج» (1/ 327)، و «المجموع» (3/ 16 وما بعدها)، وانظر «إعلام الأمة» للشيخ عطاء بن عبد اللطيف حفظه الله.

(4) «مقدمات ابن رشد» (1/ 64)، «والمقنع» (1/ 307)، و «الإنصاف» (1/ 402)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 48)، و «الصلاة» لابن القيم، و «حكم تارك الصلاة» للشيخ ممدوح جابر حفظه الله.

 

(1/222)

 

 

من أدلة الفريقين:

[1] المانعون من تكفيره: قالوا: قد ثبت له حكم الإسلام بالدخول فيه، فلا نخرجه عنه إلا بيقين، ثم استدلوا على عدم خروجه بما يلي:

(1) الأدلة التي تفيد أن الله تعالى يغفر جميع الذنوب عدا الشرك:

1 - كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (1). قالوا: فتارك الصلاة داخل تحت المشيئة فليس بكافر.

وأجاب المكفِّرون: بأن الآية لا تنافي كفر تارك الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (2) فيكون تارك الصلاة داخلاً في عموم الآية من جهة الدلالة على أن ذلك مما لا يغفره الله تعالى، لأنه مشرك بنص الحديث. ولو فرض أن الثابت له وصف الكفر دون الشرك وأن الآية إنما أفادت مغفرة ما دون الشرك، فإنه ليس فيها دلالة على أن الله لا يغفر الكفر الذي ليس من الشرك، بل يكون غاية ما فيها أن الله يغفر ما دون الشرك، وأما ما سوى الشرك مما هو كفر (كتكذيب الله ورسوله أو سبِّهما) فليس في الآية نص على غفرانه، بل ذلك مناقض لصريح الكتاب والسنة، فعلى كلا التقديرين لا وجه للاستدلال بالآية (3).

(ب) الأدلة التي تفيد أن من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة ولم يشترط الصلاة، ومن ذلك:

2 - حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله إلا حرَّمه الله على النار» (4).

3 - حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» (5).

_________

(1) سورة النساء، الآية: 48.

(2) صحيح: سبق تخريجه قريبًا.

(3) «ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة» للقرني (ص: 158) بتصرف يسير.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (128)، ومسلم (32) واللفظ له وعند البخاري «.. صدقًا من قلبه ..».

(5) صحيح: أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28).

 

(1/223)

 

 

4 - حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة» (1).

5 - حديث عتبان بن مالك وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله» (2) قالوا: فلم يشترط الصلاة لنجاته من النار ودخوله الجنة.

وأجاب المكفرِّون: بأن هذه النصوص وما في معناها على قسمين: إما عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة، وإما مطلق مقيدة بما لا يمكن معه ترك الصلاة كما هو واضح في قوله صلى الله عليه وسلم: «... يبتغي بذلك وجه الله»، «صدقًا من قلبه» ونحوها، فتقيد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب، يمنعه من ترك الصلاة، لأن إخلاصه وصدقه يحملانه على الصلاة ولابد (3).

(جـ) أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط (4):

6 - ففي حديث أبي سعيد في الشفاعة، وبعد ذكر شفاعة المؤمنين لإخوانهم إخراجهم من النار: «... فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير!! قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين، قال: فيقبض قبضة من النار ناسًا لم يعملوا الله خيرًا قط، قد احترقوا حتى صاروا حممًا، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال لها (الحياة) فُيصب عليهم، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ...» الحديث (5).

وأجاب المكفِّرون: بأن الصلاة ليست داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لم يعملوا خيرًا قط» وكيف يتصور دخول تارك الصلاة في زمرة هؤلاء، وقد هلك مع الهالكين {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (6). ثم إن الأخبار الصحيحة قد دلت على أن كل من يخرج من النار من الموحدين إنما يُستدل عليه بعلامة آثار

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3116).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33).

(3) «حكم تارك الصلاة» للعلامة بن عثيمين، رحمه الله.

(4) «حكم تارك الصلاة» للعلامة الألباني، رحمه الله (ص: 36).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (6560)، ومسلم (183).

(6) سورة القلم، الآيتان: 42، 43.

 

(1/224)

 

 

السجود، ففي حديث أبي هريرة مرفوعًا «... حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يخرج [برحمته] من النار من أراد أن يُخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرَّم الله على الناس أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا فيُصيب عليهم ماء يقال له ماء الحياة ... ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار ... فيصرف وجهه عن النار» قال أبو هريرة: وذلك آخر أهل الجنة دخولاً (1).

قالوا: والحديث ظاهر في أن من يخرجهم الله تعالى برحمته، إنما يعرفهم الملائكة بآثار السجود فهم مصلُّون بلا شك، وأما قول المؤمنين -في حديث أبي سعيد- «فلم يبق في النار أحد» فهذا باعتبار علمهم بالدليل أن الله قال لهم -كما في حديث أبي سعيد-: «فأخرجوا من عرفتم منهم» وإلا ففي النار من المصلين من هذه الأمة ومن الأمم السابقة -وقد كانوا مطالبين بالصلاة- من لم يعلمهم إلا الله، فأخرجهم برحمته، وأما غير المصلين فلا يخرجون منها (2).

(د) أدلة مفهومها أن ترك الصلاة لا يخرج من الملة، ومنها:

7 - حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس صلوات افترضهن الله على عباده، فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئًا لقيه وله عنده عهد يدخله به الجنة، ومن لقيه بهن وقد انتقص منهن شيئًا استخفافًا بحقهن لقيه ولا عهد له إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» (3).

قالوا: فهو يدل على أن تارك بعض الصلوات ليس بكافر لدخوله تحت المشيئة.

وأجاب المكفِّرون: بأن الحديث لا يصح حمله على ترك بعض الصلوات، فإنه أثبت الإتيان بالصلوات الخمس مع الانتقاص من واجباتها، ففيه «ومن لقيه بهنَّ وقد انتقص منهن شيئًا ...».

8 - حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يحاسب به الناس من أعمالهم الصلاة، فيقول ربنا للملائكة -وهو أعلم-: انظروا عبدي أتمها

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6573 - 7437)، ومسلم (182).

(2) من مقدمة الشيخ محمد عبد المقصود -أمتع الله بحياته- على رسالة ممدوح (ص: 38 وما بعدها) بتصرف.

(3) ضعيف على الراجح: انظر «تعظيم قدر الصلاة» (1029 بتحقيقي) فقد استقصيت طرقه ورجَّحت ضعفه، وقد صححه الألباني رحمه الله تعالى.

 

(1/225)

 

 

أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان قد انتقص منها شيئًا، قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم» (1) قالوا: نقص الفرائض يكمل من التطوع، وهذا النقص يشمل النقص في الفريضة نفسها ويشمل النقص في عدد الفرائض.

وأجاب المكفِّرون: بأن الحديث لا يصح مرفوعًا، وله طرق ضعيفة وفي أقواها: «فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر» وقوله (صلحت) يعني أنها مكتملة الأركان صحيحة، فلا يصح حمل قوله «وإن كان قد انتقص منها شيئًا» على ترك الأركان والشروط، فوجب حمل الانتقاص على ترك ما دون ذلك، فلا يَسْلم الاستدلال به.

9 - حديث عائشة مرفوعًا: «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله تعالى يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء ... الحديث» (2).

وأجاب المكفِّرون: بأن الحديث بزيادة (من صوم يوم تركه أو صلاة) ضعيف (!!).

10 - حديث نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم «أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين فقبل منه» (3) قالوا: قد قبل النبي صلى الله عليه وسلم من الرجل الإسلام مع علمه بأنه لن يصلي إلا صلاتين فقط من الخمس؟!

وأجاب المكفِّرون: بأنه ليس في الحديث أن الصلوات كانت إذ ذاك خمسًا (!!).

والظاهر أن هذا كان في الوقت الذي كان الفرض فيه صلاتين وقبل فرض الخمس، أو أن يكون هذا من باب قبول إسلام الرجل مع الشرط الفاسد -وهذا مذهب أحمد- وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فليس ذلك لأحد بعده.

_________

(1) ضعيف مرفوعًا: وله طرق استقصيتها في «تعظيم قدر الصلاة» (182 - بتحقيقي) وقد صح موقوفًا على تميم الداري.

(2) ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 240)، وانظر «ضعيف الجامع» (3022) وقد حسن الألباني نحوه لكن ليس فيه ذكر الصلاة، فلا فائدة، وانظر «الصحيحة» (1927).

(3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 363).

 

(1/226)

 

 

(هـ) حملوا الأحاديث المصرِّحة بكفر تارك الصلاة على الأصغر:

11 - قالوا: كما حملنا الكفر في كثير من النصوص على الكفر الذي لا يخرج من الملة كحديث:

«سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» و «اثنتان بالناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت» والأحاديث التي فيها «ليس منا من فعل كذا ...» فكذلك هنا.

وأجاب المكفِّرون: هذا لا يصح هنا لأمور (1):

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة حدًّا فاصلاً بين الكفر والإيمان وبين المؤمنين والكفار، والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره، فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر.

الثاني: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام فوصف تاركها بالكفر يقتضي الخروج من الملة، لأنه هدم ركنًا، بخلاف إطلاق الكفر على من فعل فعلاً من أفعال الكفر.

الثالث: أن هناك نصوصًا أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفرًا مخرجًا من الملة فيجب حمل الكفر على ما دلت لتتلائم النصوص وتتفق.

الرابع: أن الكفر في الأحاديث التي ساقوها جاء (نكرة) أو بلفظ الفعل فيدل على أنه من الكفر أو أنه كفر في هذه الفعلة، فلا يخرج من الملة بخلاف التعبير في ترك الصلاة فإنه عبَّر بـ (ال) الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر.

(و) 12 - حملوا أحاديث كفر تارك الصلاة على من تركها جحودًا:

وأجاب المكفرِّون: أن في هذا الحمل محذورين: الأول: إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به وهو الترك لا الجحود، والثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطًا للحكم، فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه، سواء صلى أم ترك، فتبين أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها غير صحيح (2).

(ز) (13) قالوا: إننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدًا من تاركي الصلاة

_________

(1) «حكم تارك الصلاة» لابن عثيمين (ص: 14 - مع رسالة الشيخ ممدوح) بتصرف يسير.

(2) «رسالة ابن عثيمين» (ص: 12 - مع السابق).

 

(1/227)

 

 

ترك تغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ولا منع ميراثه ولا فرق بين زوجين لترك الصلاة ولو كان كافرًا لثبتت هذه الأحكام (1).

[2] القائلون بكفر تارك الصلاة، ومنها:

1 - حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (2).

2 - حديث بريدة بن الحصيب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (3).

وأجاب المانعون من تكفيره: بما تقدم من حملها على من جحد فرضيتها أو حملها على أن المراد الكفر الذي لا يخرج من الملة.

3 - ما رُوي عن أنس مرفوعًا: «من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر جهارًا» (4).

وأجاب المانعون: بأنه ضعيف لا يحتج به، ولو صح فالقول فيه كالقول فيما قبله.

4 - حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام، من ترك واحدة منها فهو كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان» (5) وأجاب المانعون بأنه ضعيف مرفوعًا، فلا يكون فيه حجة، ولو صح فيحمل الكفر فيه على غير المخرج من الملة، ويحمل قوله (حلال الدم) على أنه يقتل حدًّ لا كفرًا.

(ب) أدلة دلَّ مفهومها على كفر تارك الصلاة، ومن ذلك:

5 - قول الله تعالى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (6).

قالوا: فاشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين: أن يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا انتفى أحد هذه الشروط انتفت الأخوة، والأخوة لا تنتفي بالفسوق ولا بالكفر الذي هو دون الكفر وإنما بالخروج من الملة.

_________

(1) «المغنى» (2/ 446) وقد رجَّح في المذهب عدم تكفيره.

(2) صحيح: سبق تخريجه.

(3) صحيح: سبق تخريجه.

(4) ضعيف: أخرجه الطبراني في «الأوسط»، وانظر «ضعيف الجامع» (5530).

(5) ضعيف: أخرجه أبو يعلى، وانظر «الضعيفة» (94).

(6) سورة التوبة، الآية: 11.

 

(1/228)

 

 

وأجاب المانعون: بأن الأدلة التي ساقوها في إثبات أن تارك الصلاة ليس بكافر مقدمة على الآية فتحمل على كمال الأخوة لا على أصل الأخوة، كما أخرجنا مانع الزكاة من الكفر بحديث «... ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» (1) وهذا بعد ذكر عقوبة مانع الزكاة.

6 - قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ... إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} (2). قالوا: فقوله (إلا من تاب وآمن) دليل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات لم يكونوا مؤمنين.

وأجاب المانعون: بأن قوله تعالى (وآمن) إما المراد به: داوم على إيمانه، أو المراد: دخل في الإيمان الكامل بشروعه في الصلاة.

7 - قوله تعالى في أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ... الْيَقِينُ} (3). قالوا: فإما أن يكون كل واحد من هذه الخصال هو الذي سلكهم في سقر وجعلهم من المجرمين، فالدلالة ظاهرة، وإما أن يكون مجموعها، فهذا إنما هو لتغليظ كفرهم وعقوبتهم وإلا فكل واحد منها مقتضٍ لعقوبة إذ لا يجوز أن يُضم ما لا تأثير له في العقوبة إلى ما هو مستقل بها.

وأجاب المانعون: بأن الآية فيها أنهم دخلوا النار وليس فيها مدة إقامتهم أو خلودهم فيها فلا تكون حجة، لكن تبقى الحجة في جعل تارك الصلاة من المجرمين، والمجرمون في كتاب الله الكفار، فنحمله على الإجرام غير المخرج من الملة (!!) ويعكِّر على هذا الحمل أن الله تعالى قد جعل المسلمين مقابلين للمجرمين {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (4). فلا يصح أن يكون المعنى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» وهذا واضح.

8 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا» (5).

_________

(1) صحيح: يأتي بتمامه في أول «الزكاة».

(2) سورة مريم، الآيتان: 59، 60.

(3) سورة المدثر، الآيات: 42 - 47.

(4) سورة القلم، الآية: 35.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (391)، والترمذي (2608)، والنسائي (3966) بنحوه.

 

(1/229)

 

 

9 - حديث محجن بن الأدرع الأسلمي: أنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع، ومحجن في مجلسه، فقال له: «ما يمنعك أن تصلي، ألست برجل مسلم؟» قال: بلى، ولكني صليت في أهلي، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا جئت فصلِّ مع الناس وإن كنت قد صليت» (1).

10 - حديث معاذ مرفوعًا: «من ترك صلاة مكتوبة متعمدًا، فقد برئت منه ذمة الله» (2).

قالوا: ولو كان باقيًا على إسلامه لكانت له ذمة الإسلام.

وأجاب المانعون عن هذه الأحاديث وما في معناها: بأنه بعد ثبوت ما دلَّ على أنه غير خارج من الملة تكون محمولة على كمال الإسلام لا أصله، جمعًا بين الأدلة (!!).

(جـ) الأدلة التي تفيد إباحة دم من لا يصلي، ومنها:

11 - حديث أبي سعيد -في قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله- وفيه: «فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: «لا، لعله أن يكون يصلي ...» (3) قالوا: فجعل الصلاة مانعًا من قتله لما هَمَّ الصحابة بقتله لما رأوا فيه من احتمال كفره.

وأجاب المانعون: بأنه يحتمل أن يكون إباحة قتل تارك الصلاة حدًّا لا لأجل الكفر!!

وأجيبوا بأن من يقتل حدًّا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (4) وليس تارك الصلاة بزان ولا قاتل لنفس فبقي أنه تارك لدينه، ولهذا ليس كل من قال إن تارك الصلاة لا يَكفر، قال إنه يقتل، كما سيأتي.

(د) الأدلة التي تفيد المنع من منابذة ولاة الأمر إلا إذا لم يقيموا الصلاة، ومنها:

12 - حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي

_________

(1) ضعيف: أخرجه النسائي (857)، وأحمد (15800)، والبيهقي (2/ 300) وفيه بُسر بن محجن: مجهول على الأرجح.

(2) ضعيف: وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (921) بتحقيقي، ط. العلم.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676).

 

(1/230)

 

 

وتابع» فقالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا» (1) قالوا: وقد ثبت أنه لا يباح قتالهم إلا إذا كفروا كفرًا ظاهرًا بواحًا، كما في حديث عبادة في ذكر مبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان» (2) فعُلم أن ترك الصلاة من الكفر الأكبر البواح.

(هـ) أن كفر تارك الصلاة هو قول جمهور الصحابة بل حكى غير واحد إجماعهم عليه:

13 - قال عبد الله بن شقيق: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة» (3).

وقال عمر بن الخطاب: «نعم، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة» (4).

وقال ابن مسعود: «من لم يصلِّ فلا دين له» (5).

وقال أبو الدرداء: «لا إيمان لمن لا صلاة له» (6).

وأجاب المانعون: بأن قول جمهور الصحابة ليس بحجة ما لم ينعقد إجماعهم عليه والإجماع غير مسلَّم، لأن ابن حزم إنما نقل هذا القول عن عمر بن الخطاب ومعاذ وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم، وقوله بعد ذلك: لا نعلم لهؤلاء مخالفًا من الصحابة لا يدل على عدم وجود المخال!!

الترجيح:

بعد ذكر طرف من أدلة كل فريق، وشيء من مناقشتهم، فإن الناظر فيما تقدم، يرى أن كلا القولين مما تحتمله الأدلة الواردة في المسألة، وليس يسهل هنا القطع بصواب أحدهما وخطأ الآخر - على أن ترجيح مثلي لن يعطى قولاً زيادة قوة- لكن الأرجح في نظري من جهة الأصول: القول بكفره، لا سيما إذا استتابه الإمام، لأن من كان مقرًّ بالصلاة في الباطن، معتقدًا وجوبها، يمتنع أن يصرَّ على تركها حتى يقتل، إذ لا يعقل أن يُدعى تارك الصلاة على رءوس الملأ، وهو

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1854)، والترمذي (2266)، وأبو داود (4760).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (7055)، ومسلم (1709).

(3) إسناده صحيح: وقد تقدم.

(4) إسناده صحيح: وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (923 - 931) بتحقيقي.

(5) في سنده لين: وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (935 - 937) بتحقيقي.

(6) إسناده حسن: وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (945) بتحقيقي.

 

(1/231)

 

 

يرى بارقة السيف على رأسه ويشد للقتل وتعصب عيناه، ويقال له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول اقتلوني ولا أصلي أبدًا، ثم يكون بعد ذلك مسلمًا (؟!!) (1).

تنبيه:

المقصود بتارك الصلاة المحكوم بكفره، من كان مُصرًّا على تركها لا يصلي قط مع ادعائه الإيمان بأنها واجبة، وأما أكثر الناس الذين يصلون تارة ويتركونها تارة، فهؤلاء غير محافظين عليها، وهم تحت الوعيد لكن لا يحكم بكفرهم (2).

فليس مناط التكفير في ترك الصلاة هو مطلق الترك، وإنما مناطه الترك المطلق، الذي هو بمعنى ترك الصلاة من حيث الجملة، الذي يتحقق بترك الصلاة بالكلية أو بالإصرار على عدم إقامتها، أو بتركها في الأعم الأغلب بحيث يصدق على من تركها أن يقال: إنه قد ضيَّع الصلاة وتولى عن إقامتها، وهذا المناط يفهم من قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (3). فجعل التوليِّ هو مناط الكفر، ومعلوم أنه ليس كل من ترك الصلاة أو بعض صلوات يكون متوليًا عن أداء الصلاة من حيث الجملة (4)، والله أعلم.

 

الأحكام الدنيوية لتارك الصلاة:

ما تقدم ذكره هو الأحكام الأخروية لتارك الصلاة، وأما ما يترتب على ترك الصلاة من الأحكام في الدنيا، فعلى ما يأتي:

[1] عند القائلين بأنه فاسق وليس بكافر:

تارك الصلاة -عند هؤلاء- فاسق عاصٍ، فهو كغيره من عصاة المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، لكنهم اختلفوا فيما يفعله الإمام تجاهه على قولين:

(أ) أنه يقتل حدًّا: فعند المالكية والشافعية يطالب بأداء الصلاة إذا ضاق الوقت، ويتوعد بالقتل إن أخرها عن الوقت، فإن أخر حتى خرج الوقت استوجب القتل، ولا يقتل حتى يستتاب في الحال، فإن أصر حدًّا وقيل يمهل ثلاثة أيام. وعند بعض الحنابلة -الذين لا يكفرون منهم- يُدعى ويقال له: صلِّ وإلا قتلناك، فإن صلى وإلا وجب قتله، ولا يقتل حتى يحبس ثلاثًا، ويُدعى

_________

(1) انظر «مجموع الفتاوى» (22/ 48، 49)، و «الصلاة» لابن القيم (ص: 41).

(2) انظر «مجموع الفتاوى» (22/ 49).

(3) سورة القيامة، الآيتان: 31، 32.

(4) «ضوابط التكفير» للقرني (ص: 159 - 161) بتصرف.

 

(1/232)

 

 

في وقت كل صلاة، فإن صلى وإلا قتل حدًّ، واختلفوا في كيفية قتله، فقال جمهورهم: يضرب عنقه بالسيف.

وعند هؤلاء جميعًا، إذا قتل فإنه يُغسَّل ويُصلَّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، ويورث.

(ب) أنه لا يقتل وإنما يُعزَّر ويحبس حتى يموت أو يتوب: وهو مذهب الزهري وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة وداود الظاهري والمزني وابن حزم، واستدلوا بحديث «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: ...» الحديث وقد تقدم، وبما في معناه، كحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» (1).

[2] عند القائلين بكفره: فتجرى عليه أحكام الكافر المرتد، ومن ذلك (2):

1 - سقوط ولايته فلا يتولى ما يشترط فيه الولاية فلا يزوج أحدًا من بناته، ولا يولى على القاصرين من أولاده ونحو ذلك.

2 - لا يرث ولا يورث لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (3).

3 - يُحرم من دخول مكة.

4 - تحرم ذبيحته، بخلاف المسلم والكتابي.

5 - لا يُصلى عليه بعد موته ولا يُدعى له بعد موته.

6 - تحريم زواجه بالمسلمات لأنه كافر، والكافرة كذلك يحرم على الرجل المسلم نكاحها، وإذا ارتد أحد الزوجين انفسخ العقد عند الأئمة الأربعة.

وأما الإمام: فيدعو تارك الصلاة ويقول له: صلِّ وإلا قتلناك، فإن تاب وصلَّى وإلا قتله ردَّةً، ليس ذلك لأحد من عامة الناس وإنما للحاكم فقط فلينتبه!!

على من تجب الصلاة؟ تجب الصلاة على كل عاقل، بالغ، ذكر أو أنثى حر أو عبد.

1 - فأمل العقل: فهو شرط لوجوب الصلاة على المرء، فلا تجب على المجنون

_________

(1) صحيح أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22).

(2) «رسالة ابن عثيمين» (ص: 20 - 24) مع رسالة الشيخ ممدوح.

(3) صحيح أخرجه البخاري (4283)، ومسلم (1614).

 

(1/233)

 

 

إجماعًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر (وفي رواية: يحتلم) وعن المجنون حتى يعقل» (1).

واختلف العلماء فيمن تغطىَّ عقله بمرض أو إغماء أو دواء مباح، والصحيح أن المغمى عليه ونحوه ممن زال عقله لا يعقل ولا يفهم، فالخطاب عنه مرتفع، وإذا كان غير مخاطب في وقتها، فلا يجب عليه أداؤها في غير وقتها، فإن أفاق وعقل في وقت يدرك فيه -بعد الطهارة- الدخول في الصلاة لزمه أداؤها.

وأما من سكر أو نام عن الصلاة أو نسيها حتى خرج وقتها، فهؤلاء -خاصة- يجب أن يصلوُّا ما فاتهم، للنص:

قال الله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (2). فلم يبح الله تعالى للسكران أن يصلي حتى يعلم ما يقول، فإن أفاق صلاها.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا نسي أحكم صلاة أو نام عنها فليصلِّها إذا ذكرها (3).

بهذا قال المالكية والشافعية [إلا أنهم فرقوا بين السكر المتعدِّي به والسكر بلا تعدٍّ!!] وبه قال ابن حزم (4) واختار العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- أنه إن زال عقله بفعله واختياره بتناول البنج أو الدواء المخدر فعليه القضاء، وإن كان بغير اختياره فلا قضاء عليه.

2 - وأما البلوغ: فهو شرط لوجوب الصلاة بلا خلاف، فلا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ، للأدلة الدالة على رفع قلم التكليف عن الصبي، وقد تقدم الحديث فيه.

تعليم الصبي الصلاة وأمره بها:

الصبي وإن كان لا تجب عليه الصلاة، إلا أنه يجب على وليِّه أن يأمره بها إذا بلغ سبع سنين، ويضربه عليها -تأديبًا له- إذا بلغ عشرًا ليعتادها إذا بلغ لقوله صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة ابن سبع سنين، واضربوا عليها ابن عشر» (5) وهذا

_________

(1) صحيح أخرجه أبو داود (4398)، والنسائي (6/ 156)، وابن ماجه (2041) وغيرهم.

(2) سورة النساء، الآية: 43.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (684).

(4) «حاشية الدسوقي» (1/ 184)، و «مغنى المحتاج» (1/ 131)، و «المحلى» (2/ 233 - 234)، و «الممتع» (2/ 18).

(5) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (494)، و «الترمذي» (407) عن سبرة بن معبد وله شاهد عن عبد الله عمرو.

 

(1/234)

 

 

مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والحنابلة، أما المالكية فحملوا الأمر في هذا الحديث على الندب والاستحباب (1)، وهذا لو صح لهم في قوله (مروهم) لم يصح لهم في قوله (واضربوهم) لأن الضرب إيلام الغير وهو لا يباح للأمر المندوب.

والظاهر أنهم استشكلوا أمر الصبي بالصلاة وضربه عليها وهو غير مكلف؟!!

والجواب: أن ذلك إنما يلزم لو اتحد المحل وهو هنا مختلف، فإن محلَّ الوجوب الولي -وهو مكلف- ومحل عدمه ابن العشر، ولا يلزم من عدم الوجوب على الصغير عدمه على الولي، فيجب على الولي ضربه عليها (2)، لكن الصبي لا يأثم بترك الصلاة والله أعلم.

تنبيه: جعل بعض الفقهاء الإسلام شرطًا لإيجاب الصلاة على المرء، قالوا: فلا تجب على الكافر الأصلي، قالوا: فلهذا لا يؤمر الكافر إذا أسلم بقضائها. وعدم إيجابها على الكافر مخالف لما صحَّ في الأصول أن الكفَّار مخاطبون بفروع الشريعة، فهي واجبة عليهم وهم معاقبون على تركها في الآخرة (3).

على أن الشافعية والحنابلة (4) قد صرَّحوا بأن الصلاة لا تجب على الكافر الأصلي وجوب مطالبة بها في الدنيا لعدم صحتها منه، لكن يعاقب على تركها في الآخرة زيادة على كفره، لتمكنه من فعلها بالإسلام.

فعلى هذا يكون الخلاف معهم لفظيًّا، فالصلاة واجبة على الكافر لكنها لا تصح منه، فكان الإسلام شرط صحة لا شرط وجوب، والله أعلم.

قلت: وأما كون الكافر لا يؤمر بقضائها إذا أسلم فللنص -وسيأتي- ولأنه لم يعتقد وجوبها ولأنه تعمد إخراج الصلاة عن وقتها -وقد وجبت عليه- بغير عذر فلا يقدر على قضائها كما سيأتي تحقيق هذا.

 

عدد الفرائض:

الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس، وهي: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر (5).

_________

(1) «حاشية ابن عابدين» (1/ 234)، و «الدسوقي» (1/ 186)، و «مغنى المحتاج» (1/ 131)، و «كشاف القناع» (1/ 225).

(2) «نيل الأوطار» (1/ 369 - 370) بتصرف وانظر «السيل الجرار» (1/ 156).

(3) «السيل الجرار» (1/ 155).

(4) «مغنى المحتاج» (1/ 130)، و «كشاف القناع» (1/ 222).

(5) هذا عند الجمهور، وقال أبو حنيفة وأصحابه: الوتر واجب مع الخمس، وسيأتي تحريره.

 

(1/235)

 

 

وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع، وهي معلومة من الدين بالضرورة، يكفر جاحدها (1).

1 - عن أبي رزين قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال ابن عباس: نعم، ثم قرأ عليه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ}: المغرب، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: الفجر، {وَعَشِيّاً}: العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: الظهر، {وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} (2).

2 - عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرني ما فرض الله عليَّ من الصلوات؟ فقال: «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تَطَوَّع» (3).

3 - عن أنس بن مالك: أن الصلاة فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به خمسين ثم نقصت حتى جعلت خمسًا، ثم نودي: «يا محمد، إنه لا يبدل القول لدي، وإن لك بهذه الخمس خمسين» (4).

 

عدد الركعات:

قال ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 318):

«أجمع أهل العلم على أن صلاة الظهر أربع ركعات يُخافت فيها بالقراءة، ويجلس فيها جلستين في ل مثنى جلسة للتشهد، وأن عدد صلاة العصر أربعًا كصلاة الظهر لا يجهر فيها بالقراءة، ويجلس فيها جلستين في كل مثنى جلسة للتشهد، وأن عدد صلاة المغرب ثلاثًا يجهر في الركعتين الأوليين منها بالقراءة ويُخافت في الثالثة، ويجلس في الركعتين الأوليين جلسة للتشهد وفي الآخرة جلسة، وأن عدد صلاة العشاء أربعًا يجهر في الركعتين الأوليين منها بالقراءة ويُخافت في الأُخريين، ويجلس فيها جلستين كل مثنى جلسة للتشهد، وأن عدد صلاة الصبح ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ويجلس فيها جلسة واحدة للتشهد، هذا

_________

(1) «البدائع» (1/ 91)، و «الفواكه الدواني» (1/ 192)، و «مغنى المحتاج» (1/ 121)، و «المغنى» (1/ 370).

(2) إسناده حسن: أخرجه الطبري في «التفسير» (21/ 20)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 322)، والبيهقي في «الكبرى» (1/ 359)، والطبراني في «الكبير» (10/ 304).

(3) صحيح أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11).

(4) صحيح: أخرج نحوه البخاري (349)، ومسلم (162) مطولاً.

 

(1/236)

 

 

فرض المقيم، فأما المسافر ففرضه ركعتين إلا صلاة المغرب فإن فرض المسافر في صلاة الغرب كفرض المقيم» اهـ.

 

مواقيت الصلاة

اتفق المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتًا لابد أن تؤدى فيها، والأصل في هذا قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (1) وإليك تحديد هذه الأوقات وبيان معالمها:

[1] صلاة الظهر:

الظهر: ساعة الزوال ووقته، والمراد بالزوال: ميل الشمس عن كبد السماء إلى المغرب (2).

وصلاة الظهر هي التي تجب بدخول وقت الظهر، وتسمى صلاة الظهر -أيضًا- (الأولى) لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى (الهجيرة) فعن أبي برزة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العجيرة التي يدعونها: الأولى حين تدحض الشمس أو تزول» (3).

أول وقت الظهر: هو زوال الشمس، أي: ميلها عن وسط السماء جهة الغرب، وقد أجمع العلماء على ذلك لثبوت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الظهر حين زالت الشمس، كما في حديث أبي برزة السابق.

وعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفَّر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان» (4).

آخر وقت الظهر: اختلف أهل العلم فيه، وأصح الأقوال: أن آخره أن يصير

_________

(1) سورة النساء، الآية: 103.

(2) «المصباح المنير»، و «المجموع» (3/ 24)، و «المغنى» (1/ 372).

(3) صحيح أخرجه البخاري (541).

(4) صحيح أخرجه مسلم (612).

 

(1/237)

 

 

ظل الشيء مثله سوى مقدار الظل حين الزوال (1)، وهو وقت دخول العصر، وهذا مذهب الجمهور خلافًا لأبي حنيفة فعنده: آخره أن يكون ظل الشيء مثليه سوى فيء الزوال (2). واستدل الجمهور بما يلي:

1 - حديث ابن عمر السابق: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر ...».

2 - حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس وكان الفيء قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك وظل الرجل، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، ثم صلى من الغد الظهر حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه قدر ما يسير الراكب سير العنق إلى ذي الحليفة، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل -شك زيد- ثم صلى الفجر فأسفر» (3).

وهو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم فرغ من الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، وشرع في العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، فلا اشتراك بينهما (4). ولا يقال: إنه إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر ولم يخرج وقت الظهر بل يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعات صالح للظهر والعصر أداء، كما قال بعضهم (5)، ويؤيد ما ذكرنا حديث أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما التفريط على من لم يصلِّ صلاة حتى يجيء وقت الأخرى» (6) قلت: فتعيَّن الحمل المتقدم.

_________

(1) يكون لكل شيء ظل قبل الظهر، ويتناقص هذا الظل، ثم يبدأ في الزيادة، فهذا هو فيء الزوال وهو أول وقت الظهر، فإذا زاد الظل عن هذا المقدار، بما يساوي طول الشيء، فهذا آخر وقت الظهر.

(2) «مواهب الجليل» (1/ 382)، و «مغنى المحتاج» (1/ 121)، و «المغنى» (1/ 371)، و «الأوسط» (2/ 327)، و «بدائع الصنائع» (1/ 123)، و «الأصل» (1/ 144).

(3) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 261)، وانظر «الإرواء» (1/ 270).

(4) «نيل الأوطار» (1/ 347).

(5) عزا النووي في شرح مسلم هذا القول لمالك وكذا حكام في «بداية المجتهد» (1/ 125) عن مالك، والذي عزاه ابن المنذر (2/ 327) له أنه قال: يخرج وقت الظهر؟!! فليحرر.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (595)، ومسلم (681) في حديث طويل.

 

(1/238)

 

 

فائدة: يمكن معرفة وقت الظهر بطريقة الحساب بالساعات، وذلك بأن يُحسب الوقت بين طلوع الشمس إلى غروبها، فيكون وقت الظهر في منتصفه تمامًا.

يستحب تعجيل الظهر في أول الوقت: لحديث جابر بن سمرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس» (1) أي: مالت عن وسط السماء جهة المغرب. ونحوه حديث أبي برزة، وقد تقدم قريبًا.

ويُستحب تأخيرها إذا اشتد الحرُّ:

لحديث أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البر بكَّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة» (2).

وحديث أبي ذر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن الظهر، فقال: «أبرد» مرتين أو ثلاثًا، حتى رأينا فيء التلول، ثم قال: «شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة» (3).

وحدُّ الإبراد: الصحيح فيه أنه يختلف باختلاف الأحوال بشرط أن لا يمتد إلى آخر الوقت.

[2] صلاة العصر:

العصر: يطلق على العشى إلى احمرار الشمس، وهو آخر ساعات النهار.

وصلاة العصر هي التي تجب بدخول وقت العصر، وتسمى الصلاة الوسطى.

أول وقت العصر: إذا صار ظل الشيء مثله - عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة في المشهور عنه فقد جعل أوله أن يصير ظل الشيء مثليه (!!) - والأدلة المتقدمة غب وقت الظهر تدل على قول الجمهور (4).

آخر وقت العصر:

تعارضت ظواهر الأحاديث في آخر وقت العصر.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (618)، وأبو داود (403)، وابن ماجه (673).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (906) ونحوه عند البخاري (534)، ومسلم (615) عن جابر.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (539)، ومسلم (616).

(4) «جواهر الإكليل» (1/ 32)، و «مغنى المحتاج» (1/ 121)، و «المغنى» (1/ 375)، و «فتح القدير» (1/ 195).

 

(1/239)

 

 

ففي حديث جابر في إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: «أنه صلى العصر في اليوم الأول عند مصير ظل الشيء مثله، واليوم الثاني عند مصير ظل الشيء مثليه .... ثم قال: الوقت بين هذين الوقتين» (1) وبه قال الشافعي [لكن هذا عند وقت الاختيار] ومالك في إحدى الروايتين (2).

وفي حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «... وقت العصر ما لم تصفَّر الشمس» (3) وبه قال أحمد وأبو ثور ورواية عن مالك (4)، ونحوه حديث أبي موسى في قصة السائل عن مواقيت الصلاة وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في اليوم الأول العصر والشمس مرتفعة، وفي اليوم الثاني آخر العصر فانصرف منها والقائل يقول: احمرَّت الشمس ... الحديث» (5).

وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» (6) فقال إسحاق وأهل الظاهر (7): آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة.

قلت: والذي تجتمع عليه هذه الأدلة كلها وغيرها أن يُحمل حديث جبريل على بيان وقت الاختيار، وحديث ابن عمرو على وقت الجواز، وحديث أبي هريرة على وقت العذر والاضطرار، فنقول: آخر الوقت المختار مصير ظل الشيء مثليه -بعد اطراح فيء الزوال- ويمتد إلى اصفرار الشمس، ويكره التأخير إلى ما بعد ذلك لغير عذر، لحديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله إلا قليلاً» (8).

فإذا كان هناك عذر أو ضرورة جاز أداؤها -من غير كراهة- قبل غروب الشمس بمقدار ركعة. والله أعلم.

_________

(1) صحيح: وقد سبق تخريجه.

(2) «بداية المجتهد» (1/ 126)، و «الأم» (1/ 73).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) «بداية المجتهد» (1/ 126)، و «المغنى» (1/ 376)، و «الأوسط» (2/ 331) وحكى في المسألة ستة أقوال.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (614)، وأبو داود (395)، والنسائي (1/ 260).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (579)، ومسلم (163 - 608).

(7) «بداية المجتهد» (1/ 126)، و «الأوسط» (2/ 332)، و «المحلى».

(8) صحيح: أخرجه مسلم (622)، وأبو داود (409)، والترمذي (160)، والنسائي (1/ 254).

 

(1/240)

 

 

ويستحب التبكير بالعصر:

1 - لحديث أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة» (1) وبعض العوالي على أربعة أميال من المدينة.

2 - وعن رافع بن خديج قال: «كنَّا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ننحر الجزور فنقسم عشر قِسَم، ثم نطبخ فنأكل لحمه نضيجًا قبل مغيب الشمس» (2).

ويتأكد تعجيلها في يوم الغيم: لأنه مظنة التباس الوقت، فإذا وقع التراخي، فربما خرج الوقت أو اصفرَّت الشمس قبل الصلاة، فعن أبي المليح قال: كنا مع بُريدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكِّروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» (3).

الترغيب في المحافظة على صلاة العصر، والترهيب من تفويتها:

1 - قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ} (4). والصلاة الوسطى هي صلاة العصر -على الصحيح- لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما شغله الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر» (5).

2 - وعن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالمخمص، فقال: «إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيَّعوها، فمن حافظ عليها كان له أره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد» (6) والشاهد: النجم.

3 - عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» يعني: الفجر والعصر (7).

4 - وتقدم حديث بريدة مرفوعًا: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله».

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (550)، ومسلم (621).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (2485)، ومسلم (625).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (553)، والنسائي (1/ 83)، وأحمد (5/ 349).

(4) سورة البقرة، الآية: 238.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (2931)، ومسلم (627) واللفظ له.

(6) صحيح: أخرجه مسلم (830).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (643).

 

(1/241)

 

 

قال ابن القيم (1): «والذي يظهر في الحديث -والله أعلم بمراد رسوله- أن الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبدًا، فهذا يحبط العمل جميعه، وترك معين في يوم معين، فهذا يحبط عمل ذلك اليوم، فالحبوط العام في مقابلة الترك العام، والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين، فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم، قد دلَّ القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} (2). وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (3).

قلت: هذا فيمن تركها مضيعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها، والله أعلم.

5 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه» (4) أي: فكأنما سُلب أهله وماله فأصبح بلا أهل ولا مال، وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها (5) على النحو الذي تقدم.

أو يقال: المعنى: فليكن حذره من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله.

[3] صلاة المغرب: المغرب في الأصل: مِن غربت الشمس: إذا غابت وتوارت، ويطلق في اللغة على وقت الغروب ومَكانه، وعلى الصلاة التي تؤدى في هذا الوقت (6).

ويطلق على المغرب كذلك العشاء، لكن يكره هذا لقوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب» وتقول الأعراب: هي العشاء.

أول وقت المغرب: إذا غربت الشمس وغابت وتكامل غروبها، بالإجماع.

وهذا ظاهر في الصحاري، ويعرف في العمران بزوال الشعاع من رءوس الجبال وإقبال الظلام من المشرق، وطلوع النجم (7).

_________

(1) «الصلاة وحكم تاركها» (ص: 43 - 44).

(2) سورة البقرة، الآية: 264.

(3) سورة الحجرات، الآية: 2.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (552)، ومسلم (626/ 200).

(5) «الصلاة» لابن القيم (44).

(6) «المصباح المنير»، «كشاف القناع» (1/ 253).

(7) «البدائع» (1/ 123)، و «المغنى» (1/ 381)، و «نيل الأوطار (2/ 5، 6).

 

(1/242)

 

 

آخر وقت المغرب: اختلف فيه العلماء على قولين:

الأول: أن للمغرب وقتًا واحدًا، بعد الغروب بقدر ما يتطهر المصلي ويستر عورته ويؤذن ويقيم للصلاة، وهو مذهب مالك والأوزاعي والشافعي (1)، وحجتهم حديث إمامة جبريل -وقد تقدم- وفيه أنه صلى في اليوم الأول والثاني المغرب حين غربت الشمس وقتًا واحدًا وبما رواه سويد بن غفلة قال سمعت عمر ابن الخطاب يقول: «صلوا هذه الصلاة والفجاج مسفرة، يعني المغرب» (2).

الثاني: آخره إلى أن يغيب الشفق: وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي وبعض أصحاب الشافعي وصححه النووي واختاره ابن المنذر (3)، وهو الصحيح، والدليل عليه:

1 - حديث ابن عمرو مرفوعًا: «ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق ...» الحديث، وقد تقدم.

2 - حديث أبي موسى في السائل عن مواقيت الصلاة، وفيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في اليوم الأول المغرب حين وقبت (أي: غربت) الشمس، وفي اليوم الثاني آخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ...» وقد تقدم تخريجه، ومثله في حديث بريدة (4).

3 - حديث زيد بن ثابت أنه قال لمروان: ما لك تقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصَّل؟ و «قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولي الطوليين»؟ يعني: الأعراف (5).

وقد كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مبينة حرفًا حرفًا بترتيل مع إتمام ركوع وسجود، فهذا يدل على أن وقت المغرب ممتد إلى غياب الشفق.

4 - حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قُدِّم العشاء، فابدءوا به قبل صلاة المغرب، ولا تعجَّلُوا عن عشائكم» (6) وفي لفظ من حديث عائشة «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء» (7) وهو صريح في جواز تأخير صلاة المغرب إلى ما بعد الطعام بعد دخول وقته.

_________

(1) «بداية المجتهد» (10/ 126)، و «المجموع» (3/ 28)، و «الأوسط» (2/ 335).

(2) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (2092)، وابن أبي شيبة (1/ 329).

(3) «بداية المجتهد» (1/ 127)، و «المجموع» (3/ 28)، و «الأوسط» (2/ 337).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (613)، والترمذي (152)، والنسائي (1/ 258).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (764)، والنسائي (2/ 170)، وأحمد (5/ 188).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (672)، ومسلم (557).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (671).

 

(1/243)

 

 

5 - حديث معاذ «أنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم» (1).

يستحب تعجيل المغرب:

1 - فعن رافع بن خديج قال: «كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله» (2).

2 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال أمتي بخير - أو على الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» (3).

[4] صلاة العشاء: العشاء: اسم لأول الظلام من المغرب إلى العتمة، وسميت الصلاة بذلك لأنها تفعَل في هذا الوقت.

ويقال للصلاة أيضًا: (العشاء الآخرة) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» (4).

ويقال لها كذلك: (العتمة) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوًا» (5) لكن قد ورد كراهية ذلك في حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يُعتمون بالإبل» (6) والتحقيق أن إطلاق العتمة على العشاء خلاف الأَولى لهذا الحديث كما ذهب إليه مالك والشافعي واختاره ابن المنذر ورجَّحه ابن حجر.

أول وقت العشاء: أجمع أهل العلم -إلا من شذ منهم- على أن أول وقت العشاء الآخرة إذا غاب الشفق.

لكنهم اختلفوا في الشفق (7)؟! فالجمهور على أنه: الحُمرة، وأبو حنيفة وزفر والأوزاعي قالوا: هو البياض بعد الحمرة.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (711)، ومسلم (465).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (559)، ومسلم (637).

(3) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (414)، وأحمد (4/ 147).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (444)، وأبو داود (4175)، والنسائي (5128).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (615، 721)، ومسلم (437).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (228)، والنسائي (1/ 270)، وابن ماجه (705).

(7) انظر: «الأوسط» (2/ 339 - 342)، و «المجموع» (3/ 44 - 45).

 

(1/244)

 

 

قلت: والأول هو الصواب، لأن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى حين غاب الشفق، وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول (1)، وقد ثبت في حديث عائشة أنهم: «كانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول» (2) فصح يقينًا أن الشفق: الحمرة لا البياض، والله أعلم.

آخر وقت العشاء: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال مشهورة:

الأول: آخره إلى ثلث الليل: وبه قال الشافعي في الجديد [إلا أن هذه عنده وقت الاختيار، هذا المذهب، لكن الذي صرَّح به في «الأم» أنه إذا مضى الثل فهي فائتة] وأبو حنيفة والمشهور من مذهب مالك (3) وحجتهم: حديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه «أنه صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني ثلث الليل».

الثاني: آخره نصف الليل: وبه قال الثوري وابن المبارك وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي والشافعي في القديم [إلا أنه عند أصحاب الرأي يجزئ بعده مع الكراهة وعند الشافعي: هو وقت الاختيار وأنه لا يفوته إلى الفجر] وابن حزم.

وحجتهم: حديث عبد الله بن عمرة -الذي تقدم كثيرًا- وفيه: «ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ...» وحديث أنس قال: «أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ...» (4)، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: «... وأن صلِّ العشاء ما بينك وبين ثلث الليل، وإن أخَّرت فإلى شطر الليل، ولا تكن من الغافلين» (5).

الثالث: آخره طلوع الفجر الصادق (ولو لغير اضطرار»: وهو قول عطاء وطاوس وعكرمة وداود الظاهري، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة، واختاره ابن المنذر (6) وحجتهم:

_________

(1) هذه الحقيقة نقلها في «نيل الأوطار» (2/ 16) عن ابن سيد الناس في «شرح الترمذي» ثم رأيت ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/ 127) يكذبها فليحرر!!

(2) صحيح: أخرجه البخاري (569)، ومسلم (218).

(3) «الأوسط» (2/ 343)، و «الأم» (1/ 74)، و «بداية المجتهد» (1/ 128)، و «المجموع» (3/ 42).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (572).

(5) إسناده صحيح: أخرجه مالك والطحاوي وابن حزم بسند صحيح كما في «تمام المنة» (ص: 142).

(6) «الأوسط» (2/ 346)، و «بداية المجتهد» (1/ 128).

 

(1/245)

 

 

1 - حديث أبي قتادة مرفوعًا: «إنما التفريط على من لم يصل صلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى» (1).

2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى شطر الليل» (2).

قالوا: هو دليل على أنه لا حرج على من أخرها إلى شطر الليل، وإذا كان خروجه إليهم بعد انتصاف الليل، فصلاته بعد شطر الليل، وإن كان كذلك ثبت أن وقتها إلى طلوع الفجر (3).

3 - حديث عائشة قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: «إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي» (4).

الترجيح: أقوى الأحاديث السابقة دلالة على تحديد آخر وقت العشاء هو حديث عبد الله بن عمرو: «ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ...» ورجَّحه الشوكاني لكنه جعله آخر وقت الاختيار، وأما وقت الجواز فممتد إلى الفجر مستدلاًّ بحديث أبي قتادة المتقدم، وقال: «فإنه ظاهر في امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا صلاة الفجر، فإنها مخصوصة من هذا العموم بالإجماع» اهـ.

قلت (5): أما الاستدلال بحديث أبي قتادة على أن وقت العشاء ممتد إلى طلوع الفجر، ففيه نظر، إذ ليس فيه بيان أوقات الصلاة، ولا سيق لأجل ذلك، وإنما لبيان إثم من يؤخر الصلاة حتى يخرجها عامدًا عن وقتها مطلقًا سواء كان يعقبها صلاة أخرى مثل العصر مع المغرب، أو لا، مثل الصبح مع الظهر، وهم نائمون في سفرهم، واستعظم الصحابة رضي الله عنهم وقوع ذلك منهم، فذكره، فلو كان المراد ما ذهبوا إليه من امتداد كل صلاة إلى دخول الأخرى، لكان نصًّا صريحًا على امتداد ذهبوا إليه من امتداد كل صلاة إلى دخول الأخرى، لكان نصًّا صريحًا على امتداد

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه.

(2) صحيح: يأتي قريبًا.

(3) «الأوسط» لابن المنذر (2/ 346).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (219)، والنسائي (1/ 267).

(5) مستفاد من كلام العلامة الألباني في «تمام المنة» (ص: 141) وقد نقل معناه عن ابن حزم (3/ 178).

 

(1/246)

 

 

وقت الصبح إلى وقت الظهر وهم لا يقولون بذلك، ولذلك اضطروا إلى استثناء صلاة الصبح من ذلك، وهذا الاستثناء على ما بيَّنا من سبب الحديث يعود عليه بالإبطال، لأنه إنما ورد في خصوص صلاة الصبح، فكيف يصح استثناؤها؟! فالحق أن الحديث لم يرد من أجل التحديد، بل لإنكار إخراج الصلاة عن وقتها مطلقًا. اهـ.

قلت (أبو مالك): وأما حديث عائشة «حتى ذهب عامة الليل ....» فالمراد بعامة الليل: كثير منه وليس المراد أكثرهُ، ولابد من هذا التأويل لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه لوقتها» ولا يجوز أن يكون المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل، لأنه لم يقل أحد من العلماء: إن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل (1).

فلا يبقى عند القائلين بامتداد وقت العشاء إلى الفجر (سواء للاختيار أو الضرورة) إلا حديث أنس: «أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلَّى ...» (2) فإن صح حمله على أنه انتهى من الصلاة نصف الليل، ويكون قوله (ثم صلَّى) من تصرَّف الرواة، وإلا فالقول قولهم، والله أعلم.

ويستحب تأخير العشاء:

قد ورد في تأخير العشاء أخبار كثيرة صحاح، وهو مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين (3)، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» (4) والحكمة فيه أنه أنفع في تصفية الباطن من الأشغال المُنْسية لذكر الله تعالى، وأقطع لمادة السمر بعد العشاء، لكن التأخير ربما يفضي إلى تقليل الجماعة، وتنفير القوم، فلهذا: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخِّر العشاء أحيانًا، وأحيانًا يعجِّل: إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطأوا أخَّر ...» (5).

ويكره النومُ قبلها والحديثُ بعدها: لحديث أبي برزة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها» (6) والعلة في كراهة النوم قبل صلاة

_________

(1) «شرح مسلم» للنووي.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (572).

(3) «تبيين الحقائق» للزيلعي (1/ 84).

(4) صحيح: أخرجه الترمذي (167)، وابن ماجه (691)، وأحمد (2/ 245).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (560)، ومسلم (233) من حديث جابر.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (568)، ومسلم (237).

 

(1/247)

 

 

العشاء خشية أن يذهب به النوم فيفوته وقتها، أو يترخَّص الناس في ذلك فيناموا عن إقامة جماعتها (1).

وأما كراهة الحديث بعدها، فلأنه ربما يؤدى إلى سهر يفوت به الصبح، أو لئلا يقع في كلامه لغو، فلا ينبغي ختم اليقظة به، أو لأنه يفوت به قيام الليل لمن له به عادة، ولتقع الصلاة التي هي أفضل الأعمال خاتمة عمله، والنوم أخو الموت، وربما مات في نومه (2). وهذا إذا كان الحديث مما لا فائدة فيه، فإن كان لحاجة دينية عامة أو خاصة، أو لما يعود على صاحبه بفائدة أو إلى مصالح المسلمين، فهذا لا بأس به، فقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر وعمر في أمر من أمور المسلمين» (3).

وفي حديث ابن عابس أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث مع أهله -ميمونة- ساعة ثم رقد ...» (4).

[5] صلاة الفجر: الفجر في الأصل: هو الشفق، والمراد به ضوء الصباح، والفجر في آخر الليل كالشفق في أوله.

والفجر اثنان (5): الفجر الأول (الكاذب) وهو البياض المستطيل الذي يبدو في ناحية من السماء -وهو ما يسمى عند العرب بذنب السرحان (الذئب) - ثم ينكتم فيعقبه الظلام.

والفجر الثاني (الصادق): وهو البياض المستطير المعترض في الأفق، ولا يزال يزداد نوره حتى تطلع الشمس، وفي الحديث: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق» (6).

وهذا الفجر الثاني هو الذي تتعلق الأحكام كلها به، لا الأول الكاذب.

ويطلق الفجر على صلاة الفجر لأنها تؤدى في هذا الوقت، وتسمى صلاة الصبح والغداة.

_________

(1) «تبيين الحقائق» (1/ 84)، و «الفواكه الدواني» (1/ 197)، و «نيل الأوطار» (2/ 18).

(2) السابق، و «المجموع» (3/ 42)، و «مغنى المحتاج» (1/ 125).

(3) أخرجه الترمذي (169)، وأحمد (1/ 26) وفيه انقطاع، وله شواهد.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (190).

(5) «البدائع» (1/ 122)، و «مغنى المحتاج» (1/ 124)، و «الفواكه» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 255).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (1094)، والترمذي (706) واللفظ له، وأبو داود (2346)، والنسائي (2171) وغيرهم.

 

(1/248)

 

 

أول وقت الفجر: أجمع أهل العلم على أن أول وقت صلاة الصبح: طلوع الفجر الصادق.

آخر وقت الفجر: وأجمعوا على أن آخر وقتها طلوع الشمس.

يستحب التبكير بصلاة الصبح (التغليس):

ذهب جمهور العلماء منهم: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور (1)، إلى أن أداء صلاة الفجر بغلس أفضل من الإسفار بها (2)، وهو روي عن الخلفاء الأربعة وابن مسعود، وحجتهم:

(أ) أن الأخبار قد دلَّت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغَلس، ومن ذلك:

1 - حديث عائشة قالت: «كُنَّ نساءُ المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، متلفعات بمروطهنَّ ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحدٌ من الغَلَس» (3).

2 - حديث أبي برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح ثم ينصرف، وما يعرف الرجل منا جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة» (4).

3 - حديث أنس عن زيد بن ثابت قال: «تسحَّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قُمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان مقدار ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية» (5).

والمدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة وهي قراءة الخمسين آية هي مقدار الوضوء، فأشعر ذلك بأنه صلاها في أول وقت الصبح.

4 - حديث أبي مسعود الأنصاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلىَّ صلاة الصبح مرةً بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر» (6).

_________

(1) «المدونة» (1/ 56)، و «الأوسط» (2/ 377)، و «مغنى المحتاج» (1/ 125)، و «المغنى» (1/ 394)، و «شرح السنة» للبغوي (1/ 197).

(2) الغلس: اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل، والإسفار: ضوء الصباح.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (578)، ومسلم (230).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (541)، ومسلم (1097).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (576)، ومسلم (47).

(6) حسن: أخرجه أبو داود (394)، وأصله في الصحيحين بدون قوله (ثم كانت صلاته ...).

 

(1/249)

 

 

(ب) أن التبكير بها داخل في عموم الأدلة على استحباب تعجيل الصلوات في أول أوقاتها، وسيأتي بعضها قريبًا.

(جـ) أن التبكير بها هو فعل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم (1).

(د) أن بعض العلماء -كالشافعي وأحمد- يحملون معنى الإسفار على تيقن طلوع الفجر وتبيينُّه، فلما احتمل الإسفار المعنيين كانت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تحتمل إلا معنى واحدًا أولى.

وذهب الثوري وأبو حنيفة وصاحباه إلى أن الإسفار أفضل (2)، واحتجوا بما يلي:

1 - حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» (3) وأجاب ابن حبان عنه فقال: «أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (أسفروا) في الليالي المقمرة التي لا يتبين فيها وضوح طلوع الفجر، لئلا يؤدي المرء صلاة الصبح إلا بعد التيقُّن بالإسفار بطلوع الفجر، فإن الصلاة إذا أُديت كما وصفنا كان أعظم للأجر من أن تُصلىَّ على غير يقين من طلوع الفجر» اهـ (4).

2 - حديث ابن مسعود في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمزدلفة وفيه: «وصلىَّ الفجر يومئذ قبل ميقاتها [بغلس] ....» الحديث. قالوا: فاعتبروا صلاته صلى الله عليه وسلم الفجر بغلس قبل وقتها المعروف عند ابن مسعود، فيكون وقتها المعهود الإسفار.

قلت: وهذا ليس صريحًا في الدلالة، فكونه صلى الفجر بغلس قبل موعده المعهود، لا ينافي أن يكون المعهود الغلس كذلك لكن متأخر عن هذا، ثم إنه يحتمل أن يكون قوله (قبل ميقاتها) على ظاهره!!

وقد جمع الطحاوي -رحمه الله، وهو حنفي- بين أدلة التغليس والإسفار بأن يدخل في الصلاة مغلسًا، ويطول القراءة حتى ينصرف عنها مسفرًا (5).

قلت: وهذا فعل حسن، لكن يقوى مذهب الجمهور بتفضيل تعجيلها بغلس إذ الخلاف في وقت الدخول في الصلاة لا الخروج منها والله أعلم.

_________

(1) انظر الآثار عنهم في «الأوسط» لابن المنذر (2/ 374 - وما بعدها) وورد الإسفار كذلك عن علي وعثمان.

(2) «تبيين الحقائق» للزيلعي (1/ 82)، و «شرح معاني الآثار» (1/ 184)، و «الأوسط» (2/ 377).

(3) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (424)، والترمذي (154)، والنسائي (1/ 272)، وابن ماجه (672).

(4) «صحيح ابن حبان (4/ 359 - الإحسان).

(5) «شرح معاني الآثار» (1/ 184).

 

(1/250)

 

 

مسائل تتعلق بمواقيت الصلاة

[1] الوقت أوكد فرائض الصلاة:

فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (1). ولهذا لم يَجُزْ تأخير الصلاة عن وقتها، ولو لجنابة أو حدث أو نجاسة في الثوب، ولا لفقدان ما تُستر به العورة، ولا غير ذلك، -على الصحيح- بل يصلى في الوقت بحسب حاله (2).

وقد امتدح الله تعالى المحافظين على مواقيت الصلاة، فقال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} (3). {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (4).

قال ابن مسعود: «ذلك على مواقيتها» (5).

بل جعل الصلاة في وقتها أفضل الأعمال، وأحبها إليه سبحانه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ (وفي رواية: أفضل؟) قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أيُّ؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أيُّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» (6).

وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من متابعة الأمراء على تأخير الصلاة -عن وقتها المختار- فعن أبي ذرِّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يُميتون الصلاة (أو يؤخرون الصلاة عن وقتها)؟» قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة» (7).

وبيَّن أنس بن مالك رضي الله عنه أن تأخير الصلاة عن وقتها المختار [لغير عذر] خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تضييع للصلاة، فعن الزهري قال: دخلت على أنس

_________

(1) سورة النساء، الآية: 103.

(2) وهذا اختيار شيخ الإسلام في «الفتاوى» (22/ 30) وعزاه لجماهير أهل العلم، وانظر «الفروع» (1/ 293)، و «الأم» (1/ 79)، و «المجموع» (1/ 182).

(3) سورة المعارج، الآية: 23.

(4) سورة المعارج، الآية: 34.

(5) أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 386)، والطبراني كما في «المجمع» (7/ 129).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (527)، ومسلم (85).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (648)، والترمذي (176)، وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (1007) بتحقيقي.

 

(1/251)

 

 

ابن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: «لا أعرف شيئًا مما أدركت [يعني: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم] إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَتْ» (1).

قلت: فَحَرِيٌّ بمن لنفسه عنده قَدْرٌ وقيمة أن يحافظ على مواقيت الصلاة، وأن يؤديها في أول وقتها -إلا العشاء إذا لم تكن مشقَّة- عملاً بقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (2). وقوله تعالى {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (3). واقتداءً بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والله المستعان.

[2] بمَ تُدرك الصلاة في الوقت؟ لأهل العلم في هذه المسألة قولان:

الأول: تُدرك بتكبيرة الإحرام: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور من مذهب أحمد (4)، وحجتهم:

1 - أن إدراك جزء من الصلاة -وهو تكبيرة الإحرام- كإدراك الكل لأن الصلاة لا تتبعَّض (5).

2 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها» (6).

قالوا: والسجدة جزء من الصلاة، فيقاس عليها تكبيرة الإحرام.

الثاني: تُدرك بإدراك ركعة كاملة في الوقت: وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام (7)، وهو الراجح، لما يأتي:

1 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (8) وجملة (من أدرك ...) شرطية ومفهومها أن من أدرك دون ركعة فإنه لم يدرك، فالإدراك معلق بالركعة الكاملة فعدم اعتبارها إلغاء لما اعتبره الشارع، وتعليق الإدراك بالتكبيرة اعتبار لما ألغاه الشارع.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (530).

(2) سورة البقرة، الآية: 148.

(3) سورة المؤمنون، الآية: 61.

(4) «المجموع» (3/ 49)، و «الأوسط» (2/ 348)، و «الإكليل» (1/ 304).

(5) «المبدع» (1/ 353) لكن عند أبي حنيفة: تفسد صلاته إذا طلعت الشمس وقد بقيت ركعة من الصبح!! وهو خلاف الدليل.

(6) صحيح: أخرجه مسلم (609)، وأحمد (6/ 78).

(7) «مواهب الجليل» (1/ 408)، و «الدسوقي» (1/ 182)، و «الإنصاف» (1/ 439).

(8) صحيح: أخرجه البخاري (580)، ومسلم (607).

 

(1/252)

 

 

2 - أما حديث «من أدرك سجدة ..» فالمراد بها: الركعة الكاملة من باب تسمية الشيء ببعض أجزائه، يدل على هذا أنه قال مرة: «من أدرك ركعة ...» ومرة: «من أدرك سجدة ...» فدلَّ على أن المراد واحد وهو الركعة الكاملة، وقد قال ابن عمر: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها» (1) يعني: ركعتين، والله أعلم.

من أدرك جزءًا من الوقت ثم جاءه عذر:

إذا طرأ عذر -بعد دخول الوقت- كالجنون والإغماء والحيض والنفاس ونحو ذلك، فهنا حالتان:

1 - أن يكون مضى من وقت الصلاة دون قدر الفرض (ما يسع لأقل من ركعة كاملة) فلا يجب عليه القضاء بعد زوال العذر (2).

2 - أن يكون مضى من وقت الصلاة ما يتسع لركعة كاملة، ففي إلزامه بالقضاء قولان تقدما في أبواب «الحيض» (3)، واختار شيخ الإسلام أنه لا يلزمه القضاء، لأنه قد طرأ عليه العذر في وقت يجوز له تأخير الصلاة إليه، وهو غير مفروط ولا مُعتد، ولأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة بقضاء صلاة حاضت في وقتها مع كثرة حدوثه، وهذا قوي وإن كان الأحوط قضاؤها والله أعلم.

[3] الأعذار لتأخير الصلاة عن وقتها:

1، 2 - النوم والنسيان: فمن نام عن الصلاة -أو نسيها- حتى خرج وقتها، فهو معذور، ويجب عليه أداء هذه الصلاة إذا استيقظ من نومه أو ذكرها، لحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» (4).

ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -في سفر- فما أيقظهم إلا حر الشمس- وقد طلعت -فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في نوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها،

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1173).

(2) «المجموع» (3/ 71).

(3) انظر ما تقدم (1/ 209).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (597)، ومسلم (314 - 316).

 

(1/253)

 

 

فإذا كان من الغد فليصلها عند وقتها ...» الحديث (1). وفعل الصلاة في وقت الاستيقاظ أو ذكر الصلاة المنسية هو في الحقيقة أداء لا قضاء لأنه في الوقت الذي لا وقت لها سواه (2).

تنبيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة المتقدم: «... فإذا كان من الغد فليصلها عند وقتها» اضطربت أقوال العلماء في معناه، والصحيح الذي عليه المحققون ما ذكره النووي «أن معناه: أنه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها، ويتحول في المستقبل بل يبقى كما كان، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد، وليس معناه أنه يقضي الصلاة الفائتة مرتين، مرة في الحال ومرة في الغد» (3) اهـ.

3 - الإكراه: فمن أكره على ترك الصلاة، ومُنع من الإيماء بها، أو أكره على التلبس بما ينافيها، فهو معذور (4)، [ويقضي إذا زال عذره] وأما إذا أمكنه الإيماء برأسه فتجب عليه الصلاة في الوقت، وليس عليه إعادتها على الصحيح. والله أعلم.

4 - الجمع بين الصلاتين لمن يجوز له الجمع: فمن جمع الصلاتين جمع تأخير فإنه يصلي الأولى في وقت الثانية، وهو في الحقيقة لا يقال: إنه (أخرها عن وقتها) إلا في الصورة، وإلا فإن وقتيهما في هذا الحالة وقت واحد، وسيأتي طرف من أحكام جمع الصلاتين، إن شاء الله تعالى.

5 - شدة الخوف: بحيث لا يتمكن من الصلاة بوجه من الوجوه ولا يقلبه، فلا حَرَج عليه حينئذ إذا فاته الوقت -في أحد قولي العلماء- لأنه لو صلى حينئذ لم يَدْر ما يقول وما يفعل لا سيما عند شدة منابذة العدو، وعليه يحمل تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر في غزوة الخندق حتى غربت الشمس (5).

_________

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

(2) انظر «السيل الجرار» (1/ 188).

(3) «شرح مسلم» للنووي (2/ 988 - قلعجي).

(4) «المجموع» (3/ 67)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 200)، و «الأشباه والنظائر» (208).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (598)، ومسلم (631)، وانظر «الشرح الممتع» (2/ 23)، و «نيل الأوطار» (2/ 36).

 

(1/254)

 

 

وقد ورد عن أنس: «أنه اشتدت الحرب غداة فتح تُسْتَر، فلم يصلوا إلا بعد طلوع الشمس» (1).

[4] من صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها:

إذا بلغ الصبي، أو عقل المجنون، أو أفاق المغمى عليه، أو طهرت الحائض والنفساء، قبل خروج وقت الصلاة بمقدار ركعة أو أكثر، لزمهم أداؤها، وهل يلزمهم أداء ما يجمع إليها قبلها؟ يتضح بالمثال الآتي:

إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس أو قبل طلوع الفجر: فلأهل العلم في شأنها ثلاثة أقوال:

الأول: إذا طهرت قبل الغروب لزمها الظهر والعصر، وإن طهرت قبل الفجر لزمها المغرب والعشاء:

وهو مروي عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبي هريرة وهو مذهب طاوس والنخعي ومجاهد وربيعة ومالك والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور وإسحاق، وهم الجمهور (2)، وحجتهم:

1 - ما رُوي عن عبد الرحمن بن عوف قال: «إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس صَلَّت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع الفجر صلَّتْ المغرب والعشاء» (3).

2 - ما رُوى عن ابن عباس قال: «إذا طهرت قبل المغرب صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلَّت المغرب والعشاء» (4) ونُقل نحوه عن أبي هريرة.

_________

(1) أورده ابن حزم في «المحلى» (2/ 244) وأعله برواية مكحول عن أنس، قال: ومكحول لم يدرك أنسًا. اهـ. قلت: أثبت أبو حاتم الرازي -كما في «المراسيل» لابنه (1/ 211) - والترمذي -كما في «تهذيب التهذيب» (1/ 290) - سماع مكحول من أنس، فإن لم يكن في الإسناد غير هذا فهو صحيح، والله أعلم.

(2) «اختلاف العلماء» (ص 380)، و «الأوسط» (2/ 243)، و «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 131)، و «بداية المجتهد» (1/ 133).

(3) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 336)، وعنه ابن المنذر (2/ 243)، وعبد الرزاق (1285).

(4) إسناده ضعيف: أخرجه الدارمي (889)، وابن أبي شيبة (2/ 337)، وابن المنذر (2/ 244).

 

(1/255)

 

 

3 - أن الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، يجمعان في حال العذر في وقت إحداهما، فإذا طهرت في آخر النهار فوقت الظهر باقٍ فتصليها قبل العصر، وإذا طهرت في آخر الليل فوقت المغرب باقٍ في حال العذر فتصليها قبل العشاء (1).

الثاني: إذا طهرت في وقت العصر لزمها العصر وليس عليها الظهر: وهو مذهب الحسن وقتادة والثوري وأبي حنيفة (2)، وحجتهم:

1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» قالوا: و (ال) في قوله (الصلاة) للعهد، أي: أدرك الصلاة التي أدرك من وقتها ركعة، وأما التي قبلها فلم يدرك من وقتها شيئًا، وقد مضى وقتها ولم يكن أهلاً للوجوب، فكيف نلزمه؟! (3).

2 - أنه لا خلاف أن التارك للصلاتين حتى إذا كان قبل غروب الشمس بركعة ذهب ليجمع بينهما فصلى ركعة قبل غروب الشمس وسبع ركعات بعد ما غربت عاصٍ لله تعالى مذموم، إذا كان قاصدًا في غير حال عذره، فغير جائز أن يُجعلَ حكُم الوقت الذي أبيه فيه الجمع بين الصلاتين حكم الوقت الذي حُظر فيه الجمع بينهما (4).

3 - أننا متفقون على أنه لو أدرك ركعة من صلاة الظهر ثم وجد مانع التكليف، لم يلزمه إلا قضاء الظهر فقط، مع أن وقت الظهر وقت للظهر والعصر حال العذر والجمع، فما الفرق بين المسألتين؟! فإن قالوا: فرقنا للآثار عن الصحابة، فيقال: آثارهم -إن صحت- محمولة على سبيل الاحتياط فقط خوفًا من أن يكون المانع قد زال قبل أن يخرج وقت الأولى، ولا سيما الحيض، فإن الحيض قد لا تعلم الحائض بطهرها إلا بعد مدة من طهارتها (5).

الثالث: إذا طهرت قبل الغروب بوقت يتسع للصلاتين صلت الظهر والعصر، وإن لم يتسع إلا لواحدة لزمها العصر فقط: وهو قول مالك والأوزاعي (6).

_________

(1) «مجموع الفتاوى»، وانظر «شرح العمدة» لابن تيمية (المجلد الثاني).

(2) «اختلاف العلماء» (ص: 380)، و «الأوسط» (2/ 245)، و «الأصل» (1/ 330).

(3) «الشرح الممتع» (2/ 130).

(4) «الأوسط» لابن المنذر (2/ 245).

(5) «الشرح الممتع» لابن عثيمين (2/ 130) بتصرف يسير.

(6) «الأوسط» (2/ 246)، و «بداية المجتهد» (1/ 133).

 

(1/256)

 

 

الراجح: الذي يظهر لي أن القول الثاني هو الأقوى، والأول أحوط، ولابد من المصير إلى الثالث إذا ضاق الوقت والله أعلم.

[5] إذا لم يصلِّ الصلاة حتى خرج وقتها بغير عذر: ففي حكم قضاء هذه الصلاة قولان للعلماء:

الأول: أنه يجب عليه قضاؤها: وهو مذهب جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، حتى ادَّعى النووي الإجماع عليه (1) -ولا يصح- وجملة ما استدلوا به:

1 - الأحاديث الواردة بوجوب القضاء على الناسي، قالوا: يُستفاد من مفهوم خطابها وجوب القضاء على العامد من باب أولى.

وأُجيبَ عنه: بأن القائل بأن العامد لا يقضي لم يرد أنه أخف حالاً من الناسي، بل إن المانع من وجوب القضاء على العامد أنه لا يسقط عنه الإثم فلا فائدة فيه، فيكون إثباته مع عدم النص عبثًا بخلاف الناسي والنائم فقد أمرهم الشارع بذلك، وصرَّح بأن القضاء كفارة لهما، لا كفارة لهما سواه (2).

ثم إن القياس إنما هو قياس الشيء على نظيره، لا على ضده، وهذا لا خلاف فيه، والعمد ضد النسيان، والمعصية ضد الطاعة، فكيف تقاس عليها؟! (3).

2 - قوله صلى الله عليه وسلم في قضاء النائم والناسي: «لا كفارة لها إلا ذلك»، قالوا: يدل على أن العامد مراد بالحديث، لأن النائم والناسي لا إثم عليهما، فالمراد بالناسي التارك.

وأُجيب عنه: بأن هذا الكلام يستلزم عدم وجوب القضاء على النائم والناسي لعدم الإثم الذي جعلوا الكفارة منوطة به، والأحاديث الصحيحة صرَّحت بوجوب ذلك عليهما!! ثم إن الكفارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد، وهذا واضح.

3 - القياس على وجوب القضاء على من أفطر عمدًا في رمضان كالمجامع في نهار رمضان.

_________

(1) «العناية» (1/ 485 - مع فتح القدير)، و «الدسوقي» (1/ 264)، و «المجموع» (3/ 71)، و «الإنصاف» (1/ 342)، و «الممتع» (2/ 133).

(2) «نيل الأوطار» (2/ 32).

(3) «المحلى» (2/ 237)، وفيه بحث رائق في الرد على القائلين بوجوب القضاء.

 

(1/257)

 

 

وأجيب: بأن ثبوت القضاء على المجامع في نهار رمضان ضعيف، وقد أخرج البخاري ومسلم هذا الحديث بدون زيادة: «وصم يومًا مكان ما أصبت» (1) وهي ضعيفة لا تثبت.

4 - وقد يستدل لهم [ولم يستدلوا هم به] بحديث: «فدين الله أحق أن يقضى» (2).

فيقال: سمى النبي صلى الله عليه وسلم العبادات (الحج والصيام) دينًا.

ويُجاب عنه: بأنه يلزم من هذا أن يجيزوا الصلاة قبل وقتها!! فإن أداء الديون جائز قبل حلول أجلها، وسيأتي مزيد إيضاح في أدلة الفريق الآخر.

الثاني: أنه لا يجب عليه قضاؤها، بل ولا تصح منه: وبه قال عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود [قال ابن حزم: ما نعلم لهم مخالفًا من الصحابة] والقاسم بن محمد وبديل العقيلي ومحمد بن سيرين ومطرِّف بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز، وداو الظاهري وابن حزم وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ثم العلامة الألباني وابن عثيمين (3) وهو الراجح، ومما يدل عليه:

1 - قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (4).

فالصلاة عبادة مؤقتة بوقت محدود الطرفين، له أول وله آخر، فلا يجوز أداؤها قبل الوقت ولا بعد خروجه، لا فرق بينهما، إلا بنص يتضمن أمرًا جديدًا، كما في النائم والناسي وسائر أصحاب الأعذار، كالحج وصيام رمضان تمامًا.

ومعلوم أنه إذا صلاها قبل الوقت متعمدًا فصلاته باطلة بالاتفاق، فكذلك لو صلاها بعد وقتها.

2 - قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (5).

_________

(1) انظر «مجموع الفتاوى» (22/ 40)، و «نصب الراية» (2/ 453)، و «التلخيص» (2/ 219).

(2) صحيح: سيأتي في مواضع، إن شاء الله.

(3) «المحلى» (2/ 235 - وما بعدها)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 40)، و «فتح الباري» لابن رجب كما في «الإنصاف» (1/ 443)، و «الممتع» (2/ 133)، و «نيل الأوطار» (2/ 31 - 32).

(4) سورة النساء، الآية: 103.

(5) سورة الماعون، الآيتان: 4، 5.

 

(1/258)

 

 

3 - قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (1). فلو كان العامد لترك الصلاة مدركًا لها بعد خروج وقتها لما كان له الويل، ولا لقي الغي، كما لا ويل ولا غَيَّ لمن أخرَّها إلى آخر وقتها الذي يكون مدركًا لها.

4 - حديث: «من نسي صلاة فليصلِّها إذا ذكرها ...» (2) دليل على أن العامد لا يقضي الصلاة -تمسكًا بدليل الخطاب- فإن (من نسي) شرط، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم أن من لم ينس لا يصلي.

5 - أن القضاء إيجاب شرع، والشرع لا يجوز إلا لله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجب القضاء إلا بأمر جديد -على الصحيح في الأصول- ولا دليل على الأمر بالقضاء، ولو كان القضاء واجبًا على العامد لترك الصلاة حتى يخرج وقتها، لما أغفل الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك ولا نسياه ولا تعمدا إعناتًا بترك بيانه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (3).

6 - حديث: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِر أهله وماله» (4) فصحَّ أن ما فات فلا سبيل إلى إدراكه، ولو أدرك أو أمكن أن يُدرك لما فات كما لا تفوت الصلاة المنسية أبدًا، ولو أمكن قضاء المتروكة عمدًا لكان القول بأنها فاتته كذبًا وباطلاً!!

7 - يقال لمن أوجب قضاءها على العامد: هذه الصلاة التي تأمره بِفعلها، أهي التي أمره الله تعالى بها؟ أم هي غيرها؟ فإن قال: هي هي، قلنا لهم: فالعامد لتركها ليس عاصيًا لأنه فعل ما أمره الله تعالى ولا إثم على قولكم (!!) ولا ملامة على من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها (!!) وهذا لا يقوله مسلم.

وإن قال: ليست هي التي أمره الله بها، قلنا: صدقت، وفي هذا كفاية إذا أقروا بأنهم أمروه بما لم يأمره به الله تعالى (5).

قلت: وهذا القول هو الراجح، وليس مع المخالف ما يصلح للتعويل عليه، والله أعلم.

_________

(1) سورة مريم، الآية: 59.

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) سورة مريم، الآية: 64.

(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(5) انظر «المحلى» (2/ 235 - وما بعدها)، و «الإحكام» لابن حزم (1/ 301).

 

(1/259)

 

 

من ضيَّع الصلاة سنوات من عمره:

يتفرَّع على القول بأن من ترك الصلاة متعمدًا لغير عذر حتى خرج وقتها، لا يجب عليه قضاؤها ولا تصح منه، أن من ضيَّع الصلاة زمانًا من عمره، ثم تاب إلى الله تعالى واستقام على دينه، فإنه لا يصلي ما فاته، سواء قلنا بكفره حال تركها أو لا، خلافًا للجمهور (1) فإنهم يوجبون عليه قضاء جميع الصلوات التي فاتته (!!!).

وماذا على تاركها متعمدًا؟

إن الحكم على من ترك الصلاة حتى خرج وقتها من غير عذر، بعدم قضائها ليس تخفيفًا عليه، وإنما هو في الحقيقة تنكيل به وسخط لفعله، فالإثم لا يسقط عنه وإن صلاَّها ألف مرة بعد وقتها، إلا أن يتوب إلى الله تعالى ويستغفره، فهذا الذي يلزمه: التوبة والاستغفار، والإكثار من فعل الخير وصلاة التطوع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضة شيئًا قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك» (2).

 

قضاء الصلوات الفائتة

القضاء لغة: الحكم والأداء، واصطلاحًا: فعل الواجب بعد وقته (3).

والفائتة: الصلاة التي خرج وقتها المحدد لها.

وقد حققنا أنه لا يُقضى من الصلوات إلا ما خرج وقتها بعذر، خلافًا لجمهور العلماء الذين يقولون بأن العبادات المحددة بوقت تفوت بخروج الوقت المحدد لها من غير أداء، وتتعلق بالذمة إلى أن تقضي، من غير تفريق بين المعذور وغيره.

هل يجب قضاء الفائتة على الفور؟

يجب على من فاتته الصلاة [بعذر شرعي] أن يقضيها على الفور، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في النائم والناس: «فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» فهذا أمر

_________

(1) «ابن عابدين» (2/ 62)، و «الدسوقي» (1/ 264)، و «مغنى المحتاج» (1/ 308).

(2) تقدم الكلام عليه، وانظر «المحلى» (2/ 235)، و «الفتاوى» (22/ 40 - 41)، و «تحفة الأحوذي» (2/ 463).

(3) «المصباح المنير»، و «حاشية ابن عابدين» (1/ 487).

 

(1/260)

 

 

وهو للوجوب الفوري، والمراد بالفور: الفور العادي بحيث لا يُعَدُّ مفرطًا، وهذا مذهب المالكية والحنابلة (1).

وذهب الحنفية والشافعية إلى استحباب الفور وجواز التراخي في القضاء (2)، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما استيقظوا من النوم بعد طلوع الشمس، لم يصلوا إلا بعد ارتحالهم إلى مكان آخر؟!

وأُجيب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علَّلَّ ذلك بقوله: «ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان ...» (3). فكان المانع من الصلاة أنه مكان حضره الشيطان، فلا يدل على مشروعية التراخي في القضاء.

وعلى هذا، فلو استيقظ شخص بعد طلوع الشمس، فلا يجوز له أن يعاود النوم حتى يصلي فإنه وقتها، والله أعلم.

الترتيب في قضاء الفوائت:

عن جابر بن عبد الله «أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسبُّ كفار قريش، وقال: يا رسول الله، ما كِدْتُ أصلِّي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما صلَّيْتُها» فتوضأ وتوضأنا، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلَّى بعدها المغرب» (4).

وعن أبي سعيد قال: حُبسْنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهويٍّ من الليل كُفينا، وذلك قول الله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} (5). قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أره فأقام المغرب فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام المغرب فصلاها كذلك، قال: وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل في صلاة الخوف {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (6).

_________

(1) «الشرح الصغير» (1/ 3665)، و «كشاف القناع» (1/ 260).

(2) «حاشية ابن عابدين» (2/ 74)، و «المجموع» (3/ 69).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (680)، والنسائي (1/ 80) عن أبي هريرة.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (568)، ومسلم (209).

(5) سورة الأحزاب، الآية: 25.

(6) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 297)، وأحمد (3/ 25)، وابن خزيمة (996)، وأبو يعلى (1296).

 

(1/261)

 

 

وفيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى الفوائت مرتبة، فقال الجمهور (1) يجب الترتيب في قضاء الفوائت على اختلاف بينهم في تفاصيل، واستدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن توقيت المقضية بوقت الذكر أضيق من توقيت المؤداة، فيجب تقديم ما تضيق.

وقال الشافعي (2): يستحب ولا يجب، لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمجرده لا يدل على الوجوب.

ما يسقط به الترتيب.

1 - ضيق وقت الصلاة الحاضرة (3):

فإنه يُسقط الترتيب، لأن فرض الوقت آكد من فرض الترتيب، فيصلي الصلاة الحاضرة ثم يقضي الفائتة، وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وبه قال ابن المسيب والحسن والأوزاعي والثوري وإسحاق، وعند الشافعي لا يجب الترتيب أصلاً كما تقدم.

وأما المالكية -ورواية عن أحمد وعطاء والليث- فقالوا: يرتب وإن خرج وقت الحاضرة؟!!

قلت: والأول أظهر، لا سيما وأن إيجاب الترتيب أصلاً منازع فيه.

2 - فوات الجماعة: فمن فاتته الظهر -مثلًا- فخشي إن قضاها أن تفوته جماعة العصر، سقط الترتيب فيصلي مع الجماعة العصر، ثم يقضي الظهر بعدها، وهذا رواية عن أحمد واختاره شيخ الإسلام (4).

وله أن يدخل معهم في جماعة العصر بنية الظهر -بناء على جواز اختلاف نية المأموم عن الإمام وسيأتي تحريره- ثم يصلي بعدها العصر، ولعلَّ الأول أظهر والله أعلم.

3 - فوات ما لا يمكن قضاؤه على وجه الانفراد كصلاة الجمعة: فلو ذكر أن

_________

(1) «البدائع» (1/ 131)، و «الشرح الصغير» (1/ 367)، و «المغنى» (1/ 607)، و «نيل الأوطار» (2/ 36).

(2) «روضة الطالبين» (1/ 269).

(3) «البناية» (2/ 628)، و «المغنى» (1/ 610)، و «الإنصاف» (1/ 444)، و «الخرشي» (1/ 301)، و «الأوسط» (2/ 415).

(4) «الإنصاف» (1/ 444 - 445).

 

(1/262)

 

 

عليه فائتة بعد إقامة صلاة الجمعة، فإنه يقدِّم الجمعة، لأنه لا يستطيع أن يقضي الجمعة، فيكون فواتها كفوات الوقت، وهو رواية عن أحمد (1).

4 - النسيان: فلو صلى الفوائت بغير ترتيب ناسيًا، فلا شيء عليه، لعموم قوله تعالى {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} (2). وفي الحديث أن الله تعالى قال: «نعم» (3) وفي رواية «قد فعلت».

ولحديث: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (4).

وإلى هذا ذهب الحنفية والحنابلة في المذهب خلافًا لمالك ورواية عن أحمد (5).

5 - الجهل: فمن جهل وجوب الترتيب فصلى غير مرتبة، فلا شيء عليه، لأن الجهل أخو النسيان في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا رواية عن أحمد واختيار شيخ الإسلام، وبه قال الحنفية (6).

قضاء الصلاة الفائتة على صِفَتِها:

ذهب الحنفية والمالكية -وقول عند الشافعية- وأبو ثور وابن المنذر (7) أن الاعتبار في صفة الصلاة المقضية بوقت الفائتة، ليكون القضاء على وفق الأداء.

فمن نسي صلاة العشاء -وهي جهرية- فلم يذكرها إلا نهارًا، قضاها جهرًا على أصلها. والعكس، ويستدل لهم بحديث أبي سعيد المتقدم في قصة الخندق، وفيه: «فأقام الظهر فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ....» (8) الحديث وقد كان هذا بعد المغرب.

وأما الحنابلة، والصحيح عند الشافعية أن الاعتبار بوقت القضاء!

وإذا نسي الصلاة في الحضر فذكرها في السفر: فإنه يصليها تامة غير مقصورة

_________

(1) «السابق» (1/ 444)، و «الممتع» (2/ 141).

(2) سورة البقرة، الآية: 286.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (125).

(4) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجه (2045) وغيره وانظر «الإرواء» (82).

(5) «البناية» (2/ 629)، و «المغنى» (1/ 609)، و «الخرشي» (1/ 301).

(6) «الإنصاف» (1/ 445)، و «البناية» (2/ 629).

(7) «مجمع الأنهر» (1/ 164)، و «الشرح الصغير» (1/ 365)، و «روضة الطالبين» (1/ 269) و «اختلاف العلماء» (ص: 60).

(8) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(1/263)

 

 

على أصلها، على المذهب الأول، ووافقهم على هذا -هنا- الشافعي وأحمد (1)، وخالفا في عكسه فقالا: إذا نسي صلاة السفر فذكرها في الحضر صلاَّها تامة كذلك.

قضاء السنن الرَّواتب: يُشرع قضاء السنن الرواتب إذا فات وقتها في أصح أقوال العلماء، وهو مروي عن ابن عمر، وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن والمزني وغيرهم (2)، وسيأتي بيانه مفرقًا في مواضعه في «صلاة التطوع» إن شاء الله تعالى.

الأذان والإقامة، والجماعة في الفائتة:

يُشرع لمن فاتته صلاة وأراد قضاءها أن يؤذن ويقيم، وإن فاتت جماعة أن يصلوا المقضية جماعة، لحديث أبي قتادة -في قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لبلال: «قُم فأذن الناس بالصلاة» فلما طلعت الشمس وابيضتَّ، قام فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). وفي لفظ حديث ابن مسعود: «فأمر بلالاً فأذَّن، ثم أقام فصلَّى بنا» (4).

وهذا مذهب جمهور العلماء.

 

الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

1، 2 - صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس قيد رمح، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس:

فقد ثبت النهي عن صلاة التطوع في هذين الوقتين، والأصل في هذا:

(أ) حديث ابن عباس قال: «شهد عندي رجال مرضيون -وأرضاهم عند عمر رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس» (5).

_________

(1) «الأم» (1/ 161)، و «المجموع» (4/ 249)، و «المغنى» (1/ 570)، و «اختلاف العلماء» (ص 60).

(2) «روضة الطالبين» (1/ 337)، و «الإنصاف» (2/ 178)، وانظر المذاهب الأخرى في «نيل الأوطار» (3/ 44 - 34).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (595)، وأبو داود (439)، والنسائي (2/ 105).

(4) حسن: أخرجه أحمد (1/ 450)، وابن حبان (1580).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (581)، ومسلم (826).

 

(1/264)

 

 

(ب) حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس» (1).

3 - وقت الزوال (عند قائم الظهيرة):

لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيَّف (2) الشمس للغروب حتى تغرب» (3).

علة النهي:

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم علة النهي عن الصلاة في هذه الأوقات بقوله لعمرو بن عبسة: «صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تُسجَّر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار» (4).

ما يستثنى من النهي:

[1] عند الظهيرة يوم الجمعة: فإنه يستحب للمرء التنفل مطلقًا قبل صلاة الجمعة حتى يخرج الإمام، فإذا خرج امتنع من صلاة التطوع، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، فيتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهن، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام -إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (5).

وبهذا قال الشافعي -رحمه الله- مستدلاًّ بهذا الحديث وبحديث أبي هريرة:

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (586)، ومسلم (827).

(2) تضيَّف الشمس: تميل الغروب.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (831).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (832).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (883).

 

(1/265)

 

 

«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس، إلا يوم الجمعة» (1) لكنه ضعيف ويغني عنه ما ذكرت ولله الحمد.

وللعلماء قولان آخران: الأول: أنه لا يكره الصلاة نصف النهار مطلقًا في الجمعة وغيرها على سواء، وهو مذهب مالك، وحجته عمل أهل المدينة، وهو مردود بالأحاديث المتقدمة.

والثاني: أنه يكره الصلاة نصف النهار مطلقًا في الجمعة وغيرها، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد.

ومذهب الشافعي أرجح، وهو اختيار شيخ الإسلام (2).

[2] صلاة ركعتي الطواف بالبيت الحرام:

فلا مانع من إيقاع ركعتي الطواف في أوقات النهي المتقدمة لما يأتي:

(أ) حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف، لا تمنعواأحدًا طاف بهذا البيت وصلَّى في أي ساعة شاء من الليل أو النهار» (3).

(ب) أنه فعله ابن عباس والحسن والحسين وبعض السلف.

(جـ) أن ركعتي الطواف تابعتان له، فإذا أبيح المتبوع ينبغي أن يباح التبع.

وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وهو مروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء وطاوس وأبي ثور (4).

[3] قضاء الفوائت في أوقات النهي:

وقد اختلف أهل العلم في حكم قضاء الفائتة في أوقات النهي على قولين:

الأول: لا يجوز في أوقات النهي: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحاب الرأي (5) وحجتهم:

1 - «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس أخرَّها حتى ابيضت الشمس» (6).

_________

(1) إسناده تالف: أخرجه الشافعي في «الأم» (1/ 226)، وعنه البيهقي (2/ 464).

(2) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 378) ط. الرسالة.

(3) صحيح: أخرجه الترمذي (869)، والنسائي (1/ 284)، وابن ماجه (1254).

(4) «الأم» (1/ 150)، و «المجموع» (4/ 72)، و «المغنى» (2/ 81).

(5) «المبسوط» (1/ 150).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (344)، ومسلم (682) عن عمران بن حصين.

 

(1/266)

 

 

2 - أنها صلاة، فلم تجوز في هذه الأوقات كالنوافل.

3 - ما رُوي عن أبي بكرة رضي الله عنه «أنه نام في دالية، فاستيقظ عند غروب الشمس، فانتظر حتى غابت الشمس ثم صلاها» (1).

4 - ما رُوي عن كعب بن عجرة: «أن ابنه نام حتى طلع قرن الشمس فأجلسه، فلما أن تعالت الشمس قال له: صلِّ الآن» (2).

الثاني: يجوز قضاء الفوائت في أوقات النهي وغيرها: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور الصحابة والتابعين (3)، وحجتهم:

1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» (4).

2 - حديث أبي قتادة مرفوعًا: «إنما التفريط في اليقظة على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها» (5).

ففيهما الأمر بالصلاة حين ذكرها أو الاستيقاظ لها من غير استثناء لأوقات النهي.

قلت: وهذا هو الراجح، وأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة حتى ابيضَّت الشمس فهم لم يوقظهم إلا حر الشمس أصلاً، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن أن العلة أنه «مكان حضر فيه الشيطان» فجعل المانع من الصلاة المكان لا الزمان، والله أعلم.

[4] قضاء السنن الرواتب في أوقات النهي:

يجوز قضاء السنن الرواتب ولو في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها لما يأتي:

(أ) حديث أم سلمة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر فسألته عن ذلك فقال: «يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، فإنه أتاني أناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان» (6).

(ب) ما روي عن قيس بن عمرو قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر، فقال: «ما هاتان الركعتان يا قيس؟» قلت: يا

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 66)، وعبد الرزاق (2250).

(2) إسناده ضعيف: ذكري الترمذي تعليقًا (1/ 158)، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 66).

(3) «المدونة» (1/ 130)، و «الأم» (1/ 148)، و «المغنى» (2/ 80)، و «الأوسط» (2/ 411).

(4) صحيح: تقدم كثيرًا.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (311) وغيره وقد تقدم.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1233)، ومسلم (297).

 

(1/267)

 

 

رسول الله، لم أكن صليت ركعتي الفجر، قال: «فسكت عنه» (1) وفي رواية «فلم ينكر ذلك عليه».

(جـ) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ...» وهذا مذهب مالك والشافعي (2).

[5] الصلاة على الجنازة بعد الصبح والعصر:

أجمع العلماء على جواز الصلاة على الجنازة بعد صلاة الصبح والعصر (3).

ثم اختلفوا في إيقاعها في الأوقات المذكورة في حديث عقبة بن عامر: حين تطلع الشمس حتى ترتفع، وعند قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تتضيَّف الشمس للغروب حتى تغرب، على قولين:

الأول: لا تجوز صلاة الجنازة في هذه الأوقات الثلاثة: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأكثر أهل العلم (4)، لحديث عقبة بن عامر قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا ... فذكرها» (5).

الثاني: يجوز صلاة الجنازة في جميع أوقات النهي: وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد (6) وحجة الشافعي أنها صلا ذات سبب فتستثنى من النهي.

قلت: الأظهر أنها لا تجوز في هذه الأوقات الثلاثة لأجل النص، لأن فيه مع النهي عن الصلاة، النهي عن الدفن فيها فيتناول النهي عن الصلاة على الجنازة فيها، فيمنع استثناءها من النهي، ثم إن هذه الأوقات الثلاثة قصيرة وليس في الانتظار حتى تفوت ما يخشى منه والله أعلم.

[6] الصلوات التي لها سبب: كتحية المسجد، وسنة الوضوء، وصلاة الكسوف ونحوها فهذه اختلف فيها العلماء على قولين:

_________

(1) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (1267)، والترمذي (422)، وأحمد (5/ 447) وهو مرسل وله طريق أخرى عند ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 391)، والحاكم (1/ 274)، والبيهقي (2/ 483) وبمجموعها يحسن الحديث.

(2) «بداية المجتهد» (1/ 137)، و «الأم» (1/ 149).

(3) نقله ابن قدامة في «المغنى» (2/ 82).

(4) «المدونة» (1/ 190)، و «المبسوط» (1/ 152)، و «المغنى» (2/ 82)، و «معالم السنن» (1/ 313).

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) «الأم» (1/ 150)، و «المجموع» (4/ 68).

 

(1/268)

 

 

الأول: لا تجوز في أوقات النهي: وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد (1).

الثاني: يجوز، وهو مذهب الشافعي (2) والرواية الثانية عن أحمد، وحجتهم:

1 - أنه ثبت جواز ركعتي الطواف في كل وقت، وقد تقدم.

2 - ثبت جواز الصلاة عقيب الوضوء في أي وقت، كما في حديث بلال وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم له: أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام .... فقال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي» (3).

3 - قوله صلى الله عليه وسلم في الكسوف: «فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة» (4).

4 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (5).

5 - ثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر كما تقدم.

6 - الإجماع على جواز الصلاة على الجنازة بعد الصبح والعصر.

قالوا: فهذه كلها صلوات ذوات سبب وجاز فعلها مطلقًا، فتستثنى من النهي.

قلت: ويُستدل لهذا المذهب كذلك بما يلي:

7 - حديث أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذر، كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة (أو قال: يؤخرون الصلاة عن وقتها» قلت: فبما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها، فإذا أدركتها معهم فصلِّ فإنها لك نافلة» (6).

وفي حديث ابن مسعود موقوفًا: «ستكون أمراء يسيئون الصلاة يخنقونها إلى شَرَق الموتى، (يعني: إلى آخر النهار) ...» (7) وذكر نحو حديث أبي ذر، فأجاز النافلة في وقت الكراهة للسبب المذكور.

_________

(1) «المبسوط» (1/ 152)، و «شرح فتح القدير» (1/ 204)، و «المغنى» (2/ 90).

(2) «الأم» (1/ 149)، و «المجموع» (4/ 69).

(3) صحيح: تقدم في «الوضوء».

(4) صحيح: يأتي في «صلاة الكسوف».

(5) صحيح: يأتي في «صلاة التطوع».

(6) صحيح: أخرجه مسلم (648)، وأبو داود (431)، وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (1008) بتحقيقي.

(7) صحيح: أخرجه مسلم (534) وغيره، وانظر «قدر الصلاة» (1015) بتحقيقي.

 

(1/269)

 

 

8 - حديث يزيد بن الأسود قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّته، فصليتُ معه صلاة الصبح في مسجد الخيف من منى، فلما قضى صلاته إذا رجلان في آخر الناس لم يصليا، فأُتي بهما ترعُد فرائضهما، فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» قالا: يا رسول الله، كنا قد صلينا في رحالنا، قال: «فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» (1) قال الخطابيُّ: وفي قوله: (فإنها نافلة) دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب. اهـ (2).

قلت: وعلى ما تقدم فإن النهي عن الصلاة في الأوقات الواردة في النصوص خاص بمطلق التنفل من غير سبب، وبمن قصد تحرى الصلاة فيها، ويؤيده حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتحرَّى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها» (3).

فائدة: أوقات النهي المتقدمة إنما هي ما كان النهي فيها متعلقًا بالأوقات الأصلية، وهناك أوقات أخرى نهى عن الصلاة فيها لتعلقها بأمر خارج عن أصل الوقت، وستأتي مفرقة في مواضعها في «صلاة التطوع» إن شاء الله.

 

الأذان والإقامة

التعريف (4):

الأذان لغة: الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (5). أي: أَعْلمِهم به.

وشرعًا: التعبد لله تعالى للإعلام بدخول وقت الصلاة بذكر مخصوص.

والإقامة لغة: مصدر (أقام) من أقام الشيء إذا جعله مستقيمًا، ولها معان منها: الاستقرار والإظهار والنداء، وشرعًا: التعبد لله بالقيام للصلاة والشروع فيها لذكر مخصوص.

_________

(1) صحيح: أخرجه الترمذي (219)، والنسائي (2/ 112) وغيرهما.

(2) «معالم السنن» (1/ 165).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (585)، ومسلم (828).

(4) «اللسان»، و «المصباح المنير»، و «شرح منتهى الإرادات» (1/ 122، و «الممتع» (35 - 36).

(5) سورة الحج، الآية: 27.

 

(1/270)

 

 

أولاً: الأذان

من فضائل الأذان:

1 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نوُدي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قُضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى» (1).

2 - عن أبي سعيد الخدري قال لابن أبي صعصعة: إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه «لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

3 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا» (3).

4 - عن معوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رضي الله عنه: «المؤذِّنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة» (4).

5 - عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يعجب ربُّكم من راعي غنم في رأس شَظيَّة بجبل يؤذِّن بالصلاة، ويصلى فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة» (5).

6 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإمام ضامن، والمؤذِّن مؤتمن، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذِّنين» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (608)، ومسلم (389).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (608)، والنسائي (2/ 12).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (614)، ومسلم (437).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (387)، وابن ماجه (725)، وأحمد (4/ 95).

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1203)، والنسائي (2/ 20)، وأحمد (4/ 158).

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (517)، والترمذي (207)، وأحمد (2/ 284 - 419)، وانظر «الإرواء» (1/ 231).

 

(1/271)

 

 

7 - الأذان أفضل من الإمامة: للأحاديث المتقدمة في فضل الأذان، ولأن «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن» والأمانة أعلى من الضمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد، وإنما لم يتولَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون التأذين، لأن الإمامة كانت متعيِّنة عليهم، فإنها وظيفة الإمام الأعظم، ولم يمكن الجمع بينها وبين الأذان، لضيق وقتهم عنه، وانشغالهم بما هو أهم كتدبير شئون المسلمين، فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم، وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل.

وهذا مذهب الشافعي وأصح الروايتين عن أحمد واختاره أكثر أصحابه والمالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (1).

بدء مشروعية الأذان: شُرع الأذان بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، على الأصح، للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، ومن ذلك حديث ابن عمر:

كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم بل بوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بلال قم فناد بالصلاة» (2).

حكم الأذان:

اتفقت الأمة الإسلامية على مشروعية الأذان، والعمل به جارٍ منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بلا خلاف.

ثم اختلف أهل العلم في حكمه، هل هو واجب؟ أو سنة مؤكدة؟ والصحيح الذي لا ينبغي التردد فيه في مثل هذه العبادات العظيمة أن الأذان فرض كفاية، فليس لأهل مدينة أو قرية أن يدعوا الأذان والإقامة، ويستدل على ذلك بأمور:

1 - أن الأذان عبادة من أعظم شعائر الإسلام وأشهر معالم الدين، وقد وقعت المواظبة عليها منذ شرعها الله سبحانه إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليل ونهار وسفر وحر، ولم يسمع أنه وقع الإخلال بها أو الترخيص في تركها.

_________

(1) «المغنى» (1/ 402)، و «المجموع» (3/ 74)، و «مواهب الجليل» (1/ 422)، و «الاختيارات» (ص: 36).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (604)، ومسلم (377).

 

(1/272)

 

 

2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله علامة للإسلام ودلالة على التمسك به والدخول فيه، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا أغزى بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم» (1).

3 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر به، فعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولأصحابه: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمَّكم أكبركم» (2).

4 - عن أنس بن مالك قال: «أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان ويُوتر الإقامة» (3).

5 - في حديث عبد الله بن زيد في رؤياه الأذان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها رؤيا حق، إن شاء الله، ثم أمر بالتأذين» (4).

6 - قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: «... واتَّخِذْ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» (5).

7 - عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ثلاثة [لا يؤَذَّن] ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان» (6) وهو دالٌّ على وجوب الأذان لأن الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنُّبه.

وقد ذهب إلى وجوب الأذان: مالك -في قول، وخصَّ الفرضية بمساجد الجماعات- وأحمد، وهو وجه عند الشافعية، وبه قال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود وابن حزم، واختاره ابن المنذر وشيخ الإسلام ابن تيمية (7).

بينما ذهب أبو حنيفة والشافعي، وهو قول عن مالك، إلى أنه سنة مؤكدة!! قلت: ولا شك أن الأول أرجح، ثم إن الحنفية -القائلين بأنه سنة- قد صرَّحوا بأنها كالواجب في لحوق الإثم (8)، فكأَّن الخلاف معهم لفظي والله أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (610)، ومسلم (382).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (605)، ومسلم (378).

(4) حسن: أخرجه أبو داود (499)، والترمذي (189)، وابن ماجه (706) وغيرهم.

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (531)، والنسائي (672)، والترمذي (209)، وابن ماجه (714).

(6) إسناده لين: أخرجه أبو داود (547)، والنسائي (847)، وأحمد (6/ 446) والزيادة له.

(7) «الإنصاف» (1/ 407)، و «مواهب الجليل» (1/ 422)، و «روضة الطالبين» (1/ 195)، و «الأوسط» (3/ 24)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 64)، و «السيل الجرار» (1/ 196).

(8) «ابن عابدين» (1/ 384)، و «فتح القدير» (1/ 240).

 

(1/273)

 

 

فوائد:

1 - الأذان على المسافرين: يجب الأذان على المسافرين إذا أرادوا الصلاة، كالحاضرين، لعموم الأدلة، وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك في الحضر والسفر، ولأن أمره صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وأصحابه بالأذان كان وهم مسافرون إلى أهليهم، وهذا هو الصواب خلافًا لمذهب الحنابلة والجمهور.

2 - الأذان للصلاة الفائتة: يجب الأذان للصلوات الخمس، سواء كانت مؤدَّاة أم مقضيَّة، وقد تقدم حديث نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -في سفرهم- عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بالأذان والإقامة، ويدل عليه كذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث: «إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم ...».

لكن ... لو نام جماعة عن الصلاة -في بلدة- حتى خرج وقتها، وقد أُذِّن في هذه البلدة، لم يجب عليهم الأذان اكتفاءً بالأذان العام في هذه البلدة، وسقطت به فريضة الأذان عنهم (1).

3 - حكم أذان النساء وإقامتهن (2)

لا يجب على النساء أذان ولا إقامة، عند جماهير السلف والخلف، من الأئمة الأربعة والظاهرية، وقد ورد عن أسماء مرفوعًا: «ليس للنساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ...» (3). وهو ضعيف لا يصح، لكن لم يرد كذلك أمر النساء بالأذان أو الإقامة.

ولا يجوز -بل لا يجزئ- أذان المرأة للرجال عند الجمهور خلافًا للحنفية، لأن الأذان للإعلام ويشرع له رفع الصوت، ولا يشرع للمرأة رفع صوتها، ولم يُسمع في أيام النبوة ولا في الصحابة ولا فيمن بعدهم أنه وقع التأذين المشروع الذي هو الإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الصلاة من امرأة قط.

ثم اختلفوا في أذان النساء وإقامتهن إذا كُنَّ منفردات عن الرجال: فقيل: يُكرهان وقيل: يباحان، وقيل: يستحبان، وقيل: تستحب الإقامة دون الأذان.

_________

(1) أفاده في «الشرح الممتع» (2/ 41) وانظر ما تقدم في «قضاء الفائتة».

(2) «المغنى» (1/ 422)، و «المجموع» (3/ 98)، و «البدائع» (1/ 135)، و «منح الجليل» (1/ 120)، و «الأوسط» (3/ 53)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا (1/ 299).

(3) ضعيف: أخرجه البيهقي (1/ 408).

 

(1/274)

 

 

والذي يظهر أن النساء إذا كنَّ منفردات عن الرجال، فإذا أَذَّنَّ وأقَمْنَ فحسن، لأنهما ذكر لله تعالى، ولم يرد ما يمنع منهما، ولذا سئل ابن عمر: هل على النساء أذان؟ فغضب، وقال: «أَنْهى عن ذكر الله؟!!» (1).

وعن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: كنا نسأل أنسًا: هل على النساء أذان وإقامة؟

قال: «لا، وإن فعلن فهو ذكر» (2).

وهذا قول الشافعي ورواية عن أحمد، وإليه ذهب ابن حزم (3)، قال الشافعي: «ولا تجهر المرأة بصوتها، تؤذن في نفسها، وتسمع صواحباتها إذا أذَّنت، وكذلك تقيم إذا أقامت ...» اهـ.

4 - أذان المنفرد، والجماعة بمسجد صَلَّى فيه أهله:

من صلى منفردًا ببلده أُذِّن بها، فإن اكتفى بأذانهم أجزأه، وإن أذَّن وأقام فقد أحسن لإدراك فضيلة الأذان، ولحديث أبي سعيد وعقبة بن عامر المتقدمين في «فضائل الأذان».

وكذلك إذا فاتته الجماعة، وحضر في مسجد قد صلَّى فيه أهله، فإن اكتفى بأذانهم أجزأه، والأولى أن يؤذِّن ويقيم، كذا فعل أنس بن مالك: فعن أبي عثمان قال: أتانا أنس بن مالك في مسجد بني ثعلبة، فقال: قد صليتم؟ - وذلك صلاة الغداة - فقلنا: نعم، فقال لرجل: أذِّن، فأذَّن وأقام ثم صلى في جماعة (4).

وبذا قال الشافعي وأحمد، وقال مالك والأوزاعي: يقيم ولا يؤذن، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤذن ولا يقيم (5).

5 - الأذان للصلاتين المجموعتين:

إذا جُمعت صلاتان في وقت إحداهما كجمع العصر مع الظهر في وقت الظهر بعرفة، وكجمع المغرب مع العشاء بمزدلفة، فإنه يكتفي بأذان واحد، ويقام

_________

(1) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 223).

(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 223).

(3) «الأم» (1/ 84)، و «المغنى» (1/ 422)، و «المحلى» (3/ 129).

(4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 221).

(5) «الأم» (1/ 84)، و «المغنى» (1/ 418)، و «المدونة» (1/ 61)، و «الأوسط» (3/ 60 - 62).

 

(1/275)

 

 

لكل صلاة بإقامة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم -وسيأتي في «الحج» - وبهذا قال الجمهور خلافًا للمشهور عند المالكية من أنه يؤذن لكل منهما!! (1).

6 - ما يُشرع له الأذان من الصلوات:

اتفق أهل العلم على أن الأذان إنما شُرع للصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤذن لصلاة غيرها كالجنازة والوتر والعيدين وغير ذلك، لأن الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة، والمكتوبات هي المخصصة بأوقات معينة، والنوافل تابعة للفرائض، فجعل أذان الأصل أذانًا للتبع تقديرًا، أما صلاة الجنازة فليست بصلاة على الحقيقة، إذ لا قراءة فيها ولا ركوع ولا سجود.

ومما ورد في ذلك حديث جابر بن سمرة قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة» (2).

كيف يُعلن عن الصلوات التي لا أذان لها؟

ذهب الشافعي إلى أنه يُنادى لكل صلاة لا يؤذن لها بقوله: «الصلاةُ جامعة» ووافق الحنابلة في صلاة العيد والكسوف والاستسقاء، والحنفية والمالكية في الكسوف فقط (3)، قلت: والصواب أن يوقف في هذا مع النص فما ثبت فيه النص بالنداء بـ «الصلاة جامعة» استحب فعله وإلا لم يُشرع، وسيأتي بيانه مفرَّقًا في مواضعه، إن شاء الله تعالى.

شروط الأذان:

[1] دخول وقت الصلاة (عدا الفجر):

يشترط للأذان أن يدخل وقت الصلاة المفروضة، فلا يصح الأذان قبل دخول الوقت -إلا في الفجر على ما سيأتي- ويستحب إذا دخل الوقت أن يؤذن في أوله، ليعلم الناس فيأخذوا أهبتهم للصلاة، فعن جابر بن سمرة قال: «كان بلال يؤذن إذا زالت الشمس لا يَخْرمُ (4)، ثم لا يقيم حتى يخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام حين يراه» (5).

_________

(1) «البدائع» (1/ 152)، و «المجموع» (3/ 83)، و «مواهب الجليل» (1/ 468)، و «المنع (2/ 41).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (887)، وأبو داود (1148)، والترمذي (532).

(3) «ابن عابدين» (1/ 565)، و «المجموع» (3/ 77)، و «المواهب» (1/ 435)، و «كشاف القناع» (1/ 211).

(4) أي: لا يترك شيئًا من ألفاظه. «نيل الأوطار» (2/ 57).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (606)، وأبو داود (537)، والترمذي (202)، وأحمد (5/ 91).

 

(1/276)

 

 

وأما الفجر ... فذهب مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف وابن حزم إلى أنه يُشرع الأذان للفجر قبل الوقت (قبل طلوع الفجر الصادق) (1) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» [قال: وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت] (2).

فيكون هذا الأذان (الأول) لأجل إيقاظ النائم ليتأهب للصلاة، ولردِّ القائم المجتهد إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطًا، وليتسحَّر إن كان له حاجة إلى الصيام، كما في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعنَّ أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل، ليرجع قائمكم، ويُوقظ نائمكم» (3).

وقد استحب الجمهور الأذان الثاني عند دخول الوقت، ورأوا أنه يجوز الاكتفاء به للصلاة!! والصحيح ما ذهب إليه ابن المنذر وابن حزم من أنه لابد من الأذان الثاني الذي في الوقت لأنه الأصل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم» وهذا عام لا يستثنى منه شيء ولا يعارضه حديث «إن بلالاً يؤذن بليل» لأن هذا الأذان ليس لصلاة الفجر كما تقدم. بينما ذهب الثوري وأبو حنيفة (4) إلى أنه لا يؤذن للفجر إلا بعد طلوع الفجر الصادق، قياسًا على سائر الصلوات، ولما يُروى عن شداد مولى عياض بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر» (5) وهو ضعيف لا يصح.

ولما يُروى عن ابن عمر أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: «ألا إن العبد نام» (6) وهو معلول عند أئمة الحديث لا تقوم به حجة.

_________

(1) «المدونة» (1/ 60)، و «الأم» (1/ 83)، و «مسائل أحمد» لعبد الله (58)، و «المجموع» (3/ 88)، و «الأوسط» (3/ 29)، و «المحلى» (3/ 160).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (617)، ومسلم (1092).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (621)، ومسلم (1093).

(4) «المحلى» (3/ 163)، و «المجموع» (3/ 88)، و «الأوسط» (3/ 30)، و «المبسوط» (1/ 134).

(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (534)، وقد أعلَّه البيهقي بالانقطاع وقال ابن القطان: شداد مجهول، وانظر «نصب الراية» (1/ 283).

(6) أعلَّه الأئمة: أخرجه أبو داود (532) وضعفه وكذا ضعفه الترمذي (203)، وأعلَّه أكابر الحفاظ بالوقف، وانظر «نيل الأوطار» (3/ 59)، و «سبل السلام» (1/ 125).

 

(1/277)

 

 

فأما قياسهم فهو في مقابل النصوص السابقة في إثبات الأذان قبل الفجر، وهي دالة على دوام ذلك من بلال، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهه فثبت جوازه بل استحبابه. وأما الأحاديث التي استدلوا بها فمعلولة لا تقوم بها حجة فضلاً عن أن تردَّ بها السنن الثابتة الصحيحة، والله أعلم.

[2] نية الأذان: يشترط لصحة الأذان النية كسائر العبادات، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (1) فلو أخذ شخص في ذكر الله بالتكبير ثم بدا له عقب ما كبَّر أن يؤذن، فإنه يبتدئ الأذان من أوله ولا يبني على ما قال، وهذا مذهب المالكية والحنابلة (2).

[3] أداؤه باللغة العربية (3): فيشترط كون الأذان باللفظ العربي، ولا يصح الإتيان به بأي لغة أخرى ولو علم أنه أذان، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، ونحوه مذهب الشافعية إلا أنهم قالوا: إن لم يوجد منهم من يحسن العربية أجزأهم بغيرها.

[4] خلو الأذان من اللحن الذي يغيِّر المعنى (4): كمدِّ همزة (أكبر) أو بائه وغير ذلك مما يغير المعنى، وكذلك التمديد الزائد عن المطلوب في الأذان، فإن أحال المعنى أبطل الأذان وإلا كُره عند الجمهور خلافًا للحنفية.

[5] ترتيب كلمات الأذان (5): فيشترط أن يأتي المؤذن بكلمات الأذان على نفش النظم والترتيب الوارد في السنة -والذي يأتي قريبًا- دون تقديم أو تأخير لكلمة أو جملة على الأخرى، فإن فعل المؤذن ذلك استأنف الأذان من أوله -عند الجمهور خلافًا للحنفية- لأن ترك الترتيب يخل بالإعلام المقصود، ولأنه ذكر يعتد به، فلا يجوز الإخلال بنظمه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (6).

_________

(1) صحيح: تقدم مرارًا.

(2) «مواهب الجليل» (1/ 424)، و «منتهى الإرادات»؛1/ 129).

(3) «ابن عابدين (1/ 256)، و «كشاف القناع» (1/ 215)، و «المجموع» (3/ 129).

(4) «ابن عابدين» (1/ 259)، و «منتهى الإرادات» (1/ 130)، و «المواهب» (1/ 438)، و «المجموع» (3/ 108).

(5) «البدائع» (1/ 149)، و «مغنى المحتاج» (1/ 137)، و «الإرادات» (1/ 128)، و «المواهب» (1/ 425).

(6) صحيح: علقه البخاري في «الاعتصام»، ووصله مسلم (1718) وغيره.

 

(1/278)

 

 

[6] الموالاة بين ألفاظ الأذان (1): وهي المتابعة بين ألفاظه بدون فصل بقول أو فعل، فإن كان الفصل يسيرًا كأن يعطس المؤذن في أثنائه فيبنى على ما مضى عند الجمهور، وأما لو طال الفصل بين كلمات الأذان بكلام كثير أو إغماء ونحوه فيبطل الأذان ويجب استئنافه من أوله، ولا يجوز أن يبنى غيره على أذانه، بل يستأنف.

[7] إسماع غير الحاضرين (2): إما برفع الصوت أو باستعمال مكبِّر الصوت، ليحصل المقصود للأذان، فإن كان يؤذن لنفسه فلا يشترط رفع الصوت إلا بقدر ما يسمع نفسه أو يسمع الحاضر معه، وقد تقدم في حديث أبي سعيد: «.. فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» (3).

وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: «علِّمه بلالاً فإنه أندى وأمدُّ صوتًا منك» (4).

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وقول عند الحنفية، وهو سنة عند المالكية والراجح عند الحنفية.

هل يجزئ عرض الأذان من المذياع؟ (5) عرض الأذان من المذياع أو المسجل غير صحيح، لأنه عبادة، وقد سبق أنه أفضل من الإمامة، وكما أنه لا يصح أن يقتدي الناس في صلاتهم بصلاة مسجلة، فكذلك الأذان. والله أعلم.

هل يجوز الكلام أثناء الأذان والإقامة؟ اختلف أهل العلم في حكم كلام المؤذن أثناء التأذين على أقوال (6):

الأول: يجوز الكلام في الأذان مطلقًا: وبه قال الحسن وعطاء وقتادة وأحمد (إلا أنه منعه في الإقامة) وهو مروي عن سليمان بن صرد (من الصحابة) وعروة ابن الزبير، واحتجوا بما يلي:

1 - أن ابن عباس أمر مناديه يوم الجمعة في يوم مطير، لما بلغ: حي على

_________

(1) المراجع السابقة.

(2) المراجع السابقة.

(3) صحيح: تقدم في «فضائل الأذان».

(4) حسن: تقدم في «حكم الأذان» وسيأتي.

(5) «الشرح الممتع» (2/ 61 - 62) بمعناه.

(6) «الأوسط» (3/ 43)، و «مسائل أحمد» لأبي داود (27)، و «المدونة» (1/ 59)، و «الأم» (1/ 85).

 

(1/279)

 

 

الصلاة، أن يقول: «الصلاة في الرحال، فقيل: ما هذا، قال: فعله من هو خير مني» (1).

2 - عن موسى بن عبد الله بن زيد أن سليمان بن صرد -وكانت له صحبة- «كان يؤذن في العسكر فيأمر غلامه بالحاجة وهو في أذانه» (2).

الثاني: يكره الكلام أثناء الأذان والإقامة: وبه قال النخعي وابن سيرين والأوزاعي ومالك والثوري والشافعي وأبو حنيفة.

الثالث: لا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في أذانه إلا كلامًا من شأن الصلاة نحو (صلوا في رحالكم)، وهو قول إسحاق واختاره ابن المنذر.

الرابع: إن تكلم في الإقامة أعادها: وهو قول الزهري.

صفات المؤذن: يستحب أن يتصف المؤذن بما يلي:

1 - أن يبتغي بأذانه وجه الله: فلا يأخذ أجرة على أذانه وإقامته، لأنَّ الاستئجار على الطاعة لا يجوز، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» (3).

فإن لم يوجد متطوع، رَزَق الإمام (جعل راتبًا) من بيت المال من يقوم به، لحاجة المسلمين إليه.

2 - أن يكون عدلاً أمينًا: لأن «المؤذن مؤتمن» (4) أي: أمين على مواقيت الصلاة، وليؤمن نظره إلى العورات، ويصح أذان الفاسق مع الكراهة عند الجمهور، واختار شيخ الإسلام عدم إجزاء أذان ظاهر الفسق، لمخالفته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وجه عند الحنابلة (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (616)، ومسلم (699) بنحوه.

(2) إسناده صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 116 - فتح) ووصله ابن أبي شيبة (1/ 212، وابن المنذر (3) 44)، وأبو نعيم شيخ البخاري بسند صحيح كما في الفتح (2/ 116).

(3) صحيح: تقدم في «حكم الأذان».

(4) صحيح: تقدم في «فضائل الأذان».

(5) «ابن عابدين» (1/ 263)، و «المواهب» (1/ 436)، و «مغنى المحتاج» (1/ 138)، و «المغنى» (1/ 413)، و «الاختيارات» (37).

 

(1/280)

 

 

3 - أن يكون صيِّتًا (حسن الصوت) (1): لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد «فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فإنه أندى صوتًا منك» (2).

وعليه فيستحب استخدام أجهزة الصوتيات الحديثة لتحسين الصوت وإبلاغه، هذا مع كراهة التمطيط والتطريب.

4 - أن يكون عالمًا بالوقت: ليتمكن من الأذان في أوله، ويؤمن خطره، ويجوز لمن لا يعلم الوقت بنفسه -كالأعمى- أن يؤذن إذا كان معه من يخبره به، فقد «كان ابن أم مكتوم -وهو أعمى- لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت» (3).

صفة الأذان:

وردت ألفاظ الأذان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث كيفيات:

الأولى: خمس عشرة جملة (تربيع التكبير، وتثنية بقية الألفاظ، ما عدا كلمة التوحيد الأخيرة فإنها منفردة): وهذه الكيفية ثابتة في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال:

لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس ليضرب به للناس في الجمع للصلاة أطاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به للصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى، قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر غير بعيد، قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال: إن هذا رؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتًا منك. فقمت مع بلال فجعلت ألقنه عنه ويؤذن به، قال: فسمع بذلك عمر

_________

(1) «ابن عابدين» (1/ 259)، و «المواهب» (1/ 437)، و «مغنى المحتاج» (1/ 138)، و «منتهى الإرادات» (1/ 125).

(2) حسن: تقدم مرارًا، ويأتي في «صفة الأذان».

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(1/281)

 

 

ابن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل الذي أُرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد (1).

وبهذه الكيفية أخذ أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه (2).

الثانية: تسع عشرة جملة (كالسابقة مع زيادة الترجيع في الشهادتين):

والترجيع هو: أن يخفض صوته بالشهادتين -مع إسماعه الحاضرين- ثم يعود فيرفع صوته بهما. وهذه الكيفية ثابتة في حديث أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: «الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله» ثم قال: «ارجع فامدد من صوتك» ثم قال: «قل: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ...» الحديث (3).

وفي رواية عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة».

وبهذه الكيفية أخذ الشافعي (4).

الثالثة: سبع عشرة جملة (كالسابقة لكن بتثنية التكبير في أوله لا تربيعه):

وهي رواية أخرى لحديث أبي محذورة السابق:

«أن نبي الله علمه هذا الأذان: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة -مرتين- حي على الفلاح -مرتين- الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله» (5). لكن هذه الرواية معلولة لا تصح، إنما الصحيح تربيع التكبير كما تقدم.

_________

(1) حسن: أخرجه أبو داود (499)، والترمذي (189)، وابن ماجه (706)، وانظر «الإرواء» (2/ 264).

(2) «البدائع» (1/ 147)، و «المغنى» (1/ 404)، و «الأوسط» (3/ 16).

(3) حسن: أخرجه أبو داود (500 - 503)، والترمذي (192)، والنسائي (2/ 4)، وابن ماجه (709).

(4) «الأم» (1/ 85).

(5) أعلَّ بهذا اللفظ. أخرجه مسلم (379) وغيره.

 

(1/282)

 

 

وبهذه الكيفية أخذ مالك وصَاحَبا أبي حنيفة (1).

وقد رجَّح بعض العلماء تربيع التكبير (الكيفية الثالثة) في حديث أبي محذورة بأنها زيادة مقبولة لعدم منافاتها وصحة مخرجها، ولموافقتها لرواية «علمَّه الأذان تسع عشرة كلمة ...».

ثم رجَّحوها على الكيفية الأولى (التي ليس فيها الترجيع) بأن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث ابن زيد في أول الأمر، وبأن عمل أهل مكة والمدينة على الترجيع (2).

بينما ذهب آخرون إلى أن هذه الكيفيات كلها مباحة يخيَّر بين فعل أيٍّ منها، وهو قول أحمد (وإن اختار الأولى) وإسحاق، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية (3)، ولعلَّه أولى من الترجيح لأن القاعدة أن «العبادات الواردة على وجوه متنوعة فالأولى فعلها على هذه الوجوه» والله أعلم.

التثويب في أذان الفجر:

التثويب هو أن يقول المؤذن (الصلاة خير من النوم) مرتين بعد الحيعلتين (4) في أذان الفجر، وهو سنة عند الجمهور (5) لحديث أبي محذورة المتقدم وفيه: «... فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله» وفي لفظ «في الأولى من الصبح» (6).

وقد ورد التثويب في الفجر من حديث بلال، وسعد القرظ، وأبي هريرة، وابن عمر، ونعيم النحام، وعائشة، وأبي محذورة، وفي أسانيدها مقال، وأفضلها الثلاثة الأخيرة، وهي بمجموعها تثبت مشروعية التثويب في أذان الفجر.

_________

(1) «المدونة» (1/ 57)، و «البدائع» (1/ 147).

(2) «المحلى» (3/ 203 - 206)، و «الأوسط» (3/ 16)، و «نيل الأوطار» (2/ 45)، و «زاد المعاد» (2/ 389).

(3) «مسائل أحمد» لأبي داود (27)، و «المغنى» (1/ 404)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 336 - 337)، و «الممتع» (2/ 51).

(4) أي: حي على الصلاة، حي على الفلاح.

(5) «مواهب الجليل» (1/ 431)، و «المجموع» (3/ 92)، و «المغنى» (1/ 407)، و «سبل السلام» (1/ 250).

(6) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (501)، والنسائي (2/ 8 - 79، وأحمد (3/ 408) وصححه الألباني لذاته في تخريج «المشكاة» (645)، وإنما يحسَّن بمجموع الطرق. والله أعلم.

 

(1/283)

 

 

التثويب في الأذان الأول دون الثاني:

الأحاديث المشار إليها آنفًا منها ما ذكر التثويب دون تحديد بكونه في الأذان الأول أو الثاني، ومنها ما نص على أنه في الأول، وليس فيها حديث واحد نص على أنه في الثاني، فدلَّ على أن مشروعية التثويب إنما هي الأذان الأول لأنه لإيقاظ النائم -كما تقدم- وأما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة.

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنان للفجر أحدهما بلال -وورد عنه التثويب- والثاني ابن أم مكتوم، وكان أذان بلال هو الأول ولم يَرد أن ابن أم مكتوم كان يثوب في أذانه، والله تعالى أعلم (1).

فائدة: أجاز بعض الحنفية والشافعية التثويب في العشاء، قالوا: لأنها وقت غفلة ونوم كالفجر (!!) وأجاز بعض الشافعية التثويب في جميع الأوقات!! وهذه بدعة مخالفة للسنة، وقد أنكرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل يصلي في مسجد فسمع رجلاً يثوِّب في أذان الظهر فخرج، فقيل له: أين؟ فقال: «أخرجتني البدعة» (2).

المستحبات في الأذان:

1 - الأذان على طهارة: لعموم الأدلة على استحباب ذكر الله على طهارة -وقد تقدمت في الوضوء- وقد رُوي حديث: «لا يؤذن إلا متوضئ» ولا يصح.

فإذا أذَّن وهو محدث الحدث الأصغر أجزأ عند جميع الفقهاء، وكذلك إن كان جنبًا على الصحيح لعدم الدليل على المنع ولأن الجنب ليس بنجس، وقد منعه أحمد وإسحاق (3).

2 - الأذان قائمًا:

لم يختلف أهل العلم في أن من السنة أن يؤذن وهو قائم إلا من علة، فإن كانت به علة فله أن يؤذن جالسًا، وكره مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي الأذان قاعدًا مطلقًا (4).

_________

(1) انظر رسالة «تحفة الحبيب .. بحكم الأذانين الفجر والتثويب» لشيخنا مجدي بن عرفان رفع الله قدره.

(2) حسَّنه الألباني: أخرجه أبو داود (538)، والبيهقي (1/ 424)، وانظر «الإرواء» (236).

(3) «الأوسط» (3/ 28).

(4) «الأوسط» (3/ 46).

 

(1/284)

 

 

وقد تقدم في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قُم يا بلا فنادِ بالصلاة» (1).

وفي حديث عبد الله بن زيد: «رأيت في المنام كأن رجلاً قائمًا ... فأذن مثنى وأقام مثنى» (2).

3 - استقبال القبلة:

أجمع أهل العلم على أن من السنة أن تُستقبل القبلة بالأذان (3)، وقد رُوي فيه أحاديث فيها مقال منها ما في بعض روايات حديث ابن زيد أن الملك الذي رآه يؤذن استقبل القبلة (4).

4 - إدخال إصبعيه في أذنيه: لحديث أبي جحيفة قال: «رأيت بلالاً يؤذن ويدور، ويتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في أذنيه» (5).

5 - جمع المؤذن بين كل تكبيرتين:

لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله ... الحديث» (6) وسيأتي بتمامه، ففيه إشارة ظاهرة إلى أن المؤذن يجمع بين كل تكبيرتين، وأن السامع يجيبه كذلك (7)، لا كما يفعله بعض المؤذنين من إفراد كل تكبيرة من الأربع بِنَفَس (!!)

6 - الالتفات بالرأس يمينًا عند قوله: حي على الصلاة، ويسارًا عند قوله: حي على الفلاح:

لحديث أبي جحيفة «أنه رأى بلالاً يؤذن، قال: «فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا بالأذان» (8). فيسنُّ أن يلتفت برأسه، وبدنُه مستقبل القبلة، وبه قال الجمهور

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه.

(2) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 203)، وأحمد (5/ 232).

(3) «الأوسط» (3/ 28).

(4) انظر «إرواء الغليل» (1/ 250).

(5) صحيح: أخرجه الترمذي (197)، وأحمد (4/ 308)، وانظر «الإرواء» (230).

(6) صحيح: يأتي بتمامه قريبًا.

(7) «شرح مسلم» للنووي (3/ 79).

(8) صحيح: أخرجه البخاري (634)، ومسلم (503).

 

(1/285)

 

 

خلافًا لمالك فقد أنكره!! وقيَّده أحمد وإسحاق بمن يؤذن على المنارة يريد أن يسمع الناس (1).

7 - التثويب في الأذان الأول للفجر: وقد تقدم الكلام عليه.

ما يستحب لمن سمع الأذان:

1 - الترديد سرًّا خلف المؤذن: فعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» (2).

فإذا قال المؤذن: حي على الصلاة، وحي على الفلاح، فليقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة» (3).

وقد ذهب الجمهور إلى تخصيص الحيعلتين بهذا الحديث من عموم حديث أبي سعيد المتقدم، ولأن الحيعلتين خطاب، فإعادته عبث.

إذا قال المؤذن (الصلاة خير من النوم) بم يجيب؟ يجيب السامع بقوله: (الصلاة خير من النوم) على عموم حديث أبي سعيد المتقدم، وأما قو لبعضهم: (صدقت وبررت) فلا يثبت فيه حديث صحيح، فلا يجوز التعبد به، والله أعلم.

فائدة: يكفي في إجابة المؤذين بالشهادتين أن يقول: (وأنا) أو (وأنا أشهد) ونحو ذل لحديث سهل بن حنيف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهو جالس على المنبر، أَذَّن المؤذن، قال: الله أكبر الله أكبر، قال معاوية: قال: الله أكبر الله أكبر، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا فقال: أشهد أن محمدًا رسول الله، فقال معاوية: وأنا، فلما قضى التأذين قال: «أيها الناس إني سمعت

_________

(1) «الأوسط» (3/ 26، 27).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (611)، ومسلم (383).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (385)، وأبو داود (523).

 

(1/286)

 

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس -حين أذن المؤذن- يقول ما سمعتم مني من مقالتي (1).

2 - الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له بعد فراغ المؤذن:

فعن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلَّوا عليَّ، فإنه من صلَّى عليَّ صلاة، صلى الله بها عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، فأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» (2).

وعن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يومَ القيامة» (3).

3 - الشهادة بالوحدانية والرسالة والرضا بالله ورسوله وبدينه:

فعن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمجمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، غُفر له ما تقدم من ذنبه» (4).

4 - الدعاء بين الأذان والإقامة: لأن الدعاء حينئذ مستجاب، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة [فادعوا]» (5).

وعن عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل كما يقولون، فإذا انتهيت، فَسَلْ تُعْطَهْ» (6).

النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان:

فعي أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة، فأذن المؤذن، فقام

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (914)، والنسائي (2/ 24)، وأحمد (4/ 95).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (384)، وأبو داود (523)، والترمذي (3694)، والنسائي (2/ 25).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (614)، وأبو داود (529)، والترمذي (211)، والنسائي (2/ 27).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (386)، وأبو داود (525)، والترمذي (210)، والنسائي (2/ 26).

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (521)، والترمذي (212)، وابن خزيمة (425)، وأحمد (3/ 155).

(6) لا بأس به: أخرجه أبو داود (524)، وأحمد (2/ 172)، وابن حبان (1695).

 

(1/287)

 

 

رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره، حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (1).

قال النووي: «فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر» (2) اهـ.

قلت: ولا يخرج إلا لضرورة كالوضوء أو الغسل ونحوه، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أقيمت الصلاة وعدِّلت الصفوف فاغتسل ثم رجع، وسيأتي في «الإقامة»، قال الحافظ في «الفتح» (2/ 143): يلحق بالجنب: المحدث والراعف والحاقن ونحوهم، وكذا من يكون إمامًا لمسجد آخر ومن في معناه. اهـ.

بعض الأخطاء والبدع فيما يتعلق بالأذان (3): الأذان عبادة، فالأصل فيه التوقيف على النص ومورده، فلا يشرع فيه إلا ما شرعه الله ورسوله، وقد فشت في مجتمعاتنا كثير من المخالفات والأخطاء فيما يتعلق بالأذان، وأذكر من ذلك على سبيل الاختصار.

(أ) من أخطاء المؤذنين:

1 - التمطيط والتطريب والتلحين الزائد في الأذان.

2 - زيادة لفظة (سيدنا) عند الشهادة في الأذان.

3 - التسابيح والتواشيح ونحو ذلك قبل الأذان.

4 - الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان.

5 - عدم الالتزام بسنن الأذان التي تقدم ذكرها.

6 - ترك الأذان الأول للفجر، وترك التثويب فيه.

(ب) من أخطاء مستمعي الأذان:

1 - عدم الالتزام بالسنن التي تقدم ذكرها.

2 - قولهم: (الله أعظم والعزة لله) عند سماع التكبير.

3 - إقسام بعضهم بحق الأذان.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (655)، وأبو داود (536)، والنسائي (2/ 29)، والترمذي (131).

(2) «شرح مسلم» (5/ 157)، وانظر «سنن الترمذي» (1/ 398) - شاكر.

(3) انظر «بدع وأخطاء المصلين» (لأخينا عماد زكي أثابه الله ط. التوفيقية).

 

(1/288)

 

 

4 - زيادة بعضهم (والدرجة العالية الرفيعة) و (إنك لا تخلف الميعاد) في الدعاء بعد الأذان.

5 - قولهم: لا إله إلا الله، إذا كبَّر المؤذن التكبير الأخير، فيسبقون بهذا المؤذن.

(جـ) من الأخطاء عند إقامة الصلاة:

1 - عدم إجابة المقيم.

2 - قولهم (أقامها الله وأدامها) عند قول المقيم: قد قامت الصلاة.

3 - قولهم بعد الإقامة: (اللهم أحسن وقوفنا بين يديك).

ثانيًا: الإقامة

تعريفها: تقدم أن الإقامة: إعلام بالقيام إلى الصلاة، بألفاظ مأثورة على صفة مخصوصة.

صفة الإقامة:

الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الإقامة كيفيتان:

الأولى: إحدى عشرة جملة: (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله).

وهذه الكيفية هي الواردة في حديث عبد الله بن زيد الذي تقدم في الأذان، وعليها يُحمل ما ثبت عن أنس قال: «أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، إلا الإقامة» (1).

لأن بلالاً إنما كان يؤذن على ما علَّمه عبد الله بن زيد، وعلى هذا جماهير أهل العلم من السلف والخلف.

الثانية: سبع عشرة جملة: (الله أكبر أربعًا، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، قد قامت الصلاة مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله).

وهذه الكيفية ثابتة في حديث أبي محذورة المتقدم في الأذان.

ومن ألزم نفسه -في الأذان- بحديث ابن زيد لزمه أن يلتزم في الإقامة

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (605)، ومسلم (378).

 

(1/289)

 

 

بالكيفية الأولى، ومن ألزمها بحديث أبي محذورة لزمه الثانية، ومن رأى التخيير فهو كذلك في الإقامة، وهو الأَوْلى، والله أعلم.

هل يلزم أن يقيم من أذَّن؟

الأَوْلى أن يقيم من أذَّن، لأن بلالاً رضي الله عنه كان يتولى الأذان والإقامة -كما سيأتي- وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، ولو أذَّن رجل وأقام آخر فهو جائز، وأما حديث زيد الصدائي مرفوعًا: «يقيم أخو الصداء، فإن من أذَّن فهو يقيم» (1) فلا يصح وكذلك حديث عبد الله بن زيد أنه أقام بعد أن أذَّن بلال (2) ضعيف.

هل يردد خلف من يُقيم؟

يُشرع لمن سمع الإقامة أن يقول مثلما يقول المقيم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم النداء، فقولوا مثلما يقول المؤذن» (3) والإقامة نداء وأذان، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاة» (4) يعني: الأذان والإقامة.

وقيل: لا يشرع الإجابة إلا في الأذان، قلت: والأمل أرجح والأمر واسع.

ماذا يقول إذا قال: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة؟

السنة أن يقول كما سمع (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة) لعموم الحديث المتقدم، وأما ما يُروى من أنه يقول: «أقامها الله وأدامها» (5) فلا يثبت الحديث فيه.

متى يقيم الصلاة؟

1 - الأصل أن لا يقيم إلا إذا رأى الإمام، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: «كان بلال يؤذِّن إذا دحضت، فلا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام الصلاة حتى يراه» (6).

2 - ويشرع أحيانًا أن يقيم قبل أن يخرج الإمام، إذا رآه من بعيد أو علم بقرب خروجه كما في حديث أبي هريرة «أن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الناس مصافهَّم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه» (7).

_________

(1) ضعيف: وانظر «الضعيفة» (35)، و «الإرواء» (237).

(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (499)، وأحمد (4/ 43).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صحيح: يأتي في «صلاة التطوع».

(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (528)، وانظر «الإرواء» (241).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (606) وقد تقدم.

(7) صحيح: أخرجه مسلم (605).

 

(1/290)

 

 

متى يقوم الناس للصلاة؟

1 - إذا لم يكن الإمام معهم في المسجد، فالسنة ألا يقوموا حتى يروه، أقام المؤذن أو لم يقم، وهذا قول الجمهور، لحديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني» (1).

2 - إذا كان الإمام معهم في المسجد: فذهب الشافعي والأكثرون أنهم لا يقومون إلا بعد الفراغ من الإقامة، وقال مالك: إذا اخذ في الإقامة، وقال أحم: إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، وقال أبو حنيفة: يقومون إذا قال: حي على الصلاة (2).

قلت: والذي يظهر لي أنهم يقومون إذا رأوا الإمام قد قام، فإن قيام الإمام إلى مقامه في معنى خروجه على المصلين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فلا تقوموا حتى تروني» والله أعلم.

تنبيه: رأى بعض الفضلاء المعاصرين أنه لا يشرع الإقامة للصلاة باستعمال مكبِّر الصوت وإسماع من في خارج المسجد!! وعزا هذا القول إلى العلامة الألباني، رحمه الله.

قلت: لعل مستند هذا القول أن المقصود من الإقامة الإعلام بالدخول في الصلاة والإحرام بها، وليس الإعلام للصلاة والتهيؤ لها والدعاء إليها كما في الأذان، ومع هذا فليس هناك ما يمنع من إسماع الإقامة لمن في الخارج، بل قد ثبت عن ابن عمر: «أنه قد سمع الإقامة وهو بالبقيع، فأسرع إلى المسجد» (3).

 

شروط صحة الصلاة

الشرط هو: ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، كالطهارة مثلًا فإن عدمها يلزم منه عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من طهارته وجوب الصلاة، ومن شروط الصلاة التي لا تصح إلا بها -مع القدرة ما يأتي:

[1] العلم بدخول الوقت: قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (4).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (637)، ومسلم (604).

(2) «شرح مسلم» للنووي (3/ 840 - قلعجي).

(3) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي كما في مسنده (183 - شفاء العي).

(4) سورة النساء، الآية: 103.

 

(1/291)

 

 

وقد حددت السُّنة مواقيت الصلوات -كما تقدم-، والصلاة عبادة مؤقتة بوقت محدد الطرفين، فلا يصح فعلها قبل وقتها -بالإجماع- ولا يصح فعلها بعد وقتها إلا لعذر على الراجح كما تقدم تحريره.

وقد اتفق الفقهاء على أنه يكفي في العلم بدخول الوقت غلبة الظن (1).

[2] الطهارة من الحَدَثَيْن مع القدرة: وهي شرط لصحة الصلاة لما يأتي:

1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2).

2 - قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا} (3).

3 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (4).

4 - حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» (5).

وهما صريحان في الشرطية، ولا تصح الصلاة إلا بتحقيق الطهارة من الحدث، إلا من أصحاب الأعذار الشرعية كصاحب سلس البول وتفلت الريح والمستحاضة فهؤلاء يصلون وإن أحدثوا في الصلاة، وكذلك فاقد الطهورين (الماء والتراب) كالمسجون ونحوه فإنه يصلي على حالته. والله أعلم.

هل يشترط الطهارة من النجس في البدن والثوب والمكان؟

أما البدن: فيجب تطهيره من النجاسة لما يأتي:

1 - قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (6). وإذا وجب تطهير الثوب فتطهير البدن أولى.

_________

(1) «ابن عابدين» (1/ 247)، و «الدسوقي» (1/ 181)، و «مغنى المحتاج» (1/ 184)، و «كشاف القناع» (1/ 257).

(2) سورة المائدة، الآية: 6.

(3) سورة النساء، الآية: 43.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (224)، والترمذي (1)، والنسائي (139)، وأبو داود (59)، وابن ماجه (273).

(6) سورة المدثر، الآية: 4.

 

(1/292)

 

 

2 - أحاديث الاستنجاء والاستجمار -التي تقدمت في «الطهارة» - تدل على وجوب تطهير البدن من النجاسة.

3 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الذكر من المذي.

4 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستتار من البول، وإخباره عن الرجلين اللذين يعذبان في قبرهما أن أحدهما كان لا يستتر (أو يستنزه) من البول.

وكل هذه الأدلة تقدمت في «كتاب الطهارة».

وأما الثوب فيجب تطهيره واجتناب النجاسة فيه، لما يأتي:

1 - قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (1).

2 - قوله صلى الله عليه وسلم في الثوب يصيبه دم الحيض: «تحتُّه، ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه» (2).

خلعُ النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة لما أخبره جبريل بأن فيهما خبثًا (3)، يدل على وجوب التخلي من النجاسة حال الصلاة في الثوب.

وأما المكان: فيجب تطهير المكان الذي يصلى فيه، لما يأتي:

1 - قال الله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (4).

2 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإهراق ذنوب من ماء على بول الأعرابي في المسجد (5).

قلت: (أبو مالك): ولأهل العلم تجاه هذه النصوص السابقة مسلكان:

الأول: عند الصلاة، وأنه إذا صلَّى مباشرًا للنجاسة أو حاملاً لها أو ملاقيًا لها فهو آثم لكن صلاته صحيحة، لأن هذه النصوص ليس فيها ما يفيد نفي ذات الصلاة أو صحتها، بخلاف الطهارة من الحدث، ولا يستلزم الواجب أن يكون شرطًا (6).

_________

(1) سورة المدثر، الآية: 4.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (227)، ومسلم (291).

(3) صحيح: تقدم في «تطهير النجاسات».

(4) سورة البقرة، الآية: 125.

(5) صحيح: تقدم في «الطهارة».

(6) انظر «السيل الجرار» للشوكاني (1/ 157 - 158).

 

(1/293)

 

 

الثاني: أن هذه النصوص فيها الأمر باجتناب النجاسة، والأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي في العبادات يقتضي الفساد، فاستدل بذلك على الشرطية، وإلى هذا ذهب جماهير العلماء (1).

والذي يظهر: القول الأول، نعم يصح الاستدلال على الشرطية بالنهي الذي يدل على الفساد المرادف للبطلان، لكن هذا إذا كان النهي عن ذلك الشيء لذاته أو لجزئه، لا لأمر خارج عنه، والنهي هنا خارج عن جنس الصلاة كما لا يخفى، والله أعلم.

من صلَّى وعليه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة، هل يعيدها؟ (2).

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

الأول: صلاته باطلة، وعليه الإعادة إذا علم بالنجاسة في الوقت، ولا إعادة بعد الوقت:

وهو مذهب ربيعة ومالك والحسن (3).

الثاني: صلاته باطلة، وعليه الإعادة ولو بعد الوقت: وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد (4). قالوا: لأنه فقد شرطًا من شروط صحة الصلاة فبطلت ولزمه الإعادة.

الثالث: صلاته صحيحة، ولا إعادة عليه: وبه قال ابن عمر وعطاء وابن المسيب ومجاهد وأبو ثور وإسحاق والشعبي والنخعي والأوزاعي، وهو رواية عن أحمد، واختاره ابن المنذر (5) وحجتهم:

1 - أنه لم يعلم بالنجاسة، وقد قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} (6). وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: «قد فعلت» (7).

_________

(1) «البدائع» (1/ 114)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 200)، و «مغنى المحتاج» (1/ 188)، و «كشاف القناع» (1/ 288).

(2) محل هذه المسألة على قول الجمهور باشتراط الطهارة من النجس في الصلاة، وأما على ما رجحناه من الوجوب «دون الشرطية»، فلا شيء عليه كما لا يخفى.

(3) «المدونة» (1/ 55)، و «المغنى» (2/ 65)، و «الأوسط» (2/ 164).

(4) «الأم» (1/ 55)، و «المغنى» (2/ 65)، و «الأوسط» (2/ 164).

(5) «الأوسط» (2/ 163)، و «المغنى» (2/ 65)، و «المجموع» (3/ 163).

(6) سورة البقرة، الآية: 286.

(7) صحيح: أخرجه مسلم (125).

 

(1/294)

 

 

2 - حديث أبي سعيد في قصة خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه لما أخبره جبريل أن فيهما أذى، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم بوجود الأذى وقد أتم صلاته، ولو كانت باطلة لاستأنفها من أولها.

قلت: لو قلنا باشتراط اجتناب النجاسة فيلزمنا القول ببطلان الصلاة وإلا فيلزم منه أن من تذكر أنه صلى صلاة بغير وضوء أنه لا يعيدها!! وهم لا يقولون بهاذ، ففيه هدم للقواعد التي منها أن الشروط والأركان لا تسقط بالنسيان. وأما حديث خلع النعلين فهو دليل لنا على عدم اشتراط اجتناب النجاسة في الصلاة، فهو يقوى ترجيحنا للوجوب دون الشرطية والله أعلم.

الأماكن المنهي عن الصلاة فيها:

الأصل أن الأرض كلها مسجد، تجوز الصلاة في أي بقعة منها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَضِّلتُ على الأنبياء بستٍّ: .. وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا ...» (1).

لكن يستثنى من هذا العموم أماكن قد ثبت النص بالنهي عن الصلاة فيها، ومن ذلك:

1 - مبارك الإبل (معاطنها): هي المواضع التي تقف فيها الإبل عند ورودها الماء وتبرك، والتي تأوي إليها وتبيت فيها، وعن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم»، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا» (2). وأقرب ما يقال في علة النهي، قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين» (3) فلا يبعد أن تصحبها الشياطين وتكون مباركها مأوى للشياطين فمنعت الصلاة فيها لأجل ذلك، كما امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة في المكان الذي غفلوا فيه عن صلاة الصبح، وعلل ذلك بقوله: «ذلك مكان حضرَنا فيه الشيطان» (4).

2 - المقبرة: فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمَّام» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (523)، وموضع الشاهد في البخاري (335)، ومسلم (520) عن جابر.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (360).

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (493)، وابن ماجه (769)، وأحمد (5/ 55).

(4) صحيح: تقدم في «المواقيت».

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (492)، والترمذي (236)، وابن ماجه (745) واختلف في وصله وإرساله والصواب الوصل وانظر «الإرواء» (1/ 320).

 

(1/295)

 

 

وعن أبي مرثد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلَّوا إليها» (1).

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (2) فكأن العلَّة في النهي عن الصلاة في المقبرة سد ذريعة عبادة القبور أو التشبه بالكفار.

ويستوي في هذا أن تكون مقبرة مسلمين أو مقبرة كفار، فإذا نبشت وأخرج ما فيها من الموتى جازة الصلاة فيها.

ويستثنى من النهي: الصلاة على الجنازة بعد دفنها -لمن لم يصلِّ عليها قبل- لحديث ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى على قبر بعد ما دفن فكبَّر عليه أربعًا» (3).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمن كان يَقُمُّ المسجد، فقالوا: مات يا رسول الله، قال: «أفلا آذنتموني؟» فقالوا: إنه كان كذا وكذا -قصته- قال: فحقروا شأنه، قال: «فدلوني على قبره» فأتى قبره فصلى عليه (4) وفيه مشروعية الصلاة على القبر خلاف وقد أجازها الجمهور، ومنعها مالك وأبو حنيفة وسيأتي في «الجنائز».

3 - الحمَّام: وهو مكان الاغتسال -لا مكان قضاء الحاجة كما يطلق عليه العوام- ولا تجوز الصلاة فيه لحديث أبي سعيد المتقدم «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام».

ومكان قضاء الحاجة: ويسمى الحُشَّ والكنيف والمرحاض، ولا تجوز الصلاة فيه كذلك، لنجاسته ولأنه مأوى الشياطين: فعن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الحُشوش محتضَرَة، فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخُبُث والخبائث» (5).

هل تجوز الصلاة فوق البلاعة (بيارة الصرف)؟

الصحيح أن سطح البلاعة ليس تابعًا لها، ولا يدخل في مسمىَّ (الحُش) فيجوز الصلاة فوقها ما لم يكن على سطحها نجاسة، والله أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (972).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (435)، ومسلم (529).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (954).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1337)، ومسلم (956).

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (6)، وابن ماجه (296).

 

(1/296)

 

 

ما حكم الصلاة في الثوب المغصوب أو المُحَرَّم والأرض المغصوبة؟

لأهل العلم في هذه المسألة ونظائرها قولان:

الأول: لا تصح الصلاة: وهو المشهور من مذهب أحمد وابن حزم واختاره شيخ الإسلام (1) وحجتهم:

1 - ما رُوى عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم، وفيه درهم حرام، لم تقبل له صلاة ما دام عليه» (2) وهو ضعيف.

2 - أن اللباس متعلق بركن العبادة وشرطها فيؤثر فيها، بخلاف ما إذا كان أجنبيًّا عنها، فإنه لا يؤثر كما فيمن توضأ من آنية الذهب، فالإناء أجنبي عن الصلاة فلا يؤثر فيها.

الثاني: تصح صلاته، وإن أثم بلبسه: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي (3) وهو الراجح لأن النص لم يأت بالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة أو الثوب المغصوب أو المحرَّم وإنما أتى في النهي عن الغصب وعن اللبس مطلقًا فتصح الصلاة ويثبت الإثم وتسمى هذه «قاعدة انفكاك الجهة» (4) وأما الحديث الذي استدلوا به فلا يصح، على أن نفس القبول لا يستلزم نفي الصحة.

قلت: وربما يؤيد ما رجَّحناه حديث عقبة بن عامر قال: «أُهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُّوج حرير فلبسهُ، ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعهُ نزعًا عنيفًا شديدًا كالكاره لهُ، ثم قال «لا ينبغي هذا للمتقين» (5) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لبسه قبل التحريم ثم أخبره جبريل بتحريم الحرير (كما في رواية مسلم عن جابر) في الصلاة وخارجها، ولم يُعِد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة.

[3] ستر العورة، مع القدرة:

اتفق أهل العلم -إلا نَزْرًا يسيرًا- على أن ستره العورة شرط لصحة الصلاة لمن قدر على ذلك لما يأتي:

_________

(1) «الإنصاف» (1/ 194)، و «المحلى» (4/ 33)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 89).

(2) ضعيف: أخرجه أحمد (2/ 98) بسند ضعيف.

(3) «المجموع» (3/ 180)، و «المبسوط» (1/ 206)، و «نيل الأوطار» (2/ 92).

(4) انظر «قواعد ابن رجب» (ص 11، 12).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (375)، ومسلم (2075).

 

(1/297)

 

 

1 - قوله تعالى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (1) أي: استروا عوراتكم إذا أردتم الصلاة، فإنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة فنزلت الآية (كما في صحيح مسلم).

2 - حديث سلمة بن الأكوع قال: قلت يا رسول الله، إنا نكون في الصيد، أفيصلي أحدنا في القميص الواحد؟ قال: «نعم، وليَزرُرْهُ ولو لم يجد إلا أن يخله بشوكة» (2).

3 - حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الصلاة صلاة حائض إلا بخمار» (3).

4 - حديث جابر في قصة صلاته إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم مشتملاً بثوب، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «فإن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتَّزِر به» (4) فلا يجزئ أقل من الائتزار (ستر أسفل البدن) فدلَّ على وجوب ستر العورة في الصلاة، وهو نهي عن ضده فيقتضي الفساد، فكان فيه معنى الشرطية عند الجمهور.

5 - حكى ابن عبد البر الإجماع على فساد صلاة من صلى عريانًا وهو قادر على الاستتار، وكذا نقل شيخ الإسلام، وإن كان قد نقُل عن بعض المالكية أنه لا تبطل الصلاة بترك ستر العورة، وكذا اختار الشوكاني أنه واجب على قاعدته التي تقدمت في اشتراط طهارة الثوب والبدن والمكان (5)، والذي يظهر لي أن الأمر هنا يختلف لمن أمعن النظر.

6 - أن ستر العورة حال القيام بين يدي الله تعالى من باب التعظيم (6).

_________

(1) سورة الأعراف، الآية: 31.

(2) إسناده لين: علَّقه البخاري بصيغة التمريض (1/ 554)، وقال البخاري: في إسناده نظر. اهـ. قلت: هو كذلك لعلة ذكرها الحافظ في الفتح (1/ 555)، ثم الحديث قد أخرجه أبو داود (623)، والنسائي (2/ 70) ومداره على راو ليِّن، وقد رأى العلامة الألباني في «المشكاة» (760) وقبله النووي في المجموع تحسينه (3/ 164)!!.

(3) ضعيف على الراجح: أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (377) وغيرهما وقد أعلَّه غير واحد من العلماء، وقد حسنه الألباني في «الإرواء» (1/ 215).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (361)، ومسلم (3010).

(5) «التمهيد»، و «مجموع الفتاوى» (22/ 117)، و «الفتح» (1/ 555)، و «بداية المجتهد» (1/ 156)، و «السيل الجرار» (1/ 158).

(6) «البدائع» (1/ 116)، و «الدسوقي» (1/ 211)، و «مغنى المحتاج» (1/ 184)، و «كشاف القناع» (263).

 

(1/298)

 

 

ما يجب ستره في الصلاة:

ليُعلم ابتداءً أن التحقيق (1): أنه لا ارتباط بين عورة النظر والعورة في الصلاة لا طردًا ولا عكسًا، بل إن مصطلح (ستر العورة) الذي يعتبره الفقهاء شرطًا في صحة الصلاة، ليس من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في الكتاب والسنة أن ما يستره المصلي فهو عورة، بل قال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2).

وعورة النظر إنما هي لأجل الشهوة، وأما أخذ الزينة في الصلاة فلحق الله تعالى، فليس لأحد أن يطوف بالبيت أو يصلي عريانًا ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس، فهذا نوع وهذا نوع.

وحينئذ فقد يستر المصلى في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يُبدى في الصلاة ما يسترهُ عن الغير:

فالأول: مثل المنكبين، فقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» (3) فهذا لحَقِّ الصلاة، ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة، وكذلك المرأة تختمر في الصلاة، وهي لا تختمر عند زوجها ولا ذوي محارمها.

وعكس ذلك: الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على [أصح] القولين، وأما ستر ذلك في الصلاة فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها إبداء الوجه والكفين في الصلاة عند الجمهور، فكذلك القدم عند أبي حنيفة، وهو الأقوى .. ، إذا عُلِم هذا فنقول:

ما يجب أن يستره الرجل في صلاته:

- «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطوف بالبيت عريانًا» (4) فالصلاة أولى.

- وقال في الثوب الواحد: «إن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به» (5) فلم يجزئ أقل من الاتزار وهو ستر أسفل البدن.

- وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بين السُّرة والركبة عورة» (6).

_________

(1) هذا خلاصة ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في «الفتاوى» (22/ 113 - 120).

(2) سورة الأعراف، الآية: 31.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (359)، ومسلم (516).

(4) صحيح: يأتي في «الحج».

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (495، 496)، وانظر «الإرواء» (1/ 226).

 

(1/299)

 

 

وعن بريدة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في لحاف لا يتوشح به، ونهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء» (1) فدلَّ على وجوب ستر القسم الأعلى من البدن في الصلاة.

- و «نهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء» (2).

فدلَّ هذا على أن الرجل يؤمر في الصلاة بستر العورة: الفخذ وغيره حتى على القول بان الفخر ليس بعورة وأن العورة القبل والدبر فقط (وهذا مرجوح كما سيأتي في موضعه ولو صلى وحده في بيته ولم يره أحد لزمه ذلك.

وأما من بنى على أن العورة السوأتان [على إحدى الروايتين عن أحمد، وابن حزم] أنه يجوز الصلاة كاشفًا فخذيه، فقد غلظ ولم يقل به أحمد -رحمه الله- كيف وأحمد يأمره بستر المنكبين، فكيف يبيح له كشف الفخذين؟!

والحاصل أن الرجل مأمور -في الصلاة- بستر بدنه من الكتفين حتى الركبتين، إلا أن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا ضيقًا فله أن يتزر به ويكشف أعلى بدنه كما في حديث جابر المتقدم.

فائدة:

يجب ستر ما يلزم ستره في الصلاة بثوب لا يصف البشرة، بمعنى لا يصف لونها من بياض أو حمرة أو سواد، وأما إذا كان كثيفًا لكنه ضيق يصف حجم العض لا لونه، فيكره وصلاته صحيحة (3).

ما يجب أن تستره المرأة في الصلاة (4):

1 - إذا صلت بحضرة الأجانب فعليها أن تستر جميع بدنها إلا الوجه والكفين عند الجمهور (5).

2 - إذا ظهر منها شيء -مما يجب ستره- بحضرة الأجانب فهي آثمة لكن لا تبطل صلاتها -على الصحيح من أقوال العلماء- إذا لا دليل على بطلان الصلاة بذلك.

_________

(1) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (636)، والبيهقي (2/ 236) وانظر «صحيح أبي داود» (646).

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) أفاد نحوه الشيخ وحيد -حفظه الله- في «الإكليل» (1/ 311).

(4) نقلاً عن كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 81، 82، 83) ط. التوفيقية.

(5) في كشف الوجه والكفين خلاف بين العلماء ويأتي تحريره في موضعه.

 

(1/300)

 

 

3 - أما إذا كانت المرأة تصلي منفردة أو يحضرها الزوج أو المحارم فإنه:

يجوز لها كشف وجهها وكفيها في الصلاة وهو قول أكثر العلماء.

وبالنسبة لشعر المرأة في الصلاة، فقد ورد حديث: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (1) وهو وإن كان ضعيفًا، إلا أن الترمذي قال عقبه: «والعمل عليه عند أهل العلم: أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها، وهو قول الشافعي، قال: لا تجوز صلاة المرأة وشيء من جسدها مكشوف» اهـ.

(لكن إذا انكشف شيء يسير من شعرها وبدنها فصلاتها صحيحة وليس عليها الإعادة -عند كثير من العلماء- وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وإن انكشف شيء كثير أعادت الصلاة في الوقت عند عامة العلماء، الأئمة الأربعة وغيره) (2).

أما قدم المرأة في الصلاة:

فقد ورد حديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: «إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها» لكنه ضعيف (3).

وقد قال الشافعي في «الأم» (1/ 77): وكل المرأة عورة -يعني في الصلاة- إلا وجهها وكفيها وظهر قدميها ... اهـ.

ونقل عنه الترمذي قوله: وقد قيل إن كان ظهر قدميها مكشوفًا فصلاتها جائزة. اهـ. وهذا مذهب أبي حنيفة كما نقله ابن تيمية في الفتاوى (22/ 123).

وذهب مالك وأحمد إلى أن المرأة عورة كلها بل قال أحمد: المرأة تصلي ولا يرى منها شيء ولا ظفرها. اهـ.

قلت: والذي يترجح لي جواز الصلاة مع كشف ظاهر القدم في غير حضرة الأجانب وإن كان الأحوط سترهما والله أعلم.

4 - يستحب أن تصلي المرأة في الثياب التي تستر بدنها، فما كان فيه زيادة في التستر فهو الأفضل.

_________

(1) أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (377) وغيرهما وقد أعله غير واحد من أهل العلم وانظر «جامع أحكام النساء» (1/ 310).

(2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 123)، وانظر «المغنى» لابن قدامة (1/ 601).

(3) أخرجه أبو داود (640)، والبيهقي (2/ 232) بسند ضعيف موقوفًا ومرفوعًا.

 

(1/301)

 

 

ولذا قال الشافعي: قد اتفق عامتهم على الدرع والخمار (1)، وما زاد فهو خير وأستر، ولأنه إذا كان عليها جلباب فإنها تجافيه راكعة وساجدة لئلا تصف ثيابها فتبين عجيزتها ومواضع عورتها (2).

5 - أما المرأة إذا كانت أَمَةً (ليست حرة) فهي كالحرة إلا أنه يجوز لها أن تصلي كاشفة شعرها باتفاق العلماء إلا الحسن وعطاء.

6 - البنت الصغيرة التي لم تحض لا يجب عليها الاختمار (تغطية الشعر) أثناء الصلاة، فعند عبد الرزاق في «المصنف» (3/ 113) بسند صحيح عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: الجارية التي لم تحض وهي تصلي؟ قال: حسبها إزارها.

فوائد:

(أ) من انكشفت عورته في الصلاة بلا قصد، هل تبطل؟

ذهب الجمهور إلى أن مَن انكشف من عورته شيء في الصلاة -ولو بلا قصد- تبطل صلاته إذا لم يسترها في الحال، وقيده الحنفية بانكشاف ربع عضو، قدر أداء ركن (3) (!!) بينما ذهب الحنابلة إلى أنه لا تبطل الصلاة بانكشاف عورته لزمن قصير، كما لو أطارت الريح ثوبه عن عورته، وكذلك لو بدا يسير من العورة ولو طال زمن الانكشاف (4). لحديث عمرو بن سلمة قال: «انطلق أبي وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه فعلمهم الصلاة، فقال: يؤمكم أقرؤكم، وكنت أقرأهم لما كانت أحفظ، فقدموني، فكنت أؤمهم وعليَّ بردة لي صغيرة صفراء، فكنت إذا سجدت انكشفت عني، فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم، فاشتروا لي قميصًا عمانيًّا، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به» (5) ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك ولا أحد من الصحابة.

قلت: وهذا هو الصحيح، لكن يجب عليه إذا علم بانكشاف عورته أن يواريها إن استطاع.

_________

(1) الدرع يشبه القميص لكنه سابغ يغطى قدميها، والخمار ما يغطي رأسها وعنقها، والجلباب يُلتحف به فوق الدرع، وقد صح عن عمر وابن عمر وابن سيرين وغيرهم أنهم قالوا: تصلي المرأة في ثلاث أثواب (درع وخمار وجلباب).

(2) «المغنى» (1/ 602)، و «المهذب» (3/ 172) عن «جامع أحكام النساء» (1/ 335).

(3) «ابن عابدين» (1/ 273)، و «المواهب» (1/ 498)، و «المجموع» (3/ 166).

(4) «كشاف القناع» (1/ 269).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (4302)، وأبو داود (585) واللفظ له.

 

(1/302)

 

 

(ب) صلاة العاجز عن ستر العورة (1):

لا تسقط الصلاة عمن لم يجد ما يستر به عورته بالاتفاق، واختلفوا في كيفية صلاته؟ فذهب الجمهور إلى أنه إن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا أو ثوب حرير (للرجل) فيجب عليه لبسه، فإن لم يجد شيئًا: قالوا يصلي عريانًا لقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2). ثم قال الحنفية والحنابلة: هو مخيَّر بين أن يصلي قاعدا أو قائمًا، واستحبوا أن يومئ في الركوع والسجود لأنه أستر، وقال المالكية والشافعية يجب أن يصلي قائمًا ولا يجوز الجلوس، وهل يعيد إذا وجد ما يستره؟ الصحيح أن لا يعيد كما قال الشافعية والحنابلة، والله أعلم.

(جـ) التزين والتجمل للصلاة:

يجوز الصلاة في ثوب واحد -كما تقدم- لكن يستحب أن يصلي المرء في أكثر من ثوب وأن يأخذ زينته ويتجمل ما أمكن لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي عند كل صلاة، وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزيَّن له ...» (3).

[4] استقبال القبلة مع القدرة:

وهو شرط لصحة الصلاة بإجماع (4) العلماء، لما يأتي:

1 - قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (5).

2 - حديث ابن عمر قال: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة» (6).

3 - حديث المسيء صلاته المشهور، عن أبي هريرة:

_________

(1) «ابن عابدين» (1/ 275)، و «الدسوقي» (1/ 216)، و «المجموع» (3/ 142، 182)، و «كشاف القناع» (1/ 270).

(2) سورة التغابن، الآية: 16.

(3) أخرجه البيهقي (2/ 236)، وانظر «المجموع» (2/ 54).

(4) «مراتب الإجماع» لابن حزم (ص 26).

(5) سورة البقرة، الآية: 144.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (4491)، ومسلم (526)، والنسائي (2/ 61).

 

(1/303)

 

 

أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد فصلى ثم جاء فسلم عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل» فقال في الثانية أو في التي بعدها علمني يا رسول الله فقال «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تستوي قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم ارفع حتى تستوي قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» (1).

الاستقبال على وجهين: فالمصلى إما أن يكون مشاهدًا للكعبة أو لا:

1 - من كان مشاهدًا للكعبة: فالواجب أن يستقبل عينها بكل بدنه، ولا يجزئه -وهو في الحرم مشاهد للكعبة- أن يستقبل جزءًا من المسجد غير الكعبة.

2 - من لم يكن مشاهدًا للكعبة: فالواجب عليه أن يستقبل جهتها لا عينها، لأن هذا غاية مقدوره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول أو غائط، ولكن شرقوا أو غرِّبوا» (2) فدلَّ على أن كل ما بين المشرق والمغرب يعتبر قبلة لأهل المدينة، وعليه يكون اتجاه القبلة لأهل مصر ما بين المشرق والجنوب.

ويمكن الاستدلال على القبلة بالمحاريب التي في مساجد المسلمين، أو باستخدام (البوصلة) وغير ذلك.

متى يسقط استقبال القبلة؟ قد علمت أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، ولكن يستثنى من ذلك حالات تصح فيها الصلاة بدون استقبال القبلة.

[1] العاجز عن استقبال القبلة: كالمريض الذي لا يستطيع الحركة وليس معه من يوجهه للقبلة، فهو معذور لقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.

[2] من خفيت عليه القبلة فاجتهد، فصلى إلى غيرها: من خفيت عليه القبلة وجب عليه أن يسأل من يدلُّه، فإن لم يجد، اجتهد في تحديدها، فإن اجتهد وصلى ثم تبيَّن خطؤه أثناء الصلاة: وجب عليه أن يستدير إليها في الصلاة كما في حديث ابن عمر المتقدم قريبًا وفيه: «فاستداروا إلى الكعبة».

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6251)، ومسلم (397).

(2) صحيح: تقدم في «الطهارة».

 

(1/304)

 

 

وإذا تبين خطؤه بعد فراغه من الصلاة فصلاته صحيحة ولا إعادة عليه على الراجح، لحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم نَدْرِ أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1) (2). وهو مذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق.

[3] عند شدة الخوف من عدو ونحوه:

قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (3).

وفي حديث ابن عمر في صلاة الخوف: «... فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلَّوا على أقدامهم أو ركبانًا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها» (4).

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس» (5).

[4] في صلاة النافلة للراكب في السفر: فيجوز للمسافر أن يصلي النافلة وهو راكب دابته (السيارة أو الطائرة أو السفينة) ولا يلزمه استقبال القبلة إن تعذَّر عليه، فعن ابن عمر أنه كان يصلي على دابته من الليل وهو مسافر، ما يبالي حيثما كان وجهه، وقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح [يعني: يصلي] على الراحلة قِبل أي وجه توجَّه، ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» (6).

وعن عامر بن ربيعة قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يسبِّح: يومئ برأسه قبل أي وجه توجَّه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة» (7).

وعن جابر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي على راحلته حيث توجهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة» (8).

_________

(1) سورة البقرة، الآية: 115.

(2) حسنه الألباني: أخرجه الترمذي (345)، وانظر «الإرواء» (1/ 323) وله شاهد عن جابر.

(3) سورة البقرة، الآيتان: 238، 239.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (4535)، ومالك (396).

(5) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 255).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1098)، ومسلم (700).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (1098).

(8) صحيح: أخرجه البخاري (400).

 

(1/305)

 

 

لكن .. إن استطاع أن يبتدئ صلاته مستقبلاً القبلة ثم يتوجه مع راحلته حيث توجهت فهو أفضل، لما ورد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع على ناقته استقبل بها القبلة فكبر، ثم صلى حيث وجَّهه ركابه» (1).

مسألة: إذا ركب المسافر السيارة -التي لا يقودها هو- بعد صلاة الظهر، وعلم أنه لا يصل إلا بعد المغرب، فهل له أن يصلي العصر في السيارة؟ أو يصليها مع المغرب؟

الأظهر أنه لابد أن يصلي العصر في وقته -في السيارة- ولو قائدًا ولو إلى غير القبلة، لأن الوقت هو آكد فروض الصلاة -كما تقدم- فيتقدَّم على اشتراط استقبال القبلة والله أعلم.

[5] النيَّة:

النية: هي العزم على فعل العبادة تقربًا إلى الله تعالى، فلا تصح الصلاة بدونها بحال، ولا تسقط النية بحال، لأنها لا تسقط إلا بذهاب العقل، وحينئذ يسقط التكليف لأن العقل مناط التكليف.

وقد انعقد الإجماع على اعتبار النية شرطًا في صحة الصلاة (2)، والأصل فهيا قول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (4).

مما لا خلاف فيه:

1 - أن محل النية القلبُ دون اللسان في جميع العبادات التي منها الصلاة.

2 - أنه لو تكلَّم بلسانه سهوًا بخلاف ما نوى في قلبه، كان الاعتبار بما نوى بقلبه، وذلك كمن قصد بقلبه الظهر، لكن جرى لسانه بالعصر سهوًا.

3 - أنه لو تكلم بلسانه ولم تحصل النية في قلبه، لم يجزئه ذلك.

4 - أن «الجهر بالنية في الصلاة من البدع السيئة، ليس من البدع الحسنة، وهذا متفق عليه بين المسلمين، لم يقل أحد منهم أن الجهر بالنية مستحب ولا هو

_________

(1) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (1225) وغيره وانظر «صفة صلاة النبي» (ص 75).

(2) «الدسوقي» (1/ 233)، و «مغنى المحتاج» (1/ 148)، و «بداية المجتهد» (1/ 167)، و «كشاف القناع» (1/ 313).

(3) سورة البينة، الآية: 5.

(4) صحيح: تقدم مرارًا وهو متفق عليه.

 

(1/306)

 

 

بدعة حسنة، فمن قال ذلك فقد خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الأئمة الأربعة وغيرهم ... وقائل هذا يستتاب، فإن تاب وإلا عوقب بما يستحقه ..» (1).

يضاف إلى هذا ما في الجهر بالنية من التشويش على المصلين، وهو حرام.

والتلفظ بالنية -ولو سرًّا- بدعة:

قال شيخ الإسلام (2): «لم ينقل مسلم -لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه- أنه قد تلفظ قبل التكبير بلفظ النية، لا سرًّا ولا جهرًا، ولا أنه أمر بذلك، ومن المعلوم أن الهمم والدواعي متوفرة على نقل ذلك لو كان ذلك، وأنه يمتنع على أصل التواتر -عادة وشرعًا- كتمانُ نقل ذلك، فإذا لم ينقله أحد، عُلم قطعًا أنه لم يكن .... فزيادة هذا وأمثاله في صفة الصلاة بمنزلة سائر الزيادات المحدثة في العبادات، كمن زاد في العيدين الأذان والإقامة، ومن زاد في السعي صلاة ركعتين على المروة وأمثال ذلك» اهـ.

ثم النية أيسر من أن يتلفظ بها، فمن قام ليتوضأ ثم خرج إلى المسجد عالمًا بمراده من ذلك فقد حقق النية، ولذا قال شيخ الإسلام: «النية تتبع العلم، فمن علم ما أراد فعله فقد نواه» (3) إذ لا يمكن عمل بلا نية.

تعيين الصلاة: ولابد في النية من تعيين الصلاة التي يصليها: هل هي فرض أم نافلة؟ وهل هي ظهر أو عصر؟ والمقصود استحضار هذا في القلب.

موضع النية:

1 - لا خلاف بين العلماء أن النية إذا كانت مقارنة للتكبير -بأن أعقبها مباشرة- فهي مجزئة، بل هذا هو الأصل والأفضل.

2 - لا خلاف بينهم في أن النية بعد التكبير لا تجزئ.

3 - إذا نوى الصلاة ثم تشاغل ثم صلاها صحت صلاته -في أصح القولين- لأن نيَّته مستصحبة للحكم ما لم ينو فسخها (4) والله أعلم.

قلب النية وتغييرها أثناء الصلاة (5):

الانتقال من نية إلى نية في الصلاة له صور متعددة، ومن ذلك:

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (22/ 233).

(2) «مجموع الفتاوى» (22/ 237 - 238).

(3) «الاختيارات» (ص: 49).

(4) «الإنصاف» (1/ 23)، و «المبدع» (1/ 417) وهو اختيار ابن عثيمين في «الممتع» (2/ 291).

(5) «الممتع» (2/ 294 - 301)، و «الإكليل» (1/ 348 - 355) للشيخ وحيد بالي، حفظه الله.

 

(1/307)

 

 

[1] من فرض إلى نفل مطلق: لا يجوز لمن يصلي الظهر -مثلًا- منفردًا ثم رأى جماعة قد حضروا أن يقلب فرضه نفلاً ثم يصلي معهم جماعة.

[2] من فرض إلى فرض آخر: فلا يجوز، ويبطل الفرضان، فالأول لأنه قطعه، والثاني لعدم النية قبل البدء فيه، وصورة هذا: أن يتذكر وهو يصلي العصر أنه لم يصلِّ الظهر، فلا يجوز أن يقلبها ظهرًا.

[3] من نفل إلى فرض: فلا يجوز كذلك للعلة السابقة.

[4] من نفل معين إلى نفل مطلق: يجوز، لأن النفل المعين يتضمن نية النفل المطلق، ومثاله: أن ينوي صلاة أربع ركعات سنة الظهر، ثم يرى الجماعة، فيقلبها ركعتين لإدراك الجماعة.

[5] من نفل معين إلى نفل معين: لا يجوز، كما لو نوى تحية المسجد، ثم قلبها -أثناء الصلاة- سنة الفجر، فبطل الأول بقطعه والثاني بعدم النية في أوله.

[6] من نفل مطلق إلى نفل معين: لا يصح لما سبق.

[7] من نية إمام إلى مأموم: فيجوز، لحديث عائشة في قصة صلاة أبي بكر بالناس وفيه: «فلما دخل [رسول الله صلى الله عليه وسلم] المسجد سمع أبو بكر حسَّه، ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم مكانك، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسًا وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر» (1).

[8] من مؤتم بإمام إلى مؤتم بإمام آخر: فيجوز لحديث عائشة السابق، فقد كان الناس مؤتمين بأبي بكر ثم بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وفي قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدَّم عبد الرحمن بن عوف فأكمل بهم الصلاة (2).

[9] من مأموم إلى إمام: فيجوز، كما إذا حدث للإمام عذر في الصلاة، فيستخلف أحد المأمومين لحديث عمر المتقدم.

[10] من منفرد إلى إمام: فيجوز، كأن يصلي الرجل منفردًا فيأتي إليه آخر فيأتم به، فيكمل الصلاة به إمامًا: لحديث ابن عباس قال: «بِتُّ عند خالتي فقام

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (3700).

 

(1/308)

 

 

النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأسني عن يمينه» (1). ولا فرق في هذا بين النفل والفرض على الصحيح.

[11] من إمام إلى منفرد: لا يجوز إلا لعذر، كأن يحدث للمأموم عذر فيترك الإمام وحده، فحينئذ يجوز وصلاته صحيحة.

[12] من مأموم إلى منفرد: فقيل: يجوز لعذر شرعي كتطويل الإمام فوق السُّنَّة وكأن يطرأ على المأموم وجع ونحوه مما يحتاج معه إلى الانفراد والتخفيف والانصراف، ويستدل لهم بقصة الرجل الذي صلى خلف معاذ بن جبل فأطال القراءة فانفرد الرجل وصلى وحده وشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بالإعادة (2).

وقيل: بل ليس له الانفراد وإنما إذا طرأ عليه شيء فله أن يقطع الصلاة ثم يصليها وحده، وأجابوا بأن الظاهر من حديث معاذ أن الرجل خرج من صلاته ثم صلاها وحده، كما في رواية مسلم (465): «فانحرف رجل فسلَّم ثم صلى وحده».

قلت: والأول أظهر (3) -حتى على الرواية الأخيرة- ففعل الرجل لا يدل على عدم جواز الانفراد، ثم إن الذي يظهر لي أن الإمام والائتمام (الجماعة) وصف زائد على أصل الصلاة، فلا تأثير لنيَّتها في صحة الصلاة، وإن كانت قد تُؤثر في تحصيل ثواب الجماعة، كما يدل على هذا مجموع الأحاديث السابق ذكرها فيما يتعلق بنية الإمام والمأموم، والله تعالى أعلم.

اختلاف نية الإمام والمأموم (4):

لا خلاف في مشروعية ائتمام المصلي بإمام مع توافقهما في النية، فرضًا كانت الصلاة أو سنة.

ثم اختلف أهل العلم فيما إذا اختلفت نية الإمام والمأموم؟ والصحيح أنه لا يشترط أن توافق نية المأموم نية الإمام، وهو مذهب الشافعي وابن حزم (5).

والدليل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (699)، ومسلم (763).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (6106)، ومسلم (465).

(3) وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين، خلافًا لما اختاره الشيخ وحيد.

(4) انظر «المنهيات الشرعية في صفة الصلاة» للكمالي (ص: 14 وما بعدها).

(5) «مغنى المحتاج» (1/ 502)، و «المحلى» (4/ 223)، «بداية المجتهد» (1/ 167).

 

(1/309)

 

 

قال ابن حزم: «فنصَّ عليه السلام نصًّا جليًّا على أن لكل أحد ما نوى، فصحَّ يقينًا أن للإمام نيتَّه، ولا تعلق لإحداهما بالأخرى ...» اهـ.

وأما حديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه ...» (1) فالمراد به: لا تختلفوا عليه في الأفعال الظاهرة، بدليل قوله في الحديث نفسه: «.. فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين» فلا تعلَّق للحديث باختلاف النيات، ويدل على هذا اتفاق عامة أهل العلم على جواز ائتمام المتنفل بالمفترض مع اختلاف نيتهما -كما سيأتي- وكذلك سائر الأدلة التي تأتي في صور اختلاف النيَّتين، وهي:

[1] صلاة المتنفل خلف المفترض: وهي جائزة عند عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم لما يأتي:

(أ) حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها فإن أَدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة» (2).

(ب) حديث يزيد بن الأسود قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، قال: فلما قضى صلاته وانحرف، إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال: «عليَّ بهما»، فجيء بهما تَرْعُدُ فرائصهما، فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: «فلا تفعلوا، إذا صلَّيتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصلِّيا معهم، فإنها لكما نافلة» (3).

[2] صلاة المفترض خلف المتنفِّل: وهو جائز لما يلي:

(أ) حديث جابر بن عبد الله: «أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» (4) زاد بعضهم: «هي له تطوع ولهم فريضة» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (689)، ومسلم (411).

(2) صحيح: تقدم في «أوقات النهي عن الصلاة».

(3) صحيح: تقدم في «أوقات النهي».

(4) صحيح: أخرجه البخاري (711)، ومسلم (465) واللفظ له.

(5) إسناده ضعيف: أخرجه الشافعي في «الأم» (1/ 173)، والطحاوي (1/ 409)، والدارقطني (1/ 274) وفيه عنعنة ابن جريج وهو مدلس، وصححه الحافظ في الفتح.

 

(1/310)

 

 

قال الحافظ: واستُدلَّ بهذا الحديث على صحة اقتداء المفترض بالمتنفِّل، بناء على أن معاذًا كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل. اهـ. ثم استدل بالزيادة المشار إليها.

قلت: ويدلُّ على ما ذكره الحافظ أنني وجدت في رواية الحديث الأخرى -في قصة الرجل الذي شكا معاذًا -قوله: «... وإن معاذًا صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة ... الحديث» (1) ففيه أن الصلاة التي صلاها معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض العشاء.

(ب) حديث أبي بكرة قال: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر، فصفَّ بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو، فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم، فانطلق الذين صلَّوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصفوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلَّم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا ولأصحابه ركعتين ركعتين» (2).

قال الشافعي في «الأم» (1/ 173): والآخرة من هاتين للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة، وللآخرين فريضة اهـ.

وعلى هذا: فيجوز لمن أتى الجماعة وهم يصلون التراويح -ولم يكن صلى العشاء- أن يدخل معه بنيَّة العشاء، فإذا سلَّم الإمام من ركعتين قام فأتم صلاته منفردًا، أو قام لباقي صلاته فإذا قام الإمام إلى الركعتين بعدهما ائتم به ثم يسلم معه، والأُولى أَوْلى والله أعلم.

[3] صلاة المفترض خلف من يصلي فرضًا آخر: وهذا له ثلاث حالات:

(أ) أن يكون عدد ركعات الفرضين متفقًا: كأن يصلي ظهرًا مقضية خلف من يصلي العصر أو العشاء، وهذا جائز لعموم ما تقدم.

(ب) أن يكون عدد ركعات فرض المأموم أكثر من الإمام: كمن يصلي لظهر خلف صبح أو مغرب فجائز لما سبق من عدم وجوب اتفاق النيتين، وقياسًا على صلاة المسبوق والمقيم خلف من يقصر الصلاة.

_________

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

(2) رجاله ثقات: أخرجه أبو داود (1248)، وفي سماع الحسن عن أبي بكرة خلاف، مع أن البخاري أخرج له عنه عدة أحاديث وهو لا يكتفي بمجرد إمكان اللقاء!!، وانظر «جامع التحصيل» (1/ 163).

 

(1/311)

 

 

(جـ) أن يكون عدد ركعات فرض المأموم أقل من الإمام: وهذا غير جائز، كمن يصلي الصبح خلف الظهر، أو المغرب خلف العشاء، لأنه هنا لابد له من مخالفة إمامه في الأفعال الظاهرة: إما بمفارقة إمامه لأجل أن يسلم أو لأجل انتظاره للتسليم معه، أو أنه يقوم مع إمامه ليحقق المتابعة، فيزيد في ركعات صلاته عمدًا وهذا يبطلها.

لكن هل يقال: إنه ينتظر حتى يبقى للإمام من صلاته ما يساوي عدد ركعات فرضه فيدخل معه ويسلم معه؟ فهذا موضع نظر واجتهاد، والله تعالى أعلم.

[4] صلاة المتم خلف من يَقْصر: وهذا جائز، ويجب على المتم أن يأتي ببقية الصلاة بعد سلام إمامه، بلا خلاف بين أهل العلم.

وقد روى عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: يا أهل البلد: صلوا أربعًا، فإنا قوم سَفْر» (1) وهو ضعيف، إلا أن العمل عليه، لأن الصلاة تجب على المتم أربعًا، فلم يجز له ترك شيء من ركعاتها كما لو لم يأتم بمسافر.

فائدة: لا تشترط نية القصر لمن أراد قصر الصلاة (2): وهو قول عامة السلف، لأنه لم ينقل قطُّ أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه، لا بنية قصر ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم، مع أن المأمورين -أو أكثرهم- لا يعرفون ما يفعله الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجته، صلى بهم الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين (3)، وخلفه أمم لا يُحصى عددهم إلا الله، كلهم خرجوا يحجون معه، وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر، إما لحدوث عهده بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد، ولا سيما النساء.

ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر بأصحابه ولا يعلمهم قبل الدخول في الصلاة أنه يقصر: حديث ذي اليدين أن النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم من ركعتين في صلاة الظهر أو العصر ناسيًا، فقال له ذو اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت؟» فقال: «لم أنس ولم تقصر» قال: بلى قد نسيت ...» (4).

_________

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1229).

(2) «مجموع الفتاوى» (24/ 21، 14/ 105).

(3) صحيح: يأتي في «الحج».

(4) صحيح: يأتي في «سجود السهو».

 

(1/312)

 

 

فلم يقل له: لو قصرت لأعلمتكم حتى تنووا القصر.

قلت: وفائدة هذا أن المسافر إذا صلى خلف إمام ببلدة فرآه قصر الصلاة فله أن يسلم معه ولا يشترط أن يكون قد نوى القصر قبل الصلاة.

[5] صلاة من يقصر خلف المتم: وهذا جائز، لكن يُلزم المأموم حينئذ أن يتم صلاته أربعًا، حتى ولو كان اقتداؤه بإمامة لحظة:

- فعن موسى بن سلمة قال: «كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» (1).

- وعن ابن عمر «أنه كان إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين» (2).

- وعن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم [يعني المقيمين] أتجزيه الركعتان أو يصلي بصلاتهم؟ قال: فضحك وقال: «يصلي بصلاتهم» (3).

لا يجوز الائتمام بمن يصلي صلاة يختلف فعلها عن فعل صلاته: كأن يصلي الظهر خلف من يصلي جنازة أو كسوفًا ونحوه، لأنه يفضي إلى مخالفة الإمام في الأفعال الظاهرة وهو لا يجوز.

 

أركان الصلاة

أركان الصلاة: أقوال وأفعال تتركب منها حقيقة الصلاة وماهيتها، فإذا تخلف واحد من هذه الأركان لم تتحقق الصلاة ولم يعتد بها شرعًا، ولا يُجبر بسجود السهو.

ترك الركن في الصلاة (4): من ترك الركن في الصلاة فلا يخلو من كونه:

(أ) تركه عمدًا: من ترك ركنًا من أركان الصلاة عمدًا بطلت صلاته، ولم تصح بالاتفاق.

_________

(1) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 216)، وابن خزيمة (952)، والبيهقي (3/ 153)، وانظر «الإرواء» (3/ 21).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (694).

(3) صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 157)، وانظر «الإرواء» (3/ 22).

(4) «ابن عابدين» (1/ 297، 318)، و «الدسوقي» (1/ 239، 279)، و «كشاف القناع» (1/ 385، 402).

 

(1/313)

 

 

(ب) تركه سهوًا أو جهلاً: فإن أمكن تداركه والإتيان به وجب بالاتفاق، فإن لم يمكن تداركه فسدت صلاته عند الحنفية، وعند الجمهور: تُلغى الركعة التي ترك منها الركن فقط، إلا أن يكون نسي تكبيرة الإحرام، فإنه يستأنف من جديد لأنه لم يدخل في الصلاة أصلاً.

وأركان الصلاة هي:

[1] القيام في الفرض للقادر عليه:

(أ) لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ} (1).

(ب) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب» (2).

(جـ) وقد أجمع العلماء على أن القيام ركن في صلاة الفرض لمن قدر على ذلك، وأجمعوا على أن المريض يسقط عنه القيام إذا لم يستطعه، فيصلي جالسًا، وكذلك يسقط القيام عمن يمكنه لكن يشق عليه مشقة شديدة أو يخشى به زيادة مرضه أو تباطؤ برئه:

فعن أنس بن مالك قال: «سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس فجُحِش (3) شقُّه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعدًان فصلينا وراءه قعودًا» (4).

قال ابن قدامة: «والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام بالكلية لكن لما شقَّ عليه القيام سقط عنه، فكذلك يسقط عن غيره» اهـ (5).

فوائد:

(أ) تجوز صلاة النافلة على الراحلة في السفر مطلقًا سواء كان السفر طويلاً أم قصيرًا، ولا تجوز في الحضر وقد تقدم هذا في «شرط استقبال القبلة».

(ب) تجوز صلاة النافلة جالسًا -ولو من غير عذر- لكن ثواب القائم أكبر، فصلاة القاعد أجرها على النصف من صلاة القائم:

_________

(1) سورة البقرة، الآية: 238.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1117)، وأبو داود (939)، والترمذي (369).

(3) يعني: انخدش جلده وانقشر.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (378)، ومسلم (411) واللفظ له.

(5) «المغنى» (2/ 571).

 

(1/314)

 

 

فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن صلى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائمًا فله نصف أجر القاعد» (1).

قال الخطابي: المراد به: «المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم، ترغيبًا له في القيام مع جواز قعوده» اهـ. قال الحافظ (2): «وهو حمل متجه» اهـ. قلت: ووجه هذا الحمل قوله (ومن صلى نائمًا فله نصف أجر القاعد) ولا تجوز الصلاة للمضطجع من غير عذر -عند الجمهور- ولو في نافلة، لأنه لا يعرف أن أحدًا قطُّ صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح، ولو كان هذا مشروعًا لفعله المسلمون على عهد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم أو بعده، ولفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرةً لتبيين الجواز (3).

وقد قال أنس: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس وهم يصلُّون قعودًا [من مرضٍ] فقال: «إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» (4).

قلت: هكذا حمل الخطابي حديث عمران على صلاة الفريضة واستحسنه الحافظ، وحمله الأكثرون على صلاة النافلة، فاستوى فيه المعذور وغيره، لأنه يدل على أن القيام في النافلة ليس ركنًا بل مستحب ... ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة في السفر على راحلته دون الفريضة، وأما حديث أنس فلا معارضة فيه، لأن عموم إباحة الجلوس في النافلة لا تمنع ما كان فيه زيادة وصف المرض ولا يخصص به كما لا يخفى، والله أعلم.

ويؤيد هذا العموم ما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة جالسًا كحديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدَّن وثَقُل كان أكثر صلاته جالسًا» (5) وكذا ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح صلاة الليل قائمًا ثم يقعد، وسيأتي قريبًا.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1115)، والترمذي (371)، والنسائي (3/ 223)، وابن ماجه (1231).

(2) «فتح الباري» (2/ 585) ط. المعرفة.

(3) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (23/ 235).

(4) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1229)، وأحمد (3/ 214) والزيادة له، وانظر «صفة صلاة النبي» (ص: 78).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (732).

 

(1/315)

 

 

فائدتان: الأولى: صلاة الجالس بعذر لا ينقص ثوابها: لأنه كان من عادته أن يصلي قائمًا وقد منعه المرض ونحوه فيكون له الأجر كاملاً لقوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري (2996): «من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا».

الثانية: من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينقص ثوابه إن صلى النافلة من غير عذر قاعدًا (1):

لحديث عبد الله بن عمرو قال: حُديْثُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة» قال: فأتيتُه فوجدته يصلي جالسًا، فوضعت يدي على رأسه، فقال: «ما لك يا عبد الله بن عمرو؟» قلت: حُدِّثتُ يا رسول الله أنك قلت: صلاة الرجل قاعدًا على نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعدًا! قال: «أجل، ولكني لست كأحد منكم» (2).

(جـ) يجوز أن يستفتح القراءة في النافلة قاعدًا ثم يقوم باتفاق العلماء، لحديث عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسًا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين آية قام فقرأ وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك» (3).

(د) ويجوز أن يستفتح النافلة قائمًا ثم يقعد: للحديث السابق.

(هـ) صفة الجلوس: من صلى جالسًا فالأفضل أن يجلس على هيئة جلوسه للتشهد، ويفترش في حال القيام والركوع، لإطلاق حديثي عمران وعائشة المتقدمين، إذا المتبادر أن المراد بالجلوس: المعهود في الصلاة.

وإن كان يجوز «التربُّع» في الصلاة لا سيما لأجل العذر، فقد جاء هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم (4) وعن بعض أصحابه (5).

أما مدُّ الرجلين في الجلوس في الصلاة فلا يجوز إلا لعذر.

(و) تجوز صلاة المضطجع لعذر: سواء في الفرض أو النفل إن لم يستطع

_________

(1) «شرح مسلم» للنووي، و «فتح القدير» (1/ 46).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (735)، والنسائي (1659)، وأبو داود (950).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1119)، ومسلم (731).

(4) أخرجه النسائي (3/ 224)، وابن خزيمة (2/ 236)، والبيهقي (2/ 305) وانظر «صفة صلاة النبي» (ص: 80).

(5) ورد عن ابن عمر في «مصنف ابن أبي شيبة» (2/ 220).

 

(1/316)

 

 

القعود، وأما في النافلة من غير عذر فقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يُشرع لأنه لم يُنفل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه فعله ولو مرة، قلت: ولو تمسك أحد بظاهر حديث عمران المتقدم «ومن صلى نائمًا فله نصف أجر القاعد» فهل يسعه؟ الصحيح أن له ذلك، وهو مذهب ابن حزم في المحلى (3/ 56) ورجَّحه ابن عثيمين في «الممتع» (4/ 113).

(ز) صفة الاضطجاع: من صلى مضطجعًا، فيستحب أن يكون ذلك على جنبه الأيمن مستقبلاً بوجهه القبلة، لأنه السنة في النوم، ولحديث عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلاً بوجهه القبلة، لأنه السنة في النوم، ولحديث عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعُّله وترجُّله وطهوره وفي شأنه كله» (1).

فإن كان لا يستطيع الاضطجاع إلا على هيئة معينة، فهو المتعين له، والله أعلم.

القيام في الفريضة في الطائرة والسفينة:

من كان في طائرة أو سفينة فيجب عليه القيام -في صلاة الفريضة- إن استطاع، فإن خاف السقوط أو الغرق ونحو ذلك فهو غير مستطيع للقيام، فله أن يصلي جالسًا إيماءً بركوع وسجود، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في السفينة؟ فقال: «صلِّ فيها قائمًا، إلا أن تخاف الغرق» (2).

الاعتماد على شيء في القيام:

من صلى وهو متكئ على حائط أو عصًا ونحو ذلك، فإن كان لعذر، فهذا مما اتفق العلماء على جوازه، لدعاء الحاجة إليه، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3). وعن أم قيس بنت محصن: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسنَّ وحمل اللحم، اتخذا عمودًا في مصلاَّه يعتمد عليه» (4).

إذا صلى خلف إمام جالسٍ لعذر: فيصلي جالسًا على الأصل كما سيأتي تحريره في «صلاة الجماعة».

[2] تكبيرة الإحرام: وهي ركن من أركان الصلاة باتفاق عامة أهل العلم لما يأتي:

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه مرارًا.

(2) صححه الألباني: أخرجه البزار (68) وغيره، وانظر «صفة صلاة النبي» (ص: 79).

(3) سورة التغابن، الآية: 16.

(4) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (948) والبيهقي (2/ 288)، الحاكم (1/ 264)، وانظر «الصحيحة» (319).

 

(1/317)

 

 

1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (1).

2 - قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر ...» (2).

3 - وفي لفظ لحديث المسيء صلاته: «إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يقول: الله أكبر» (3).

4 - وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير» (4).

«والتكبير هنا: هو التكبير المعهود الذي نقلته الأمة نقلاً ضروريًّا خلفًا عن سلف عن نبيِّها صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله في كل صلاة (الله أكبر) لا يقول غيره، ولا مرة واحدة» (5).

فلا يجزئ للدخول في الصلاة غير قوله (الله أكبر)، وهذا مذهب الثوري ومالك وأحمد والشافعي [إلا أنه أجاز قوله: الله أكبر] وهو مروي عن ابن مسعود، وخالف أبو حنيفة فقال: تنعقد الصلاة بكل اسم لله تعالى على وجه التعظيم مثل: الله العظيم أو الكبير أو الجليل، أو سبحان الله، أو الحمد لله ونحو ذلك قال: فالجميع ذكر (!!) وقياسًا على الخطبة حيث لم يتعيَّن لفظها (!!) ولا شك أنه قياس في مقابل النص وهو فاسد، والصحيح مذهب الجمهور (6).

لا يصح بغير العربية للقادر عليها:

لا يصح التكبير بغير العربية للقادر عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكبِّر بالعربية ولم يعدل عن ذلك أبدًا، وهو القائل: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (7).

وأما غير القادر على التكبير بالعربية، فالواجب عليه تعلُّمه -وهو يسير- فإن

_________

(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (61) والترمذي (3)، وصححه في «الإرواء» (301) وقد يُنازع فيه.

(2) صحيح: تقدم بتمامه وتخريجه.

(3) صححه الألباني: أخرجه الطبراني (5/ 38) وانظر «صفة الصلاة» (ص: 86).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (498).

(5) «تهذيب السنن» لابن القيم (1/ 49).

(6) «ابن عابدين» (1/ 442)، و «المدونة» (1/ 62)، و «الأم» (1/ 100)، و «المجموع» (3/ 233)، و «المغنى» (1/ 333).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (631)، وأحمد (5/ 53) من حديث مالك بن الحويرث.

 

(1/318)

 

 

خاف خروج الوقت قبل أن يتعلمه، أو لم يحسن التكبير بالعربية مطلقًا، فإنه يكبِّر بلغته. والله أعلم.

[3] قراءة الفاتحة في كل ركعة:

قراءة الفاتحة ركن في كل ركعة من كل صلاة فرضًا أو نفلاً، جهرية كانت أو سرية، وإليه ذهب الثوري ومالك والشافعي وأحمد في المشهور منه، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص (1).

والدليل على هذا:

1 - حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (2).

2 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، هي خداج، هي خداج، غير تمام» (3) والصلاة لناقصة لا تسمى صلاة حقيقة، ومما يدل على أن النقص المراد هنا الذي لا تجزئ الصلاة معه في تمام هذا الحديث عند مسلم: قال أبو السائب: قلت لأبي هريرة: إني أكون أحيانًا وراء الإمام؟ قال: فغمز أبو هريرة ذراعي وقال: «اقرأ بها في نفسك».

3 - في رواية رفاعة بن رافع لحديث «المسيء صلاته» قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «.. ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت ... ثم اصنع ذلك في كل ركعة» (4).

وذهب أبو حنيفة -وهو رواية عن أحمد- إلى أن الفاتحة لا يتعيَّن قراءتها، وأنه تجزئ قراءة آية من القرآن، وحجة هذا القول:

1 - قوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ .... فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (5).

وأجيب: بأن الآية الكريمة تحتمل أن المراد بها: الفاتحة وما تيسر معها،

_________

(1) «المدونة» (1/ 66)، و «الأم» (1/ 93)، و «المجموع» (3/ 285)، و «المغنى» (1/ 343)، و «الأوسط» (3/ 101).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394) وغيرهما.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (41)، وأبو داود (821)، والنسائي (2/ 135)، والترمذي (312)، وابن ماجه (838).

(4) أخرجه أحمد (18225) وقوله (اقرأ بأم القرآن) شاذ انفرد به إسحاق بن عبد الله، كما حرَّره شيخنا أبو عمير -حفظه الله- في «شفاء العي» (1/ 192).

(5) سورة المزمل، الآية: 20.

 

(1/319)

 

 

ويحتمل أنها نزلت قبل نزول الفاتحة، لأنها نزلت بمكة والنبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، فنسخه الله تعالى عنه بها.

2 - في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته قال صلى الله عليه وسلم: «ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن» (1).

وأجيب بأن قوله (ما تيسَّر): مجمل مبيَّن، أو مطلق مقيد، أو مبهم مفسَّر برواية (اقرأ بأم القرآن) [إن صحت!!] لأن الفاتحة كانت هي المتيسِّرة لحفظ المسلمين لها، وقيل: إن المراد بـ «ما تيسر» فيما زاد على الفاتحة جمعًا بين الأدلة.

3 - أن الفاتحة لو كانت ركنًا لوجب تعلمها ولما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عنها -عند التعذر- إلى بدلها كما في لفظ لحديث المسيء صلاته: «فإن كان معك قرآن وإلا فاحمد الله ...» (2).

وأجيب بأن هذا فرضه حين لا قرآن معه، على أنه يمكن تقييده بعدم الاستطاعة لتعلم القرآن كما في حديث ابن أبي أوفى: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا فعلمني ما يجزيني في صلاتي، فقال: «قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله» (3).

قلت: ولا شك أن مذهب الجمهور أقوى، وهو الذي يتعين المصير إليه، فلا تصح الصلاة التي لا يقرأ فيها بالفاتحة لمن استطاع حفظها، لحديث عبادة المتقدم ولا يعكِّر عليه شيء مما تقدم، لأنه -على أقل تقدير- تضمن حكمًا زائدًا على الآية وحديث المسيء فيتحتم الأخذ به.

ثم إن ظواهر هذه الأحاديث إذا ضُمت إلى حديث أبي قتادة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب» (4) ومع حمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث «المسيء صلاته»: «ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» على أن المراد في كل ركعة، دلَّ ذلك كله على ركنية قراءة الفاتحة في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمأموم وبين إسرار الإمام وجهره على ما سيأتي تحريره.

_________

(1) صحيح: تقدم مرارًا.

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (856).

(3) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (832) وغيره، وانظر «الإرواء» (303).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (759) بمعناه.

 

(1/320)

 

 

قراءة البسملة في أول الفاتحة:

اختلف أهل العلم في حكم قراءة البسملة في أول الفاتحة، تبعًا لاختلافهم في مسألة: هل (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من الفاتحة أم لا؟

والصحيح أن البسملة آية من القرآن قبل كل سورة إذ أُثبتت في المصحف، وإن كانت -على الأرجح- ليست آية من الفاتحة، فيجب قراءتها قبل الفاتحة كما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم.

من لم يستطع حفظ الفاتحة:

قال الخطابي (1): «الأصل أن الصلاة لا تجزئ إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ومعقول أن قراءة فاتحة الكتاب على من أحسنها دون من لا يحسنها، فإذا كان المصلي لا يحسنها ويحسن غيرها من القرآن، كان عليه أن يقرأ منه قدر سبع آيات، لأن أولى الذكر بعد الفاتحة ما كان مثلها من القرآن، وإن كان ليس في وسعه أن يتعلم شيئًا من القرآن، لعجز في طبعه، أو سوء في حفظه، أو عُجْمة في لسانه، أو عاهة تعرض له، كان أولى الذكر بعد القرآن ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من التسبيح والتحميد والتهليل ...» اهـ.

قلت: وهو قوله صلى الله عليه وسلم لمن لم يستطع حفظ الفاتحة: «قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» (2).

[4]، [5] الركوع: والطمأنينة فيه:

الركوع ركن في كل ركعة من الصلاة بإجماع أهل العلم (3)، ومستنده:

1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ...} (4).

2 - قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم اركع حتى تطمئن راكعًا» (5).

3 - مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه في كل ركعة من كل صلاة، مع قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (6).

_________

(1) معالم السنن.

(2) تقدم قريبًا.

(3) «مراتب الإجماع» لابن حزم (ص: 26).

(4) سورة الحج، الآية: 77.

(5) صحيح: تقدم مرارًا.

(6) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(1/321)

 

 

وأقل ما يجزئ في الركوع: أن ينحني بحيث تمس يداه ركبتيه، وقيل: أن ينحني بحيث يكون إلى الركوع التام أقرب منه إلى القيام التام.

وأما الطمأنينة: فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ثم اركع حتى تطمئن راكعًا».

ولقوله: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» (1).

وهي ركن في الركوع -والسجود- عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (2).

وتتحقق الطمأنينة: «لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء ... ثم يركع ويضع يديه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله وتسترخي» (3) وقيل: بمقدار الذكر الواجب في الركوع.

[6، 7] الاعتدال بعد الركوع والطمأنينة فيه:

لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «... ثم ارفع حتى تطمئن رافعًا».

وفي حديث أبي حميد -في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم-: «فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقارٍ مكانه» (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

ويدخل في ركن الاعتدال: الرفع من الركوع لاستلزامه له.

[8، 9] السجود، والطمأنينة فيه:

والسجود في كل ركعة مرتين من أركان الصلاة بالإجماع، ومستنده:

1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (5).

2 - قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا».

3 - قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 183)، والترمذي (264)، وأبو داود (840)، وابن ماجه (870).

(2) «المبسوط» (1/ 21)، و «المدونة» (1/ 71)، و «المجموع» (3/ 407)، و «المغنى» (1/ 360).

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (859)، والنسائي (2/ 20)، والترمذي (302)، وابن ماجه (460).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (828).

(5) سورة الحج، الآية: 77.

(6) صحيح: تقدم مرارًا.

 

(1/322)

 

 

4 - قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب جبينه» (1).

5 - قوله صلى الله عليه وسلم: «أتموا الركوع والسجود، فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم» (2).

ولابد أن يكون السجود على الأعضاء السبعة: الكفان، والركبتان، والقدمان، والجبهة مع الأنف، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرنا أن نسجد على سبع أعظُم: على الجبهة- وأشار بيده على أنفه- واليدين (وفي لفظ: الكفين) والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر» (3).

[10، 11] الجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه:

وهو ركن من أركان الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا».

وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا» (4).

وبركنيته قال الشافعي وأحمد، ولم ينقل فيه عن مالك شيء، وأما أبو حنيفة فيكفي عنده أن يرفع رأسه مثل حد السيف!! (5).

[12، 13] التشهد الأخير، والجلوس فيه:

وهو ركن من أركان الصلاة تبطل الصلاة بتركه عمدًا أو سهوًا، لما يأتي:

1 - حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل السلام على ميكائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا: السلام على الله، لكن قولوا التحيات لله ... إلى آخره» (6).

وهو دليل على أنه فُرض بعد أن لم يكن مفروضًا.

_________

(1) صححه الألباني: أخرجه الدارقطني (1/ 348) وانظر «صفة الصلاة» (ص: 142).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (418)، ومسلم (424).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (812)، ومسلم (490).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (498)، وابن ماجه (893).

(5) «الأم» (1/ 100)، و «المجموع» (3/ 412)، و «المغنى» (1/ 375)، «المدونة» (1/ 70)، و «ابن عابدين» (1/ 474).

(6) صحيح: أخرجه بلفظ (قبل أن يفرض علينا)، النسائي (3/ 40)، والبيهقي (2/ 138)، وانظر «الإرواء» (319) وأصله في «الصحيحين».

 

(1/323)

 

 

2 - حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قعد أحدك في الصلاة فليقل: التحيات لله ...» (1).

3 - مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على فعله.

وهذا مذهب الشافعي وأحمد، ومذهب مالك أنه سنة وليس بركن إلا الجزء الذي يوقع فيه التسليم (!!) وعند أبي حنيفة الجلوس قدر التشهد ركن، أما التشهد فلا يجب (!!) (2) ولم يأت القائلون بعدم وجوبه بحجة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلِّمه للمسيء صلاته، نعم يصلح هذا حجة إذا تقرر أن حديث المسيء متأخر عن إيجاب التشهد، أما إذا كان حديث المسيء متقدمًا فلا مانع من أن يتجدد إيجاب واجبات لم يشتمل عليها، لأن قصر الواجبات على حديث المسيء فقط وإهدار الأدلة الواردة بعده -تخيلاً لصلاحيته لصرف كل دليل يرد بعده- دالاً على الوجوب- سدٌّ لباب التشريع، وردٌّ لما تجدد من واجبات الصلاة، فإن جهل التاريخ كان القول بالوجوب أرجح لأنه قد وُجِد ما يقضي الوجوب، ولم يتيقن ما يصرفه عن ذلك، فوجب على الموجب عملاً بدليله (3).

صيغة التشهد:

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفىَّ بين كفَّيْه، كما يعلِّمني السورة من القرآن: «التحيات لله والصلوات لله والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» (4).

وهذا أصح صيغ التشهد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل العلم (5)، وإن كان العلماء قد اتفقوا على جواز جمع صيغ التشهد الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي بعضها.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (831)، ومسلم (402).

(2) «الأم» (1/ 102)، و «المغنى» (1/ 387)، و «مواهب الجليل» (2/ 525)، و «المبسوط» (1/ 29).

(3) «السيل الجرار» (1/ 219)، و «نيل الأوطار» (2/ 309) ط. الحديث.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (6265)، ومسلم (402).

(5) «الأوسط» لابن المنذر (3/ 207)، و «المحلى» (3/ 207).

 

(1/324)

 

 

فائدة:

قد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة في قوله (السلام عليك أيها النبي) بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب، وبين ما بعده فيقال بلفظ الغيبة: (السلام على النبي ...) ففي لفظ عند البخاري (6265) بعد سياق التشهد قال ابن مسعود: «وهو بين ظهرانينا، فلما قُبض قلنا: السلام، يعني على النبي» وقواه الحافظ في «الفتح» (2/ 366) فقال: «قد صح بلا ريب، وقد وجدت له متابعًا قويًّا، قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء: «أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي» وهذا إسناد صحيح اهـ.

قال العلامة الألباني -رحمه الله-: «ولابد أن يكون ذلك بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم ويؤيده أن عائشة رضي الله عنها كذلك كانت تعلمهم التشهد في الصلاة» (1) اهـ.

[14] التسليم:

ذهب الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- إلى أن التسليم ركن في الصلاة لما يأتي:

1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «... وتحليلها التسليم» (2).

2 - وعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم الصلاة بالتسليم» (3).

3 - مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على التسليم.

وقد قيل إن هذه الأدلة لا تنهض للحكم بالركنية، لأنه لم يذكر التسليم في حديث «المسيء» إلا أن يُعلم تأخر حديث على: «تحليلها التسليم» كذا قال الشوكاني (4).

قلت: هو هنا قد خالف ما كان قرره -فيما نقلته عنه في إيجاب التشهد- من أنه إذا لم يُعلم التاريخ كان القول بالوجوب أرجح للنص الموجب، لكن .. الذي يمكن أن يناقش هو صحة حديث على: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» فمن صح عنده لزمه القول بالركنية، والذي يظهر أنه يدل على الركنية كذلك ما يأتي:

4 - حديث أبي سعدي الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته

_________

(1) «صفة صلاة النبي» (ص: 161) وعزاه أثر عائشة للسراج والمخلص في «فوائده» بسندين صحيحين عنها.

(2) صححه الألباني: وقد تقدم.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (498)، وأبو داود (783).

(4) «نيل الأوطار» (2/ 352 - الحديث).

 

(1/325)

 

 

فلم يدْرِ كم صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك وليَبْنِ على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» (1).

5 - وفي حديث ابن مسعود -في سجود السهو-: «.. فليتحرَّ الذي يرى أنه صواب ثم يُسلِّمْ ثم يسجد سجدتي السهو» (2).

وفيهما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسليم من كل صلاة حتى التي يسهو فيها، وهذا الأمر مع ما تقدم يشعر بفرضيَّة التسليم، والله أعلم.

وأما أبو حنيفة فقال: التسليمتان اختيار، وليس السلام من الصلاة فرضًا، بل إذا قعد مقدار التشهد فقد تمت صلاته!! واستُدل له برواية لحديث ابن مسعود في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له التشهد: «فإذا قلت هذا، فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» (3).

وهذه الزيادة مدرجة في الحديث باتفاق الحفاظ، بل الذي صح عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضًا بلفظ: «مفتاح الصلاة التكبير وانقضاؤها التسليم [إذا سلم الإمام فقم إن شئت]» (4).

هل تجزئ تسليمة واحدة؟ أم تسليمتان؟ (5)

ذهب الشافعية والمالكية وجمهور العلماء إلى أن الركن التسليمة الأولى، أما الثانية فسنَّة، وقال ابن المنذر: وكلُّ من أحفظ عنه من أهل العلم يجيز صلاة من اقتصر على تسليمة، وأُحب أن يسلم تسليمتين. اهـ.

قال النووي: أجمع العلماء الذين يعتدُّ بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة!!

قلت: بل خالف في هذا أحمد بن حنبل -في رواية عنه- فأوجب التسليمتين وهو المذهب عند الحنابلة، وبه قال ابن حزم وأهل الظاهر وبعض المالكية والحسن ابن صالح، واستدلوا بما يلي:

_________

(1) صحيح: يأتي في «سجود السهو».

(2) صحيح: يأتي في «سجود السهو».

(3) أخرجه أبو داود (968)، وأحمد (1/ 129)، والدارقطني (1/ 353)، وانظر «المحلى» (3/ 278).

(4) إسناده صحيح: أخرجه ابن حزم في «المحلى» (3/ 279)، والبيهقي في «الخلافيات» كما في «النيل» (2/ 251).

(5) «الأم» (1/ 121)، و «المجموع» (3/ 425)، و «الدسوقي» (1/ 241)، و «كشاف القناع» (1/ 361)، و «الأوسط» (3/ 223).

 

(1/326)

 

 

1 - مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على التسليمتين مع قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ولم يصح عندهم أنه سلم تسليمة واحدة.

2 - قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رآهم يشيرون بأيديهم عند التسليم: «... إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ويسلم على أخيه من على يمينه وشماله» (1). قالوا: وما دون الكفاية لا يكون مجزئًا.

واستدل الجمهور على إجزاء تسليمة واحدة بما يلي:

1 - حديث: «... وتحليلها التسليم» قالوا: وهذا لفظ مطلق يصدق على التسليمة الواحدة.

2 - حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ وفيه: «فلا يقعد في شيء منهن إلا في الثامنة، فإنه يقعد فيها للتشهد، ثم يقوم ولا يسلم فيصلي ركعة واحدة، ثم يجلس فيتشهد ويدعو ثم يسلم تسليمة واحدة: السلام عليكم يرفع بها صوته حتى يوقظنا» (2) ولفظ مسلم (746): «... ثم يسلِّم تسليمًا يسمعناه» محتمل للتسليمة والتسليمتين، إلا أن التسليمة الواحدة قد ثبتت عن جماعة من الصحابة منهم أنس وابن عمر.

فائدتان:

[1] أقل ما يجزئ في التسليم لفظ (السلام عليكم) على الأصح وأكمله وأفضله (السلام عليكم ورحمة الله) يمينًا وشمالاً.

[2] هل يزاد (وبركاته) في التسليم (3)؟

- الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسليم هو قوله: (السلام عليكم ورحمة الله) عن يمينه وشماله، وقد ورد هذا عنه صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة من حديث: جابر بن سمرة، وابن عمر، وابن مسعود.

- أما زيادة (وبركاته): فلم ترد مرفوعة بإسناد محتمل إلا من طريق موسى ابن قيس عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن وائل بن حجر، وقد غمز الدارقطني

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (431).

(2) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 236)، وانظر «الإرواء» (2/ 32 - 34).

(3) هذا خلاصة بحث طيِّب أعدَّه أخونا إبراهيم الشيخ -أثابه الله- بعنوان «ألفاظ التسليم من الصلاة» وقد قدَّم له شيخنا مصطفى العدوي، رفع الله قدره.

 

(1/327)

 

 

في هذه الرواية، وتكلم بعض العلماء في سماع علقمة من أبيه. ولم ترد موقوفة بإسناد صحيح إلا عن الأسود بن يزيد.

على أن تصحيح هذه الزيادة مما يسع الاجتهاد والنظر فيه، فمن صحت عنده أفادته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها أحيانًا (1) قليلة في التسليمة الأولى، ومن ضعَّفها لم يعمل بها مع عدم الإنكار على المخالف الذي يفعلها نادرًا، وأما أن يداوم عليها -كما يفعله بعض المتسِّننة- فهو خلاف السنة على كل حال.

وليعلم أن جمهور أهل العلم يرون الاقتصار على قول (السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله).

[15] ترتيب الأركان:

لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها مرتبة، مع قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وعلَّمها للمسيء صلاته مرتبة بقوله: «ثم ... ثم ...».

ولأنها عبادة تبطل بالحدث فكان الترتيب فيها ركنًا كغيره (2).

 

واجبات الصلاة

الواجبات: ما يجب فعله أو قوله في الصلاة، ويسقط بالسهو ويجبره سجود السهو ومن تركه عمدًا بطلت صلاته إذا كان عالمًا بوجوبه.

وهذا المصطلح عند الحنفية والحنابلة، إلا أن الحنفية لا يرون تارك الواجب متعمدًا تبطل صلاته، وإنما هو آثم فاسق يستحق العقاب!!

وأما المالكية والشافعية فليس عندهم إلا أركان وسنن من حيث الجملة.

[1] دعاء الاستفتاح:

وهو واجب -على الأرجح- سواء في صلاة الفرض أو النفل أن تستفتح به الصلاة بعد التكبير وقبل قراءة الفاتحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث رفاعة بن رافع- للمسيء صلاته: «إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ ... ثم يكبر، ويحمد الله عز وجل ويثني عليه ويقرأ ما تيسر من القرآن ... فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته» (3).

_________

(1) وكذا فعل العلامة الألباني -قَدَّس الله روحه- في «صفة الصلاة» ص 187.

(2) «الدسوقي» (1/ 241)، و «مغنى المحتاج» (1/ 158)، و «كشاف القناع» (1/ 389)، و «الممتع» (3/ 426).

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (859)، والنسائي (2/ 20)، والترمذي (302)، وابن ماجه (460).

 

(1/328)

 

 

فظاهر قوله: «ويحمد الله عز وجل وثني عليه» أنه دعاء الاستفتاح، قال الصنعاني: «فيؤخذ منه وجوب مطلق الحمد والثناء بعد تكبيرة الإحرام» (1) اهـ.

قلت: ولا مانع من القول بالوجوب إذ قد صحَّ الحديث ولم ينعقد على خلافه إجماع، بل القول بوجوبه هو رواي عن أحمد واختارها ابن بطة (2)، وقد أطلق ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/ 172) القول بوجوب التوجيه في الصلاة عن الشافعي وأبي حنيفة (!!) ولم أظفر بما يؤيد هذا عنهما إلا ما وقع في «الدر المختار» (1/ 476) من عدِّ (الثناء) من الواجبات.

والأصل في دعاء الاستفتاح أن يُسَرَّ به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر به، وعليه عامة أهل العلم وإنما يجوز للإمام أن يجهر به أحيانًا ليعلمه الناس (3).

كما جهر عمر بن الخطاب بقوله: «سبحانك اللهم وبحمدك ...» (4).

يستثنى مما تقدم موضعان:

1 - في صلاة الجنازة: فإنه لا يشرع فيها دعاء الاستفتاح، لأنها مبنية على التخفيف والاختصار، وعن طلحة بن عبيد الله بن عوف قال: «صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: ليعلموا أنها سنة» (5) وفي رواية «فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى يسمعنا ...».

ففيه إشارة إلى عدم مشروعية دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة، إذ لم يجهر به ليعلمهم إياه كما جهر بالفاتحة.

وقيل: بل يشرع فيها كغيرها، والأول أقرب والله أعلم.

المسبوق إذا أدرك الإمام في غير القيام: فإنه لا يأتي بدعاء الاستفتاح لفوات محله.

_________

(1) «سبل السلام» (1/ 312).

(2) «الفروع» (1/ 413)، و «الإنصاف» (2/ 120).

(3) ذكر في «المغنى» (2/ 145) نحوه عن أحمد.

(4) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (399) منقطعًا ووصله الدارقطني (1/ 199)، والبيهقي (2/ 34)، ورجحا وقفه، وأخرجه عبد الرزاق (2555 - 2557)، وابن أبي شيبة (1/ 230) من طرق متصلاً ومنقطعًا، وانظر «المجموع» (3/ 277)، و «الإرواء» (340).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1335)، وأبو داود (3182)، والترمذي (1032)، وابن ماجه (2490)، والنسائي (4/ 74، 75)، والرواية الأخرى له.

 

(1/329)

 

 

من صيغ الاستفتاح قد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة صيغ لدعاء الاستفتاح منها:

1 - حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة سكت هُنَيْهَة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله، بأبي وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: «أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبَرَد» (1).

2 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال رجل من القوم: «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً» ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبتُ لهان فتحت لها أبواب السماء» قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك (2).

3 - حديث عائشة وأبي سعيد وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمُك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك» (3). وقد تقدم أن عمر كان يستفتح به.

4 - حديث عليٍّ رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومَحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (4)، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفتُ بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عنِّي سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كلُّه بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك».

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (601)، والترمذي (3592)، والنسائي (2/ 125).

(3) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (776)، والترمذي (243)، والنسائي (2/ 132)، وابن ماجه (806) وغيرهم وانظر «الإرواء» (341).

(4) هذا اللفظ ثابت ولا حرج في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه فهو من باب الاقتداء لا من باب الإخبار عن النفس.

 

(1/330)

 

 

ويقال: وكان يقوله في الفرض والنفل (1).

مما كان يستفتح به صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل ما جاء في:

5 - حديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل: «اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرائيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهْدِني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (2).

قلت: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أدعية الاستفتاح غير ذلك، فليراجعها من شاء (3).

وبكل صيغة مما تقدم أخذ طائفة من أهل العلم (4): فأخذ الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي بالمروي عن عمر [وعائشة وأبي سعيد].

وأخذ الشافعي بحديث عليٍّ، وقال أبو ثور: أي ذلك قال يجزيه، واختاره ابن المنذر، قلت: ويستحب التنويع في الاستفتاح بكل ما تيسَّر مما تقدم.

وأما مالك -رحمه الله- فكان لا يرى مشروعية الاستفتاح ولا الاستعاذة ولا البسملة (5) (!!) وهذه النصوص وغيرها حجة عليه، والله أعلم.

[2] الاستعاذة قبل القراءة:

وهي واجبة -على الأرجح- لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (6). ففي الآية أمر بالاستعاذة عند إرادة القراءة وحقيقة الأمر الوجوب. ولأن الاستعاذة تدرأ شر الشيطان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وقد قال بوجوبها في الصلاة: عطاء والثوري والأوزاعي وداود وابن حزم وهو رواية عن أحمد (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (771)، وأبو داود (760)، والترمذي (342)، والنسائي (2/ 130).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (770).

(3) انظر «صفة صلاة النبي» للألباني (ص: 91 - 95) ط. المعارف.

(4) «الأوسط» لابن المنذر (3/ 86)، و «الأم» (1/ 106)، و «مسائل أحمد» لأبي داود (30).

(5) «الأوسط» (3/ 86)، و «المدونة» (1/ 62).

(6) سورة النحل، الآية: 98.

(7) «المحلى» (3/ 247)، و «المجموع» (3/ 281)، و «الفورع» (1/ 413)، و «الإنصاف» (2/ 120).

 

(1/331)

 

 

وقد ذهب الجمهور إلى الاستحباب، ومنعها مالك (1) (!!).

صيغ الاستعاذة:

يشرع الاستعاذة في أول القراءة بإحدى الصيغ الآتية:

(أ) «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

(ب) «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».

(جـ) «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» (2).

قال ابن قدامة في «المغنى» (2/ 146): وهذا كله واسع، وكيفما استعاذ فحسن. اهـ.

الإسرار بالاستعاذة: الأصل في الاستعاذة الإسرار بها، فإنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جهر بها، ولا عن خلفائه الراشدين أنهم داوموا على الجهر بها، وإنما قد يجهر بها الإمام أحيانًا لتعليم الناس على نحو ما تقدم عن ابن عباس.

هل يستعيذ في كل ركعة؟

قال الأكثرون: يجزئه أن يستعيذ في أول ركعة فقط، واستحب الشافعي الاستعاذة في كل ركعة، وأوجبه ابن سيرين (3)، قلت: ووجهه أن الآية تقتضي تكرير الاستعاذة عند تكرير القراءة، فمتى حصل الفصل بين القراءتين بالركوع والسجود ونحوهما، فتشرع الاستعاذة، والله أعلم.

[3] التأمين بعد الفاتحة:

لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه الملائكة، غُفر له ما تقدم من ذنبه» (4).

وقد حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب، ولم يظهر لي وجه صرفه عن الوجوب!!

_________

(1) «ابن عابدين» (1/ 328)، و «الدسوقي» (1/ 251)، و «مغنى المحتاج» (1/ 156)، و «كشاف القناع» (1/ 335).

(2) وهي ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر «إرواء الغليل» (342).

(3) «الأوسط» (3/ 89)، وقال بوجوب الاستعاذة في أول كل ركعة ابن حزم في «المحلى» (3/ 254).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (780)، ومسلم (410) من حديث أبي هريرة.

 

(1/332)

 

 

وقال ابن حزم: يجب على المأموم، وأما المنفرد والإمام فيندب لهما (1)، لظاهر الحديث المتقدم وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا انتهى من قراءة الفاتحة قال: «آمين» يجهر بها ويمد بها صوته» (2).

فالصحيح أن التأمين واجب على الإمام والمأموم والمنفرد مطلقًا، جهرًا في الجهرية وسرًّا في السرية والله أعلم.

[4، 5، 6] تكبيرات الانتقال، وقول «سمع الله لمن حمده»، وقول: ربنا لك الحمد:

1 - لقوله صلى الله عليه وسلم: «... وإذا كبَّر فكبِّروا ... وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد» (3).

2 - ولمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ففي حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوى، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس» (4) ونحوه في حديث أبي حميد الساعدي.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (5).

3 - أمره صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته بذلك فقال -في حديث رفاعة بن رافع-: «إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر ويحمد الله عز وجل ويثني عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقولك سمع الله لمن حمده، حتى يستوي قائمًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى

_________

(1) «ابن عابدين» (1/ 320)، و «الدسوقي» (1/ 248)، و «مغنى المحتاج» (1/ 160)، و «كشاف القناع» (1/ 339)، و «المحلى» (3/ 262)، و «نيل الأوطار» (2/ 258).

(2) صحيح: أخرجه البخاري في «جزء القراءة»، وأبو داود (932)، وصححه الألبان في «صفة الصلاة» (ص: 101).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (722)، ومسلم (409).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (289)، ومسلم (392).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (631).

 

(1/333)

 

 

يستوي قاعدًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصل ... ثم يرفع رأسه فيكبر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته» (1).

4 - أنها شعار الانتقال من ركن إلى آخر، ومن هيئة إلى أخرى (2).

وهذه الأمور الثلاثة واجبة في الصلاة على المنفرد والإمام والمأموم على الصحيح، وهو مذهب الحنابلة، وهي سنة عند الجمهور (3).

فائدة: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحميد بعد قوله (سمع الله لمن حمده) أربع صيغ، هي:

1 - «ربنا ولك الحمد» (4) 2 - «اللهم ربنا ولك الحمد» (5).

3 - «ربنا لك الحمد» (6) 4 - «اللهم ربنا لك الحمد» (7).

[7] التسبيح في الركوع والسجود:

وهو قول (سبحان ربي العظيم) في الركوع، و (سبحان ربي الأعلى) في السجود، وبإيجابه في الصلاة قال أحمد بن حنبل -في رواية- وهو المذهب، وإسحاق وداود وابن حزم (8)، وحجتهم:

1 - حديث عقبة بن عامر قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: «اجعلوها في سجودكم» (9) قالوا: وهذا الأمر للإيجاب لاجتماع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ووروده من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (859)، والنسائي (2/ 2)، والترمذي (302)، وابن ماجه (460).

(2) «الشرح الممتع» (3/ 432).

(3) «ابن عابدين» (1/ 334) النبي صلى الله عليه وسلم و «الدسوقي» (1/ 243)، و «مغنى المحتاج» (1/ 165)، و «كشاف القناع» (1/ 348).

(4) البخاري (689)، ومسلم (392).

(5) البخاري (795)، والترمذي (3423)، والنسائي (1060)، وأبو داود (770).

(6) البخاري (722)، ومسلم (409).

(7) البخاري (796)، ومسلم (404).

(8) «الإنصاف» (2/ 115)، و «المحلى» (3/ 260).

(9) إسناده ليِّن: أخرجه أبو داود (869)، وابن ماجه (887)، وأحمد (16773).

 

(1/334)

 

 

قلت: الحديث في سنده لين، إلا أنه موافق للآتي بعده فيتأيد به، وهو:

2 - حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظِّموا فيه الربَّ عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم» (1).

3 - حديث حذيفة قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم»، وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلى» (2).

وقد ذهب الجمهور (3) إلى أن التسبيح في الركوع والسجود سنة وليس بواجب بناء على أنه لم يأمر به المسيء صلاته، وهذا متجه عند من يضعِّف حديث عقبة ابن عامر ولا يرى حديث ابن عباس شاهدًا له، وأما من ثبت عنده حديث عقبة فيلزمه القول بالوجوب، لما تقدم مرارًا.

[8، 9] التشهد الأوسط والجلوس له:

لأمره صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته به -في حديث رفاعة- بقوله: «.. فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد» (4).

ولسائر الأدلة التي تقدمت في ركنية التشهد الأخير، وإنما لم نقل بركنية التشهد الأوسط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نسيه لم يعد إليه وجبره بسجود السهو (5)، ولو كان ركنًا لم ينجبر به (6). وبوجوب التشهد الأوسط قال أحمد وإسحاق والليث وأبو ثور وداود وابن حزم.

وقال الجمهور: هو سنَّة (7)، لأنه لو كان واجبًا لم يسقط بالسهو كالأركان!!

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (479)، وأبو داود (876).

(2) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (262)، وأبو داود (871)، والنسائي (3/ 226)، وابن ماجه (888).

(3) «ابن عابدين» (1/ 474)، و «مواهب الجليل» (1/ 525)، و «الأم» (1/ 101)، و «المجموع» (3/ 410).

(4) حسن: أخرجه أبو داود (860)، والبيهقي (2/ 133)، وانظر «الإرواء» (337).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1230)، ومسلم (570) من حديث عبد الله بن بحينة.

(6) «الشرح الممتع» (3/ 441).

(7) «المحلى» (3/ 268)، و «المجموع» (3/ 430).

 

(1/335)

 

 

وأجيب بأن هذا إنما يكون دليلاً لو كان سجود السهو مختصًّا بترك ما ليس بواجب وذلك ممنوع (1).

بل إن سجود السهو لا يشرع إلا لترك واجب، «لأن الأصل منع الزيادة في الصلاة، وسجود السهو قبل السلام زيادة في الصلاة، ولا ينتهك هذا المنع إلا لفعل واجب، فإذا وجب سجود السهو لتركه دلَّ ذلك على وجوبه، وإلا لكان وجوده وعدمه سواء» (2).

الإسرار بالتشهد: أجمع العلماء على الإسرار بالتشهدين وكراهة الجهر بهما، لأنه لم ينقل الجهر بهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس توارثت الإخفاء بالتشهد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، والتوارث كالتواتر (3).

 

سنن الصلاة

سنن الصلاة: هي أقوال وأفعال يُستحب الإتيان بها في الصلاة، يُثاب فاعلها، ولا تبطل الصلاة بتركها ولو عمدًا، ولا يُشرع بتركها سجود السهو.

وليعلم أن في هذا الباب أمور مجمعًا عليها لا مندوحة عن الإتيان بها، وأمورًا أخرى اختلف العلماء فيها، فكان الأنسب في هذا المقام أن أثبت ما صح دليل مشروعيته دون غيره دون التعريج على أوجه الاختلاف فيه، خشية الإطالة، ولأن المقصود معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته للاقتداء به، ولا يضر بعذ ذلك مخالفة من خالف كائنًا من كان.

وقد قسمت هذه السنن إلى قولية وفعلية:

السنن القولية:

1 - القراءة بعد الفاتحة:

فَتُسَنُّ قراءة سورة في الركعتين الأوليين بعد الفاتحة بإجماع العلماء، وكذلك تسن قراءتها -أحيانًا- في الثالثة والرابعة:

فعن أبي قتادة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، ويسمعنا الآية أحيانًا، ويقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب» (4).

_________

(1) «السيل الجرار» (1/ 229).

(2) «الشرح الممتع» (3/ 443 - 444).

(3) «المبسوط» (1/ 32)، وانظر «الأوسط» (3/ 207)، و «المجموع» (3/ 444).

(4) أخرجه مسلم (421)، ونحوه وفي البخاري (759).

 

(1/336)

 

 

وأما القراءة في الثالثة والرابعة فلحديث أبي سعيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الآخريين قدر خمس عشرة آية ... الحديث» (1).

ويستفاد من الحديث السابق أيضًا: أنه يستحب أن تكون القراءة في الأوليين أكثر من القراءة في الأخريين.

ويستحب كذلك ترتيل القراءة وتدبرها بالإجماع، ويكره الإفراط في الإسراع في القراءة بالإجماع، ولقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (2).

ويستحب سؤال الله تعالى والاستعاذة به عند ذكر آيات الرحمة والعذاب.

فعن حذيفة قال: «صليت من النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة ... يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مَرَّ بتعوذ تعوذ ثم ركع» رواه مسلم.

ويستحب -في الصلاة- أن يقول: «سبحان الله» إذا قرأ قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (3).

وإذا قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (4).

أن يقول: «سبحانك فبلى». لثبوت الدليل فيهما.

ولا يشرع إذا قرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (5) أن يقول: «بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين».

ولا أن يقول إذا قرأ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (6): «آمنا بالله». ولا أن يقول إذا قرأ الإمام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (7): «استعنت بالله».

فإن هذا كله لا يثبت الحديث فيه.

_________

(1) أخرجه مسلم (452).

(2) سورة المزمل، الآية: 4.

(3) سورة الأعلى، الآية: 1.

(4) سورة القيامة، الآية: 40.

(5) سورة التين، الآية: 8.

(6) سورة المرسلات، الآية: 50.

(7) سورة الفاتحة، الآية: 5.

 

(1/337)

 

 

2 - الذكر في الركوع بما يأتي:

1 - «اللهم لك ركعتُ، ولك أسلمت وبك آمنت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي» (1).

2 - قوله: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» (2).

3 - «سُبَّوحٌ قُدُّوس رب الملائكة والروح» (3).

4 - «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة» (4).

3 - الذكر بعد القيام من الركوع وبعد «ربنا لك الحمد» بما يأتي:

1 - «اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجدُّ» (5).

2 - «ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه» (6).

4 - الذكر في السجود بما يأتي:

1 - «اللهم لك سجدت وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين» (7).

2 - «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» (8).

3 - «سبوح قدوس رب الملائكة والروح» (9).

4 - «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة» (10).

5 - الإكثار من الدعاء في السجود، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وأما السجود فاجتهدوا في الداء، فقمن أن يستجاب لكم» (11).

_________

(1) أخرجه مسلم (771)، والترمذي (4317)، وأبو داود (760)، والنسائي (2/ 130).

(2) أخرجه البخاري (2/ 247)، ومسلم (484) وغيرهما.

(3) أخرجه مسلم (487)، وأبو داود (872).

(4) أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (2/ 191) بسند حسن.

(5) أخرجه مسلم (477)، والنسائي (2/ 198).

(6) أخرجه البخاري (2/ 237)، وأبو داود (770)، والنسائي (2/ 196)، والترمذي (404).

(7) أخرجه مسلم (771) وقد تقدم.

(8) تقدم ثلاثتهم قريبًا في (الذكر في الركوع).

(9) تقدم تخريجه.

(10) أخرجه مسلم (483).

(11) أخرجه مسلم (483).

 

(1/338)

 

 

بمعنى: فجدير وحقيق أن يستجاب لكم.

وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: «اللهم اغفر لي ذنبي كله، دِقَّهُ وجِلَّه وأوله وآخره وعلانيته وسرَّه» (1).

5 - الدعاء بين السجدتين بما يأتي:

1 - «اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني» (2).

2 - «رب اغفر لي .. رب اغفر لي» (3).

6 - الصلاة على النبي بعد التشهد الأول والأخير:

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره، فيبعثه الله فيما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ ثم يصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيدعو ربه ويصلي على نبيه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة فيقعد ثم يحمد ربه ويصلي على نبيه ويدعو ثم يسلم ...» (4).

وأفضل صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

«اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد».

7 - الدعاء بعد التشهد الأول والثاني:

فأما بعد الأول: فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع ربه عز وجل» (5).

وأما بعد الثاني: فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ

_________

(1) أخرجه أبو داود (850)، والترمذي (284) وصححه الألباني.

(2) أخرجه أبو داود (874)، والنسائي (3/ 226) وانظر «الإرواء» (335).

(3) أخرجه مسلم (746).

(4) أخرجه البخاري (6357)، ومسلم (406) وغيرهما.

(5) تقدم تخريجه.

 

(1/339)

 

 

بالله من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال (1) وفي رواية: «ومن المأثم والمغرم».

وقد ثبت أدعية أخرى بين التشهد والتسليم ومنها:

1 - «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» (2).

2 - «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به منيَّ، أنت المقدِّم، وأنت المؤخر لا إله إلا أنت» (3).

8 - التسليمة الثانية:

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلِّم تسليمتين، فعن عامر بن سعد عن أبيه قال: «كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده» (4).

والتسليمة الأولى ركن، أما الثانية فهي سنة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على الأولى: فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن قليلاً» (5).

9 - الذكر والدعاء بعد الصلاة:

أما الذكر فقد ثبت فيه أحاديث منها:

1 - «من سبَّح في دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين وكبَّر ثلاثً وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير -غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر» (6).

2 - «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء

_________

(1) أخرجه البخاري (3/ 192)، ومسلم (588) وغيرهما.

(2) أخرجه البخاري (2/ 265)، ومسلم (2705) وغيرهما.

(3) أخرجه مسلم (771)، وأبو داود (760)، والترمذي (3417)، والنسائي (2/ 130).

(4) رواه مسلم (1/ 582).

(5) أخرجه الترمذي (295) بسند صحيح.

(6) رواه مسلم (597).

 

(1/340)

 

 

قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» (1).

3 - «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجد» (2).

4 - كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثًا، وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (3).

5 - عن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمُعَوِّذات دُبُرَ كل صلاة» (4).

6 - «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، لم يحل بينه وبين دخول الجنة إلا الموت» (5).

وأما الدعاء بعد الصلاة:

فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بعدة صيغ منها:

1 - «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (6).

2 - «اللهم إني أعوذ بك من الجبْن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر» (7).

3 - «رب قِني عذابَك يوم تبعث عبادك» (8).

4 - «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» (9).

_________

(1) رواه مسلم (594).

(2) رواه البخاري (844)، ومسلم (471).

(3) رواه مسلم (591).

(4) رواه أبو داود (1523)، والترمذي (2903)، والنسائي (1336) بسند حسن.

(5) رواه ابن السني بسند حسن.

(6) أخرجه أبو داود (1508)، والنسائي (3/ 53) بسند صحيح.

(7) أخرجه البخاري (2822)، والترمذي (3562)، والنسائي (8/ 266).

(8) أخرجه مسلم (709).

(9) أخرجه مسلم (771) وقد تقدم.

 

(1/341)

 

 

5 - «اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملاً متقبلاً» (1).

6 - «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر» (2).

فائدة:

الدعاء بعد الصلاة مستجاب -إن شاء الله- فقد قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل، ودبر الصلوات المكتوبات» (3).

 

السنن الفعلية في الصلاة

1 - اتخاذ السترة في الصلاة:

يُسَنُّ له أن يجعل أمامه سترة -في الصلاة- تمنع المرور أمامه، وتكف بصره عما وراءها.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم فليصلِّ إلى سترة، وليدنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته» (4).

- وهذه السترة قد تكون جدارًا أو أسطوانة (عمودًا) أو عصا مغروزة أو نحو ذلك، وأقل ذلك ما يكون مثل مؤخرة الرحل وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب: لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصلِّ، ولا يبالِ من مَرَّ وراء ذلك» (5).

وإذا اتخذ هذه السترة فلا يسمح لأحد أن يمر أمامه في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان» (6).

وإن كان قد عارض هذا بعض العلماء بأدلة صحيحها غير صريح، وصريحها غير صحيح، فقالوا: لا يقطع الصلاة شيء، وتأولوا الحديث المتقدم بأن المراد بقطع الصلاة في الحديث قطع الخشوع، وليس بطلان الصلاة بمجرد المرور (7).

_________

(1) أخرجه ابن ماجه (925)، وأحمد (4/ 55) بسند حسن.

(2) أخرجه النسائي (8/ 262)، وابن السني (111) بسند حسن.

(3) أخرجه الترمذي (3499) وصححه الألباني.

(4) أخرجه أبو داود (681)، والنسائي (2/ 62)، والحاكم (1/ 251) واللفظ له وهو صحيح.

(5) أخرجه مسلم (499)، والترمذي (334)، وأبو داود (671).

(6) أخرجه البخاري (487)، ومسلم (505) وغيرهما.

(7) زاد المعاد (1/ 306)، وجامع أحكام النساء (1/ 424).

 

(1/342)

 

 

فوائد (1):

1 - مرور الجارية الصغيرة التي لم تحض لا يقطع الصلاة لأنه لا يقال لها امرأة، فعن قتادة قال: لا تقطع المرأة صلاة المرأة، قال: وسئل هل يقطع الصلاة الجارية التي لم تحض؟ قال: لا (2).

2 - مرور المرأة عن يمين ويسار الرجل وهو يصلي لا يقطع صلاته.

3 - وقوف المرأة بجانب الرجل لا يُبطل صلاته، فعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعليَّ مرط وعليه بعضه إلى جنبه» (3).

إذا كنت تصلين في جماعة فلا حرج في المرور بين الصفوف، لأن سترة الإمام سترة للمأموم، فعن ابن عباس قال: «أقبلت راكبًا على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى، فمررت بين يدي الصف، فنزلت فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليَّ أحد» (4).

2 - رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول وكذا عند كل رفع وخفض:

فعن نافع: أن ابن عمر «كان إذا دخل في الصلاة كبَّر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه» ورفع ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم (5).

قلت: هذه هي المواضع الأربعة التي يتأكد فيها رفع اليدين، لكن يُسَنُّ أحيانًا رفع اليدين عند كل رفع وخفض، لحديث مالك بن الحويرث أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في صلاته إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه» (6).

محل الرفع وصفته: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه تارة مع التكبير،

_________

(1) جامع أحكام النساء (1/ 414).

(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2/ 28) بسند صحيح إلى قتادة.

(3) أخرجه مسلم (2/ 148)، وأبو داود (370)، وابن ماجه (652) والنسائي.

(4) أخرجه البخاري (493)، ومسلم (504) وغيرهما.

(5) أخرجه البخاري (739)، وأبو داود (727)، ونحوه عند مسلم (390).

(6) أخرجه النسائي (2/ 206) وأحمد (493) وهو صحيح.

 

(1/343)

 

 

وتارة بعده، وتارة قبله، ويستحب أن يرفع اليدين ممدودتي الأصابع، ويجعلهما حذو منكبيه كما في حديث أبي قتادة (1)، أو يجعلهما حذو أذنيه كما في حديث وائل بن حجر المتقدم.

3 - وضع اليمنى على اليسرى فوق الصدر:

فعن سهل بن سعد قال: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» (2).

وعن وائل بن حجر قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره» (3).

4 - النظر محل السجود:

فعن عائشة قالت: «لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها» (4).

5 - استواء الظهر في الركوع وعدم رفع الرأس أو خفضه، والقبض بالكف على الركبتين مع تفريج الأصابع ومباعدة العضدين عن الجنبين:

لحديث أبي حميد في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره حتى يعتدل ولا يبقى محدودبًا» (5).

وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لم يُشخص رأسه ولم يُصوِّبه ولكن بين ذلك» (6).

وفي حديث أبي حميد: «.. ثم ركع، فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ووتَّر يديه فتجافى عن جنبيه» (7).

وعن وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا ركع فرَّج أصابعه» (8).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري وغيره.

(2) أخرجه البخاري (740)، ومالك في الموطأ (376).

(3) أخرجه ابن خزيمة (479)، وصححه الألباني في «الإرواء» (352).

(4) أخرجه الحاكم (1/ 479)، وصححه الألباني.

(5) أخرجه البخاري (828)، وأبو داود (717).

(6) أخرجه مسلم (498)، وأبو داود (768).

(7) أخرجه أبو داود (720)، والترمذي (259) وهو صحيح.

(8) أخرجه ابن خزيمة (594) وصححه الألباني.

 

(1/344)

 

 

6 - النزول في السجود على اليدين قبل الركبتين:

لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه» (1).

7 - تمكين الجبهة والأنف واليدين من الأرض مع مجافاة اليدين عن الجنبين، ووضع الكفين حذو المنكبين أو الأذنين، ورفع المرفقين، ونصب القدمين ورصُّ العقبين واستقبال القبلة بأصابع الكفين والقدمين:

ففي حديث أبي حميد: «.. فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة» (2).

وعن عبد الله بن بُحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا صلى فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه» (3).

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك» (4).

وفي حديث أبي حميد: «.. كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه» (5).

وفي حديث عائشة: «.. فوجدته ساجدًا راصًّا عقبيه مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة» (6).

فائدة:

ذهب فريق من العلماء إلى أن المرأة تخالف الرجل في هيئات الركوع والسجود فقالوا: إنها تجمع نفسها ولا تجافي، وتضم فخذيها وغير ذلك لأن هذا أستر لها (7).

لكن لم يرد أي دليل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيح السند يوضح أي فرق بين صفة صلاة المرأة وصفة صلاة الرجل، وكذلك لم نقف على شيء ثابت صحيح

_________

(1) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد بسند حسن.

(2) أخرجه البخاري وأبو داود.

(3) أخرجه البخاري (807)، ومسلم (495) وغيرهما.

(4) أخرجه مسلم (494).

(5) أخرجه ابن خزيمة والترمذي.

(6) أخرجه ابن خزيمة (654)، والبيهقي (2/ 116) وصححه الألباني.

(7) انظر سنن البيهقي (2/ 222)، والمغنى (1/ 562)، وسبل السلام (1/ 308)، ورد على هذا المذهب ابن حزم في المحلى (4/ 124) ولم يفرق بين الرجل والمرأة في هيئات الصلاة.

 

(1/345)

 

 

عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وعلى ذلك فمن تمسك بالأصل وسوَّى بين صلاة الرجل والمرأة في جميع الهيئات لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فرأيه أسدَّ وأقوى وخصوصًا إذا كانت المرأة تصلي منفردة - ومن رأى أن المرأة تفارق الرجل في هذه الهيئات وأنها مأمورة بكل ما هو أستر لها، فله وجهه وبه قال عدد كبير من السلف الصالح والله أعلم (1).

8 - افتراش الرِّجلْ اليسرى ونصب اليمنى في الجلسة بين السجدتين:

فعن عائشة قالت: «وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى» (2).

ويجوز كذلك -بين السجدتين- أن ينصب قدميه ويقعد على العقبين (أحيانًا) وهو ما يسمى بالإقعاء.

لحديث طاوس قال: «قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين فقال: سنة، فقلنا له: إنا لنراه جفاء بالرَّجُل، فقال ابن عباس: بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم» (3).

وعن أبي الزبير أنه: «رأى عبد الله بن عمر إذا سجد حين يرفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه، ويقول: إنه من السنة» (4).

9 - إطالة الجلسة بين السجدتين:

وقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم» (5).

وهذه السُّنة تركها الناس من بعد انقراض عصر الصحابة، ولهذا قال ثابت: «وكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه: يمكث بين السجدتين حتى نقول: قد نسي أو: قد أوهم» (6).

10 - الجلوس بعد السجود قبل القيام للركعة الثانية أو الرابعة (جلسة الاستراحة):

فيُسَنُّ بعد الفراغ من السجود الثاني من الركعة الأولى والثالثة أن يجلس جلسة خفيفة قبل قيامه إلى الركعة الثانية والرابعة.

_________

(1) جامع أحكام النساء لشيخنا (1/ 378) بتصرف يسير.

(2) أخرجه مسلم (498)، وأبو داود (768).

(3) أخرجه مسلم (498)، وأبو داود (768).

(4) أخرجه مسلم (536)، وأبو داود (830)، والترمذي (282).

(5) أخرجه مسلم (473)، ومعنى قوله: (قد أوهم): أوقع في ذهنهم أنه ترك ما بعده.

(6) أخرجه البخاري (2/ 249)، ومسلم (473).

 

(1/346)

 

 

لحديث مالك بن الحويرث أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا» (1).

11 - الاعتماد على الأرض باليدين عند النهوض إلى الركعة الجديدة:

لقول مالك بن الحويرث: «ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ .... فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام» (2).

12 - الافتراش في الجلوس للتشهد الأول والتورك في التشهد الأخير:

الافتراش هو: أن ينصب رجله اليمنى ويفترش اليسرى فيجلس عليها.

والتورك هو: أن ينصب اليمنى ويقدم اليسرى ويجعل مقعدته على الأرض.

ففي حديث أبي حميد: «.. فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدَّم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته» (3).

فائدة: إذا كانت الصلاة ركعتين فقط بمعنى أن فيها تشهدًا واحدًا فالسنة فيه الافتراش، لحديث عائشة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: «... وكان يقو في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى ...» (4).

13 - الإشارة بالسبابة في التشهد من أوله إلى آخر الدعاء والرمي بالبصر إليها:

لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعيه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها [ورمى ببصره إليها]، ويده اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها» (5).

فائدة: لا تجوز الإشارة بغير السبابة اليمنى، فعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «مرَّ عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بإصبعي فقال: أحدِّ أحدِّ، وأشار بالسبابة» (6).

_________

(1) أخرجه البخاري (823)، ومسلم (829).

(2) أخرجه البخاري (824).

(3) أخرجه البخاري (1/ 201)، وأبو داود (194)، والترمذي (2/ 105).

(4) أخرجه مسلم (1/ 357).

(5) أخرجه مسلم (580).

(6) أخرجه أبو داود (2/ 80)، والنسائي (3/ 38).

 

(1/347)

 

 

وإذا كانت السبابة اليمنى مقطوعة فالراجح أن الإشارة تسقط في حقه ولا تشرع الإشارة بغيرها والله أعلم.

 

أمور تباح في الصلاة

(أ) الأفعال المباحة في الصلاة:

1 - حمل الطفل في الصلاة:

فعن أبي قتادة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سد وضعها وإذا قام حلمها» (1).

2 - المشي اليسير للحاجة:

فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في البيت، والباب عليه مغلق، فجئت فاستفتحت فمشى ففتح لي، ثم رجع إلى مصلاه، ووصفت أن الباب في القبلة» (2).

3 - الحركة لإنقاذ الطفل أو غيره من التردِّي أو مما يؤذيه:

عن الأزرق بن قيس قال: «كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينما أنا على حرف نهر إذا رجل يصلي [وهو أبو برزة الأسلمي] وإذا لجام دابته بيده فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها ... قال: إني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات أو سبع غزوات أو ثمانية وشهدت تيسيره وإني كنت أراجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق عليَّ» (3).

قال الحافظ في الفتح (3/ 82): ظاهر سياق القصة أن أبا برزة لم يقطع صلاته، يؤيده قوله في رواية عمرو بن مرزوق: «فأخذها ثم رجع القهقري» فإنه لو كان قطعها ما بالى أن يرجع مستدبر القبلة، وفي رجوعه القهقري ما يشعر بأن مشيه إلى قصدها ما كان كثيرًا ...» اهـ.

فائدة: يدخل في هذا أنه يجوز لك إذا كنت تصلين ودقَّ جرس التليفون -مثلًا- أن ترفعي السماعة ليعلم الطالب أنك في صلاة ونحو ذلك.

_________

(1) أخرجه البخاري (516)، ومسلم (543) وغيرهما.

(2) أخرجه الترمذي (598)، وأبو داود (910)، والنسائي (3/ 11) وحسنه الألباني.

(3) أخرجه البخاري (1211).

 

(1/348)

 

 

4 - مدافعة المار أمامه في الصلاة:

وقد تقدم حديث أبي سعيد في الأمر بمقاتلة المار بين يدي المصلي.

5 - قتل الحية والعقرب وما يؤذي في الصلاة:

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر بقتل الأسودين في الصلاة: العقرب والحية» (1).

6 - غَمْز رِجل النائم للحاجة:

عن عائشة قالت: «كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فإذا سجد غمزني، فإذا قام مددتها» (2).

7 - خَلْع النعل ونحوه أثناء الصلاة للحاجة:

عن أبي سعيد الخدري قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ....» (3) الحديث.

8 - البصاق في الثوب أو في المنديل:

عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقنَّ قِبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا» ثم طوى ثوبه بعضه على بعض (4).

9 - إصلاح الثوب وحكُّ الجسد في الصلاة:

فعن جرير الضبي قال: «كان عليٌّ إذا قام في الصلاة وضع يمينه على رسغ يساره، ولا يزال كذلك حتى يركع إلا أن يُصلح ثوبه أو يحكَّ جسده» (5).

وقال ابن عباس: «يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء» (6).

_________

(1) أخرجه أبو داود (921)، والنسائي (1202)، والترمذي (390)، وابن ماجه (1245) واللفظ له وهو صحيح.

(2) أخرجه البخاري (1209)، ومسلم (512) وغيرهما.

(3) تقدم تخريجه.

(4) أخرجه مسلم (3008)، وأبو داود (477).

(5) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 391)، والبخاري (2/ 58) معلقًا بصيغة الجزم.

(6) أخرجه البخاري (2/ 58) معلقًا بصيغة الجزم.

 

(1/349)

 

 

10 - التسبيح للرجال والتصفيق للنساء إذا ناب شيء في الصلاة:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «... من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبَّح التفت إليه، وإنما التصفيح للنساء» (1) والتصفيح والتصفيق بمعنى واحد وهو ضرب صفحة الكف على صفحة الكف الآخر (2).

فائدة: قد علمت أنه لا يشرع للمرأة التسبيح في الصلاة إذا نابها شيء فيها، لكن هذا يجوز لها إذا لم يكن بُدَّ من التسبيح وفي غير حضرة الرجال، فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء وقالت: «سبحان الله ...» وهو متفق عليه.

11 - الالتفات يمنة أو يسرة لحاجة:

عن جابر قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا فأشار غلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودًا» (3).

وفي حديث سهل بن سعد: «.... فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف، فصفَّق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله ....» (4).

12 - الإشارة باليد أو الرأس للحاجة:

عن جابر قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني المصطلق فأتيته وهو يصلي على بعيره فكلمته فقال بيده هكذا، ثم كلمته فقال بيده هكذا (أشار بها) وأنا أسمعه يقرأ ويومئ برأسه، فلما فرغ قال: «ما فعلت في الذي أرسلتك فإنه لم يمنعني من أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي» (5).

وأشار النبي صلى الله عليه وسلم للجارية التي بعثتها أم سلمة تسأله عن الركعتين اللتين رأته يصليهما (6).

_________

(1) أخرجه البخاري (1201)، ومسلم (421) واللفظ له.

(2) النهاية لابن الأثير (3/ 34).

(3) أخرجه مسلم (413)، والنسائي (3/ 9)، وأبو داود (588).

(4) أخرجه البخاري (684)، ومسلم (421) وغيرهما.

(5) أخرجه مسلم (540)، وأبو داود (926).

(6) أخرجه البخاري (4370)، ومسلم (834).

 

(1/350)

 

 

13 - رد السلام إشارةً على من سلَّم عليك:

فإذا سَّلم عليك أحد وأنت في الصلاة فمن المعلوم أنه لا يجوز أن ترد عليه كلامًا، لكن يجوز أن ترد إشارة باليد، فعن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: هكذا، وبسط كفه [وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق] (1).

14 - رفع الرأس في السجود للتحقق من الأمر إذا أطال الإمام:

فإذا كنت في جماعة فأطال الإمام السجود أو لم تسمع التكبير أو نحو ذلك فيجوز لك -وأنت ساجد- أن ترفع رأسك لتتحقق من الأمر.

فعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنًا أو حُسينًا فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، فقال: «كل ذلك لم يكن، ولكنَّ ابني ارتحلني (2) فكرهت أن أُعجله حتى يقضي» (3).

15 - النظر في المصحف والقراءة منه في صلاة النافلة للحاجة:

فحيثما دعت حاجة كإرادة التطويل في صلاة القيام -مع عدم الحفظ- مثلًا فإنه لا بأس بالقراءة من المصحف في الصلاة:

فعن القاسم أن «عائشة كانت تقرأ في المصحف فتصلي في رمضان» (4) وقال القاسم: «كان يؤم عائشة عبدٌ يقرأ في المصحف» (5).

أما فعل هذا في الفرض فلا يجوز، وكذلك في النفل إذا لم تكن حاجة.

_________

(1) أخرجه أبو داود (915) بسند صحيح.

(2) أي: اتخذني راحلة له بالركوب على ظهري (حاشية السندي على النسائي 2/ 230).

(3) أخرجه النسائي (2/ 230) بسند حسن.

(4) أخرجه عبد الرزاق (2/ 240)، وابن أبي داود في «المصاحب» (192).

(5) أخرجه البخاري معلقًا في كتاب الأذان باب: إمامة العبد، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 338)، وابن أبي داود في المصاحف (ص: 192).

 

(1/351)

 

 

(ب) الأقوال وما في معناها المباحة في الصلاة:

1 - الفتح على الإمام:

إذا لُبس على الإمام: إذا لُبس على الإمام في القراءة أن يفتح عليه من وراءه، إذا نتج عن عدم الفتح تغيير في كلام الله تعالى بأي نوع:

فعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلُبسَ عليه، فلما انصرف قال لأُبي: صليت معنا؟ قال: نعم، قال: «فما منعك» (1).

فوائد:

1 - ينبغي ألا يُفتح على الإمام ما دام يُرَدِّد التلاوة، لأنه ربما تذكر بنفسه فهو أولى.

2 - لا يُفتح على الإمام إذا سكت ولم يتردد في القراءة إلا إذا تأخر في سكوته، لأنه يحتمل أن يكون تفكَّر قليلاً فيما يقرأ.

3 - لا يُفتح على الإمام إذا أخطأ في القراءة ما لم يكن خطأ يغير المعنى.

فعن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«إني أُقرئت القرآن على ... سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف: إن قلت: غفورًا رحيمًا أو قلت: سميعًا عليمًا أو قلت: عليمًا سميعًا فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب» (2).

2 - ترداد الآية في صلاة التطوع:

فعن أبي ذر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فرددها حتى أصبح: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} (4).

وعن مسروق: أن تميمًا الداري ردَّد هذه الآية: {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ} (5)» (6).

_________

(1) أخرجه أبو داود (894)، وابن حبان (1/ 316 - إحسان) بسند جيد.

(2) أخرجه أحمد (20646) بسند صحيح.

(3) سورة المائدة، الآية: 118.

(4) أخرجه النسائي (1010)، وأحمد (20831) والحاكم وفي سنده لين.

(5) سورة الجاثية، الآية: 21.

(6) أخرجه ابن أبي شيبة «المصنف» (2/ 477).

 

(1/352)

 

 

وعن سعيد بن عبيد قال: «رأيت سعيد بن جبير وهو يؤمهم في رمضان يردد هذه الآية: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} (1)، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (2) يرددها مرتين أو ثلاثًا» (3).

قلت: ولم يُنقل هذا في صلاة الفرض، فتركه أولى، والله أعلم.

3 - البكاء والأنين في الصلاة:

البكاء في الصلاة إن كان من خوف الله تعالى وذكر الجنة والنار ونحوه كان ممدوحًا مثابًا عليه، ولا يبطل الصلاة كما يظن بعض الناس، وكذلك إن كان لوجع أو مصيبة وكنت مغلوبًا عليك فلا شيء فيه أيضًا.

ومما يدل على عدم بطلان الصلاة به:

1 - مدح الله تعالى للباكين بقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (4)، وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (5).

والآيتان تشملان المصلي وغيره.

2 - وعن عبد الله بن الشخير قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولصدره أزيز كأزيز المرِجل» (6).

وأزيز المرجل هو صوت غليان الماء في الإناء.

3 - وعن علي قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح» (7).

4 - وعن ابن عمر قال: «لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له في الصلاة، فقال: «مُروا أبا بكر فليصل بالناس»، قالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء، قال: «مروه فيصلي»، فعاودته قال: «مروه فيصلي، إنكن صواحب يوسف» (8).

_________

(1) سورة غافر، الآية: 71.

(2) سورة الإنفطار، الآيتام: 6، 7.

(3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (2/ 492).

(4) سورة مريم، الآية: 58.

(5) سورة الإسراء، الآية: 109.

(6) أخرجه النسائي (1214)، وأبو داود (1/ 328)، وأحمد (4/ 25) وسنده صحيح.

(7) أخرجه أحمد (1026)، وابن خزيمة (2/ 53) وسنده صحيح.

(8) أخرجه البخاري (682).

 

(1/353)

 

 

5 - وقال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (1) (2).

فائدة: والأنين [وهو أن تقول «أَهْ»] والتأوه [قول «أُوه» أو «أُوَّه» أو «آه»] لا يبطلان الصلاة، لكن يكرهان إن كانا من غير حاجة.

3 - النفخ أثناء الصلاة لحاجة:

فعن عبد الله بن عمر قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله .... ثم نفخ في آخر سجوده فقال: «أف أف»، ثم قال: «رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ...» (3).

وعن أيمن بن نابل قال: قلت لقدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- أتأذى بريش الحمام في مسجد الحرام إذا سجدنا، فقال: انفخوا» (4).

4 - النحنحة في الصلاة للحاجة:

ولا بأس بها في الصلاة، «ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم التكلم في الصلاة وقال: «إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» والنحنحة لا تدخل في مسمى الكلام أصلاً، فإنها لا تدل بنفسها ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى، ولا يسمى فاعلها متكلمًا وإنما يفهم مراده بقرينة فصارت كالإشارة» (5) اهـ.

5 - الكلام اليسير لمصلحة الصلاة:

فإن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها إذا كان من الإمام أو المأموم شريطة ألا يكثر، وأن يتوقف التفهيم عليه.

ومما يدل على ذلك حديث ذي اليدين المشهور في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس العصر «.. فسلم من ركعتين فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا

_________

(1) سورة يوسف، الآية: 86.

(2) أخرجه البخاري تعليقًا في الأذان وانظر «فتح الباري» (2/ 206) وقد ذكر ابن تيمية في الفتاوى (22/ 623) أن هذا الأثر محفوظ عن عمر.

(3) أخرجه أبو داود (1194)، والنسائي (3/ 137)، وأحمد (2/ 159) ورجاله ثقات، وقد علقه البخاري (2/ 62) بصيغة التمريض للاختلاف في رواية عطاء بن السائب وقد كان اختلط، لكن سماع حماد بن سلمة منه كان قبل الاختلاط في قول ابن معين وأبي داود.

(4) أخرجه البيهقي (2/ 253) وصححه الحافظ في الفتح (3/ 85).

(5) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 617).

 

(1/354)

 

 

رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن»، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله على الناس فقال: «أصدق ذو اليدين؟» فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم» (1).

ووجه الدلالة أن الإمام والمأموم تكلما -لمصلحة الصلاة- قبل أن ينهيا الصلاة فكان في حكم الصلاة.

6 - «الحمد» في الصلاة لمن عطس:

فيجوز لمن عطس في الصلاة أن يحمد الله في نفسه، لكن لا يشتمه صاحبه.

لحديث رفاعة بن مالك قال: «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه مباركًا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله وانصرف فقال: «من المتكلم في الصلاة؟» ... فقال رفاعة: أنا يا رسول الله، .... ، فقال: «والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكًا أيهم يصعد بها ...» (2).

قال الشوكاني: «ويدل أيضًا على مشروعية الحمد في الصلاة لمن عطس ... ويؤيد ذلك عموم الأحاديث الواردة بمشروعيته فإنها لم تفرق بين الصلاة وغيرها» اهـ.

قلت: ومما يؤيد هذا أيضًا ما في حديث معاوية بن الحكم قال: بينما أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقال: الحمد لله، فقلت: يرحمك الله .... الحديث» (3).

وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن شمت العاطس ولم ينه العاطس عن الحمد فدل على مشروعيته والله أعلم.

7 - «الحمد» في الصلاة للأمر السارِّ المُفْرِح:

ففي حديث سهل بن سعد في قصة ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف

_________

(1) أخرجه البخاري (714)، ومسلم (573) وغيرهما.

(2) أخرجه الترمذي (404)، والنسائي (2/ 245)، وأخرجه البخاري (799) لكن ليس فيه ذكر العطاس.

(3) أخرجه مسلم (537)، وأبو داود (930).

 

(1/355)

 

 

ليصلح بينهم فصلى بهم أبو بكر فلما أتى النبي وهم يصلون أراد أبو بكر أن يتراجع «... فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله من ذلك ...» (1).

8 - تكليم المصلي وسؤاله للحاجة:

فقد تقدم في قصة جابر لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فكلمه، فلم يرد عليه وأشار إليه بيده (2).

وكذلك تقدم حديث أسماء قالت: «أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء ...» (3).

 

المنهيات في الصلاة

وهي الأمور التي ورد النص بتحريمها أو كراهتها في الصلاة، لكن هذه المنهيات لا تبطل الصلاة، وإنما تنقص من أجر المصلي وهي:

1 - الاختصار (وضع اليد على الخَصْر في الصلاة):

وهذا لا يجوز، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الخصر في الصلاة» (4).

وعن عائشة أنها «كانت تكره أن يجعل المصلى يده في خاصرته وتقول: إن اليهود تفعله» (5).

وعن زياد بن صبيح قال: «صليت إلى جنب ابن عمر ووضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى، قال: هذا الصَّلْب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه» (6).

قال السندي: «وهيئة الصلب في الصلاة أن يضع يديه على خاصرتيه ويجافي بين عضديه في القيام» اهـ.

_________

(1) أخرجه البخاري (684)، ومسلم (431).

(2) مسلم (540).

(3) البخاري (1052)، ومسلم (905).

(4) أخرجه البخاري (1220)، ومسلم (545).

(5) أخرجه البخاري (3458).

(6) أخرجه أبو داود (903)، والنسائي (2/ 127)، وأحمد (2/ 30) بسند لا بأس به.

 

(1/356)

 

 

2 - رفع البصر إلى السماء:

وهو لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتُخطفنَّ أبصارهم» (1).

3 - النظر إلى ما يشغل في الصلاة:

لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فقال: «شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية» (2).

4 - الالتفات لغير حاجة:

وقد تقدم أنه يجوز الالتفات في الصلاة لحاجة، أما إذا لم تكن هناك حاجة تدعو إليه فلا يجوز.

فعن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» (3).

5 - تشبيك الأصابع:

ويكره في الصلاة أن يدخل أصابع إحدى اليدين بين أصابع الأخرى لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، وشبك بين أصابعه» (4).

وعن إسماعيل بن أمية قال: «سألت نافعًا عن الرجل يصلي وهو مشبك يديه، قال: قال ابن عمر: تلك صلاة المغضوب عليهم» (5).

6 - فرقعة الأصابع:

وهي إن قلَّت في الصلاة: كُرهت، لأنها مشغلة عن الصلاة، وإن كثرت: حَرُمت، لأن فيها تلاعبًا بالصلاة:

وعن شعبة مولى ابن عباس قال: «صليت إلى جنب ابن عباس ففقعت

_________

(1) أخرجه مسلم (429)، والنسائي (3/ 39).

(2) أخرجه البخاري (752)، ومسلم (556).

(3) أخرجه البخاري (751)، وأبو داود (897)، والنسائي (3/ 8).

(4) أخرجه الحاكم (1/ 206)، وهو في صحيح الجامع (445) وله شاهد في مسند أحمد (3/ 42) عن أبي سعيد.

(5) أخرجه أبو داود (2/ 261)، وصححه الألباني في «الإرواء» (2/ 103).

 

(1/357)

 

 

أصابعي، فلما قضيت الصلاة، قال: لا أمَّ لك!! أتفقع أصابعك وأنت في الصلاة؟!» (1).

7 - الالتحاف بالثوب وجعل اليدين من داخل فتركع وتسجد هكذا (السدل):

لحديث أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السَدْل في الصلاة» (2).

والسَدْل هو: أن تلتحف بثوبك وتدخل يديك من داخل، فتركع وتسجد وهو كذلك.

8 - التثاؤب في الصلاة:

ولا يجوز التمادي فيه، بل يجب منعه بوضع اليد على الفم لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التثاؤب [في الصلاة] من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» (3). ولا تشرع الاستعاذة عند التثاؤب لعدم الدليل عليها، وهذا من الأشياء المنتشرة بين الناس ولا دليل عليها.

9 - البصاق جهة القبلة أو عن اليمين:

لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا قام يصلى فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا» ثم طوى ثوبه بعضه على بعض (4).

10 - تغميض العينين في الصلاة:

وهو إن قُصد به القربة إلى الله حَرُم، لأنه يدخل في باب البدع، وإلا كُرَه، لمخالفته السنة.

قال ابن القيم (5): «ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة .... وقد يدل على ذلك مدُّ يده في صلاة الكسوف ليتناول العنقود لما رأى الجنة، وكذلك رؤيته النار وصاحبة الهرة فيها، وصاحب المحجن، وكذلك مدافعته للبهمة التي أرادت أن تمر بين يديه .... [وذكر عدة أحاديث، ثم قال:] ... فهذه

_________

(1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 334)، وحسنه في «الإرواء» (2/ 99).

(2) أخرجه أبو داود (629)، والترمذي (376) بسند حسن.

(3) أخرجه البخاري (3289)، ومسلم (2994)، والترمذي (368) والزيادة له.

(4) أخرجه مسلم (3008)، وقد تقدم.

(5) زاد المعاد (1/ 294).

 

(1/358)

 

 

الأحاديث وغيرها يستفاد من مجموعها العلم بأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة» اهـ.

11 - التمطي في الصلاة:

فيكره التمطي في الصلاة، أي التمدُّد، إلا إن كان يسيرًا للحاجة وذلك لأنه عمل ينافي الخشوع في الصلاة، وأخرج ابن أبي شيبة (1/ 349) عن سعيد بن جبير قال: «التمطي ينقص الصلاة».

12 - التطبيق في الركوع:

وهو جعل بطن الكف على بطن الكف الأخرى ووضعهما بين الركبتين والفخذين في الركوع.

وقد كان هذا مشروعًا في أول الأمر ثم نُهي عنه.

فعن مصعب بن سعد قال: «صليت إلى جنب أبي، قال: وجعلت يدي بين ركبتي، فقال لي أبي: اضرب بكفيك على ركبتيك، قال: ثم فعلت ذلك مرة أخرى، فضرب يدي وقال: إنا نهينا عن هذا، وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب» (1).

13 - قراءة القرآن في الركوع والسجود:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا ...» (2).

14 - بسط الذراعين في السجود:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» (3).

فلا يجوز بسط الذراعين على الأرض وإنما يُرفع المرفقان كما تقدم.

15 - كفت الثوب (ضَمُّه ومَنْعُه من الانتشار على الأرض) عند السجود، ويدخل في هذا تشمير الكم في الصلاة:

فعن ابن عباس قال: «أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبع ونُهي أن يكفت الشعر والثياب» (4).

_________

(1) أخرجه البخاري (790)، ومسلم (535) واللفظ له.

(2) أخرجه مسلم (479) وقد تقدم.

(3) أخرجه البخاري (823)، ومسلم (493) وغيرهما.

(4) أخرجه البخاري (809)، ومسلم (490) واللفظ له.

 

(1/359)

 

 

16 - الإقعاء (إلصاق الإليتين بالأرض ونصب الساقين ووضع اليدين على الأرض):

وهذه الهيئة لا تجوز في الجلوس في الصلاة: لحديث عائشة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «... وكان ينهى عن عُقبة الشيطان ...» (1).

وعقبة الشيطان: هي الإقعاء على الهيئة السابقة.

وفي حديث أبي هريرة: «... ونهاني عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب ...» (2).

فائدة: الإقعاء على هذا المعنى لا يجوز للأدلة المتقدمة، لكن أنبه على أن للإقعاء معنى آخر وهو نصب القدمين ووضيع الإليتين على العقبين في الجلوس بين السجودين، وهو مشروع كما تقدم.

17 - وضع اليد على الأرض في الجلوس في الصلاة إلا لعذر:

فعن ابن عمر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس الرجل في الصلاة أن يعتمد على يده اليسرى» (3).

وفي رواية أن ابن عمر قال: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون.

18 - سجود المريض على شيء مرتفع:

فالمريض إن استطاع أن يسجد على الأرض فهو الواجب، وإلا فإنه يومئ إيماءً برأسه ولا يلزمه أن يضع وسادة أو نحوها ليسجد عليها.

لحديث ابن عمر قال: «عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه مريضًا، وأنا معه، فدخل عليه وهو يصلي على عود، فوضع جبهته على العود، فأومأ إليه، فطرح العود، وأخذ وسادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعها عنك، إن استطعت أن تسجد على الأرض وإلا فأومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك» (4).

_________

(1) أخرجه مسلم (498).

(2) أخرجه أحمد (2/ 265) بسند ضعيف.

(3) أخرجه أبو داود (1/ 260)، وأحمد (2/ 116)، والحاكم (1/ 230)، والبيهقي (2/ 136).

(4) أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 270)، وله شاهد من حديث جابر عند البزار (1/ 275 - كشف الأستار)، والبيهقي (2/ 306)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (323).

 

(1/360)

 

 

19 - مسح الحصى من موضع السجود والعبث في الصلاة:

إلا إن كان للحاجة الملحة، فيجوز مرة واحدة ولكن تركه أولى إذا كان وجود الحصى لا يؤدي إلى تقليل الخشوع.

لحديث معيقيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوِّي التراب حيث يسجد قال: «إن كنت فاعلاً فواحدة» (1).

وفي رواية أخرى: «لا تمسح وأنت تصلي، وإن كنت لابد فاعلاً فواحدةٍ لتسوية الحصى» (2).

فائدة:

إذا تعلَّق بالجبهة تراب أو حصى من السجود بالأرض فإنه يكره إزالته لما فيه من العمل المشغل عن الصلاة ولا سيما إذا تكرر وكثر.

فعن أبي سعيد قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته» (3).

وقال ابن مسعود: أربع من الجفاء: ... وذكر منها «ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته» (4).

فإن كان يؤذي المصلي فإنه يُزال ويمسح والله أعلم.

20 - تقديم النزول بالركبتين قبل اليدين على الأرض في السجود:

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه» (5).

21 - الإشارة باليدين إلى الجانبين عند التسليم:

وهذه الإشارة عند التسليم منتشرة بين عوام الرجال والنساء وهي منهي عنها في الصلاة.

فعن جابر بن سمرة أنه قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام

_________

(1) أخرجه البخاري (1207)، ومسلم (546).

(2) أخرجه أبو داود (1/ 249)، قال النووي: إسناده على شرط البخاري ومسلم.

(3) أخرجه البخاري (669)، ومسلم (1167).

(4) أخرجه البيهقي (2/ 285)، وصححه الألباني في «الإرواء» (1/ 97).

(5) تقدم تخريجه.

 

(1/361)

 

 

عليكم ورحمة الله، السلام عليك ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علامَ تُومئُون بأيديكم كأذناب خيل شُمْس (1)؟ إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذَه ثم يسلم على أخيه، من على يمينه وشماله» (2).

22 - مسابقة الإمام في الصلاة:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو: يجعل الله صورته صورة حمار» (3).

23 - الصلاة بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط:

فعن عائشة قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» (4).

 

مبطلات الصلاة

1 - تيقن الحدث المبطل للوضوء:

فقد شُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يُخَيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: «لا ينفتل -أو لا ينصرف- حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» (5).

2 - ترك شرط من شروط الصلاة أو ركن من أركانها بدون عذر:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته لما رآه لا يطمئن في صلاته: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» (6).

وقد ذكرنا من قبل شروط الصلاة وأركانها فراجعها.

3 - الأكل والشرب عمدًا:

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أكل أو شرب في صلاة الفرض عامدًا أن عليه الإعادة.

وكذا في صلاة التطوع عند الجمهور، لأن ما أبطل الفرض يبطل التطوع.

_________

(1) المراد الأذناب التي تضطرب وتتحرك ولا تستقر والمقصود رفع الأيدي مع التسليم.

(2) أخرجه مسلم (431)، والنسائي (1185)، وأبو داود (998).

(3) أخرجه البخاري (691)، ومسلم (427) وغيرهما.

(4) أخرجه مسلم (560)، وأبو داود (89).

(5) أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).

(6) أخرجه البخاري (793)، ومسلم (397).

 

(1/362)

 

 

4 - الكلام عمدًا لغير مصلحة الصلاة:

فعن زيد بن أرقم قال: «كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ} (1)، فأمرنا بالسكوت [ونهينا عن الكلام]» (2).

فائدة:

من تكلم في الصلاة ناسيًا أو جاهلاً بالحكم لم تبطل صلاته ففي حديث معاوية بن الحكم في قصة صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس رجل من القوم فحمد الله فقال له: يرحمك الله، فجعل الناس ينظرون إليه فقال: واثكل أُمياه ما لكم تنظرون إلي .... ، الحديث وفيه أنه تكلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاته ولم يأمره بالإعادة لأنه كان جاهلاً بالحكم وإنما قال له: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (3).

5 - الضحك الذي يظهر معه الصوت:

وهو مبطل للصلاة بالإجماع كما نقله ابن المنذر، وذلك لأنه أفحش من الكلام، لما يصاحبه من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها.

وقد جاءت عدة آثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على بطلان الصلاة بالضحك (4).

فائدة: أما التبسُّم فلا يبطل الصلاة، لكن إن كان لغير عذر كرُه فعن جابر قال: «لا يقطع الصلاة التبسم، ولكن يقطع القرقرة» (5).

 

القنوت في الفرائض

أولاً: القنوت في صلاة الفجر (6):

اختلف أهل العلم في مشروعية القنوت في الفجر وفي الوجه الذي يكون عليه، على أربعة أقوال:

_________

(1) سورة البقرة، الآية: 238.

(2) أخرجه البخاري (1200)، ومسلم (539) والزيادة له.

(3) أخرجه مسلم (537) وقد تقدم.

(4) ورد عن جابر وأبي موسى عند ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 387).

(5) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 387)، وعبد الرزاق (2/ 378) بسند حسن.

(6) لأخينا في الله مجدي بن عبد الهادي رسالة نافعة بعنوان «إسفار الصبح في قنوت الصبح» وقد قدم لها وراجعها شيخنا مصطفى العدوي، رفع الله مقامه.

 

(1/363)

 

 

الأول: أنه سُنَّة مؤكدة راتبة، يستحب المداومة عليه: وهو مذهب مالك والشافعي (1) وحجة هذا القول ما يلي:

1 - حديث البراء بن عازب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنتُ في الصبح [والمغرب] (2).

2 - حديث أنس أنه سئل: أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قال: «نعم» فقيل له: أوقنت قبل الركوع؟ قال: «بعد الركوع يسيرًا» (3).

3 - حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» ثم يقول وهو قائم: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسنى يوسف، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله» ثم بلغنا (4) أنه ترك ذلك لما أنزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (5) (6).

4 - ونحوه عن ابن عمر أنه: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا» بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ .... فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (7) (8).

قالوا: ووجه الدلالة منهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت بعد القيام من الركوع في الفجر، وهذا يدل على المداومة، وأما تركه لذلك بنزول الآية فلا يعكِّر علينا

_________

(1) «المدونة» (1/ 100)، و «الاستذكار» (6/ 201)، و «الأم» (8/ 814)، و «المجموع» (3/ 494)، و «الأذكار» للنووي (69).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (678)، والترمذي (401)، وأبو داود (1441)، والنسائي (2/ 202) وقد اختلف على عمرو بن مرة في لفظ (والمغرب).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1001)، ومسلم (677).

(4) القائل: الزهري، كما أشار إليه الحافظ في «الفتح» (8/ 75).

(5) سورة آل عمران، الآية: 128.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (804)، ومسلم (675) واللفظ له.

(7) سورة آل عمران، الآية: 128.

(8) صحيح: أخرجه البخاري (4559).

 

(1/364)

 

 

لأمرين، أحدهما: أن هذا القول بلاغ من قول الزهري كما في رواية أبي هريرة، وهو منقطع لا يصح (1)، وعلى فرض صحته فهو متوجِّه إلى المراد: ترك اللعن لا ترك الدعاء جملة (2).

5 - ما يُروى عن أنس قال: «ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا» (3) وهو منكر لا يصح.

القول الثاني: أن القنوت -في الفجر وغيره- منسوخ وبدعة: وهو مذهب أبي حنيفة (4) واستُدل له بما يلي:

1 - حديث أبي مالك الأشجعي قال: يا أبه، إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، وعلي بن أبي طالب هاهنا بالكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: «أي بُنَيُّ محُدَث» (5).

وأُجيب عنه: بأن والد أبي مالك -طارق بن أشيم رضي الله عنه- مقل من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرف بملازمته صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد أن يخفى عليه قنوته صلى الله عليه وسلم، فقد خفيت أشياء على أكابر الصحابة وأكثرهم ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم (6) وقد أثبت القنوت غير طارق، ومن علم حجة على من لم يعلم. قلت: ثم قد ثبت القنوت عن الخلفاء الأربعة كذلك!!

2 - ما رُوى عن أم سلمة قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القنوت في الفجر» (7).

3 - ما رُوى عن ابن مسعود قال: «لم يقنت النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهرًا، لم يقنت قبله ولا بعده» (8).

_________

(1) «فتح الباري» (8/ 75)، و «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (2/ 74).

(2) انظر: «الأم» (8/ 815)، و «ابن خزيمة» (1/ 316)، و «معالم السنن» (1/ 250)، و «المجموع» (3/ 505)، و «طرح التثريب» (2/ 289)، وانظر «إسفار الصبح» (ص: 52).

(3) منكر: أخرجه أحمد (3/ 162)، والدارقطني (2/ 39)، والبيهقي (2/ 201)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 441).

(4) «المبسوط» (1/ 165)، و «فتح القدير» (1/ 431).

(5) إسناده صحيح: أخرجه الترمذي (402)، وابن ماجه (1241)، وأحمد (3/ 472)، وغمز فيه العقيلي في «الضعفاء» (2/ 119).

(6) انظر نماذج من هذا في «مفاتيح للفقه في الدين» لشيخنا -حفظه الله- (ص: 82).

(7) إسناده تالف: أخرجه الدارقطني (2/ 38).

(8) إسناده تالف: أخرجه الطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 245)، والبيهقي (2/ 213).

 

(1/365)

 

 

4 - ونحوه عن ابن عمر قال: «إنما بدعة، ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شهرًا ثم تركه» (1).

وهذه الثلاثة ضعيفة لا يحتج بها، لكن ثبت عن ابن عمر أنه قال: «ما شهدتُ أن أحدًا فعله» (2)!!

وعن ابن مسعود: «أنه كان لا يقنتُ في صلاة الفجر» (3).

5 - أن الترك في حديث ابن عمر وأبي هريرة -المتقدمين في أدلة الفريق الأول- يدلُّ على النسخ، وقد تقدم الإجابة عن ذلك من وجهين.

6 - قالوا: قد قنت النبي صلى الله عليه وسلم في الفجر والمغرب، ونُسخ في المغرب بالاتفاق فكذلك الفجر (!!)

وأُجيب: بأنه لا يسلَّم النسخ في هذا ولا ذاك.

القول الثالث: لا يقنت إلا في النازلة: وهو مذهب أحمد (4) وبعض متأخري الحنفية ويُستدلُّ له:

بحديث أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» (5).

القول الرابع: يجوز فعله وتركه: وهو قول الثوري وابن جرير الطبري وابن حزم وابن القيم (6).

قالوا: ثبت من مجموع الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله أحيانًا ويتركه أحيانًا معلمًا بذلك أمته أنهم مُخيًّرون في العمل به والترك.

وقال ابن القيم: «فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء [يعني: الذين منعوه

_________

(1) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (2/ 213).

(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4954).

(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4949).

(4) «المغنى» (2/ 587)، و «فتح القدير» لابن الهمام (1/ 434).

(5) إسناده لين: أخرجه ابن خزيمة (620) والظاهر أنه مختصر من حديث أنس المتقدم في حكاية قنوته صلى الله عليه وسلم ودعائه على القبائل، وفيه تقييد بعدم القنوت إلا في الدعاء على قوم، وأخشى أن يكون الحمل في هذا على محمد بن محمد بن مرزوق، فقد أنكر ابن عدي عليه حديثين تفرد بها عن محمد بن عبد الله الأنصاري، وهو هنا يرويه عنه!!

(6) «تهذيب الآثار» (1/ 337)، و «المحلى» (4/ 143)، و «زاد المعاد» (1/ 274).

 

(1/366)

 

 

مطلقًا] وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم أسعد بالحديث من الطائفتين فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة، وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفًا للسنة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفًا للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن» اهـ.

الراجح:

لا شك أن المداومة على قنوت الفجر لم تكن من هديه صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، فيبقى الأمر دائرًا بين أن يكون سنة في النوازل فقط، أو أن يُفعل تارة ويترك أخرى، وإن كان الذي يظهر لي من خلال الأحاديث الثابتة في المسألة أن الأقرب أنه لا يقنت إلا في النازلة، لا للحديث الذي استُدل به لأصحاب المذهب الثالث، وإنما لأن الظاهر من الأحاديث المفضلة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر فيها جميعًا الدعاء على قوم أو لقوم، وكذلك الذي ثبت عن عمر بن الخطاب ففيه: «.. وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب ... اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا تردُّه عن القوم المجرمين .....» (1).

على أنني أُؤكد أن هذا لا يقتضي تبديع المخالف، ولا ترك الصلاة خلفه، فهذا من الجهل بدين الله سبحانه، الذي نبرأ إلى الله منه، ولله درُّ الإمام أحمد حين سئل: عن قوم يقنتون بالبصرة، كيف ترى في الصلاة خلف من يقنت؟ فقال: «قد كان المسلمون يصلون خلف من يقنت، وخلف من لا يقنت» اهـ (2).

القنوت -في الفجر- يكون بعد الركوع: فإن الثابت في أحاديث أنس وابن عمر وأبي هريرة المتقدمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد القيام من الركوع، وبهذا قال الشافعي وأحمد وإسحاق وهو رواية عن مالك.

وذهب مالك -في المشهور عنه- إلى أن محلَّه قبل الركوع، وهذا ثابت عن بعض الصحابة كعمر وعليِّ وابن عباس رضي الله عنهم، فالأمر واسع، لكن الأول أولى كما لا يخفى.

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4969).

(2) نقله عنه ابن القيم في كتاب «الصلاة وحكم تاركها» (ص: 120).

 

(1/367)

 

 

ثانيًا: القنوت في الصلوات الخمس:

يشرع القنوت في الصلوات الخمس جميعًا إذا نزلت بالمسلمين نازلة، لحديث ابن عباس قال: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمد من الركعة الآخرة، يدعو على أحياء من بني سليم على رعل وذكوان وعصية، ويؤمِّن من خلفه» (1).

فوائد تتعلق بالقنوت:

1 - يرفع الإمام صوته بالدعاء: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولذا نقل أنس وأبو هريرة وابن عباس دعاءه في القنوت.

2 - يؤمِّن الناس خلف الإمام: لما في حديث ابن عباس المتقدم «.. ويؤمِّن من خلفه» قال ابن قدامة: «لا نعلم فيه خلافًا». وعن أبي عثمان قال: «صليت خلف عمر بن الخطاب فقرأ بمائتي آية من البقرة، وقنت بعد الركوع، ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، ورفع صوته بالدعاء حتى سمع من وراء الحائط» (2).

3 - هل تُرفع الأيدي في القنوت؟ (3)

ذهب جمهور أهل العلم منهم أبو حنيفة وأحمد وإسحاق -وهو أصح الوجهين عند الشافعية- إلى أنهم يرفعون الأيدي في القنوت، وحكاه ابن المنذر عن عمر -وقد صحَّ عنه كما تقدم- وابن مسعود وغيرهما، ويؤيد هذا المذهب ما جاء في حديث أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم -في صلاة الغداة- رفع يديه فدعا عليهم .... الحديث» (4).

وقال مالك: لا ترفع الأيدي، والأول أصح، والله أعلم.

وستأتي مسائل أخرى تتعلق بالقنوت في «الوتر»، إن شاء الله.

_________

(1) حسن: صحيح: أخرجه أحمد (1/ 301)، وابن الجاورد (197)، وابن خزيمة (618)، والحاكم (1/ 225)، والبيهقي (2/ 200) وله شاهد عن أبي هريرة.

(2) انظر «إسفار الصبح» (ص: 66 - 69) وما يأتي من مراجع.

(3) إسناده حسن: أخرجه البيهقي في «معرفة السنن» (2/ 83).

(4) «الأوسط» (5/ 212)، و «المغنى» (2/ 584)، و «المجموع» (3/ 499).

 

(1/368)

 

 

صلاة التطوُّع

تعريفها: التطوع في الأصل: فعل الطاعة، وصار في الشرع مخصوصًا بطاعة غير واجبة. وصلاة التطوع هي ما زادت على الصلوات المفروضة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام: «خمس صلوات في اليوم والليلة» فقال السائل: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوَّع» (1).

أهميَّة صلاة التطوع:

1 - الصلاة خير الأعمال: الصلاة أفضل عبادات البدن، وخير ما يتُقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «استقيموا، ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» (2).

2 - الرفعة في الجنة بكثرة التطوع:

عن ربيعة بن مالك الأسلمي قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «سَلْ» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: «أو غير ذلك؟» قلت: هو ذاك، قال: «فأعنَّي على نفسك بكثرة السجود» (3).

وفي حديث ثوبان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الجنة فقال: «عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ...» (4).

3 - جبر النقص في الفرائض:

عن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل لينصرف [من صلاته] وما كتب له إلا عُشْرها تُسْعها ثمنها سْبعها سْدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها» (5).

وقد شرعت صلاة التطوع لتكون جبرًا وتكميلاً لما قد يقع في الفرائض من

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه.

(2) صحيح بطرقه: أخرجه ابن ماجه (277) وغيره وله أسانيد يصح بمجموعها، انظر «تعظيم قدر الصلاة» (170 - بتحقيقنا).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (489)، والنسائي (2/ 227)، وأبو داود (1320)، وأحمد (4/ 59).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (488)، وانظر «تعظيم قدر الصلاة» بتحقيقي (300).

(5) أخرجه أبو داود (769)، وأحمد (4/ 321)، وانظر «قدر الصلاة» بتحقيقي (156).

 

(1/369)

 

 

نقص، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا للملائكة -وهو أعلم-: انظروا في صلاة عبدي أتَّمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئًا قال: انظروا هل لعبدي من تطوُّع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضة من تطوُّعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك» (1).

أقسام صلاة التطوع:

[1] تطوع مطلق: وهو الذي لا سبب له، ولا حصر له، ولا لعدد ركعات الواحدة منه، وله أن ينوي عددًا وله أن لا ينويه، بل يقتصر على نية الصلاة، فإذا شرع في تطوع ولم ينو عددًا فله أن يسلم من ركعة وله أن يزيد فيجعلها ركعتين أو ثلاثًا أو عشرًا أو أكثر، ولو صلى عددًا لا يعلمه ثم سلَّم صحَّ (2).

فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه صلى عددًا كثيرًا، فلما سلَّم قال له الأحنف بن قيس: هل تدري انصرفت على شفع أم على وتر؟ قال: إلا أكن أدري فإن الله يدري، إني سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحطَّ عنه بها خطيئة» (3).

متى يتشهد؟

إن تطوع بركعة فلابد من التشهد عقبها، وإن زاد على ركعة فله أن يقتصر على تشهد واحد في آخر صلاته، وهذا التشهد ركن لابد منه، وله أن يتشهد في كل ركعتين كما في الفرائض الرباعية، فإن كان العدد وترًا فلابد من التشهد في الآخرة أيضًا إن كانت صلاته أربعًا، فإن كانت ستًّا أو عشرًا أو أكثر من ذلك شفعًا كانت أو وترًا ففيها أربعة أوجه (4):

1 - يجوز أن يتشهد في كل ركعتين وإن كثرت التشهدات، ويتشهد في الآخرة، وله أن يقتصر على تشهده في الآخرة، وله أن يتشهد في كل أربع أو ثلاث أو ست وغير ذلك، ولا يجوز أن يتشهد في كل ركعة لأنه اختراع صورة في الصلاة لا عهد بها.

_________

(1) صحيح في الجملة. وانظر «تعظيم قدر الصلاة» بتحقيقي (180).

(2) «المجموع» للنووي (3/ 541).

(3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 164)، وعبد الرزاق (3561، 4847)، والبزار (9/ 345)، والبيهقي (2/ 489).

(4) «المجموع» (3/ 542 - 543).

 

(1/370)

 

 

2 - لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال من الصلاة الواحدة، ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من ركعتين إن كان العدد شفعًا، فإن كان وترًا لم يجز بينهما أكثر من ركعة، قال النووي: وهو قوي، وظاهر السنة يقتضيه. اهـ. قلت: وسيأتي الدليل عليه في «قيام الليل».

3 - أن لا يجلس إلا في الآخرة، قال النووي: وهو غلط، قلت: بل ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم له، كما سيأتي في «الوتر».

4 - يجوز التشهد في كل ركعتين وفي كل ركعة، قال النووي: وهو ضعيف أو باطل.

الأفضل أن تصلي ركعتين ركعتين:

لا خلاف في أن الأفضل أن يسلم من كل ركعتين في نوافل الليل والنهار، وقد رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة الليل [والنهار] مثنى مثنى» (1) ولا يصح.

والصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» (2).

وهذا الذي ذكرتُ من جواز جمع ركعات كثيرة من النوافل المطلقة بتسليمة، وأن الأفضل في صلاة الليل والنهار أن يسلِّم من كل ركعتين، هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود وابن المنذر، وحكى عن الحسن وسعيد بن جبير.

وقال أبو حنيفة: التسليم من ركعتين أو أربع في صلاة النهار سواء في الفضيلة ولا يزيد على ذلك، وصلاة الليل ركعتان وأربع وست وثمان بتسليمة ولا يزيد على ثمان.

[2] التطوع المقيَّد: وهي الصلوات التي ورد النص بمشروعيتها، وهي نوعان:

(أ) السنن الرواتب: وهي السنن التابعة للفرائض الخمس، ومن هذه السنن ما يتقدم على الفرائض، وتسمى (السنة القبلية)، ومنها ما يتأخر عنها، وتسمى (السنة البعدية) وفي ذلك معنى لطيف مناسب:

_________

(1) شاذ بهذه الزيادة: أخرجه أبو داود (1295)، والترمذي (594)، والنسائي (3/ 227)، وابن ماجه (1322)، وانظر «فتاوى ابن تيمية» (21/ 289) وأعله أحمد والنسائي والترمذي والدارقطني وابن عبد البر وابن حجر.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (990)، ومسلم (749) من حديث ابن عمر.

 

(1/371)

 

 

أما في التقديم فلأن النفوس -لاشتغالها بأسباب الدنيا -تكون بعيدة عن حال الخشوع والحضور التي هي روح العبادة، فإذا قُدِّمت النوافل على الفرائض أنست النفس بالعبادة.

- وأما تأخيرها عنها، فلما تقدم من أن النوافل جابرة لنقص الفرائض، فإذا وقع الفرض ناسب أن يقع بعده ما يجبر الخلل الذي يقع فيه.

الرواتب: مؤكدة، وغير مؤكدة:

وهذه السنن التابعة للفرائض منها ما هو مؤكد قد داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عشر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الصبح (1). وبهذا قال الشافعية والحنابلة (2).

وعند الحنفية (3) الرواتب المؤكدة اثنتا عشرة: كالعشر السابقة لكن قبل الظهر أربع، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعًا قبل الظهر» (4).

وعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بُنى له بهن بيتُ في الجنة» قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).

زاد الترمذي: «أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر».

وأما المالكية فلا تحديد لعدد ركعات السنن الرواتب عندهم، بل يكفي في تحصيل الندب ركعتان في كل وقت.

ومن السنن الرواتب ما ليس بمؤكد، وهي ما ورد الندب إلى فعلها في الجملة من غير تأكيد.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1180)، ومسلم (729).

(2) «المجموع» (3/ 501)، و «كشاف القناع» (1/ 422).

(3) «ابن عابدين» (1/ 441).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1182).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (728)، والترمذي (415)، والزيادة له، وأبو داود (1250)، وابن ماجه (1141)، ولها شاهد من حديث عائشة عند الترمذي (414)، والنسائي (3/ 260)، وابن ماجه (1140).

 

(1/372)

 

 

سُنَّة الفجر:

توكيدها: من آكد السنن الراتبة: ركعتان قبل صلاة الفجر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد منه تعاهدًا على ركعتي الفجر» (1) وفي لفظ «لم يكن يدعهما أبدًا» (2) وذلك لما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» (3).

قال ابن القيم: في «الزاد» (1/ 315): «.. ولذا لم يدعها -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- هي والوتر سفرًا ولا حضرًا، وكان في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشدُّ من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غيرهما» اهـ.

تخفيفهما:

يُسَنُّ تخفيف ركعتي الفجر، بشرط أن لا تخل بواجب، فعن ابن عمر قال: أخبرتني حفصة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف المؤذن للصبح وبدا الصبح، صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة» (4).

وعن عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح» (5).

وعنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُخفِّف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب؟» (6).

القراءة فيهما بعد الفاتحة: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة في ركعتي سنة الفجر أَوْجُه:

1 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قرأ في ركعتي الفجر: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد)» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1093)، ومسلم (1191).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1159).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (725)، والترمذي (416).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (583).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (584).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1095)، ومسلم (1189).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (726).

 

(1/373)

 

 

2 - عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا ...} (1). والتي في آل عمران: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (2)» (3).

فيقرأ بعد الفاتحة في الأولى الآية (136) من البقرة، وبعدها في الثانية الآية (64) من آل عمران.

3 - وربما استدل آية آل عمران في الثانية بقوله تعالى {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} (4) إلى آخر الآية كما في حديث ابن عباس (5).

قلت: والأولى أن ينوِّع المرء بين هذا كله إصابة للسنة، كما هو الشأن في سائر العبادات التي صحت على أوجه متنوعة والله أعلم.

الاضطجاع على الجنب الأيمن بعدهما:

عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر، بعد أن يستبين الفجر، ثم اضطجع على شقِّه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة» (6).

وقد اختلف أهل العلم في حكم الاضطجاع بعد ركعتي سنة الفجر على أقوال (7):

1 - يستحب مطلقًا: وهو مذهب الشافعي وبه قال أبو موسى الأشعري ورافع ابن خديج وأنس بن مالك وأبو هريرة رضي الله عنهم، وبه قال ابن سيرين والفقهاء السبعة.

2 - أن الاضطجاع واجب: وهو مذهب أبي محمد بن حزمن بل أغرب -رحمه الله- فجعله شرطًا لصحة صلاة الفجر!! قال شيخ الإسلام: «وهذا مما تفرَّد به عن الأمة» (8) اهـ.

_________

(1) سورة البقرة، الآية: 136.

(2) سورة آل عمران، الآية: 64.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (727)، والنسائي (2/ 155).

(4) سورة آل عمران، الآية: 52.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (727)، وأبو داود (1259).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (590).

(7) «نيل الأوطار» (3/ 28 - 32)، و «المحلى» (3/ 196)، و «المجموع» (3/ 523 - 524).

(8) نقله ابن القيم في «الزاد» (1/ 319).

 

(1/374)

 

 

قلت: مستنده حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلىَّ أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح، فليضطجع على جنيه الأيمن» (1).

وأجيب بأن الحديث متكلم فيه، وعلى فرض صحته، فالأمر فيه مصروف إلى الاستحباب بحديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين، فإن كنت مستيقظة حدَّثني وإلا اضطجع» (2).

وظاهره أنه كان لا يضطجع مع استيقاظها، فكان ذلك قرينة لصرف الأمر إلى الندب، وأجيب بأن تركه صلى الله عليه وسلم لما أمر به أمرًا خاصًّا بالأمة لا يعارض ذلك الأمر الخاص ولا يصرفه عن حقيقته كما تقرر في الأصول، قلت: هذا إذا ثبت الحديث!!

3 - أنه مكروه: وهو قول جمع من السلف منهم ابن مسعود وابن المسيب والنخعي، وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء، وحجتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف عنه أنه عمل في المسجد إذا لو عمل به لتواتر نقله!!

4 - أنه خلاف الأولى: وهو مروي عن الحسن البصري.

5 - أنه مستحب لمن يقوم الليل ليستريح: وهو اختيار ابن العربي وشيخ الإسلام ابن تيمية.

6 - أن الاضطجاع ليس مقصودًا لذاته بل للفصل بين السنة والفرض: وهو مروي عن الشافعي، وهو مردود، لأن الفصل يمكن أن يكون بشيء غير الاضطجاع.

قلت: والراجح أن الاضطجاع بعد ركعتي سنة الفجر مستحب بشرطين:

الأول: أن يكون في البيت لا في المسجد لعدم نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والثاني: أن يكون الشخص ممن يستطيع القيام لصلاة الفجر ولا ينام عنها، والله أعلم.

قضاؤهما:

من فاتته ركعتا سنة الفجر -لعذر- فإنه يشرع له قضاؤهما متى زال عذره لما يأتي:

1 - حديث أبي هريرة قال عرَّسنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا

_________

(1) أخرجه أبو داود (1261)، والترمذي (420)، وأحمد (2/ 415) وغيرهم وقال ابن تيمية هذا باطل وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل، لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1092)، ومسلم (1227).

 

(1/375)

 

 

فيه الشيطان» قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء فتوضَّأ، ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلَّى الغداة (1). ونحوه حديث عمران بن حصين وقد تقدم.

2 - حديث قيس بن عمرو قال رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الصبح ركعتان» «فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

ولا يعارض ما تقدم حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يصلِّ ركعتي الفجر، فليصلهما بعد ما تطلق الشمس» (3) فإنه ليس صريحًا في أن من تركهما لا يصليهما إلا بعد طلوع الشمس -كما قال الجمهور- إذ ليس فيه إلا الأمر لمن لم يصلهما مطلقًا أن يصليهما بعد طلوع الشمس، ولا شك أنهما إذا تركا في وقت الأداء فُعِلا في وقت القضاء، وليس في الحديث ما يدل على المنع من فعلهما بعد صلاة الصبح، والله أعلم.

هل يتطوع -بعد طلوع الفجر- سوى ركعتي الفجر؟ (4).

اختلف أهل العلم في التطوع بعد طلوع الفجر سوى ركعتي السنة اللتين قبل صلاة الفجر على قولين:

الأول: يُكره التطوع بغير ركعتي الفجر: وهو قول أكثر السلف منهم الحسن البصري والنخعي وسعيد بن المسيب وأصحاب الرأي، وهو مروي عن عبد الله بن عمرو، وابن عمر وفي إسنادهما مقال.

وعن يسار مولى ابن عمر قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد طلوع الفجر، فقال: يا يسار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة، فقال: «ليبلغ شاهدكم غائبكم، لا تصلُّوا بعد الفجر إلا سجدتين» (5).

الثاني: لا بأس أن يتطوع بعد طلوع الفجر: وقد حكاه ابن المنذر عن الحسن

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1098) وغيره.

(2) حسن بطرقه: وقد تقدم في «أوقات النهي».

(3) صحيح: أخرجه الترمذي (423)، وابن خزيمة (1117)، والحاكم (1/ 274)، وابن حبان (2472) وغيرهم.

(4) «الأوسط» لابن المنذر (2/ 399 - 400).

(5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (1264)، والترمذي (417)، وانظر «صحيح الجامع» (5353).

 

(1/376)

 

 

البصري -أيضًا- قال: وكان مالك يرى أن يفعل ذلك من فاتته صلاته بالليل، وهو مروي عن بلال رضي الله عنه.

قلت: والأول أقوى ويؤيده حديث ابن عمر عن حفصة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتي الفجر» (1) وهو يقوى حديث ابن عمر السابق -وإن لم يكن مردُّه إلى حديث حفصة!! - ويستثنى من هذا قضاء الفائتة وصلاة ذات السبب كما تقدم في أوقات النهي، والله أعلم.

تنبيهان:

1 - لا يكره الكلام بعد ركعتي الفجر: خلافًا لما ورد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كأحمد وإسحاق، من كراهة الكلام بعد طلوع الفجر حتى يصلى الفجر إلا ما كان من ذكر الله أو مما لا بد منه، إذ لا دليل على ذلك، بل في حديث عائشة الذي تقدم دليل على خلافه، وهو قولها: «فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع».

2 - لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في الدعاء بعد الفراغ من ركعتي الفجر: وفيهما حديثان ضعيفان جدًّا لا يجوز العمل بهما حتى عند القائلين بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، لشدة ضعفهما (2).

سُنَّة الظهر:

وردت سنة الظهر على ثلاثة أوجه:

الأول: ركعتان قبلها وركعتان بعدها: كما في حديث ابن عمر قال: «حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح» (3).

الثاني: أربع ركعات قبلها واثنتان بعدها:

فعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعًا قبل الظهر» (4).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1173)، ومسلم (723) وغيرهما.

(2) نبَّه على هذا العلامة الألباني -رحمه الله- في «تمام المنة» (ص/ 238 - 239) فليراجع.

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(1/377)

 

 

وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: «كان يصلي قبل الظهر أربعًا واثنتين بعدها» (1).

وقد تقدم نحوه من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.

الثالث: أربع ركعات قبلها وأربع بعدها:

لحديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلَّى أربع ركعات قبل الظهر، وأربعًا بعدها حرَّمه الله على النار» (2).

فائدة: الأولى أن تصلى الأربع ركعتين ركعتين، وأما حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع قبل الظهر لا يُسلَّم فيهن، تفتح لهن أبواب السماء» (3) فضعيف لا يصح.

قضاء سنة الظهر:

- قضاء السنة القبلية: من فاتته السنة قبل الظهر -لعذر- فإنه يقضيها بعدها، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصلِّ أربعًا قبل الظهر صلاهنَّ بعدها» (4).

- قضاء السنة البعدية: وكذلك يقضي السنة البعدية للظهر إذا زال عذره، ولو بعد صلاة العصر، لحديث أم سلمة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر -وقد نَهَى ذلك- فسألته عنهما فقال: «يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، فإنه أتاني أناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (730)، وأحمد (6/ 30).

(2) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (1269)، والترمذي (428)، والنسائي (3/ 265)، وابن ماجه (1160)، وأحمد (6/ 326)، والحاكم (1/ 312) وله طرق يصح بمجموعها.

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1270)، وأحمد (5/ 416)، وعبد بن حميد (226)، والطيالسي (507)، وابن خزيمة (1214)، والبيهقي (2/ 488) ومداره على عبيدة بن متعب، ولا يحتج به وقد ضعف الحديث الحافظ في «الدراية» (1/ 199)، وابن الجوزي في «التحقيق» (108) وهو كذلك.

(4) حسن: أخرجه الترمذي (426).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1233)، ومسلم (834)، وأحمد (6/ 310).

 

(1/378)

 

 

سنة العصر: ليس للعصر سنة راتبة مؤكدة، لكن يستحب أن يصلي قبلها ركعتين، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاة» (1) والمراد بين الأذان والإقامة وقد ورد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله امرأً صلَّى قبل العصر أربعًا» (2). والحديث -عند من يصححه- يدل على مشروعية صلاة أربع قبل العصر.

تنبيه: ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعهما سرًّا ولا علانية: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان بعد العصر» (3).

وعنها قالت: «ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم السجدتين بعد العصر عندي قطُّ» (4).

وهذه المواظبة من النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة بعد العصر إنما هي من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما ذكر غير واحد من أهل العلم (5) قلت: ولعل هذا يتأيد بقولها رضي الله عنها: «والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله [تعني: الركعتين بعد العصر] ... وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما، ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يُثَقِّل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم» (6).

سنة المغرب:

- قبلها: يستحب -لمن شاء- أن يصلي ركعتين قبل صلاة المغرب لما يأتي:

1 - حديث عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء» كراهية أن يتخذها الناس سنة راتبة (7).

2 - حديث أنس بن مالك قال: «كان المؤذن إذا أذَّن، قام الناس من أصحاب

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (624)، ومسلم (838).

(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1271)، والترمذي (430)، وأحمد (2/ 117) وقد صححه الألباني والظاهر خلافه، وانظر الميزان (6/ 332)، والكامل (6/ 243).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (592).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (591).

(5) انظر «فتح الباري» (2/ 77 - سلفية).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (590).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (1129)، وأبو داود (1281).

 

(1/379)

 

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السوراي (1) يصلَّون، حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وهم كذلك، يصلُّون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء» (2). وهو يدل على استحباب تخفيفهما كما في ركعتي الفجر. والله أعلم.

3 - حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بين كل أذانين صلاة -ثلاثًا- لمن شاء» (3).

4 - حديث عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صلاة مرفوضة إلا وبين يديها ركعتان» (4).

- بعدها: ويتأكد صلاة ركعتين بعد صلاة المغرب كما تقدم في أحاديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة. ويستحب أن تصلى الركعتان بعد المغرب في البيت، لحديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي الركعتين بعد المغرب، والركعتين بعد الجمعة إلا في بيته» (5).

وعن محمود بن لبيد قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد الأشهل فصلى بهم المغرب، فلما سلَّم قال: «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» (6).

والقراءة فيهما: ويستحب أن يقرأ فيهما: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) بعد الفاتحة لحديث ابن مسعود قال: «ما أحصى ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل الفجر بـ (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد)» (7).

سنة العشاء:

- قبلها: يستحب -لمن شاء- صلاة ركعتين قبل العشاء، لعموم الندب إلى الصلاة قبل الفريضة وقد تقدم.

_________

(1) السواري جمع سارية وهي الأسطوانة (العمود) والمراد: يتسارعون إليها للاستتار بها ممن يمر بين أيديهم.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (625)، ومسلم (837) وغيرهما.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (624)، ومسلم (838).

(4) صحيح بما قبله: أخرجه ابن حبان (2455)، والدارقطني (1/ 267) وما قبله يشهد له.

(5) صحيح: أخرجه الترمذي (432)، والطيالسي (1836)، والطحاوي (1/ 336).

(6) حسن: أخرجه أحمد (5/ 428)، وابن ماجه (1165).

(7) حسن لشواهده: أخرجه الترمذي (431)، وابن ماجه (1166) بسند ضعيف، وله شاهد عن ابن عمر عند النسائي (992)، وابن ماجه (833)، وأحمد (4533) بسند لا بأس به.

 

(1/380)

 

 

- بعدها: يتأكد صلاة ركعتين بعد صلاة العشاء، كما تقدم في أحاديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة.

ملخص ما سبق في السنن الراتبة:

الصلاة ... عدد ركعات الفريضة ... الراتبة المؤكدة (قبلية) ... الراتبة المؤكدة (بعدية) ... الراتبة غير المؤكدة

الفجر .... 2 ..................... 2 ..................... - ...................... -

الظهر .... 4 .................... - (2) أو (4) ......... 2 ...................... 2 بعد

العصر ... 4 .................... - ...................... - ..................... 2 قبل

المغرب ... 3 ................... - ...................... 2 ..................... 2 قبل

العشاء ... 4 ................... - ....................... 2 ..................... 2 قبل

 

(ب) السنن غير الرواتب: وهي الصلوات التي لا تكون تابعة أو مرتبطة بالصلوات المفروضة وهي:

 

صلاة الوتر

تعريفها: الوتر (بفتح الواو وكسرها) لغة: العدد الفردي كالواحد والثلاثة والخمسة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وتر يحب الوتر» (1) وكقوله: «من استجمر فليوتر» (2) والوتر اصطلاحًا: صلاة الوتر، وهي صلاة تفعل ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، تختم بها صلاة لليل، وسميت بذلك لأنها تصلى وترًا ركعة واحدة أو ثلاثًا أو أكثر ولا تكون شفعًا.

وصلاة الوتر اختلف فيها، فقيل: هي جزء من صلاة القيام والتهجد، وقيل: هي غير التهجد (3).

حُكْم الوتر: لأهل العلم في حكم الوتر قولان:

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة.

(2) صحيح: تقدم في «الطهارة».

(3) «المجموع» للنووي (4/ 480).

 

(1/381)

 

 

الأول: أنه واجب: وهو مذهب أبي حنيفة (1)، وهو من مفرداته، حتى قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا وافق أبا حنيفة في هذا. اهـ. وحجة هذا القول:

1 - حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من لم يوتر فليس منا» (2).

2 - حديث أبي أيوب مرفوعًا: «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» (3).

3 - حديث أبي بصرة مرفوعًا: «إن الله زادكم صلاة، وهي صلاة الوتر، فصلوها فيما بين العشاء إلى الفجر» (4).

4 - حديث ابن عمر مرفوعًا: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» (5).

5 - حديث أبي سعيد مرفوعًا: «أوتروا قبل أن تصبحوا» (6).

6 - حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فإذا أوتر قال: «قومي فأوتري يا عائشة» (7).

القول الثاني: أنه سنة مؤكدة: وهو مذهب جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وصاحبي أبي حنيفة.

وأجابوا عن أدلة أبي حنيفة -مما تقدم وما في معناه- بأن أكثرها ضعيف لا يثبت، وما صح منها وكان مفيدًا ظاهره للإيجاب، فهو مصروف إلى الندب بما يأتي:

1 - حديث طلحة بن عبيد الله في الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال

_________

(1) «الهداية مع فتح القدير» (1/ 300)، و «المجموع» (3/ 514)، و «نيل الأوطار» (3/ 38).

(2) ضعيف: أخرجه أحمد (2/ 443) ونحوه من حديث بريدة وهو ضعيف كذلك، وانظر «الإرواء» (417).

(3) صحيح موقوفًا: أخرجه أبو داود (1422)، والنسائي (8/ 238)، وأحمد (5/ 418) وصحح الأئمة وقفه.

(4) صححه الألباني: أخرجه أحمد (6/ 397)، والطحاوي (1/ 250)، وانظر طرقه في «الإرواء» (423).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (998)، ومسلم (751).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (754)، والترمذي (468)، والنسائي (1/ 247)، وابن ماجه (1189).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (512)، والبخاري بنحوه (512).

 

(1/382)

 

 

صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة» فقال: هل عليَّ غيرها؟ فقال: «لا، إلا أن تطوع» ... فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق» (1) ففي هذا الحديث وحده أربعة أدلة على أن الوتر ليس بواجب، فتأمله.

2 - حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوه ...» الحديث (2).

وهو من أقوى ما يستدل به لأن بعث معاذ لليمن كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ولو كان الوتر واجبًا أو شيئًا زاده الله للناس على صلواتهم، لأمره صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الله قد فرض عليهم ست صلوات لا خمسًا.

3 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر» (3) فلم يذكر الوتر في الصلوات المذكورة وهي واجبة.

4 - حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير» (4) ولو كان الوتر واجبًا لما جاز فعله على الراحلة كما تقدم.

5 - حديث ابن محيريز عن المُخَدَّجي قال: سأل رجل أبا محمد -رجلاً من الأنصار- عن الوتر، فقال: الوتر واجب كوجوب الصلاة، فأتى عبادة بن الصامت، فذكر ذلك له، فقال: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس صلوات افترضهن الله على عباده ...» (5). الحديث. والراجح ضعفه.

6 - حديث جابر قال: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثماني ركعات، وأوتر، فلما كانت الليلة القابلة اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج

_________

(1) صحيح: تقدم مرارًا.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (233)، والترمذي (214)، وابن ماجه (1086).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (999)، ومسلم (700) وغيرهما.

(5) ضعيف على الراجح: تقدم تخريجه في «حكم تارك الصلاة» وانظر تخريجه مفصلاً في «تعظيم قدر الصلاة» بتخريجي.

 

(1/383)

 

 

فيصلى بنا، فأقمنا فيه حتى أصبحنا فقلنا: يا رسول الله رجونا أن تخرج فتصلي بنا، فقال: «إني كرهت -أو خشيت- أن يُكتب عليكم الوتر» (1) وهو ضعيف كذلك.

فائدة: اختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الوتر واجب على من له ورد من قيام الليل (2). قلت: لعل مستنده قوله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» وقد تقدم قريبًا.

وقت الوتر: أجمع أهل العلم على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر، ثم اختلفوا في جوازه بعد الفجر على خمسة أقوال، أشهرها قولان (3):

الأول: لا يجوز بعد طلوع الفجر: وهو مذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة، وسفيان الثوري وإسحاق وعطاء والنخعي وسعيد بن جبير، وهو مروي عن ابن عمر، وحجتهم:

1 - حديث خارجة بن حذافة -المتقدم قريبًا- وفيه: «فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» (4).

2 - حديث أبي سعيد مرفوعًا: «أوتروا قبل أن تصبحوا» (5) وفي لفظ له: «من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له» (6).

3 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا الصبح بالوتر» (7).

4 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى» (8).

_________

(1) ضعيف: أخرجه ابن خزيمة (1070)، وأبو يعلى (1802)، وابن حبان (2409).

(2) «الاختيارات» (ص/ 64).

(3) «الأوسط»، و «التمهيد» (2/ 349 - فتح المالك)، و «بداية المجتهد» (1/ 294)، و «المجموع» (3/ 518).

(4) صححه الألباني: وقد تقدم وانظر «الإرواء» (423).

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) إسناده صحيح: أخرجه ابن خزيمة (1092)، وابن حبان (2409)، والحاكم (1/ 301)، والبيهقي (2/ 478).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (750)، وأبو داود (1436)، والترمذي (467)، وأحمد (2/ 37).

(8) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(1/384)

 

 

5 - عن ابن عمر قال: إذا كان الفجر فقد ذهبت صلاة الليل والوتر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أوتروا قبل الفجر» (1).

الثاني: يجوز بعد طلوع الفجر ما لم يُصِّل الصبح: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور، واستدلوا بآثار وردت عن الصحابة أنهم كانوا يوترون بعد الفجر، منهم ابن مسعود وابن عباس وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء وحذيفة وعائشة، ولم يُرو عن غيرهم من الصحابة خلافه.

الراجح: الذي يظهر أن الأول أرجح لقوة أدلته، وأما الآثار عن الصحابة فالظاهر -كما يقول ابن رشد- أنها ليست مخالفة للآثار المتقدمة، بل إجازتهم لذلك هو من باب القضاء، لا من باب الأداء، وإنما يكون قولهم خلاف الآثار لو جعلوا صلاته بعد الفجر من باب الأداء فتأمل، ثم إنه ينبغي أن تُتَأمَّل صفة النفل في ذلك عنهم!!

وقته المستحب: تقدم أنه يجوز الوتر من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، والأفضل أن يكون في الثلث الأخير من الليل.

فعن عائشة قالت: «من كلِّ الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر» (2).

ويستحب -بالاتفاق- أن يجعل الوتر آخر النوافل التي يصليها بالليل، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» (3).

وهذا إذا وثق باستيقاظه آخر الليل فيستحب له تأخير الوتر لآخر الليل، فإن خشي ألا يستيقظ للوتر آخر الليل فيستحب أن يوتر قبل النوم:

لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل، فليوتر من أوله وليرقد، ومن طمع منكم أن يستيقظ من آخر الليل فليوتر من آخره، فإن صلاة آخر الليل محضورة، فذلك أفضل» (4).

وعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: «متى توتر؟» قال: أوتر ثم أنام،

_________

(1) صحيح: أخرجه الترمذي (469)، وابن خزيمة (2/ 148)، والحاكم (1/ 302)، والبيهقي (2/ 478).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (996)، ومسلم (745).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (755)، والترمذي (455)، وابن ماجه (1187).

 

(1/385)

 

 

فقال لعمر: «متى توتر؟» قال: أنام ثم أوتر، قال: فقال لأبي بكر: «أخذت بالحزم أو الوثيقة» وقال لعمر: «أخذت بالقوة» (1).

هل يجوز التنفُل بعد الوتر؟ وهل يكرر الوتر؟

من صلى الوتر، ثم بدا له بعد ذلك أن يصلي نفلاً، فللعلماء فيه قولان (2):

الأول: أنه يجوز، وله أن يصلي ما شاء لكن لا يعيد الوتر: وهو مذهب أكثر العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة والمشهور عند الشافعية وبه قال النخعي والأوزاعي وعلقمة، وهو مروي عن أبي بكر وسعد وعمار وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم.

فأما جواز الصلاة بعد الوتر فيستدل له ما يأتي:

1 - حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلِّم وهو قاعد» (3).

2 - حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم: «كان يركع ركعتين بعد الوتر وهو جالس» (4).

3 - حديث جابر -المتقدم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أوله وليرقد ... الحديث» (5) ويُفهم منه أنه إذا استيقظ -وقد أوتر قبل النوم- فله أن يصلي كما هو واضح.

وأما منع تكرير الوتر، فلحديث طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا وتران في ليلة» (6).

الثاني: لا يجوز التنفل بعد الوتر إلا أن ينقض وتره ويصلي ثم يوتر: ومعنى نقض الوتر، أن يبدأ نفله بركعة يشفع بها وتره، ثم يصلي شفعًا ما شاء ثم يوتر، وهذا هو القول الآخر عند الشافعية وهو مروي عن عثمان وعلي وأسامة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، وحجتهم:

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1421)، وابن ماجه (1202)، وابن خزيمة (1084).

(2) «فتح القدير» (1/ 312)، و «الزرقاني» (1/ 285)، «المجموع» (3/ 521)، و «كشاف القناع» (1/ 427)، و «بداية المجتهد» (1/ 297).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (746).

(4) إسناده لين: الترمذي (471)، وابن ماجه (1195) وله شاهد في الصحيح.

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) حسن: أخرجه الترمذي (468)، وأبو داود (1439)، والنسائي (3/ 229) وغيرهم.

 

(1/386)

 

 

قوله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» (1).

والراجح: القول الأول لثبوت فعل النافلة بعد الوتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدلَّ على الجواز، ولأن نقض الوتر -على الوجه الذي تقدم- ضعيف من وجهين:

1 - أن الوتر الأول مضى على صحته، فلا يتوجه بإبطاله بعد فراغه، ولا ينقلب إلى النفل بتشفيعه.

2 - أن النفل بواحدة غير معروف في الشرع. والله تعالى أعلم.

عدد ركعات الوتر وصفته:

يجوز الوتر بركعة واحدة، أو ثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع.

1 - الوتر بركعة واحدة: وهو جائز عند الجمهور لأنه يحصل بالركعة الوتر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلَّى واحدة فأوترت له ما قد صلى» (2).

ولحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الوتر ركعة من آخر الليل» (3).

وعن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة» (4).

وأما أبو حنيفة فقال: لا يكون الوتر إلا ثلاثًا، لحديث: «المغرب وتر النهار» (5).

فلما شبِّهت المغرب بوتر صلاة الليل -وكانت ثلاثًا- وجب أن يكون وتر صلاة الليل ثلاثًا!!

قلت: لا يمنع كون صلاة المغرب -وهو ثلاث- وترًا، أن يكون غيرها أيضًا وترًا، ثم إذا كان المغرب وتر النهار، فقد دلَّت الأدلة المتقدمة على أن الركعة الواحدة وتر الليل، وهو واضح.

_________

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (752) وغيره.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (736)، وأبو داود (1335)، والترمذي (440)، والنسائي (3/ 234)، وأحمد (6/ 35).

(5) صحيح: أخرجه أحمد (2/ 30، 41)، وابن أبي شيبة (2/ 81)، وعبد الرزاق (4675) من حديث ابن عمر مرفوعًا، وأخرجه مالك (276) موقوفًا عنه ولا يضر وقفه فمالك يوقف المرفوعات وللحديث شواهد عن عائشة وابن مسعود.

 

(1/387)

 

 

2 - الوتر بثلاث ركعات: وهو جائز على صفتين، كلتاهما مشروعة وهما:

الأولى: أن يصلي ركعتين ويسلم، ثم يصلي الثالثة وحدها:

فعن ابن عمر «أنه كان يسلِّم بين الركعتين والوتر حتى يأمر ببعض حاجته» (1).

وقد ورد مرفوعًا عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل الشفع والوتر بتسليم يُسمعناه» (2). ويشهد له حديث عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ويقرأ في الوتر بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} (3).

وقد بوب عليه في «صحيح ابن حبان»: (ذكر الخبر الدال على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفصل بالتسليم بين الركعتين والثالثة).

الثانية: أن يصلي الثلاث بتشهد واحد:

فعن عائشة قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره يزيد على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا ...» (4).

وعنها: «كان صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن» (5).

تنبيه: لا يُشرع أن يصلي ثلاثًا بتشهدين وتسليم كصلاة المغرب، لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا توتروا بثلاث، أو توتروا بخمس أو بسبع، ولا تشبَّهوا بصلاة المغرب» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (991)، عن مالك (1/ 125).

(2) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد (2/ 76)، والطحاوي (1/ 278)، وابن حبان (2433 - 2435) وقواه الحافظ في «الفتح» (2/ 482).

(3) ضعيف بهذا التمام: أخرجه الطحاوي (1/ 285)، والحاكم (1/ 305)، والدارقطني (2/ 35)، وابن حبان (3432) وقد صح بدون ذكر المعوذتين من حديث ابن عباس وأبي ابن كعب كما سيأتي انظر «التلخيص» (533).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1147)، ومسلم (738) وغيرهما.

(5) أخرجه مالك (466)، والنسائي (3/ 234)، والطحاوي (1/ 280)، والحاكم (1/ 304)، والبيهقي (3/ 31).

(6) صحيح: أخرجه الحاكم (1/ 304)، والبيهقي (3/ 31)، وابن حبان (2429)، والدارقطني (2/ 24)، قال الحافظ في «التلخيص» وإسناده كلهم ثقات، ولا يضر وقف من أوقفه. اهـ.

 

(1/388)

 

 

ما يقرأ في الثلاث: إذا أوتر بثلاث فيستحب أن يقرأ بما يأتي في الحديثين:

عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة ركعة» (1) يعني: في كل ركعة سورة منها.

وعن أُبي بن كعب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

فإذا سلَّم قال: سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدُّوس ثلاث مرات» (2)، وبهذين الحديثين قال الحنابلة، واستحب المالكية والشافعية أن يزيد في الثالثة المعوذتين لحديث عائشة الذي تقدم، ولا يثبت، والله أعلم.

3 - الوتر بخمس ركعات: وهو جائز، ويستحب إن أوتر بخمس ألا يجلس للتشهد إلا في الخامسة: فعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرها» (3).

4 - الوتر بسبع أو تسع ركعات: وهو جائز، ويستحب إن أوتر بذلك أن يسرد الركعات ولا يجلس للتشهد إلا في الركعة قبل الأخيرة -ولا يسلم- ويقوم إلى الأخيرة ويتشهد ويسلِّم:

فعن عائشة -في صفة وتر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كنا نعد له صلى الله عليه وسلم سواكه، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمد ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلِّم، ثم يقوم التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلَّم تسليمًا يسمعناه، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بُنَيَّ، فلما أسنَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعة الأول، فتلك تسع يا بني» (4).

_________

(1) صحيح: أخرجه الترمذي (461)، والنسائي (3/ 236).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1423)، والنسائي (3/ 244)، وابن ماجه (1171) وقد اختلف فيه بما لا يضر، إن شاء الله.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (737)، وأبو داود (1324)، والترمذي (457).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (746)، وأبو داود (1328)، والنسائي (3/ 199).

 

(1/389)

 

 

هل يشترط أن يُسبَق الوتر بصلاة (شفع)؟

بمعنى هل للمصلي أن يقتصر على ركعة واحدة لا يسبقها صلاة، وكذلك في الثلاث وغيرها؟ فذهب المالكية -وهو قول عند الشافعية- إلى أن الوتر بركعة واحدة لا يكون إلا بعد شفع يسبقها (1)، قالوا: والأصل في ذلك حديث: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى». وذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز الإيتار بواحدة، قالوا: لكن الاقتصار عليها خلاف الأولى، وأدنى الكمال ثلاث ركعات (2).

قلت: ولعله يُستدل للجواز بما يأتي (3):

1 - حديث عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت» (4) وظاهره أنها كانت تُوتر دون أن تقدِّم على وترها شفعًا.

2 - حديث عائشة المتقدم قريبًا في صلاته صلى الله عليه وسلم الوتر تسعًا وسبعًا ثم صلاته ركعتين وهو جالس ... الحديث، وفيه أن الوتر متقدم على الشفع، ففيه حجة على أنه ليس من شرط الوتر أن يتقدمه شفع، والله أعلم.

القنوت في الوتر:

القنوت يطلق على معانٍ منها: القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع. وفي الاصطلاح: هو اسم للدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام (5).

والقنوت في صلاة الوتر مشروع في الجملة عند الجمهور -خلافًا لمالك (6) - واختلفوا في أنه واجب أو مستحب (7)، وفي أنه يكون في جميع السنة أو

_________

(1) «المنتقى» للباجي (1/ 223) والمراجع الآتية بعده.

(2) «حاشية القليوبي» (1/ 212)، و «كشاف القناع» (1/ 416)، و «المغنى» (2/ 150).

(3) «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 293) ط. الكتب العلمية.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (512)، ومسلم (512).

(5) «الفتوحات الربانية على الأذكار النووية» (2/ 286)، و «بصائر ذوي التمييز» (4/ 298).

(6) المشهور عنه القول بكراهة القنوت في الوتر، وفي رواية عنه: يقنت في النصف الأخير من رمضان «الكافي» لابن عبد البر (ص: 74)، و «القوانين» (ص: 66)، و «المغنى» (2/ 580)، و «المجموع» (4/ 24).

(7) قال أبو حنيفة بوجوبه خلافًا للصاحبين والجمهور. «البدائع» (1/ 273)، و «البحر الرائق» (2/ 43).

 

(1/390)

 

 

في رمضان فقط (1)، وفي أنه هل يكون قبل الركوع أو بعده (2)، وفيما يُسَنُّ أن يدعو به (3)، والصحيح ما يأتي:

1 - يستحب القنوت -أحيانًا- في أي وقت من السنة:

والأصل في هذا حديث الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما قال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن تولَّيت وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلُّ من واليت، تباركت ربنا وتعاليت» (4).

وعن أُبيِّ بن كعب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع» (5).

وإنما قلنا: يستحب القنوت في الوتر «أحيانًا»: لأن الصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان صلى الله عليه وسلم يفعله دائمًا، لنقلوه جميعًا عنه، نعم رواه عنه أُبي بن كعب وحده، فدلَّ على أنه كان يفعله أحيانًا، وعلى أنه غير واجب، وهو قول الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (6).

2 - القنوت في الوتر قبل الركوع وبعد القراءة أَوْلى:

لحديث أُبيِّ بن كعب المتقدم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع».

وعن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: «قد كان القنوت».

فقلت: قبل الركوع، فقال: «كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا، أُراه كان بعث قومًا لهم القرَّاء زُهاء سبعين رجلاً إلى قوم من المشركين دون

_________

(1) عند الحنفية: في جميع السنة، وعند الشافعية: في النصف الأخير من رمضان خاصة، وعندهم وجه: في جميع رمضان، وعند الحنابلة: في جميع السنة «البدائع» (1/ 273)، و «المجموع» (4/ 15)، و «المغنى» (2/ 58)، و «المحلى» (4/ 145).

(2) عند الحنفية: قبل الركوع، وعند الشافعية والحنابلة: بعد الرفع من الركوع [المراجع المتقدمة].

(3) عند الحنفية الشافعية: الدعاء بـ (اللهم اهدنا فيمن هديت ...)، وعند الحنابلة: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك ...).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (3/ 248)، وابن ماجه (1178)، وانظر «الإرواء» (429).

(5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (1414)، والنسائي (1/ 248)، وابن ماجه (1182)، وانظر «الإرواء» (426).

(6) أفاد نحوه العلامة الألباني -رحمه الله- في «صفة الصلاة» (ص: 179).

 

(1/391)

 

 

أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو عليهم» (1).

قال الحافظ في «الفتح» (2/ 569): «ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت لحاجة [يعني: للنازلة] بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة، فالصحيح عنه أنه قبل الركوع، وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح» اهـ.

وعن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: «كان عبد الله -يعني: ابن مسعود- لا يقنت في شيء من الصلوات، إلا في الوتر قبل الركعة» (2).

3 - ما يُسنُّ الدعاء به في القنوت:

يُسَنَّ الدعاء -في قنوت الوتر- بما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: «اللهم اهدني فيمن هديت ..» إلخ وقد تقدم.

وتجوز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت لثبوتها عن الصحابة: فقد ثبت ذلك في حديث إمامة أُبيِّ بن كعب الناس في قيام رمضان، وكذا في إمامة أبي حليمة معاذ الأنصاري، أحد الذين أقامهم عمر يصلي التراويح (3).

4 - ليس من السنة التطويل في دعاء القنوت: فإن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من تعليمه الحسن دعاء القنوت في الوتر يسير لا طول فيه.

5 - هل يجوز التغنِّي بدعاء القنوت؟

لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه - فيما علمتُ- التغني بالدعاء، لا في القنوت ولا في غيره، فأخشى أن يكون ما استحسنه أكثر الأئمة في هذه الأيام محدثًا!!

وقد قال ابن الهمام: «... لا أرى تحرير النَّغم في الدعاء -كما يفعله القراء في هذا الزمان- يَصْدُر ممن فهم معنى الدعاء والسؤال، وما ذلك إلا نوع لعب، فإنه لو قُدِّر في الشاهد [أي: الواقع] سائلُ حاجة من مَلِكٍ، أدَّى سؤاله وطلبه

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1002)، ومسلم (677).

(2) إسناده صحيح: أخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 238)، وانظر «الإرواء» (2/ 166).

(3) «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم» (ص/ 180).

 

(1/392)

 

 

بتحرير النغم فيه، من الرفع والخفض والتقريب والرجوع كالتغني، نُسب البتة إلى قصد السخرية واللعب، إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغنِّي» (1) اهـ.

6 - يستحب رفع اليدين في القنوت:

فعن أنس -في قصة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قتلة القراء-: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلى الغداة رفع يديه يدعو عليهم» (2).

وعن أبي رافع قال: «صليت خلف عمر بن الخطاب، فقنت بعد الركوع، ورفع يديه وجهر بالدعاء» (3).

و «كان أبو هريرة يرفع يديه في قنوته في شهر رمضان» (4).

7 - لا يُشرع مسح الوجه أو الصدر باليدين بعد القنوت: لعدم الدليل على ذلك، قال البيهقي في «سننه» (2/ 212): «فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت» اهـ.

قلت: ولا يصح حديث في مسح الوجه بعد الدعاء خارج الصلاة كذلك، قال شيخ الإسلام (22/ 519): «... وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه صلى الله عليه وسلم فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة، والله أعلم» اهـ.

التسبيح والدعاء بعد الوتر: يُستحب بعد التسليم من الوتر التسبيح لما في حديث أبي بن كعب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فإذا سلَّم قال: «سبحان الملك القدوس» ثلاث مرات» (5).

وعن عليٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (6).

_________

(1) «فتح القدير» (1/ 370، 371).

(2) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 137)، والبيهقي (2/ 211).

(3) صحيح: أخرجه البيهقي (2/ 212)، ونحوه في «معرفة السنن» (2/ 83) من طريق أبي عثمان عن عمر.

(4) أخرجه ابن نصر في «قيام الليل» (ص/ 138).

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (1427)، والترمذي (3566)، والنسائي (1/ 252)، وابن ماجه (1179).

 

(1/393)

 

 

قضاء الوتر:

إذا نام المرء عن الوتر أو نسيه، فإنه يصليه إذا قام أو ذكره في أي وقت كان: لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن الوتر أو نسيه، فليصلِّ إذا أصبح أو ذكره» (1).

ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» (2) وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب.

وكذلك إذا فاته الوتر لعلةٍ كمرض ونحوه.

قلت: ومن تعمد ترك الوتر -بغير عذر- حتى دخل وقت الفجر، فلا يشرع له قضاؤه أبدًا على ما حققناه في «قضاء الصلاة» والله أعلم.

كم يقضي الوتر؟

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام من الليل أو مرض صلَّى بالنهار ثنتي عشرة ركعة ...» (3).

وقد عُلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فعلم أن قضاء الوتر بالنهار يكون شفعًا، فمن كانت عادته الإيتار بواحدة، قضى من النهار ركعتين، ومن كانت عادته الإيتار بثلاث قضاها أربعًا وهكذا.

ويستحب المبادرة بقضائه قبل الظهر: ليكتب له أجر صلاته بالليل، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل» (4) والظاهر أنه تحريض على المبادرة، ويحتمل أن فضل الأداء مع المضاعفة مشروط بخصوص الوقت (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه الترمذي (465)، وأبو داود (1431)، وابن ماجه (1188)، وأحمد (3/ 44)، وانظر «الإرواء» (2/ 153).

(2) صحيح: تقدم مرارًا.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (746) وغيره.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (747)، والترمذي (578)، وأبو داود (1299)، والنسائي (3/ 259)، وابن ماجه (1343).

(5) «حاشية السيوطي على النسائي» (3/ 259).

 

(1/394)

 

 

الركعات بعد الوتر:

عن عائشة رضي الله عنها في صفة صلاة النبي بالليل، قالت: «كان يصلي ثلاث عشرة ركعة: يصلي ثماني ركعات، ويوتر بركعة، وإذا سلَّم كبَّر فصلَّى ركعتين جالسًا، ويصلي ركعتين بين أذان الفجر والإقامة» (1).

وهاتان الركعتان بعد الوتر، للعلماء فيهما ثلاثة مسالك:

1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما لبيان الجواز، ولم يواظب على ذلك بل فعله مرة أو مرات قليلة، وأن قولها «كان يصلي» لا يلزم منه الدوام والتكرار إلا أن يدلَّ دليل على ذلك (2).

2 - أن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة وتكميل الوتر، فإن الوتر عبادة مستقلة -ولا سيما إن قيل بوجوبه- فتكونان كالركعتين بعد المغرب، فإنها وتر النهار، والركعتان بعدها تكميل لها، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل (3).

3 - إنهما خاصتان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكون الحديث مخصصًا للأمر بجعل آخر الصلاة من الليل وترًا!! (4).

قلت: القولان الأوَّلان لكل منهما وجه قوي، وأما الثالث ففيه نظر، فإن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم مشروعية التأسي به فيها، فإن قيل: فعله صلى الله عليه وسلم لا يخصص أمره بأن يُجعل آخر صلاة الليل وترًا؟ قلنا: نعم، لكن الأمر مصروف إلى الندب بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أوله ليرقد ...» (5) وبإقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الإيتار قبل النوم (6)، ففيهما مشروعية التنفل لمن استيقظ من النوم وقد كان أوتر قبله، ثم وقفت على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالركعتين بعد الوتر في حديث ثوبان مرفوعًا: «إن هذا السَّفر جهد وثقل، فإن أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له» (7) فالتقى الأمر بالفعل وثبتت المشروعية، ويكون الأمر بجعل الوتر آخر الليل على الاستحباب، والله تعالى أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1159)، ومسلم (738) وغيرهما.

(2) «شرح مسلم» للنووي (6/ 21) ط. إحياء التراث العربي.

(3) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 318، 319).

(4) «نيل الأوطار» (3/ 48) ط. الحديث.

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) صحيح: تقدم قريبًا.

(7) صححه الألباني: أخرجه الدارمي (1594)، وعنده «السهر» بدل «السفر» وابن خزيمة (1106)، والدارقطني (2/ 36)، وانظر «الصحيحة» (1993).

 

(1/395)

 

 

القراءة في الركعتين بعد الوتر:

عن أبي أمامة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (1).

استحباب الاضطجاع بعدها:

يستحب بعد الركعتين اللتين بعد الوتر -أو بعد صلاة الليل- النوم حتى يؤذن بالفجر، ففي حديث ابن عباس -في قصة مبيته عند خالته ميمونة ووصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل-: «... ثم قام يصلي، فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت، فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفلتها، فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح» (2).

وفي رواية ابن خزيمة: «... فأوتر بتسع أو سبع، ثم صلى ركعتين، ووضع جنبه حتى سمعت ضفيزه، ثم أقيمت الصلاة فانطلق فصلى» وهاتان الركعتان يحتمل أن تكونا الركعتين اللتين كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد الوتر، ويحتمل أن تكونا ركعتي الفجر (3).

قلت: ويؤيد الاحتمال الأول: حديث الأسود، قال: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل؟ قالت: «كان ينام أوله، ويقوم آخره، فيصلي، ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج» (4).

ولا ينفي هذا مشروعية الاضطجاع بعد ركعتي سنة الفجر، بل الظاهر أنه كان تارة يضطجع بين صلاة الليل وصلاة الفجر، وأخرى بعد ركعتي سنة الفجر، وربما كان يضطجع في الموضعين والله أعلم.

_________

(1) حسن: أخرجه أحمد (5/ 260)، والطحاوي (1/ 280 - 341)، والطبراني في «الكبير» (8/ 277)، والبيهقي (3/ 33) وله شاهد من حديث أنس.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1146)، ومسلم (739).

(3) صحيح: أخرجه ابن خزيمة (2/ 157 - 158).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1146)، ومسلم (739).

 

(1/396)

 

 

قيام الليل

قيام الليل ويطلق عليه التهجد: وهو عند جمهور الفقهاء: صلاة التطوع في الليل بعد النوم (1) في أي ليلة من ليالي العام.

فضائل قيام الليل والترغيب فيه:

إن لصلاة التطوع في جوف الليل وتحت جنح ظلامه فضلاً كبيرًا، وأجرًا عظيمًا، لا يستطاع حصره، بل يعجز الخلق عن وصفه، فهي شعار الصالحين، وأهم خصائص المتقين.

ولجلالة قدر فضلها، فقد خاطب الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يتصدَّى لهذا الشرف العظيم والفضل الكبير، ليظفر بالمقام المحمود، فقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} (2).

وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة في تقرير فضيلة قيام الليل والترغيب فيه، وإليك طرفًا من هذه النصوص، فلعلَّ راغبًا في تلك الحياة المباركة أن تتوق نفسه إلى التنعم بها فيلزم نفسه بقيام الليل، ولو بجزء يسير منه.

1 - قال الله سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (3).

2 - وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} (4).

3 - وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (5).

4 - وقال عز وجل: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} (6).

_________

(1) «مغنى المحتاج» (1/ 228).

(2) سورة الإسراء، الآية: 79.

(3) سورة آل عمران، الآية: 113.

(4) سورة الفرقان، الآيتان: 63، 64.

(5) سورة المزمل، الآيات: 1 - 4.

(6) سورة الإنسان، الآيتان: 25، 26.

 

(1/397)

 

 

5 - وقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (1).

6 - وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (2).

7 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3).

8 - وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «الصلاة في جوف الليل» قال: فأي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شهر الله المحرم (4).

9 - وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (5).

10 - وعن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام» (6).

11 - وعن عمرو بن عبسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فَكُنْ» (7).

_________

(1) سورة الزمر، الآية: 9.

(2) سورة الذاريات، الآيات: 15 - 18.

(3) سورة السجدة، الآيات: 15 - 17.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1163)، والترمذي (438)، وأبو داود (2429)، والنسائي (3/ 207)، وابن ماجه (1742).

(5) صحيح: أخرجه الترمذي (1855)، وابن ماجه (1334)، وأحمد (7591)، وانظر «الصحيحة» (569).

(6) صحيح: أخرجه ابن حبان (509) وغيره، وانظر «صحيح الترغيب» (614)، و «صحيح الجامع» (2123).

(7) صحيح: أخرجه الترمذي (3579)، والنسائي (572)، وانظر «صحيح الترغيب» (624)، و «صحيح الجامع» (1184).

 

(1/398)

 

 

12 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلَّى، وأيقظ امرأته [فصلَّت] فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلَّت، وأيقظت زوجها [فصلَّى] فإن أبى نضحت في وجهه الماء» (1).

وفي لفظ: «إذا قاما وصليا ركعتين كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات» (2).

13 - وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يحبهم الله ... -فذكر منهم- .. ورجل سافر مع القوم فارتحلوا حتى إذا كان من آخر الليل وقع عليهم الكرى -أو النعاس- فنزلوا، فضربوا برءوسهم، ثم قام فتطهر، وصلى رغبة لله عز وجل، ورغبة لله عز وجل، ورغبة فيما عنده» (3).

14 - وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات» (4).

15 - عن ابن عمر أنه رأى رؤيا فقصَّها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نِعم الرجلُ عبدُ الله، لو كان يصلي من الليل» (5) وفي لفظ «إن عبد الله رجل صالح، لو كان يكثر الصلاة من الليل».

قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً.

قال القرطبي: «... لم يكن يقوم من الليل، فحصل لعبد الله من ذلك تنبيه على أن قيام الليل مما يتقي به النار والدنو منها، فلذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك» اهـ.

16 - عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: «سبحان الله، ماذا أنزل

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1308)، والنسائي (3/ 205)، وابن ماجه (1336)، وأحمد (2/ 250)، وهو في «صحيح الجامع» (3488).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1309)، والنسائي في «الكبرى» (1310)، وابن ماجه (1335)، وهو في «صحيح الجامع» (330).

(3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 176)، والطيالسي (468)، والطبراني في «الكبير» (2/ 1637)، والبيهقي (9/ 160).

(4) صححه الألباني: وانظر «الإرواء» (452)، و «صحيح الجامع» (3958).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479).

 

(1/399)

 

 

الليلة من الفتن، ماذا أنزل من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات، يا رُب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» (1).

ففيه إيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة، لا سيما عند نزول آية، قاله في «الفتح».

قلت: فهذا طرف من النصوص المتكاثرة المتضافرة في فضل قيام الليل والترغيب فيه، وسيأتي غيرها في بقية مباحث «قيام الليل» إن شاء الله، لعلها أن تصادف قلبًا صادقًا فينتفع، فأظفر - بإذن الله- بأجر الدلالة على الخير (2).

وقت قيام الليل:

صلاة الليل تجوز في أول الليل ووسطه وآخره، كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك قال: «ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصليًا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائمًا إلا رأيناه» (3).

قال الحافظ في الفتح (3/ 23): «أي إن صلاته ونومه كان يختلف بالليل، ولا يرتب وقتًا معينًا بل بحسب ما تيسَّر له القيام ..» اهـ.

أفضل أوقاته:

يستحب قيام الليل في الثلث الأخير من الليل، ليتعرض لنفحات الله تعالى العظيمة في تلك الساعات التي لا يستيقظ فيها لعبادة ربه إلا القليل من الناس فيظفروا بإجابة الدعوة وقبول التوبة ومغفرة الذنوب، وستر العيوب:

فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول: أنا الملك، أنا لملك، من الذي يدعوني فأستجيب له، من الذي يسألني فأعطيه، من الذي يستغفرني فأغفر له» (4) وفي لفظ لمسلم (758) «... حتى ينفجر الفجر».

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1126)، والترمذي (2196).

(2) ومن أعظم ما يعين على قيام الليل مطالعة سير الصالحين في هذا الشأن، ومن أجمع وأعذب ما رأيت في هذا كتاب «رهبان الليل» للشيخ الحبيب الهمام صاحب القلم السيَّال/ د. سيد حسين العفاني -رفع الله قدره- فعليك به.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1090)، والنسائي (1627) واللفظ له، والترمذي (769).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) واللفظ له.

 

(1/400)

 

 

وعن عمرو بن عبسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكُنْ» (1).

وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحبَّ الصلاة إلى الله عز وجل، صلاة داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا» (2).

وكذلك كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

فعن عائشة في وصفها لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان ينام أوله، ويقوم آخره، فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج» (3) وعن أم سلمة نحوه.

وفي حديث حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صحبه في السفر: «.. ثم قام فصلَّى حتى قلت: قد صلى قدر ما نام، ثم اضطجع حتى قلت: قد نام قدر ما صلى، ثم استيقظ ففعل كما فعل أول مرة، وقال مثل ما قال، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قبل الفجر» (4).

وعن مسروق أنه سأل عائشة: أيُّ حين كان صلى الله عليه وسلم يصلي؟ فقالت: «كان إذا سمع الصارخ قام فصلى» (5) والصارخ: الديك، وقد جرت العادة بأن الديك يصيح عند نصف الليل أو ثلثه.

من آداب قيام الليل:

من شرح الله تعالى صدره وأراد قيام الليل، فيسنُّ له مراعاة الآداب الآتية:

1 - الاستعداد بما يُعينُ على القيام: ويكون هذا بأمور منها: (أ) نوم القيلولة -في الظهيرة- إن تيسَّر.

(ب) ترك السهر في غير مصلحة شرعية، وقد تقدم كراهة الكلام بعد العشاء إلا لمصلحة شرعية.

_________

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صحيح: أخرجه النسائي (1626)، وله شاهد عن أم سلمة.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1132)، ومسلم (741).

 

(1/401)

 

 

(جـ) «الأولى لمن غلبه الكسل، والميل للدعة والترفه، أن لا يبالغ في حشو الفراش، لأنه سبب لكثرة النوم والغفلة والشغل عن مهمات الخيرات» (1).

قلت: وقد كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم خشنًا، فعن عمر قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه» (2).

وعن عائشة قالت: «كانت وسادته التي ينام عليها بالليل من أَدَمٍ حَشْوُها لِيفٌ» (3).

2 - أن ينوي عند نومه القيام:

فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى إلى فراشه وهو ينوي أن يقوم فيصلي من الليل، فغلبته عينه حتى يصبح كُتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربِّه» (4).

3 - أن ينام على وضوء: وقد تقدم في «أبواب الوضوء» أن هذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

3 - أن ينام على وضوء: وقد تقدم في «أبواب الوضوء» أن هذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

4 - أن ينام على شقِّه الأيمن: فعن حفصة قالت: «كان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خدِّه الأيمن» (5) فالنوم على الشق الأيمن هو الفطرة كما سيأتي في حديث البراء بن عازب.

فائدة: في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنب الأيمن سر لطيف وهو: «أن العلق معلقَّ في الجانب الأيسر، فإذا نام على شقه الأيسر، استثقل نومًا، لأنه لا يكون في دعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شقه الأيمن، فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب، وطلبه مستقره وميله إليه، ولهذا استحب الأطباء النوم على الجانب الأيسر لكمال الراحة وطيب المنام، وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن لئلا يثقل نومه فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفع للقلب، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن، والله أعلم» اهـ (6).

_________

(1) «فيض القدير» (5/ 180).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (2468)، ومسلم (1479) واللفظ له.

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (14146)، والترمذي (2469)، وهو في «صحيح الجامع» (4714).

(4) حسن: أخرجه النسائي (1784)، وابن ماجه (1344)، والبيهقي (3/ 15).

(5) صححه الألباني: وانظر «صحيح الجامع» (4523).

(6) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 321، 322).

 

(1/402)

 

 

5 - وإن خاف ألا يستيقظ للقيام أوتر قبل أن ينام: فإذا استيقظ صلى ما شاء ثم لم يكرر الوتر، وقد تقدم هذا في «الوتر».

6 - أن يذكر الله تعالى عند نومه: وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّة أذكار، فمن ذلك:

(أ) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفَّيه ثم نفث فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات» (1).

(ب) وعن أبي هريرة أن الشيطان قال له، لما أراد أن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بهنَّ -وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) حتى تختمها فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقك، وهو كذوب، وذاك الشيطان» (3).

(جـ) وعن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (4) أي: دفعتا عنه الشر والمكروه، وقيل أجزأتا عنه من قيام الليل بالقرآن.

(د) عن نوفل الأشجعي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك» (5).

(هـ) عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام قال: «باسمك اللهم أموت وأحيا» وإذا استيقظ من منامه قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5018)، ومسلم (2192).

(2) سورة البقرة، الآية: 256.

(3) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا (3275)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (959).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (4008)، ومسلم (808).

(5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (5055)، والترمذي (3401)، وأحمد (5/ 456)، وانظر «صحيح الترغيب» (604)، و «صحيح الجامع» (1161).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (6312)، وأبو داود (5049)، والترمذي (3413).

 

(1/403)

 

 

(و) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بِصَنفَه إزاره (1) ثلاث مرات، فإنه لا يدري ما خلفه عليه بعد، وإذا اضطجع فليقل: «باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» (2).

(ز) وعن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولفاطمة -لما سألاه خادمًا-: «ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم: إذا أوتما إلى فراشكما فسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا ثلاثًا وثلاثين، فإنه خير لكما من خادم» (3).

(ح) عن ابن عمر أنه أمر رجلاً أخذ مضجعه أن يقول: «اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفَّاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتَها فاحفظها، وإن أمَتَّها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية» قال ابن عمر سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).

ويستحب أن يختم ما تيسَّر له مما سبق بما في الحديث الآتي:

(ط) عن البراء بن عازب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيِّك الذي أرسلت، فإن مِتَّ مِتَّ على الفطرة، فاجعلهنَّ آخر ما تقول».

فقلت أستذكرهنَّ: وبرسولك الذي أرسلت، قال: «لا، وبنبيِّك الذي أرسلت» (5).

7 - أن يمسح النوم عن وجهه - إذا استيقظ- ويذكر الله ويتوضأ:

(أ) فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقُد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارْقُد، فإن استيقظ وذكر الله تعالى انحلَّتْ عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن

_________

(1) أي: بحاشية ثوبه.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (6320)، ومسلم (2714).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (3705)، ومسلم (2727).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (2712)، والنسائي في «اليوم والليلة» (796)، وأحمد (2/ 79).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710).

 

(1/404)

 

 

صلَّى انحلَّت عُقَدهُ كلها فأصبح نشيطًا طيِّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» (1).

(ب) وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارَّ (2) من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استُجيب له، فإن توضأ وصلَّى قُبِلت صلاتُه» (3).

(ج) عن ابن عباس قال: بتُّ عند خالتي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل -أو قبله بقليل أو بعده بقليل- استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شنٍّ معلقةٍ فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلِّي ...» الحديث (4).

يريد: قوله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} (5). إلى آخر السورة.

8 - أن يستعمل السواك:

فعن حذيفة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل (وفي رواية: ليتهجد) يشوص فاه بالسواك» (6).

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يصلي بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك» (7).

يعني: يتسوك لكل ركعتين.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1142)، ومسلم (776).

(2) (تعارَّ): استيقظ.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1154)، والترمذي (3414)، وأبو داود (5060)، وأحمد (5/ 313).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (183)، ومسلم (763).

(5) سورة آل عمران، الآية: 190.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (246)، ومسلم (255).

(7) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجه (228)، وأحمد (1784)، وهو في «صحيح الجامع» (4837).

 

(1/405)

 

 

وقد يكون السواك بعد الاستيقاظ أو بعد الوضوء وكلاهما علة له.

9 - أن يفتتح قيامه بركعتين خفيفتين:

فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» (1).

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» (2).

وذلك لينشط بهما لما بعدهما، وهذا هو الأفضل، وإلا فلا حرج أن يفتتح بركعتين طويلتين، فقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا، كما يظهر من حديث حذيفة قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح بالبقرة فقلت: يركع عند المائة الأولى ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلاً ...» (3).

10 - أن يستفتح صلاته بالليل -بعد التكبير- بأحد الأدعية الآتية:

(أ) عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليتهجَّد قال: «اللهم لك الحمد أنت قيِّم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق ووعدُك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيُّون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أَنَبْتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ما قدمتُ وما أخرتُ، وما أسررت وما أعلنتُ، [وما أنت أعلم به مني] أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله» (4).

(ب) وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل: «اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالمَ الغيب

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (767)، وأحمد (22890).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (768)، وأبو داود (1323)، والترمذي في «الشمال» (265).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (772)، والنسائي (1664)، وأبو داود (874).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1069)، ومسلم (769).

 

(1/406)

 

 

والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (1).

(جـ) وعن حذيفة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فكان يقول:

«الله أكبر (ثلاثًا) ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» (2).

قلت: وله أن يدعو بما شاء من أدعية الاستفتاح الأخرى التي ذكرناها في «واجبات الصلاة».

11 - أن يطيل القيام ما استطاع من غير أن يشق على نفسه:

فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصلاة طول القنوت» (3).

قال النووي: «المراد بالقنوت هنا القيام باتفاق العلماء فيما علمت، وفيه دليل للشافعي ومن يقول كقوله: إن تطويل القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود» اهـ.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القيام:

فعن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه ...» (4).

وتقدم في حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة وعن ابن مسعود قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال، حتى هممت بأمر سوء».

قيل: وما هممت به؟ قال: «هممت أن أجلس وأدعه» (5).

قال الحافظ في «الفتح» (3/ 19): «وفي الحديث دليل على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قويًّا محافظًا على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما همَّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده» اهـ.

فائدة: التطويل لا يختص بالقراءة، بل هو مستحب كذلك في الركوع والسجود والقعود والذكر والدعاء وجميع هيئات الصلاة:

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (770).

(2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (1069)، وانظر «المشكاة» (1200).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (756)، وغيره.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (3748)، ومسلم (2820).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1135)، ومسلم (773).

 

(1/407)

 

 

ففي حديث حذيفة الذي فيه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالبقرة والنساء وآل عمران في الركعة: «... ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه» (1).

وفي حديث عائشة: «... ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ..» (2).

قلت: وليس هذا التطويل في القراءة وغيرها شرطًا في صلاة الليل، وإنما هو الأفضل والأكمل لمن قدر عليه، وقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم -أحيانًا- يقرأ في كل ركعة قدر خمسين آية أو أكثر» (3) وكان يقول: «من صلى ليلة بمائة آية لم يُكتب من الغافلين» (4).

12 - وله القيام والقعود في صلاته: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل ثلاثة أنواع:

الأول: أنه كان يصلي قائمًا: كما في الأحاديث المتقدمة.

الثاني: أنه كان يصلي قاعدًا ويركع قاعدًا: فعن عائشة قالت: «لم يَمُتْ النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان كثير من صلاته وهو جالس» (5) وفي رواية أن هذا كان لما بدَّن وثَقُل.

وعنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليلاً طويلاً قائمًا، وليلاً طويلاً قاعدًا، فإذا صلى قائمًا ركع قائمًا، وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا» (6).

الثالث: أنه كان يقرأ قاعدًا، فإذا بقي يسير من قراءته، قام فركع قائمًا. فعن عائشة قالت: «كان صلى الله عليه وسلم يصلي جالسًا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية، قام فقرأ وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك» (7).

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه.

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1336)، وابن ماجه (1358)، وأحمد (6/ 83).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (994).

(4) صححه الألباني: وانظر «الصحيحة» (643)، و «صحيح الترغيب» (636).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (735)، والنسائي (1656).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (730)، وأبو داود (955)، والنسائي (3/ 219).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (1118)، ومسلم (731) واللفظ له.

 

(1/408)

 

 

13 - وإذا كسل أو فتر أو غلبه النوم، فَلْيَنَمْ، فإذا نشط صلَّى:

فعن أنس قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وحبل ممدود بين ساريتين، قال: «ما هذا؟» قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت -أو: فترت- أمسكت به، فقال: «حُلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل -أو فتر- فليرقد» (1).

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نعس أحدكم في الصلاة، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلَّى وهو ناعس، لعلَّه يذهب يستغفر فَيَسُب نفسه» (2).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم من الليل، فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يَدْرِ ما يقول، فليضطجع» (3).

14 - ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها:

قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (4).

وعن حفصة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها» (5).

وعن يعلى بن مملك أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته؟ فنعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءته مفسرة حرفًا حرفًا» (6) والمراد: حسن الترتيل والتلاوة.

وعن قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كانت مدًّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: يمدُّ بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم» (7) والمراد: أنه كان يمد ما كان في كلامه من حروف المد واللين بالقدر المعروف.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1150)، ومسلم (784).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (212)، ومسلم (786).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (787)، وأبو داود (1311)، وابن ماجه (1372).

(4) سورة المزمل، الآية: 4.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (733)، ومالك (311)، والنسائي (1658).

(6) صححه الألباني: وانظر «المشكاة» (1210)، و «صفة الصلاة» (ص/ 124).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (5046)، والنسائي (1014)، وأبو داود (1465) مختصرًا، وابن ماجه (1353)، وأحمد (11835).

 

(1/409)

 

 

وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يُقطِّع قراءته آية آية: (الحمد لله رب العالمين) ثم يقف، (الرحمن الرحيم) ثم يقف» (1).

ويستحب أن يتغنى بالقرآن، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن» (2).

وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أَذِنَ الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن يجهر به» (3).

ومعنى يتغنى: يحسِّن صوته جاهرًا مترنَّمًا على طريق التحزُّن، مما له تأثير في رقة القلب وإجراء الدمع، بشرط ألا يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، وأما تمطيط القراءة، والتلحين الزائد فيها مما يخرج بالكلام عن موضعه فقد كرهه جمهور العلماء، والله أعلم.

هل يجهر بالقراءة أو يُسِرُّ؟

كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ بالقراءة في صلاة الليل تارة، ويجهر أخرى:

فعن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بصلاته أم يخافت بها؟ قالت: «ربما جهر بصلاته، وربما خافت بها» قلت: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة (4).

وعن ابن عباس قال: «كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: ربما يسمعه من في الحجرة، وهو في البيت» (5) يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوسط بين الجهر والإسرار.

قلت: وهذا هو المستحب، فعن أبي قتادة قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة، فإذا هو بأبي بكر الصديق يخفض من صوته، قال: ومرَّ بعمر وهو صلي رافعًا صوته، قال: فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، مررت بك

_________

(1) صححه الألباني: وانظر «صحيح الجامع» (4876).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (7527)، وكأن الصواب عن أبي هريرة الذي بعده، ومع هذا فقد أخرجه بهذا اللفظ أبو داود (1469)، وأحمد (1396) وغيرهما عن سعد وغيره بلفظه.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (5023)، ومسلم (792).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (307)، والنسائي (1/ 199)، وأبو داود (1437)، وأحمد (6/ 73).

(5) حسن: أخرجه أبو داود (1327)، والترمذي في «الشمائل» (275 - مختصر)، وأحمد (1/ 271).

 

(1/410)

 

 

وأنت تصلي تخفض صوتك» قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله، وقال لعمر: «مررت بك وأنت تصلي رافعًا صوتك» فقال: يا رسول الله أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئًا» وقال لعمر «اخفض من صوتك شيئًا» (1).

وعلى هذا النحو يحمل سماع النبي صلى الله عليه وسلم أصوات الأشعرين بالقرآن، ومروره صلى الله عليه وسلم وسماعه لأبي موسى وهو يقرأ من الليل، وقوله: «يا أبا موسى، لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود» (2).

قال النووي: «جاءت أحاديث بفضيلة رفع الصوت بالقراءة، وآثار بفضيلة الإسرار، قال العلماء: والجمع بينهما أن الإسرار أبعد من الرياء، فهو أفضل في حق من يخافه، فإن لم يخف فالجهر أفضل، بشرط أن لا يؤذي غيره من مصلٍّ أو نائم أو غيرهما» اهـ.

15 - تدبُّر الآيات، والتعوُّذ والتسبيح في القراءة، والبكاء في الصلاة:

(أ) جاء في حديث حذيفة في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم: «... يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تَعَوَّذ ...» (3).

«فينبغي للمؤمنين سواه أن يكونوا كذلك، بل هم أولى به منه، إذا كان الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، وهم من أمرهم على خطر» (4).

(ب) وعن أبي ذر قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح، يردِّدها، والآية: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5).

(جـ) وعن عبد الله بن الشخير قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز المِرْجَل [من البكاء]» (6).

_________

(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (1329)، والترمذي (447) بنحوه.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1322).

(3) «فيض القدير» للمناوي (5/ 160) ط. المكتبة التجارية.

(4) صححه الألباني: أخرجه النسائي (1010)، وابن ماجه (1350)، وانظر «صفة الصلاة» (ص/ 121).

(5) سورة المائدة، الآية: 118.

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (904)، والنسائي (1214)، وأحمد (15722).

 

(1/411)

 

 

(د) وقد مرَّ قول عائشة -لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصلي أبو بكر بالناس-: «إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يَقُمْ مقامك لا يُسمع الناس ...» (1) تعني من بكائه. وفي رواية: «إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء ...».

(هـ) وقال عبد الله بن شداد: «سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف، يقرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (2) (3).

16 - الإكثار من الدعاء -وقت السحر- في الصلاة وخارجها:

لما مرَّ من أن هذا وقت نزول الرَّب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا لإجابة الداعي وإعطاء السائل.

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الليل لساعةً، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة» (4).

وقد مرَّت أدعية النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة الليل.

ويستحب أن يكثر من الدعاء في السجود، فهو مظنة الاستجابة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء» (5).

وقال: «... وأما السجود فأكثروا من الدعاء فيه، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم» (6).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، يقول: «اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءًا عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418).

(2) سورة يوسف، الآية: 86.

(3) إسناده صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا ووصله سعيد بن منصور (1138)، وابن أبي شيبة (5/ 405)، وعبد الرزاق (2/ 114)، والبيهقي في «الشعب» (2/ 364)، وقال شيخ الإسلام (22/ 623): هذا الأثر محفوظ عن عمر. اهـ.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (757).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (482)، والنسائي (1137)، وأبو داود (875).

(6) صحيح: تقدم في «واجبات الصلاة».

(7) صحيح: أخرجه مسلم (486)، وغيره.

 

(1/412)

 

 

17 - ويستحب إيقاظ الأهل لصلاة الليل: وقد تقدم في «فضائل قيام لليل».

18 - وأن يضطجع بعد القيام وقبل الفجر: ليكون كالفاصل ما بين صلاة التطوع والفريضة، ويحصل بسببه النشاط لتأدية صلاة الصبح، لأنه لو وصل القيام بصلاة الفجر، لم يأمن أن يكون وقت القيام إليها ذاهب النشاط والخشوع لما به من التعب والفتور.

وقد مرَّت الأدلة على استحباب ذلك في «الوتر».

19 - يكره -لمن اعتاد قيام الليل- أن يتركه: فعن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» (1).

قيام الليل عند الشدائد:

إذا اشتدت الكروب، وضاقت الحيل، فلا سبيل إلاَّ قرع باب الملك الذي بيده مقاليد كل شيء، والقيام بين يديه ومناجاته في جنح الليل:

فعن علي رضي الله عنه قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح» (2).

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى صلَّى وانصرف إليهم ...» الحديث (3).

عدد ركعات قيام الليل:

1 - العدد المستحب: يُستحب أن لا يُزاد في عدد ركعات قيام الليل على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة، فإن هذا هو الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه:

(أ) فعن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: «سبع وتسع وإحدى عشرة، سوى ركعتي الفجر» (4).

(ب) وسألها أبو سلمة بن عبد الرحمن فقالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1153)، ومسلم (1159).

(2) صحيح: أخرجه أحمد (973)، وانظر «صحيح الترغيب» (546).

(3) حسن: أخرجه أحمد (6771).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1139).

 

(1/413)

 

 

في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا» (1).

(جـ) وعن ابن عباس قال: «كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل» (2).

(د) وعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: «لأرمقنَّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة» (3).

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت إحدى عشرة، وأما الركعتان الأخريان فقيل: هما ركعتا الفجر، وقيل: هما نافلة العشاء، وهذا إن سلم في بعض الروايات فلن يسلم في الأخرى، وقيل: هما الركعتان الخفيفتان اللتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته بهما، ولعلَّ هذا أوجهَ (4).

2 - هل يجوز الزيادة على هذا العدد؟

هذه مسألة تثير جدلاً بين ناشئة طلاب العلم مع إخواننا الحريصين على السنة، فقالوا: لا يجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة!! تقليدًا منهم لأحد الأئمة الفضلاء المعاصرين، ولعله -في هذا- أصاب أجرًا واحدًا.

فإن الجماهير من السلف والخلف على جواز الزيادة على هذا العدد، مع قولهم بأنه المستحب، ولذا قال القاضي عياض: «ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عيه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه والله أعلم» اهـ.

وقال ابن عبد البر في «التمهيد»: «فلا خلاف بين المسلمين أن صلاة الليل ليس فهيا حد محدود وأنها نافلة وفعل خير وعمل بر، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر» اهـ.

_________

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1138)، ومسلم (764).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (765).

(4) وهو الذي اختاره الحافظ في «الفتح» (3/ 21).

 

(1/414)

 

 

قلت: ومما يدل على صحة هذا المذهب ما يأتي (1):

1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» (2).

2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «أعنِّي على نفسك بكثرة السجود» (3).

3 - قوله صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطَّ عنك خطئية» (4).

4 - أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه هذا العدد لا يصلح أن يكون مخصِّصًا للأدلة السابقة، وذلك لأمور:

(أ) لأن فعله صلى الله عليه وسلم لا يخصص قوله كما هو مقرر في الأصول.

(ب) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه عن الزيادة على إحدى عشرة ركعة، بل حدَّد لنا أحب القيام إلى الله وهو قيام داود عليه السلام «ثلث الليل».

ولذا قال شيخ الإسلام (22/ 272 - 273): «قيام رمضان لم يوقِّت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عددًا معينًّا، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات .... ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ ...» اهـ.

(جـ) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهذا العدد من قيام الليل، ولو فُرض أنه أمر به -وهذا لا يقول به أحد- فلا يصلح كذلك أن يخصص عمومات الأدلة المتقدمة، لما تقرر في الأصول من أن العام لا يخصص بأحد أفراده إلا عند التعارض.

5 - أن من أراد موافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يلزمه أن يوافقها عددًا وصفة، كمًّا وكيفًا، وقد قدَّمنا صفة تطويل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وهو يصلي هذا العدد من الركعات، والناظر في الآيات التي مرَّت في «فضائل القيام» يجد أن المعوَّل فيها على زمن القيام، فإن كان الشخص الذي يريد موافقة السنة لا يطيق هذا التطويل -لا سيما إن كان يصلي بالناس- أفنمنعه من زيادة عدد الركعات

_________

(1) ولشيخنا مصطفى العدوي -رفع الله قدره- رسالة لطيفة في «عدد ركعات قيام الليل» قرر فيها هذه المسألة وقد استفدت منها.

(2) صحيح: تقدم تخريجه.

(3) صحيح: تقدم تخريجه.

(4) صحيح: تقدم تخريجه.

 

(1/415)

 

 

ليكون أرفق به وبمن وراءه، وأعون له على إحياء ثلث الليل!! وهل يكون من صلى إحدى عشرة ركعة في ساعة أفضل ممن صلى عشرين أو أكثر أو أقل في أربع ساعات!!!

نعم، لا خلاف في أنه لو وافق السنة في العدد والوقت معًا فهو الأفضل، وإلا فحسبما تيسَّر له.

6 - قد ثبت «أن عمر بن الخطاب جمع الناس -في قيام رمضان- على أُبي بن كعب وتميم الداري، على إحدى وعشرين ركعة، وكانوا يقرءون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر» (1).

وثبت كذلك أنه جمعهم على إحدى عشرة ركعة كما سيأتي في «التراويح».

قضاء قيام الليل: يستحب لمن فاته قيام الليل -وقد اعتاده- لنوم أو مرض أن يقضيه نهارًا قبل الظهر.

فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة» (2).

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل» (3).

قيام رمضان (التراويح):

فضلها ومشروعيتها: صلاة التراويح سنة مؤكدة للرجال والنساء في رمضان، وهي من أعلام الدين الظاهرة (4).

وهي المرادة بقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه» (5).

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7730)، وابن الجعد (2926)، ومن طريقه البيهقي (2/ 496) لكن عندهما (عشرون ركعة).

(2) صحيح: تقدم في «قضاء الوتر».

(3) صحيح: تقدم في «قضاء الوتر».

(4) «رد المختار» (1/ 472)، و «حاشية العدوي» (1/ 352)، و «المجموع» (4/ 31).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (2009)، ومسلم (759).

 

(1/416)

 

 

وقد صلاَّها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في بعض الليالي، ولم يواظب عليها، خشية أن تُكتب عليهم فيعجزوا عنها: فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «صلى في المسجد، فصلى بصلاته الناس، ثم صلى القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم» وذلك في رمضان [فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك]» (1).

الجماعات في التراويح:

تقدم في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى بأصحابه التراويح في بعض الليالي.

وعن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا من الشهر شيئًا، حتى إذا بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا الليلة الرابعة، وقام بنا التي تليها حتى ذهب نحو من شطر الليل، قلنا: يا رسول الله لو نفَّلتنا بقية ليلتنا هذه؟ قال: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حُسبت له بقية ليلته» ثم لم يقم بنا السادسة وقام بنا السابعة، وبعث إلى أهله واجتمع الناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قلت [أي: جبر بن نفير الراوي عن أبي ذر]: وما الفلاح؟ قال: السحور (2).

وبقي الأمر على ذلك حتى كان زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجمع الناس في التراويح على إمام، ففي حديث عروة بن الزبير عن عائشة: «.. قال: فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كذلك كان في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، حتى جمعهم عمر بن الخطاب على أُبيِّ بن كعب، فقام بهم في رمضان، وكان ذلك أول اجتماع الناس على قارئ واحد في رمضان» (3).

وعن عبد الرحمن بن عبد القادر قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: «إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل» ثم عزم فجمعهم على أُبيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1129)، ومسلم (761).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (3/ 202)، وابن ماجه (1327).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (924)، والنسائي (4/ 155) وغيرهما.

 

(1/417)

 

 

والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: «نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يعني آخر الليل- وكان الناس يقومون أوَّله» (1).

ثم استمر العمل على هذا حتى الآن، ولذا اتفق أهل العلم على مشروعية الجماعة في التراويح.

عدد ركعات التراويح:

قد مرَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة أو ثلاثة عشرة ركعة في قيام الليل في بيته.

«وأما الليالي التي صلى فيها التراويح بأصحابه فلم يُذكر عدد الركعات فيها، ولا يصح حديث في تحديد عدد هذه الركعات» (2).

ولذا اختلف أهل العلم في تحديد عددها على أقوال كثيرة منها:

1 - إحدى عشرة ركعة:

(أ) لأنه هو الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه.

(ب) وعن السائب بن يزيد قال: «أمر عمر بن الخطاب أُبيَّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وكان القارئ يقرأ بالمئتين حتى كنا نعتمد على العصيِّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر» (3).

2 - عشرون ركعة غير الوتر: وبه قال أكثر أهل العلم: الثوري وابن المبارك والشافعي وأصحاب الرأي، وهو مروي عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة (4) ودليلهم:

ما جاء عن السائب بن يزيد (أيضًا) (5): «أن عمر جمع الناس على أُبيِّ بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة ويقرءون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (2010)، ومالك (252) واللفظ له.

(2) «المصابيح في صلاة التراويح» (ص: 14 - 15) للسيوطي بنحوه.

(3) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 115).

(4) «شرح السنة» (4/ 120)، و «البدائع» (1/ 288)، و «المغنى» (1/ 208)، و «المجموع» (4/ 32 - 33).

(5) ما أدري إن كان هذا الأثر والذي قبله يُعلُّ أحدهما الآخر أم يحملان على تعدد الوقائع!! على أن رواية العشرين لها شواهد.

(6) إسناده صحيح: تقدم قريبًا في عدد ركعات قيام الليل.

 

(1/418)

 

 

قال الكاساني: جمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان على أُبي ابن كعب فصلى بهم عشرين ركعة ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعًا منهم على ذلك.

3 - تسع وثلاثين بالوتر: وهو قول مالك (1) وقال: «هو الأمر القديم عندنا» وحجته: ما جاء عن داود بن قيس قال: «أدركت الناس بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستًّا ويوترون بثلاث» (2).

4 - أربعون ركعة ويوتر بسبع: قال الحسن بن عبيد الله «كان عبد الرحمن بن الأسود يصلي بنا في رمضان أربعين ركعة ويوتر بسبع» (3) وعن أحمد بن حنبل أنه كان يصلي في رمضان ما لا يحصى (4).

قلت: والتحقيق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (» / 272 - 273):

«... وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن، والأفضل يخلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان منهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره -هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملون فالقيام بعشرين ركعة هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر والأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك، ولا يكره شيء من ذلك، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره.

ومن ظن أن قيام رمضان في عد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد ولا ينقص منه فقد أخطأ ...» اهـ.

قلت: وهكذا فليكن الفقه، فأين هذا من بعض إخواننا الذين يفارقون جماعة التراويح في «الحرم» وينصرفون بعد صلاة عشر ركعات!! عفا الله عنا وعنهم.

_________

(1) «المدونة» (1/ 193)، و «شرح الزرقاني» (1/ 284).

(2) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 393)، وابن نصر في «قيام رمضان» (ص/ 60).

(3) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 393).

(4) «كشاف القناع» (1/ 425)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 563).

 

(1/419)

 

 

الاستراحة بين كل ترويحتين:

اتفق الفقهاء على مشروعية الاستراحة بعد كل أربع ركعات، لأنه المتوارث عن السلف، فقد كانوا يطيلون القيام في التراويح ويجلسون بعد كل أربع للاستراحة (1).

قلت: ولعلَّ الأصل في هذا قول عائشة رضي الله عنها -الذي تقدم كثيرًا- في وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم: «... يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأ عن حسنهن وطولهن ...» فهو مشعر بالفصل بين كل أربع.

ولا يشرع في هذه الاستراحة ذكر مُعيَّن ولا غيره كما يفعله بعض الجهال.

القراءة في «التراويح»، وهل يُختم القرآن؟

لم يرد في تحديد القراءة في التراويح سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيختلف باختلاف الأحوال، ويقرأ الإمام قدر ما لا يُنفِّرهم عن الجماعة، ولو اتفق جماعة يرضون بالتطويل فهو أفضل للآثار المتقدمة.

وقد استحب الحنفية والحنابلة أن يختم القرآن الكريم في الشهر، ليسمع الناس جميع القرآن في تلك الصلاة (2).

القيام مع الإمام حتى ينصرف:

ينبغي لمن صلى خلف الإمام أن يتم معه الصلاة حتى ينصرف، وألا يفارقه قبل انصرافه، ففي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة» (3) وإن أوتر الإمام آخر صلاته أوتر معه، ولو كان في نيَّته القيام بالليل، فإن هذا لا يضرُّ كما تقدم تحريره، والله أعلم.

_________

(1) «رد المختار» (1/ 474)، و «حاشية العدوي» (2/ 321)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 564).

(2) «فتح القدير» (1/ 335)، و «البدائع» (1/ 289)، و «المغنى» (2/ 169).

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (3/ 83)، وابن ماجه (1327).

 

(1/420)

 

 

صلاة الضُّحىَ

الضحى عند الفقهاء: ما بين ارتفاع الشمس إلى زوالها (1).

فضل صلاة الضحى: ثبتت أحاديث كثيرة في فضلها، ومن ذلك:

1 - حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُصبح على كلِّ سُلامى (2) من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» (3).

2 - وعن بريدة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، عليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة» قالوا: فمن الذي يطيق يا رسول الله؟ قال: «النخامة في المسجد يدفنها، أو الشيء ينحيه عن الطريق، فإن لم يقدر فركعتا الضحى تجزئ عنه» (4).

«والحديثان يدلاَّن على عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها، وتأكد مشروعيتها، وأن ركعتيها تجزيان عن ثلاثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة ...» (5).

3 - وعن زيد بن أرقم قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلُّون الضحى، فقال: «صلاة الأوَّابين حين ترمض الفصال» (6).

4 - وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: «ابنَ آدم، اركع لي ركعات من أوَّل النهار، أَكْفِكَ آخره» (7).

5 - وعن عبد الله بن عمرو قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فغنموا وأسرعوا الرجعة، فتحدَّث الناس بقرب مغزاهم وكثرة غنيمتهم وسرعة رجعتهم،

_________

(1) «حاشية ابن عابدين» (2/ 23) ط. الفكر.

(2) السُّلامى في الأصل: عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في عظام البدن ومفاصله.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (720)، وأبو داود (1285)، وأحمد (5/ 167).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (2/ 524)، وأحمد (5/ 354).

(5) «نيل الأوطار» (3/ 78) ط. الحديث.

(6) صحيح: أخرجه مسلم (748)، وأحمد (4/ 366).

(7) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (475) وله شاهد من حديث نعيم بن همار عند أبي داود (1289)، وانظر «الإرواء» (465).

 

(1/421)

 

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلُّكم على أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة؟ من توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبُحة الضحى فهو أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة» (1).

حكم صلاة الضحى:

اختلف أهل العلم في حكم صلاة الضحى على ستة أقوال (2)، أقربها ثلاثة:

الأول: تستحب مطلقًا، ويستحب المواظبة عليها، وهو مذهب الجمهور (3) خلافًا للحنابلة، وحجتهم:

1 - عموم الأحاديث المتقدمة في فضل صلاة الضحى، وخصوصًا حديث: «يصح على كل سلامى من أحدكم صدقة ...».

2 - حديث أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد» (4) ونحوه عن أبي الدرداء وأبي ذر.

3 - حديث معاذة العدوية قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: «نعم، أربعًا ويزيد ما شاء» (5).

قال الشوكاني في «النيل» (3/ 76): ولا يخفاك أن الأحاديث الواردة بإثباتها قد بلغت مبلغًا لا يقصر البعض منه عن اقتضاء الاستحباب. اهـ.

وقال الحافظ في «الفتح» (3/ 66): وقد جمع الحاكم الأحاديث الواردة في صلاة الضحى في جزء مفرد، ... وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفسًا من الصحابة. اهـ.

4 - وأما المواظبة عليها فلقوله صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل إلى الله تعالى ما دام عليه صاحبه وإن قلَّ» (6).

_________

(1) صححه الألباني: أخرجه أحمد (2/ 175)، وانظر «صحيح الترغيب» (663 - 664).

(2) «زاد المعاد» (1/ 341 - 360)، و «بدائع الفوائد» و «فتح الباري» (3/ 66).

(3) «عمدة القاري» (7/ 240)، و «مواهب الجليل» (2/ 67)، و «روضة الطالبين» (1/ 337)، و «المغنى» (2/ 132).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1178)، ومسلم (721).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (719)، وابن ماجه (1381).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (43)، ومسلم (782) واللفظ له.

 

(1/422)

 

 

الثاني: يستحب فعلها تارة وتركها أخرى، ولا يواظب عليها: وهو المذهب عند الحنابلة (1) وحجتهم:

1 - حديث أبي سعيد قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» (2) وهو ضعيف.

2 - في حديث أنس -في قصة صلاة النبي في بيت عتبان بن مالك الضحى- وقال فلان ابن الجاورد لأنس رضي الله عنه: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قال: «ما رأيته صلَّى غير ذلك اليوم» (3).

3 - حديث عائشة قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبَّح [تعني: صلَّى] سُبْحة الضحى، وإني لأُسبَّحها [وإن كان ليدع العمل وهو يجب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم]» (4).

الثالث: لا تشرع إلا لسبب: كفوات قيام الليل ونحوه وهذا ما اختاره ابن القيم بعد بسط الأقوال في المسألة (5).

واحتج القائلون به بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا بسبب، واتفق وقوعها وقت الضحى وتعدد الأسباب:

1 - فحديث أم هانئ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات [سبحة الضحى] فلم أر صلاة قطُّ أخفَّ منها غير أنه يتم الركوع والسجود» (6). كان بسبب الفتح، قالوا: وسنة الفتح أن يصلي ثماني ركعات، ونقله الطبري من فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة.

2 - وصلاته صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان بن مالك إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته في مكان يتخذه مصلى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى فاختصره الراوي فقال: «صلى في بيته الضحى» (7).

_________

(1) «الفروع» لابن مفلح (1/ 567).

(2) ضعيف: أخرجه الترمذي (477)، وأحمد (3/ 21 - 36)، وانظر «الإرواء» (460).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (670).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1177/ 1128)، ومسلم (718).

(5) «زاد المعاد» (1/ 341 - 360)، و «بدائع الفوائد» (1/).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1176)، ومسلم (719)، والزيادة لأبي داود (1290).

(7) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.

 

(1/423)

 

 

3 - وعن عبد الله بن شقيق أنه قال لعائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: «لا، إلا أن يجيء من مغيبه» (1).

لأنه كان ينهى عن الطروق ليلاً، فيقدم أول النهار فيبدأ بالمسجد فيصلي وقت الضحى.

قالوا: وأما أحاديث الترغيب فيها والوصية بها فلا تدل على أنها سنة راتبة لكل أحد، ولهذا خص بذلك أبا ذر وأبا هريرة، ولم يوص بذلك أكابر الصحابة!!.

قال ابن القيم: «ومن تأمَّل الأحاديث المرفوعة وآثار الصحابة وحدها لا تدل إلا على هذا القول» اهـ.

وقد اختار شيخ الإسلام أن من كان من عادته قيام الليل فإنه لا يُسنُّ له صلاة الضحى، وأما من لم تكن عادته صلاة الليل فإنه يُسنُّ له صلاة الضحى مطلقًا كل يوم (2).

قلت: ولا يخفى أن القول الأول أصحُّ، لعموم الترغيب في فعل صلاة الضحى، وكونها تجزئ عن الثلاثمائة والستين صدقة التي كل إنسان، وأما ما ورد عن بعض الصحابة من إنكارها كابن مسعود وابن عمر وغيرهما فلا يقدح في المشروعية، لأن غيرهما قد أثبت مشروعيتها وكلٌّ روى ما رأى من علم حجة على من لم يعلم.

وكذلك فما ورد من تركه صلى الله عليه وسلم لها هو أو بعض أصحابه في بعض الأوقات لا ينفي مشروعيتها فإنه ليس من شرط المشروعية مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم بل هي مشروعية مرغَّب في فعلها لما تقدم في فضلها، ولذا قالت عائشة: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط وإني لأسبِّحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيُفرض عليهم» (3) والله تعالى أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (717)، وقد جاء عن عائشة روايات مختلفة، فهنا قيدت صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى بمجيئه من السفر، وفي مسلم كذلك نفي رؤيتها لصلاته مطلقًا، وفي أخرى: الإثبات مطلقًا، وقد ذهب طائفة من العلماء منهم ابن عبد البر إلى ترجيح ما في الصحيحين مع ما انفرد به مسلم، وجمع آخرون بين هذه الرويات. انظر «فتح الباري» (3/ 67).

(2) «الاختيارات» (ص/ 64)، و «الفروع» (1/ 567).

(3) صحيح: تقدم تخريجه.

 

(1/424)

 

 

وقت صلاة الضحى:

يبتدئ وقتها من بعد ارتفاع الشمس وانتهاء وقت الكراهة إلى قبيل زوالها ما لم يدخل وقت النهي عند الجمهور (1) قلت: وعليه فيبتدئ بعد قُرابة ربع ساعة من طلوع الشمس.

وأفضل وقتها: أن تؤخر إلى أن يشتد الحر، لحديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الأوَّابين حين تَرْمِضُ الفصال» (2) ومعناه: أن تحمى الرمضاء -وهي الرمل- فتجد هذه الحرارة الفصالُ (صغارُ الإبل) بخفافها، وهذا يكون قبيل الزوال بدقائق.

وعدد ركعاتها:

لا خلاف بين القائلين باستحباب صلاة الضحى في أن أقلهَّا ركعتان (3) لحديث: «ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» وتقدم، ولحديث أبي هريرة: «أوصاني خليلي بثلاث ... وركعتي الضحى ...».

ثم اختلفوا في أكثر صلاة الضحى على ثلاثة أقوال:

الأول: أكثرها ثمان ركعات: وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (4) لحديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم الفتح وصلى ثماني ركعات ...» (5) الحديث.

الثاني: أكثرها اثنتا عشرة ركعة: وهو مذهب الحنفية ووجه مرجوح عند الشافعية ورواية عن أحمد، لحديث أنس مرفوعًا: «من صلَّى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرًا في الجنة» وهو ضعيف.

_________

(1) «مواهب الجليل» (2/ 68)، و «كشاف القناع» (1/ 442)، و «روضة الطالبين» (1/ 332)، و «أسنى المطالب» (1/ 204).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (748)، وأحمد (4/ 366).

(3) «الفتاوى الهندية» (1/ 112)، و «الدسوقي» (1/ 313)، و «روضة الطالبين» (1/ 332)، و «الإنصاف» (2/ 190).

(4) «الدسوقي» (1/ 313)، و «المجموع» (4/ 36)، و «الروضة» (1/ 332)، و «الإنصاف» (2/ 190)، و «المغنى» (2/ 131).

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(1/425)

 

 

الثالث: لا حد لعدد ركعاتها: وهو مروي عن جماعة من السلف، وهو الأرجح لأمرين:

1 - حديث معاذة قالت: قلت لعائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: «نعم، أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله» (1).

2 - أن الاقتصار على الثماني ركعات في حديث أم هانئ يَردُ عليه أمران، الأول: أن من العلماء من قال أنها صلاة فتح وليست ضحى، والآخر: أن هذا الاقتصار على الثماني لا يستلزم عدم مشروعية الزيادة عليها لأن هذه قضية عين (2).

 

صلاة الاستخارة

من أراد أمرًا من الأمور المباحة، والتبس عليه وجه الخير والصواب فيه، فإنه يُسَنُّ له أن يصلي ركعتين من غير الفريضة -أية ركعتين ولو من السنن الرواتب- ثم يدعو عقبهما بالدعاء الوارد في الحديث الآتي:

عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا هَمَّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقُلْ: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقُدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر [ويُسمِّي حاجته] خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجله وآجله) فاقدره لي ويسَّره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجله وآجله) فاصْرِفْهُ عنِّي واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به» (3) وههنا تنبيهات يجدر الالتفات إليها:

1 - الاستخارة إنما تشرع عند الهمِّ بأمر مباح، فلا تشرع في المستحبات إلا في التخيير بينهما والواجبات والمحرمات.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (719).

(2) «الشرح الممتع» (4/ 120).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (6382)، وأبو داود (1538)، والترمذي (480)، والنسائي (6/ 80)، وابن ماجه (1383).

 

(1/426)

 

 

2 - «ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له، فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسًا وإلا فلا يكون مستخيرًا لله، بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرِّي من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة، ومن اختياره لنفسه» (1).

3 - ليس من شرط الاستخارة أن يرى صاحبها رؤيا في منامه كما يعتقده كثير من العوام، وإنما تكون بما ينشرح له الصدر، أو يأول له الأمر بطبيعته وفق ما اختاره الله تعالى.

4 - ربما جاء اختيار الله تعالى للعبد على غير هواه، أو على ما يراه -هو- شرًا فعليه أن يستسلم لله ولأمره {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (2).

5 - الاستخارة دعاء فلا بأس بتكرارها.

تنبيه: ورد حديث «إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات» (3) وهو باطل لا يصح.

 

صلاة التسبيح

صلاة التسبيح: نوع من صلاة النفل تفعل على صورة خاصة يأتي بيانها، وإنما سميت «صلاة التسبيح» لما فيها من كثرة التسبيح، ففيها في كل ركعة خمس وسبعون تسبيحة (4).

حكم صلاة التسبيح:

اختلف أهل العلم في حكمها لاختلافهم في ثبوت الحديث الوارد فيها وهو:

حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: «يا عباس يا عماه ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره قديمه وحديثه خطأه وعمده صغيره

_________

(1) نقله في «نيل الأوطار» (3/ 90) عن النووي.

(2) سورة البقرة، الآية: 216.

(3) باطل: أخرجه ابن السُّني (603) وسنده واهٍ وانظر «الميزان» (1/ 21).

(4) «نهاية المحتاج» (2/ 119).

 

(1/427)

 

 

وكبيره سره وعلانيته، عشر خصال أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرًا ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرًا ثم تهوي ساجدًا فتقولها وأنت ساجد عشرًا ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرًا ثم تسجد فتقولها عشرًا ثم ترفع رأسك فتقولها عشرًا، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة فغن لم تفعل ففي كل شهر مرة فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة فإن لم تفعل ففي عمرك مرة» (1).

وقد اختلف أهل العلم في حكمها على ثلاث أقوال:

الأول: أنها مستحبة: وبه قال ابن المبارك وغير واحد من أهل العلم، وبعض الشافعية (2) وهؤلاء صححوا الحديث فقالوا به.

الثاني: أنها لا بأس بها (جائزة): وبه قال بعض الحنابلة (3) قالوا: لو لم يثبت الحديث فيها فهي من فضائل الأعمال فيكفي فيها الحديث الضعيف (!!).

_________

(1) ضعيف، واختُلف في تحسينه: أخرجه أبو داود (1297)، وابن ماجه (1387)، والحاكم (1/ 318 - 319)، والبيهقي (3/ 51)، والطبراني (11/ 161)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 25 - 26) وغيرهم من طرق عن ابن عباس، وكلها ضعيفة، وله شواهد كثيرة إلا أنها لا تصلح للاعتضاد، ولذا قال الحافظ في «التلخيص» (2/ 7): «والحق أن طرقه كلها ضعيفة، وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية فيه، وعدم المتاع والشاهد من وجه معتبر، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات» اهـ. قلت: وقد ضعف الحديث جمع من العلماء منهم: الإمام أحمد -وقيل رجع عن تضعيفه- والترمذي وابن العربي وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» وقد ردَّ عليه الحفاظ، وضعفه شيخ الإسلام وتوقَّف فيه ابن خزيمة والذهبي:

 

وقوَّى الحديث جمعٌ كذلك منهم: مسلم وأبو داود -كما نقله المنذري- والحاكم والبيهقي وابن حجر، ومن المعاصرين أحمد شاكر والألباني وغيرهم وقد ألَّف الأخ جاسم الفهيد -حفظه الله- في ذلك رسالة لطيفة بعنوان «التنقيح لما جاء في صلاة التسبيح» فأجاد فيها وخلص إلى تصحيح الحديث، قلت: تحسين هذا الحديث أو تصحيحه بطرقه، محلُّ اجتهاد، فليحرِّره الباحث المجتهد، والله أعلم.

(2) «المجموع» (3/ 647)، و «نهاية المحتاج» (2/ 119).

(3) «المغنى» (2/ 132).

 

(1/428)

 

 

ولذا قال ابن قدامة في «المغنى» (2/ 132): إن فعلها إنسان فلا بأس، فإن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها (!!) اهـ.

الثالث: أنها غير مشروعة وهو مذهب الإمام أحمد، فقد قال: ما تعجبني، قيل له: لم؟ قال: ليس فيها شيء يصح، ونفض يده كالمُنكر (1).

وقال النووي: في استحبابها نظر، لأن حديثها ضعيف، وفيها تغيير لنظم الصلاة المعروفة فينبغي أن لا يفعل بغير حديث، وليس حديثها بثابت. اهـ (2).

قلت: وهذا الأخير أرجح لعدم ثبوت الحديث مع ما فيه من المخالفة لهيئة الصلاة، لكن من رأى باجتهاده -وكان من أهل الاجتهاد- صحة الحديث فيسنُّ له العمل به، وأما القول الثاني بالجواز مع كون الحديث ضعيفًا فهو قول ضعيف، وذلك لأمرين:

1 - أن الصواب أن الحديث الضعيف لا يُعمل به مطلقًا، لا في الفضائل ولا غيرها، وهذا هو مذهب المحققين من أهل العلم وهو ظاهر مذهب البخاري ومسلم ويحيى بن معين وابن حزم وغيرهم (3).

2 - أن القائلين بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال اشترطوا له شروطًا منها أن يكون مندرجًا تحت أصل في الشرع، فمحله الأعمال الثابتة المشروعة أصلاً، وليست الصلاة بهذه الهيئة بثابتة بغير هذا الحديث حتى نعمل به على أنه في فضائل ما هو مشروع!!.

تنبيه: على القول بمشروعية صلاة التسبيح، فإن تحرِّي صلاتها في ليلة السابع والعشرين من رمضان، والاجتماع في المساجد لأدائها بدعة لا أصل لها، والله أعلم.

 

صلاة تحية المسجد

يستحب لمن دخل المسجد أن لا يجلس إلا بعد أن يصلي ركعتين لما يأتي:

1 - حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (4).

_________

(1) «المغنى» لابن قدامة (2/ 132).

(2) «المجموع» (3/ 548).

(3) انظر «تمام المنة» (ص/ 34)، ومقدمة «صحيح الترغيب» (1/ 16 - 36).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (444)، ومسلم (714).

 

(1/429)

 

 

2 - وعن جابر بن عبد الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سليكًا الغطفاني -لما أتى يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقعد قبل أن يصلي الركعتين- أن يصليهما» (1).

3 - حديث جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره لما أتى المسجد لثمن جمله الذي اشتراه منه صلى الله عليه وسلم أن يصلي الركعتين» (2).

والأمر في هذه الأحاديث ظاهره الوجوب، وكذلك النهي ظاهره تحريم ترك الركعتين، وقد ذهب جمهور العلماء -ومعهم ابن حزم- إلى أن الأمر مصروف إلى الندب بجملة أدلة، منها: حديث: «خمس صلوات ... قال: هل عليِّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع» (3).

وقد أجاب عنه الشوكاني -رحمه الله- «بأن قوله (إلا أن تطوع) ينفي وجوب الواجبات ابتداءً، لا الواجبات بأسباب يختار المكلَّف فعلها، كدخول المسجد مثلًا، لأن الداخل ألزم نفسه الصلاة بالدخول، فكأنه أوجبها على نفسه، فلا يصح شمول ذلك الصارف لمثلها» (4) اهـ.

قلت: وقد يؤيد أن هذه الأوامر على الاستحباب: حديث أبي واقد الليثي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» (5).

قلت: فجلسا ولم يأمرهما بصلاة الركعتين، والله أعلم.

فائدة: تقدم في «أوقات النهي» أن تحية المسجد من ذوات السبب التي تفعل في كل وقت ولو في أوقات الكراهة على الأرجح والله أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (930)، ومسلم (875).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (2097)، ومسلم (715).

(3) صحيح: تقدم كثيرًا.

(4) «نيل الأوطار» (3/ 84) ط. الحديث. وهذه الفائدة ظاهرة في الحديث، ولم يستنبطها منه الحافظ (!).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (66).

 

(1/430)

 

 

الصلاة بعد الوضوء:

يستحب لمن توضأ أن يصلي ركعتين أو أكثر في أي وقت -ولو في وقت الكراهة- لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الصبح: «يا بلال، أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة» قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي» (1).

 

صلاة التوبة

من زلَّت قدمه وارتكب ذنبًا، فعليه أن يسارع بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى، فهو سبحانه غافر الذنب وقابل التوب.

والصلاة لأجل التوبة من الذنب مستحبة باتفاق المذاهب الأربعة (2)، لحديث أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له» ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ...} (3) (4). وفي سنده ضعف إلا أن الآية تشهد لمعناه، على أنه قد صححه بعض أهل العلم.

صلاة ركعتين بعد الطواف بالكعبة:

يستحب عند الجمهور -ويجب عند الحنفية- أن يصلي ركعتين بعد الطواف خلف مقام إبراهيم يقرأ فيهما بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجته كما في حديث جابر الطويل (5) وسيأتي في الحج بتمامه.

وتصلي هاتان الركعتان في أي وقت ولو في أوقات النهي، لحديث جبير بن

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1149)، ومسلم (910).

(2) «ابن عابدين» (1/ 462)، و «الدسوقي» (1/ 314)، و «أسنى المطالب»، و «كشاف القناع» (1/ 443).

(3) سورة آل عمران، الآية: 135.

(4) ضعيف: أخرجه الترمذي (406)، وأبو داود (1521)، وابن ماجه (1395)، وفي سنده أسماء بن الحكم، قال الحافظ: صدوق، قلت: بل هو مجهول.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1218)، وسيأتي بتمامه في «الحج».

 

(1/431)

 

 

مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أيَّة ساعة شاء من ليل أو نهار» (1).

 

صلاة الكسوف

تعريفها:

الكسوف: هو ذهاب ضوء أحد النيِّرين (الشمس والقمر) أو بعضه، وتغيُّره إلى سواد، والخسوف مرادف له، وقيل: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وهو الأشهر في اللغة (2).

وصلاة الكسوف: صلاة تؤدى بكيفية مخصوصة، عند ظلمة أحد النيِّرين أو بعضهما (3).

حكم الصلاة لكسوف الشمس:

ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الصلاة لكسوف الشمس سنة مؤكدة، وصرَّح أبو عوانه بوجوبها وهو رواية عن أبي حنيفة، وحُكي عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة، والقول بوجوبها متجه وقوي لثبوت الأوامر بها، ورجَّحه الشوكاني وصدق خان ثم الألباني، رحمهم الله (4).

واختلفوا في حكم الصلاة لخسوف القمر على قولين:

الأول: أنها سنة مؤكدة وتُصلَّى جماعة كصلاة كسوف الشمس: وهو مذهب الشافعي وأحمد وداود وابن حزم، وبه قال عطاء والحسن والنخعي وإسحاق، وهو مروي عن ابن عباس (5) وحجة هذا القول ما يأتي:

1 - حديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فادعوا الله، وصلوا حتى ينجلي ...» (6). ونحوه من حديث عائشة وابن عمر وابن عباس وأبي بكرة.

_________

(1) صحيح: أخرجه الترمذي (869)، والنسائي (5/ 223)، وابن ماجه (1254).

(2) «لسان العرب» و «كشاف القناع» (2/ 60)، و «أسنى المطالب» (1/ 385).

(3) «مواهب الجليل» (2/ 199)، و «نهاية المحتاج» (2/ 394)، و «كشاف القناع» (2/ 60).

(4) «فتح الباري» (2/ 612)، و «السيل الجرار» (1/ 323)، و «الروضة الندية» (ص/ 156)، و «تمام المنة» (ص/ 261).

(5) «الأم» (1/ 214)، و «المغنى» (2/ 420)، و «الإنصاف» (2/ 442)، و «بداية المجتهد» (1/ 160)، و «المحلى» (5/ 95).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1060)، ومسلم (904).

 

(1/432)

 

 

2 - ما رُوى «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لكسوف القمر» (1).

3 - ما رُوى عن ابن عباس: «أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين، وقال: إنما صليت لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي» (2).

الثاني: أنها لا تصلى جماعة، وهي سنة كالنوافل من غير زيادة في الركوع: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك (3) وقالوا: لوجود المشقة في الليل غالبًا دون النهار (!!) ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاَّها جماعة مع أن خسوف القمر كان أكثر من كسوف الشمس.

قلت: والأول أرجح لأمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة لهما من غير تفريق.

وقتها: وقت صلاة الكسوف من ظهور الكسوف إلى حين زواله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم -المتقدم-: «إذا رأيتموهما فادعوا الله وصلُّوا حتى ينجلي» (4) فجعل الانجلاء غاية للصلاة، لأنها شرعت رغبة إلى الله في رد نعمة الضوء، فإذا حصل ذلك حصل المقصود من الصلاة (5).

فواتها: تفوت صلاة كسوف الشمس بأحد أمرين:

1 - انجلاء جميعها، فإن انجلى بعضها جاز الشروع في الصلاة للباقي، كما لو لم ينكسف إلا ذلك القدر.

2 - غروبها كاسفة.

وتفوت صلاة خسوف القمر بأحد أمرين:

1 - الانجلاء الكامل.

2 - طلوع الشمس وقيل بغيابه وهو خاسف، ولو حال سحاب وشك في الانجلاء صلَّى، لأن الأصل بقاء الكسوف (6).

_________

(1) حب، انظر (فتح) (3/ 638).

(2) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (3/ 342) وأخرج نحوه - لكن على ظهر زمزم- الشافعي كما في مسنده (484)، وعنه البيهقي (3/ 342) وسنده تالف.

(3) «ابن عابدين» (2/ 183)، و «البدائع» (1/ 282)، و «مواهب الجليل» (2/ 201)، و «بداية المجتهد» (1/ 312)، و «الدسوقي» (1/ 402).

(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(5) المراجع السابقة.

(6) «المغنى» (2/ 427)، و «روضة الطالبين» (2/ 87)، و «المواهب» (2/ 203).

 

(1/433)

 

 

فائدة: تصلى الكسوف في جميع الأوقات حتى المنهي عن الصلاة فيها، وهو مذهب الشافعي.

ما يستحب لمن رأى الكسوف:

[1] الإكثار من الذكر والاستغفار والتكبير والصدقة وسائر القُرَب: وفي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّرا وصلُّوا وتصدقوا ...» (1).

وعن أسماء قالت: «لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس» (2).

تعني التقرب إلى الله تعالى بإعتقا العبيد.

[2] الخروج للصلاة جماعة في المسجد:

ففي حديث عائشة: «ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبًا فكسفت الشمس، فرجع ضُحىً، فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحُجَر، ثم قام فصلَّى ...» (3).

وفي لفظ مسلم عنها «... فخرجتُ في نسوة بين ظهراني الحُجَر في المسجد، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم من مَرْكَبِه حتى أتى إلى مصلاَّه الذي كان يصلى فيه ..» الحديث.

قال الحافظ في «الفتح» (3/ 633): والمركب الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه بسبب موت ابنه إبراهيم، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد ولم يصلها ظاهرًا، وصحَّ أن السنَّة في صلاة الكسوف أن تصلى في المسجد، ولولا ذلك لكانت صلاتها في الصحراء أجدر برؤية الانجلاء، والله أعلم. اهـ.

[3] يخرج للصلاة النساء:

لحديث أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين خسفت الشمس، فإذا الناس قيام يصلُّون وإذا هي قائمة تصلي ....» (4) الحديث.

وقد تقدم لفظ عائشة: «فخرجت في نسوة بين ظهراني الحجر في المسجد ...».

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1054)، وأبو داود (1192).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1056)، ومسلم (903).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1053)، ومسلم (905).

 

(1/434)

 

 

ويستثنى من هذا من تخشى الفتنة منهن فيصلين في البيوت منفردات.

[4] النداء للصلاة بـ «الصلاة جامعة» من غير أذان ولا إقامة:

فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي: إن الصلاة جامعة» (1). وليس لها أذان ولا إقامة اتفاقًا.

[5] الخطبة بعد الصلاة:

يُسَنُّ أن يخطب لها بعد الصلاة كخطبة العيد، لحديث عائشة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الصلاة قام وخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصلُّوا وتصدقوا» (2) وهو مذهب الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث (3).

وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد (4): لا خطبة لصلاة الكسوف (!!) وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد لها خطبة بخصوصها وإنما أراد أن يبيِّن لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس، وتُعقِّب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل (5).

كيفية صلاة الكسوف:

لا خلاف بين أهل العلم في أن صلاة الكسوف ركعتان، وإنما اختلفوا في كيفيتها على أقوال، أشهرها قولان:

الأول: أنها ركعتان، في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وسجدتان، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد (6) واستدلوا بما يأتي:

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1045).

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) «المجموع» (5/ 52)، و «أسنى المطالب» (1/ 286)، و «فتح الباري» (2/ 620)، و «بداية المجتهد» (1/ 311).

(4) «البدائع» (1/ 282)، و «مواهب الجليل» (2/ 202)، و «المغنى» (2/ 425) والمراجع السابقة.

(5) «فتح الباري» لابن حجر (2/ 620) ط. السلفية.

(6) «الدسوقي» (1/ 405)، و «الأم» (1/ 215)، و «كشاف القناع» (2/ 62)، و «المغنى» (2/ 422).

 

(1/435)

 

 

1 - حديث ابن عباس قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقام قيامًا طويلاً نحوًا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلاً، ثم قام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً، وهو دون الركوع الأول» (1).

2 - حديث عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى يوم خسفت الشمس، فقام فكبَّر فقرأ قراءة طويلة ثم ركع ركوعًا طويلا، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمد، وقام كما هو، ثم قرأ قراءة طويلة وهي أدنى من القراءة الأولى، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهي أدنى من الركعة الأولى، ثم سجد سجودًا طويلاً، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم سلَّم ...» (2).

3 - حديث جابر قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر، فصلى بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم ركع فأطال ثم سجد سجدتين، ثم قام، فصنع نحو ذلك، فكانت أربع ركعات وأربع سجدات» (3).

الثاني: أنها ركعتان، في كل ركعة قيام واحد وركوع واحد وسجدتان كسائر النوافل: وهو مذهب أبي حنيفة، وخيَّر ابن حزم بين الكيفيات جميعها (4)، وحجة أبي حنيفة ومن وافقه:

1 - حديث أبي بكرة قال: «خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد، وثاب الناس إليه، فصلى بهم ركعتين ... الحديث» (5).

قالوا: ومطلق الصلاة تنصرف إلى الصلاة المعهودة (!!) وفي رواية النسائي: «فصلى ركعتين كما يصلون».

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1046)، ومسلم (901).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1047)، ومسلم (901).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (904)، وأبو داود (1179)، والنسائي (1/ 217)، وأحمد (3/ 374).

(4) «البدائع» (1/ 281)، و «تبيين الحقائق» (1/ 228)، و «المحلى» (5/ 95)، و «بداية المجتهد» (1/ 307).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1063)، والنسائي (3/ 146) والطيالسي (716).

 

(1/436)

 

 

2 - حديث النعمان بن بشير قال: «كشفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت» (1).

قال ابن حزم: وهذا اللفظ [يعني: تكرار الركعتين] يقتضي ما ذكرنا. اهـ.

هيئات أخرى: وقد رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاَّها على صفات أُخَر منها:

3 - في كل ركعة ثلاث ركوعات (2).

4 - في كل ركعة أربع ركوعات (3).

قال ابن القيم: «ولكن كبار الأئمة لا يصححون ذلك، كالإمام أحمد والبخاري والشافعي ويرونه غلطًا ...» اهـ (4).

قلت: وأصح الكيفيات: أنها في كل ركعة ركوعان، كما ذهب إليه الجمهور، لتصريح الأحاديث الصحيحة بذلك، وأما أدلة أبي حنيفة ومن وافقه فذكر الركعتين فيهما مطلق، فيقيَّد بأحاديث الفريق الأول.

وأما حديث النعمان بن بشير في صلاة ركعتين ركعتين، فقال الحافظ في الفتح في «المجلد الثالث»: إن كان هذا الحديث محفوظًا احتمل أن يكون معنى قوله (ركعتين) أي: ركوعين ... وقوله: (ويسأل عنها) يحتمل أن يكون السؤال بالإشارة فلا يلزم التكرار» اهـ قلت: وقد تقدم أنه ضعيف فلا نحتاج إلى شيء من التأول.

وأما الروايات في الزيادة على الركوعين في الركعة، فقال شيخ الإسلام (18/ 17 - 18): «... فإن هذا ضعَّفه حُذَّاق أهل العلم، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم، ومعلوم أن إبراهيم لم يمت مرتين، ولا كان له إبراهيمان، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى الكسوف يومئذٍ ركوعين في كل ركعة ...» اهـ.

وقال العلامة الألباني -نضَّر الله وجهه- في «الإرواء» (3/ 132): «... وخلاصة القول في صلاة الكسوف أن الصحيح الثابت فيها عن رسول الله

_________

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1193)، وأحمد (4/ 267)، والطحاوي (1/ 330)، وانظر «الإرواء» (3/ 131).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (901)، وأبو داود (1177)، والنسائي (3/ 129) عن عائشة!!.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (908)، وأبو داود (1183).

(4) «زاد المعاد» (1/ 453) ط. الرسالة.

 

(1/437)

 

 

صلى الله عليه وسلم إنما هو ركوعان في كل ركعة من الركعتين، جاء ذلك عن جماعة من الصحابة في أصح الكتب والطرق والروايات، وما سوى ذلك: إما ضعيف أو شاذ لا يحتج به» اهـ.

خلاصة صفة صلاة الكسوف: أكمل صفة لهذه الصلاة:

1 - أن يكبِّر، ويستفتح، ويستعيذ، ويقرأ الفاتحة، ويقرأ نحوًا من سورة البقرة.

2 - يركع ركوعًا طويلاً.

3 - يرفع من الركوع، ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.

4 - لا يسجد، بل يقرأ الفاتحة وسورة دون الأولى.

5 - يركع مرة أخرى ركوعًا طويلاً، هو دون الركوع الأول.

6 - يرفع من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمد، ربنا ولك الحمد.

7 - يسجد ثم يجلس ثم يسجد.

8 - يقوم إلى الركعة الثانية، ويفعل مثل ما فعل في الأولى.

هل يجهر بالقراءة فيها أو يُسِرُّ؟

السنة أن يجهر بالقراءة في صلاته وبه قال أحمد وإسحاق وصاحبا أبي حنيفة خلافًا للجمهور (1)، ويدل على ذلك:

1 - حديث عائشة قالت: «جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبَّر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يُعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» (2).

2 - أنها نافلة شرعت لها الجماعة، فكان من سنتها الجهر كصلاة العيد والتراويح والاستسقاء.

وقد قال الجمهور: لا يجهر إلا في خسوف القمر، وأما كسوف الشمس فلا، واحتجوا بما يلي:

1 - ما في حديث ابن عباس المتقدم: «... فقام قيامًا طويلاً نحوًا من سورة البقرة» لكن هذا لا يلزم منه عدم الجهر، فيحتمل أنه سمع منه سورًا قدَّرها بنحو البقرة، أو أنه كان في مكان لا يصله فيه الصوت.

_________

(1) المراجع السابقة في كيفية الصلاة.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1065).

 

(1/438)

 

 

2 - ما رُوى عن عائشة أنها قالت: «حزرت قراءة رسول الله» (1) قالوا: ولو جهر لم يحتج إلى الظن والتخمين، وأجيب: بأن هذا لا يثبت عن عائشة ثم هو مخالف لما صح عنها من الجهر.

3 - حديث سمرة بن جندب: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خسوف الشمس، فلم أسمع له صوتًا» (2). ويرد على هذا ما تقدم في حديث ابن عباس، فلا يُرَدُّ لأجله الحديث الصحيح. والله أعلم.

هل يُصلَّى لغير الكسوف من الآيات كالزلازل ونحوها؟

لأهل العلم في هذه المسألة أربعة أقوال (3):

الأول: تستحب الصلاة لكل آية وفزع كالزلزلة والريح الشديدة والصواعق ونحو ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد وبه قال ابن حزم.

الثاني: لا يصلى للآيات مطلقًا سوى الكسوفين: وهو مذهب مالك.

الثالث: لا يصلى لشيء من الآيات سوى الكسوفين والزلزلة الدائمة: وهو المذهب عند الحنابلة.

الرابع: لا يصلى لغير الكسوفين جماعة، بل يصلى ويتضرع في بيته: وهو مذهب الشافعي قلت: ولعل الأخير أقربها، والله أعلم.

 

صلاة الاستسقاء

تعريفها:

الاستسقاء: طلب السُّقْيا من الله تعالى بإنزال المطر عند الجدب، وقد أجمع العلماء على أنه سنَّة سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما اختلفوا في الصلاة للاستسقاء كما سيأتي.

حكم الصلاة للاستسقاء:

إذا قحط الناس وأجدبت الأرض واحتبس المطر، فيستحب -عند الجمهور-

_________

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1187)، والبيهقي (3/ 335).

(2) ضعيف: أخرجه الترمذي (562)، وأبو داود (1184)، والنسائي (5/ 19)، وابن ماجه (1264).

(3) «البدائع» (1/ 282)، و «مواهب الجليل» (2/ 200)، و «الأم» (1/ 246)، و «كشاف القناع» (2/ 65)، و «المغنى» (2/ 429)، و «المحلى» (5/ 95 وما بعدها).

 

(1/439)

 

 

أن يخرج الإمام ومعه الناس إلى المصلى على صفة تأتي، ويصلى بهم ركعتين، لأنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعن عبَّاد بن تميم عن عمه قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي، واستقبل القبلة فصلَّى ركعتين، وقَلَب رِدَاءه: جعل اليمن على الشمال» (1).

وخالف في هذا أبو حنيفة (2) فقال: لا تُسَنُّ صلاة للاستسقاء ولا الخروج لها واستدل لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى بدون صلاة كما سيأتي.

والحديث حجة عليه، وفعله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء بدون صلاة لا يمنع أن يكون فعل الأمرين إذ لا تنافي بينهما.

من سنن الاستسقاء:

[1] خروج الناس مع الإمام إلى المصلى متبذِّلين متواضعين متضرِّعين: فعن ابن عباس قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتذلاً متواضعًا متضرِّعًا، حتى أتى المصلى فرقى المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرُّع والتكبير، ثم صلَّى ركعتين كما يصلي في العيد» (3).

[2] أن يخطبهم الإمام قبل الصلاة أو بعدها على منبر يوضع له:

وقد اتفق القائلون بسُنية الصلاة للاستسقاء على أن لها خُطْبة، إلا رواية في مذهب أحمد.

وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه وأكثر أهل العلم إلى أن الخطبة بعد الصلاة (4)، واحتجوا بما يلي:

1 - حديث عبد الله بن زيد قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلَّى فاستسقى وحوَّل رداءه حين استقبل القبلة وبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم استقبل القبلة ودعا» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1027)، ومسلم (894) واللفظ للبخاري.

(2) «ابن عابدين» (2/ 184)، و «فتح القدير» (2/ 57).

(3) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (1165)، والترمذي (555)، والنسائي (1/ 226)، وانظر «الإرواء» (665).

(4) «الدسوقي» (1/ 406)، و «الأم» (1/ 221)، و «المجموع» (5/ 77)، و «المغنى» (2/ 433)، و «كشاف القناع» (2/ 69).

(5) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (4/ 41)، وأصله في البخاري (1027)، لكن ليس فيه التصريح بموضع الشاهد منه.

 

(1/440)

 

 

2 - حديث أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يستسقي فصلَّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله عز وجل، وحوَّل رداءه فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» (1).

وذهب مالك وأحمد في رواية ثانية عنهما إلى أن الخطبة قبل الصلاة، وحجتهم:

حديث عبد الله بن زيد قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فتوجَّه إلى القبلة يدعو، وحوَّل رداءه، ثم صلَّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» (2).

والظاهر أن الأمر في هذا واسع فيجوز أن يخطب قبل الصلاة أو بعدها، وهذا التخيير رواية ثالثة في مذهب أحمد واختاره الشوكاني وغيره.

ويستحب أن تكون خطبته مناسبة للحديث، مشتملة إظهار الافتقار والندم والتوبة إلى الله تعالى، كما قال العباس حينما استسقى به عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: «وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث» (3) ونحو ذلك مما سيأتي بعضه.

[3] أن يدعو الإمام ويكثر المسألة قائمًا مستقبل القبلة رافعًا مبالغًا في رفعهما جاعلاً ظهور كفيه إلى السماء، ويرفع الناس أيديهم، ويحوِّل الإمام رداءه:

فعن عبد الله بن زيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي بهم، فقام فدعا الله قائمًا، ثم توجَّه قِبَل القبلة وحوَّل رداءه، فأُسقوا» (4).

وعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يُرى بياض إبطيه» (5).

وعن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء» (6).

وفي لفظ أبي داود: «كان يستسقي هكذا، ومدَّ يديه -وجعل بطونهما مما يلي الأرض- حتى رأيته بياض إبطيه».

_________

(1) إسناده لين: أخرجه أحمد (2/ 326)، وابن ماجه (1268).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1024)، ومسلم (894).

(3) ذكره الحافظ في «الفتح» (2/ 497)، وعزاه إلى الزبير بن بكار في «الأنساب».

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1023)، والدارمي (1534).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1031)، ومسلم (895).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (896)، وأبو داود (1171)، وأحمد (3/ 153).

 

(1/441)

 

 

«قال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء». اهـ.

وقال غير: الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرًا لبطن، كما قيل في تحويل الرداء، أو هو إشارة إلى صفة المسئول وهو نزول السحاب إلى الأرض» (1) اهـ.

وأما رفع الناس أيديهم، فلما في حديث أنس -في استسقائه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر-: «... فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون ...» (2) الحديث وسيأتي وأما تحويل الإمام رداءه الوارد في حديث عبد الله ابن زيد، فمعناه: أن يجعل ما على يمينه -من ردائه- على يساره والعكس، واستحبه الجمهور، وقيل: يستحب أن يقلب ظهر رداءه لبطنه وبطنه لظهره، لحديث ابن زيد: «استسقى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقة» (3).

والحمة في ذلك التفاؤل بتحويل الحال، ومحلُّ هذا التحويل عند الفراغ من الخطبة.

[4] من مأثور الدعاء في الاستسقاء:

(أ) عن جابر قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم بَوَاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا نافعًا غير ضارٍّ عاجلاً غير آجل» فأطبقت عليهم السماء (4).

(ب) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال: «اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأَحْيِ بلدك الميت» (5).

(جـ) وفي حديث عائشة أنه لما قحط الناس ووعدهم الخروج: «... فقعد

_________

(1) «فتح الباري» (3/ 601).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1029).

(3) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 41)، وأبو داود (1164)، والبيهقي (3/ 351)، وانظر «الإرواء» (3/ 142).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1169)، والحاكم (1/ 327)، ومن طريقه البيهقي (3/ 355).

(5) حسن: أخرجه أبو داود (1176).

 

(1/442)

 

 

على المنبر فكبَّر وحمد الله عز وجل ثم قال: «إنكم جَدْب دياركم واستئخار المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله سبحانه أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم» ثم قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني، ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين» الحديث (1) وسيأتي دعاء آخر في الاستسقاء في خطبة الجمعة.

[5] أن يصلي بهم ركعتين كصلاة العيد، ويجهر فيهما:

لما تقدم في حديث ابن عباس: «... وصلى ركعتين كما يصلي العيد» (2).

وتقدم في حديث عبد الله بن زيد: «... ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» (3).

الاستسقاء بدون الخروج للصلاة: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أوجه للاستسقاء بدون الخروج للصلاة، فمن ذلك:

1 - الاستسقاء (الدعاء بالسقيا) في خطبة الجمعة:

فعن أنس: أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة -ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحابة ولا قزعة، ولا بيننا وبين سَلعٍ من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرس، فلما توسَّطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس ستًّا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فاستقبله قائمًا، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس ...» (4).

_________

(1) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (1173)، والحاكم (1/ 328)، وانظر «الإرواء» (668).

(2) حسنه الألباني: وقد تقدم قريبًا.

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897).

 

(1/443)

 

 

وفيه من الفوائد (1): إدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر من غير تحويل فيه ولا استقبال للقبلة، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء، وجواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة.

[2] الاستسقاء في المسجد في غير جمعة ومن غير صلاة:

كما في حديث جابر قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم بواك -وهي جمع باكية- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا نافعًا غير ضارٍّ عاجلاً غير آجل» فأطبقت عليهم السماء (2).

[3] الاستسقاء خارج المسجد:

فعن عمير مولى أبي اللحم أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبل وجهه لا يجاوز بهما رأسه» (3).

ما يقال ويفعل إذا نزل المطر:

[1] يستحب -إذا نزل المطر- أن يدعو بالمأثور، ومن ذلك:

(أ) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر، قال: «اللهم صيِّبًا نافعًا» (4).

(ب) وعنها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: «رحمةٌ) (5).

[2] ويجب أن يعتقد أنهم مُطِروا بفضل الله وبرحمته، لا بالنجوم والأنواء:

فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثْر سماء (6) كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: «هل تدرون ماذا قال بكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبايد مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي

_________

(1) «فتح الباري» (2/ 589) ط. السلفية.

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1168)، والترمذي (557)، والنسائي (3/ 159)، وأحمد (5/ 223).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1032)، وابن ماجه (3889).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (899)، في جزء من حديث.

(6) أي: بعد مطر.

 

(1/444)

 

 

كافرٌ بالكواكب، وأما من قال: مُطِرنا بِنَوْء (1) كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» (2).

فإذا اعتقد أن للنواء تأثيرًا في إنزال المطر فهذا كفر، لأنه أشرك في الربوبية، وإن لم يعتقد ذلك -بل قاله على سبيل المجاز مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده، ولكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط النجم- فهو من الشرك الأصغر، لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببًا لإنزال المطر فيه، وإنما هو من فضل الله ورحمته، يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء (3).

[3] يستحب أن يدعو عند المطر، فإنه مظنة الإجابة (إن صح الحديث):

لما رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اطلبوا استجابة الدعاء عند: التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث» (4).

[4] ويستحب أن يتعرض ببعض بدنه للمطر:

فعن أنس قال: أصابنا -ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- مطرٌ، فَحَسَر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: «لأنه حديثُ عهد بربِّه تعالى» (5).

[5] وإذا كثر المطر وخيف الضرر منه: فيستحب أن يدعو رافعًا يديه -بما في حديث أنس المتقدم في الاستسقاء على المنبر يوم الجمعة-: «اللهم حوالَيْنا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» (6).

والآكام: دون الجبل وأعلى من الرابية، والظِّراب: الجبال المنبسطة غير العالية.

 

سجود التلاوة (*)

تعريفه:

سجود التلاوة: هو السجود الذي سببه تلاوة أو سماع آية من آيات السجود في القرآن الكريم.

_________

(1) سقوط نجم من المنازل، وكانت العرب تنسب الأمطار والريح إلى النجم الساقط.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71).

(3) «فتح المجيد» (ص: 455 - 459) بتصرف واختصار.

(4) صححه الألباني: وانظر «السلسلة الصحيحة» (1469)، و «صحيح الجامع» (1026).

(5) أخرجه مسلم (898)، وأبو داود (5100).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897).

(*) لشيخنا أبي عمير مجدي بن عرفات -رفع الله قدره- «فتح الرحمن بأحكام ومواضع سجود القرآن» وقد استفدت منه.

 

(1/445)

 

 

فضله:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا وَيلَه (1)، أُمِر بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمِرتُ بالسجود فعصيتُ فلي النار» (2).

وقد ثبت في فضل السجود عمومًا أحاديث كثيرة، منها:

حديث أبي هريرة في البعث والشفاعة وفيه: «حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة أن يُخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيَخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود» (3).

وحديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الله به الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: «عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئة» (4).

وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة، فقال: «أعنِّي على نفسك بكثرة السجود» (5).

حُكْمه: أجمع العلماء على مشروعية سجود التلاوة، للآيات والأحاديث الواردة فيه كحديث ابن عمر: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا موضعًا لجبهته» (6) ثم اختلفوا في الوجوب على قولين:

الأول: أنه واجب، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (7).

_________

(1) هذا دعاء على نفسه بالويل وهو الهلاك.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (81)، وابن ماجه (1052)، وأحمد (9336).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (488)، والترمذي (388)، والنسائي (2/ 238)، وابن ماجه (1423).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (489)، وأبو داود (1320)، والنسائي (2/ 227)، وأحمد (4/ 59).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1075)، ومسلم (575).

(7) «فتح القدير» (1/ 382)، و «ابن عابدين» (2/ 103)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 139 - 155)، و «الإنصاف» (2/ 193).

 

(1/446)

 

 

الثاني: أنه مستحب وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور: مالك والشافعي والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وابن حزم، وبه قال عمر بن الخطاب وسلمان وابن عباس وعمران بن حصين من الصحابة (1).

واحتج الموجبون بما يأتي:

1 - قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} (2).

قالوا: والذم لا يتعلق إلا بترك واجب.

2 - قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (3).

3 - قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (4).

4 - ما في حديث أبي هريرة المتقدم: «أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة» (5).

5 - قول عثمان: «إنما السجود على من استمع» (6).

وأجاب الجمهور بما يأتي:

1 - أن الذم في آية الانشقاق متعلق بترك السجود إباءً واستكبارًا فيتناوله مَن تركه غير معتقد فضله ولا مشروعيته.

2 - أن الاستدلال بالآيتين الأخريين موقوف على أن يكون الأمر فيهما للوجوب، وعلى أن يكون المراد بالسجود سجدة التلاوة وهما ممنوعان (7).

قلت: فعن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ} يسجد فيها» وفي رواية: «فلم يسجد منا أحد» (8).

_________

(1) «المجموع» (4/ 61)، و «كشاف القناع» (1/ 445)، و «المواهب» (2/ 60)، و «التمهيد» (19/ 133)، و «المحلى» (5/ 105).

(2) سورة الانشقاق، الآية: 21.

(3) سورة النجم، الآية: 62.

(4) سورة العلق، الآية: 19.

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4220)، وعبد الرزاق (5906)، والبيهقي (2/ 324).

(7) «تحفة الأحوذي» (3/ 172).

(8) صحيح: أخرجه البخاري (1072)، ومسلم (577).

 

(1/447)

 

 

«وقد حُمل الأمر في الآيتين الأخريين على الندب أو على أن المراد به سجود الصلاة، أو أنه في الصلاة المكتوبة على الوجوب، وفي سجود التلاوة على الندب على قاعدة الشافعي في حمل المشترك على معنييه» (1).

3 - عن عمر بن الخطاب أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة فنزل فسجد، فسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة، قرأ بها حتى إذا جاء السجدة، قال: «يا أيها الناس، إنما نمرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه» (2). وقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم فكان إجماعًا منهم.

قلت: ولشيخ الإسلام مناقشات على أدلة الجمهور، فليراجعها من شاء، والأصح قول الجمهور، والله أعلم.

هيئة سجود التلاوة:

1 - اتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة يحصل بسجدة واحدة.

2 - يكون السجود على هيئة السجود في الصلاة تمامًا، من وضع اليدين والركبتين والقدمين والأنف والجبهة، ومجافاة المرفقين عن الجنبين والبطن عن الفخذين وتوجيه الأصابع للقبلة وغير ذلك مما تقدم.

3 - ولا يشرع فيه -على الأصح- تحريم (تكبيرة إحرام) ولا تسليم، قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (23/ 165): .. هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه عامة السلف، وهو المنصوص عن الأئمة المشهورين .. اهـ.

قلت: وقد نقل ابن عبد البر في التمهيد (19/ 134) عدم التسليم عن مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة.

ثم قال (23/ 166): والمروي فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم تكبيرة واحدة، فإنه لا ينتقل من عبادة إلا عبادة. اهـ.

قلت: يشير إلى حديث ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجد كبَّر، وسجد وسجدنا» (3) وهو حديث ضعيف.

_________

(1) «فتح الباري» (2/ 648) بنحوه.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1077).

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1413)، والبيهقي (2/ 325)، وعبد الرزاق (5911)، وانظر «الإرواء» (472).

 

(1/448)

 

 

لكن يمكن أن يُستدل لمشروعية التكبير عند السجود والرفع منه، بحديث وائل ابن حُجْر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير، ويكبِّر كلما خفض وكلما رفع» (1).

وقد استحب الجمهور التكبير عند السجود والرفع منه، قلت: ويشرع رفع اليدين مع التكبير كذلك إن شاء، والله أعلم.

4 - الأفضل أن يقوم من أراد السجود للتلاوة في غير الصلاة، ثم يهوى لسجود التلاوة، وهو مذهب الحنابلة وبعض متأخري الحنفية ووجه عند الشافعية واختاره شيخ الإسلام (2).

قالوا: لأن الخرور: سقوط من قيام وقد قال تعالى: {... إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} (3).

وإن لم يفعل وسجد من قعود فلا بأس، ومذهب الشافعي وجمهور أصحابه: أنه لا يثبت في هذا القيام شيء يعتمد عليه، قالوا: فالاختيار تركه (4).

هل تشترط الطهارة واستقبال القبلة لسجود التلاوة؟

ذهب جماهير العلماء إلى أن سجود التلاوة يشترط فيه ما يشترط للصلاة، فاشترطوا له الطهارة، واستقبال القبلة وسائر الشروط (5).

بينما ذهب ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية إلى عدم اشتراط شيء من ذلك لأن السجود ليس بصلاة، بل هو عبادة، ومعلوم أن جنس العبادة لا تشترط له الطهارة، وهو مذهب ابن عمر والشعبي والبخاري، وهو الصحيح.

ومما يدل على ذلك حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» (6).

_________

(1) حسن: أخرجه أحمد (4/ 316)، والدارمي (1252)، والطيالسي (1021)، وانظر «الإرواء» (2/ 36).

(2) «البدائع» (1/ 192)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 586)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 173).

(3) سورة الإسراء، الآية: 107.

(4) «المجموع» (4/ 65).

(5) «ابن عابدين (2/ 106)، و «الدسوقي» (1/ 307)، و «المجموع» (4/ 63) النبي صلى الله عليه وسلم و «المغنى» (1/ 650).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1071)، والترمذي (575).

 

(1/449)

 

 

قال البخاري (2/ 644 - فتح): والمشرك نجس ليس له وضوء. اهـ.

وقال الشوكاني: «ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدلُّ على اعتبار أن يكون الساجد متوضئًا، وقد كان يسجد معه صلى الله عليه وسلم من حضر تلاوته، ولم ينقل أنه أمر أحدًا منهم بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعًا متوضئين، وأيضًا قد كان يسجد معه المشركون كما تقدم وهم أنجاس لا يصح وضوؤهم ... وأما ستر العورة والاستقبال مع الإمكان، فقيل: إنه معتبر اتفاقًا» (1) اهـ.

قلت: ما دام السجود ليس بصلاة فلا يشترط فيه استقبال القبلة كذلك كما تقدم عن ابن حزم وابن تيمية، لكن لا شك في أن السجود على طهارة مستقبلاً القبلة هو الأفضل والأكمل، ولا ينبغي ترك ذلك لغير عذر، أما الاشتراط فلا، والله أعلم.

كيف يسجد الماشي والراكب؟

من قرأ أو سمع آية سجدة وكان ماشيًا أو راكبًا، وأراد السجود، فإنه يومئ برأسه على أي اتجاه كان، فعن ابن عمر أنه سئل عن السجود على الدابة؟ فقال: «اسجد وأَوْمِ» رواه ابن أبي شيبة (4210) بسند صحيح، وصحَّ الإيماء للماشي عن طائفة من السلف من أصحاب ابن مسعود وغيره.

ما يقال في سجود التلاوة:

1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل، يقول في السجدة مرارًا: «سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعَه وبصرَه بحوله وقوَّته» (2).

2 - وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدتُ، فسجدتْ الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: «اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا، وضَعْ عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها منيِّ كما تقبلتها من عبدك داود» ... قال

_________

(1) «نيل الأوطار» (3/ 125) ط. الحديث.

(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1414)، والترمذي (580)، والنسائي (2/ 222)، وفي سنده اختلاف وهو على كل الأحوال ضعيف، وانظر «فتح الرحمن» لشيخنا أبي عمير (ص/ 99). قلت: وقد صح نحوه عن عليِّ مرفوعًا في سجود الصلاة رواه مسلم.

 

(1/450)

 

 

ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة، ثم سجد، فسمعته وهو يقول مثلما أخبره، الرجل عن قول الشجرة (1).

قلت: وهذان الحديثان ضعيفان على الأرجح -وقد صُحِّحا، والأوَّل قد صح نحوه في سجود الصلاة. وقد أشار الإمام أحمد -رحمه الله- إلى عدم ثبوت ذلك حينما قال: «أما أنا فأقول: سبحان ربي الأعلى» فإذا كان كذلك فإن المشروع في سجود التلاوة، الأذكار التي تقدمت في سجود الصلاة، ومنها بمثل حديث عائشة المتقدم، والله أعلم.

إلى مَنْ يتوجَّه حكم سجود التلاوة؟

أجمع العلماء على أن حكم سجود التلاوة يتوجَّه إلى القارئ لآية السجدة، سواء كان في الصلاة أو خارجها.

ثم اختلفوا في السامع: هل عليه سجود أم لا؟ على قولين (2):

الأول: يسجد السامع مطلقًا وإن لم يسجد القارئ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك.

الثاني: لا يسجد إلا إذا قصد الاستماع، وإذا سجد القارئ، وكان ممن تصح إمامته، وهو مذهب أحمد ورواية عن مالك، وحجتهم:

1 - حديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته» (3).

2 - ما رُوى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: قرأ فلان عندك السجدة فسجدت، وقرأتُ عندك السجدة فلم تسجد؟ فقال: «كنتَ إمامًا فلو سجدتَ سجدنا» (4) وهو ضعيف.

_________

(1) ضعيف: أخرجه الترمذي (5790)، وابن ماجه (1053) وغيرهما وله شاهد لا يزيده إلا ضعفًا ومع هذا فقد صححه الشيخ أبو الأشبال -رحمه الله- وانظر «فتح الرحمن» (ص/ 100).

(2) «البدائع» (1/ 192)، و «الدسوقي» (1/ 307)، و «بداية المجتهد» (1/ 329)، و «المجموع» (4/ 72)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 582).

(3) صحيح: تقدم في «حكم سجود التلاوة».

(4) ضعيف: أخرجه الشافعي في «مسنده» (359)، وعنه البيهقي (2/ 324)، وانظر «الإرواء» (473).

 

(1/451)

 

 

3 - وقال ابن مسعود لتميم بن حذلم -وهو غلام- لما قرأ سجدة: «اسجد فأنت إمامنا فيها» (1).

فدلَّ كل هذا على أن السنة للمستمع أن يسجد بسجود القارئ، فإن لم يسجد فلا يتأكد في حقه، وإن كان الأَوْلى أن يسجد، والله أعلم.

سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة:

يجوز سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة من غير كراهة -في أظهر قولي العلماء- لما تقدم من أن السجود ليس بصلاة، والأحاديث الواردة بالنهي مختصة بالصلاة، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، وبه قال ابن حزم (2).

وقد رُوى عن ابن عمر كراهته وسنده ضعيف، والله أعلم.

تكرار تلاوة أو سماع آية السجدة:

إذا قرأ أو استمع آية السجود أكثر من مرة، فله أن يؤخر السجود فيسجد مرة واحدة، فإن سجد ثم قرأ آية السجود، فالأولى أن يسجد مرة أخرى وهو مذهب الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (3).

فوات سجود التلاوة:

يستحب للقارئ والمستمع له السجود عقب آية السجدة، ولو تأخَّر قليلاً، فإن طال الفصل بين السجود وسببه لم يسجد لفوات محله، وهو مذهب الشافعية والحنابلة (4).

سجود التلاوة في الصلاة:

عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد، فقلت له: ما هذا؟ قال: «سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» (5).

_________

(1) حسن بطرقه: علَّقه البخاري (2/ 647 - فتح)، ووصله سعيد بن منصور والبخاري في «التاريخ الكبير» كما في «التغليق» (2/ 210) وله شاهد عنه البيهقي وعبد الرزاق وبه حسَّنه شيخنا في «فتح الرحمن» (ص/ 114).

(2) «المغنى» (1/ 623)، و «المحلى» (5/ 105)، و «بداية المجتهد» (1/ 328).

(3) «فتح القدير» (2/ 22)، و «الدسوقي» (1/ 311)، و «مغنى المحتاج» (1/ 446)، و «الإنصاف» (2/ 196).

(4) «المجموع» (4/ 71 - 72)، و «كشاف القناع» (1/ 445).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (766)، ومسلم (578) نحوه.

 

(1/452)

 

 

وعن أبي هريرة: «أن عمر سجد في «النجم» وقام فوصل إليها سورة» (1).

وفيهما أنه يستحب لمن قرأ آية السجدة في صلاته من غير فرق بين الفريضة والنافلة، وهو مذهب الجمهور، وسواء كان منفردًا أو في جماعة، في سرية أو جهرية.

لكن يُكره أن يقرأ بها الإمام في الصلاة السِّرِّيَّة لما يُخشى من التخليط على المأمومين، وبه قال الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة (2)، وقال الشافعية: لا يكره، لكن يستحب تأخير السجود إلى الفراغ من اصلاة لئلا يشوِّش عى المأمومين، ومحلُّه إذا لم يطل الفصل (3).

هل يجوز مجاوزة آية السجدة في الصلاة؟

يُكره للمصلي أن يقرأ الآيات ويَدَع آية السجدة ويجاوزها حتى لا يسجد، وهذا منقول عن طائفة من السلف كالشعبي وابن المسيب وابن سيرين والنخعي وإسحاق، وكرهه جمهور العلماء (4). وهذا يسمى: «اختصار السجود».

فائدة: وكذلك يكره جمع آيات السجود فيقرأ بها ويسجد (5).

إذا كانت السجدة آخر السورة، ماذا يفعل؟

إذا قرأ السجدة في الصلاة وكانت آخر السورة، فهو مخيَّر بين ثلاثة أمور:

1 - أن يسجد ثم يقوم فيصل بها سورة أخرى ثم يركع: وقد فعله عمر رضي الله عنه، فقد «قرأ في الفجر بيوسف فركع، ثم قرأ في الثانية بالنجم، فسجد، ثم قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (6) (7)» وهذا هو الأَوْلى.

2 - أن يركع ويجزئه عن السجود:

(أ) فعن نافع «أن ابن عمر كان إذا قرأ النجم يسجد فيها، وهو في الصلاة، فإن لم يسجد ركع» (8).

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5880)، والطحاوي (1/ 355).

(2) «البدائع» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 449)، و «مواهب الجليل» (2/ 65).

(3) «المجموع» (4/ 72)، و «نهاية المحتاج» (2/ 95).

(4) «البدائع» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 449)، و «الدسوقي» (1/ 309).

(5) «الكافي» لابن قدامة (1/ 160)، و «المدونة» (1/ 111 - 112)، و «روضة الطالبين» (1/ 323).

(6) سورة الانشقاق، الآية: 1.

(7) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (2882)، والطحاوي (1/ 355).

(8) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5893).

 

(1/453)

 

 

(ب) وسئل ابن مسعود عن السورة تكون في آخرها سجدة: أيركعه أو يسجد؟

قال: «إذا لم يكن بينك وبين السجدة إلا الركوع فهو قريب» (1).

قلت: ومحلُّ هذا إذا كان منفردًا، أو كان إمامًا وعلم أن هذا لا يخلط على المأمومين، فإن خشي التخليط على المأمومين بحيث يسجد بعضهم ويركع الآخرون، فلا ينبغي فعله، والله أعلم.

3 - أن يسجد ثم يكبِّر فيقوم، ثم يركع من غير زيادة قراءة.

إذا قرأ آية سجدة على المنبر (2):

فإن شاء نزل ليسجد، ويسجد معه الناس، وإن ترك السجود فلا حرج لما تقدم من فعل عمر رضي الله عنه (3).

ولو أمكنه السجود على المنبر سجد عليه كذلك، ويسجد الناس لسجوده فإن لم يسجد الخطيب، لم يشرع للمأمومين السجود.

مواضع السجود (آيات السجدات):

مواضع (آيات) السجود في القرآن الكريم خمسة عشر موضعًا، وقد ورد هذا في حديث مرفوع لكنه ضعيف، عن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصَّل، وفي سورة الحج سجدتان» (4).

وهذه المواضع منها عشرة مُجْمعٌ عليها: وأربعة مختلف فيها إلا أنه قد صحت الأحاديث بها وموضعٌ واحد لم يصح فيه حديث مرفوع إلا أنَّ عمل بعض الصحابة على السجود فيه مما يستأنس به على مشروعيته.

[أ] المواضع المتفق على السجود فيها (5):

1 - (الأعراف): عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (6).

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4371).

(2) «ابن عابدين» (1/ 525)، و «جواهر الإكليل» (1/ 72)، و «روضة الطالبين» (1/ 324)، و «كشاف القناع» (2/ 37).

(3) صحيح: تقدم في «حكم السجود».

(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1401)، وابن ماجه (1057)، و «الحاكم» (1/ 223)، والبيهقي (2/ 314).

(5) «شرح المعاني» للطحاوي (1/ 359)، و «التمهيد» (19/ 131)، و «المحلى» (5/ 105 وما بعدها).

(6) سورة الأعراف، الآية: 206.

 

(1/454)

 

 

2 - (الرعد) عند قوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (1).

3 - (النحل) عند قوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2).

وقد ثبت أن عمر قرأها على المنبر يوم الجمعة ثم نزل فسجد (3) وقد تقدم الحديث فيه.

4 - (الإسراء) عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (4).

5 - (مريم) عند قوله تعالى: {... إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (5).

6 - (الحج) عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ ... إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (6).

7 - (الفرقان) عند قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (7).

8 - (النمل) عند قوله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (8).

9 - (السجدة) عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (9).

_________

(1) سورة الرعد، الآية: 15.

(2) سورة النحل، الآيتان: 49، 50.

(3) صحيح: تقدم في «حكم السجود».

(4) سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109.

(5) سورة مريم، الآية: 58.

(6) سورة الحج، الآية: 18.

(7) سورة الفرقان، الآية: 60.

(8) سورة النمل، الآيتان: 25، 26.

(9) سورة السجدة، الآية: 15.

 

(1/455)

 

 

10 - (فصلت) عند قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ... وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} (1) والجمهور على السجود عند {لا يَسْأَمُونَ}، والمشهور عند المالكية عند {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.

[ب] المواضع المختلف فيها، وصحَّ دليلها:

11 - (ص): عند قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (2).

وهي موضع سجود عند أبي حنيفة والثوري وأحمد -في رواية- وإسحاق وأبي ثور (3)، ويدلُّ لقولهم:

1 - حديث ابن عباس قال: «ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها» (4).

2 - وعن مجاهد - في سجدة ص- قال: سألت ابن عباس: من أين سُجدة؟ فقال: «أو ما تقرأ {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (5). فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم» (6).

3 - وعن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي «ص» سجود؟ قال: نعم، ثم تلا: {وَوَهَبْنَا} حتى بلغ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قال: قال: هو منهم، وقال ابن عباس: «ورأيت عمر قرأ «ص» على المنبر، فنزل فسجد فيها، ثم رقى على المنبر» (7).

4 - وعن السائب بن يزيد قال: «رأيت عثمان سجد في ص» (8).

_________

(1) سورة فصلت، الآيتان: 37، 38.

(2) سورة ص، الآية: 24.

(3) «التمهيد» (19/ 131)، و «البدائع» (1/ 193)، و «الدسوقي» (1/ 308)، و «المجموع» (4/ 60)، و «المغنى» (1/ 618).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1069)، وأبو داود (1409)، والترمذي (577).

(5) سورة الأنعام، الآيات: 84 - 90.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (4807)، وأحمد (3215)، والبيهقي (2/ 319).

(7) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4267)، وعبد الرزاق (5862)، والبيهقي (2/ 319).

(8) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4257)، وعبد الرزاق (5864)، والبيهقي (2/ 319).

 

(1/456)

 

 

سجدات المُفَصَّل الثلاث:

وهي مواضع سجود عند أبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد (1).

12 - (النجم): عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (2). ويدل لثبوتها:

1 - حديث ابن مسعود: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ...» (3) وقد تقدم نحوه عن ابن عباس.

2 - تقدم سجود عمر فيها، وسنده صحيح.

فائدة: وقد ثبت كذلك ترك السجود فيها، فعن زيد بن ثابت أنه «قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (والنجم) فلم يسجد فيها» (4).

13 - (الانشقاق): عند قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} (5).

1 - ما تقدم من سجود أبي هريرة فيها وقوله: «سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» (6).

2 - وعنه قال: «سجد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} و {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ومن هو خير منهما» (7).

3 - وصح عن ابن عمر وابن مسعود وعمار (8).

14 - (العلق): عند قوله تعالى: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (9). وقد تقدم قبله حديث أبي هريرة في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.

_________

(1) «التمهيد» (19/ 131)، و «البدائع» (1/ 193)، و «المجموع» (4/ 62)، و «المغنى» (1/ 617).

(2) سورة النجم، الآية: 62.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1070)، ومسلم (576).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1072)، ومسلم (577).

(5) سورة الانشقاق، الآيتان: 20، 21.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (766)، ومسلم (578).

(7) صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (1037)، والطيالسي (2499)، وعبد الرزاق (5886).

(8) انظر الآثار عنهم في «فتح الرحمن بأحكام ومواضع سجود القرآن» لشيخنا أبي عمير - حفظه الله (69، 70).

(9) سورة العلق، الآية: 19.

 

(1/457)

 

 

[جـ] الموضع المختلف فيه، ولم يصح فيه شيء مرفوع:

15 - (الحج): عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1).

وهي موضع سجود عند الشافعي وأحمد (2)، وقد ورد فيها حديث عقبة بن عامر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي الحج سجدتان؟ قال: «نعم، ومن لم يسجدها فلا يقرأها» (3). وهو ضعيف، لكن قال به جمع من الصحابة، منهم: عمر بن الخطاب وعليٌّ وابن عمر وابن عباس وابن مسعود وأبو موسى وأبو الدرداء وعمار ابن ياسر رضي الله عنهم.

وكذا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وزر بن جيش، قال ابن قدامة: لم نعرف لهم مخالفًا في عصرهم. اهـ. قلت: فهذا مما يُستأنس به على مشروعيتها والله أعلم.

 

سجود الشكر

تعريفه:

سجود الشكر: سجدة يفعلها الإنسان عند هجوم نعمة، أو اندفاع نقمة (4).

مشروعيته:

ثبت في حديث كعب بن مالك، الطويل «أنه لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه سجد» (5).

وقد ورد جملة أحاديث -في أسانيدها مقال- عن أكثر من اثني عشر صحابيًّا، تُثبت بمجموعها سجود النبي صلى الله عليه وسلم للشكر، ومنها حديث أبي بكرة رضي الله عنه:

«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر سرور -أو بُشِّر به- خرَّ ساجدًا شاكرًا لله» (6).

_________

(1) سورة الحج، الآية: 77.

(2) «التمهيد» (19/ 131)، و «المجموع» (4/ 62)، و «المغنى» (1/ 618).

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1402)، والترمذي (578)، وأحمد (4/ 151).

(4) «شرح المنهاج وحاشية القليوبي» (1/ 208).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).

(6) أخرجه أبو داود (2774)، والترمذي (1578)، وابن ماجه (1394) وغيرهم بسند ليِّن وقد استوفيت شواهده في «تعظيم قدر الصلاة» فراجعها إن شئت.

 

(1/458)

 

 

وإلى هذا ذهب الجمهور: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وصاحبا أبي حنيفة (1).

هيئته: كهيئة سجود الصلاة على نحو ما تقدم في سجود التلاوة.

ولا يشترط له الطهارة ولا استقبال القبلة: لأنه ليس بصلاة، وإنما يستحب ذلك.

ولا يكره في أوقات النهي: كما تقدم في سجود التلاوة.

هل يشرع سجود الشكر في الصلاة؟

لا يُشرع أن يسجد للشكر وهو في الصلاة، لأن سببها خارج عن الصلاة، فإن سجد في الصلاة بطلت صلاته، إلا أن يكون جاهلاً أو ناسيًا فلا تبطل، كما لو زاد في الصلاة سجدةَ نسيانًا، وبهذا صرَّح الشافعية، والحنابلة، وعند الحنابلة قول بأنه لا بأس به في الصلاة!! (2) وهو ضعيف، والله أعلم.

 

سجود السَّهْو

تعريفه:

السهو لغة: السهو لغة: نسيان الشيء والغفلة عنه، وذهاب القلب عنه إلى غيره (3).

وسجود السهو اصطلاحًا: هو ما يكون في آخر الصلاة أو بعدها لجبر خلل بترك مأمور به أو فعل

بعض منهي عنه دون تعمد (4).

مشروعيته:

اتفقت المذاهب على مشروعية سجود السهو لمن وقع له في الصلاة ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم أو نحوه على وجه السهو (5).

وقد صحَّ في مشروعية سجود السهو عدة أحاديث عليها مدار أحكامه، أسوقها ههنا ليسهل الإحالة عليها في مسائل الباب:

_________

(1) «روضة الطالبين» (1/ 324)، و «المغنى» (1/ 627)، و «الفتاوى الهندية» (1/ 135).

(2) «المجموع» (40/ 68)، و «الفروع» (1/ 505).

(3) «لسان العرب» مادة: (سها).

(4) «الإقناع» للشربيني (2/ 89).

(5) «نظم الفرائد، لما في حديث ذي اليدين من الفوائد» للحافظ العلائي (ص/ 405).

 

(1/459)

 

 

1 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نُودي بالأذان أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثَّوب أدبر، فإذا قضى التثويب أقبل، يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلَّى، فإذا لم يَدْرِ أحدكم كم صلَّى، فليسجد سجدتين وهو جالس» (1).

2 - حديث أبي هريرة قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتَيْ العشى -إما الظهر وإما العصر- فسلَّم في الركعتين ثم أتى جزعًا في قبل المسجد، فاستند إليها، وخرج سَرَعان الناس، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينًا وشمالاً، فقال: «ما يقول ذو اليدين؟!» قالوا: صدق، لم تصلِّ إلا ركعتين، فصلَّى ركعتين وسلَّم ثم كبَّر وسجد ثم كبَّر ورفع» (2).

3 - حديث عمران بن حصين بنحو حديث أبي هريرة السابق وفيه: «... وسلَّم من ثلاث ركعات، فلما قيل له، صلَّى ركعة، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم» (3).

4 - حديث عبد الله بن بُحَيْنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قام من صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتمَّ صلاته سجد سجدتين يكبِّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلِّم، وسجدهما الناس معه، مكان ما نسى من الجلوس» (4).

5 - حديث ابن مسعود قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال إبراهيم: زاد أو نقص]

فلما سلَّم، قيل له يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلَّم، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: «إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1231)، ومسلم (389).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1229)، ومسلم (573).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (574)، والنسائي (1/ 26)، وابن ماجه (1018).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1224)، ومسلم (570).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1226)، ومسلم (572).

 

(1/460)

 

 

وفي لفظ للبخاري «ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين» وفي رواية: انه صلاَّها خمسًا فسجد سجدتين.

6 - حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلَّى أثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك ولْيَبْنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان» (1) ونحوه عن عبد الرحمن بن عوف.

أسباب سجود السهو: يُشرع سجود السهو في الصلاة لثلاثة أسباب:

[1] النقص: إذا وقع في الصلاة نقص لغفلة أو سهو فلا يخلو المتروك من أن يكون ركنًا أو واجبًا أو مستحبًا:

(أ) فإن ترك ركنًا في ركعة -سهوًا- ثم ذكره قبل شروعه في القراءة في الركعة التي بعدها لزمه أن يعود إليه فيأتي به وبما بعده، ثم يلزمه سجود السهو في آخر صلاته على ما سيأتي تحرير موضعه. وإن لم يذكر الركن إلا بعد شروعه في قراءة الركعة التي بعدها، بطلت الركعة التي نقص منها وعليه إلغاؤها وإتمام صلاته ثم يسجد للسهو (2).

وإن نسي ركعة أو أكثر من صلاته، فإني يأتي بتمام صلاته، ثم يسجد للسهو، والأصل في هذا حديث أبي هريرة -في قصة ذي اليدين- وعمران بن حصين.

(ب) وإن ترك واجبًا من واجبات الصلاة -كالتشهد الأوسط مثلًا- فإن أمكنه استدراكه قبل مفارقة محلِّه أتى به ولا شيء عليه، وإن ذكره بعد مفارقة محله وقبل أن يصل إلى الركن الذي يليه رجع فأتى به ثم يكمل صلاته ولا سهو عليه، وإن ذكره بعد مفارقة محلِّه وبعد أن يصل إلى الركن الذي سقط عنه فلا يرجع إليه، ويستمر في صلاته، ويسجد للسهو. والأصل في هذا حديث عبد الله بن بجينة المتقدم.

وعن زياد بن علاقة قال: «صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (571)، وأبو داود (1024)، والنسائي (3/ 27)، وابن ماجه (1210).

(2) بهذا صرَّح الحنابلة، ومذهب المالكية والشافعية قريب منه. وانظر: «الدسوقي» (1/ 293)، و «المجموع» (4/ 116)، و «كشاف القناع» (1/ 402)، و «المغنى» (2/ 6).

 

(1/461)

 

 

ولم يجلس، فسبح به من خلقه، فأشار إليهم: أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلَّم، وسجد سجدتين وسلَّم، وقال: «هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم».

وفي رواية قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استتم أحدكم قائمًا فليصلِّ وليسجد سجدتي السهو، وإن لم يستتم قائمًا فليجلس ولا سهو عليه» (1).

(جـ) وإن ترك مستحبًّا، فقيل: لا سهو عليه لأن المستحبات لا حرج في تركها، وقيل: بل يستحب السجود لمسنون -ولا يجب لئلا يزيد الفرع على أصله- لحديث: «لكل سهو سجدتان» (2). لكنه ضعيف لا يُحتجُّ به.

[2] الزيادة: إذا سها المصلي فزاد ركعة أو أكثر في صلاته، فإن ذكر في أثنائها، فعليه أن يجلس -على أي وضع كان- ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو ويسلِّم، فإن لم يذكر إلا بعد السلام، فإنه يسجد للسهو ويسلِّم.

لحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر خمسًا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: «وما ذاك؟» قال: صليت خمسًا، فسجد سجدتين بعد ما سلَّم» (3).

[3] الشك: إذا شك المصلي -أي تردَّد- هل صلى ثلاثًا أو أربعًا مثلًا، فإنه يتحرى صلاته (4) فإن ترجَّح عنده أحد الأمرين بنى عليه وسجد بعد السلام، كما في حديث ابن مسعود المتقدم.

وإذا لم يترجَّح له أحدهما، فإنه يبني على اليقين (وهو الأقل منهما) ويسجد قبل السلام، لحديث أبي سعيد المتقدم، وحديث عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أم

_________

(1) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (1036)، والترمذي (365)، وأحمد (4/ 247)، والطحاوي في «المعاني» (1/ 439)، وانظر «الإرواء» (388).

(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1038)، وابن ماجه (1219)، وأحمد (5/ 285)، وعبد الرزاق (3533)، والطيالسي (997)، والبيهقي (2/ 337)، والطبراني (2/ 92) وفي سنده اختلاف، وفيه ضعف وانقطاع.

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) معنى التحري: أن يتذكر مثلًا أنه قرأ الفاتحة وسورة مرتين فيعلم أنه صلى ركعتين لا ركعة، أو يتذكر أنه تشهد التشهد الأول فيعلم أنه صلى ركعتين لا واحدة، ونحو ذلك، فإذا تحرَّى الذي هو أقرب إلى الصواب أزال الشك، ولا فرق في هذا بين أن يكون إمامًا أو منفردًا كما اختار شيخ الإسلام (13/ 23) خلافًا للمشهور في مذهب أحمد، وانظر «المغنى» (1/ 378)، و «كشاف القناع» (1/ 406). وأما الجمهور فعندهم يبني على اليقين مطلقًا!!

 

(1/462)

 

 

اثنتين فلْيَبْن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثًا

فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا فليبن على ثلاث، ولسجد سجدتين قبل أن يسلِّم» (1).

تنبيه: لا يُلْتفت إلى الشك في العبادة في ثلاث حالات (2):

1 - إذا كان مجرد وهم لا حقيقة له، كالوسواس.

2 - إذا كثر مع الشخص بحيث لا يفعل عبادة إلا حصل له فيها شك.

3 - إذا كان الشك بعد الفراغ من العبادة فلا يلتفت إليه ما لم يتيقَّن فيعمل بما تيقن.

حكم سجود السهو:

لأهل العلم في حكم سجود السهو في الصلاة عند وجود سببه، قولان (3):

الأول: أنه واجب: وهو ذهب الحنفية وقول عبد المالكية والمعتمد عند الحنابلة والظاهرية واختاره شيخ الإسلام، وحُجَّتهم:

1 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم به في الأحاديث المتقدمة، وفي بعضها لمجرد الشك.

2 - مداومته صلى الله عليه وسلم على سجدتي السهو -عند وقوع سببها- وعدم تركهما في السهو المقتضي لهما قط.

الثاني: أنه مستحب: وهو المشهور عن المالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة، وحجتهم:

- ما جاء في حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان، وإن كانت ناقصة كانت الركعة تمامًا لصلاته، وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان» (4).

_________

(1) فيه لين: أخرجه الترمذي: (398)، وابن ماجه (1209)، والحاكم (1/ 325)، والبيهقي (2/ 332)، وفيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس.

(2) «سجود السهو» للشيخ محمود غريب -حفظه الله- (ص/ 17).

(3) «فتح القدير» (1/ 502)، و «القوانين» (67)، و «المجموع» (4/ 152)، و «المغنى» (2/ 36)، و «كشاف القناع» (1/ 408)، و «المحلى» (4/ 159)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 27).

(4) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (1024)، وابن ماجه (1210)، وأصله في مسلم لكن بدون ذكر لفظ (السجدتان نافلة).

 

(1/463)

 

 

قالوا: فدلَّ على أن السجدتين نافلة أي سنة وليستا واجبتين!!

والراجح: الوجوب، وأما حجة المخالفين فقد رد عليها شيخ الإسلام بأمرين:

1 - أن هذا اللفظ (كانت الركعة والسجدتان نافلة) ليس في الصحيح ولفظ الصحيح: «فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتي قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن

كان صلى تمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان» وهو يقتضي وجوبهما، وجوب الركعة والسجدتين.

2 - على فرض أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، فمعناه: أنه مأمور بذلك مع الشك، فعلى تقدير أن تكون صلاته تامة في نفس الأمر، لم ينقص منها شيء يكون ذلك زيادة في عمله، وله فيه أجر كما في النافلة.

موضع سجود السهو (قبل السلام أو بعده؟):

اختلف أهل العلم في سجود السهو: يكون قبل السلام أو بعده؟ بناء على الأحاديث الثابتة في هذا الباب، بعد الاتفاق على أنه يجزئ على كل حال -على تسعة أقوال (1):

الأول: سجود السهو كله قبل السلام: وبه قال أبو هريرة ومكحول والزهري وابن المسيب وربيعة والأوزاعي والليث، وهو مذهب الشافعي الجديد.

الثاني: سجود السهو كله بعد السلام: وبه قال سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وأنس وابن الزبير وابن عباس، وهو مروي عن عليٍّ وعمار، والحسن والنخعي والثوري، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

الثالث: يسجد للزيادة بعد السلام، وللنقص قبله: وهو مذهب مالك والمزني وأبي ثور وقول للشافعي.

الرابع: يستعمل كل حديث كما ورد، وما لم يرد فيه شيء سجد قبل السلام: وهو مذهب أحمد وابن أبي خيثمة واختاره ابن المنذر.

_________

(1) «ابن عابدين» (1/ 495)، و «المبسوط» (1/ 219)، و «القوانين» (67)، و «الدسوقي» (1/ 274)، و «روضة الطالبين» (1/ 315)، و «المجموع» (4/ 154)، و «المغنى» (2/ 22)، و «الكافي» (1/ 209) النبي صلى الله عليه وسلم و «الأوسط» (3/ 307)، و «بداية المجتهد» (1/ 279)، و «نيل الأوطار» (3/ 132 - 135).

 

(1/464)

 

 

الخامس: يستعمل كل حديث كما ورد، وما لم يرد فيه شيء سجد بعد السلام إن كان لزيادة، وقبله إن كان لنقص: وهو مذهب إسحاق بن راهوية.

السادس: كالسابق، لكن يخيَّر فيما لم يرد فيه شيء: وهو اختيار الشوكاني.

السابع: الباني على الأقل يسجد قبل السلام: والمتحرِّي يسجد بعد السلام: وهو مذهب ابن حبان.

الثامن: أنه مخيَّر في السجود قبل السلام أو بعده مطلقًا: وهو محكي عن عليٍّ، والشافعي في قول والطبري.

التاسع: أنه بعد السلام إلا في موضعين يكون فيهما مخيَّرًا: أحدهما إذا قام ولم يجلس للتشهد الأول،

والثاني: أن لا يدري أصلى ركعة أم ثلاثًا أو أربعًا فيبني على الأقل ويخيَّر في السجود، وإليه ذهب ابن حزم وأهل الظاهر.

والصحيح الذي تجتمع عليه النصوص المتقدمة: التفريق بين الزيادة والنقص، وبين الشك مع التحرِّي والشك مع البناء على اليقين وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (1) وقال: وهذا إحدى الروايات عن أحمد، ومذهب مالك قريب منه وليس مثله، فإن هذا مع ما فيه من استعمال النصوص كلها، ففيه الفرق المعقول، وذلك أنه:

1 - إذا كان في نقص -كترك التشهد الأول- احتاجت الصلاة إلى جبر، وجابرها يكون قبل السلام لتتم به الصلاة، فإن السلام هو تحليل من الصلاة.

2 - وإذا كان من زيادة -كركعة- لم يجمع في الصلاة بين زيادتين، بل يكون السجود بعد السلام، لأنه إرغام للشيطان، بمنزلة صلاة مستقلة جبر بها نقص صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السجدتين كركعة.

3 - وكذلك إذا شك وتحرَّى فإنه أتم صلاته، وإنما السجدتان لترغيم الشيطان فيكون بعد السلام.

4 - وكذلك إذا سلَّم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها فقد أتمها، والسلام منها زيادة، والسجود في ذلك بعد السلام، لأنه إرغام للشيطان.

5 - وأما إذا شك ولم يتبين له الراجح، فهنا إما أن يكون صلى أربعًا أو خمسًا، فإن كان صلى خمسًا فالسجدتان يشفعان له صلاته، ليكون كأنه قد صلى ستًّا لا خمسًا، وهذا إنما يكون قبل السلام.

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (23/ 24 - 25).

 

(1/465)

 

 

قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فهذا القول الذي نصرناه هو الذي يستعمل فيه جميع الأحاديث، لا يترك منها حديث، مع استعمال القياس الصحيح فيما لم يرد فيه نص، وإلحاق ما ليس بمنصوص بما يشبهه من المنصوص» اهـ.

إذا سها عن سجود السهو، وحصل فصل أو نقض للوضوء: فهل يبنى على صلاته ويسجد للسهو؟ أم يستأنف الصلاة من جديد؟

(أ) أما إذا وقع فصل طويل -ما لم ينتقض الوضوء- فللعلماء فيه قولان:

الأول يستأنف الصلاة من جديد: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد (1)، قالوا: لأنها صلاة واحدة فلم يجز بناء بعضها على بعض مع طول الفصل، كما لو انتقض وضوؤه.

الثاني: يبني على صلاته ويسجد للسهو ما لم ينتقض الوضوء: وهو قول لمالك والقديم للشافعي وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري والليث والأوزاعي وابن حزم وابن تيمية إلا أنه خصَّه بما كان بعد السلام (2).

قالوا: لأن طول الفصل ليس له حد منضبط، وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم ساهيًا وتكلَّم وراجع وخرج من المسجد ودخل بيته ثم عرف فخرج فأتم ما بقي من صلاته وسجد لسهوه سجدتين.

ولأنه مأمور بإتمام صلاته وسجوده للسهو فوجب، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من نسى صلاة أو نام عنها فكفَّارتها أن يصليها إذا ذكرها» (3).

قلت: وهذا مذهب قوي، لكن من أراد أن يحتاط لنفسه فيعيد الصلاة، فله ذلك والله أعلم.

(ب) وأما إذا انتقض وضوؤه بعد ما سلم من صلاته الناقصة، بطلت صلاته بالاتفاق. فإن كان سها عن السجود -بعد السلام- لزيادة في صلاته، جاز أن يسجدها وإن حدث (نقض للوضوء) لأنهما ترغيم للشيطان، كما قال ابن تيمية (4) قلت: يعني يتوضأ ويسجد للسهو، وهذا قوي ومتجه.

_________

(1) «المبسوط» (1/ 224)، و «المدونة» (1/ 135)، و «المجموع» (4/ 156)، و «المغنى» (2/ 13).

(2) «المدونة» (1/ 135)، و «المحلى» (4/ 166)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 32 - 35).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (684)، والنسائي (614)، وعند البخاري (597) نحوه.

(4) «مجموع الفتاوى» (23/ 36).

 

(1/466)

 

 

تكرار السهو في نفس الصلاة (1):

إذا تكرر السهو للمصلي في الصلاة، فإنه لا يتكرر لذلك سجود السهو، فلا يلزمه إلا سجدتان، عند جمهور العلماء، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم كرَّروا السجود لتكرار السهو، مع أن تكرار السهو ممكن من كل مصلٍّ.

ولأنه لو لم تتداخل لسجد النبي صلى الله عليه وسلم عقب السهو، فلما أخَّر إلى آخر صلاته دلَّ على أنه إنما أخر ليجمع كل سهو في الصلاة.

قلت: وأما حديث ثوبان مرفوعًا: «لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم» (2) فضعيف لا يصح، كما تقدم.

سجود السهو في صلاة التطوع (3):

جمهور العلماء على أنه يسجد للسهو في صلاة التطوع كالفرض، لعموم ذكر الصلاة في أحاديث

الباب من غير تفريق بين فريضة ونافلة، ولعدم الدليل على التفريق.

وعن أبي العالية قال: «رأيت ابن عباس يسجد بعد وتره سجدتين» (4).

وعن عطاء عن ابن عباس قال: «إذا أوهمت في التطوع فاسجد سجدتين» (5).

من أحكام السهو في صلاة الجماعة: قد يحصل السهو في الصلاة للإمام أو المأموم.

[1] إذا سها الإمام في الصلاة:

(أ) يشرع للمأموم تنبيه إمامه إذا سها: ويكون ذلك بتسبيح الرجال، وتصفيق

_________

(1) «رد المحتار» (1/ 497)، و «مواهب الجليل» (2/ 15)، و «شرح المنهاج» (1/ 204)، و «المغنى» (2/ 39).

(2) ضعيف: تقدم تخريجه.

(3) «شرح مسلم» (5/ 60)، و «فتح الباري» (3/ 125 - 126)، و «الأوسط» (3/ 325).

(4) إسناده صحيح: علَّقه البخاري (3/ 125 - فتح)، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 81) بسند صحيح.

(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي المنذر في «الأوسط» (3/ 325).

 

(1/467)

 

 

النساء -عند الجمهور خلافًا لمالك- (1) لحديث سهل بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله» (2).

وفي لفظ: «إذا نابكم أمر فليسبِّح الرجال» (3).

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» (4).

وعند المالكية: يسبِّح الرجال والنساء على سواء، ويُكره تصفيق النساء في الصلاة!! والحديث حجة عليهم، ومعنى التصفيق أو التصفيح: أن تضرب ببطن كفِّها على ظهر الأخرى لتنبيه الإمام.

(ب) استجابة الإمام لتنبيه المأمومين ومتابعتهم (5):

ذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الإمام إذا زاد في صلاته وكان على يقين أو غلب على ظنه أنه مصيب، والمأمومون يرون أنه في الخامسة مثلًا- لم يستجب لهم.

وعند المالكية أنه إن كثر عددهم بحيث يفيد العلم الضروري، فإن الإمام يترك يقينه ويرجع لهم فيما أخبروه.

وهذا إذا كان الإمام قد غلب على ظنه أو تيقن صواب فعله، فإن كان في شك، فيلزمه الاستجابة للمأمومين، لحديث ذي اليدين المتقدم، وبهذا قال الجمهور في الشك، خلافًا للشافعية، فإنهم يرون أنه يبني على اليقين ولا يلتفت للمأمومين!! قلت: وقول الجمهور أولى لأن شهادة المأمومين -الثقات- هي

نوع من التحري، فغن ترجَّح له صواب إخبار المأمومين عمل به، والله أعلم.

(جـ) إذا سها الإمام وسجد للسهو وجب على المأموم اتباعه: سواء سها المأموم معه أو انفرد الإمام بالسهو، قال ابن المنذر في «الأوسط» (3/ 322): «أجمع كل

_________

(1) «فتح القدير» (1/ 356)، و «مواهب الجليل» (2/ 29)، و «نهاية المحتاج» (2/ 44)، و «المغنى» (2/ 19).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1218)، والنسائي (784).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (7190)، والنسائي (793)، وأبو داود (940).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1203)، ومسلم (422).

(5) «ابن عابدين» (1/ 507)، و «نهاية المحتاج» (2/ 75)، و «الخرشي» (1/ 322)، و «المغنى» (2/ 20).

 

(1/468)

 

 

من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المأموم إذا سها الإمام في صلاته وسجد أن يسجد معه، وحجتهم فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» (1) ولأن المأموم تابع للإمام، وحكمه حكمه إذا سها، وكذلك إذا لم يَسْه.

(د) إذا سها الإمام ولم يسجد للسهو؟ فهل يسجد المأموم؟ (2).

اختلف أهل العلم في هذا، فذهب عطاء والحسن والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه إن لم يسجد لم يسجدوا لما فيه من مخالفة الإمام.

وذهب ابن سيرين وقتادة والأوزاعي ومالك والليث والشافعي وأبو ثور ورواية عن أحمد، إلى أنهم يسجدون وإن لم يسجد الإمام، قالوا: ذلك أن هذا شيء وجب عليهم وعليه، فلا يزول عنهم بتركه ما وجب عليه، وذلك أن الكل مؤدٍّ فريضة وما وجب عليه، فلا يزول عنه إلا بأدائه.

(هـ) هل يسجد للسهو المسبوق مع الإمام؟

إذا أدرك الرجل بعض (3) صلاة الإمام، وعلى الإمام سجود السهو، فللعلماء فيه أربعة أقوال:

الأول: يسجد مع الإمام ثم يقوم ليقضي ما عليه: وبه قال الشعبي وعطاء والنخعي والحسن، وأحمد وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه (4).

الثاني: يقضي، ثم يسجد لسهو إمامه، وبه قال ابن سيرين وإسحاق بن راهويه (5).

الثالث: يسجد مع الإمام ثم يقضي ثم يسجد بعد فراغه من الصلاة، وهو مذهب الشافعي (6).

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه.

(2) «الأوسط» (3/ 322)، و «ابن عابدين» (1/ 499)، و «الخرشي» (1/ 331)، و «المجموع» (4/ 134) النبي صلى الله عليه وسلم و «المغنى» (1/ 41).

(3) اختلف العلماء في مقدار الإدراك الذي يلزم به متابعة الإمام في سجود السهو، فقال الجمهور: إذا أدرك معه ركنًا قبل سجوده للسهو وجب متابعته سواء كان السهو قبل الاقتداء أو بعده، وقال المالكين: إذا لم يدرك معه ركعة لم يسجد. قلت: وهو الأظهر، لكن إن سها مع الإمام فعليه أن يسجد لسهو نفسه لا لسهو إمامه، والله أعلم.

(4) «الأوسط» (3/ 323)، و «مسائل أحمد» لأبي داود (55)، و «الأصل» (1/ 234).

(5) «الأوسط» (3/ 323).

(6) «الأم» للشافعي (1/ 132).

 

(1/469)

 

 

الرابع: إن سجد الإمام قبل التسليم سجد معه، وإن سجد بعد التسليم قام فقضى صلاته ثم

يسجدها.

وهو مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد (1).

قلت: ولعل هذا الأخير هو الأقرب لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به ... وإذا سجد فاسجدوا» وقد تقرر -فيما مضى- أن السجود قبل التسليم يكون جبرًا للنقص فوجب المتابعة فيه.

وأما ما يسجد فيه بعد السلام فإنه ترغيم للشيطان، فيقوم يتم ما عليه ثم يسجد لسهو إمامه لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتموا» (2) ويكون بهذا قد ائتم بالإمام من جهة أن الإمام سجد في آخر صلاته فكذلك هو.

[2] إذا سها المأموم خلف إمامه (3):

إذا سها المأموم خلف الإمام فإن الإمام يحمل عنه سهوه، وليس عليه سجود للسهو، عند أكثر أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد ورد في هذا حديث مرفوع عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السهو، وإن سها خلف الإمام فليس عليه سهو والإمام كافيه» (4) لكنه ضعيف لا يصح لكن عليه العمل عند الأكثرين.

وخالف في هذا ابن سيرين وداود وابن حزم فقالوا: يسجد كما لو كان منفردًا أو إمامًا لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من أوهم في صلاته بسجدتي السهو لم يخص إمامًا ولا منفردًا من مأموم.

قلت: مذهب الجمهور أرجح لا للحديث المرفوع، وإنما لما ذكره العلامة الألباني -رحمه الله- حيث قال (5): «نحن نعلم يقينًا أن الصحابة الذين كانوا يقتدون به صلى الله عليه وسلم كانوا يسهون وراءه سهوًا يوجب السجود عليهم لو كانوا منفردين، هذا الأمر لا يمكن لأحد إنكاره، فإذا كان كذلك فلم ينقل أن أحدًا منهم سجد بعد سلامه صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعًا لفعلوه، ولو فعلوه لنقلوه، فإذا لم ينقل، دلَّ

_________

(1) «الأوسط» (3/ 323)، و «المدونة» (1/ 139).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (635)، ومسلم (602).

(3) «الأوسط» (3/ 320)، و «المحلى» (4/ 167).

(4) ضعيف: أخرجه الدارقطني (1/ 377)، والبيهقي (2/ 352).

(5) «إرواء الغليل» (2/ 132).

 

(1/470)

 

 

على أنه لم يشرع، وهذا ظاهر -إن شاء الله تعالى- وقد يؤيد ذلك ما مضى في حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه تكلم في الصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم جاهلاً بتحريمه، ثم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بسجود السهو» اهـ.

صفة سجود السهو: سجود السهو سجدتان كالسجدتين في الركعة تمامًا يكبِّر عند كل خفض ورفع ثم يسلِّم، سواء كانه السجود قبل التسليم أو بعده.

فأما التكبير: ففي حديث ابن بجينة: «فلما أتم صلاته سجد سجدتين: يكبِّر في كل سجدة وهوجالس قبل أن يسلم ....» (1) وهذا قبل السلام.

وأما بعد السلام، فهو ثابت في حديث أبي هريرة: «... فصلى ركعتين وسلَّم، ثم كبَّر وسجد، ثم كبَّر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر فرفع» (2).

هل لسجود السهو تكبيرة إحرام؟

ظاهر الأحاديث أنه يكفي بتكبير السجود وبه قال الجمهور (3)، وقال مالك: لابد من تكبيرة إحرام قبل السجود، لزيادة وردت في حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين: «أنه كبر وسجد، وقال هشام -يعني ابن حسان-: كبر ثم كبر وسجد» وهي زيادة شاذة لا تثبت.

قال ابن عبد البر (4): «سلامه ساهيًا لا يخرجه من صلاته عندنا وعند جمهور العلماء ولا يفسدها عليه، وإذا كان في صلاته بنى عليها، فلا معنى للإحرام، لأنه غير مستأنف لصلاة بل هو متمم لها بانٍ فيها، وإنما يؤمر بتكبيرة الإحرام من ابتدأ صلاته وافتتحها» اهـ.

وأما التسليم بعد السجدتين: فهو ثابت في خبر ذي اليدين، وحدث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى خمسًا، وحديث عمران بن حصين وفيه: «... فصلى ركعة ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم» (5).

_________

(1) صحيح: تقدم في أوب الباب.

(2) صحيح: تقدم في أوب الباب.

(3) «فتح الباري» (3/ 99).

(4) «الاستذكار» (4/ 345).

(5) صحيح: تقدم في أوب الباب.

 

(1/471)

 

 

هل يتشهَّد بعد سَجْدَتَيْ السهو؟

لأهل العلم في هذه المسألة أربعة أقوال (1) أصحُّها أنه لا يتشهد بعد سجدتي السهو لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اعتمد من قال به على ما رُوى من حديث عمران بن حصين:

«أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم» (2) وهو شاذ لا يصح، ولذا قال شيخ الإسلام (23/ 48): «.... فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه سجد بعد السلام غير مرة كما في حديث ابن مسعود لما صلى خمسًا، وفي حديث أبي هريرة -حديث ذي اليدين- وعمران بن حصين ... وليس في شيء من أقواله أمر بالتشهد بعد السجود، ولا في الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول: أنه يتشهد بعد السجود، بل هذا التشهد بعد السجدتين عمل طويل بقدر السجدتين أو أكثر ومثل هذا مما يُحفظ ويُضبط، وتتوفَّر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان قد تشهد لذكر ذلك من ذكر أنه سجد، وكان الداعي إلى ذكر ذلك أقوى من الداعي إلى ذكر السلام وذكر التكبير عند الخفض والرفع، فإن هذه أقوال خفيفة، والتشهد عمل طويل، فكيف ينقلون هذا ولا ينقلون هذا» اهـ.

 

الصلاة في السفر

السفر لغةً: قطع المسافة، وخلاف الحضر (أي الإقامة).

والسفر اصطلاحًا: خروج الإنسان من وطنه قاصدًا مكانًا يستغرق المسير إليه مسافة ما، اختلف الفقهاء في تقديرها كما سيأتي.

أولاً: قصر الصلاة:

تعريفه: القصر لغةً: الحبس، وعدم بلوغ الشيء مداه ونهايته.

والقصر شرعًا: أن تصير الصلاة الرباعية ركعتين في السفر، سواء في حالة الخوف أو الأمن.

_________

(1) «الأوسط» لابن المنذر (3/ 314 - 317) وقد حكى القول بإثباته، وبمنعه، وبالتخيير، وبالتفريق بين ما كان بعد السلام فيتشهد وما كان قبله لا يتشهد.

(2) شاذ: أخرجه أبو داود (1039)، والترمذي (395)، وابن الجارود (247) وغيرهم، وقد ضعَّفه البيهقي وابن عبد البر وابن تيمية وغيرهم، وكذا العلامة الألباني كما في «الإرواء» (403).

 

(1/472)

 

 

مشروعيته: ثبتت مشروعية القصر في السفر بالكتاب والسنة والإجماع، وستأتي الأدلة خلال مباحث هذا الباب، إن شاء الله.

وقد اتفق العلماء على مشروعية القصر للصلاة في السفر، وعلى أن الفجر والمغرب لا تُقصران، واختلفوا في حكم قصر الصلاة: هل هو واجب أو رخصة؟ كما اختلفوا في شروط القصر، وفي غير ذلك، وفيما يلي بيان هذه المسائل:

حُكْمُ قَصْرِ الصلاة في السفر:

اختلف أهل العلم في حكم قصر الصلاة الرباعية في السفر على قولين:

الأول: أن القصر رخصة (جائز) وهو مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة (1)، ثم اختلف هؤلاء في: هل الأفضل القصر أو الإتمام أو هو مخيَّر؟.

الثاني: أن القصر عزيمة (واجب) ولا يجوز الإتمام: وهو مذهب الحنفية وقول عند المالكية، ومذهب الظاهرية (2)، ثم اختلفوا فيما إذا أتم: تبطل صلاته أم لا؟

أدلة الفريقين ومناقشاتها:

[أ] أدلة القائلين بعدم الوجوب:

1 - قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} (3). قالوا: نفى الجناح يقتضي رفع الإثم، والإباحة لا الوجوب والعزيمة.

وأجاب الموجبون من وجوه ثلاثة: الأول: أنه لا يُسلَّم بأن نفي الجناح خاص بالمباح، بل يستعمل كذلك في الواجب، ومن ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (4). فنفى الجناح في الآية جاء في السعي بين الصفا والمروة في الحج وهو فرض.

_________

(1) «الشرح الكبير في حاشية الدسوقي» (1/ 358)، و «المجموع» (4/ 337)، و «كشاف القناع» (1/ 324)، و «المغنى» (2/ 197)، و «بداية المجتهد» (1/ 241)، و «نيل الأوطار» (3/ 239)، و «الحاوي» للماوردي (2/ 363 - 365).

(2) «البدائع» (1/ 91)، و «فتح القدير» (1/ 395)، و «بداية المجتهد» (1/ 241)، و «المنتقى» للباجي (1/ 260)، و «المحلى» (4/ 264)، و «معالم السنن» (1/ 48)، و «نيل الأوطار» (3/ 239).

(3) سورة النساء، الآية: 101.

(4) سورة البقرة، الآية: 158.

 

(1/473)

 

 

وأُجيب: بأن الآية نزلت لتبين أن السعي من الشعائر، وذلك لما تحرَّج المسلمون منه لأن العرب كانت تفعله في الجاهلية، ولم تنزل الآية لبيان حكم السعي!!

والوجه الثاني: أن المراد بالقصر في الآية: قصر هيئة الصلاة في الخوف من ترك القيام والركوع، وأُجيب: بأن المراد بالقصر: إنقاص عدد الركعات بحيث تصير الرباعية ثنائية، بدليل حديث يعلى بن أمية الآتي قريبًا وفيه أنه أشكل عليه إنقاص عدد الركعات في السفر في حالة الأمن كما أشكل على عمر فقال صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (1).

والوجه الثالث: أن في الآية اشتراط تحقق الخوف، فلماذا لم تقولوا به لجواز القصر وأجزتموه في الأمن؟

وأُجيب: بأن القصر في السفر قد أكدته السنة.

2 - واستدل الجمهور: بحديث يعلى بن أميَّة قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن الناس!! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» (2) قالوا: والتعبير عن القصر بالصدقة يدل على الجواز، لأن الشأن في الصدقة التطوع لا الإلزام والوجوب.

وأجاب الموجبون: بأن الحديث دليل لنا لا لكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقبول هذه الصدقة والأمر للإيجاب، وكل إحسان إلينا صدقة.

وأجيب: بأنه توجد أكثر من قرينة تصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب!! ومن ذلك أن لفظ «صدقة» إذا أطلق يراد به الصدقة التطوعية لا الواجبة.

3 - واستدل الجمهور: بما رُوى عن عائشة أنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمتُ، وقصر وأتممتُ، فقلت: بأبي وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ، فقال: «أحسنتِ يا عائشة» (3).

_________

(1) صحيح: وانظر الآتي بعده.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (686)، وأبو داود (1199)، والترمذي (3037)، وابن ماجه (1065).

(3) ضعيف: أخرجه الدارقطني (2/ 188)، والبيهقي (3/ 142)، ورجَّح الدارقطني في «العلل» إرساله.

 

(1/474)

 

 

وأجاب الموجبون عنه بأجوبة: أحدها: أن الحديث ضعيف لا يحتج به، والثاني: أن في متنه نكارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات ليس منهن شيء في رمضان، بل في ذي القعدة (1).

والثالث: قال شيخ الإسلام (2): «وهذا حديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون، ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة: «فرضت الصلاة ركعتين ...» فكيف يظن بها أنها تزيد على فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟!» اهـ.

4 - واستدل الجمهور: بما يُروى عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم» (3).

وأجاب الموجبون: بأنه محمول على أنه قصر في الفعل وأتم في الحكم، كقول عمر: «صلاة السفر

ركعتان تمام من غير قصر» وأجيب: بأن التمام في خبر عائشة يدل على جواز صلاة الرباعية أربع ركعات في السفر، أما الإتمام في خبر عمر فيدل على التمام في الأجر، فلا يُحمل خبر عائشة على كلام عمر رضي الله عنهما قلت: الحديث منكر فلا حاجة إلى شيء من التأويل.

5 - واستدل الجمهور: بحديث عبد الرحمن بن يزيد قال: «صلَّى بنا عثمان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان» (4).

قالوا: يعني: ليت عثمان صلى ركعتين بدل أربع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان في صدر خلافته يفعلون، ومقصوده كراهة مخالفة ما كان عليه

_________

(1) وأجيب عن هذا الوجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في رمضان: عمرة القضاء، وفي فتح مكة وكلاهما في رمضان.

(2) نقله في «زاد المعاد» (1/ 472) ط. الرسالة.

(3) منكر: أخرجه الدارقطني (2/ 242)، (2/ 189)، والشافعي (518)، والبيهقي (3/ 141، 142) وسنده تالف، وقال شيخ الإسلام: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ، وانظر «الإرواء» (3/ 3 - 9).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1084)، ومسلم (695).

 

(1/475)

 

 

النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه، ومع هذا فقد وافق ابن مسعود على جواز الإتمام، وإلا لم يجز أن يُتَّم وراء أحد (1).

وأجاب الموجبون من وجوه:

(أ) أن عثمان أتم بمنى لأنه نوى الإقامة في مكة بعد الحج، وأتم من كان معه من الصحابة لأنهم يقيمون بإقامته، وأجيب: بأن الإقامة بمكة كانت حرامًا على المهاجرين، وكيف يقيم وصح عن عثمان أنه كان يودِّع النساء إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته، وثبت أنه -لما حاصروه- قيل له: اركب رواحلك إلى مكة، قال: لن أفارق دار هجرتي» (2).

(ب) وقيل: إن عثمان أتَّم بمنى لأنه تزوج بمكة، بدليل أنه لما أنكر الناس عليه صلاته بمنى أربعًا، قال: «أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تأهلَّ في بلد فليصلِّ صلاة المقيم» (3) وأجيب بان الحديث قد أعل بالانقطاع فلا يحتج به.

(جـ) وقيل: إن عثمان أتمَّ لأنه إمام المسلمين، وكل موضع نزل فيه يعتبر مقيمًا فيه ودارًا له!!

وأجيب: بأن الأولى بهذا الحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والثابت عنه أنه كان يقصر في كل سفر.

6 - واستدل الجمهور: بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلَّى أربعًا بالاتفاق، ولو كان فرضه

القصر لم يأتم مسافر بمقيم. وأجاب الموجبون: بأن فرض المسافر ركعتان لم يتغير باقتدائه بالمقيم، لكن تكون الركعتان الأخريان نافلة، بدليل أنه إذا لم يقعد بعد الركعتين الأوليين تبطل صلاته لتركه القعود الذي هو فرض في حقِّه.

وأجيب: بأنه لا يسلَّم أن الركعتين الأخيرتين نافلة، ولو كانتا كذلك لما وجب عليه الإتمام خلف الإمام المقيم.

7 - واستدل الجمهور بالقياس على الصوم للمسافر في نهار رمضان بجامع السفر في كلٍّ، فالإفطار له رخصة وليس بواجب، فكذلك القصر!!

_________

(1) «شرح مسلم» للنووي (5/ 204).

(2) «فتح الباري» (2/ 665) ط. السلفية.

(3) ضعيف: أخرجه أحمد (1/ 62) بسند ضعيف وأعلَّه البيهقي بالانقطاع.

 

(1/476)

 

 

وأجاب الموجبون: بأن هذا قياس مع الفارق فلا يصح، لأن الصوم يُقضى فيتركه إلى بدل، بخلاف الركعتين في الرباعية فإن المسافر يتركهما إلى غير بدل.

[ب] أدلة القائلين بالوجوب:

1 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» (1).

وأجاب الجمهور من وجهين:

(أ) أن المراد: فرضت الصلاة ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأُقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار.

أو أنَّ المراد: أن ابتداء فرض الصلاة كان ركعتين ثم أتمت فصارت أربعًا، ولذلك كانت عائشة تتم في السفر.

(ب) أن الحديث موقوف على عائشة فليس بحجة لا سيما وأنها لم تشهد زمن فرض الصلاة!!

وأجيب: بأن الموقوف إذا لم يكن للعقل فيه مجال فله حكم الرفع، وهو هنا كذلك.

2 - واستدل الموجبون: بحديث ابن عباس قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيِّكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» (2).

وأجاب الجمهور: بأن الحديث لا يحمل على ظاهره!! وأن المراد: أن صلاة السفر ركعتان في حالة الاقتصار عليهما للمسافر، أما إذا أراد الإتمام فلا حرج جمعًا بين الأدلة!!

3 - واستدل الموجبون: بحديث عمر بن الخطاب قال: «صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر

ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام من غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم» (3).

وأجاب الجمهور بأن المراد بالتمام أنها تامة في فضلها وأجرها غير ناقصة الفضيلة والأجر، وإنما وجب هذا التأويل لأن ظاهر الحديث يقتضي أن تكون

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (350)، ومسلم (685).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (687)، وأبو داود (1247)، والنسائي (3/ 169).

(3) صحيح: أخرجه النسائي (3/ 118)، وابن ماجه (1064)، وأحمد (1/ 37).

 

(1/477)

 

 

صلاة الركعتين في السفر غير مقصورة وهذا مخالف لنص القرآن الكريم في تسميتها بالقصر!!!

4 - واستدل الموجبون: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (1) وقد تقدم الكلام عليه.

5 - واستدل الموجبون: بحديث ابن عمر قال: «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2)» (3).

وأما ما تقدم من إتمام عثمان الصلاة بمنى، فالذي يظهر أنه ما كان يتم إلا بمنى خاصة، لحديث ابن عمر قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدرًا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعدُ أربعًا» (4).

وأجاب الجمهور: بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته لا تدل على الوجوب.

6 - واستدل الموجبون: بأن الركعتين الأخيرتين يجوز تركهما إلى غير بدل، فلم يجز زيادتهما على الركعتين المفروضتين، كما لو زادهما على صلاة الصبح.

وأجاب الجمهور: بأن القياس على صلاة الصبح قياس مع الفارق، لأن صلاة الصبح ركعتان لا تقبل زيادة بحال، بخلاف صلاة المسافر فإنها تقبل الزيادة بعد الاقتداء بالمقيم.

الراجح في المسألة:

بعد هذا العرض لأدلة الفريقين ومناقشاتهما، فلا يسلم من أدلة الجمهور إلا فعل عثمان وعائشة متأولين في مقابل ظواهر أحاديث عائشة وعمر وابن عباس ومداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه

على القصر في السفر.

_________

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

(2) سورة الأحزاب، الآية: 21.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (689).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1082)، ومسلم (694).

 

(1/478)

 

 

فالذي يظهر أن القول بالوجوب قوي ومتجه، ويستثنى من ذلك من صلى خلف المقيم، ولو ذهب أحدٌ إلى القول بأنه سنة مؤكدة لا ينبغي تركه وأن الإتمام مكروه، لم يبعُد كذلك، وهما منقولان عن شيخ الإسلام، والله أعلم.

حدُّ السفر (المسافة التي يقصر فيها):

اختلف أهل العلم في تحديد المسافة التي يجوز فيها قصر الصلاة على ثلاث أقوال:

الأول: مسافة القصر (48) ميلاً بما يساوي (85) كيلو متر: وبه قال ابن عمر وابن عباس والحسن البصري والزهري، وهو مذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور (1) وحجتهم ما يلي:

1 - ما رُوى عن ابن عباس مرفوعًا: «يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد (2) من مكة إلى عسفان» (3) وهو منكر لا يصح.

2 - ما ثبت أن «ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما كانا يقصران ويفطران في أربعة برد» (4) وهي ستة عشر فرسخًا.

3 - أن مسافة أربعة برد تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسافة الثلاث، ولم يجز فيما دونها.

الثاني: مسافة القصر مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بمشي الإبل: وبه قال ابن مسعود وسويد بن غفلة والشعبي والنخعي والثوري، وهو مذهب أبي حنيفة (5) وحجتهم ما يلي:

1 - حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي مَحْرَم» (6).

_________

(1) «القوانين» (100)، و «الدسوقي» (1/ 358)، و «المجموع» (4/ 322)، و «الحاوي» (2/ 361)، و «المغنى» (2/ 90)، و «كشاف القناع» (1/ 504).

(2) البرد: جمع بريد وهو مسافة أربع فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل حوالي (1. 8) كيلو متر.

(3) منكر: أخرجه الدارقطني (148)، وعنه البيهقي (3/ 137) وانظر «الإرواء» (565).

(4) صحيح: علقه البخاري (2/ 659 - فتح)، ووصله البيهقي (3/ 137)، وانظر «الإرواء» (568).

(5) «ابن عابدين» (2/ 122)، و «الهداية» (1/ 80)، و «نيل الأوطار» (3/ 246)، و «بداية المجتهد» (1/ 243).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1086)، ومسلم (1338).

 

(1/479)

 

 

2 - حديث علي بن أبي طالب -في المسح على الخفين-: «جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام

ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم» (1).

قالوا: فتعلق حكم المسافر في الحديثين بمن سافر ثلاثة أيام فلا يتعلق القصر بأقل من ذلك!!

3 - من المعقول: أن الثلاثة أقل الكثير وأكثر القليل، ولا يجوز القصر في قليل السفر!! فوجب أن يكون أقل الكثير -وهو الثلاث- حدًّا له!!

الثالث: ليس للقصر مسافة محددة، بل يقصر في كل ما يطلق عليه «السفر»: وهو مذهب الظاهرية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (2) وحجتهم ما يلي:

1 - قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} (3). فظاهر الآية يدل على أن القصر يتعلق بكل ضرب في الأرض دون تحديد مسافة معينة.

2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدَّ القصر بحد زماني أو مكاني، بل علق الشارع الحكم بمسمى «السفر» المطلق، فلا يجوز أن يفرق بين نوع ونوع من غير دلالة شرعية، بل الواجب أن يطلق ما أطلقه الشارع ويقيد ما قيَّده، والتقدير -لمسافة القصر- بابه التوقيف فلا يصار إليه برأي مجرد.

3 - أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر فيما دون المسافات المحدودة آنفًا:

(أ) فعن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلَّى ركعتين» (4) فهو يدل صراحة على أن القصر يتعلق بمطلق السفر ولو كان ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، قال الحافظ: هو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه. اهـ.

وقد أجاب الجمهور عنه: بأنه محمول على المسافة التي يبتدئ القصر منها لا غاية السفر!! قال الحافظ: «ولا يخفى بُعْد هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن زيد -راويه عن أنس- قال: سألت أنسًا عن

_________

(1) صحيح: تقدم في «المسح على الخفين».

(2) «المحلى» (5/ 10)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 12 - 35)، و «زاد المعاد» و «فتح الباري» (2/ 660)، و «المغنى» (2/ 44).

(3) سورة النساء، الآية: 101.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (691).

 

(1/480)

 

 

قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أخرج، فقال أنس: فذكر الحديث، فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يُبتدأ القصر منه» اهـ.

(ب) وعن أنس قال: «صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، والعصر بذي

الحليفة ركعتين» (1) وبينهما ثلاثة أميال:

(أ) أنه قد ثبت عنهما خلاف هذا التحديد بأسانيد صحيحة، وكذا خالفهما غيرهما من الصحابة.

(ب) ولو سلِّم أنه لم يثبت عنهما إلا ما احتج به الجمهور وأنه ليس لهما مخالف، فلا حجة فيه كذلك لمخالفته ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم.

5 - وأما حديث (لا تسافر المرأة ثلاثًا ...) فليس فيه أن السفر لا يطلق إلا على ثلاثة أيام، وإنما فيه أنه لا يجوز أن تسافر المرأة بغير محرم هذا السفر الخاص، وقد صح من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم» (2) وليس شيء من هذا حدًّا للسفر.

الراجح: هو القول الثالث بأن يقصر في كل ما يُطلق عليه مسمى «السفر» سواء كان قصيرًا أو طويلاً وليس له حد في اللغة، فرجع إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة لما يطرأ من التطور في وسائل المواصلات، وضابطه: أن يقول القائل: إني مسافر إلى البلد الفلاني، لا إني ذاهب، وأن يكون فيه ما يعد به في العُرف سفرًا، مثل التزود له ونحو ذلك، والله أعلم.

هل يشترط في السفر الذي يقصر فيه أن يكون سفر طاعة؟

ذهب جمهور العلماء: مالك والشافعي وأحمد (3)، إلى أنه لا يشرع القصر إلا في السفر الواجب أو المباح ولا يجوز في سفر المعصية كقطع الطريق ونحوه، وهذا مبناه على قولهم بأن القصر رخصة والمقصود منها التخفيف على المكلف، وهو إنما شرع ليُستعان به على تحصيل المصالح، فلا يكون إلا لمن يبذله في الطاعة، لا أن يتوصل به إلى ما يغضب الله.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (189)، ومسلم (690)، وزيادة (العصر) له.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1939).

(3) «بداية المجتهد» (1/ 244)، و «المجموع» (4/ 201)، و «المغنى» (2/ 101)، و «كشاف القناع» (1/ 324).

 

(1/481)

 

 

بينما ذهب القائلون بوجوب القصر: (أبو حنيفة وابن حزم وابن تيمية، وغيرهم) إلى أنه يقصر في كل سفر ولو في معصية، لأن فرضه ركعتان لا أربع، وإن كان عاصيًا بسفره، وهذا قول عند المالكية (1).

قلت: فمن ترجَّح عنده أن القصر رخصة منع القصر في سفر المعصية، ومن أوجب القصر لم يفرِّق بين سفر الطاعة والمعصية، وهو الأرجح، والله أعلم.

الموضع الذي يبدأ منه المسافر قصر الصلاة:

أجمع أهل العلم على أن المسافر يجوز له أن يبدأ قصر الصلاة بعد مفارقة عمران بلدته (2).

ثم اختلفوا في جواز القصر قبل ذلك على قولين، أصحُّهما أنه لا يجوز أن يقصر قبل مغادرة العمران، وهو مذهب الجمهور (3)، ويدل عليه: حديث أنس بن مالك قال: «صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين» (4).

وهو ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ القصر بعد خروجه من المدينة.

مدة القصر، إذا أقام في بلد السفر:

المسافر لا يزال يقصر الصلاة ما دام في طريق سفره مهما طالت المدة، فإذا وصل إلى البلد الذي أراده، فما المدة التي يُشرع له القصر فيها؟

هذا أمر مسكوت منه في الشرع، وليس فيه حديث صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس على التحديد ضعيف عند أهل العلم، ولذا اختلف العلماء في هذه المسألة على نحو من أحد عشر قولاً، أشهرها أربعة أقوال رام أصحابها أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام فيها مُقصرًا، أو أنه جعل لها حكم المسافر (5)، وأشهر هذه الأقوال ما يلي:

_________

(1) «فتح القدير» (1/ 47) النبي صلى الله عليه وسلم و «الخرشي» (1/ 57)، و «المحلى» (4/ 267)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 110).

(2) «الإجماع» لابن المنذر (39)، و «المغنى» (2/ 260).

(3) «ابن عابدين» (2/ 121)، و «الذخيرة» (2/ 365)، و «المجموع» (4/ 202)، و «كشاف القناع» (1/ 325).

(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(5) «بداية المجتهد» (1/ 245) ط. العلمية.

 

(1/482)

 

 

[أ] إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام لم يقصر: وهو مذهب الجمهور: (المالكية والشافعية والحنابلة) إلا أن المالكية والشافعية قالوا: أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، والحنابلة حدودها بإحدى وعشرين صلاة (1). واستدلوا بما يلي:

1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلَّى الصبح في اليوم الثاني، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد عزم على إقامتها (2).

وأجيب عنه: بأنه ليس فيه أن هذه المدة هي أدنى مدة للإقامة، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه

وسلم أنه أقام أكثر من تلك المدة يقصر الصلاة كما سيأتي.

2 - حديث العلاء بن الحضرمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» (3) قالوا: فدلَّ على أن من أقام ثلاثة أيام ليس في حكم المقيم، بل هو في حكم المسافر.

وأجيب عنه: بأن معنى الحديث أن من هاجر من مكة قبل الفتح يحرم عليه الاستيطان بمكة إلا أن يقيم بعد فراغه من نسكه ثلاثة أيام لا يزيد، وأما المسافر فلا يكره له الزيادة على ثلاثة أيام في مكة فكيف يقاس عليه!! ثم ليس فيه إشارة على المدة التي إذا أقامها المسافر أتمَّ؟!

ثم إن في الحديث أن ما زاد على ثلاثة أيام للمهاجر يكون داخلاً تحت المسافر لا المقيم، وعندهم أن ما زاد على الثلاثة للمسافر فإقامة صحيحة، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث لا أن يتم بخلاف قولهم (4).

3 - أثر عمر بن الخطاب: «أنه ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة

_________

(1) «الدسوقي» (1/ 364)، و «المجموع» (4/ 361)، و «الحاوي» (2/ 372)، و «المغنى» (2/ 132)، و «كشاف القناع» (1/ 330).

(2) صحيح: أخرجه البخاري معناه (1564)، ومسلم (1240)، من حديث ابن عباس، ومسلم (1218) من حديث جابر.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1352).

(4) «المحلى» (5/ 24).

 

(1/483)

 

 

ثلاث ليال يتسوَّقون بها، ويقضون حوائجهم، ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث ليال» (1) قالوا: دلَّ الأثر على أن الثلاث حدُّ السفر وما فوقها حد الإقامة، فأجيب: بأنه لا يدل على حدِّ السفر بثلاث، كما بينَّا في الذي قبله.

4 - أن ضيافة المسافر ثلاثة أيام، فإذا زاد اعتبر مقيمًا!! وأجيب: بأنه لا يدلُّ على أقل مدة للإقامة كما هو واضح.

[ب] إذا نوى الإقامة خمسة عشر يومًا لم يقصر: وهو مذهب أبي حنيفة والثور والمزني (2) واستدلوا بما يأتي:

1 - حديث أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة» قيل له: أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: «أقمنا بها عشرًا» (3).

وفي لفظ «أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أيام نقصر الصلاة» ويجاب عنه: بمثل ما تقدم في حديث جابر وابن عباس.

2 - وعن ابن عباس قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة» (4).

3 - ما جاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يومًا أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها» (5).

قالوا: هذا التحديد لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع!! وأجيب: بأنه قول صحابي قد خالفه غيره فلا يكون حجة، ثم إن الثابت عن ابن عباس وابن عمر خلافه:

_________

(1) إسناده ثقات: أخرجه البيهقي (3/ 147 - 9/ 209) بسند رجاله ثقات إلا أنهم تكلموا في سماع يحيى بن بكير من مالك.

(2) «البدائع» (1/ 97، 98)، و «الهداية» (1/ 81)، و «المجموع» (4/ 364).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1081)، ومسلم (693)، واللفظ الآخر له.

(4) ضعيف بهذا اللفظ: أخرجه أبو داود (1231)، وابن ماجه (1076) وقد صح بلفظ «تسعة عشر» وسيأتي قريبًا.

(5) ذكره الترمذي عن ابن عمر عقب الحديث (548) بغير إسناد.

 

(1/484)

 

 

فقال ابن عباس: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا» (1).

[جـ] أن المسافر يقصر أبدًا ما لم ينو إقامة دائمة: وهو مذهب الحسن وقتادة وإسحاق واختاره ابن تيمية (2)، واستدلوا بما يلي:

1 - حديث ابن عباس قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذ سافرنا فأقمنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا» (3).

2 - حديث جابر قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة» (4).

3 - ما رُوى عن عمران بن حصين قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: «يا أهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سَفْر» (5).

قالوا: دلت هذه الأحاديث على أن حقيقة المسافر لا تتعلق بمدة معينة وإنما قصر النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانية عشر وتسعة عشر وعشرين، لأنه كان مسافرًا.

فائدة:

عند أصحاب المذاهب الثلاثة المتقدمة أن المسافر إذا أقام ببلد، ولم ينو الإقامة، ولم يَدْرِ متى يخرج ومتى تقضي حاجته فيه فإن يقضي أبدًا، ومستندهم أن على هذا فعل السلف:

(أ) فعن ابن عمر أنه «أقام بأذربيجان ستة أشهر أرتج (6) عليهم الثلج فكان يصلي ركعتين» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1080).

(2) «المجموع» (4/ 365)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 18)، و «المحلى» (5/ 23).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صححه الألباني: أخرجه أحمد (3/ 295)، وأبو داود (1236)، وقد أُعِلَّ، وانظر «الإرواء» (574).

(5) ضعيف: تقدم تخريجه.

(6) أي: دام عليهم الثلج وأطبق.

(7) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 152)، وأحمد (2/ 83)، 154) بنحوه مطولاًا بسند حسن وانظر «الإرواء» (577).

 

(1/485)

 

 

(ب) وعن أبي المنهال العنزي قال: قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير؟ قال: «صلِّ ركعتين» (1).

(جـ) وعن الحسن أن «أنس بن مالك أقام بنيسابور سنة أو سنتين، وكان يصلي ركعتين ثم يسلِّم، ثم يصلي ركعتين، ولا يُجَمِّع» (2).

(د) وعنه أن عبد الرحمن بن سمرة «شتا بكابل شتوة أو شتوتين، لا يُجمِّع، ويصلي ركعتين» (3).

(هـ) وعن أنس قال: «أقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برام هرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة» (4).

(و) وعن أبي وائل قال: «كنا مع مسروق بالسلسلة سنتين وهو عامل عليها فصلى بنا ركعتين حتى انصرف» (5).

ومجموع هذه الآثار يثبت هذا الأصل.

[د] أن المسافر يقصر عشرين يومًا بلياليها ثم يُتمُّ بعد ذلك، نوى الإقامة أو لم ينو: وهو مذهب أبي محمد ابن حزم، وتبعه الشوكاني إلا أنه فرَّق بين من نوى الإقامة فقال: لا يقصر فوق أربعة أيام، وبين من لم ينو ولم يعرف متى يخرج فإنه يقصر عشرين ثم يُّتم، وهذا قول عند الشافعية (6).

واستدلوا بأدلة المذهب الثالث، إلا أنهم نظروا إلى أمرين:

الأول: أنه لا اعتبار لنية الإقامة هنا، لأن النيات لا دخل لها في الأعمال التي لم يأمر الله تعالى بها، كالسفر والإقامة، وإنما تجب النيات في الأعمال التي أمر الله بها، فلا يجوز أن تؤدى بغير نية (7).

الثاني: مراعاة الأصل وهو الإتمام، قالوا: «والحق أن الأصل في المقيم الإتمام، لأن القصر لم يشرعه

الشارع إلا للمسافر، والمقيم غير المسافر، فلولا ما ثبت عنه

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 207).

(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (5099)، وعنه ابن المنذر (ت/ 1736).

(3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 13).

(4) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 152)، وانظر «الإرواء» (576).

(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 208)، وعبد الرزاق (4357).

(6) «مغنى المحتاج» (1/ 262).

(7) وقد وافقهم على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر: «المحلى» (5/ 29)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 41).

 

(1/486)

 

 

صلى الله عليه وسلم من قصره بمكة وتبوك مع الإقامة لكان المتعيِّن هوالإتمام، فلا ينتقل عن ذلك الأصل إلا بدليل، وقد دلَّ الدليل على القصر مع التردد على عشرين يومًا كما في حديث جابر، ولم يصحَّ أنه صلى الله عليه وسلم قصر في الإقامة أكثر من ذلك، فيقصر على هذا المقدار، ولا شك أن قصره صلى الله عليه وسلم في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها، ولكن ملاحظة الأصل المذكور هي القاضية بذلك ...» اهـ (1).

الراجح في المسألة:

ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا مقيم ومسافر، وأما المستوطن في غير بلده فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون حطَّ رحله فيه واتخذ مسكنًا خاصًّا به وأثثه وأقام فيه مطمئنًا فهذا مقيم لا يُشرع له القصر، لا أربعة أيام ولا أكثر منها، ولا يعكر على هذا قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بمكة أربعة أيام وهو يعلم أنه سيمكث فيها هذه المدة، لما تقدم من أن العبرة في السفر والإقامة بطبيعة السكن والاستقرار به، لا بالمدة وأما أن ينزل بمكان لا يشعر فيه بالاستقلال والاستقرار -كما هو الحال في دار الإقامة- فهذا مسافر يقصر ما دام كذلك ولو فوق العشرين يومًا.

فقد يسافر رجل من المنصورة -مثلًا- إلى القاهرة لحاجة يعلم أنها تقضي في شهر، لكن يبيت أسبوعًا عند قريب وأسبوعًا عند صديق وهكذا، فهذا لا يكون مقيمًا، بل هو مسافر، فله القصر ما شاء حتى يرجع أو يكون له مكان يستقر فيه بحيث يكون له دار إقامة.

هذا هو الذي يترجَّح لدي في المسألة وهو الذي تجتمع عليه الأدلة المتقدمة كلها، وهو قريب من المذهب الثالث، ويليه في القوة المذهب الرابع، والله أعلم.

فائدة: السكنى بالمدينة الجامعية: إقامة وليست سفرًا، لما تقدم من اعتبار طبيعة السكنى، وعليه فلا يشرع للطالب أن يقصر بالمدينة الجامعية إذا استقر بها على النحو المتقدم والله أعلم.

القصر لا يشترط فيه النية: وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقصر بأصحابه، ولا يعلمهم قبل دخول الصلاة أنه يقصر، ولا يأمرهم بنيَّة القصر، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد (2) وقد تقدم تحرير هذا في «اختلاف نية الإمام والمأموم».

_________

(1) «نيل الأوطار» (3/ 251).

(2) «مجموع الفتاوى» (24/ 16 - 21)، و «الهداية» (1/ 81)، و «الشرح الصغير» (1/ 174 - مع بغية السالك)، و «المغنى» (2/ 105).

 

(1/487)

 

 

صلاة المسافر خلف المقيم:

إذا دخل المسافر في صلاة رباعية خلف إمام مقيم، فلو يخلو من ثلاث حالات:

الأول: أن يدرك مع الإمام ثلاث أو أربع ركعات: فيلزمه الائتمام به وإتمام الصلاة أربعًا خلف إمامه عند الجمهور خلافًا لابن حزم (1) واستدل الجمهور بما يلي:

1 - عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ...» (2).

2 - حديث موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلِّ مع الإمام؟ فقال: «ركعتين، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» (3).

وفي لفظ: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا، فإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين؟ قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» (4).

3 - وعن ابن عمر أنه «كان يقيم بمكة عشرًا فيقصر الصلاة، إلا أن يشهد الصلاة مع الناس فيصلي بصلاتهم» (5) وفي لفظ: «كان إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا، وإذا صلاها وحده صلَّى ركعتين» (6).

الثانية: أن يدرك مع الإمام ركعة أو ركعتين: فللعلماء فيه قولان:

الأول: أنه يتمُّ أربعًا ولابد، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة وغيرهم وهو قول ابن عمر وابن عباس، وجماعة من التابعين، واستدلوا بالأدلة المتقدمة، وبحديث أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم [يعني: المقيمين] أتجزيه الركعتان أو يصلي بصلاتهم؟ قال: فضحك، وقال: «يصلي بصلاتهم» (7).

الثاني: أنه تجزئه ركعتان فقط: وهو قول إسحاق وطاووس والشعبي وتميم بن حذلم (صاحب ابن مسعود) وأبي محمد ابن حزم.

قلت: ولعلَّ الإتمام أصحُّ لأنه قول ابن عمر وابن عباس ولا يُعلم لهما مخالف من الصحابة، ولأنه أدرك الجماعة مع إمام مقيم فيلزمه إتمامها، لكن قد

_________

(1) «المغنى» (2/ 151)، و «المحلى» (5/ 31)، و «فتح المالك بترتيب التمهيد» (3/ 132).

(2) صحيح: تقدم تخريجه.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (688)، والنسائي (3/ 119)، وابن خزيمة (951).

(4) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 216)، وابن خزيمة (952)، والبيهقي (3/ 153) من طرق.

(5) إسناد صحيح: أخرجه مالك (196)، وعبد الرزاق (4381).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (694).

(7) صححه الألباني: أخرجه البيهقي (3/ 157)، وانظر «الإرواء» (3/ 22).

 

(1/488)

 

 

يقال: لو نوى القصر خلف المتم فأدرك معه الركعتين -ولا يشترط اتفاق نية الإمام والمأموم كما تقدم- فيجزئان؟ قلت: هذا موضع اجتهاد، ومذهب

الصحابيين أولى بالاتباع والله أعلم.

الثالثة: أن يدرك معه أقل من ركعة: فذهب الحسن والنخعي والزهري وقتادة ومالك -رحمهم الله- إلى أنه يقصر، خلافًا للجمهور، وحجتهم:

1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة» (1) فهذا لم يدرك حكم الجماعة.

2 - أن من أدرك من الجمعة ركعة أتمها، ومن أدرك أقل من ذلك لا يلزمه فرضها، بل يصلي أربعًا، كما سيأتي في «الجمعة».

قلت: وهذا متجه وقوي، والله أعلم.

صلاة المقيم خلف المسافر:

إذا صلى المقيم الرباعية خلف مسافر فأجمع العلماء على أنه يلزمه أن يتم صلاته أربعًا بعد تسليم الإمام (2)، ويستحب للإمام بعد تسليمه أن يقول لهم: «أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْر».

1 - فعن ابن عمر «أن عمر رضي الله عنهما كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سَفر» (3).

وقد ورد نحوه مرفوعًا من حديث عمران بن حصين في قصة «الفتح» ولا يصح (4)، لكن فعل عمر رضي الله عنه كان في جمع العلماء من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، ولا يعلم له مخالف فيه، فكان العمل عليه.

2 - ولأن الصلاة واجبة عليه أربعًا فلم يكن له ترك شيء من ركعاتها كما لو لم يأتم بمسافر.

فائدة: إذا أَمَّ مسافر قومًا -فيهم مسافرون ومقيمون- ثم أحدث بعد ركعة، فاستخلف مقيمًا (5):

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.

(2) «المغنى» (2/ 152).

(3) إسناده صحيح: أخرجه مالك (195)، وابن أبي شيبة (1/ 419)، وعبد الرزاق (4369)، والبغوي (1024).

(4) ضعيف: أبو داود (1229)، والترمذي (545)، وأحمد (4/ 430).

(5) «فتح المالك» بتبويب التمهيد على موطأ مالك (3/ 133).

 

(1/489)

 

 

(أ) فقيل: يصلي المقيم تمام صلاة الأول، ثم يشير إلى من خلفه بالجلوس، ثم يقوم وحده فيتم صلاته أربعًا ثم يقعد للتشهد ويسلم من خلفه من المسافرين، ويقوم من خلفه من المقيمين فيتموا لأنفسهم، وهو قول مالك.

(ب) وقيل: يتم المستخلف صلاة الأول، ثم يتأخر ويقدم مسافرًا يسلم بهم، فيسلم معه المسافرون ويقوم المقيمون، فيقضون وحدانًا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري.

(جـ) وقيل: يتمون كلهم صلاة مقيم، وبه قال الشافعي والأوزاعي والليث.

هل تُصلَّى النوافل في السفر؟

اختلف العلماء في هذه المسألة، لاختلاف ظواهر الآثار الواردة في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، على خمسة أقوال (1):

1 - المنع من صلاة النافلة في السفر مطلقًا: ويستدل له بحديث ابن عمر قال: «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يُسبِّح في السفر، وقال الله -جل ذكره- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}» (2).

ويقول ابن عمر لما رأى الناس يتنفلون في السفر: «لو كنتُ مسبَّحًا لأتممت» (3).

2 - الجواز مطلقًا: وبه قال الجمهور، واستدلوا بالأحاديث العامة في ندب مطلق النوافل والرواتب، وبصلاة النبي صلى الله عليه وسلم الضحى يوم الفتح، وركعتي الفجر حين ناموا حتى طلعت الشمس.

3 - جواز مطلق التطوع والمنع من الرواتب: وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو مذهب ابن عمر، فحملوا نفيه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم النافلة في السفر على الرواتب دون غيرها، عدا ركعتي الفجر، لما ثبت عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبِّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، ويومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله» (4).

_________

(1) «فتح الباري» (2/ 674)، و «نيل الأوطار» (3/ 261)، و «زاد المعاد» (4738)، و «الفروع» لابن مفلح (2/ 59).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1101)، ومسلم (689).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (689)، والترمذي (544).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1105)، ومسلم (700) بنحوه.

 

(1/490)

 

 

4 - منع التطوع بالنهار دون الليل: واستدل له بحديث عبد الله بن عامر أن أباه أخبره «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى السُّبحة بالليل من السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به» (1).

وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الوتر في الحضر والسفر، قلت: لكن يعكر على هذا القول صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ضحَّى!!

5 - منع التطوع بعد الفريضة، وجوازه قبلها وفي النوافل المطلقة: وهو مذهب البخاري في «صحيحه» واستظهره الحافظ، وقال: «والفرق بين ما قبلها وما بعدها أن التطوع قبلها لا يُظن أنه منها لأنه منفصل عنها بالإقامة وانتظار الإمام غالبًا ونحو ذلك، بخلاف ما بعدها فإنه في الغالب يتصل بها، فقد ظن أنه منها» اهـ.

قلت: والأصل في هذا ثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للركعتين قبل الفجر في السفر.

ثانيًا الجمع بين الصَّلاتَيْن:

تعريفه:

الجمع بين الصَّلاتين: هو أن يصلي الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء في وقت إحداهما، جمع تقديم أو جمع تأخير.

مشروعيته: والجمع بين الصلاتين جائز بإجماع العلماء، إلا أنهم اختلفوا في مُسوَّغات الجمع وصفته، على ما سيأتي تفصيله:

[1] الجمع في السفر:

اختلف أهل العلم في حكم الجمع بين الصلاتين في السفر على قولين:

القول الأول: لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة بعرفة، وليلة المزدلفة بها: وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن مالك، وبه قال الحسن وابن سيرين (2)، واستدلوا بما يأتي:

1 - قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (3). وأن المواقيت ثبتت بالتواتر، فلا يجوز تركها لخبر الآحاد!!

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1104)، ومسلم (689) بنحوه.

(2) «المبسوط» (1/ 235)، و «شرح المعاني» (1/ 162)، و «المدونة» (1/ 116)، و «المغنى» (2/ 200).

(3) سورة النساء، الآية: 103.

 

(1/491)

 

 

2 - حديث ابن مسعود قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها» (1).

3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في نوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة» (2) قالوا: فجعل مناط التفريط وعدمه اليقظة والنوم، ولا دخل فيهما للإقامة والسفر، فاستوى المسافر والمقيم.

القول الثاني: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء: وهو مذهب مالك [وقيَّده

باشتداد السير به] والشافعي وأحمد والثوري وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وهو مروي عن طائفة من الصحابة منهم معاذ وأبو موسى وابن عباس وابن عمر (3)، واستدلوا بما يلي:

1 - حديث أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخرَّ الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب» (4).

2 - حديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدَّ به السَّيْر» (5).

3 - حديث ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سَيْرٍ، ويجمع بين المغرب والعشاء» (6).

4 - حديث معاذ بن جبل «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء [فأخَّر الصلاة يومًا ثم خرج فصلَّى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج فصلَّى المغرب والعشاء جميعًا]» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1682)، ومسلم (1289). صحيح: تقدم تخريجه.

(2) صحيح: تقدم تخريجه.

(3) «المدونة» (1/ 116)، و «بداية المجتهد» (1/ 248)، و «المجموع» (4/ 225)، و «المغنى» (2/ 200)، و «نيل الأوطار» (3/ 253).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1111)، ومسلم (704).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1106)، ومسلم (45).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1107).

(7) حسن: أخرجه مسلم (706)، وابن ماجه (1070)، بدون الزيادة، وأبو داود (1201)، والنسائي (1/ 285).

 

(1/492)

 

 

فهذه الأحاديث -وغيرها- تدل بظاهرها وعمومها على جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، سواء كان الجمع جمع تقديم أو تأخير.

وقد حملها أصحاب القول الأول على «الجمع الصوري» وهو أن يؤخر المغرب مثلًا إلى آخر وقتها ويُعجِّل العشاء أوَّل وقتها!! وتُعُقِّب: بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة، وأيضًا فإن الأخبار جاءت صريحة في وقت إحدى الصلاتين، وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع» (1).

وأما قولهم: لا نترك الأخبار المتواترة لهذه الأحاديث، فنقول: لا نتركها وإنما نخصصها بها،

وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع (2).

وأما حديث ابن مسعود، فإن ظاهره غير مراد بالإجماع من وجهين: أنه صلى الله عليه وسلم قد جمع بين الظهر والعصر بعرفة، فلم يصح هذا الحصر، وأن أحدًا لم يقل بظاهره من إيقاع الصبح قبل وقتها، بل المراد: بالغ في تعجيلها.

ثم إن غير ابن مسعود قد حفظ جمعه صلى الله عليه وسلم في السفر بغير عرفة والمزدلفة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وهو قد نفى وغيره أثبت، والمثبت مقدَّم على النافي على أنه جاء عن ابن مسعود قوله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر» (3).

[2] الجمع في الحَضَر: لا يختص الجمع بين الصلاتين بحال السفر، بل يجوز الجمع في الحضر للأسباب الآتية:

(أ) الجمع في المطر:

يجوز جمع الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، في الحضر بسبب المطر عند الجمهور، إلا أن مالكًا خصَّ جوازه بالليل دون النهار!! لما يأتي:

1 - حديث ابن عباس قال: «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة في غير خوف ولا مطر» (4) وهو يُشعر أن الجمع للمطر

_________

(1) «فتح الباري» (2/ 675) ط. السلفية.

(2) «المغنى» (2/ 201).

(3) إسناده ضعيف: أخرجه أبو يعلى (5413)، والطبراني في «الكبير» (10/ 39)، و «الطحاوي» في «شرح المعاني» (1/ 160).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (705)، وانظر «الإرواء» (579).

 

(1/493)

 

 

كان معروفًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن كذلك لما كان ثمة فائدة من نفي المطر كسبب مبرر للجمع (1).

2 - عن نافع «أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم» (2).

3 - عن هشام بن عروة «أن أباه عروة وسعيد بن المسيب وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين ولا ينكرون ذلك» (3).

4 - عن موسى بن عقبة: «أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان

المطر ...» (4).

(ب) الجمع للحاجة العارضة:

فعن ابن عباس قال: «صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قال [أبو كريب أو سعيد]: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته» (5).

وفي هذا رخصة لأهل الأعذار فيما يرفع عنهم الحرج دون غير أرباب الأعذار وهذا مذهب ابن سيرين، وأشهب من أصحابه مالك، وحكام الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر وابن تيمية (6).

قال شيخ الإسلام: «... والصُّنَّاع والفلاَّحون، إذا كان في الوقت الخاص مشقة عليهم: مثل أن يكون الماء بعيدًا في فعل الصلاة، وإذا ذهبوا إليه وتطهروا تعطَّل العمل الذي يحتاجون إليه، فلهم أن يصلُّوا في الوقت المشترك فيجمعوا بين الصلاتين» اهـ (7).

_________

(1) «إرواء الغليل» (3/ 40).

(2) إسناده صحيح: أخرجه مالك (333)، وعنه البيهقي (3/ 168).

(3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 168)، وانظر «الإرواء» (3/ 40).

(4) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 168)، وانظر «الإرواء» (3/ 40).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (705)، وأحمد (1/ 223).

(6) «مجموع الفتاوى» (24/ 25)، و «شرح مسلم» للنووي (2/ 3509)، و «القوانين» (75)، و «معالم السنن» (2/ 55).

(7) «مجموع الفتاوى» (21/ 458).

 

(1/494)

 

 

ويجمع المريض: الذي يجد المشقة في الإتيان بكل صلاة في وقتها لحديث ابن عباس المتقدم، وقياسًا على المستحاضة، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حمنة بنت جحش وكانت تستحاض حيضة كثيرة شديدة بقوله: «فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتُعجِّلي العصر، ثم تغتسلين حين تطهرين، وتُصلِّين الظهر والعصر جميعًا، ثم تؤخرين المغرب، وتُعجلِّين العشاء، ثم تغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين فافعلي ...» (1).

وقد أجاز الجمع للمريض مالك وأحمد واختاره شيخ الإسلام، ومنعه الشافعي (2) والقول بالجواز ظاهر، والله أعلم.

هل تشترط الموالاة بين الصلاتين المجموعتين؟ (3).

1 - إذا صلاَّهما في وقت الثانية (جمع التأخير): فإنه لا يشترط أن يوالي بين الصلاتين المجموعتين، بل له أن يفصل بينهما، فيصلي الظهر مثلًا في أول وقت العصر ثم يؤخر العصر قليلاً فيصليه قبل خروج وقته، وهذا مذهب الجمهور خلافًا لبعض الحنابلة.

2 - إذا صلاَّهما في وقت الأولى (جمع تقديم): فذهب الجمهور إلى أنه يُشترط أن يصليهما من غير فصل، وخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية: فقال: لا يشترط كذلك، وهو رواية عن أحمد وقول عند الشافعية، وهو الأقرب.

قال شيخ الإسلام: لا تشترط الموالاة بين المجموعتين بحال، لا في وقت الأولى، ولا في وقت الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة ... والسنة جاءت بأوسع من هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم جمع في أول الوقت كما جمع بعرفة، وتارة جمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة، وفي بعض أسفاره، وتارة جمع بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية.

_________

(1) حسَّنه الألباني: أخرجه أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (627)، وانظر «الإرواء» (188) والظاهر أن في تحسينه نظرًا.

(2) «القوانين» (75)، و «المغنى» (2/ 112)، و «المجموع» (4/ 370).

(3) «الخرشي» (2/ 70)، و «المجموع» (3/ 375)، و «الإنصاف» (2/ 342)، و «المغنى» (2/ 123)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 54 - 56).

 

(1/495)

 

 

وقد تقع هذه في هذا، وهذه في هذا، وكل هذا جائز، لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك، والتقديم والتوسط بسبب المصلحة.

الجمع بأذان وإقامتين:

السنة في الجمع بين الصلاتين الاقتصار على أذان واحد، والإقامة لكل واحد من الصلاتين، ففي حديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين، وأتى المزدلفة فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما، ثم اضطجع حتى طلع الفجر ...» (1).

وعن ابن مسعود: «... فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبًا من ذلك، فأمر رجلاً فأذَّن وأقام ثم صلَّى المغرب ..» وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتغشَّى ثم أمر أُرى فأذن وأقام ثم صلى العشاء ركعتين ...» الحديث (2).

وإلى هذا ذهب الشافعي في القديم، وهو رواية عن أحمد، وابن حزم. بينما ذهب الشافعي في الجديد والثوري وأحمد في رواية إلى أنه يجمع بين الصلاتين بإقامتين فقط، وتمسكوا بحديث أسامة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبع الوضوء، ثم أقيمت الصلاة

فصلَّى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصلِّ بينهما شيئًا» (3).

والحق ما قاله الأوَّلون لأن حديث جابر مشتمل على زيادة الأذان وهي زيادة غير نافية فيتعيَّن قبولها (4) والله أعلم.

الترتيب بين الصلاتين المجموعتين:

يشترط الترتيب بين الصلاتين المجموعتين، لأن الشرع جاء بترتيب الأوقات في الصلوات فوجب أن تكون كل صلاة في المحل الذي رتبها الشارع فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

لكن ... لو نسي إنسان أو جهل، أو حضر قومًا يصلون العشاء -وقد نوى جمع التأخير- فصلى معهم العشاء ثم صلى المغرب، فهل تجزئه؟ قال الفقهاء: لا، ولا تصح منه العشاء، فيصلي العشاء ثانية بعد المغرب (5).

_________

(1) صحيح: سيأتي بتمامه وتخريجه في «الحج» إن شاء الله.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1675)، ومسلم (1289) بنحوه.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1672)، ومسلم (1280)، وأحمد (5/ 263).

(4) «نيل الأوطار» (3/ 263) ط. الحديث.

(5) «الشرح الممتع» (4/ 572) بنحوه.

 

(1/496)

 

 

صلاة الخَوْف

تعريفها (1):

الخوف: توقُّع مكروه عن أمارة مظنونة أو متحققة، والمراد هنا: قتال العدو ونحوه مما يخافه. وصلاة الخوف ليست صلاة مستقلة، كصلاة العيد والكسوف ونحو ذلك، وإنما المرد: الصلوات المفروضة بشروطها وأركانها وسننها وعدد ركعاتها كما في الأمن إلا أنها تؤدَّى بكيفية مختلفة إذا صلِّيت جماعة، وأنها تحتمل أمورًا لم تكن تحتملها في الأمن، وعلى هذا يمكن تعريف صلاة الخوف بأنها: «الصلاة المكتوبة، يحضر وقتها والمسلمون في مقاتلة العدو أو في حراستهم».

مشروعيتها:

صلاة الخوف ثابتة بقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ... مُّهِيناً} (2).

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاَّها كما ستأتي الأحاديث بذلك، وقد اتفق أهل العلم

على هذا، ثم اختلفوا في مشروعيتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

فذهب الجمهور -خلافًا لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة (3) - إلى مشروعيتها إلى يوم القيامة وأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته ما لم يقم دليل على اختصاصه، وتخصيص بالخطاب لا يقتضي تخصيصه بالحكم، ثم:

1 - لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «.. وصلوا كما رأيتموني أصلي» (4).

2 - ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم على صلاة الخوف بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (5)، وممن رُوى عنه أنه فعلها (6):

(أ) علي بن أبي طالب، فقد صلاَّها ليلة وقعة صفين أو الهرير.

_________

(1) «البدائع» (1/ 243)، و «حاشية العدوي» (1/ 296)، و «روضة الطالبين» (2/ 49)، و «المغنى» (2/ 402).

(2) سورة النساء، الآية: 102.

(3) «البدائع» (1/ 242)، و «المدونة» (1/ 161)، و «الأم» (1/ 186)، و «المغنى» (2/ 400).

(4) صحيح: تقدم كثيرًا.

(5) نقل الإجماع الحافظ في «الفتح» (2/ 498)، وابن قدامة في «المغنى» (2/ 400).

(6) انظر بعض الآثار عنهم وتخريجها في «إرواء» (3/ 42 - 45).

 

(1/497)

 

 

(ب) أبو موسى الأشعري، صلاَّها بأصحابه بأصبهان.

(جـ) حذيفة بن اليمان، صلاَّها بالصحابة -ومعهم سعد بن أبي وقَّاص- بطبرستان.

ورأى المزني من الشافعي أن صلاة الخوف كانت مشروعة ثم نُسخت!! واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته صلوات يوم الخندق، ولو كانت صلاة الخوف جائزة لفعلها، ويجاب عنه: بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف كما في حديث أبي سعيد: «حُبسنا يوم الخندق ... وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل في صلاة الخوف ..» وقد تقدم في مسألة (الترتيب في قضاء الفوائت).

كيفيات صلاة الخوف:

ثبت في صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفيات كثيرة، أصولها ستٌّ، وليس بين أهل العلم اختلاف في أن العمل بأيٍّ منها مجزئ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في مرات وأيام مختلفة وأشكال متباينة، يتحرَّى في كلِّها ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة في المعنى (1)، ومن هذه الكيفيات:

[أ] إذا كان العدو في غير القبلة:

1 - يقسم الجيش إلى فرقتين: فرقة تُجعل في وجه العدو، وفرقة ينحاز بها إلى حيث لا تبلغهم سهام

العدو، فيفتتح الإمام بهم الصلاة ويصلي بهم ركعة (في الثنائية) أو ركعتين (في الثلاثية والرباعية) ثم يثبت قائمًا، ويتمُّ المقتدون به وينصرفون وجاه العدو، وتأتي الفرقة الأخرى فيصلي بهم ما تبقى، فإذا جلس للتشهد، قاموا وأتموا صلاتهم -والإمام ينتظرهم- فإذا لحقوه سلَّم بهم (2).

والأصل فيها: حديث صالح بن خوَّات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرِّقاع صلاة الخوف: «أن طائفة صفَّت معه، وصفَّت طائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفُّوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت

_________

(1) «البدائع» (1/ 342)، و «مغنى المحتاج» (1/ 301)، و «المغنى» (2/ 412)، و «نيل الأوطار» (3/ 376 - وما بعدها).

(2) بهذا قال الجمهور، وقال مالك: يسلم الإمام ولا ينتظرهم، فإذا سلَّم قضوا ما فاتهم اعتمادًا على حديث موقوف.

 

(1/498)

 

 

جالسًا حتى أتموا لأنفسهم ثم سلَّم بهم» (1). وفي لفظ صالح بن خوَّات عن سهل ابن أبي حتمة أنه ينتظرهم جالسًا لا قائمًا، وهو في الصحيح كذلك. وبهذه الصفة أخذ الشافعي وأصحابه.

2 - يصلي بالفرقة الأولى ركعة، والأخرى تجاه العدو، ثم تنصرف الفرقة التي صلت معه الركعة فتقوم تجاه العدو، وتأتي الأخرى فتصلي معه ركعة، ثم تقضي كل فرقة لنفسها ركعة.

والأصل فيها: حديث ابن عمر قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فوازينا العدو فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه تصلِّي، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين (2)، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصلِّ، فجاءوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلَّم، فقام كل واحدٍ منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين» (3).

وظاهره أنهم أتموا في حالة واحدة، ويحتمل أن الطائفة الثانية أتمت بعد تسليمة، ثم رجع أولئك إلى مقامهم فأتموا الركعة، وهو الأرجح من حيث المعنى وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده، ويرجحه رواية ابن مسعود: «ثم سلَّم وقام هؤلاء [أي الطائفة الثانية] فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلَّموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلَّموا» (4) وبهذه الكيفية أخذ الحنفية خلا أبا يوسف.

3 - يصلي الإمام بطائفة ركعتين ويسلِّم، ثم يصلي بالأخرى ويسلِّم.

والأصل فيها: حديثا جابر وأبي بكرة: فعن جابر قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرِّقاع، وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلَّى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (4130)، ومسلم (842).

(2) يعني: ركعة كاملة.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (942)، ومسلم (839).

(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1244)، والطحاوي (1/ 184)، والدارقطني (187)، وانظر «الإرواء» (3/ 49).

(5) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا (4136)، ووصله مسلم (843)، وانظر «التغليق» (4/ 120).

 

(1/499)

 

 

وفي لفظ: «صلَّى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بآخرين ركعتين ثم سلَّم» (1). ويؤيده حديث أبي بكرة قال: «صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم، فصار للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان ركعتان» (2).

فائدة: الحديثان يدلان على جواز اقتداء المفترض بالمتنفِّل، لأن الركعتين الآخرتين كانتا للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة، وللطائفة الثانية فرضًا.

4 - يصلي الإمام بطائفة ركعة واحدة -والأخرى قِبل العدو- ثم ينصرفون مكانهم، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة واحدة، ويكتفي كل من الطائفتين بركعة واحدة لا يقضون الأخرى.

والأصل فيها: حديث ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى بذي قَرَد، فصفَّ الناس خلفه صفين: صفٌّ خلفه، وصفٌّ موازي العدو، فصلَّى بالصف الذي يليه ركعة، ثم رجع هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، فصلَّى بهم ركعة ولم يقضوا» (3). ونحوه حديث أبي هريرة (4)، وزيد بن ثابت (5)، وحذيفة (6).

ويدلُ على صحة الاكتفاء بالركعة: حديث ابن عباس قال: «فرض الله -جل وعلا- الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم: في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» (7).

_________

(1) إسناده ضعيف: أخرجه الشافعي (506)، والنسائي (3/ 178)، والدارقطني (186)، والبيهقي (3/ 259).

(2) ضعيف: أخرجه النسائي (3/ 179)، وأبو داود (1248)، والبيهقي (3/ 260)، والطحاوي (1/ 315).

(3) صحيح: أخرجه النسائي (3/ 169)، وابن حبان (2871)، وأحمد (1/ 232) لكن ليس عنده (ولم يقضوا)!!.

(4) أخرجه الترمذي (3035)، وأحمد (2/ 522)، والنسائي (3/ 174) وسنده حسن.

(5) أخرجه النسائي (3/ 168)، وأحمد (5/ 183) وسنده حسن في الشواهد.

(6) أخرجه أبو داود (1246)، والنسائي (1/ 227)، وأحمد (5/ 385) وسنده صحيح كما في «الإرواء» (3/ 44).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (687)، وأبو داود (1247)، وأحمد (1/ 237).

 

(1/500)

 

 

5 - يقسم الجيش فرقتين: فرقة تصف خلف الإمام والأخرى في مقابلة العدو، وتدخل الفرقتان جميعًا معه في الصلاة وتركع معه التي تليه ثم تسجد معه -والأخرى قيام قبل العدو كما هم- ثم يأخذ

الذين صلوا معه الركعتين أسلحتهم فيرجعون قِبل العَدو، ويُقبل الآخرون خلفه فيصلون لأنفسهم ركعة والإمام قائم، ثم يصلي بهم الركعة الثانية ثم يأتي المقابلون للعدو فيصلون لأنفسهم ركعة، والإمام والطائفة الأخرى قاعدون -ثم يسلم بهم جميعًا.

والأصل فيها: حديث أبي هريرة -وسئل عن صلاة الخوف- فقال: «كُنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزاة، قال: فَصَدعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس صَدْعَيْن، قامت معه طائفة، وطائفة أخرى مما يلي العدوَّ وظهورهم إلى القبلة، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرَّوا جميعًا -الذين معه والذي يقابلون العدو- ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة، فركع معه الطائفة التي تليه، ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلي العدو، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذت الطائفة التي صلَّت معه أسلحتهم، ثم مشوا القهقرى على أدبارهم حتى قاموا مما يلي العدو، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو، فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو، ثم قاموا، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى فركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت تقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه، ثم كان السلام، فسلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّموا جميعًا، فقام القوم وقد شركوه في الصلاة» (1).

[ب] إذا كان العدو جهة القبلة:

6 - يقسمهم الإمام فرقتين: فيفتح الصلاة بهم جميعًا، ويقرأ ويركع ويعتدل بهم جميعًا، ثم يسجد بإحداهما وتحرس الأخرى حتى يقوم الإمام من سجوده، ثم يسجد الآخرون، ويلحقونه في قيامه، ويفعل كذلك في الركعة الثانية، ولكن يحرس فيها من سجد معه الركعة الأولى، ثم يتشهد ويسلم بهم جميعًا.

والأصل فيها: حديث جابر قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفَّنا صفَّين: صفٌّ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم -والعدو بيننا وبين القبلة- فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم

_________

(1) حسن: أخرجه أبو داود (1241)، والنسائي (3/ 173)، وأحمد (2/ 320).

 

(1/501)

 

 

السجود وقام الصف الذي يليق، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدَّم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الكوع، ورفعنا جيمعًا، ثم انحدر بالسجود

والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحو العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم وسلَّمنا جميعًا» (1).

وثبت مثله من حديث أبي عيَّاش الزُّرقى (2).

الصلاة إذا اشتد الخوف (3):

1 - إذا اشتد الخوف حتى منعهم من صلاة الجماعة على صفة مما تقدم، ورجوا انكشافه قبل خروج الوقت المختار بحيث يدركون الصلاة فيه، أخروا استحبابًا.

2 - فإذا بقي من الوقت ما يسع الصلاة صلوا إيماءً، وإلا صلوا فرادى بقدر استطاعتهم، فإن قدروا على الركوع والسجود فعلوا ذلك، أو صلوا مشاةً أو ركبانًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ثم لا إعادة عليهم إذا أمنوا، لا في الوقت ولا بعده:

والأصل في هذا قول تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (4).

وعن ابن عمر قال: «فإن كان خوف أشد من ذلك صلَّوا رجالاً قيامًا على أقدامهم، أو ركبانًا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها» (5) زاد البخاري: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر قال ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن عجزوا عن الركوع والسجود أومأوا بهما، ويكون السجود أخفض من الركوع قلت: وتجزئه ركعة والله أعلم.

3 - فإن شُغلوا بلقاء العدو حتى خرج وقت الصلاة: فلا حرج ويصلونها متى

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (840).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1236)، والنسائي (3/ 176)، وأحمد (4/ 59) وغيرهم.

(3) «البدائع» (1/ 244)، و «روضة الطالبين» (2/ 60)، و «المغنى» (2/ 416)، و «كشاف القناع» (1/ 18).

(4) سورة البقرة، الآية: 239.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (4535)، وابن ماجه (1258)، ومالك (442).

 

(1/502)

 

 

أمكنهم، كما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فشُغل وأصحابه عن صلاة العصر وصلوها بعد المغرب، وقد تقدم الحديث في «قضاء الفوائت».

هل تصح صلاة الخوف في الحضر؟

من حضره خوف من عدو ظالم كافر، أو باغٍ من المسلمين، أو من سيل، أو نارٍ، أو سبع، أو غير

ذلك، ولو في الحضر، فله أن يصلي صلاة الخوف، وهو قول أكثر أهل العلم: أبي حنيفة ومالك -في المشهور عنه- والشافعي وأحمد والأوزاعي وابن حزم (1)، قالوا: لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} (2). فلم يخصَّ ذلك بالسفر (3).

فإن قيل: الأحاديث المتقدمة كلها كانت في السفر؟ فيجاب: بأن السفر وصف طردي ليس بشرط ولا سبب، وإلا لزم ألا يصلي إلا عند الخوف من العدو الكافر!!

فائدة:

إذا صلى الخوف في الحضر، فإنه يصليها كاملة في عدد ركعاتها -سواء في حق الإمام أو المأموم- بإحدى الكيفيات الواردة.

لكن، هل يقال: يجزئ أن يصلي ركعة واحدة -في الحضر- على ظاهر حديث ابن عباس:

«فرض الله عز وجل الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم: في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» (4)؟ وهل يؤيده جواز فعلها إيماءً في الخوف الشديد؟

هذا موضع نظر، وابن حزم على ظاهريَّته لم يُجز الاقتصار على الركعة إلا في السفر، فلتحرر!!

_________

(1) «الأم» (1/ 186)، و «المدونة» (1/ 161)، و «المغنى» (2/ 302)، و «طرح التثريب» (3/ 141)، و «نيل الأوطار» (3/ 377 - 378)، و «المحلى» (5/ 33 - 34).

(2) سورة النساء، الآية: 102.

(3) إلا عند من يقول: إن قوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ ...} المراد به: صلاة الخوف، لا قصر الصلاة، فيشكل عنده أنه مقيد بالضرب في الأرض، أي: السفر؟!

(4) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.

 

(1/503)

 

 

صلاة الجماعة

تعريفها: المقصود بصلاة الجماعة: فعل الصلاة في جماعة (1).

فضلها وأهميتها وفوائدها:

(أ) لصلاة الجماعة فضائل عظيمة، ولذا حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن فضلها في جملة أحاديث، نذكر منها:

1 - عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة تفضلُ صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» (2).

2 - وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة في جماعة تعدل خمسًا وعشرين صلاة، فإذا صلاَّها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة» (3).

3 - وعن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاَّها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد، غفر الله له ذنوبه» (4).

4 - وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: «... وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يَخْطُ خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطَّ عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاَّه، اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة» (5).

5 - وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا» (6).

_________

(1) «جواهر الإكليل» (1/ 76).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (645)، ومسلم (650).

(3) حسن: أخرجه أبو داود (560)، ابن ماجه (788)، والحاكم (1/ 208).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (232)، والنسائي (2/ 111)، وأحمد (1/ 67).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (647)، ومسلم (649).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437).

 

(1/504)

 

 

6 - وعن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» (1).

(ب) وصلاة الجماعة معنى الدين، وشعار الإسلام، حتى لو تركها أهل مصرٍ قوتلوا، وأهل حارة جُبروا عليها وأكرهوا (2).

 

صلاة الجماعة في الفرائض

حكم صلاة الجماعة للرجال:

اختلف أهل العلم في حكم صلاة الجماعة -للرجال- على أقوال يمكن تلخيصها في قولين:

القول الأول: صلاة الجمعة واجبة على الأعيان، إلا لعذر: وهو مروي عن ابن مسعود وأبي موسى، وبه قال عطاء والأوزاعي وأبو ثور، وهو مذهب أحمد وابن حزم وهو اختيار شيخ الإسلام، على

اختلاف بينهم: هل هي شروط في صحة الصلاة أو لا؟ (3)، واستدلوا بما يأتي:

1 - قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ ...} (4). قالوا: إن الله أمر بصلاة الجماعة في حال الخوف، ففي حال الأمن أولى وآكد.

ثم إنه اغتفرت -في صلاة الخوف- أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك.

2 - قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (5). وذلك يكون في حال المشاركة في الركوع، فكان أمرًا بإقامة الصلاة بالجماعة، ومطلق الأمر لوجوب العمل.

3 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (656)، وأبو داود (555)، والترمذي (221)، وأحمد (1/ 58).

(2) «المغنى» (2/ 176)، و «المجموع» (4/ 193).

(3) «المغنى» (2/ 176)، و «كشاف القناع» (1/ 454)، و «البدائع» (1/ 155)، و «المحلى» (4/ 188)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 239).

(4) سورة النساء، الآية: 102.

(5) سورة البقرة، الآية: 43.

 

(1/505)

 

 

الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرِّق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء» (1). قالوا: وهو ظاهر في كونها فرض عين، لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه.

وقد أجيب عن الاستدلال بهذا الحديث على وجوبها على الأعيان بأجوبة:

منها أن المراد المنافقون لا المؤمنون، ومنها: أنه همَّ ولم يفعل، ولو كان واجبًا ما عفا عنهم، ومنها: أن المراد صلاة الجمعة كما في الرواية الأخرى، وغير ذلك، وأجاب الموجبون عن هذه الأوجه كلها بما يطول ذكره ههنا فليراجع (2).

4 - حديث أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخِّص له فيصلي في بيت، فرخَّص له، فلما ولَّى دعاه، فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» فقال: نعم، قال: «فأجب» (3).

5 - حديث مالك بن الحويرث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا -وقد أتيته في نفر

من قومي-: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» (4).

6 - حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تُقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل القاصية» (5).

7 - ما رُوى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سمع النداء فلم يُجب، فلا صلاة له إلا من عذر» (6) والصواب أنه موقوف.

8 - وعن عبد الله بن مسعود قال: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (644)، ومسلم (651).

(2) انظر «فتح الباري» (2/ 148 - 151)، و «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (1/ 166)، و «المحلى» (4/ 191).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (653)، والنسائي (2/ 109) وغيرهما.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674).

(5) تقدم في «حكم الأذان».

(6) أُعِلَّ بالوقف: أخرجه أبو داود (551)، وابن ماجه (793)، والحاكم (1/ 245)، والبيهقي (3/ 57، 174)، ورجَّح وقفه وهو الصواب، والله أعلم.

 

(1/506)

 

 

الصلاة» وقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه» (1).

وأجيب: بأنه قول صحابي ليس فيه إلا حكاية المواظبة على الجماعة وعدم التخلف عنها، ولا يستدل بمثل هذا على الوجوب، ثم فيه دليل لمن خصَّ الوعيد بالتحريق في حديث أبي هريرة بالمنافقين.

القول الثاني: صلاة الجماعة لا تجب موجوبًا عينيًّا: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك والشافعي، على اختلاف بينهم هل هي سنة أو سنة مؤكدة أو فرض كفاية؟ (2) واستدلوا بما يلي:

1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» وبما في معناه، قالوا: فالتفضيل يدل على اشتراكهما في أصل الفضل، وهذا يدلُّ على عدم وجوبها على الأعيان، إذ لا يقال: الإتيان بالواجب أفضل من تركه، ولا يقال: إن لفظه «أفعل» قد تَرِدُ لإثبات صفة في إحدى الجهتين ونفيها عن الأخرى، و «أفضل» المضافة إلى صلاة الفذ كذلك، لأن هذا إنما يصح في «أفعل» مطلقًا غير مقرون بـ «مِنْ»، على أن في بعض ألفاظه عند مسلم: «تزيد عن صلاته وحده» وفيه التصريح بصحة الصلاة وحده (3).

وأجاب الأوَّلون: بأن التفاضل إنما هو على صلاة المعذور التي تجوز -جمعًا بين الأدلة- وهي دون

صلاة الجماعة في الفضل.

2 - حديث يزيد بن الأسود في قصة الرجلين اللذين صليا في رحالهما وأتيا المسجد فلم يصليا فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تفعلا، إذ صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» (4) قالوا: فلم ينكر عليهما صلاتهما في رحالهما.

وأجيب: بأنها واقعة عين يحتمل أن يكون لهما عذر في ترك الجماعة.

3 - حديث أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعظم الناس أجرًا في الصلاة

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (654)، وأبو داود (505)، والنسائي (2/ 108)، وابن ماجه (777)، بسياق أطول.

(2) «البدائع» (1/ 155)، و «ابن عابدين» (1/ 371)، و «القوانين» (69)، و «الخرشي» (2/ 16)، و «المجموع» (4/ 184)، و «مغنى المحتاج» (1/ 229).

(3) «طرح التثريب» للعراقي.

(4) صحيح: تقدم في «أوقات النهي عن الصلاة».

 

(1/507)

 

 

أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام» (1) وفي لفظ لمسلم: «حتى يصليها مع الإمام في جماعة ..». وهو صريح في اشتراك المنفرد والمصلي في جماعة في أصل الأجر، قلت: وهذا أقوى أدلتهم في نظري.

4 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: «من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا» (2) وما في معناه، قالوا (3): يلزمه أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحًا، وصلاة الجماعة غير واجبة على الأعيان، أو تكون الجماعة واجبة على الأعيان ويمتنع أكل هذه الأشياء، والجمهور على إباحتها (يعني: البصل والثوم ونحوهما) فتكون الجماعة غير واجبة على الأعيان لجواز تركها لأكل هذه الأشياء، وأجيب بأن الجماعة واجبة ولا تتم إلا بترك أكل الثوم فيجب ترك أكله عند الصلاة.

5 - ويمكن الاستدلال بحديث الرجل الذي صلى خلف معاذ فأطال القراءة، فتنحى وصلى منفردًا ثم شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه (4) وقد يجاب عنه: بأن تطويل الإمام عذر في ترك الجماعة.

الراجح في المسألة:

لا شك أن الجمع بين الأحاديث المتقدمة ما أمكن هو المتعيِّن، والذي تجتمع عليه النصوص السابقة -في نظري- ولا يهدر شيئًا منها أن يقال: إن صلاة الجماعة فرض كفاية، كقول الشافعي -رحمه

الله- وهذا أعدل الأقوال وأصوبها، على أنه ينبغي أن يُعلم أنه لا يفرِّط فيها ويخلُّ بملازمتها -لغير عذر- إلا محروم مشئوم، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الجماعة للنساء (5):

لا تجب صلاة الجماعة على النساء بإجماع العلماء، لكن يُشرع لهنَّ الجماعة -إجمالاً- عند الجمهور.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (651)، ومسلم (662).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (853)، ومسلم (561).

(3) «إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق العيد (1/ 119).

(4) صحيح: تقدم «اختلاف نية الإمام والمأموم» من شروط صحة الصلاة.

(5) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 146 - 149) بتصرف، وانظر «البدائع» (1/ 155)، و «الشرح الصغير» (1/ 156)، و «مغنى المحتاج» (1/ 229)، و «المغنى» (2/ 202).

 

(1/508)

 

 

وصلاة المرأة في جماعة تكون على نوعين:

1 - أن تأتمَّ بامرأة أخرى: وهذا مشروع لأمور ثلاثة:

(أ) عموم الأحاديث المتقدمة في فضل صلاة الجماعة، والأصل في «النساء شقائق الرجال» (1).

(ب) عدم ورود النهي عن صلاة المرأة بالنساء.

(جـ) فعل بعض الصحابيات كأم سلمة وعائشة رضي الله عنها.

فعن ريطة الحنفية: «أن عائشة أمَّتهنَّ وقامت بينهن في صلاة مكتوبة» (2).

وعن عمار الدهني عن امرأة من قومه يقال لها حجيرة عن أم سلمة: «أنها أمَّتهنَّ فقامت وسطًا» (3).

وهذا الفعل من الصحابيات مع عدم وجود المخالف يدل على مشروعية إمامة المرأة للنساء. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر أم ورقة بأن تجعل لها مؤذنًا يؤذن لها، وأمرها أن تؤمَّ أهل دارها» (4) لكنه ضعيف، وبهذا قال الشافعية والحنابلة.

2 - أن تأتمَّ برجل: سواء ائتمَّت به وحدها أو مع جماعة نساء أو خلف جماعة الرجال وهذا مشروع كذلك، لأحاديث كثيرة، منها: حديث أنس قال: «صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمِّي -أم سلمة- خلفنا» (5).

وحديث أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم قام النساء حين يقضي

تسليمه ويمكث هو في مقامه يسيرًا ...» (6).

_________

(1) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (236)، والترمذي (113)، وأحمد (6/ 256).

(2) صحيح لشواهده: أخرجه عبد الرزاق (3/ 141)، والدارقطني (1/ 404)، والبيهقي (3/ 131).

(3) صحيح لشواهده: أخرجه عبد الرزاق (3/ 140)، والدارقطني (1/ 405)، والبيهقي (3/ 131).

(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (592)، وابن خزيمة (3/ 89)، والبيهقي (3/ 130)، والدارقطني (1/ 403).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (727)، ومسلم (658).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (870)، وأبو داود (1040)، والنسائي (2/ 66)، وابن ماجه (932).

 

(1/509)

 

 

تنبيهات:

1 - يجوز أن ينفرد الرجل بزوجته أو إحدى محارمه فيصلي بها، لأنه يباح له الخلوة بها في غير الصلاة.

2 - لا يجوز أن يؤم الرجل امرأة أجنبية بمفردها، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يخلونَّ رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» (1).

3 - يجوز أن يؤم الرجل مجموعة من النساء، لأن اجتماعهن ينفي الخلوة، ولعدم ورود النهي عن ذلك، ولورود عن بعض السلف:

لكن هذا محلُّه حيث تؤمن الفتنة، أما إذا وجدت الفتنة فلا يجوز، فإن الله لا يحب الفساد.

وسيأتي مزيد من الأحكام المتعلقة بجماعة النساء فيما يأتي إن شاء الله.

العدد الذي تنعقد به الجماعة:

اتفق الفقهاء على أن أقل عدد تنعقد به الجماعة اثنان، وهو أن يكون مع الإمام واحد، فيحصل لهما فضل الجماعة:

1 - لحديث مالك بن الحويرث قال: أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أنتما خرجتما فأدِّنا، ثم أقيما، ثم ليؤمكما أكبركما» (2).

2 - وفي حديث ابن عباس -في قصة مبيته مع النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة-: «... وقام يصلي، فتوضأتُ نحوًا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فحوَّلني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع ...» (3).

3 - وعن أبي سعيد الخدري: «أن رجلاً جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من يتصدَّق على هذا؟» فقام رجل فصلَّى معه» (4).

4 - وقد تقدم في «صلاة الليل» صلاة ابن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك حذيفة

رضي الله عنه.

ثم اختلف أهل العلم في انعقاد الجماعة -في الفريضة- بالصبي المميِّز مع الإمام؟!

_________

(1) صحيح: أخرجه الترمذي (1171)، وأحمد (172).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (630)، ومسلم (674).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (138)، ومسلم (763).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (574)، والترمذي (220)، والدارمي (1368)، وأحمد (10980).

 

(1/510)

 

 

والصحيح أنها تنعقد لحديث ابن عباس، ولأنه لا دليل على المنع من انعقادها، ولا دليل على التفريق بين صلاة النفل والفرض في ذلك، ولأن الصبيَّ المميِّز يصح أن يكون إمامًا -كما سيأتي- وهو متنفِّل، فجاز أن يكون مأمومًا بالمفترض البالغ، وهذا مذهب الحنفية والشافعية ورواية عن أحمد (1).

أين تُقام صلاة الجماعة؟

تجوز إقامة صلاة الجماعة في أي مكان طاهر، في البيت أو الصحراء أو المسجد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ» (2).

وقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتُما مسجد جماعة، فصليِّا معهم، فإنها لكما نافلة» (3).

إلا أن الجماعة للفرائض في المسجد أفضل منها في غير المسجد، لحديث زيد ابن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلُّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» (4) ولأن إقامتها في المسجد فيه إظهار الشعائر وكثرة الجماعة، ولأن بإقامتها يحصل له فضل المشي على المسجد، وسيأتي ذكره قريبًا.

الأعذار المرخِّصة في التخلُّف عن الجماعة:

الأعذار التي تبيح التخلف عن شهود صلاة الجماعة في المسجد: منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص، وبيان ذلك فيما يلي:

[أ] الأعذار العامة:

1، 2 - المطر والوَحْل: الذي يشقُّ معه الخروج إلى المسجد، فعن نافع أن ابن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر، يقول: صلوا

_________

(1) «البدائع» (1/ 156)، و «مغنى المحتاج» (1/ 229)، و «المغنى» (2/ 178)، وانظر «حاشية الدسوقي» (1/ 319)، و «جواهر الإكليل» (1/ 76)، فقد فرق المالكية بين الفرض والنفل!! وحديث أبي سعيد المتقدم حجة عليهم.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر.

(3) صحيح: تقدم تخريجه.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (731)، ومسلم (781).

 

(1/511)

 

 

في الرحال» (1). وعن جابر قال: خرجنا مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال: «ليصلِّ من شاء منكم في رحله» (2).

لكن إن خرج للجماعة فهو أفضل: لحديث أبي سعيد الخدري قال: «جاءت سحابة فمطرت حتى سال السقف -وكان من جريد النخل- فأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته» (3) فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم الجماعة رغم المطر والطين حتى سجد فيهما.

3 - البرد الشديد: هو الذي يخرج عن الحد الذي ألفه الناس، وقد تقدم حديث ابن عمر في هذا قريبًا.

وعن نعيم النحَّام أنه: نودي بالصبح في يوم بارد وهو في مرط امرأته، فقال: ليت المنادي ينادي: ومن قعد فلا حرج، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أذانه: «ومن قعد فلا حرج» وذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أذانه» (4).

وقد ألحق أهل العلم بهذه الأعذار: الظلمة الشديدة التي لا يبصر الإنسان طريقه إلى المسجد فيها.

فائدة:

قال النووي: «قال أصحابنا: تسقط الجماعة بالأعذار سواء قلنا أنها سنة أم فرض كفاية أم فرض عين، لأنا وإن قلنا أنها سنَّة فهي متأكدة يُكره تركها، كما سبق بيانه، فإذا تركها لعذر زالت الكراهة، وليس معناه أنه إذا ترك الجماعة لعذر تحصل له فضيلتها، بل لا تحصل له فضيلتها بلا شك، وإنما معناه سقوط الإثم والكراهة ...» اهـ (5).

[ب] الأعذار الخاصَّة:

5 - المرض: الذي يشقُّ معه الإتيان إلى المسجد لصلاة الجماعة، قال ابن المنذر لا أعلم خلافًا بين أهل العلم أن للمريض أن يتخلَّف عن الجماعات من

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (666)، ومسلم (697).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (698)، وأبو داود (1065)، والترمذي (409).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (669)، ومسلم (1167).

(4) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 220)، وعبد الرزاق (1927) والبيهقي (1/ 398).

(5) «المجموع» للنووي.

 

(1/512)

 

 

أجل المرض، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا مرض تخلَّف عن المسجد وقال: «مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس» (1).

«فإن كان مرضٌ يسير لا يشق معه القصد، كوجع ضرس وصداع يسير وحمَّى خفيفة فليس بعذر،

وضبطوه بأن تلحقه مشقة كمشقة المشي في المطر» (2).

فإن أخذ بالعزيمة -إن قدر- فأتى مع مرضه فهو أفضل:

فعن ابن مسعود قال: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقُه أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة ....» (3).

6 - العلَّة، كالعَمَى ونحوه: فقد رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم لعتبان بن مالك أن يصلي في بيته لمَّا قال: «يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا أصليِّ لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم ...» الحديث (4).

فاجتمع له العمى مع المطر، وفي لفظ من حديث أنس: «قال رحل من الأنصار إني لا أستطيع الصلاة معك، وكان رجلاً ضخمًا ... الحديث» (5)، وقد عدَّ بعض العلماء ضخامة الرجل وكونه سمينًا من الأعذار.

والشاهد أن الأعمى إن لم يجد قائدًا يقوده إلى المسجد كان هذا مبيحًا لتخلُّفه عن الجماعة عند الجمهور خلافًا للحنفية فعذروه مطلقًا ولو كان له قائد (6).

7 - الخوف: كأن يخاف على نفسه من سلطان أو ظالم أو عدو أو لص ونحو ذلك، أو يخاف على ماله، أو على أهله ومن يلزمه الذبُّ عنه، فإن ذلك عذر في التخلف عن الجماعة عند العلماء على اختلاف بينهم في بعض التفصيلات (7).

والعمدة في هذا ما رُوى عن ابن عباس مرفوعًا: «من سمع النداء، فلم يمنعه

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418).

(2) «المجموع» للنووي (4/ 205).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (654)، وغيره وقد تقدم.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (670)، وأبو داود (657).

(6) «ابن عابدين» (1/ 373)، و «الدسوقي» (1/ 391)، و «كشاف القناع» (1/ 497).

(7) «ابن عابدين» (1/ 374)، و «مغنى المحتاج» (1/ 235)، و «المغنى» (1/ 631).

 

(1/513)

 

 

من اتباعه عذر -قالوا: وما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلَّى» (1). وقد تقدم أنه لا يصح مرفوعًا.

8 - حضور الطعام عند من له فيه حاجة:

فعن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وُضع عَشاءُ أحدكم

وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعَشاء ولا يَعْجل حتى يفرغ منه» وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه ليسمع قراءة الإمام (2).

وقد حمل الجمهور قوله (فابدءوا بالعشاء) على الندب ثم اختلفوا، فمنهم من قيَّده بمن كان محتاجًا إلى الأكل وهو المشهور عند الشافعية، ومنهم من لم يقيده وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق وعليه يدل فعل ابن عمر، وأفرط ابن حزم فقال: تبطل الصلاة!! (يعني: إذا قدَّمها على العشاء) ومنهم من اختار البداءة بالصلاة لمن لم يكن متعلق النفس به، وهو منقول عن مالك وأصحابه، قالوا: فإن أعجله عن صلاته وبدأ بالطعام استحب له الإعادة!! (3).

قلت: أما استحباب الإعادة، فلا دليل عليه، وأما كون الأمر بتقديم الطعام على الصلاة على الندب لا على الوجوب، فدليله حديث عمرو بن أمية قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ذراعًا يجتزُّ منها، فدعى إلى الصلاة فقام وطرح السِّكين، فصلِّي ولم يتوضأ» (4).

9 - مدافعة الأخبثين: أي البول والغائط، لحديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (5).

وعن عبد الله بن الأرق: أنه خرج حاجًّا أو معتمرًا ومعه الناس، وهو يؤمهم، فلما كان ذات يوم أقام الصلاة -صلاح الصبح- ثم قال: ليتقدم أحدكم -وذهب الخلاء- فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد أحدكم أن يذهب الخلاء، وقامت الصلاة، فليبدأ بالخلاء» (6).

_________

(1) ضعيف مرفوعًا: تقدم تخريجه في «حكم صلاة الجماعة».

(2) صحيح: أخرجه البخاري (673)، ومسلم (559).

(3) «فتح الباري» (2/ 188) بتصرف يسير.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (675)، ومسلم (355).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (560)، وأبو داود (89)، وأحمد (6/ 43).

(6) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (88)، والنسائي (2/ 110)، والترمذي (142)، وابن ماجه (616) وغيرهم.

 

(1/514)

 

 

ومدافعة البول والغائط عذران يسقط كل واحد منهما الجماعة بالاتفاق، لما تقدم، ولأن القيام إلى الصلاة مع مدافعة أحدهما يبعده عن الخشوع فيها ويكون مشغولاً عنها.

10 - أكل البصل والثوم والكرات ونحوهاإذا بقي ريحها: فإنه عذر للتخلف عن الجماعة، لئلا يتأذى به الناس والملائكة، فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل هذه البقلة: الثوم» -وقال مرة: «من أكل البصل والثوم والكرات- فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما تأذى منه بنو آدم» (1).

والمراد: أكل هذه الأشياء نيئة، فإن أكلها مطبوخة فلا حرج لزوال علة التأذي بالرائحة، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال على المنبر: «... ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخًا» (2).

وقد ألحق أهل العلم بهذا من كانت حرفته لها رائحة مؤذية، كالجزار والزيات ونحوهما وكذلك من كان به مرض يُتأَذى به، كجذام أو برص (3)، قلت: وأولى من يلحق بهذا المُدخِّنون أصحاب (السجائر) الذين عمَّت بهم البلوى في هذا الزمان، فإن التأذي عنهم أعظم من التأذي من آكل البصل والثوم، هذا على أن الأصل في البصل والثوم أنه حلال بخلاف تعاطي الدخان والله أعلم.

فائدة: عدَّ الفقهاء من الأعذار في التخلف عن الجماعة: أن لا يجد ما يستر به عورته، بل قال الشافعية وبعض المالكية: إن وجد ما يليق بأمثاله لبسه خرج للجماعة وإلا فلا (4).

تنبيه: هل يعذر العروس في عدم الخروج للجماعة لزفافه؟

يرى الفقهاء الشافعية والحنابلة أن زفاف الزوجة إلى زوجها عذر يبيح له المقام عندها وعدم خروجه للجماعة سبًا للبكر وثلاثًا للثيب؟!! وقيَّده الشافعية بالتخلُّف عن الصلوات الليلية فقط!! (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (854)، ومسلم (564) واللفظ له.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (567)، والنسائي (2/ 43) مختصرًا.

(3) «الدسوقي» (1/ 389»، و «مغنى المحتاج» (1/ 236)، و «كشاف القناع» (1/ 497).

(4) «الدسوقي» (1/ 390»، و «مغنى المحتاج» (1/ 236)، و «كشاف القناع» (1/ 496).

(5) «مغنى المحتاج» (1/ 236)، و «كشاف القناع» (1/ 497).

 

(1/515)

 

 

قلت: هذا غلط، والذي نصَّ عليه الشافعي -رحمه الله- كراهته، ومنشأ هذا الغلط هو عدم الفهم لحديث أنس على الوجه الصحيح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من السُنَّة إذا تزوَّج الرجل البكرَ على الثيب أقام عندها سبعًا ثم قسم، وإذا تزوَّج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قسم» (1). وهو واضح في أن معناه: إذا تزوَّج البكر على الثيب فإنه يبيت عندها سبعًا ثم يقسم بين زوجاته بالسوية وليس فيه تعرض لعدم الخروج إلى الصلوات، وكذلك إذا تزوج الثيب على البكر أقام ثلاثًا. ومما يوضح أن هذا هو المراد بالإقامة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوَّج أم سلمة أقام عندها ثلاثًا وقال: «إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبَّعتُ لك، وإن سبَّعتُ لك سبَّعتُ لنسائي» (2).

من آداب الخروج إلى الصلاة وما يُفعل قبل الصلاة:

1 - ترك الأعمال عند حضور الصلاة: عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -أي: خدمتهم- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة» (3).

2، 3 - التطهُّر والمشي إلى المسجد وتكثير الخُطا واحتسابها: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطهَّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه: إحداهما تحطُّ خطيئة والأخرى ترفع درجة» (4).

وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ...» (5) وعن أنس قال: أراد بنو سلمة أن يتحوَّلوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، وقال: «يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم؟» فأقاموا (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5214)، ومسلم (1461).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1460)، وأبو داود (2122)، وابن ماجه (1917)، ومالك (1123).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (676)، والترمذي (2489)، وأحمد (6/ 49).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (666).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (651)، ومسلم (662).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1887)، وابن ماجه (784)، وأحمد (3/ 106).

 

(1/516)

 

 

وفي لفظ من حديث جابر: فنهانا وقال: «إن لكم بكل خطوة درجة» (1).

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدركم على ما يمحو الله به الخُطا ويرفع به الدرجات؟».

قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطايا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» (2).

وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد أوراح، أعدَّ الله له نزلاً من الجنة كلما غدا أو راح» (3).

4 - المبادرة إلى المسجد والتبكير إلى الصلاة:

فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حَبْوًا، ولو يعلمون ما في الصف المقدَّم لاستهموا» (4). وعنه

عن النبي صلى الله عليه وسلم: «... وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ...» (5).

5 - المشي إلى المسجد بسكينة وعدم الإسراع:

فعن أبي قتادة: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبَةَ رجال، فلما صلَّى قال ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: «فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فَصَلُّوا، وما فاتكم فأتِمُّوا» (6).

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» (7).

6 - الذِّكر بما ثبت عند خروجه إلى المسجد وعند دخوله المسجد: فيقول إذا خرج: «اللهم اجعل لي في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، واجعل في سمعي نورًا،

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (664)، وأحمد (3/ 336).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (251)، والترمذي (51)، والنسائي (1/ 89)، وأحمد (2/ 235).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (662)، ومسلم (669).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (720)، ومسلم (437).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (477)، ومسلم (649). مختصرًا

(6) صحيح: أخرجه البخاري (635)، ومسلم (603).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (636)، ومسلم (602).

 

(1/517)

 

 

واجعل لي في بصري نورًا، واجعل لي من خلفي نورًا ومن أمامي نورًا، واجعل من فوقي نورًا ومن تحتي نورًا، اللهم أعطني نورًا» (1).

ويقول إذا دخل المسجد بيمينه: «بسم الله، اللهم صل على محمدٍ» (2) و «اللهم افتح لي أبواب رحمتك» (3).

6 - عدم تشبيك الأصابع في المسجد إلا لحاجة: لأنه في حكم المصلي ما دام منتظرًا الصلاة والمصلي لا يجوز له التشبيك -كما تقدم في مكروهات الصلاة- وفي هذا المعنى حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، وشبَّك بين أصابعه» (4) وهو مختلف فيه، ولتحسينه وجه قوي.

وأما ما أورده البخاري تحت باب: (تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بقيت في حثالة من

الناس، ... وشبَّك النبي صلى الله عليه وسلم ...» (5) ونحوه -فالتحقيق أنه ليس بينهما تعارض، إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث إنما هو المقصود التمثيل وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس، أو يقال: إن النهي مقيَّد بما إذا كان في صلاة أو منتظرًا لها لأنه في حكم المصلى، وحديث ابن عمرو وأمثاله خالية من ذلك والله أعلم (6).

7 - صلاة ركعتي تحية المسجد: وقد تقدم الكلام عليها مفصلاة في «صلاة التطوع».

8 - عدم التنفُّل إذا أقيمت الصلاة: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة في صلاة إلا المكتوبة» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6316)، ومسلم (763).

(2) حسن لغيره: أخرجه ابن السني (88)، وله شواهد وانظر «تصحيح الكلم الطيب» (63).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (713)، وأبو داود (465)، والنسائي (3/ 53)، والترمذي (314)، وابن ماجه (722).

(4) حسن بطرقه: أخرجه الحاكم (1/ 206)، وله شواهد عند أحمد (3/ 42)، والدارمي (1406)، وابن خزيمة (439) وغيرهم.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (466)، وأبو داود (4342)، وابن ماجه (3957).

(6) انظر «فتح الباري» (1/ 566) ط. المعرفة.

(7) صحيح: أخرجه مسلم (710)، وأبو داود (1266)، والنسائي (2/ 116)، والترمذي (421)، وابن ماجه (1151).

 

(1/518)

 

 

وعن عبد الله بن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً -وقد أقيمت الصلاة- يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آلصبح أربعًا؟ آلصبح أربعًا؟» (1).

وفي لفظ: «يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعًا».

فإذا أحرم بالنافلة قبل الإقامة، ثم أقيمت وهو في الصلاة، فأعدل الأقوال أن يقال: إن علم أنه يُنهي صلاته قبل تكبيرة الإحرام للإمام، أتمَّ صلاته، وإلا قطعها لهذه الأحاديث والله أعلم (2).

9 - عدم الخروج من المسجد بعد الأذان وقبل صلاة الفريضة إلا لضرورة:

فعن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة، فأذَّن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (3).

فإن كانت ضرورة تحتم الخروج فلا بأس حينئذ، فعن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، وقد أقيمت الصلاة وعُدِّلت الصفوف، حتى إذا قام في مُصلاَّه انتظرنا أن يكبِّر، انصرف،

قال: «على مكانكم» فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطُف رأسُه ماءً، وقد اغتسل» (4).

10 - عدم القيام - إذا أقيمت الصلاة- إلا إذا رأى الإمام: فعن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني» (5).

وقد تقدم فقه المسألة في «أبواب الأذان».

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (663 - 711)، والنسائي (2/ 117)، وابن ماجه (1153).

(2) انظر لمذاهب العلماء: «ابن عابدين» (1/ 479)، و «جواهر الإكليل» (1/ 77)، و «مغنى المحتاج» (1/ 252)، و «المغنى» (1/ 456).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (655)، وأبو داود (536)، والنسائي (2/ 29)، والترمذي (204)، وابن ماجه (733).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (639)، ومسلم (605).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (637)، ومسلم (604).

 

(1/519)

 

 

ومن الآداب الخاصة بالنساء:

11 - استئذان الزوج في الخروج للمسجد، وعدم منعه لها:

فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استأذنت المرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها» (1).

وعنه قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لمَ تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (2).

وهذا الإذن للنساء من الرجال إلى المساجد -إذا لم يكن في خروجهن ما يدعو إلى الفتنة من التبرج والتطيب والتزيُّن -واجب على الرجال لظاهر النهي عن المنع، فإن وجد شيء من ذلك لم يجب الإذن ويحرم عليهن الخروج (3).

وقد يُقال: إن الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنه لو كان واجبًا لانتفى معنى الاستئذان لأنه لا يتحقق إلا إذا كان المستأذَن مُخيرًّا في الإجابة أو الرد (4)، والله أعلم.

12 - اجتنابُهنَّ الطِّيب والزينة وما يفتتن به:

فعن زينب امرأة عبد الله [بن مسعود] قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد، فلا تمسَّ طيبًا» (5).

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجْنَ

تَفِلات» (6).

ومعنى تفلات: غير متطيِّبات.

13 - عدم الاختلاط بالرجال في دخول المسجد والخروج منه: ولأجل هذه العلة كان النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسرعن بالانصراف بعد انتهاء الصلاة، فعن

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5238)، ومسلم (442).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442) مختصرًا وغيرهما.

(3) «جامع أحكام النساء» لشيخنا -حفظه الله- (1/ 279).

(4) «فتح الباري» (2/ 404) ط. السلفية.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (443)، والنسائي في «الكبرى» (9425).

(6) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (2/ 438)، وأبو داود (565).

 

(1/520)

 

 

أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيرًا قبل أن يقوم، نرى -والله أعلم- أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يُدركهن أحد من الرجال» (1).

 

الإمامة وأحكامها

فضل الإمامة:

عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة» (2).

من الأحقُّ بالإمامة؟ الأقرأ أم الأفقه؟

لأهل العلم في هذه المسألة مذهبان (3):

الأول: الأقرأ أولى بالإمامة: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وحجتهم:

1 - حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» (4).

2 - حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسُّنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا، ولا يَؤُمَّنَّ الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» (5).

3 - وفي حديث عمرو بن سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... صلُّوا صلاة كذا في حين

كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم،

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (870).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (156)، وأحمد (3/ 384).

(3) «المبسوط» (1/ 41)، و «المدونة» (1/ 83)، و «المجموع» (4/ 180)، و «المغنى» (2/ 134).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (672)، والنسائي (2/ 77)، وأحمد (3/ 24).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (673)، وأبو داود (582)، والترمذي (235)، والنسائي (2/ 76)، وابن ماجه (980).

 

(1/521)

 

 

وليؤمكم أكثركم قرآنًا» فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني، لما كنت أتلقَّى من الرُّكبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين ... الحديث (1).

4 - وعن ابن عمر قال: «لما قدم المهاجرون الأوَّلون العصبة -موضع بقباء- قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنًا» (2) وكان سالم حينئذ عبدًا لمَّا يُعتقْ فتقدمهم مع شرفهم.

المذهب الثاني: الأفقه أولى من الأقرأ: وهو مذهب مالك والشافعي، ورواية عن أبي حنيفة وأحمد. وحجتهم:

1 - أنه قد ينوبه في الصلاة ما لا يدري ما يفعل فيه إلا بالفقه فيكون أولى، كالإمامة الكبرى والحكم.

2 - أجابوا عن الأحاديث المتقدمة بأن الأقرأ من الصحابة هو الأفقه، لأنهم ما كانوا يقرأون عشر آيات حتى يفهموا معانيها وما فيها من العلم والعمل وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة» فيه دليل على تقديم الأقرأ مطلقًا.

3 - تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ليصلي بالناس -في مرضه- ولم يكن أقرأهم، وأجيب: بأن تقديم أبي بكر كان إشارة إلى استخلافه على الناس، والخليفة أحق بالإمامة وإن كان غيره أقرأ منه.

والراجح: أن الأقرأ هو الأحق بالإمامة لكن بشرط «أن يكون عارفًا بما يتعيَّن معرفته من أحوال الصلاة، فأما إن كان جاهلاً بذلك فلا يُقدَّم اتفاقًا» (3).

ثم تبقى مسألة: ما المراد بالأقرأ؟ فقال الجمهور: أحسنهم قراءة، وقال بعض الحنابل: الأكثر حفظًا، قلت: نعم، الأكثر حفظًا لظاهر الأحاديث المتقدمة لكن بشرط صحة القراءة وتمامها وخروج كل حرف من مخرجه.

تنبيه: لا ينبغي تقديم من لا يستحق الإمامة، لأجل تَعَنِّيه بالقراءة:

فعن عابس الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّف على أمته ستَّ

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (4302)، وأبو داود (585)، والنسائي (2/ 80)، وأحمد (3/ 475).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (692)، وأبو داود (588).

(3) «فتح الباري» (2/ 171) ط. المعرفة.

 

(1/522)

 

 

خصال:

«إمرة الصبيان، وكثرة الشُّرَط، والرشوة في الحكم، وقطيعة الرحم، واستخفاف بالدم، ونشو يتخذون القرآن مزامير يقدِّمون الرجل ليس بأفقههم ولا أفضلهم يغنيِّهم غناءً» (1).

والمراد بالتغني المذموم هنا ما كان متكلفًا زائدًا على قواعد اللغة والتجويد، وما يكون من التمطيط والتطريب والقراءة بالألحان مما كرهه الأئمة.

لا يتقدَّم أحد على الإمام الراتب إلا بإذنه:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث أبي مسعود المتقدم قريبًا-: «... ولا يؤمَنَّ الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه» (2) وإمام المسجد المُوَلَّى من قبل المسئولين سلطانه، فلا يجوز أن يؤم أحد فيه إلا بإذنه، وإلا أدى إلى الفوضى والتنازع، لكن ينبغي على الجانب الآخر أن لا يُعيَّن في المساجد إلا الكفء للإمامة!! وألا يُوَلَّى فيها المرتزقة من الحفظة الذين لا يحسنون الصلاة ولا يعرفون أحكامها!!

الحاصل في الأَوْلى بالإمامة: أن يصلي الإمام الراتب إن كان للمسجد إمام راتب، وإلا فيقدَّم الأقرأ العالم بفقه الصلاة، فإذا تساووا فأفقههم وأعلمهم بالسنة، فإذا تساووا فأقدمهم هجرة (3)، فإذا تساووا فأكبرهم سنًّا، وعلى هذا يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ومن كان معه لما أرادوا الرجوع إلى أهليهم: «... وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» (4).

ولا يشترط إمامة الأَوْلى: بل تجوز إمامة كلِّ من تصح إمامته لمن هو أولى منه، كما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه (5)، وصلَّى -عليه الصلاة والسلام- خلف عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية من الصبح (6).

_________

(1) حسن بطرقه: أخرجه الطبراني في «الكبير» (18/ 37)، وأحمد (3/ 494)، والبخاري في «التاريخ» (7/ 80) وله شواهد تقويه.

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) المراد: الهجرة من دار الكفر إلى دار السلام، وهي ماضية إلى يوم القيامة لا تنقطع.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (684).

(6) صحيح: أخرجه مسلم من حديث المغيرة.

 

(1/523)

 

 

من تصح إمامتهم:

1 - إمامة الأعمى: فعن محمد بن الربيع «أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال: يا رسول الله، إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر، فصلِّ يا رسول الله في بيتي مكانًا أتخذه

مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين تحب أن أصلي؟» فأشار إلى مكان البيت، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1).

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «استخلف ابن أم مكتوم على المدينة يصلي بالناس» (2).

فائدة: تصح إمامة المعذور للصحيح على الأرجح إذا لا فرق بينه وبين الأعمى، والله أعلم (3).

2 - إمامة العبد والمولى:

فعن ابن عمر قال: «لما قدم المهاجرون الأوَّلون العُصبة -موضع بقباء- قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنًا» (4).

ووجه الدلالة منه: إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقديم سالم عليهم وكان حينها عبدًا لما يُعْتقً.

وعن نافع بن عبد الحارث أن عمر قال له: «من استعملت على أهل الوادي»؟ فقال: ابن أبزى، قال: «ومن ابن أبزى؟» قال: مولى من موالينا، قال: «فاستخلفت عليهم مولى؟» قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: «أما إني سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين» (5).

ولهذا ذهب الجمهور -خلافًا لمالك- إلى صحة إمامة العبد.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (667)، ومسلم (33).

(2) صحيح لغيره: أخرجه ابن حبان (2134)، وأبو يعلى (4456) وله شاهد من حديث ابن عباس.

(3) انظر «السيل الجرار» (1/ 253).

(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (817)، وابن ماجه (218)، وأحمد (1/ 35).

 

(1/524)

 

 

3 - إمامة الصبي المميِّز: وقد تقدم أن عمرو بن سلمة أَمَّ قومه وهو ابن ست أو سبع سنين لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمهم أكثرهم قرآنًا.

وإلى صحة إمامة الصبي المميز ذهب الشافعي خلافًا للجمهور، والحديث حجة عليهم، «ومن قال: إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم ولم يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فما أنصف، لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، كما استدل أبو سعيد وجابر العزل بكونهم فعلوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان منهيًّا عنه لنهى عنه القرآن» (1).

4 - إمامة الفاسق:

تصح إمامة الفاسق -في أصح قولي العلماء- وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد (2)، ويدلُّ على ذلك:

(أ) عموم الأحاديث المتقدمة في تقديم الأقرأ لكتاب الله.

(ب) حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم» (3).

(جـ) حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: «إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرَّج، فقال: «الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم» (4).

(د) وصلى الصحابة ومنهم ابن عمر خلف الحجاج بن يوسف وهو من أفسق الناس (5).

لكن تُكره الصلاة خلفه: لحديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» (6).

_________

(1) «فتح الباري» (8/ 23) ط. المعرفة.

(2) «المبسوط» (1/ 40)، و «المجموع» (4/ 134)، و «الإنصاف» (2/ 252).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (294)، وأحمد (2/ 355).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (695)، وعبد الرزاق (1991).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1660)، والنسائي (5/ 254).

(6) صحيح: أخرجه الترمذي (2229)، وأبو داود (4252)، وأحمد (6/ 278).

 

(1/525)

 

 

فإن أمكن الصلاة خلف غير الفاسق فينبغي ترك الصلاة خلفه، وإن لم يمكن وكان في تركه تعطيلاً للجماعات جازت الصلاة خلفه كما تقدم، والله أعلم.

فائدة: لا تصح الصلاة خلف الكافر: لأن صلاته لا تصح لنفسه ولم يصح الاقتداء به، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1).

وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} (2).

5 - إمامة مستور الحال:

تصح الصلاة خلف من لا يُعلم منه بدعة ولا فسق باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور

الحال (3).

لقوله صلى الله عليه وسلم: «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم» (4).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» (5).

قال ابن حزم (6): «فإن صلى خلف من يظنُّه مسلمًا، ثم علم أنه كافر أو أنه عابث أو انه لم يبلغ -فصلاته تامة، لأنه لم يكلفه الله تعالى معرفة ما في قلوب الناس ... وإنما كلفنا ظاهر أمرهم فأمرنا إذا حضرت الصلاة أن يؤمنا بعضنا في ظاهر أمره، فمن فعل ذلك فقد صلَّى كما أُمِر ...» اهـ. وقال الجمهور: عليه الإعادة إذا علم كفر إمامه بعد الصلاة.

_________

(1) سورة الزمر، الآية: 65.

(2) سورة الفرقان، الآية: 23.

(3) «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام (23/ 351).

(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1/ 391)، وأبو داود (2641)، والترمذي (2608)، والنسائي (2/ 105).

(6) «المحلى» (4/ 51).

 

(1/526)

 

 

6 - إمامة المرأة لجماعة النساء: وتقدم في «حكم الجماعة للنساء» فِعل عائشة وأم سلمة لذلك، وصلاتهما بالنساء.

وأما صلاة الرجل والصبي خلف المرأة فلا تجوز ولا تصح عند جماهير السلف والخلف، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة» (1).

ولنه «لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز إمامة المرأة الرجل أو الرجال شيء، ولا وقع في عصره صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوفهن بعد صفوف الرجال وذلك لأنهن عورات، وائتمام الرجل بالمرأة خلاف ما يفيد هذا، ولا يقال: الأصل الصحة!! لأنا نقول: قد ورد ما يدل على أنهن لا يصلحن لتولي شيء من الأمور، وهذا من جملة الأمور بل هو أعلاها وأشرفها» (2).

من أَمَّ قومًا وهم له كارهون:

عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» (3).

وهذا الوعيد مختص بمن كرهه القوم في دينه أو مخالفته السنة أو غير ذلك مما ابتلي به كثير من أئمة هذا الزمان الذين جُلُّ هَمِّهم إثبات الحضور لأجل الحصول على الراتب، ثم هو بعد ذلك جاهل بدين الله كلُّ بلاء فيه وفي أهل بيته، نعوذ بالله من الخذلان.

وأما من أقام السنة فإنما الإثم على من كرهه، فعن ابن عمر قال: «أَمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة على قوم فطعنوا في إمارته، فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقًا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده» (4).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (4425)، والترمذي (2262)، والنسائي (8/ 227).

(2) «السيل الجرار» (1/ 250).

(3) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (360)، وله شاهد عند أبي داود (593)، وابن ماجه (970).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (4250)، ومسلم (2426).

 

(1/527)

 

 

موقف الإمام والمأموم

[1] صلاة واحد مع الإمام:

إذا صلَّى الرجل وحده مع الإمام فإنه يقف عن يمينه محاذيًا له -غير متأخر قليلاً كما يقول الشافعية- لما في قصة ابن عباس في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم: «... ثم قام يصلي [أي النبي صلى الله عليه وسلم] فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها، فصلَّى ...» (1) وفي رواية (2): «... فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة خنست، فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف، قال لي: «ما شأني أجعلك حذائي فتنخسُّ ...» الحديث.

وفي قصة صلاة جابر معه صلى الله عليه وسلم: «... فجاء فتوضأ ثم قام فصلَّى في ثوب واحد خالف بين طرفيه، فقمتُ خلفه فأخذ بأذني فجعلني عن يمينه» (3).

وفي قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم -في مرض موته- بجانب أبي بكر، قالت عائشة: «... فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر» (4).

[2] صلاة اثنين فأكثر مع الإمام:

إذا صلَّى مع الإمام رجلان فإنهما يقفان وراءه صفًّا باتفاق العلماء من الصحابة ومن بعدهم غير ابن

مسعود وصاحبيه، لحديث جابر الذي فيه: «.. ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدينا جميعًا فدفعنا حتى أقامنا خلفه ...» الحديث (5).

وعن أنس قال: «صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأمي -أم سليم- خلفنا» (6). وأما ابن مسعود فكان يرى أن يقف أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله:

فعن الأسود وعلقمة أنهما صليا مع عبد الله بن مسعود في داره قالا: «...

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (183)، ومسلم (763).

(2) أخرجها أحمد (1/ 330) بسند صحيح لكن الظاهر أنها شاذة.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (766)، وأحمد (3/ 351).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (683)، ومسلم (418).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (3006)، في حديث طويل وابن ماجه (974)، وأحمد (3/ 421).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (727)، ومسلم (658).

 

(1/528)

 

 

وذهبنا لنقوم خلفه فأخذ بأيدينا فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فلما ركع وضعنا أيدينا على ركبنا قال: فضرب أيدينا وطبَّق بين كفَّيه ثم أدخلهما بين فخذيه ... ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1). لكن ذكر جماعة من العلماء منهم الشافعي أن حديث ابن مسعود هذا منسوخ، لأنه تعلم هذه الصلاة من النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفيها التطبيق وأحكام أخر هي الآن متروكة وهذا الحكم من جملتها، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تركه، وعلى فرض عدم علم التاريخ، لا ينتهض هذا الحديث لمعارضة الأحاديث المتقدمة (2).

وإذا صلى مع الإمام ثلاثة فأكثر، فإنهم يقفون وراءه بإجماع العلماء والأحاديث في بيان هذا أكثر من أن تحصر.

ولا يجوز أن يتقدم المأموم على الإمام، لأنه لا يصح الائتمام بالإمام إلا إذا كان مقدمًا عليهم، وقد ذهب الجمهور إلى أن من تقدم على الإمام بطلت صلاته، وذهب مالك وإسحاق وأبو ثور وداود إلى جوازه إذا ضاق المكان وقيل مطلقًا (3).

[3] الصلاة إلى جنب الإمام لمن لم يجد مكانًا في المسجد:

من دخل المسجد فوجد المسجد ممتلئًا والصفوف تامة، فله أن يتخلل الصفوف حتى يقف بجانب الإمام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه مع أبي بكر حين أمَّ الناس: «... فلما رآه أبو بكر

استأخر، فأشار إليه أن كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه» (4).

وفي لفظ في قصة ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم وصلاة أبي بكر بالناس: «.. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلَّص حتى وقف في الصف ...» (5) وفي لفظ لمسلم «فخرَّق الصفوف حتى قام عند الصف المتقدم».

[4] صلاة المرأة مع الإمام:

المرأة إذا صلت مع الإمام، فإنها تقف خلف صفوف الرجال حتى ولو لم

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (534)، وأبو داود (613)، والنسائي (2/ 49).

(2) «نيل الأوطار»، و «المحلى».

(3) «ابن عابدين» (1/ 551)، و «الدسوقي» (1/ 331)، و «مغنى المحتاج» (1/ 49)، و «كشاف القناع» (1/ 485)، و «الإنصاف» (2/ 280).

(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (684)، ومسلم (421).

 

(1/529)

 

 

يكن معها امرأة أخرى، فتقف وحدها في الصف الأخير، وكذلك لو صلَّت وحدها مع الإمام فإنها تقف خلفه لا عن يمينه:

فعن أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيرًا قبل أن يقوم نرى -والله أعلم- أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال» (1).

وعن أنس قال: «صليت أنا ويتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأمي أم سليم خلفنا» (2).

وقال ابن مسعود: «كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة لها الخليل تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فأُلقي عليهن الحيض» فكان ابن مسعود يقول: «أخروهن حيث أخَّرهنَّ الله» (3).

وإذا صلَّى مع الإمام رجل واحد وامرأة، فإن الرجل يقف حذاءه عن يمينه وتقف المرأة وحدها وراءهما، فعن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَّهُ والمرأة معهم فجعله عن يمينه، والمرأة أسفل من ذلك» (4).

فائدة: إذا خالفت المرأة فتقدمت على بعض الرجال أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحنفية تفسد صلاة الرجل دون المرأة!!

قلت: الأصح أن تفسد صلاتها هي لحديث «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» وسيأتي، وبضميمة وقوف أم سليم وحدها خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأنس واليتيم، فدل هذا على بطلان صلاتها أمام

الرجال أو معهم، لكن محل هذا عدم الضرورة، كما لا يخفى.

[5] صلاة المرأة بالنساء:

إذا صلت المرأة بجماعة النساء فإنها تقف وسطهن ولا تتقدم على الصف الأول منهنَّ، وهذا أستر لها، فعن ربطة الحنفية: «أن عائشة أمَّتهنَّ وقامت بينهن في صلاة مكتوبة» (5) وعن حجيرة عن أم سلمة: «أنها أمتهن فكانت وسطًا» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (870)، وأبو داود (1040)، والنسائي (2/ 66)، وابن ماجه (932).

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5115)، والطبراني (9384).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (269)، وابن أبي شيبة (2/ 88).

(5) صحيح لشواهد: أخرجه عبد الرزاق (3/ 141)، والدارقطني (1/ 404)، والبيهقي (3/ 131).

(6) صحيح لشواهد: أخرجه عبد الرزاق (3/ 140)، والدارقطني (1/ 405)، والبيهقي (3/ 131).

 

(1/530)

 

 

فإذا صلَّت المرأة بهنَّ متقدمة عليهن فالأظهر أن الصلاة صحيحة مجزئة لعدم الدليل على بطلانها، لكن خلاف الأولى والله أعلم.

[6] أين يقف الصبيان في الصلاة؟

رُوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يجعل الرجال قدام الغلمان، والغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان» (1) لكنه ضعيف لا يصح.

قال الإمام الألباني -نضرَّ الله وجهه-: «وأما جعل الصبيان وراءهم فلم أجد فيه سوى هذا الحديث، ولا تقوم به حجة، فلا أرى بأسًا من وقوف الصبيان مع الرجال إذا كان في الصف متَّسع، وصلاة اليتيم مع أنس وراءه صلى الله عليه وسلم حجة في ذلك» (2).

قلت: قد تقدم حديث أنس وصلاة اليتيم معه خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان يُمنع الصبيان من الصفِّ مع الرجال، لقام أنس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم واليتيم خلفهما وأم سليم خلفهم، والله أعلم.

صلاة الإمام أو المأموم في مكان مرتفع:

1 - ارتفاع الإمام عن المأمومين:

يُكره للإمام أن يصلي أعلى من المأمومين، وهو مذهب الجمهور، سواء كان هذا العلو لحاجة أو لا. فعن همام: «أن حذيفة أمَّ الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود (الأنصاري) بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني» (3).

وقال الشافعي: أختار للإمام الذي يُعلَّم من خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع فيراه من خلفه فيقتدون به. وهو رواية عن أحمد، لحديث سهل بن سعد لما سئل عن المنبر قال: «... ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى عليها (يعني أعواد المنبر) وكبَّر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقري، فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا، ولتعلموا صلاتي» (4).

_________

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (677)، وأحمد (5/ 341) عن أبي مالك الأشعري.

(2) «تمام المنة» (ص/ 282).

(3) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (597)، وابن خزيمة (1523)، والحاكم (1/ 210)، والبيهقي (3/ 108) وليس فيه إلا ما يخشى من عنعنة الأعمش.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (917)، ومسلم (544).

 

(1/531)

 

 

قلت: فإن وجدت مصلحة من قيام الإمام على المكان المرتفع كتعليم الناس ونحوه فلا بأس لهذا الحديث، وكذلك إذا دعت الحاجة، كأن يمتلئ الطابق العلوي من المسجد والإمام فيه، فيصلي بعضهم في الطابق الأسفل.

2 - ارتفاع المأمومين عن الإمام:

لا دليل يمنع ارتفاع المأموم عن الإمام في الصلاة، لا سيما إذا دعت الحاجة إليه، كأن يمتلئ المسجد فيصلي بعضهم في الطابق العلوي منه، لكن ينبغي أن يكون على وجه يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام ليقتدي به، ويكون مُسامتًا لما خلف الإمام، لا متقدمًا عليه إلا لعذر، ويعضد هذا أن أبا هريرة: «كان بظهر البناء على ظهر المسجد، فيصلي بصلاة الإمام» (1).

وعن سعيد بن سليم قال: «رأيت سالم بن عبد الله صلى فوق ظهر المسجد صلاة المغرب ومعه رجل آخر، يعني ويأتم بالإمام» (2).

الاقتداء بالإمام من وراء حائل:

إذا صلى المأموم خلف الإمام خارج المسجد، أو في المسجد وبينهما حائل: فإن كانت الصفوف متصلة جاز باتفاق الأئمة (3).

فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته (4) وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلون بصلاته ...» الحديث (5).

وعن جبلة بن أبي سليمان قال: (رأيت أنس بن مالك يصلي في دار أبي عبد الله، يشرف على المسجد، له باب إلى المسجد، فكان يجمع فيه ويأتم بالإمام» (6).

,إذا صفُّوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه أو نهر تجري فيه

_________

(1) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 223)، وعبد الرزاق (4888)، والبيهقي (3/ 111).

(2) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 233).

(3) «مجموع الفتاوى» (23/ 407).

(4) حصير كان يحتجره بالليل في المسجد، كما في بعض روايات الحديث.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (729)، ومسلم (782).

(6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 223)، وعبد الرزاق (5455)، والبيهقي (3/ 111).

 

(1/532)

 

 

السفن ففيه قولان هما روايتان عن أحمد: أحدهما: المنع كقول أبي حنيفة، والثاني: الجواز كقول مالك والشافعي (1)، وهو الأظهر لأنه لا نص ولا إجماع في منع ذلك، وقد قال الحسن: «لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر» (2).

لكن ينبغي أن يكون على وجه يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام كسماع التكبير أو رؤية الصف المتقدم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في أصحابه تأخرًا: «تقدموا فائتموا بي، وليأتمَّ بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله» (3).

ولذا قال أبو مجلز: «يأتم بالإمام، وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الإمام» (4).

قلت: وليس يخفى أن محلِّ هذا كله الحاجة كامتلاء المسجد والرحاب المتصلة، وإلا فالأصل اتصال الصفوف وتقاربها، والله أعلم.

تنبيه: لا تصح الصلاة اقتداءً بإمام تُنفل صلاته بالمذياع «الراديو».

 

الصفوف وأحكامها

خيرُ صفوف الرجال والنساء:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أوَّلُها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» (5).

قلت: وكون خير صفوف النساء آخرها إنما محلُّه إذا كُنَّ يصلين خلف صفوف الرجال، فإن كُنَّ يصلين خلف امرأة، أو مع الإمام في مكان منفصل عن الرجال، فالظاهر أن خير صفوفهن الأُوَل، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلوُّن على الصفوف الأُوَل» (6) والله أعلم.

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (23/ 407)، و «المغنى».

(2) أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 250 - فتح)، ووصله عبد الرزاق (5453)، وابن أبي شيبة (2/ 149).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (438)، وأبو داود (480)، والنسائي (2/ 83)، وابن ماجه (978).

(4) إسناده صحيح: علقه البخاري (2/ 250 - فتح)، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 223) بسند صحيح.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (440)، وأبو داود (678)، والترمذي (224)، والنسائي (2/ 93)، وابن ماجه (1000).

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (664)، والنسائي (2/ 90)، وابن ماجه (997).

 

(1/533)

 

 

فضل الصف الأَوَّل:

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... ولو يعلمون ما في الصف المقدَّم لاستهموا» (1).

وفي لفظ لمسلم: «.. لكانت القُرعة».

فضل ميامن الصفوف:

فعن البراء قال: «كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه ...» (2).

وقد جاء عن عائشة مرفوعًا: «إن الله وملائكته يصلُّون على ميامن الصفوف» (3) لكنه بهذا اللفظ غير محفوظ.

من يلي الإمام:

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليليني منكم أولو الأرحام والنهُّى، ثم الذين يلونهم ثلاثًا، وإيَّاكم وهيشات الأسواق» (4).

وأولو الأرحام: هم العقلاء، وقيل: البالغون، والنُّهى: العقول، «وفي الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الأمام، لأنه يتفطَّن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلِّموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم. ولذا «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا منه» (5).

وعن قيس بن عُباد قال: بينا أنا في المسجد في الصف المقدَّم فجبذني رجل من خلفي جبذة فنحَّاني وقام مقامي، فوالله ما عقلت صلاتين فلما انصرف فإذا

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (720)، ومسلم (437 - 439).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (709)، وأبو داود (615)، والنسائي (2/ 94)، وابن ماجه (1006).

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (676)، وابن ماجه (1005)، وأعلَّ البيهقي (3/ 103) متنه وقال أنه غير محفوظ، وأقره الألباني في «تمام المنة» (ص: 228) وهو كما قالا، والله أعلم.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (432)، وأبو داود (675)، والترمذي (228).

(5) صحيح: أخرجه ابن ماجه (977)، وأحمد (3/ 100) وغيرهما.

 

(1/534)

 

 

هو أُبيُّ بن كعب، فقال: «يا فتى، لا يسؤك الله، إن هذا عهد من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه ...» الحديث (1).

إتمام الصفوف الأول ثم الذي يليه:

عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتموا الصف الأول ثم الذي يليه، وإن كان

نقص فليكن في الصف المؤخر» (2).

وعن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنهما أذناب خيل شُمس؟ اسكنوا في الصلاة» قال: ثم خرج علينا فرآنا حِلقًا فقال: «ألا تَصفُّون كما تصف الملائكة عند ربها؟» فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربِّه؟ قال: «يُتمُّون الصفوف الأول، ويتراصُّون في الصف» (3).

وجوب تسوية الصفوف، وسدُّ الخلل:

وقد صحَّ في هذا جملة كثيرة من الأحاديث فمن ذلك:

1 - حديث النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتسوُّنَّ صفوفكم، أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم» (4).

ومعنى: «ليخالفن الله بين وجوهكم»: يوقع بينكم العداوة والبغضاء، واختلاف القلوب، لأن اختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن، ويؤيد هذا المعنى:

2 - حديث أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم ...» (5).

3 - وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقيمة صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري» وكان أحدنا يُلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 88)، وأحمد (5/ 140).

(2) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 93)، وأبو داود (671).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (430)، وأبو داود (661)، والنسائي (2/ 92)، وابن ماجه (992).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (432)، وأبو داود (674)، والنسائي (2/ 87)، وابن ماجه (976).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (725)، ومسلم (434).

 

(1/535)

 

 

4 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُصُّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، والذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف» (1).

5 - وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله» (2).

6 - وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة» (3) وفي لفظ لمسلم: «.. من تمام الصلاة».

وينبغي أن يتولى الإمام تسوية الصفوف بنفسه أو يأمر بذلك المأمومين، وأن لا يشرع في صلاته حتى تعتدل الصفوف:

فعن ابن عمر قال: «كان عمر لا يكبِّر حتى تعتدل الصفوف، يوكِّل بذلك رجالاً» (4).

فائدة:

قال النووي في «المجموع» (1/ 297): «إذا وجد الداخل في الصف فرجة أو سعة دخلها، وله أن يخرق الصف المتأخر إذا لم يكن فيه فرجة وكانت في صفٍّ قدامة لتقصيرهم بتركها» اهـ.

كراهة الصف بين السواري (الأعمدة):

عن عبد الحميد بن محمود قال: «صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة فدفعنا إلى السواري فتقدمنا وتأخرنا، فقال أنس: كنا نتَّقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (667)، والنسائي (2/ 92)، وأحمد (3/ 260) ومعنى الحذف: غنم سود صغار.

(2) حسن: أخرجه أبو داود (666)، والنسائي (2/ 93)، وأحمد (2/ 97).

(3) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ البخاري (723)، وبالآخر مسلم (433) وغيره.

(4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (2439).

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (673)، والنسائي (2/ 94)، والترمذي (229)، وأحمد (3/ 131) وقد ضعِّف بما لا يسلَّم به.

 

(1/536)

 

 

ويشهد له حديث معاوية بن مرة عن أبيه قال: «كنا نُنهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونطرد عنها طردًا» (1).

ولذا يكره للمأمومين أن يقفوا بين السواري لأنها تقطع صفوفهم، فإن كان الصف صغيرًا قدر ما بين الساريتين لم يكره، لأنه لا ينقطع بها، وقد كرهه ابن مسعود والنخعي وراءه ابن المنذر عن حذيفة وابن عباس، بينما رخَّص فيه ابن سيرين ومالك وأصحاب الرأي، قالوا: لعدم الدليل على المنع (2)!! ولا شك أن حديث أنس له حكم الرفع ويؤيده حديث قرة بن قيس، والله أعلم.

وأما الإمام المنفرد: فلا يكره لهما الصلاة بين الساريتين للمعنى المتقدم، ويؤده حديث ابن عمر قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال، فأطال ثم خرج، كنت أول الناس دخل على إثره، فسألت بلالاً: أين صلى؟ قال: بين العمودين المقدمين» (3).

صلاة المنفرد خلف الصف:

الأصل في صلاة الجماعة أن يكون المأمومون صفوفًا متراصَّةً كما تقدم بيانه، فإذا صلى المأموم خلف الصفوف وحده، فقد اختلف أهل العلم في حكم صلاته على ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا تصح صلاته، وهو مذهب أحمد وإسحاق والنخعي وابن أبي شيبة وابن المنذر (4) واستدلوا بما يلي:

1 - حديث علي بن شيبان قال: خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلَّينا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة فرأى رجلاً فردًا يصلي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف قال: «استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف» (5).

_________

(1) إسناده لين: أخرجه ابن ماجه (1002)، وابن خزيمة (1567)، وابن حبان (2219)، والحاكم (1/ 218) ويشهد له ما قبله.

(2) «الأوسط» لابن المنذر (4/ 181 - 182).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (504)، ومسلم (1329).

(4) «الأوسط» (4/ 183)، و «المغنى» (2/ 211)، و «الممتع» (4/ 376).

(5) صحيح بما بعده: أخرجه ابن ماجه (1003)، وأحمد (4/ 23)، وابن حبان (2202).

 

(1/537)

 

 

2 - حديث وابصة بن معبد «أن رجلاً صلَّى خلف الصف وحده، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة» (1).

قالوا: ولولا أن صلاته فاسدة ما أمره بالإعادة، لأن الإعادة إلزام وتكليف في أمر قد فُعل وانتهى منه، ولولا فساده ما كلَّفه بإعادته.

القول الثاني: صلاته صحيحة، ويَكره لغير عذر، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والشافعي (2)، وحجتهم:

1 - حديث أبي بكرة: أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ» (3).

قالوا: أتى أبو بكرة بجزء من الصلاة خلف الصف ولم يؤمر بالإعادة، وإنما نُهي عن العود إلى ذلك فكأنه أرشد إلى ما هو الأفضل، واستدلوا بذلك على أن الأمر بالإعادة في حديث وابصة للاستحباب، جمعًا بين الدليلين.

وأجاب الأوَّلون: بأنه يمكن الجمع بينهما بوجه آخر (4): وهو أن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفردًا خلف الصف، ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة كما في حديث أبي بكرة، وإلا فتجب على عموم حديث وابصة وعلى بن شيبان.

2 - أن ابن عباس لما أداره النبي صلى الله عليه وسلم من يساره إلى يمينه -وقد تقدم الحديث مرارًا- انفرد خلفه بجزء يسير؟! قالوا: والمفسد للصلاة يستوي فيه الكثير والقليل!! وأُجيبَ: بمثل ما تقدم من حديث أبي بكرة من أن هذه الصورة اليسيرة من الانفراد قبل الوقوف في الصف لا تضر.

3 - حملوا النفي في قوله «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» على نفي الكمال لا نفي الصحة وأجيب: بأن الأصل نفي الوجود -وهو ممتنع- ثم نفي الصحة حتى

_________

(1) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (230، 231)، وأبو داود (682)، وابن ماجه (1004)، وأحمد (4/ 228)، وانظر «الإرواء» (541).

(2) «البدائع» (1/ 218)، و «مغنى المحتاج» (1/ 247)، و «جوهر الإكليل» (1/ 80)، و «الأوسط» (4/ 183).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (783)، وأبو داود (683)، والنسائي (2/ 118)، وأحمد (5/ 39).

(4) «فتح الباري» (2/ 314) ط. السلفية، و «مجموع الفتاوى» (23/ 397).

 

(1/538)

 

 

يدل الدليل على منعه فيتجه إلى نفي الكمال، وهنا لا دليل كذلك، ثم هذا مردود بأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة كما تقدم.

4 - صلاة أم سليم وحدها في الصف خلف أنس واليتيم، مؤتمِّين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأجيب بأنها حجة ضعيفة لا تقاوم حجة النهي، فإن وقوف المرأة خلف صف الرجال سنة مأمور بها، ولو وقفت في صف الرجال لكان ذلك مكروهًا فلا يصح القياس، ثم إن المرأة وقفت خلف الصف لأنه لم يكن لها من تصافه، ولو كان معها امرأة أخرى لكان عليها أن تقف معها وكان حكمها حكم الرجل المنفرد خلف الصف (1).

القول الثالث: التفصيل: فإن انفرد لعذر صحت صلاته وإلا بطلت، وهو قول الحسن البصري وقول عند الحنفية واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، ورجَّحه العلامة ابن عثيمين (2) -رحم الله الجميع- وحجتهم أدلة القول الثاني لكنهم قالوا: إن نفي الصحة لا يكون إلا بفعل محرم أو ترك واجب، والقاعدة أنه لا واجب مع العجز.

قلت: ولعلَّ هذا أعدل الأقوال ويليه القول الأول، والله أعلم.

رَايٌ:

الذي يقع في نفسي أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» هو من يصلي خلف صفوف المصلين غير مؤتم بالإمام، وحينئذ لا يكون في الحديث إشكال، لكن لم أجد سلفًا في

هذا الفهم -مع قوة احتمال السياقات له وموافقته أصول الشريعة- فلا أجسر على الجزم به، والله أعلم.

من جاء وقد اكتملت الصفوف، ماذا يصنع؟ (3).

ينبغي تجنُّب الصلاة منفردًا خلف الصف قدر الإمكان، حتى تنتفي الكراهة على قول الجمهور، وتصح الصلاة على قول الحنابلة:

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (23/ 395).

(2) «البدائع» (1/ 218)، و «الإنصاف» (2/ 289)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 396)، و «إعلام الموقعين» (2/ 41)، و «تهذيب السنن» (2/ 266 - العون)، و «الممتع» (4/ 383).

(3) «البدائع» (1/ 218)، و «فتح القدير» (1/ 309)، و «جواهر الإكليل» (1/ 80)، و «مغنى المحتاج» (1/ 248) و «المجموع» (4/ 297)، و «كشاف القناع» (1/ 490)، و «الإنصاف» (2/ 289)، و «المغنى» (2/ 216)، و «الأوسط» (4/ 185)، و «الممتع» (4/ 383).

 

(1/539)

 

 

1 - فإن وجد فُرجة في الصف الأخير وقف فيها.

2 - وإن وجد الفُرجة في صف متقدم فله أن يخترق الصفوف ليصل إليها، لتقصير المصلين في تركها، فإن لم يجد إلا أن يصف بجنب الإمام فله ذلك، وقد تقدمت الأدلة على كل هذا.

3 - فإن لم يتيسَّر ذلك وعلم أنه سيأتي آخر يصُف معه، صلَّى وحده.

4 - فإن لم علم بمجيء أحد يصف معه، فهل يجذب واحدًا من الصف ليصف معه؟

اختلف أهل العلم في هذا: فأجازه الحنفية -في قول- والشافعية في الأصح، والحنابلة، وهو مروي عن عطاء والنخعي، لأن الحاجة داعية إليه، وقيَّده الشافعية بمراعاة موافقة المجرور منعًا للفتنة، ورأى أحمد وإسحاق تنبيهه للرجوع وعدم جذبه.

قلت: الأصل في جواز جذب الرجل من الصف، حديث أُبي بن كعب المتقدم «لما جذب الرجل وقام مقامه، فلما انصرف قال: إن هذا عهد من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه ..» (1) لكن فيه محاذير أخرى تأتي.

وكره مالك أن يجذب أحدًا وقال: يصلي منفردًا، ولا يطيعه المجذوب، وهو مروي عن الأوزاعي وهو اختيار شيخ الإسلام، لأن في هذا الجذب محاذير:

1 - التشويش على الرجل المجذوب.

2 - فيه جناية على المجذوب بنقله من المكان الفاضل إلى المفضول.

3 - فتح فرجة في الصف وربما كان هذا من باب قطع الصف وقد تقدم الوعيد فيه.

4 - فيه جناية على الصف كله، لتحركهم لأجل سدِّ الفرجة.

قلت: الأولى أن لا يجذب أحدًا، وليصلِّ وحده لأجل العذر، والله أعلم.

 

مسائل تتعلق بصفة صلاة الجماعة

سترةُ الإمام سترةٌ للمأمومين:

ذهب الجماهير من أهل العلم إلى أن سترة الإمام سترة لمن خلفه ومعنى هذا أمران:

1 - أنه إذا لم يحل بين الإمام وسترته شيء يقطع الصلاة، فصلاة المأمومين

_________

(1) صحيح: تقدم في «من يلي الإمام».

 

(1/540)

 

 

صحيحة لا يضرها مرور شيء بين أيديهم في بعض الصف، ولا فيما بينهم وبين الإمام، ففي حديث ابن عباس قال: «أقبلت راكبًا على حمار أتان والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمرت بين يدي بعض الصف، فنزلتُ فأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر عليَّ أحد» (1).

2 - أنه إذا مر ما يقطع الصلاة بين الإمام وسترته، قطع صلاته وصلاتهم: فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنيَّة أذاخر، فحضرت الصلاة يعني فصلَّى إلى جدار فاتخذه قبلة، ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمر بين يديه، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار، ومرَّت من ورائه» (2) فلولا أن سترته سترة لهم لم يكن بين مرورها بين يديه وخلفه فرق، والله أعلم.

حكم جهر الإمام بالبسملة في الجهرية:

هذه المسألة «من أعلام المسائل، ومعضلات الفقه، ومن أكثرها دَوَرانًا في المناظرة، وجَوَلانا في المصنفات» (3) ولذا أفردها بالتصنيف جماعة من أهل العلم.

والخلاصة أن للعلماء في هذه المسألة قولين:

الأول: يُسَنٌّ الإسرار بها، وهو مذهب الحنابلة وأصحاب الرأي وهو اختيار شيخ الإسلام وقال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين: منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وذكره ابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وعمار رضي الله عنهم أجمعين، وبه قال الأوزاعي والثوري وابن المبارك (4)، وحجتهم:

1 - حديث أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون

الصلاة بالحمد لله رب العالمين» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (76)، ومسلم (504).

(2) حسن: أخرجه أبو داود (708) / وابن ماجه (3603)، وأحمد (2/ 196).

(3) «نصب الراية» (1/ 336).

(4) «المبسوط» (1/ 15)، و «المغنى» (1/ 345)، و «كشاف القناع» (1/ 335). قلت: وأما الإمام مالك فلا يقرأ البسملة في أول الصلاة، وانظر «المدونة» (1/ 64).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (743)، ومسلم (399).

 

(1/541)

 

 

وفي رواية لمسلم عنه: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» (1).

وتُعقِّب الاستدلال: بأن معنى قوله في الرواية الأولى «يستفتحون بالحمد لله رب العالمين» أي: بسورة الفاتحة قبل غيرها، فليس فيه تعرُّض لنفي البسملة ولا إثباتها.

وأما الرواية الأخرى فهي وإن كانت صحيحة وإسناد إلا أن بعض العلماء تكلم فيها من جهة أنها من تصرف الراوي في الرواية الأولى فأخطأ، والمحفوظ الرواية الأولى (2).

2 - حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3). قالوا: وهو ظاهر في عدم الجهر بالبسملة، ومؤيد لحديث أنس.

3 - واستدلوا بما يُروى عن ابن عبد الله بن المغفل، قال: سمعني أبي وأنا أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: «محدث، إياك والحدث، ولم أر واحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام -يعني منه- فإني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا صليت فقل: «الحمد لله رب العالمين» (4) وأجيب: بأنه ضعيف لا يحتج به.

4 - قوله الله عز وجل في الحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي ... الحديث» (5). وقد احتج به من قال: لا تقرأ البسملة أصلاً في الصلاة.

5 - لا ريب أنه صلى صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بها دائمًا في كل يوم وليلة خمس

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (399).

(2) انظر «فتاوى الباري» (2/ 266 - 267).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (498).

(4) ضعيف: أخرجه الترمذي (244)، والنسائي (2/ 135).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (395)، وأبو داود (821)، والترمذي (2953)، والنسائي (2/ 135)، وابن ماجه (838).

 

(1/542)

 

 

مرات أبدًا حضرًا ولا سفرًا، ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين، وعلى جُمهور أصحابه، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة (1).

القول الثاني: يُسَنُّ الجهر بها، وهو مشهور مذهب الشافعي، وحجَّته:

1 - ما رواه نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فقال: آمين، فقال الناس: آمين ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: الله أكبر، وإذا سلَّم قال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم» (2) وأجيب عنه: باحتمال أن يكون أبو هريرة أشبههم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها على أنه قد رواه جماعة عن نعيم عن أبي هريرة بدون ذكر البسملة، فالحديث ليس صريحًا في كون النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالبسملة.

2 - حديث قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كانت مدًّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ويمدُّ بالرحمن، ويمد بالرحيم» (3).

ويجاب عنه: بأنه غير صريح بأنه سمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، بل الثابت عنه عدم الجهر كما تقدم.

3 - ما رُوى عن ابن عباس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم» (4).

وأجيب: بأنه ضعيف لا يحتج به، ثم هو محتمل للإسرار والجهر.

الراجح: مما سبق نرى أنه ليس في الجهر بالبسملة في الصلاة حديث صحيح صريح يكافئ في دلالته حديث أنس في عدم الجهر، فعليه فالأولى الإسرار بالبسملة، «ومع هذا، فالصواب: أن ما لا يجهر به قد يُشرع الجهر به لمصلحة راجحة، فيشرع للإمام أحيانًا لمثل تعليم المأمومين ... ويسوغ أيضًا أن

_________

(1) «زاد المعاد» (1/ 206 - 207).

(2) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 134)، وأحمد (2/ 497)، وابن خزيمة (499)، وابن حبان (1797).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (5046).

(4) ضعيف: أخرجه الترمذي (245) وغيره، وانظر أحاديث أخرى في بابه لا تخلو من مقال في «نصب الراية» (1/ 328).

 

(1/543)

 

 

يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة، خوفًا من التنفير عما يصلح ...» (1).

تنبيه: ثم ليُعلم أن الخلاف في هذه المسألة قريب فلا ينبغي التعصُّب لها ولا المبالغة في قدرها، ولذا قال شيخ الإسلام: «وأما التعصُّب لهذه المسألة ونحوها، فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نُهينا عنه، إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفرقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدًّا،

لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعائر الفرقة» اهـ (2).

قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام: فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم:

الأول: لا يقرأ المأموم في السرية ولا في الجهرية: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه (3)، وحجتهم:

1 - ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة» (4). وهو ضعيف من جميع طرقه لا يحتج به.

2 - حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه: سبِّح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف قال: «أيكم قرأ، أو: أيكم القارئ؟» فقال رجل: أنا، فقال: «لقد ظننتُ أن بعضكم خالجنيها» (5) وغاية ما فيه النهي عن رفع الصوت بالقراءة خلفه في السرية كما هو واضح!!

3 - أن قراءة الفاتحة ليست بواجبة أصلاً -عندهم- فلم تجب على المأموم!! وهو مردود كما لا يخفى.

القول الثاني: يقرأ في السرية دون الجهرية، وهو مذهب الجمهور: الزهري ومالك وابن المبارك والشافعي في القديم ومحمد صاحب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، واختيار شيخ الإسلام (6) وحجة هذا القول:

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (22/ 436)، وانظر «نصيب الراية» (1/ 328).

(2) «مجموع الفتاوى» (22/ 405).

(3) «المبسوط» (1/ 200)، و «البدائع» (1/ 103).

(4) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (850)، وأحمد (14116)، و «فتح القدير» (1/ 339).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (398)، والنسائي (917)، وأبو داود (828).

(6) «المغنى» (1/ 330)، و «كشاف القناع» (1/ 464)، و «مواهب الجليل» (1/ 537)، و «مجموع الفتاوى».

 

(1/544)

 

 

1 - قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1).

2 - حديث: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، [وإذا قرأ فأنصتوا]» (2).

3 - حديث ابن شهاب عن ابن أكيمة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟» فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: «إني أقول ما لي أُناررعِ القرآن؟» قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه

وسلم (3).

قال بعضهم: هذا الحديث ناسخ للقراءة خلف الإمام في الجهرية؟!!

4 - حديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» (4) قالوا: المراد في الجهرية.

القول الثالث: يقرأ في السرية والجهرية ولابد، وهو مذهب الشافعي -في الجديد- وأصحابه، وابن حزم، واختاره الشوكاني وابن عثيمين (5)، وهو الراجح، لما يلي:

1 - حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (6).

2 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلَّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج -ثلاثًا- غير تمام» قال: فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟! فقال: اقرأ بها في نفسك ...» الحديث (7).

_________

(1) سورة الأعراف، الآية: 204.

(2) أعلَّ الحفاظ هذه الزيادة. أخرجه بها مسلم (404)، وأبو داود (603)، والنسائي (931).

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (826)، والترمذي (312)، والنسائي (2/ 140)، وابن ماجه (848).

(4) ضعيف: تقدم قريبًا.

(5) «الأم» (1/ 93)، و «المجموع» (3/ 322)، و «المحلى» (3/ 236)، و «الفروع» (1/ 428)، و «نيل الأوطار» (2/ 250)، و «الممتع» (4/ 247).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (395)، وأبو داود (821)، والترمذي (2953)، والنسائي (2/ 135)، وابن ماجه (838).

 

(1/545)

 

 

والحديثان يخصصان عموم الآية الكريمة وحديث: «وإذا قرأ فأنصتوا» بما عدا قراءة المأموم الفاتحة، هذا على أن زيادة «وإذا قرأ فأنصتوا» مما اختلف الحفاظ في صحته، وقال أبو داود: ليست بمحفوظة، وكذا قال ابن معين وأبو حاتم الرازي والدارقطني وأبو علي النيسابوري، واجتماع هؤلاء الحفاظ على تضعيفها مقدَّم على تصحيح مسلم، لا سيما ولم يروها مسندة في صحيحه، والله أعلم (1).

ومما يؤيد هذا التخصيص المذكور:

3 - حديث عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة فلما فرغ، قال: «لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟» قلنا: نعم هذا يا رسول الله، قال: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» (2).

4 - وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لعلكم تقرءون خلف الإمام، والإمام يقرأ؟» قالوا: إنا لنفعل ذلك، قال: «فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بأم الكتاب، أو قال: فاتحة الكتاب» (3).

5 - وأما ما ادَّعوه من أن حديث أبي هريرة ناسخ لأحاديث الأمر بالقراءة، فقد ادَّعى الحازمي في «الاعتبار» (ص/ 72 - 75) عكسه، فجعل أحاديث الوجوب ناسخة لأحاديث النهي، والحق أنه لا دليل على هذا أو ذاك، فوجب الرجوع إلى قواعد الجمع أو الترجيح، هذا على أن قوله (فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر ...) مدرج من قول الزهري كما في رواية أحمد (2/ 240) وغيره، واتفق على هذا البخاري في «تاريخه» وأبو داود، ويعقوب بن يوسف والذهلي والخطابي وغيرهم، وقال النووي: هذا مما لا خلاف فيه بينهم، قلت وإذا كان كذلك فلا حجة فيه، فسقطت جميع المعارضات، والله أعلم.

متى يقرأ المأموم الفاتحة خلف إمامه؟ (4).

تقرر أن قراءة الفاتحة ركن لابد منه في كل ركعة سواء في ذلك الإمام والمنفرد

_________

(1) «شرح مسلم» للنووي (4/ 123) ط. إحياء التراث العربي.

(2) حسن: أخرجه أبو داود (823)، والبخاري في «جزء القراءة» (63، 64)، والترمذي (311) وغيرهم.

(3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 60)، والبخاري (63) في «جزء القراءة»، والبيهقي (2/ 166).

(4) «نيل الأوطار» (2/ 251) ط. الحديث، بتصرف يسير.

 

(1/546)

 

 

والمأموم، فمتى يقرأ المأموم في الجهرية؟ قيل: إذا سكت الإمام بين الفاتحة والسورة، وقيل: يقرأها خلف الإمام آية آية، وهو الأولى من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الاستعاذة عن محلها الذي هو بعد الاستفتاح، أو تكريرها عند إرادة قراءة الفاتحة إن فعلها في محلها أولاً وأخَّر الفاتحة إلى حال قراءة الإمام السورة، ومن جهة الاكتفاء بالتأمين مرة واحدة عند فراغه -وفراغ الإمام- من قراءة الفاتحة.

جهر الإمام والمأموم بالتأمين في الجهرية:

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه» (1).

وعن وائل بن حُجر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فقال: آمين، ومد بها صوته» (2).

قال الترمذي: ... وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، يرون أن الرجل يرفع صوته بالتأمين ولا يخفيها، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. اهـ.

وعن ابن جريج عن عطاء قال: «قلت له: أكان ابن الزبير يؤمِّن على إثر أم القرآن؟ قال: نعم، ويؤمِّن من وراءه حتى إن للمسجد للجَّة» (3).

هل يؤمِّن المأموم مع الإمام أو بعده؟

ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يؤمن إلا بعد تأمين الإمام لظاهر حديث: «إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به» وحديث: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا ...».

والراجح أن يؤمِّن بعد قول الإمام {وَلاَ الضَّالِّينَ} لأنه قد جاء هذا صريحًا ففي حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... فإذا كبرَّ فكبروا، وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، يُحْبكُم الله ....» (4). وكذلك ليتوافق تأمين الإمام مع تأمين المأمومين مع تأمين الملائكة، فَيُغفر للمؤمِّن بإذن الله.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (780)، ومسلم (410).

(2) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (248)، وأبو داود (932)، وأحمد (4/ 315)، وأحمد (4/ 315) وغيرهم وله طرق.

(3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (2640)، والشافعي كما في مسنده (230).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (404)، وأبو داود (972)، والنسائي (2/ 196)، وابن ماجه (901).

 

(1/547)

 

 

يُكره تطويل الإمام إذا شق على بعض المأمومين:

فعن أبي مسعود قال: قال رجل يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبًا منه يومئذ، ثم قال: «يا أيها الناس، إن منكم مُنَفِّرين، فمن أَمَّ الناس فليتجوَّز، فإن خلفه الضَعيف والكبير وذا الحاجة» (1).

ولما صلَّى الرجل خلف معاذ بالبقرة أو النساء شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معاذ، أفتَّان أنت -ثلاث مرار- فلولا صليت بسبح اسم ربك والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى» (2).

قلت: وهذا إذا كان يشق على بعض المأمومين، فإن علم رضاءهم فلا يكره التطويل، والمقصود -على كل حال- أن يراعى حال المأمومين، ففي حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالتخفيف ويؤمُّنا بالصافات» (3).

وعن جابر بن سمرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر

الواقعة ونحوها من السور» (4).

وقد ذكر ابن مسعود عشرين سورة من المفصَّل «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة» (5).

فالضابط في التطويل والتقصير حال المأمومين ورضاهم، وإتمام الصلاة وعدم النقص من أركانها، فعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكملها» (6).

وعنا قال: «ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أُمُّه» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (704)، ومسلم (466).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (705)، ومسلم (465).

(3) حسن: أخرجه النسائي (2/ 95)، وأحمد (2/ 26) وغيرهما.

(4) حسن: أخرجه أحمد (5/ 104)، وابن خزيمة (531)، وعبد الرزاق (2720) وغيرهم.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (775)، ومسلم (722).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (706)، ومسلم (469).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (708)، ومسلم (469).

 

(1/548)

 

 

الفتح على الإمام إذا التبست عليه القراءة:

إذا التبست القراءة على الإمام، فللمأموم أن يلقِّنه، واستحبَّه جمهور العلماء، لحديث المسور بن يزيد الأسدي المالكي قال: «شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فترك شيئًا لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله، تركت آية كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلاَّ أكذرتنيها»؟ (1).

ويشهد له حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة فقرأ فيها فلُبس عليه، فلما انصرف قال لأُبيٍّ: «أصليت معنا؟» قال: نعم، قال: «ما منعك؟» (2).

تنبيه: إذا أخطأ الإمام في القراءة، فلا ينبغي تلقينه إلا إذا كان خطؤه مُحيلاً للمعنى، فعن أُبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني أُقرئتُ القرآن على سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت غفورًا رحيمًا، أو قلت سميعًا عليمًا، أو قلت: عليمًا سميعًا، فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب» (3).

يكره تشويش المأمومين بعضهم على بعض بالقراءة والتكبير:

فعن أبي سعيد قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: «ألا كلكم مناج ربَّه، فلا يؤذينَّ بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة، أو قال: في الصلاة» (4).

وتقدم حديث عمران بن حصين في الرجل الذي قرأ خلفه: سبح اسم ربك الأعلى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد ظننتُ أن بعضكم خالجنيها» (5) أي نازعنيها.

وجوب متابعة الإمام، وتحريم مسابقته:

عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر

_________

(1) حسن لغيره: أخرجه أبو داود (907)، والبخاري في «جزء القراءة» (194)، وابن خزيمة (1648)، وله شواهد.

(2) حسن لغيره: أخرجه أبو داود (907)، وابن حبان (1/ 316 - إحسان) بسند جيد وصوَّب أبو حاتم (1/ 77) إرساله ويشهد له ما قبله.

(3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (5/ 41، 51)، وأبو داود (1477) النبي صلى الله عليه وسلم والضياء في «المختارة» (1173).

(4) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (1332)، وأحمد (3/ 94) وغيرهما، وانظر «الصحيحة» (1597، 1603).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (398)، وغيره وتقدم قريبًا.

 

(1/549)

 

 

فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون» (1).

وفي لفظ لمسلم: «لا تبادروا الإمام، وإذا كبَّر فكبروا ....» الحديث.

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار؟!» (2).

فدلَّت هذه الأحاديث على تحريم مسابقة الإمام في الصلاة، وقال الجمهور يأثم فاعله وتجزئ صلاته، وقال أحمد وأهل الظاهر: تبطل صلاته، وبه قال ابن عمر (3).

ولا يجوز مساواته كذلك:

فعن البراء قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده» (4).

وأما التخلُّف عن الإمام: فإن كان لعذر كمرضٍ ونحوه فلا حرج، وإن تعمَّد التأخر كُره، وقال بعض العلماء: إن تأخر بأكثر من ركن عن الإمام بطلت صلاته، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به ...» والله أعلم.

هل يُتابع الإمام إذا زاد في الصلاة؟ كأن يسهو الإمام فيقوم إلى خامسة ويسبح به ولا يلتفت لقولهم، ظانًّا أنه لم يَسْهُ، فقال شيخ الإسلام: إن قاموا معه جاهلين لم تبطل صلاتهم، لكن مع العلم لا ينبغي لهم أن يتابعوه بل ينتظروه حتى يسلِّم بهم، أو يسلموا قبله، والانتظار أحسن. اهـ.

قلت: ولقائل أن يقول: يتابعونه لعموم الأدلة الآمرة بمتابعته، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى خامسة قام الصحابة ولم يأمرهم إذا قام الإمام للخامسة أن يقعدوا، والمسألة موضع اجتهاد، فلتحرر، والله أعلم.

إذا صلَّى الإمام قاعدًا لعذر:

تقدم أن صلاة الصحيح خلف المعذور تصح، فإذا صلَّى القادرون على القيام خلف إمام قاعد لعذر، فهل يصلون قيامًا أو قعودًا؟ لأهل العلم في هذا قولان:

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (734)، ومسلم (414، 416).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (691)، ومسلم (427).

(3) «فتح الباري» (2/ 215).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (690)، ومسلم (474).

 

(1/550)

 

 

الأول: يجب عليهم أن يصلوا قعودًا كذلك، وهو مذهب أحمد وإسحاق والأوزاعي وابن المنذر وداود وابن حزم، وهو مروي عن جابر وأبي هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف (1)، واستدلوا بما يلي:

1 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ، فصلَّى جالسًا، وصلَّى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسًا فصلُّوا جلوسًا» (2) ونحوه حديث أنس وأبي هريرة.

2 - حديث جابر قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّينا وراءه، وهو قاعد وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلَّم قال: «إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم: يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا» (3).

القول الثاني: لا يجوز لهم أن يصلُّوا قعودًا، بل يصلوا قيامًا، وإليه ذهب الأكثرون، منهم أبو حنيفة

والشافعي (4)، واستدلوا بما يأتي:

1 - الجواب عن أدلة الأوَّلين، ولهم في هذا ثلاث طرق:

(أ) ادِّعاء كونها منسوخة، قالوا: والناسخ لها حديث عائشة في صلاة أبي بكر بالناس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «... ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو [قائم] بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد ...» (5).

_________

(1) «المغنى» (2/ 162)، و «الفروع» (2/ 578)، و «الأوسط» (4/ 205)، و «المحلى»، و «نيل الأوطار» (3/ 203).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (688)، ومسلم (412).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (413)، وأبو داود (606)، والنسائي (3/ 9)، وابن ماجه (1240).

(4) «فتح القدير» (1/ 261)، و «المبسوط» (1/ 218)، و «شرح المعاني» (1/ 406)، و «الأم» (1/ 151)، و «المجموع» (4/ 164)، و «الأحكام» لابن دقيق العيد (1/ 225)، و «طرح التثريب» (2/ 334).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (687)، ومسلم (418).

 

(1/551)

 

 

قالوا: وكان هذا في مرضه صلى الله عليه وسلم الذي توفى فيه وقد صلى خلفه أبو بكر والناس قيامًا فدلَّ على نسخ الحكم الأول، وأُجيب عن هذا من أوجه منها:

1 - أن أبا بكر كان هو الإمام والنبي صلى الله عليه وسلم مقيد به كما في بعض الروايات، وتُعقِّب بأن هذه الروايات لو صحَّت لحُملت على تعدد الصلوات، فقد كان مرضه صلى الله عليه وسلم اثنى عشر يومًا فيه ستون صلاة.

2 - قال الإمام أحمد: ليس فيه حجة، لأن أبا بكر كان ابتدأ الصلاة قائمًا، وإذا ابتدأ الصلاة قائمًا صلوا قيامًا، فأشار إلى الجمع بين الحديثين، بحمل الأول على ما إذا ابتدأ الصلاة جالسًا، والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائمًا ثم اعتلَّ فجلس، قال: ومتى أمكن الجمع بين الحديثين وجب ولم يحمل على النسخ.

وتُعقِّب: بأنه يردُّه ما في حديثي جابر وعائشة من إشارته صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بالقعود بعد أن كانوا ابتدءوا الصلاة قيامًا، وأجيب عن هذا التعقُّب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ابتدأ قاعدًا فكان قد لزمهم الجلوس لجلوسه بخلاف اقتدائهم بالصدِّيق فإن إمامهم في ابتدائه الصلاة كان قائمًا فكان القيام لازمًا لهم فاستمروا عليه.

3 - أن الحديث ليس فيه أن غير أبي بكر كانوا قيامًا فلعلَّهم كانوا قعودًا، ويدُّ عليه أن الناس كانوا يقتدون بصلاة أبي بكر، ولو كانوا قيامًا لما اقتدى بصلاته إلا الصف الأول لأن بقية الصفوف يحجبهم عنه الصف الأول، قاله ابن حزم، وتعقَّبه العراقي من أوجه سلم له بعضها، من ذلك: أن الصحابة كانوا

أول صلاتهم قيامًا خلف أبي بكر فمن زعم تغيرهم عن هذه الحال فهو محتاج إلى دليل، بل الظاهر أنه لو وقع لنُقل، ومنها أن المراد باقتدائهم بأبي بكر، اقتداؤهم بصوته لا بمشاهدته.

4 - على فرض ثبوت صلاة الصحابة قيامًا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، فإنه لا يدلُّ على النسخ، بل على الإباحة فقط وبيان أن أمرهم المتقدم بالقعود للندب لا للوجوب، وأجيب بأن هذا مردود بأن الأمر لا يكون على الندب مع تأكيده صلى الله عليه وسلم له بإشارته به وهو في الصلاة ثم تصريحه بذلك بعد سلامه ثم تشبيه فعلهم بفعل الكفرة المجوس، فهذه قرائن تدل على أن النهي للتحريم.

(ب) ادِّعاء أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم: وهذا هو المشهور من قول

 

(1/552)

 

 

مالك (1) وجماعة من أصحابه، وأيَّدوه بما يُروى مرفوعًا: «لا يؤمَّنَّ أحد بعدي جالسًا» (2) وبأن الخلفاء لم يؤمَّ أحد منهم جالسًا؟!! وأُجيب عنه: بأن الأصل عدم الخصوصية حتى يقوم الدليل على ذلك، والحديث المروي ضعيف لا يصح، وأما الاستدلال بترك الخلفاء الإمامة عن قعود فأضعف، فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه، فلعلَّهم اكتفوا بالاستنابة للقادرين.

(جـ) تأويل قوله: «فصلوا جلوسًا» فقالوا: هو محمول على معنى (إذا جلس للتشهد فتشهدوا قعودًا)!! وأجيب: بأن هذا تحريف للخبر عن عمومه بغير دليل، وسياق الأحاديث في الجملة يمنع من سبق الفهم إلى هذا التأويل، ومن ذلك إشارته صلى الله عليه وسلم لهم بالجلوس، وكذلك التعليل بموافقة الأعاجم.

2 - (من أدلة المانعين) أن القيام ركن قدر عليه المأموم، فلم يجز له تركه كسائر الأركان.

3 - أن لكل منهم فرضه ففرض الإمام القعود، وفرضهم القيام.

الراجح في المسألة:

لا شك أن كلا القولين له وجه معتبر، وإن كان الأظهر القول الأول مع اعتبار حال الإمام عند ابتداء الصلاة، فإن ابتدأها جالسًا لزمهم الجلوس، وإن ابتدأها قائمًا لزمهم القيام، فإن طرأ عليه القعود لعذر، فهل يقعدون أو يقومون؟ هذا موضع اجتهاد، وإن كان التعليل بمشابهة الأعاجم يقوِّي جلوسهم.

وأما المصير إلى النسخ فلا أراه قويًّا لبعض الأوجه المتقدمة، ولأن القول به يستلزم النسخ مرتين: لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدًا، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدًا، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين وهو بعيد، بل هو خلاف قاعدة الأحكام.

ويردُّ دعوى النسخ كذلك أنه فعله أربعة من الصحابة -وقيل ستة- ولم يُعلم لهم منهم مخالف حتى قال ابن حبان: وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته. اهـ.

_________

(1) لأجل هذا فإن مذهب مالك أنه لا تصح صلاة القادر على القيام خلف القاعد أصلاً، وانظر «المدونة» (1/ 81)، و «مواهب الجليل» (2/ 97).

(2) إسناده تالف. أخرجه الدارقطني (1/ 398).

 

(1/553)

 

 

تبليغ تكبير الإمام للحاجة:

يشرع أن يبلغ شخص تكبير الإمام عند الحاجة كأن يكون المسجد كبيرًا ولا يصل الصوت إلى الصفوف المتأخرة، والأصل في مشروعيته عند الحاجة فعل أبي بكر رضي الله عنه لما صلى بالناس في مرض موته صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة: «... فتأخَّر أبو بكر رضي الله عنه وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، وأبو بكر يُسمعُ الناس التكبير» (1).

«أما التبليغ خلف الإمام لغير حاجة فهو بدعة غير مستحبة باتفاق الأئمة» (2) اهـ. والله أعلم.

استخلاف الإمام غيره:

إذا عرض للإمام -وهو في الصلاة- عذر كأن أحدث أو ذكر أنه محدث ونحو ذلك، فإن له أن يستخلف من المأمومين من يتمُّ بهم الصلاة والأصل في هذا:

1 - حديث سهل بن سعد في قصة ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم وصلاة أبي بكر بالناس، وفيه: «... فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة ... ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ...» الحديث (3).

2 - حديث عمرو بن ميمون -في قصة طعن عمر بن الخطاب وهو في الصلاة- وفيه: «... فما هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني -أو أكلني- الكلب، حين طعنه ... وتناول عمرُ يَدَ عبد الرحمن بن عوف فقدَّمه ... فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة ..» الحديث (4).

وكان هذا بحضرة الصحابة وأقروا عمر على استخلاف عبد الرحمن ليتم بهم ولم ينكر منهم أحد فكان إجماعًا.

3 - وعن خالد بن اللجلاج أن عمر بن الخطاب «صلى يومًا للناس فلما جلس في الركعتين الأوليين أطال الجلوس، فلما استقبل قائمًا نكص خلفه وأخذ

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (712)، ومسلم (418).

(2) «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام (23/ 403).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (684)، ومسلم (431).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (3700).

 

(1/554)

 

 

بيد رجل من القوم فقدمه مكانه ...» (1) وذكر أنه مرَّ بامرأة من أهله ثم وجد في الصلاة بللاً.

4 - وعن أبي رزين قال: «أمَّنا عليٌّ فرعف، فأخذ رجلاً فقدَّمه، وتأخر» (2).

وهنا مسألتان:

[1] من استخلفه الإمام، يصلي تمام صلاته أم صلاة إمامه الذي استخلفه؟ (3).

وفائدة هذه المسألة تظهر إذا كان من استخلفه الإمام مسبوقًا بركعة -مثلًا- واستُخلف في الثانية، فالأظهر أنه يتم تلك الركعة بهم، ثم إذا سجد سجدتيها أشار إليهم فجلسوا، وقام هو إلى ثانيته، فإذا أتمها جلس وتشهد، ثم قام وقاموا معه فأتم بهم الركعتين أو الركعة (في المغرب) فإن كانت الصبح فكذلك ويسلم ويسلمون معه، وكذا.

وقال أبو حنيفة ومالك: بل يصلي بهم الإمام المستخلَف على حكم صلاة الذي استخلفه، والمعنى على مثالنا السابق:

أن يصلي بهم الركعة الأولى له (الثانية لهم) ثم يجلس للتشهد على حكم صلاة الإمام الأول!! ثم يتم بهم الصلاة، وفيه نظر لأن الإمام الأول الذي خرج قد بطلت إمامته، وهم إنما يتبعون الإمام المستخلَف ولا يصلي هو إلا صلاة نفسه، فيتبعونه فيما يلزمهم، ولا يتبعونه فيما لا يلزمهم، بل يقفون على حالهم، ينتظرونه حتى يبلغ إلى ما هم فيه فيتبعونه حينئذ، والله أعلم.

[2] إذا صلى الإمام بهم ثم ذكر أنه كان محدثًا بعد ما سلَّم:

فقال الجمهور، منهم مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والمزني وغيرهم: يعيد هو ولا يعيدون، وقالت طائفة منهم أبو حنيفة وأصحابه والثوري وغيرهم: يعيد ويعيدون.

وبالقول الأول أقول، وهو المروي عن عمر وابنه عبد الله، وعثمان وعلي (4).

_________

(1) إسناده لين: أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 241)، والبيهقي (3/ 114).

(2) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (3670)، وابن المنذر (4/ 242)، والبيهقي (3/ 114).

(3) انظر «المحلى» لابن حزم (4/ 220).

(4) «الأوسط» لابن المنذر (4/ 212).

 

(1/555)

 

 

أحكام المَسْبُوق

إدراك الجماعة:

إدراك الجماعة على نوعين:

[1] إدراك فضيلة الجماعة: وهو يحصل باشتراك المأموم مع الإمام في جزء من صلاته، ولو في القعدة الأخيرة قبل السلام، وهذا مذهب الجمهور: الحنفية والحنابلة، والصحيح عند الشافعية وبعض المالكية (1).

وهو الصحيح لأنه لو لم يدرك فضل الجماعة بذلك لمنع من الاقتداء، لأنه يكون حينئذ زيادة بلا فائدة، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فَصَلُّوا، وما فاتكم فأتموا» (2). وعن رجل من أهل المدينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «سمع خفق نعلَيَّ وهو ساجد، فلما فرغ من صلاته قال: «من هذا الذي سمعتُ خفق نعليه» قال: أنا يا رسول الله، قال: «فما صنعت؟» قال: وجدتك ساجدًا فسجدت، فقال: «هكذا فاصنعوا، ولا تعتدُّوا بها، من وجدني راكعًا أو قائمًا أو ساجدًا، فليكن معي على حالي التي أنا عليها» (3).

لكن ثوابه يكون دون ثواب من أدركها من أولها، والله أعلم.

[2] إدراك حكم الجماعة وما يترتَّب عليها:

المراد بإدراك حكم الجماعة: ثبوت الأحكام المترتبة على اعتباره مؤتمًّا بالإمام كسجوده لسهو الإمام، وكصلاته الجمعة ركعتين، ونحو ذلك.

وأظهر أقوال العلماء: أن حكم الجماعة لا يثبت إلا بإدراك ركعة كاملة مع الإمام (4) لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (5). وهو مذهب المالكية واختاره شيخ الإسلام (6).

_________

(1) «ابن عابدين» (1/ 483)، و «الدسوقي» (1/ 320)، و «مغنى المحتاج» (1/ 231)، و «كشاف القناع» (1/ 460).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (636)، وغيره وقد تقدم.

(3) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 284) بسند صحيح، وله شاهد عند الترمذي (591) بسند ضعيف، وآخر عند أبي داود.

(4) على الخلاف المشهور فيما تُدرك به الركعة، وسيأتي تحريره قريبًا.

(5) صحيح: تقدم تخريجه وهو متفق عليه.

(6) «الدسوقي» (1/ 320)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 330ن 331).

 

(1/556)

 

 

إدراك الركعة:

اختلف أهل العلم في القدر الذي يكون به المأموم مدركًا الركعة معتدًّا بها مع إمامه، على قولين مشهورين:

القول الأول: تدرك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام: وهو مذهب الجماهير: الأئمة الأربعة وغيرهم (1)، وبه قال ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة، وحجة هذا القول:

1 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (2) وحملوا لفظ «ركعة» على أن المراد الركوع.

2 - وأيَّدوا هذا الحمل برواية ابن خزيمة لحديث أبي هريرة بلفظ «من أدرك ركعة من الصلاة [قبل أن يقيم الإمام صلبه] فقد أدرك» (3) قالوا: فدلَّ على أن المراد بالركعة الركوع!!

3 - ما رُوى عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدُّوها شيئًا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة» (4).

4 - حديث أبي بكرة أنه: انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ» (5).

قالوا: هو ظاهر في أنه اعتدَّ بها، ولم يؤمر بإعادتها، ولا يمكن أنه قرأ الفاتحة فيها، وأما قوله «فلا تعد» فهو نهي عن الدخول في الصلاة قبل بلوغ الصف.

_________

(1) «المبسوط» (2/ 95)، و «فتح القدير» (1/ 483)، و «المدونة» و «الأم» (1/ 135)، و «المجموع» (4/ 111)، و «المغنى» (1/ 299)، و «الفروع» (1/ 587)، و «طرح التثريب» (2/ 365)، و «حكم من أدرك الركوع» للصنعاني.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (580)، ومسلم (607).

(3) منكر بهذا اللفظ: أخرجه ابن خزيمة (1595)، والبيهقي (2/ 89)، والدارقطني (1/ 346)، والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 398)، وجعل الزيادة من كلام الزهري، وأخرجه البخاري في «جزء القراءة» (ص: 47) من نفس الطريق بدونها.

(4) منكر: أخرجه أبو داود (893)، والدارقطني (1/ 347)، والحاكم (1/ 216)، والبيهقي (2/ 89) وفي سنده يحيى بن أبي سليمان، قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم مضطرب الحديث ليس بالقوي، وقد قواه الألباني في «الإرواء» (2/ 261)، و «الصحيحة» (1188) بما لا يسلَّم له فليراجع.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (783) وغيره.

 

(1/557)

 

 

5 - عن ابن عمر قال: «إذا جئتَ والإمام راكع فوضعتَ يديك على ركبتيك قبل أن يرفع رأسه، فقد أدركت» (1).

6 - وعن زيد بن وهب قال: خرجت مع عبد الله بن مسعود من داره إلى المسجد، فلما توسَّطنا

المسجد ركع الإمام، فكبَّر عبد الله ثم ركع وركعت معه، ثم مشينا راكعين حتى انتهينا إلى الصف، حتى رفع القوم رءوسهم، قال: فلما قضى الإمام الصلاة قمتُ أنا -وأنا أرى لم أُدرك- فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني وقال: «إنك قد أدركتَ» (2).

7 - وعن أبي أمامة بن سهل قال: «رأيت زيد بن ثابت دخل المسجد والناس ركوع، فمشى حتى أمكنه أن لا يصل إلى الصف وهو راكع، كبَّر فركع، ثم دبَّ وهو راكع حتى وصل الصف».

وفي لفظ عن خارجة بن زيد: «... ثم يعتدُّ بها، إن وصل إلى الصف أو لم يصل» (3).

القول الثاني: لا يعتد بالركعة التي لا يقرأ فيها المسبوق الفاتحة خلف الإمام: وهو مذهب البخاري وابن حزم، وتقي الدين السبكي من الشافعية ورجَّحه الشوكاني والعلامة المعلَّمي اليماني وغيرهم (4)، واستدلوا بما يلي:

1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» (5).

قالوا: فمن أدرك الركوع فقد فاتته الوقفة وقراءة أم القرآن وكلاهما فرض لا تتم الصلاة إلا به، وهو مأمور بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء ما سبقه وإتمام ما فاته، فلا يجوز تخصيص شيء من ذلك بغير نصٍّ آخر، ولا سبيل إلى وجوده.

2 - أما حديث: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» فهو حق وهو

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 243)، والبيهقي (2/ 90).

(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 255)، والطحاوي (1/ 397)، والبيهقي (2/ 90).

(3) صحيح: أخرج الرواية الأولى الطحاوي (1/ 398)، والثانية البيهقي (2/ 91) وغيره، وانظر «الإرواء» (2/ 264).

(4) «القراءة خلف الإمام» (164)، و «المحلى» (3/ 243)، و «نيل الأوطار» (2/)، و «هل يدرك المأموم الركعة» للمعلمي (ص: 43).

(5) صحيح: تقدم تخريجه.

 

(1/558)

 

 

حجة عليهم، لأنه مع ذلك لا يسقط عنه قضاء ما لم يدرك من الصلاة بلا خلاف، وليس في الحديث أنه إن أدرك الركوع فقد أدرك الوقفة، قلت: فحملوا لفظ «ركعة» على الركعة الكاملة وهذا حقيقة اللفظ.

3 - أما زيادة «قبل أن يقيم الإمام صلبه» فلا تصح، وغاية الأمر أن يكون أحد الرواة توهَّم أن معنى الحديث: من أدرك مع الإمام الركوع فقد أدرك الركعة، فزاد هذه الزيادة تفسيرًا في زعمه وقد جوَّز بعضهم أن تكون من زيادة الزهري فربما التبس على بعض الضعفاء.

4 - وكذلك حديث: «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود .... الحديث» فضعيف لا يحتج به.

5 - وأما حديث أبي بكرة فلا حجة لهم فيه أصلاً، لأنه ليس فيه أنه اجتزأ بتلك الركعة وأنه لم يقضها.

6 - وأما الآثار عن الصحابة فهي معارضة بقول أبي هريرة «أنه لا يعتد بالركعة حتى يقرأ بأم القرآن» وليس قول بعضهم بحجة على الآخر.

الراجح في المسألة: بعد مطالعة أدلة الفريقين فالذي يظهر لي أن أدلة الجمهور لا يُطمأنَّ بمثلها إلى إسقاط رُكني القيام وقراءة الفاتحة، والأصلُ بقاءُ النصوص على عمومها، واشتغالُ الذِّمة بالصلاة كاملة، نعم، لا يُنكر أن للقول بالإدراك قوةً ما لذهاب جماعة من علماء الصحابة إليه فلا لوم على من قَوِيَ عنده ذلك، وأما أنا فلا أزال متوقفًا، وأرى أن من دخل فوجد الإمام راكعًا، ينتظر حتى يرفع من ركوعه ثم يدخل معه ولا يعتد بها؛ خروجًا من الخلاف واحتياطًا لدينه، والله تعالى أعلم.

فوائد تتعلق بالمسألة السابقة (على مقتضى مذهب الجمهور):

[1] هل يركع دون الصف لإدراك الركوع؟

قد تقدم أن أبا بكرة لما ركع دون الصف قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ» (1) فنهاه عن العود إلى الركوع دون الصف.

وأما حديث عبد الله بن الزبير أنه قال على المنبر: «إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعًا حتى يدخل في الصف، فإذن

_________

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(1/559)

 

 

ذلك السنة» (1) فإنه على ما في إسناده من كلام يسير، وما في قوله (ذلك سنة) من الخلاف في رفعه، فإنه على كل حال لا يقوى على معارضة حديث أبي بكرة الصحيح، نعم قد ثبت هذا من فعل ابن مسعود وغيره، لكن قد ثبت النهي عنه عن غيره من الصحابة كأبي هريرة، وأُبيِّ بن كعب.

فالأولى أن لا يركع دون الصف لصحة النهي وعدم قوة المعارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (2) والله أعلم.

[2] هل يشترط الاطمئنان في الركوع لإدراك الركعة؟ (3).

قال بعض الفقهاء: يشترط أن يطمئن المأموم في الركوع قبل ارتفاع الإمام عن حدِّ الركوع المجزئ وأن يجتمع معه في الاطمئنان، وقال كثير منهم: يدرك الركعة بالركوع إن اطمأَّن هو. وبعضهم أطلق، فلم يتعرض لاشتراط الاطمئنان.

[3] إذا شك في إدراك الركوع مع الإمام (4): فالصحيح أنه لا يُدرك لأن الأصل عدمه، ولأن الحكم بالاعتداد بالركعة بإدراك الركوع -عند من يقول به- رخصة، فلا يصار إليه إلا بيقين.

وقيل: يكون مدركًا لأن الأصل بقاء ركوع الإمام وعدم الارتفاع حتى يثبت ارتفاعه بيقين.

[4] هل تجزئه تكبيرة واحدة عند إدراك الركوع؟ (5).

إذا أدرك الإمام في حال الركوع، فإنه تجزئه تكبيرة واحدة، فيكبِّر للإحرام، فيجزئه عن تكبيرة الركوع، ولو كبَّر تكبيرتين: إحداهما للإحرام والأخرى للركوع لكان أحسن.

فائدة: لابد أن يأتي بتكبيرة الإحرام قائمًا، فإن أتى بها أو ببعضها بعد أن انحنى لم تجزئه لأنه أتى بها في غير محلها ولأن القيام فيها ركن.

_________

(1) رجاله ثقات: أخرجه الحاكم (1/ 214)، وابن خزيمة (1571)، والبيهقي (3/ 106) من طريق ابن جريج عن عطاء، وابن جريج مدلس وقد عنعنه، على أن بعضهم يحمل روايته عن عطاء على الاتصال.

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) «المبدع» (2/ 48)، و «الإنصاف» (2/ 224)، و «المجموع» (4/ 113).

(4) «الإنصاف» (2/ 224)، و «المجموع» (4/ 114).

(5) «الإنصاف» (2/ 224)، و «المجموع» (4/ 112)، و «قواعد ابن رجب» (القاعدة 18).

 

(1/560)

 

 

[5] هل ينتظر الإمام إذا أحسَّ بالداخل ليدرك الركوع أو الجماعة؟

يُشرع للإمام أن يطوِّل الركعة الأولى أكثر من الثانية، ليدرك الناس الركعة الأولى، كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم: فعن أبي قتادة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأولين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانًا، ويطوِّل في الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح [فظننا أنه يريد أن يدرك الناس الركعة الأولى» (1).

وعن أبي سعيد قال: «لقد كانت الصلاة تُقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضَّأ، ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطوِّلها» (2).

ومن هنا أخذ بعض القائلين، بإدراك الركعة بالركوع: أن الإمام إذ أحس بداخل -وهو في الركوع- فإنه ينتظره ليدرك الركعة، ما لم يشقَّ انتظاره عليهم، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق (3).

تكرار الجماعة في المسجد الواحد (4):

المسجد لا يخلو من أن يكون له أحد وصفين:

[1] مسجد في السوق، أو في طريق الناس وممرِّهم: يتعاقب عليه الناس فوجًا بعد فوج، فهذا يجوز تكرار الجماعة فيه بالاتفاق، من غير كراهة.

[2] مسجد حيٍّ له إمام راتب: فهذا هو محل الخلاف بين العلماء (5)، والتحقيق أن يقال: إن تكرار الجماعة فيه له حالتان:

الأولى: أن يكون أمرًا عارضًا، والأصل أن الجميع - إلا من تأخر لعذر- يصلون مع الإمام الراتب، فأحيانًا يدخل اثنان أو أكثر وقد سلَّم الإمام، فيُشرع

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (776)، ومسلم (451)، وأبو داود (798)، والزيادة له.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (454)، والنسائي (2/ 164)، وابن ماجه (825).

(3) «المغنى» (1/ 236)، و «نيل الأوطار» (3/ 166).

(4) «ابن عابدين» (1/ 331)، و «البدائع» (1/ 153)، و «الدسوقي» (1/ 332)، و «المغنى» (2/ 180)، و «كشاف القناع» (1/ 457)، و «المجموع» (4/ 221)، و «الأم» (1/ 180)، و «الأوسط» (4/ 215).

(5) فأجازه عطاء والحسن والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق من غير كراهة، وكرهه الجمهور في الجملة على اختلاف بينهم في تقييد هذه الكراهة.

 

(1/561)

 

 

لهم أن يقيموا جماعة أخرى من غير كراهة، والأصل في هذا حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» (1). وقد فعله أنس بن مالك، فعن أبي عثمان قال: «أتانا أنس ابن مالك في مسجد بني ثعلبة فقال: «صليتم؟» -وذلك صلاة الغداة- فقلنا: نعم، فقال لرجل: أذِّن، فأذَّن وأقام ثم صلى في جماعة» (2).

وعن سلمة بن كهيل أن «ابن مسعود دخل المسجد» وقد صلوا، فجمع بعلقمة والأسود ومسروق» (3).

ولا يُعرف لهما مخالف من الصحابة، ولأن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد كما تقدم.

الحالة الثانية: أن يكون أمرًا معتادًا راتبًا متواطأ عليه، كأن يتفق كل طائفة (أصحاب مذهب أو نحو ذلك) على أن يصلوا في ناحية من المسجد أو في وقت محدد غير وقت الطائفة الأخرى، فهذا لا شك في كراهته لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدر الأول، ولما فيه من تفرُّق كلمة المسلمين، ولما فيه من الدعوة إلى الكسل عن الجماعة الأولى بحجة انتظار الثانية، فيحصل التواني عن الحضور.

وهذا هو ملحظ مالك والشافعي حينما كرها تكرار الجماعة في المسجد الواحد، كما صرَّحا به، والله أعلم.

من صلى منفردًا ثم أتى مسجد جماعة فليصلِّ معهم:

وهذا مستحب لتحصيل فضل الجماعة، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين رآهما خلف الصف لم يصليا -وقد صليا في رحالهما-: «فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكما نافلة» (4).

وعن أبي ذرٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون

_________

(1) صحيح بطرقه: أبو داود (574)، والترمذي (220)، وأحمد (3/ 5، 45) وغيرهم.

(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 321)، وعبد الرزاق (3417)، وابن المنذر (4/ 215).

(3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 323)، وابن المنذر (4/ 216)، وله شاهد عند عبد الرزاق (2884).

(4) صحيح: تقدم مرارًا.

 

(1/562)

 

 

الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فَصَلِّ، فإنها لك نافلة» (1).

وعلى استحباب الإعادة مع الجماعة اتفق أهل العلم، ولهم تفصيلات محلُّها كتب الفروع، ومن ذلك استثناء المغرب -عند الحنفية والمالكية والحنابلة (2) - قالوا: فلا تعاد لأنها وتر النهار وكذلك الوتر، وقد تقدم تحريره.

فإن كان صلَّى الفرض في جماعة فهل يعيده إذا أتى الجماعة؟ (3).

الظاهر أنه يستحب كذلك، وبه قال الشافعية والحنابلة، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين: «صليتما» يصدق بالانفراد والجماعة، ولعموم قوله: «فإنها لكما نافلة» وقوله لأبي ذر: «فإنها لك نافلة». وقد منع الإعادة المالكية واستثنوا من ذلك المسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس لفضل تلك البقاع، والأول أظهر، والله أعلم.

 

ما يُفْعَل بعد انقضاء الصلاة

استقبال الإمام الناس بعد التسليم ومكثه يسيرًا قبل انصرافه:

عن سمرة بن جندب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى أقبل علينا بوجهه» (4).

قيل: الحكمة في استقبال المأمومين أن يعلمهم ما يحتاجون إليه، كما في حديث زيد بن خالد الجهني

قال: صلَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» ... الحديث (5).

وقيل غير ذلك، وعلى كل حال فهذه هي السنة الحَرِيَّة بالتأسي.

ويستحب أن يكون في استقباله لهم إلى جهة يمينه أقرب، فعن البراء قال: «كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه ... الحديث» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (648)، وقد تقدم.

(2) «ابن عابدين» (1/ 479)، و «البدائع» (1/ 287)، و «الدسوقي» (1/ 320)، و «المواهب» (2/ 84)، و «المغنى» (2/ 111)، و «كشاف القناع» (1/ 458).

(3) المراجع السابقة مع «المهذب» (1/ 102)، و «أسنى المطالب» (1/ 212).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (845)، ومسلم (2275).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (709)، وأبو داود (615).

 

(1/563)

 

 

فائدة: يستحب للإمام -قبل استقبال الناس- أن يمكث مستقبلاً القبلة مقدار ما يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم (592) عن عائشة وعن البراء بن عازب قال: «رَفَقْتُ الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتُ قيامه، فركعته فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف، قريبًا من السواء» (1).

وعن أم سلمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مكانه يسيرًا ...» (2).

سرعة انصراف النساء عقب الصلوات:

عن أم سلمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مكانه يسيرًا» قال ابن شهاب: فنرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء» (3).

وعنها: «أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنَّ إذا سلَّمْنَ من المكتوبة قُمْنَ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرِّجال» (4).

«وهذا محلُّه إذا صلى النساء خلف الرجال مباشرة، وكان خروجهم جميعًا من باب واحد، أما إذا كان هناك باب مستقلٌ للنساء، وهنَّ محتجبات عن الرجال فلهنَّ أن يبقَيْن في مصلاَّهن يسبِّحن ويحمدن ويكبرن ويهلِّلن بالأذكار المعهودة دبر كل صلاة فإن الملائكة تصلي عليهن ما دُمْن في مصلاَّهن ما لم

يُحدثن» (5).

قلت: والمستحب أن يكون للنساء باب خاص -لا سيما في زمان الفتنة- فلا يدخل منه الرجال، والأصل في هذا قول عمر بن الخطاب: «لو تركنا هذا الباب للنساء» فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (471)، وأبو داود (854)، والنسائي (3/ 66)، وأحمد (4/ 294).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (849)، وأبو داود (1040)، والنسائي (3/ 67)، وابن ماجه (932).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (849)، وأبو داود (1040)، والنسائي (3/ 67)، وابن ماجه (932).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (866) وغيره.

(5) نحوه في «جامع أحكام النساء» لشيخنا -حفظه الله- (1/ 287) وانظر كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 156).

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (463)، عن نافع عن عمر بهن وهو محمول على أنه أخذه عن ابن عمر والله أعلم.

 

(1/564)

 

 

ما يقال عند الخروج من المسجد:

عن أبي حميد أو أبي أسيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك» (1).

 

طرق من أحكام المساجد

أفضل المساجد: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاةٌ في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (2).

وأفضل المساجد: المسجد الحرام ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى لهذا الحديث والآتي بعده.

لا تُشدُّ الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة:

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» (3).

فضل بناء المساجد:

عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدًا، يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتًا في الجنة» (4).

كراهة زخرفة المساجد والمبالغة في رفعها فوق الحاجة:

عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد» (5).

وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرت بتشييد المساجد» (6) [قال ابن عباس: لتُزَخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى]» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (713)، وأبو داود (465)، والنسائي (3/ 53).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1190).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (450)، ومسلم (533).

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (449)، والنسائي (689)، وابن ماجه (739)، وأحمد (11931).

(6) يعني: المبالغة برفع بنائها فوق قدر الحاجة.

(7) صحيح: أخرجه أبو داود (448)، وابن حبان (1615)، والبيهقي (2/ 438)، وأبو يعلى (2454)، وعبد الرزاق (5127).

 

(1/565)

 

 

وعن عمر أنه أمر ببناء المساجد فقال: «أَكِنَّ الناس من المطر، وإيَّاك أن تُخَمِّر أو تُصفِّر فتفتن الناس» (1).

تنظيف المساجد وتطييبها:

عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر ببناء المساجد في الدور، وأمر بها أن تُنظَّف وتُطيَّب» (2).

وعن أبي هريرة «أن رجلاً أسود -أو امرأة سوداء- كان يقمُّ المسجد، فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه ...» الحديث (3).

وفي لفظ عنه: «إن امرأة كانت تلتقط الخرق والعيدان في المسجد» (4).

وعن أنس قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمَّر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكَّته، وجعلت مكانها خلوقًا (5) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحسن هذا» (6).

صيانتها عن القذر والأوساخ:

عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر الله وقراءة القرآن» (7).

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها» (8).

وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُرضت عليَّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يُماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها: النخامة تكون في المسجد لا تُدفن» (9) قال النووي في شرحه:

_________

(1) علَّقه البخاري في «باب بنيان المسجد» بصيغة الجزم.

(2) مرسل: أخرجه أبو داود (455)، والترمذي (594)، وابن ماجه (759)، وفي طرقه اختلاف على هشام بن عروة، والصواب -كما قال الدارقطني في «العلل» - عن هشام عن أبيه دون ذكر عائشة، وانظر «الإصابة» (5/ 361).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (458)، ومسلم (956).

(4) حسن: أخرجه ابن خزيمة (1300) وغيره.

(5) الخلوق: نوع من الطيب مركب من زعفران وغيره.

(6) حسن: أخرجه النسائي (2/ 25)، وابن ماجه (762).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (537) في قصة الرجل الذي بال في المسجد.

(8) صحيح: أخرجه مسلم (552)، وأبو داود (475)، والترمذي (572)، والنسائي (2/ 51).

(9) صحيح: أخرجه مسلم (553).

 

(1/566)

 

 

«هذا ظاهره أن هذا القبح والذم لا يختص بصاحب النخامة، بل يدخل فيه هو وكل من رآها ولا يزيلها بدفن أو حكٍّ أو نحوه» اهـ.

ويؤيد هذا حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقًا في جدار القبلة فحكَّه» (1).

فائدة: من اضطُرَّ إلى التنخُّم في الصلاة ماذا يصنع؟

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس فقال: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتخَّع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يُستقبل فيُتنخَّع في وجهه؟ فإذا تنخَّع أحدكم فيتنخَّع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا» فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض (2).

منع نشد الضالة في المسجد:

المساجد أماكن للعبادة والذكر والطاعة فلا يجوز أن تنشد فيها الضالة (3)، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا» (4).

منع البيع والشراء في المسجد:

فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه الشِّعر، وأن ينشد فيه الضالة، وعن الحِلق يوم الجمعة قبل الصلاة» (5).

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم ن يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك ...» (6).

وقد حمل الجمهور النهي في هذه الأحاديث على الكراهة.

فائدة: أما البيع على باب المسجد -خارجه- فجائز لا كراهة فيه، يدلُّ

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (406)، ومسلم (547).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (550)، والنسائي (1/ 163)، وابن ماجه (1022).

(3) نشد الضالة: طلب الشيء الضائع المفقود.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (568)، وأبو داود (4790)، وابن ماجه (767).

(5) حسن: أخرجه أبو داود (1079)، والترمذي (322)، والنسائي (2/ 47)، وابن ماجه (766).

(6) حسن: أخرجه الترمذي (1321).

 

(1/567)

 

 

على هذا حديث ابن عمر «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلَّة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتَ هذه فلبستَها يوم الجمعة؟ ....» الحديث (1).

النهي عن إنشاد الشعر القبيح في المسجد:

قد تقدم حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن يُنشد فيه الشعر ...».

وهذا النهي مختص بإنشاد الشعر القبيح، وبما يخرج عن حد الاعتدال بحيث يُخرج المسجد عما بُني له، فقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت هجاء المشركين في المسجد: فعن أبي هريرة قال: مرَّ عمر بحسَّان وهو ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟» قال: نعم (2).

النهي عن رفع الصوت في المسجد:

ففي حديث السائب بن زيد أن عمر رأى رجلين من أهل الطائف يرفعان أصواتهما فقال: «لو كنتا من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (3). وقد تقدم قريبًا نهي المصلين عن التشويش على بعضهم ورفع الأصوات ولو بقراءة القرآن.

قلت: وهذا محمول على ما إذا تفاحش ارتفاع الصوت، وأما إذا لم يتفاحش فيباح للمصلحة كطلب الحق ونحوه، كما في حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دَيْنًا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما ...» (4).

الحديث، وفيه أنه لم ينههما عن ذلك، وكذلك يباح رفع الصوت بالعلم والخير.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (886)، ومسلم (2068).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (453)، ومسلم (2485).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (470).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (457).

 

(1/568)

 

 

جواز التحدُّث بالكلام المباح في المسجد:

فعن جابر بن سمرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاَّه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام» قال: «وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم» (1).

جواز الأكل والشرب والنوم في المسجد:

فعن عبد الله بن الحارث قال: «كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الخُبز واللَّحم» (2).

وقد ثبت أن امرأة سوداء كانت تسكن في المسجد (3)، وكذلك أهل الصُّفَّة (4).

وعن ابن عمر: «أنه كان ينام -وهو شاب أعزب- في المسجد» (5).

جواز اللعب في المسجد لمصلحة:

فعن عائشة قالت: «جاء حبش يزفنون في المسجد في يوم عيد، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فوضعت رأسي على منكبيه، فجعلت أنظر إلى لعبهم، حتى كنت أنا التي انصرفت» (6).

النهي عن تشبيك الأصابع في المسجد: وقد تقدم تحريره.

جواز إدخال المشرك المسجد للمصلحة، عدا المسجد الحرام:

لحديث أبي هريرة في قصة ربط ثمامة بن أثال -وكان إذ ذاك مشركًا- في سارية من سواري المسجد، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإطلاقه في اليوم الثالث «فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فأسلم» (7).

وأما المسجد الحرام فلا يحلُّ للمشرك دخوله لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ

الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (8).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (670).

(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (330).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (439).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (6452)، والترمذي (479).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (7031)، ومسلم (2479) وغيرهما بنحوه.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (5190)، ومسلم (892) واللفظ له.

(7) صحيح: تقدم تخريجه في «الغُسل».

(8) سورة التوبة، الآية: 28.

 

(1/569)

 

 

وهذا مذهب الشافعي وابن حزم (1).

تحريم بناء المساجد على القبور:

عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (2).

وعن جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» (3).

 

صلاة الجمعة (4)

من فضائل يوم الجمعة:

1 - يوم الجمعة أفضل الأيام عند الله تعالى: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة» (5).

وقد أقسم الله تعالى به في كتابه فقال سبحانه: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} (6).

وقال أبو هريرة: «اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة» (7).

2 - وقد أوقع الله تعالى فيه أمورًا عظيمة:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي يوم الجمعة مصيخة (8) حتى تطلع

_________

(1) «المحلى» (4/ 243).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (531).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (532)، والنسائي في «الكبرى» (11123)، وأحمد (1/ 195).

(4) هذا الباب مُستَلٌّ باختصار من كتابي: «اللمعة في آداب وأحكام الجمعة».

(5) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (2/ 457)، وعبد الرزاق (5563)، وابن حبان (2759)، والبغوي (1062)، وله شواهد.

(6) إسناده صحيح: أخرجه ابن جرير (30/ 82)، والحاكم (2/ 519)، والبيهقي (3/ 170) وقد روى مرفوعًا ولا يصح.

(7) سورة البروج، الآية: 3.

(8) أي: مستمعة مصغية.

 

(1/570)

 

 

الشمس شفقًا من الساعة، إلا ابن آدم،

وفيه ساعة لا يصادفها مؤمن وهو [قائم] يصلي فيسأل الله فيها شيئًا إلا أعطاه إياه» (1).

3 - أنه يوم عيد للمسلمين، أكمل الله فيه دينه وأتم نعمته:

فعن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال: أيُّ آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (2). قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة» (3).

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبر يل بمثل المرآة البيضاء، فيها نكتة سوداء، قلت: يا جبريل، ما هذه؟ قال: هذه الجمعة، جعلها الله عيدًا لك ولأمَّتِك ...» (4).

4 - أن في صلاة الجمعة وفي شهودها فضائل عظيمة: يأتي طرف منها في موضعه إن شاء الله.

ما يُفعل ليلة الجمعة ويومها:

1 - يُكره تخصيص ليلة الجمعة بالقيام أو يومها بالصيام:

فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخصوا ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (854) مختصرًا، ومالك (1/ 108)، ومن طريقه أبو داود (1046)، والترمذي (491).

(2) سورة المائدة، الآية: 3.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (45)، ومسلم (3017)، والترمذي (3043)، والنسائي (8/ 114).

(4) حسن: أخرجه أبو يعلى (4213) وغيره بسند حسن.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1144)، والنسائي في «الكبرى» (2751)، وأحمد (2/ 444)، وأصله في البخاري (1985) بدون ذكر الصلاة.

 

(1/571)

 

 

2 - يستحب أن يقرأ في صلاة فجرها بالسجدة والإنسان:

لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يقرأ في الصبح يوم الجمعة بـ «آلم تنزيل» [السجدة] في الركعة الأولى، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} (1) (2).

تنبيهان (3):

(أ) يظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة، وإذا لم يقرأ أحدهم بهذه السورة قرأ سورة أخرى فيها سجدة، وهذا غلط، والحق أن السجدة جاءت تبعًا وليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها.

(ب) لا يستحب أن يقرأ فيها سجدة أخرى، باتفاق الأئمة.

3 - ويُستحب الإكثار يوم الجمعة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

فعن أوس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خُلق آدم وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ».

فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أَرَمْتَ (أي: بليت) قال: «إن الله عز وجل حرَّم على الأرض [أن تأكل] أجساد الأنبياء» (4).

4 - ويستحب قراءة سورة الكهف:

لحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين» (5).

5 - الإكثار من الدعاء رجاء موافقة ساعة الإجابة: فقد تقدم في حديث أبي هريرة مرفوعًا: «فيه ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه ...» (6).

_________

(1) سورة الإنسان، الآية: 1.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (891)، ومسلم (880) وغيرهما.

(3) «مجموع الفتاوى» (24/ 205)، و «زاد المعاد» (1/ 375).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1047)، والنسائي (3/ 91)، وابن ماجه (1085)، وأحمد (4/ 8) وغيرهم.

(5) صحيح: أخرجه الحاكم (2/ 368)، والبيهقي (3/ 249).

(6) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(1/572)

 

 

وساعة الإجابة آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة على الراجح:

لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم الجمعة اثنتا عشرة -يريد ساعة- لا يوجد مسلم يسأل الله عز وجل شيئًا إلا أتاه الله عز وجل، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر» (1).

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوا الساعة التي تُرجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس» (2).

حكم صلاة الجمعة:

صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم مكلف إلا من استثناه الدليل، والأصل في فضلها الكتاب

والسنة وإجماع الأمة:

1 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (3).

2 - عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رواح الجمعة واجب على كل محتلم وعلى من راح الجمعة، الغُسل» (4).

3 - وعن ابن عمر وأبي هريرة سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على أعود منبره: «لينتهينَّ أقوام عن ودعهم الجُمُعات، أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين» (5).

4 - وعن أبي الجعد الضمري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك ثلاث جُمع تهاونًا بها، طبع على قلبه» (6).

5 - وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: «لقد

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1046)، والنسائي (3/ 99) واللفظ له.

(2) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (489)، ومن طريقه البغوي (1051)، وانظر «صحيح الترغيب» (793).

(3) سورة الجمعة، الآية: 9.

(4) صحيح: أخرجه النسائي (3/ 89)، وأبو داود (342)، وابن الجارود (287)، والبيهقي (3/ 172).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (865)، والنسائي (3/ 88)، وابن ماجه (794)، والدارمي (1570).

(6) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (1052)، والترمذي (500)، والنسائي (3/ 88)، وابن ماجه (1125).

 

(1/573)

 

 

هممتُ أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أُحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» (1).

6 - وقد أجمع المسلمون على وجوب الجمعة، وإنما الخلاف: هل هي من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات (2)، وقد ظهر من الأدلة السابقة أنها فرض على الأعيان، والله أعلم.

ويستثنى من وجوب الجمعة عليه: الصبي، والمرأة، والعبد المملوك، والمريض، والمسافر وسائر أصحاب الأعذار، فإن صلاَّها أحدهم صحَّت منه وأسقطت عنه فرض الظهر.

فعن طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة حق واجب على كل محتلم إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض» (3).

وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم

الجمعة، إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك» (4).

ومن الأعذار التي ترخص للمسلم التخلف عن الجمعة: البرد والمطر، لحديث ابن عباس: «أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، قال: فكأنَّ الناس استنكروا ذاك فقال: أتعجبون من ذا؟ قد فعل ذا من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض» (5).

الاستعداد لصلاة الجمعة:

الغُسْل لصلاة الجمعة:

يجب على من جاء إلى صلاة الجمعة -من المخاطبين بها- أن يغتسل في

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (4398)، والنسائي (2/ 100)، والدارمي (2/ 171)، وابن ماجه (2041)، وأحمد (6/ 100).

(2) «المغنى» (2/ 111) ط. الفكر، و «بدائع الصنائع» (1/ 256).

(3) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (1067)، والدارقطني (2/ 3)، والبيهقي (3/ 183)، وانظر «الإرواء» (3/ 57).

(4) حسن لشواهده: أخرجه الدارقطني (2/ 3)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 2425)، وانظر «الإرواء» (3/ 57).

(5) تقدم تخريجه.

 

(1/574)

 

 

أصح قولي العلماء، للأدلة التي تقدم ذكرها في «موجبات الغُسل»، ومن ذلك: حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم محتلم» (1)، وحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» (2).

ومفهومه أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة وبه قال الجمهور، فلا معنى لاغتسال من يرخَّصُ له في التخلف عن الجمعة (3).

فائدتان:

1 - من أحدث بعد الاغتسال: فيجزئه الوضوء، فإن الحدث إنما يؤثر في الطهارة الصغرى، ولا يؤثر في المقصود من الغسل وهو التنظيف وإزالة الرائحة، ولأنه غسل كغسل الجنابة فلا يؤثر الحدث في إبطاله (4).

2 - من أَجْنب يوم الجمعة يجزئه غسل واحد:

إذا أصابت الإنسان جنابة يوم الجمعة، فإنه يجزئه غسل واحد عن الجنابة والجمعة إذا نواهما، وهو قول أكثر أهل العلم، قالوا: وجدنا وضوءًا واحدًا وتيممًا واحدًا يجزئ عن جميع الأحداث الناقضة للوضوء، وغسلاً واحدًا يجزئ عن جنابات كثيرة، وغسلاً واحدًا يجزئ عن حيض أيام، وطوافًا واحدًا

يجزئ عن عمرة وحج في القران، فوجب أن يكون كذلك كل ما يوجب الغسل.

وخالف في هذا ابن حزم فقال بوجوب تعدد الغسل لتعدد أسبابه وأطال في نقد مذهب الجمهور فليراجعه من شاء (5).

ما يستحب قبل الذهاب إلى الجمعة:

1 - مسُّ الطيب -إن وجده- إلا المحرم والمرأة:

فعن سلمان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل الرجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طُهر، ويدهن من دهنه، ويمسُّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (879)، ومسلم (846).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (877)، ومسلم (844).

(3) «فتح الباري» (2/ 417)، و «الأوسط» (4/ 48).

(4) «المغنى» (2/ 99).

(5) «الأوسط» (4/ 43)، و «المجموع» (4/ 365)، و «المغنى» (2/ 99)، و «المحلى» (2/ 45).

 

(1/575)

 

 

اثنين ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (1).

وأما المحرم فلا يجوز له استعمال الطيب كما سيأتي في «الحج».

وأما المرأة فالأدلة كثيرة ومتضافرة في تقرير تحريم خروجها متطيبة ولو للصلاة، ومن ذلك حديث زينب الثقفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شهدت إحداكن العشاء (وفي رواية: المسجد) فلا تطيَّب تلك الليلة» (2).

2 - دلك الأسنان بالسواك ونحوه:

لحديث أبي سعيد مرفوعًا: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستَنَّ وأن يمسَّ طيبًا إن وجد ...» (3) والاستنان: دلك الأسنان بالسواك.

ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة» (4).

3 - التزين بلبس أحسن الثياب، وأفضلها البياض:

فعن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة ... كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها» (5) وخير الثياب البياض، لقوله صلى الله عليه وسلم: «البسوا من الثياب البياض، فإنها خير

ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم» (6).

4 - اجتناب ما يُتأذى برائحته: كأكل البصل والثوم ونحوهما والتدخين، وقد تقدم الكلام على هذا في صلاة الجماعة.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (883)، وأبو داود (1113)، والدارمي (1541)، والبغوي (1058).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (443)، والنسائي (2/ 260).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (887)، ومسلم (578).

(5) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (343)، وأحمد (3/ 81)، والحاكم (1/ 283)، وابن حبان (2767).

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (3878)، والترمذي (994)، والنسائي (8/ 205)، وابن ماجه (1472)، وأحمد (1/ 247).

 

(1/576)

 

 

أفعال المأمومين حال الخُطبة

1، 2 - التبكير إلى المسجد، والدنو من الإمام:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر» (1).

وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (2).

وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها» (3).

3 - المشي إلى الجمعة، وعدم الركوب لها إلا لحاجة:

عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة وغسَّل، وغدا وابتكر، ومشى ثم لم يركب، ودنا من الإمام، وأنصت ولم يلغ: كان له بكل خطوة عمل سنة صيامها وقيامها» (4).

وعن عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار» (5).

4 - صلاة تحية المسجد قبل الجلوس:

فعن جابر قال: دخل رجل يوم الجمعة -والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب- فقال: «أصليت؟» قال: لا، قال: «فصلِّ ركعتين» (6) وفي لفظ «قم فاركع ركعتين

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (3211)، ومسلم (850).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850).

(3) حسن: أخرجه أبو داود (1108)، وأحمد (5/ 10).

(4) صحيح: أخرجه الترمذي (496)، والنسائي (3/ 95)، وأبو داود (345)، وابن ماجه (1087).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (907).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (930)، ومسلم (875).

 

(1/577)

 

 

وتجوز فيهما» وفيه أنه إذا جلس ولم يصلِّ فيستحب أن يقوم ليصليهما -ولو كان الإمام يخطب- ويخففهما وله أن يزيد من التنفُّل ما شاء قبل خروج الإمام عند جمهور العلماء (1) لحديث سلمان المتقدم مرارًا: «... ثم يُصلِّي ما كتب اله ثم يُنصت إذا تكلَّم الإمام غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (2).

فائدة: ليس للجمعة سنة قبلية:

فإذا انتهى الأذان لم يجز أن يقوم الناس لصلاتها البتة (3) وهذا أصح قولي العلماء، وبه قال الحنفية ومالك والشافعي وأكثر أصحابه -خلافًا للنووي وغيره- وهو المشهور في مذهب أحمد (4)، وعليه تدلُّ السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته فإذا رقى المنبر أخذ بلال في أذان الجمعة، فإذا أكمله أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل، وهذا كان رأي عين فمتى كانوا يصلون السنة؟ ومن ظن أنهم إذا فرغ بلال من الأذان قامُوا كلهم فركعوا ركعتين فهو أجهل الناس بالسنة.

ومما يؤيد هذا حديث ابن عمر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة» (5).

فهذا نص صريح في أن الجمعة عند الصحابة مستقلة بنفسها عن الظهر، فلما لم يذكر لها سنة إلا بعدها، عُلم أنه لا سنة لها قبلها، والله أعلم.

وقد ذهب قوم من الشافعية -منهم النووي- إلى إثبات السنة القبلية للجمعة ولهم جملة استدلالات جمعتها والردود عليها في كتاب «اللمعة».

4 - عدم التحلُّق أو الاجتماع لدرس قبل الجمعة:

لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تُنشد فيه الضالة، وأن ينشد فيه الشِّعر، ونهى عن التحلق مثل الصلاة يوم

الجمعة» (6).

_________

(1) «شرح مسلم» للنووي (3/ 385).

(2) صحيح: تقدم تخريجه.

(3) إلا إذا جاء بعد انتهاء الأذان فله أن يصلي تحية المسجد ثم يجلس أو كان ناسيًا لها كما تقدم.

(4) «الفتاوى الكبرى» لشيخ الإسلام (2/ 351)، و «زاد المعاد» (1/ 433)، و «طرح التثريب» (3/ 41).

(5) صحيح: تقدم في «السنن الرواتب».

(6) حسن: أخرجه أبو داود (1079) وغيره.

 

(1/578)

 

 

ولهذا التحلق معنيان، لغوي وشرعي: فأما اللغوي، فمن الحلقة، وهي الجمعة من الناس مستديون كحلقة الباب والتحلُّق تفعُّل منها، وهو أن يتعمدوا ذلك.

وأما الشرعي: فهو الاجتماع للدرس ولو من غير تحلُّق، وكلاهما داخل في النهي الوارد في الحديث (1)، والله أعلم.

 

أذان الجمعة

الأذان إذا جلس الخطيب على المنبر:

عن السائب بن يزيد قال: «إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان خلافة عثمان رضي الله عنه -وكثروا- أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك، فلم يعب الناس ذلك عليه، وقد عابوا عليه حين أتَّم الصلاة بمنى» (2) وفي هذا الحديث فائدتان:

الأولى: أن الأذان يوم الجمعة يكون جلوس الإمام على لمنبر.

الثانية: أن السنة الأذان الواحد للجمعة حين جلوس الإمام، وأما فعل عثمان رضي الله عنه فلا يحسن الاقتداء به في عصرنا، فهو إنما زاد الأذان الأول لعلة معقولة وهي كثرة الناس وتباعد منازلهم عن المسجد النبوي فأراد إعلامهم بدخول وقت الصلاة قياسًا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، فمن صرف النظر عن هذه العلة، وتمسك بأذان عثمان مطلقًا لا يكون مقتديًا به صلى الله عليه وسلم بل هو مخالف له حيث لم ينظر بعين الاعتبار إلى تلك العلة التي لولاها لما كان لعثمان أن يزيد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه.

ولا يخفى أن هذا الإعلام حاصل في عصرنا بدون زيادة هذا الأذان، إذ لا يكاد المرء يمشي خطوات حتى يسمع أذان الجمعة من على المنارات وقد وضع عليها الآلات المكبرة للأصوات مع انتشار «ساعات ضبط الوقت» ونحو ذلك (3).

_________

(1) انظر: «اللمعة في حكم الاجتماع للدرس قبل الجمعة» لمحمد موسى نصر.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (916)، وأبو داود (1087)، والترمذي (516)، والنسائي (3/ 101)، وابن ماجه (1135).

(3) انظر: «الأجوبة النافعة» للألباني -رحمه الله- (ص: 28).

 

(1/579)

 

 

ومع هذا فقد كان ابن عمر ينكر على عثمان الأذان الأول، فيقول: «إنما كان النبي صلى الله عليه

وسلم إذا صعد المنبر، أذَّن بلال، فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته أقام الصلاة، والأذان الأول بدعة» (1).

وعلى كلٍّ فإن وجد السبب المقتضي للأخذ بأذان عثمان رضي الله عنه، وضع في مكان الحاجة والمصلحة وإلا فلا يزاد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، والله أعلم.

لأذان الجمعة وقتان:

(أ) عند الزوال وعند جلوس الإمام على المنبر:

ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن وقت الجمعة وقت الظهر بعد الزوال لأن الجمعة بدل عن الظهر (!!) إلا أنهم استحبوا تعجيلها في أول وقتها بعد الزوال واستدلوا:

1 - بحديث سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمِّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء» (2).

2 - وحديث أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» (3).

(ب) قبل الزوال إذا جلس الإمام على المنبر:

وقد أجازه الإمام أحمد -رحمه الله- واستدل بالحديثين السابقين، فظاهرهما أن الصلاة هي التي كانت حين الزوال فدلَّ ذلك على أن الأذان قبل ذلك، وأصرح منهما:

3 - حديث جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا، فنزيحها حين تزول الشمس، يعني: النواضح» (4).

وقد صحت عدة آثار عن الصحابة رضي الله عنهم تفيد جواز الأذان للجمعة قبل الزوال، منها:

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 48).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (4168)، ومسلم (860).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (904)، وأبو داود (1084)، والترمذي (503)، وأحمد (3/ 128).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (858)، والنسائي (3/ 100)، وأحمد (3/ 331).

 

(1/580)

 

 

4 - عن أبي رزين قال: «كنا نصلي مع عليٍّ الجمعة، فأحيانًا نجد فيئًا وأحيانًا لا نجده» (1).

5 - عن عبد الله بن سلمة قال: «صلى بنا عبد الله (يعني: ابن مسعود) الجمعة ضحىً، وقال: خشيت عليكم الحر» (2).

6 - عن بلال العبسي: «أن عمَّارًا صلى بالناس الجمعة والناس فريقان: بعضهم يقول: زالت

الشمس، وبعضهم يقول: لم تزل» (3).

7 - وعن سماك بن حرب قال: «كان النعمان بن بشير يصلي بنا الجمعة بعد ما تزول الشمس» (4).

يحرم البيع بعد أذان الجمعة: لقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ...} (5).

والنهي -عند الجمهور- يشمل البيع والنكاح وسائر العقود، وقال الحنابلة، ووافقهم ابن حزم: لا يحرم غير البيع.

وهل يصح البيع بعد الأذان؟ قولان للعلماء مبنيان على أن النهي هل يقتضي الفساد مطلقًا أم لا؟ والجمهور من الحنفية والشافعية وبعض المالكية على صحته لأن المنع منه لمعنى في غير البيع خارج عنه وهو ترك السعي، فكان البيع في الأصل جائزًا لكنه يكره تحريمًا.

والمشهور عند المالكية والحنابلة أن البيع فاسد غير منعقد.

 

خطبة الجمعة وأحكام الخطيب

حكمها:

ذهب جمهور أهل العلم إلى أن خطبة الجمعة شرط لصحة الجمعة (6) واستدلوا بما يأتي:

_________

(1) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 18).

(2) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 17)، وفي عبد الله بن سلمة كلام لكن لا يخشى فيه روايته لما حضره وشاهده.

(3) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 18).

(4) إسناده حسن: ذكره البخاري إشارة (2/ 449)، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 18).

(5) سورة الجمعة، الآية: 9.

(6) «البدائع» (1/ 262)، و «ابن عابدين» (1/ 567)، و «المغنى» (2/ 74).

 

(1/581)

 

 

1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (1) والذكر في الآية: الخطبة، لأمرين:

(أ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (2) فسمَّى الخطبة ذكرًا، وعليه فإذا كان السعي للخطبة واجبًا وهو وسيلة فيلزم منه وجوب الخطبة وهي الغاية.

(ب) أن الله تعالى أمر بالسعي إلى ذكر الله من حين النداء، وبالتواتر القطعي كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أذن المؤذن خطب، فعُلم أن السعي إلى الخطبة واجب.

2 - مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على الخطبة في كل جمعة، ولم يصلها مرة بدونها.

3 - تحريم الكلام حين الخطبة ووجوب الاستماع للخطبة.

فإن قيل: هذه الأدلة لا تدل على الشرطية؟! فيقال: هذه الصلاة وجبت بهذه الصفة التي واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قصر بها عما كان عليه العمل فإنه لم يؤدِّ ما وجب عليه، وهو واضح في الشرطية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (3) أي مردود باطل، ويدلُّ على هذا أنه إن لم يخطب يصلي أربعًا، والجمعة لا تكون أربعًا، فهي إذن ظهر.

ويجب أن يخطب خطبتين واقفًا يجلس بينهما إلا لعذر:

وهو مذهب الجمهور خلافًا للحنفية، ووجوبه ظاهر -كما تقدم- من المواظبة على الفعل الذي هو بيان لصفة هذه الصلاة الواجبة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتفى بخطبة واحدة وأنه خطب جالسًا، فعن جابر بن سمرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا ثم يجلس ثم يقوم فيخطب فمن نبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب، فقد -والله- صليت معه أكثر من ألفي صلاة».

وفي رواية: «فما رأيته إلا قائمًا».

وعن كعب بن عجرة أنه: «دخل المسجد -وعبد الله بن أم الحكم يخطب

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.

(2) صحيح: علَّقه البخاري (2697)، ووصله مسلم (1718) وغيره.

(3) صحيح: أخرجه مسلم (862)، وأبو داود (1093)، والنسائي (3/ 109، 110)، والترمذي (507)، وأحمد (5/ 87).

 

(1/582)

 

 

قاعدًا- فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (1) (2).

الحدُّ المجزئ في الخطبة:

اختلفت أقوال العلماء في الحد المجزئ في الخطبة، والتحقيق أن يقال (3):

«ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاد الرسول صلى الله عليه وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت، وأما اشتراط الحمد لله أو الصلاة على رسول الله أو قراءة شيء من القرآن فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاق مثل ذلك في خطبته لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم، ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة عليه، وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقامًا ويقول مقالاً شرع بالثناء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أحسن هذا وأولاه، ولكن ليس هو المقصود بل المقصود ما بعده، ولو قال قائل إن من قام في محفل من المحافل خطيبًا ليس له باعث على

ذلك إلا أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولاً، بل كل طبع سليم يمجه ويرده، وإذا تقرر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث، فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتم وأحسن» اهـ. قلت: وهو السنة كما سيأتي إن شاء الله.

ما يستحب في الخطبة:

1 - ابتداؤها بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله والتشهد:

عن جابر قال: «كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، يحمد الله ويثني عليه [بما هو أهله ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله]» (4).

_________

(1) سورة الجمعة، الآية: 11.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (864)، والنسائي (3/ 102)، وابن أبي شيبة (2/ 112).

(3) «الروضة الندية» (ص: 137).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (867).

 

(1/583)

 

 

وفي حديث أبي حميد الساعدي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد» (1).

ويستحب أن يبدأ بخطبة الحاجة:

فعن ابن مسعود قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة: «الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، [ثم قرأ ثلاث آيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (2) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (4)» (5).

وعن جابر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: «بُعثت أنا والساعة كهاتين» ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر

الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل ضلالة في النار ....» الحديث (6).

وقد صح عن عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يستفتحان بهذا خطبة الجمعة وغيرها.

2 - تفخيم أمر الخطبة ورفع الصوت:

وقد تقدم في حديث جابر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (926).

(2) سورة آل عمران، الآية: 102.

(3) سورة النساء، الآية: 1.

(4) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (6/ 89)، وابن ماجه (1892).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (867)، والنسائي (3/ 188)، وابن ماجه (45)، وأحمد (3/ 319).

(7) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(1/584)

 

 

3 - تقصير الخطبة وتطويل الصلاة:

عن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئينَّةٌ من فقهه، فأطيلوا هذه الصلاة، وأقصروا هذه الخطبة، فإن من البيان لسحرًا» (1) والمئنة: العلامة والمظنة.

وعن جابر بن سمرة قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا».

وفي رواية: «لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، وإنما هنَّ كلمات يسيرات» (2).

قلت: في تقصير الخطبة فائدتان: عدم الملل، وأنها أوعى للسامع وأحفظ له، لكن قد يستدعي فقه الخطيب وذكاؤه -أحيانًا- إطالة الخطبة لاقتضاء الحال ذلك، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة (ق) وبـ (تبارك) وهذا مع ترتيله والوقوف على كل آية يطيل الخطبة ولابد، فالمقصود مراعاة حال الناس وحاجتهم، والله أعلم.

4 - قراءة آيات من القرآن في الخطبة:

(أ) عن جابر بن سمرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين الخطبتين، ويذكر الناس ويقرأ آيات من القرآن» (3).

(ب) وعن صفوان بن يعلي عن أبيه: «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر {وَنَادَوْا يَا

مَالِكُ} ...» (4).

(جـ) عن أم هشام قالت: «ما حفظت سورة (ق) إلا من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة» (5).

5 - النزول من على المنبر للسجود إذا قرأ بآية سجدة:

وهذا ثابت عن عمر بن الخطاب وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر، وقد تقدم في «سجود التلاوة».

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (869)، وأحمد (4/ 263)، والدارمي (1556) وغيرهم.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (866)، وأبو داود (1107)، والرواية الأخرى له، والترمذي (507)، والنسائي (3/ 110)، وابن ماجه (1106).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (862)، وأبو داود (1094).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (3266)، ومسلم (871).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (872)، وأحمد (6/ 463).

 

(1/585)

 

 

6 - الدعاء للمسلمين في الخطبة:

يُروى عن سمرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة» (1) لكنه ضعيف جدًّا لا يحتج به، وإن كان العمل عليه عند أهل العلم.

وعلى كلٍّ فإنه يستفاد استحباب الدعاء في الخطبة من حديث عمارة بن رؤيبة: أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه [يدعو] فقال: «قبَّح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة» (2).

ففيه فائدتان:

1 - إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في خطبته.

2 - كراهة رفع الإمام يديه إذا دعا على المنبر، وأن السنَّة أن يشير بإصبعه السبابة، ويؤيده حديث سهل بن سعد قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهرًا يديه قطُّ يدعو على منبره ولا على غيره، ولكن رأيته يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعقد الوسطى والإبهام» (3).

وهذا أحد الوجهين عند الحنابلة واختاره شيخ الإسلام (4).

تنبيه: يستثنى مما تقدم دعاؤه في الاستسقاء فالثابت فيه -خاصة- رفع اليدين كما تقدم في الاستسقاء، والله أعلم.

ما يباح للخطيب في الخطبة:

1 - الاعتماد على عصا أو نحوها في الخطبة:

ففي حديث الحكم بن حزين الكلفي -في قصة وفوده على النبي صلى الله عليه وسلم-: «.. فأقمنا بها أيامًا شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام متوكئًا على عصا أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه ... الحديث» (5).

_________

(1) ضعيف جدًّا: أخرجه البزار كما في «المجمع» (2/ 190) وفي سنده متروك.

(2) صحيح: أخرجه مسلم (874)، والنسائي (3/ 108)، وأبو داود (1104)، والترمذي (515)، وابن ماجه (1103).

(3) حسن بما قبله: أخرجه أبو داود (1105) بسند لين ويشهد له ما قبله.

(4) «الاختيارات» (ص: 80).

(5) صحيح لشواهده: أخرجه أبو داود (1096)، وأحمد (4/ 212)، وأبو يعلى (12/ 204)، وابن خزيمة (1452) وله شواهد.

 

(1/586)

 

 

وفي حديث فاطمة بنت قيس -في قصة الجساسة-: ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وطعن بمخصرته في المنبر-: «هذه طيبة ...» الحديث (1) والمخصرة: ما يمسكه الإنسان من عصا أو عكازة.

2 - أن يكلِّم من شاء من الحاضرين لحاجة: كأن يأمر الداخل بصلاة ركعتي التحية أو أن يأمر من يتخطى الرقاب بالجلوس، أو أن يسأل أحدهم عن شيء، أو أن يجيب من سأله، أو يأمر أحدهم بالدخول ونحو ذلك.

وكل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله تقدم بعض ذلك ويأتي بعض إن شاء الله.

3 - حث الناس على التصدق على فقير إذا رآه:

عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل يوم الجمعة -والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب- بهيئة بذة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصليت» قال: لا، قال: «صلِّ ركعتين» وحث الناس على الصدقة، فألقوا ثيابًا، فأعطاه منها ثوبين ...» (2).

تنبيه: التصدق على الفقير في الخطبة محمول على ما إذا سكت الإمام عن الكلام، وأما ما انتشر في مساجد المسلمين من قيام خادم المسجد بالمرور على المصلين بصندوق يجمع فيه صدقاتهم - والإمام يخطب- فلا شك في أنه غير مشروع، لعموم الأدلة الآمرة بالإنصات للخطبة وتحريم الكلام والعبث أثناءها كما سيأتي.

4 - قطع الخطبة لاشتغال تعرض له ثم يعود لخطبته:

وفي هذا أحاديث منها: حديث جابر بن عبد الله -في قصة اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم المنبر بعد أن كان يخطب على جذع نخلة-: «.. فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح

الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمَّه إليه، يئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها» (3).

وحديث أبي رفاعة قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (2942)، وأبو داود (4326)، والترمذي (2253)، وابن ماجه (4074).

(2) حسن: أخرجه النسائي (3/ 106).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (3584).

 

(1/587)

 

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إليَّ فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديدًا، قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها» (1).

5 - الفصل بين الخطبة والصلاة للاشتغال بالحاجة تعرض له:

فعن أنس قال: «لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما تقام الصلاة يكلِّمه الرجل يقوم بينه وبين القبلة، فما زال يكلمه، فلقد رأيت بعضنا ينعس من طول قيام النبي صلى الله عليه وسلم له» (2).

 

أفعال المأمومين حال الخُطبة

1 - الدُّنُو من الإمام:

عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخَّر في الجنة وإن دخلها» (3).

وعن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وغدا وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام وأنصت ولم يلغُ، كان له بكل خطوة عمل سنة» (4).

2 - استقبال الإمام بوجوههم وهو يخطب:

يستحب للمأمومين أن يستقبلوا الإمام بوجوههم وهو يخطب، ولا يصح في هذا شيء مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ثبت عن ابن عمر أنه «كان لا يقعد الإمام حتى يستقبله» (5).

وعن أنس أنه «جاء يوم الجمعة فاستند إلى الحائط، واستقبل الإمام» (6).

قال الترمذي (2/ 283): «والعمل على هذا عند أهل العلم في أصحاب النبي صلى الله عليه

وسلم وغيرهم، يستحبون استقبال الإمام إذا خطب» اهـ.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (876)، والنسائي (8/ 220).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (643)، ومسلم (376).

(3) حسن: أخرجه أبو داود (1108) وغيره.

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (345)، والترمذي (496)، والنسائي (3/ 95)، وابن ماجه (1087).

(5) حسن: أخرجه عبد الرزاق (5391)، ومن طريق ابن المنذر (4/ 74)، والبيهقي (3/ 199).

(6) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 118)، وعنه ابن المنذر (4/ 74).

 

(1/588)

 

 

3 - الإنصات للخطبة، وعدم الكلام في أثنائها:

تقدم في حديث سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغتسل الرجل يوم الجمعة ... ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (1).

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت -والإمام يخطب فقد لغوت» (2).

وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «... ومن لغا وتخطَّى رقاب الناس، كانت له ظهرًا» (3) يعني: نقص أجره، ولم تكن له جمعة كاملة.

وقد ذهب الجمهور إلى تحريم كلام الحاضرين مع بعضهم.

فائدتان:

الأولى: إذا تكلم بعض الحاضرين، فيجوز إسكاته إشارةً، فعن أنس قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا قائمًا يخطب على المنبر، قام رجل فقال: متى قيام الساعة يا نبي الله؟ فسكت عنه، وأشار الناس إليه: أن اجلس، فأبى ...» الحديث (4).

قلت: ويلحق بهذا رد السلام على من سلَّم، فلا يكون إلا إشارة.

الثانية: أن الكلام مع الإمام (الخطيب) جائز أثناء الخطبة للحاجة، سواء ابتدأه بالكلام أو ردَّ على تكليمه له، ففي حديث أنس قال: «أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة فقال: يا رسول الله، هلكت الماشية ...» الحديث (5).

وفي قصة سليك الغطفاني لما دخل المسجد فجلس -والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب- قال صلى الله عليه وسلم: «هل صليت ركعتين؟» قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» (6).

_________

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (934)، ومسلم (851).

(3) حسن: أخرجه أبو داود (347)، وابن خزيمة (1810).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (6167)، وابن المنذر (1807)، وابن خزيمة (1796).

(5) صحيح: تقدم في «الاستسقاء».

(6) صحيح: تقدم تخريجه.

 

(1/589)

 

 

4 - لا يجوز تخطِّي رقاب الناس، ولا التفريق بين اثنين:

فعن عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يتخطَّى رقاب الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«اجلس، فقد آذيت وآنيت» (1).

وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو: «... ومن لغا وتخطَّى رقاب الناس كانت له ظهرًا» (2).

ويستثنى من الوعيد ما إذا وجد فرجة بين اثنين، لأن التفريط يكون منهم وليس من المتخَطي فلا حرمة لهم، وكذلك من عرضت له حاجة فخرج ثم أراد أن يعود إلى مكانه.

وفي حديث سلمان مرفوعًا «... ثم راح فلم يفرِّق بين اثنين، فصلى ما كُتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (3).

والتفريق بين اثنين يتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما والقعود مكانه وقد يطلق على مجرد التخطِّي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رءوسهما وكتفيهما.

5 - لا يقيم الرجل ويقعد مكانه:

فعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: أفسحوا» (4).

وقوله (أفسحوا) ما لم يكن الإمام يتكلم، وإلا أشار إليه.

6 - من نعس فليتحول من مجلسه:

عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا نعس أحدكم [في مجلسه يوم الجمعة] فليتحول من مجلسه ذلك [إلى غيره]» (5).

والحكمة في الأمر بالتحول: أن الحركة تذهب النعاس، ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه وإن كان النائم لا حرج عليه (6).

_________

(1) حسن: أخرجه أبو داود (1118)، والنسائي (3/ 103)، وأحمد (4/ 188).

(2) حسن: تقدم قريبًا.

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (2177)، وأحمد (3/ 295) ونحوه في الصحيحين عن ابن عمر.

(5) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (1119)، والترمذي (526)، وأحمد (2/ 22) وغيرهم.

(6) «نيل الأوطار» (3/ 298).

 

(1/590)

 

 

7 - هل يجوز الاحتباء في الخطبة؟

ورد عن معاذ بن أنس عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب» (1).

والحديث مختلف فيه، والأرجح ضعفه، ولذا رخَّص في الحبوة أكثر أهل العلم.

والاحتباء: هو أن ينصب الرجل ساقيه، ويدير عليهما ثوبه، أو يعقد يديه على ركبتيه معتمدًا على ذلك، قال ابن الأثير: نهى عنها لأن الاحتباء يجلب النوم فلا يسمع الخطبة، ويعرض طهارته للانتقاض.

قلت: إن كان كذلك، فتركه أولى وإن لم يصحَّ الحديث، والله أعلم.

8 - إذا تذكر -أثناء الخطبة- صلاة فرض كان نسيها أو نام عنها: أن يقوم ويقضيها والإمام يخطب، لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي صلاة [أو نام عنها] فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» (2).

 

أفعال في صلاة الجمعة

صلاة الجمعة ركعتان أصلاً:

فليست أربعًا مقصورة، لحديث عمر بن الخطاب قال: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم» (3). وقد أجمع أهل العلم على أن صلاة الجمعة ركعتان.

ما يستحب القراءة به في الصلاة:

عن أبي رافع أن أبا هريرة صلى الجمعة فقرأ بعد سورة الجمعة، في الركعة الآخرة: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت له: إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة، فقال أبو هريرة: «إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة» (4).

_________

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1110)، والترمذي (514)، وأحمد (3/ 439).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684).

(3) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 232)، وابن ماجه (1063)، وأحمد (1/ 37)، وانظر «الإرواء» (3/ 106).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (877)، والترمذي (519)، وأبو داود (1121)، وابن ماجه (1118).

 

(1/591)

 

 

وعن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» (1).

المسبوق في صلاة الجمعة:

من جاء إلى الجمعة، دخل مع الإمام في صلاته على أي وضع كان، فإن أدرك مع الإمام ركعة واحدة [على الاختلاف المتقدم في إدراك الركعة] فإنه يضيف إليها أخرى بعد ما يسلم إمامه، فإن لم يدرك الركعتين كأن وجدهم سجودًا أو قعودًا [أو ركوعًا عند من لا يرى الاعتداد بالركعة] في الثانية، فإنه

يقضي أربعًا، بهذا أفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعن ابن عمر قال: «إذا أدرك الرجل يوم الجمعة ركعة: صلى إليها أخرى، وإن وجدهم جلوسًا صلى أربعًا» (2).

وعن ابن مسعود قال: «من أدرك الركعة فقد أدرك الجمعة، ومن لم يدرك الجمعة فليصلِّ أربعًا» (3).

وقد حكاه شيخ الإسلام كذلك عن أنس، قال: «ولا يُعلم لهم في الصحابة مخالف، وحكى غير واحد أن ذلك إجماع الصحابة» اهـ. وهو قول الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

الزحام في صلاة الجمعة:

1 - من زوحم يوم الجمعة: فإن قدر على الركوع والسجود كيف أمكنه فعل، ولو على ظهر أخيه، أو إيماءً، ويجزئه، لأن هذا غاية وسعة، ولا فرق بين العجز عن الركوع والسجود بمرض أو خوف أو بمنع الزحام، وقال عمر بن الخطاب: «إذا اشتد الزحام، فليسجد أحدكم على ظهر أخيه» (4).

وهذا قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (878)، والترمذي (533)، وأبو داود (1122)، والنسائي (3/ 112).

(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5471)، وابن أبي شيبة (2/ 37)، والبيهقي (3/ 204).

(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5477)، وابن أبي شيبة (2/ 37)، والبيهقي (3/ 204).

(4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5469)، والطيالسي (70)، ومن طريقه أحمد (1/ 32) والبيهقي (3/ 183).

 

(1/592)

 

 

2 - وإن ضاق المسجد وامتلأت الرحاب واتصلت الصفوف، فتجوز الصلاة في الدور والبيوت المتصلة بالصفوف وعلى ظهر المسجد، ولو حال بينه وبين الإمام حائط أو نحوه لم يضره، وقد تقدم تحريره في «صلاة الجماعة».

السُّنة بعد الجمعة:

يستحب -بعد صلاة الجمعة- أن يصلي ركعتين أو أربعًا، وهي في البيت أفضل:

فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كن منكم مصليًا بعد الجمعة، فليصلِّ بعدها أربعًا [فإن عجل بك شيء فصلِّ ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت]» (1).

وعن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته» (2).

 

مسائل متفرقة

العدد الذي تصح به الجمعة (3):

صلاة الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه، وشعار من شعائر الإسلام، وصلاة من الصلوات، فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة، فعليه الدليل، ولا دليل، والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد حتى بلغت إلى خمسة عشر قولاً (4)، ليس على شيء منها دليل يستدل به قط، إلا قول من قال: تنعقد بما ينعقد به سائر الجماعات، أي: بواحد مع الإمام، كيف والشروط إنما ثبتت بأدلة خاصة تدل على انعدام المشروط عند انعدام الشرط؟! فإثبات هذه الشروط بما ليس بدليل أصلاً مجازفة بالغة، وجرأة على التقوُّل على الله وعلى رسوله وعلى شريعته.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (822)، وأبو داود (1131)، والترمذي (523)، والنسائي (3/ 113)، وابن ماجه (1132).

(2) صحيح: أخرجه الحميدي (976)، وعنه ابن المنذر (1878)، وأصلهُ في البخاري (937)، ومسلم (882).

(3) انظر «الأوسط» (4/ 29)، و «الموعظة الحسنة» لصديق خان عن «الأجوبة النافعة» (ص: 76 - 78).

(4) ذكرها الحافظ في «الفتح» (2/ 490).

 

(1/593)

 

 

ولو كان لله تعالى في عدد دون عدد مراد، لبيَّن ذلك في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.

السُّنة أن لا تتعدد الجمعة في البلد الواحد إلا لحاجة: كعدم استاع المسجد الواحد لعدد المصلين ونحو ذلك، وإلا فإنه لم يُختلف أنه لم تكن الجمعة تُصلى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعطل سائر المساجد.

وأما ما نراه في هذه الأيام من الإفراط في تكثير المساجد التي تقام فيها الجُمَع بحيث تقام في المساجد الصغيرة في الشوارع والحارة المتقاربة مع إمكان الاستغناء عنها بكبار المساجد، فلا شك أنه مما يقسم الأمة تقسيمًا يُرثى له، ويخرج الجمعة عن موضوعها (1).

إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد:

إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، فللعلماء فيمن صلى العيد يومئذ قولان:

القول الأول: تجب عليه الجمعة كذلك، وهو قول أكثر الفقهاء (2)، لكن الشافعية أسقطوها عن أهل القرى دون الأمصار، وحجة هذا القول:

1 - عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (3).

2 - الأدلة المتقدمة في وجوب صلاة الجمعة.

3 - ولأنهما صلاتان واجبتان (على خلاف في وجوب صلاة العيد) فلم تسقط إحداهما بالأخرى كالظهر مع العيد.

4 - أن الرخصة في ترك الجمعة ممن صلى العيد مختصة بمن تجب عليهم الجمعة من أهل البوادي، فعن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع

_________

(1) انظر: «الأوسط» (4/ 116)، و «إصلاح المساجد» للقاسمي (ص: 60 - 62)، و «المغنى» (2/ 92)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 208).

(2) «المدونة» (1/ 153)، و «المجموع» (4/ 320)، و «تبيين الحقائق» (1/ 224)، و «التمهيد» (10/ 272)، و «الأوسط» (4/ 291)، و «المحلى» (3/ 303).

(3) سورة الجمعة، الآية: 9.

 

(1/594)

 

 

عثمان بن عفان، وكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: «يا أيها الناس، إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له» (1).

القول الثاني: تسقط عنه الجمعة: لكن يستحب للإمام أن يقيمها ليشهدها من شاء ومن لم يصلِّ العيد، وهو قول جمهور الحنابلة، وهو مروي عن عمر وعثمان وعليٍّ وابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم (2) واستدل لهذا المذهب بحديثين مرفوعين ضعيفين، وجملة آثار صحيحة.

1 - ما رُوى عن إياس بن أبي رملة قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم قال: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخَّص في الجمعة، قال: «من شاء أن يصلي فليصلِّ» (3).

2 - ما رُوى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمِّعون» (4).

3 - أثر عثمان المتقدم وفيه: «... ومن أحب أن يرجع فقد أذنتُ له» وأما قول الفريق الأول بأن هذا خاص بأهل البوادي ممن لا تجب عليهم الجمعة، فيقال: إذا كان كذلك فما فائدة قوله «أذنت له»؟!

4 - عن عطاء قال: «صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج، فصلينا وحدنا، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا له ذلك، فقال: «أصاب السنة» [فبلغ ذلك ابن الزبير

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5572)، ومالك (1/ 146)، وعنه الشافعي في «الأم» (1/ 239)، وعبد الرزاق (5732).

(2) «المغنى» (2/ 265)، و «الإنصاف» (2/ 403)، و «كشاف القناع» (2/ 41)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 211).

(3) ضعيف جدًّا: أخرجه أبو داود (1070)، والنسائي (3/ 194)، وابن ماجه (1310)، وأحمد (4/ 372).

(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1073)، وابن ماجه (1/ 13)، والحاكم (2/ 288)، وأعلَّه غير واحد من أهل العلم كأحمد والدارقطني وابن عبد البر، وله شاهد عند ابن ماجه (1312) عن ابن عمر وسنده ضعيف.

 

(1/595)

 

 

فقال: رأيت عمر بن الخطاب إذا اجتمع عيدان صنع مثل هذا]» (1) وقول الصحابي:

أصاب السنة، له حكم الرفع على الراجح.

5 - وفي تمام قصة ابن الزبير من طريق هشام بن عروة عن وهب بن كيسان، قال هشام: فذكرت ذلك لنافع، فقال: «ذكر لابن عمر فلم ينكره» (2).

6 - وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: اجتمع عيدان في عهد عليٍّ فصلى بهم العيد ثم خطب على راحلته، فقال: «أيها الناس، من شهد منكم العيد فقد قضى جمعته إن شاء الله» وفي رواية: «من أراد أن يجمع فليجمع ومن أراد أن يجلس فليجلس [قال سفيان: يعني: يجلس في بيته]» (3).

7 - قالوا: لا يُعرف لهؤلاء الصحابة مخالف في هذا الحكم.

وقد أجاب الجمهور: عن هذه الآثار بأنها محمولة على أهل البوادي ممن لا تجب عليهم الجمعة!!

قال ابن عبد البر: «وإذا احتملت هذه الآثار من التأويل ما ذكرنا، لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة عمن وجبت عليه ...» اهـ.

قلت: والراجح أن الجمعة تسقط عمن صلى العيد للآثار المتقدمة عن الصحابة وعدم ورود ما يخالفه عن أحدهم، وهذا لا شك يعضِّد المرفوع، على أن قول ابن عباس «أصاب السنة» له حكم الرفع، وأما حمل جميع هذه الآثار على من لا تجب عليه الجمعة، فلا يخفى تكلفه، ولئن سلم في أثر عثمان فلا يسلم في غيره كما هو واضح والله أعلم.

ويستحب أن يقيم الإمام الجمعة: ليشهدها من شاء ومن لم يصلِّ العيد، ويستفاد هذا من حديث النعمان بن بشير المتقدم في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين والجمعة بالأعلى والغاشية، قال: «وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين» (4).

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1071)، وعن عطاء، والنسائي (3/ 194)، وابن خزيمة (1465) عن وهب بن كيسان وقد جاء في بعض الطرق «أصاب» بدون لفظ السنة، وإثباتها يحتاج إلى تحرير، وعلى كلٍّ فإنا نستدل بفعل الصحابة حيث لا مخالف منهم.

(2) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 7).

(3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 7)، وعبد الرزاق (5731)، وابن المنذر (4/ 290).

(4) صحيح: تقدم تخريجه.

 

(1/596)

 

 

من صلى العيد وتخلَّف عن الجمعة فهل يلزمه الظهر؟

جاء في أثر عطاء -في قصة ابن الزبير-: «فصلَّى الجمعة ركعتين بكرة صلاة الفطر، ثم لم يزد عليهما حتى صلى العصر، قال: فأما الفقهاء فلم يقولوا في ذلك، وأما من لم يفقه فأنكر ذلك عليه، قال: ولقد أنكرت أنا ذلك عليه وصليت الظهر يومئذ حتى بلغنا أن العيدين كانا إذا اجتمعا كذلك صليا واحدة» (1).

قال الشوكاني «ظاهره أنه لم يصلِّ الظهر، وفي أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوِّغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر ... والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة، الأصل، وأنت خبير بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دلي يصلح للتمسك به على ذلك فيما أعلم» اهـ (2).

قلت: أما إسقاط الظهر عمن لم يصلِّ الجمعة وقد صلى العيد فلا أعلم أن أحدًا من الصحابة وافقه عليه، على أنه قد جاء عن عطاء -نفسه- قال: «اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير فصلى بهم العيد، ثم صلى بهم الجمعة صلاة الظهر أربعًا» (3).

فالنفس لا تطمئن لإسقاط الظهر، بل والأفضل أن يحضر الجمعة كذلك خروجًا من الخلاف، والله أعلم.

إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة:

فإن الحجيج لا يُصلون الجمعة، وإنما يصلوُّن الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ويخطبهم الإمام قبل ذلك خطبة عرفة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في «الحج» إن شاء الله.

 

صلاة العيدين

الحكمة في مشروعية العيدين: أن كل قوم لهم يوم يتجملون فيه، ويخرجون من بيوته بزينتهم (4).

عن أنس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم، ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في

_________

(1) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (5725)، وأبو داود (1072) مختصرًا.

(2) «نيل الأوطار» (3/ 336).

(3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 7).

(4) «حجة الله البالغة» للدهلوي (2/ 23).

 

(1/597)

 

 

الجاهلية، فقال: «قدمتُ عليكم، ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم النحر ويوم الفطر» (1).

«أي: لأن يومي الفطر والنحر بتشريع الله تعالى، واختياره لخلقه، ولأنهما يعقبان أداء ركنين عظيمين من أركان الإسلام، وهما: الحج والصيام، وفيهما يغفر الله للحجيج والصائمين، وينشر رحمته على جميع خلقه الطائعين، وأما النيروز والمرجان، فإنهما باختيار حكماء ذاك الزمان لما فيهما من اعتدال الزمن والهواء ونحو ذلك من المزايا الزائلة، فالفرق بين المزيَّتين ظاهر لمن تأمر ذلك» (2).

حكم صلاة العيدين:

اختلف أهل العلم في حكم صلاة العيدين على ثلاثة أقوال:

الأول: أنها واجبة على الأعيان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد أقوال الشافعي ورواية عن أحمد وبه قال بعض المالكية واختاره شيخ الإسلام (3)، وحجتهم:

1 - قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4)، والأمر للوجوب.

2 - قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (5). والأمر بالتكبير في العيدين أمر بالصلاة المشتملة على التكبير الراتب والزائد بطريق الأولى والأحرى.

3 - ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الصلاة في العيدين، وعدم تركها في عيد من الأعياد، ومداومة خلفائه والمسلمين من بعده عليها.

4 - أمر الناس بالخروج إليها حتى النساء وذوات الخدور والحيَّض -وأمرهنَّ أن يعتزلن المصلى- حتى أمر من لا جلباب لها أن تلبسها صاحبتها، وسيأتي الحديث بهذا.

5 - أنها من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة فكانت واجبة كالجمعة، ولذلك يجب قتال الممتنعين من أدائها بالكلية.

6 - أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد كما تقدم، وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجبًا.

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1134)، والنسائي (3/ 179)، وأحمد (3/ 103) والبغوي (1098) وغيرهم.

(2) «الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد» للبنا (6/ 119).

(3) «البدائع» (1/ 274)، و «ابن عابدين» (2/ 116)، و «الدسوقي» (1/ 396)، و «الإنصاف» (2/ 240)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 161)، و «السيل الجرار» (1/ 315).

(4) سورة الكوثر، الآية: 2.

(5) سورة البقرة، الآية: 185.

 

(1/598)

 

 

الثاني: أنها واجبة على الكفاية: فلو قام بها بعضهم سقطت عن الباقين، وهو مذهب الحنابلة وبعض الشافعية (1)، وحجتهم أدلة الفريق الأول، لكنهم قالوا:

لا تجب على الأعيان لأنه لا يشرع لها الأذان، فلم تجب على الأعيان كصلاة الجنازة ولَوَجبت خطبتها، ووجب استماعها كالجمعة.

الثالث: أنها سنة مؤكدة وليست بواجبة: وهو مذهب مالك والشافعي وأكثر أصحابهما (2)

وحجتهم:

1 - قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما ذكر الصلوات الخمس فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوَّع» (3) وما في معناه.

2 - أنها صلاة ذات ركوع وسجود (!!) لم يشرع لها أذان، فلم تجب بالشرع كصلاة الضحى.

والراجح: القول الأول لما تقدم من الأدلة، وأما القول بأنها سنة مؤكدة فضعيف، وأما حديث الأعرابي فلا حجة فيه، لأنه خصَّ الخمس بالذكر لتأكيدها ووجوبها على الدوام، وتكررها في كل يوم وليلة وغيرها يجب نادرًا كصلاة الجنازة والنذر وغير ذلك.

وأما القول بأنها فرض كفاية فلا ينضبط، ثم هو إنما يكون فيما تحصل مصلحته بفعل البعض، كدفن الميت، وقهر العدو، وليس يوم العيد مصلحة معينة يقوم بها البعض، بل صلاة العيد شرع لها الاجتماع أعظم من الجمعة، فإنه أمر النساء بشهودها ولم يؤمرن بالجمعة وأذن لهن فيها وقال: «صلاتكن في بيوتكن خير لكنَّ»، والله أعلم.

وقت صلاة العيدين:

يبتدئ وقت صلاة العيد بعد ارتفاع الشمس قيد رمح (أي: بعد مضي وقت الكراهة) وينتهي بزوال الشمس، وبهذا قال الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (4):

فعن عبد الله بن بسر -صاحب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه خرج مع الناس يوم فطرٍ

أو

_________

(1) «المغنى» (2/ 304)، و «كشاف القناع» (2/ 50)، و «المجموع» (5/ 2) وادَّعى النووي الإجماع على أنها ليست فرض عين، وهو منقوض بما تقدم.

(2) «الدسوقي» (1/ 396)، و «جواهر الإكليل» (1/ 101)، و «المجموع» (5/ 2).

(3) صحيح: تقدم مرارًا.

(4) «ابن عابدين» (1/ 583)، و «الدسوقي» (1/ 396)، و «كشاف القناع» (2/ 50)، وأجاز الشافعي الصلاة أول طلوع الشمس.

 

(1/599)

 

 

أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: «إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه» وذلك حين التسبيح (1).

فائدة: الأفضل أن تُصلى صلاة الأضحى في أول الوقت ليتفرغ المسلمون بعدها لذبح أضاحيهم، ويستحب تأخيرها قليلاً عن هذا الوقت في صلاة الفطر، ليتمكن الناس من إخراج زكاة الفطر (2).

حكمها إذا فات وقتها: لفوات صلاة العيد عن وقتها ثلاث صور (3):

الأولى: أن لا يعلموا بالعيد إلا بعد زوال الشمس: فهذا عُذْر يجوِّز تأخيرها إلى اليوم الثاني سواء كان العيد عيد الفطر أو الأضحى، وبهذا قال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) لحديث أبي عمير بن أنس عن عمومةٍ له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون: «أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» (4).

الثانية: أن يؤخروا -جميعًا- صلاة العيد عن وقتها لغير العذر المتقدم:

فإن كان العيد عيد فطر سقطت أصلاً ولم تُقضى، وإن كان عيد أضحى جاز تأخيرها إلى ثالث أيام النحر، أي: يصح قضاؤها في اليوم الثاني، وإلا ففي اليوم الثالث من ارتفاع الشمس إلى أول الزوال سواء كان لعذر أو لغير عذر، لن تلحقهم الإساءة إن كان لغير عذر.

الثالثة: أن تؤدى في وقتها من اليوم الأول لكنها تفوت بعض الأفراد:

فعند الحنفية والمالكية لا يُشرع قضاؤها لأنها صلاة لم تشرع إلا في وقت معين وبقيود خاصة فلابد من تكاملها جميعًا ومنها الوقت.

وأجاز الشافعية قضاءها في أي وقت شاء وكيفما كان منفردًا أو جماعة، بناء على أصلهم في مشروعية قضاء كل النوافل.

_________

(1) صحيح: علَّقه البخاري (2/ 456)، ووصله أبو داود (1135)، وابن ماجه (1317)، والحاكم (1/ 295)، والبيهقي (3/ 282).

(2) المصادر الفقهية السابقة.

(3) «البدائع» (1/ 276)، و «الدسوقي» (1/ 396 - 400)، و «بداية المجتهد» (1/ 321)، و «المجموع» (5/ 27)، و «المغنى» (2/ 324)، و «مجمع الأنهر» (1/ 169).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1157)، والنسائي (3/ 180)، وابن ماجه (1653).

 

(1/600)

 

 

ومنع الحنابلة قضاءها لكن قالوا: مخيَّر، إن شاء صلاها أربعًا إما بسلام واحد أو بسلامين. قلت: وهذا الأخير ضعيف، أو مبناه على التشبيه بالجمعة!!

الراجح الذي يظهر لي في الصور الثلاث جميعًا أن من فاتته صلاة العيد، فإن كان لعذر جاز أداؤها في اليوم التالي، وإن لم يكن لعذر لم يقض على ما تقدم في قضاء الفوائت، والله أعلم.

مكان أدائها:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأولَّ شيء يبدأ به الصلاة ...» (1).

«والسُّنَّة الماضية في صلاة العيدين أن تكون في المصلى [في الصحراء أو في مفازة واسعة] لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (2)،

ثم هو مع هذه الفضيلة العظيمة، خرج صلى الله عليه وسلم وتركه ...» (3).

إلا أن يكون هناك عذر كمطر (4) ونحوه، أو أن يضعف بعض الناس -لمرض أو كبر سنٍّ- عن الخروج فلا حرج حينئذٍ في الصلاة في المسجد.

وليُعلم أن الهدف من الصلاة اجتماع المسلمين في مكان واحد، فلا ينبغي تعدد المصليَّات من غير حاجة في الأماكن المتقاربة كما تراه في بعض المدن الإسلامية «بل قد أصبحت بعض (المصليَّات) منابر حزبية لتفريق كلمة المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله» (5).

فائدة: صلاة العيد بمكة: الأفضل الصلاة في المسجد الحرام، فإن الأئمة لم يزالوا يصلون العيد بمكة بالمسجد الحرام، وهو أفضل من الخروج إلى المصلى (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (956)، ومسلم (889)، والنسائي (3/ 187).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394).

(3) «المدخل» لابن الحاج (2/ 283).

(4) وفيه حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في المسجد لما أصابهم المطر وهو ضعيف.

(5) «أحكام العيدين» (ص: 24)، للشيخ علي حسن عبد الحميد، حفظه الله.

(6) «المجموع» للنووي (5/ 524).

 

(1/601)

 

 

الخروج إلى المصلى وآدابه:

1 - يستحب الغُسل قبل الخروج: فعن نافع أن ابن عمر: «كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى» (1).

سئل علي بن أبي طالب عن الغسل فقال: «يوم الجمعة، يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر» (2).

2 - التجمُّل ولبس أحسن الثياب:

والأصل في استحباب هذا حديث ابن عمر قال: أخذ عمر جُبَّةً من إستبرق تُباع في السوق، فأخذها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اتْبَع هذه، تجمَّل بها للعيد والوفود ...» (3) الحديث «ومنه عُلم أن التجمل يوم العيد عادة متقررة بينهم، ولم ينكرها النبي صلى الله عليه وسلم فعلم بقاؤها» (4). وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يلبس يوم العيد بردة حمراء» (5).

3 - الأكل قبل الخروج إلى المصلى في عيد الفطر خاصة:

عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» (6).

وعن بريدة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ويوم النحر لا يأكل حتى يرجع فيأكل من نسيكته» (7).

والحكمة في الأكل قبل خروجه في عيد الفطر أن لا يظن ظانٌ لزوم الصوم حتى يُصلى العيد، فكأنه سدَّ هذه الذريعة، وفي الأضحى يؤخر حتى يكون فطره على أضحيته.

وقيل: الحكمة إيقاع الأكل في العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما (8).

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه مالك (426)، وعنه الشافعي (73)، وعبد الرزاق (5754).

(2) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي (114)، ومن طريقه البيهقي (3/ 278).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (886، ومواضع)، ومسلم (2068) وغيرهما.

(4) «حاشية السندي على النسائي» (3/ 181).

(5) صححه الألباني. وانظر «الصحيحة» (1279).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (953)، والترمذي (543)، وابن ماجه (1754)، وأحمد (3/ 126).

(7) حسن: أخرجه الترمذي (542)، وابن ماجه (1756)، وأحمد (5/ 352).

(8) «الفتح» (2/ 447)، و «المغنى» (2/ 371)، و «زاد المعاد» (1/ 441).

 

(1/602)

 

 

4 - التكبير في العيدين من حين الخروج:

قال الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1).

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «كان يخرج يوم الفطر فيكبِّر حتى يأتي المصلى، وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير» (2).

وعن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله والعباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن ابن أم أيمن رضي الله عنهم رافعًا صوته بالتهليل والتكبير» (3).

فيشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد باتفاق الأئمة الأربعة (4)، لكن بيَّنه بعض العلماء على أنه لا يُشرع في التكبير الاجتماع على صوت واحد كما يفعله الناس اليوم (5).

قلت: وقد يستدل على مشروعية هذا الاجتماع بما علَّقه البخاري بصيغة الجزم عن ابن عمر أنه «كان يكبِّر في قبَّته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرًا ... وكنَّ النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد ...» فالمسألة محل اجتهاد ونظر ولا ينبغي النزاع والشقاق لأجلها.

صيغة التكبير: لم يصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مرفوع في صيغة التكبير لكن ثبت عن ابن مسعود أنه كان يقول: «الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» (6).

وكان ابن عباس يقول: «الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجلُّ، الله أكبر على ما هدانا» (7).

_________

(1) سورة البقرة، الآية: 185.

(2) مرسل وله شواهد. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 487)، وانظر «الصحيحة» (170).

(3) حسَّنه الألباني. أخرجه البيهقي (3/ 279)، وانظر «الإرواء» (3/ 123).

(4) «مجموع الفتاوى» (24/ 220).

(5) وممن يقول بهذا العلامة الألباني -كما في «الصحيحة» (1/ 121) - وابن باز وابن عثيمين، رحم الله الجميع.

(6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 168).

(7) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 315).

 

(1/603)

 

 

وكان سلمان رضي الله عنه يقول: «كبِّروا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا» (1).

وأما ما زاده العامة ومتبوعوهم في هذا الزمان على التكبير مما هو مسموع ومعروف، فمُختَرع لا أصل له، قال الحافظ في «الفتح» (2/ 536): «وقد أُحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها» اهـ.

قلت: كانت في زمانهم (زيادة) وعندنا الآن أهازيج وأناشيد، فالله المستعان!!

فائدة: وقت التكبير في عيد الأضحى: أن يكبِّر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، وعلى هذا جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة (2).

ويقيِّده بعضهم بالتكبير «عقب الصلوات» لكن لا دليل على هذا فقد علَّق البخاري (2/ 461) بصيغة الجزم قال: «وكان ابن عمر يكبِّر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعًا».

5 - يخرج النساء -حتى الحُيَّض- والصبيان:

عن أم عطية: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق، والحُيَّض، وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: «لتلبسها أختها من جلبابها» (3).

ويجب عليهن التزام آداب الخروج، من عدم التطيب والتزين كما هو معلوم.

وأما الصبيان، فقد سئل ابن عباس: أشهدتَ العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته» (4).

لكن ينبغي أن يكون معهم من يضبطهم عن اللعب واللهو ونحوهما سواءً صلوا أم لا.

6 - مخالفة الطريق إلى المصلى:

عن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيدٍ خالف الطريق» (5).

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 316).

(2) «مجموع الفتاوى» (24/ 220)، وانظر «إرواء الغليل» (3/ 125).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (971)، ومسلم (890).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (977).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (986).

 

(1/604)

 

 

وعن أبي هريرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد رجع في غير الطريق الذي خرج فيه» (1) فاستحب أكثر أهل العلم الذهاب إلى المصلى من طريق والرجوع من طريق آخر، تأسيًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

7 - يستحب المشي إلى المصلى وعدم الركوب إلا لحاجة: فعن عليٍّ رضي الله عنه قال: «من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا» (2) وفيه ضعف، ويشهد له حديث لابن عمر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى العيد ماشيًا ويرجع ماشيًا» (3).

وهذا إذا كان المصلى قريبًا لا يشق المشي إليه، فإن احتاج للركوب فلا حرج والله أعلم.

8 - يستحب التبكير إلى المصلى: بعدما يصلُّوا الصبح لأخذ مجالسهم، ويكبِّرون حتى يخرج الإمام للصلاة (4).

وهذا إذا كان المصلى قريبًا لا يشق المشي إليه، فإن احتاج للركوب فلا حرج، والله أعلم.

لا سُنَّة قبل صلاة العيد ولا بعدها:

عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين، لم يُصلِّ قبلها ولا بعدها» (5).

قال ابن العربي: التنفُّل في المصلى لو فُعل لنُقل، ومن أجازه رأى أنه وقت مطلق للصلاة ومن تركه رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ومن اقتدى فقد اهتدى. اهـ.

قال الحافظ: وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص، إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام، والله أعلم. اهـ (6).

قلت: ورأى بعض الفضلاء أن مصلى العيد مسجد، فإذا دخله الإنسان فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، واستدل بمنع الرسول صلى الله عليه وسلم الحيَّض أن يمكثن فيه،

_________

(1) أخرجه ابن ماجه (1301)، والدارمي (1613)، وأحمد (8100)، وابن خزيمة (1468)، وابن حبان (2815)، والبيهقي (3/ 308)، وذكره البخاري (943) متابعة لحديث جابر المتقدم -وهو من نفس الطريق!! - وقال: «وحديث جابر أصح».

(2) حسنه الألباني: وانظر «صحيح الترمذي» (1/ 164) للألباني.

(3) حسنه الألباني: وانظر «صحيح ابن ماجه» (1071) للألباني.

(4) انظر «شرح السنة» للبغوي (4/ 302).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (989)، والترمذي (537)، والنسائي (3/ 193)، وابن ماجه (1291).

(6) «فتح الباري» (2/ 552).

 

(1/605)

 

 

وأمرهن باعتزاله (1) وفيه نظر، فأما الاستدلال بمنع الحيض فيردُّه أن المراد اعتزالهن الصلاة كما تقدم في أبواب «الطهارة»، ثم إن الأرض كلَّها مسجد أفيشرع تحية المسجد عند إرادة الصلاة في أي بقعة منها؟! وعلى كلٍّ لو كان الصحابة يصلون التحية في المصلى لنُقل كما تقدم عن ابن العربي، والله أعلم. لكن لو صلوا في المسجد فلا شك في مشروعية التحية.

ليس للعيد أذان ولا إقامة:

عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهما قالا: «لم يكن يؤذَّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى (2).

وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة، ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة» (3).

قال ابن القيم: «وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة. والسنة أن لا يُفعل شيء من ذلك» اهـ. وعلى هذا فإن النداء للعيدين بدعة، والله أعلم.

كيفية صلاة العيد:

صلاة العيد ركعتان، لحديث عمر رضي الله عنه قال: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم» (4). وتصلى على الصورة الآتية:

1 - يبدأ الركعة الأولى -كسائر الصلوات- بتكبيرة الإحرام.

2 - ثم يكبِّر بعدها سبع تكبيرات أخرى قبل أن يبدأ القراءة، ولم يصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات العيد لكن قال ابن القيم: «وكان ابن عمر - مع تحرِّيه للاتباع- يرفع يديه مع كل تكبيرة» (5).

قلت: فمن رأى أن ابن عمر لا يفعل هذا إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم فله أن يرفع يديه وإلا فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

_________

(1) يقول بهذا العلامة ابن عثيمين، رحمه الله.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (960)، ومسلم (886).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (887)، وأبو داود (1148)، والترمذي (532).

(4) صحيح: أخرجه النسائي (3/ 183)، وأحمد (1/ 37) وقد تقدم.

(5) «زاد المعاد» (1/ 441).

 

(1/606)

 

 

3 - ولم يصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر معين في سكوته بين هذه التكبيرات، لكن قال ابن مسعود: «بين كل تكبيرتين حمد لله عز وجل، وثناء على الله» (1).

4 - ثم يبدأ بقراءة الفاتحة -بعد التكبيرات- ثم سورة، ويستحب أن يقرأ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} على أن يكون في الركعة الثانية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) وربما قرأ فيهما {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (3).

5 - وبعد القراءة يأتي بباقي الركعة على هيئتها المعتادة.

6 - ويكبِّر للقيام إلى الركعة الثانية.

7 - ثم يكبِّر بعدها خمس تكبيرات على نحو ما تقدم في الركعة الأولى.

8 - ويقرأ الفاتحة والسورة التي تقدم ذكرها.

9 - ثم يتم صلاته ويسلِّم.

وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم في صفة صلاة العيدين: عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبِّر في الفطر والأضحى: في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمسًا، سوى تكبيرتي الركوع» (4).

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد: سبعًا في الأولى، ثم قرأ، ثم كبَّر فركعوا، ثم سجد، ثم قام فكبَّر خمسًا، ثم قرأ ثم كبر فركع، ثم سجد» (5).

الخطبة بعد الصلاة والتخيير في حضورها:

والسنة أن يخطب الإمام بعد الصلاة خطبة واحدة -لا خطبتين (6) - واقفًا على الأرض لا على منبر، كذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده:

_________

(1) إسناده حسن: أخرجه البيهقي (3/ 291).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (891)، والنسائي في الكبرى (11550)، والترمذي (534)، وابن ماجه (1282).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (878)، وغيره عن النعمان بن بشير وقد تقدم قريبًا.

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1150)، وابن ماجه (1280)، وأحمد (6/ 70).

(5) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (1152)، وابن ماجه (1278)، وانظر «الإرواء» (3/ 108 - 112).

(6) وما ورد في أنهما خطبتان فضعيف جدًّا، والله أعلم.

 

(1/607)

 

 

1 - فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي

بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلُّهم كانوا يُصلُّون قبل الخطبة» (1).

2 - وعن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» (2).

3 - وعن أبي سعيد الخدري قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس -والناس جلوس على صفوفهم- فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف» قال أبو سعيد: «فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجتُ مع مروان -وهو أمير المدينة- في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلَّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذتُ بثوبه، فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلتُ له: غيَّرتم والله، فقال: أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلمُ والله خيرٌ مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتُها قبل الصلاة» (3). وحضور هذه الخطبة لا يجب ويستحب للإمام أن يُخير في حضورها تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم فعن عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى الصلاة قال: «إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» (4).

فائدة: خطبة العيد كسائر الخطب، تُفتتح بالحمد والثناء على الله تعالى، ولم يصح حديث في افتتاحها بالتكبير.

هل يهنئون بعضهم بالعيد؟

قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (24/ 253):

«أما التهنئة يوم العيد بقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد: (تقبَّل الله منا ومنكم) و (أحال عليك) ونحو ذلك، فهذا قد رُوى عن طائفة من الصحابة

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (962)، ومسلم (884).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (963)، ومسلم (888).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (956)، ومسلم (889).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1155)، والنسائي (3/ 185)، وابن ماجه (1290).

 

(1/608)

 

 

أنهم كانوا يفعلونه (1) ورخَّصَ فيه

الأئمة كأحمد وغيره، لكن قال أحمد: أنا لا أبتدئ أحدًا، فإن ابتدأني أحد أجبتُه، وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس مأمورًا بها، ولا هو أيضًا مما نُهي عنه، ممن فعله فله قدوة، ومن تركه له قدوة، والله أعلم» اهـ.

«ولا ريب أن هذه التهنئة من مكارم الأخلاق، ومحاسن المظاهر الاجتماعية بين المسلمين، ولها أثر طيب في تقوية الصلات والوشائج، وإشاعة روح المحبة بين المسلمين، فأقل ما يقال فيها أن تهنئ من هنَّأك، وتسكت إن سكت» (2).

_________

(1) قال الحافظ في «الفتح» (2/ 517): «ورونا في «المحامليات» بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد، يقول بعضهم لبعض: تقبَّل الله منا ومنك» اهـ.

ونقل ابن قدامة في «المغنى» (2/ 259) نحوه عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونقل عن أحمد تجويده حديث أبي أمامة، وانظر «تمام المنة» (ص: 354 - 356).

(2) «وقفات للصائمين» للشيخ سلمان العودة -حفظه الله- (ص: 99) عن «أحكام العيدين» لهشام البرغش (ص: 57).

 

(1/609)

 

 

3 - كتاب الجنائز

 

(1/610)

 

 

ما يفعله الحاضرون للمُحْتَضَر:

1 - تلقينه الشهادة:

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله» (1) والمراد: ذكِّروا من حضره الموت (لا إله إلا الله) فتكون آخر كلامه، كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من بني النجار يعوده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خال، قل لا إله إلا الله» فقال: أَوَخال أنا أو عم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، بل خال» فقال له: «قل لا إله إلا الله»، قال: هو خير لي؟ قال: «نعم» (2).

وذلك رجاء أن يكون آخر كلامه قبل موته: (لا إله إلا الله) فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة» (3).

وقد أجمع العلماء على هذا التلقين، وينبغي أن يكون في لطف ومدارة وألا يكرر عليه لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه، فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق، وإذا قالها مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعدها بشيء آخر، فيعاد تلقينه لتكون (لا إله إلا الله) آخر كلامه (4).

تنبيه: استحب الفقهاء قراءة سورة س عند المحتضر (5)، استنادًا لما رُوي مرفوعًا: «اقرءوا على موتاكم سورة يس» لكنه حديث ضعيف، فلا يشرع ذلك، والله أعلم.

2 - توجيهه إلى القبلة:

فقد جاءت جملة أحاديث مرسلة، تتقوى بمجموعها وترقى إلى الحُسْن، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور، فقالوا: توفى، وأمر بثلثه لك يا رسول الله، وأوصى أن يوجَّه إلى القبلة لما احتُضر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (916)، وأبو داود (3117)، والنسائي (4/ 5)، والترمذي (976)، وابن ماجه (1445).

(2) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 152، 154، 268).

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (3100).

(4) «شرح مسلم» للنووي (2/ 580)، و «المجموع» (5/ 110)، و «المغنى» (2/ 450).

(5) «ابن عابدين» (2/ 191)، و «الدسوقي» (1/ 423)، و «مغنى المحتاج» (2/ 5)، و «كشاف القناع» (2/ 82).

 

(1/611)

 

 

«أصاب الفطرة» وقد رددت ثلثه على ولده» ثم ذهب فصلى عليه فقال: «اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك، وقد فعلت» (1).

وفي رواية لهذه القصة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال: «وكان البراء بن معرور أول من استقبل القبلة حيًّا وميتًا».

وهذا التوجيه مستحب عند جماهير العلماء، بل نقل النووي الإجماع عليه، لكن أنكره سعيد بن المسيب -رحمه الله- فإنهم لما أرادوا أن يوجهوه إلى القبلة، غضب وقال: «أولست على القبلة»؟ (2) لكنه قد عورض بقوله غيره، ثم إنه لم يجزم بكون التلقين بدعة!! ولا حرامًا، ثم إن فعلهم ذلك بسعيد دليل على أنه كان مشهورًا بينهم يفعله المسلمون كلهم بموتاهم (3).

كيفية توجيهه إلى القبلة: للعلماء في هذه الكيفية وجهان:

1 - أن يستلقي على ظهره وقدماه إلى القبلة، ويرفع رأسه قليلاً ليصير إلى القبلة.

2 - أن يضطجع على جنبه الأيمن مستقبلاً بوجهه القبلة (4)، وهذا هو الأرجح، ومما يؤيده: قول النبي صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب: «إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن ... فإن مت، مت على الفطرة» (5).

قلت: ويشهد له كذلك حديث أم سلمة في قصة وفاة فاطمة رضي الله عنها وفيه: «.. فاضطجعت واستقبلت القبلة، وضعت يدها تحت خدها» (6) وهذا لا يكون إلا وهي على جنبها. والله تعالى أعلم.

ما يفعله الحاضرون إذا مات، وأسلم الروح:

1 - تغميض عينيه:

فعن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقَّ بصرُه فأغمضهُ، ثم قال: «إن الروح إذا قُبض تبعه البصر ....» (7).

_________

(1) حسن بطرقه: أخرجه الحاكم (1/ 353)، والبيهقي (3/ 384)، وحسنَّه شيخنا في «الغسل والكفن» (ص: 22).

(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (3/ 391).

(3) «المغنى» (2/ 451)، و «الغسل والكفن» (ص: 25).

(4) «المجموع» (5/ 116).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (244)، ومسلم (2710).

(6) إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 461) وفي سنده ضعف.

(7) صحيح: أخرجه مسلم (920)، وأبو داود (3102) مختصرًا.

 

(1/612)

 

 

والحكمة فيه: ألا يقبح بمنظره لو ترك إغماضه.

2 - أمور أخرى ذكرها الفقهاء (1):

(أ) أن يَشُد تحت لحييه عصابة عريضة تربط من فوق رأسه كيلا يسترخي لحيه الأسفل فينفتح فوه

وييبس فلا ينطبق.

(ب) تليين مفاصله وأصابعه، بأن يرد ساعده لعضده وساقه لفخذه وفخذه لبطنه ويردَّها لتلين ويسهل غسله وإدْراجه.

(جـ) خلعُ ثيابه، لئلا يخرج منه شيء يفسد به ويتلوث بها إذا نزعت عنه.

(د) أن يوضع الميت على سرير ونحوه ليكون أحفظ له، ولا يترك على الأرض لأنه أسرع لفساده.

(هـ) وضع شيء ثقيل على بطنه لئلا ينتفخ.

3 - الدعاء له: لتمام حديث أم سلمة السابق: «... فضجَّ ناس من أهله فقال: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنِّون على ما تقولون» ثم قال: «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره ونوِّر له فيه».

4 - تغطية جميع بدنه بثوب: فعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفى سُجِّي ببرد حبرة» (2).

5 - المبادرة بتجهيزه وإخراجه:

فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة، فخيرٌ تقدمونها عليه، وإن تكن غير ذلك، فَشَرٌّ تضعونه عن رقابكم» (3).

والإسراع بالجنازة يدخل فيه سرعة تغسيله وتكفينه وتجهيزه، والإسراع في حملها إلى القبر.

6 - المبادرة إلى قضاء دَيْنِه:

لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نفس المؤمن معلقة بِدَيْنه حتى يُقضى عنه» (4).

_________

(1) «البدائع» (1/ 300)، و «ابن عابدين» (2/ 194)، و «مواهب الجليل» (2/ 222)، و «الأم» (1/ 248)، و «المغنى» (2/ 451)، و «الفروع» (2/ 192).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1241)، ومسلم (942) واللفظ له.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1315)، ومسلم (944).

(4) صحيح: أخرجه الترمذي (1078)، وغيره، وصححه الألباني في «المشكاة» (2915).

 

(1/613)

 

 

وعن سلمة بن الأكوع قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقالوا: يا رسول الله، صلِّ عليها، قال: «هل ترك عليه دينًا؟» قالوا: نعم، قال: «هل ترك من شيء؟» قالوا: لا، قال: «صلوا على صاحبكم» قال رجل من الأنصار يقال له أبو قتادة: صلِّ عليه وعليَّ دينه، فصلى عليه» (1).

ما يجوز للحاضرين وغيرهم تجاه الميِّت:

1 - كشف وجهه وتقبيله:

فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فكشف عن وجهه ثم أكبَّ عليه فقبَّله، وبكى، حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه» (2).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن أبا بكر قبلَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته» (3).

2 - البكاء على الميت ما لم يكن مصحوبًا بالصياح والعويل والتسخط واللطم ونحوها:

ففي حديث أنس -في قصة موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم: «... فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبَّله وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى فقال: «إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (4).

ولما مرض سعد بن عبادة: «بكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال: «ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أَوْ يرحم، وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (5).

وكشف جابر بن عبد الله رضي الله عنه الثوب عن وَجه أبيه وبكى عليه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (2291)، والنسائي (1961) واللفظ له.

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3147)، والترمذي (994)، وابن ماجه (1456).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (4457)، والنسائي (4/ 11)، وأحمد (6/ 55).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1303).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1304)، ومسلم (924).

(6) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

 

(1/614)

 

 

فائدتان:

1 - مجرد البكاء على الميت لا حرج فيه، وإنما يمنع التكلم باللسان بما فيه تسخُّط على قدر الله تعالى والنياحة المحرمة، لكن لا بأس أيضًا بالتوجع للميت عند احتضاره بمثل قول فاطمة -عليهما السلام- في احتضار النبي صلى الله عليه وسلم: «واكرب أباه» فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» (1) فعلم أن هذا ليس من النياحة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك (2).

2 - هل يُعذَّب الميت ببكاء أهله ونياحتهم عليه؟

في هذا خلاف بين أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، فكان عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وغيرهما يرون أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

وخالفتهم عائشة رضي الله عنها فقالت: «إنما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: «إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذَّب في قبرها» (3).

وذهب الجمهور إلى أن الذي يُعذب ببكاء أهله عليه هو من أوصى أن يُبكى ويناح عليه بعد موته، فنفذت وصيته، فأما من ناح عليه أهله من غير وصية منه فلا يعذب، وقيل: بل يعذب لتقصيره في تعليم أهله مما أدى بهم إلى إحداث ذلك فهو مسئول عن رعيته (4).

ما يجب على أقارب الميت -وخصوصًا النساء- إذا جاءهم خبر وفاته:

الصبر والاسترجاع والرضا بقضاء الله:

قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (5).

واعلمي أختي المؤمنة «أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (4462)، وابن ماجه (1630).

(2) «فتح الباري» (7/ 756) سلفية.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1289)، ومسلم (932).

(4) جامع أحكام النساء (1/ 462) باختصار.

(5) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157.

(6) نقله في فتح الباري (3/ 149) عن الخطابي.

 

(1/615)

 

 

فعن أنس قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري» قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (1).

وعن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله

له خيرًا منها» (2).

ما يحرم على النساء من أقارب الميت وغيرهن:

1 - النياحة:

وهي مُحرَّمة، لأنها تهيِّج الحزن، وترفع الصبر، وفيها مخالفة للتسليم للقضاء والإذعان لأمر الله تعالى (3).

فعن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة» وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جَرَب» (4).

وعن أم عطية قالت: أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح، فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة ....» (5).

2، 3 - ضرب الخدود، وشق الجيوب:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (6).

_________

(1) البخاري (1283)، ومسلم (926).

(2) مسلم (918)، وأبو داود (3115).

(3) شرح مسلم للنووي (2/ 598).

(4) مسلم (934)، وأحمد (5/ 342)، والحاكم (1/ 383)، والبيهقي (4/ 63).

(5) البخاري (1306)، ومسلم (936).

(6) البخاري (1294)، ومسلم (103).

 

(1/616)

 

 

وشق الجيب هو شق المرأة ثوبها من فتحة الصدر، ودعوى الجاهلية هي النياحة ونُدبة الميت (1) والدعاء بالويل.

4، 5 - حلق الشعر، ونشره وتفريقه:

فعن أبي بردة بن أبي موسى قال: «وَجِع أبو موسى وجعًا فغُشى عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا فلما أفاق قال: أنا برئ مما بريء منه رسول

الله صلى الله عليه وسلم: «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة» (2).

والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة.

وعن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه: وأن لا نخمش وجهًا، ولا ندعو بويل، ولا نشق جيبًا، وأن لا ننشر شعرًا» (3).

ونشر الشعر: هو نفشه ونشره وتفريقه عند المصيبة، وهذا وما سبق كله حرام، فلينتبه لذلك.

 

غسل الميت:

حكمه (4): ذهب جمهور العلماء إلى أن غسل الميت فرض كفاية، بل نقل النووي الإجماع على ذلك!!

قال الحافظ: وهو ذهول شديد، فإن الخلاف فيه مشهور جدًا عند المالكية ... اهـ، واستدل الجمهور بما يلي:

1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية والنسوة اللواتي غسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا ...» (5).

_________

(1) الندبة هي التعديد المعروف عند النساء كقول إحداهن: يا سبعي، يا جملي مما هو مشهور، وفي البخاري (4268) «أن عبد الله بن رواحة أغمى عليه فجعلت أخته تبكي: واجبلاه واكذا، تُعَدِّد عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئًا إلا قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات لم تبك عليه».

(2) البخاري تعليقًا (1296)، ومسلم (104).

(3) أبو داود (3131) بسند قريب من الحسن.

(4) «المجموع» (5/ 128)، و «الأم» (1/ 243)، و «المحلى» (5/ 113)، و «الفتح» (3/ 125).

(5) صحيح: يأتي تخريجه.

 

(1/617)

 

 

2 - قوله صلى الله عليه وسلم -في المحرِم الذي وقصته دابته فمات-: «اغسلوه بماء وسدر ...» (1).

ومقتضى الأمر في الحديثين الوجوب، ولا صارف له إلى الندب، فلا يلتفت إلى من قال بالاستحباب.

3 - عمل المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن.

قلت: يستوى في هذا كل من مات من المسلمين ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، حرًّا أو عبدًا، إلا من قتل شهيدًا في المعركة في قتال الكفار كما سيأتي.

هل يُغَسَّل السقط؟

إذا أسقطت المرأة ولدها لأكثر من أربعة أشهر غُسِّل وصُلِّي عليه، فإن لم يأت له أربعة أشهر فإنه لا يُغَسَّل ولا يُصلى عليه، ويلف في خرقة ويدفن، وذلك لأنه تنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، وقبل ذلك لا يكون نسمة فلا يصلى عليه كالجمادات والدم (2).

لا يُغَسَّل شهيد المعركة:

عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغسَّلوا ولم يصلَّ عليهم» (3).

والعلَّة في ترك غسل الشهيد ما في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أُحد: «لا تغسلوهم، فإن كل جرح -أو كل دم- يفوح مسكًا يوم القيامة» ولم يصل عليهم (4).

والشهيد الذي يُغسَّل هو من مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال، سواء قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاح نفسه، أو سقط عن فرسه، أو وطئته دابته أو دواب المسلمين أو غيرهم، أو وجد قتيلاً عند انكشاف

_________

(1) صحيح: يأتي تخريجه.

(2) «المجموع» (5/ 256)، و «المغنى» (2/ 522).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1343)، وأبو داود (3135)، وأحمد (3/ 128).

(4) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 399)، وله شاهد عند البيهقي (4/ 11).

 

(1/618)

 

 

الحرب ولم يعلم سبب موته، سواء كان عليه أثر دم أم لا، وسواء مات في الحال أو بقي زمنًا ثم مات قبل انقضاء الحرب (1).

إذا قُتل الشهيد وهو جُنُب، فلا يُغَسَّل كذلك في أصح أقوال العلماء (2) لأمرين:

1 - عموم الأدلة -السابقة- على ترك تغسيل الشهيد.

2 - ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغسيل حنظلة بن أبي عامر لما قتل وقوله: «إن صاحبكم تغسله الملائكة» فسأله صاحبته عنه، فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب (3).

وقد استدل به على مشروعية تغسيله لفعل الملائكة، ولا يخفى أن الحجة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغسيله لا في تغسيل الملائكة، لأن المقصود منه تعبُّد الآدمي به ولو كان غسله واجبًا لما سقط بغسل الملائكة.

هل يُغسَّل شهيد غير المعركة؟

الشهيد بغير قتل كالمبطون والمطعون والغريق وصاحب الهدم يُغسَّلون ويصلى عليهم كسائر الموتى، وهذا قول جماهير أهل العلم (4).

لا يجب تغسيل الكافر: سواء كان ذميًّا أو غيره، لأنه ليس من أهل العبادة ولا من أهل التطهير.

لكن يجوز للمسلم تغسيل ذوي قرابته من المشركين أو زوجته الذمية واتباع جنائزهم ودفنهم لكن لا يصلى عليهم، وأقاربه الكفار أحق به من أقاربه المسلمين (5)، وأما ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا أن يُغَسل أباه، فطرقه كلها واهية لا تثبت (6).

_________

(1) «المجموع» (5/ 261).

(2) «المجموع» (5/ 26)، و «المغنى» (2/ 530).

(3) حسن: أخرجه الحاكم (3/ 204)، والبيهقي (4/ 15)، وانظر «الصحيح المسند من فضائل الصحابة» لشيخنا، حفظه الله.

(4) «المغنى» (2/ 536) فإن خيف عليه تقطعه بالماء لم يغسل بل ييمم إن أمكن، والله أعلم.

(5) «المجموع» (5/ 144)، و «الأم» (1/ 235).

(6) انظر «الغسل والكفن» لشيخنا مصطفى بن العدوي -رفع الله قدره- (ص: 120).

 

(1/619)

 

 

من أولى الناس بغسل الميت؟

يستحب أن يقوم أولى الناس من أهل الميت بتغسيله -إذا توفَّر فيه الصلاة والخبرة بالغسل- «لأن الذي غسَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم هم عليٌّ وأهل قرابته» (1).

وعن سالم بن عبيد الأشجعي أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأبي بكر: يا صاحب رسول الله، من يُغسِّله؟ قال: «رجال أهل بيته الأدنى فالأدنى» قالوا: فأين ندفنه؟ قال: «ادفنوه في البقعة التي قبضه الله فيها، لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه» (2).

ويجوز أن يتولى الغُسل غير قرابته -لا سيما إن كانوا أعلم بشئونه- فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أقارب ابنته زينب بتغسيلها، بل غسَّلتها أم عطية وغيرها كما سيأتي الحديث.

يجوز للزوج تغسيل زوجته (3):

لحديث عائشة قالت: «رجع إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، قال: «ما ضرَّك لو متِّ قبلي فغسَّلتك وكفَّنتك، ثم صليت عليك ودفنتك» قلت: لكني -أو: لكأني- بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه» (4).

ولأن الله تعالى سمى المرأة بعد موتها زوجة فقال سبحانه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (5) فلما لم يكن مانع من تغسيلها في حياتها، كان ذلك باقيًا على التحليل بعد موتها من غير فرق إلا بنص، ولا سبيل إليه.

وقد ذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أن الرجل لا يغسل امرأته لأنه لو شاء تزوج أختها حين ماتت! وفيما تقدم حجة عليهما.

_________

(1) صحيح: أخرج معناه ابن ماجه (1467)، والحاكم (1/ 362)، والبيهقي (3/ 388).

(2) أخرجه البيهقي (3/ 395) وفي سنده سوادة بن سلمة بن بنيط، قال شيخنا: لم أقف على ترجمته. اهـ.

(3) «المحلى» (5/ 174)، و «المجموع» (5/ 132)، و «الأم» (242).

(4) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (6/ 228)، وابن ماجه (1465)، والدارمي (1/ 37) وغيرهم.

(5) سورة النساء، الآية: 12.

 

(1/620)

 

 

يجوز للمرأة تغسيل زوجها (1):

لحديث عائشة قالت: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما غسَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه» (2).

قال البيهقي (3/ 398): فتلهَّفتْ على ذلك، ولا يُتلَهَّفُ إلا على ما يجوز. اهـ.

وقد صحَّ بمجموع الطرق أن «نساء أبي بكر قُمْنَ بتغسيله بوصية منه» (3).

هل يُغَسل الرجل ابنته؟ (4)

تقدم أن أم عطية هي التي غسلت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وسيأتي الحديث فيه- لكن إذا لم توجد نساء يقمن بذلك، أو كنَّ قليلات الخبرة بالغُسل، فلم يرد مانع من أن يغسل الرجل ابنته، ولأنها كالرجل بالنسبة إليه في العورة والخلوة، وقد ورد هذا عن بعض السلف: فعن أبي هاشم أن «أبا قلابة غسَّل ابنته» (5).

وبه قال الأوزاعي ومالك والشافعي.

يجوز للنساء تغسيل الصبي (6):

قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمرأة أن تغسل الصبي الصغير .. اهـ.

وثبت عن الحسن أنه كان «لا يرى بأسًا أن تغسل المرأة الغلام إذا كان فطيمًا وفوقه شيء» وكذلك

عن ابن سيرين (7).

قلت: وهذا الجواز محلُّه إذا لم يبلغ الصبي حدًّا يشتهى فيه، وإلا لم يغسله النساء، وبذا ضبطه النووي، رحمه الله.

إذا مات رجل بين نساء، أو امرأة بين رجال؟ فللعلماء في تغسيله قولان:

الأول: يُغسل من فوق الثياب.

_________

(1) المصادر الفقهية السابقة.

(2) حسن: أخرجه أبو داود (3141)، والبيهقي (3/ 398).

(3) مصنف عبد الرزاق (6117 - 6119 - 6123 - 6124)، وابن أبي شيبة (3/ 249)، وانظر «جامع أحكام النساء» (1/ 466).

(4) «المجموع» (5/ 151)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا (1/ 475) وعنه كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 186).

(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 251).

(6) «المغنى» (2/ 455)، و «المجموع» (5/ 149).

(7) إسنادهما صحيح: أخرجهما ابن أبي شيبة (3/ 251).

 

(1/621)

 

 

الثاني: يُيَمَّمُ ولا يغسل لأنه بمنزلة من لم يجد الماء.

وقد ورد مرسلاً عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الرجل مع النساء، والمرأة مع الرجال فإنهما يُيَمَّمان ويُدفنان وهما بمنزلة من لم يجد الماء» (1).

ويشهد له حديث سنان بن غرفة -وكانت له صحبة- عن النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة تموت مع الرجال ليسوا بمحارم قال: «تُيَمَّم، ولا تغسَّل، وكذلك الرجل» (2).

 

صفة المُغَسِّل (3):

ينبغي أن يتوفر فيمن يقوم بغسل الميت أمران:

1 - الصلاح: لأن أهل الصلاح أعرف بحدود الله وشرائع دينه فيسترون على الميت، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (4) ولا يتعرضون له بسبٍّ ونحوه فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا» (5).

ويحفظون سرَّه ولا يغتابونه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الغيبة: «ذكرك أخاك بما يكره» وقال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه» (6).

وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غسَّل ميتًا فكتم عليه، غُفر له أربعين مرة، ومن كفَّن ميتًا كساه الله من السندس وإستبرق الجنة، ومن حفر لميت قبرًا فأجنَّه فيه

أرجى له من الأجر كأجر مسكن أسكنه إلى يوم القيامة» (7).

2 - الخبرة بالغسل:

فإن العالم بأمر الغسل يقيم فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحسن إلى الميت ويحسن تغسيله، ولذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم عطية لتغسل ابنته وقد ذكر النووي -وجزم به ابن عبد البر- أن أم عطية كانت غاسلة الميتات.

ويؤيد هذا أن عليًّا لما أراد تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم: «ذهب يلتمس منه ما يلتمس

_________

(1) مرسل. أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 413)، والبيهقي (3/ 398).

(2) ذكره البيهقي (3/ 398).

(3) «الغسل والكفن» لشيخنا -حفظه الله- (ص: 62 - 65) بتصرف يسير.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1393).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (2589).

(7) حسن: أخرجه الحاكم (1/ 354 - 362)، والبيهقي (3/ 395).

 

(1/622)

 

 

من الميت فلم يجده، فقال: بأبي الطيب، طبتَ حيًّا وطبت ميتًا» (1) وفيه دليل على أنه كان على علم بالغسل وما يكون من الميت، والله أعلم.

فائدة: يجوز أن يقوم الجنب أو الحائض بغسل الميت: لعدم الدليل على المنع منه (2).

 

صفة غُسل الميت:

العمدة في هذا الباب حديث أم عطية رضي الله عنها لأنها شهدت غسل ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكت ذلك فأتقنت، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت، وكذلك عوَّل عليه الأئمة في غسل الميت.

عن أم عطية رضي الله عنها قالت: دخل علنيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته [هي: زينب] فقال: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورًا، فإذا فرغتن فآذنني» فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه (3) فقال: «أشعرنها (4) إياه».

وفي لفظ: «اغسلنها وترًا» وفيه: «ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا» وفيه: «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» وفيه أن أم عطية قالت: «ومشطناها ثلاثة قرون» (5).

ويمكن تلخيص أفعال غسل الميت على ما ورد في حديث أم عطية وغيره مما ذكره أهل العلم فيما

يأتي (6):

1 - أن يجرد الميت من ثيابه، ويضع على عورته سترة:

فعن عائشة -في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: «لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم

_________

(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1467)، والحاكم (1/ 362)، والبيهقي (3/ 388).

(2) «المجموع» للنووي (5/ 187).

(3) المراد هنا: إزاره.

(4) أي: اجعلنه شعارها وهو الثوب الذي يلي الجسد، يريد أن تُلَفَّ فيه.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1254)، ومسلم (939)، وأبو داود (3142)، والنسائي (4/ 32)، وابن ماجه (1458)، وفي الباب حديث طويل في سياق صفة الغسل عن أم سليم مرفوعًا عند البيهقي (4/ 4) لكنه ضعيف، بل قال أبو حاتم في «العلل» (1/ 361): كأنه باطل يشبه أن يكون كلام ابن سيرين ومع هذا فقد عوَّل عليه كثير من الشراح!!.

(6) «الغسل والكفن» لشيخنا (ص: 67 - 105) بتصرف واختصار.

 

(1/623)

 

 

قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرِّد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ ... الحديث» (1). وفيه أنهم كانوا يجردون الموتى.

لكن ينبغي أن يستر عورته بسترة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة ...» (2).

ولذا ذهب ابن سيرين وأبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنه يستر العورة (بين السرة والركبة) (3).

2 - أن تنقض ضفائر المرأة الميتة (إن كان لها): لقول أم عطية - في رواية البخاري (1260) وغيره-: «جعلن رأس بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون نقضنه ثم غسلنه ثم جعلنه ثلاثة قرون».

3 - أن يلتزم الرفق في أعمال الغُسل كلها: لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (4).

ولأن حرمة الميت كحرمة الحي، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت، ككسر عظم الحي» (5).

4 - أن يضع مع الماء -في الغسلات الأُوَل- السدر (أو الصابون ونحوه): لقوله صلى الله عليه وسلم: «اغسلنها بماء وسدر».

وإذا كان في تسخين الماء مصلحة كإزالة وسخ ونحوه فُعِل الأنفع له.

5 - أن يبدأ بغسل الميامن ومواضع الوضوء منه بعد النية والتسمية:

لقوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء فيها».

ويدخل في هذا مضمضة الميت، فإن خيف وصول الماء إلى جوفه فيفضي إلى المثلة به أو خروجه من

أكفانه، فالأولى أن يمسح أسنانه وأنفه بخرقة مبللة حتى ينظفهما.

_________

(1) حسن: أخرجه أبو داود (3141)، وأحمد (6/ 267)، والحاكم (3/ 59)، والبيهقي (3/ 387).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (338).

(3) «المغنى» (2/ 453).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (2594).

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3207)، وابن ماجه (1616)، وأحمد (6/ 58).

 

(1/624)

 

 

6 - يغسل الرأس جيدًا بالماء والسدر (الصابون) حتى يصل إلى منابت الشعر، وتسريحه برفق (1):

لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غسل الجنابة يحتفن ثلاث حفنات ويخلل رأسه حتى يصل إلى منابت الشعر كما تقدم في «الطهارة».

7 - يغسل الجانب الأيمن من الجسد: من صفحة عنقة اليمنى صبًّا إلى قدمه اليمنى، ويغسل في ذلك شق صدره وجنبه وفخذه وساقه الأيمن كله، يحركه له غيره ليتغلغل الماء ما بين فخذيه ويمر يده فيما بينهما، ثم يأخذ الماء يامنة ظهره (2).

8 - يصنع بالجانب الأيسر مثل ما صنع بالأيمن.

9 - يحرفه على جنبه فيغسل القفا والظهر والإليتين، وما يتبع ذلك مما لم يتيسر غسله من الأمام.

10 - يمشط الرأس، ويُضفَّر رأس الميتة ثلاث ضفائر: كل جانب من جانبي الرأس ضفيرة والناصية ضفيرة ويلقى شعر الميتة خلفها، ويكون التضفير في الغسلة الأخيرة.

ففي حديث أم عطية عند البخاري (263): «.. فضفرناها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها».

11 - يُكرر الغسل عدة مرات حتى يحصل الإنقاء والتنظيف لقوله صلى الله عليه وسلم: «أو أكثر إن رأيتن» ويستحب أن يكون وترًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «واغسلنها وترًا».

12 - يضاف الكافور (أو المسك ونحوه) في الغسلة الأخيرة:

لقوله صلى الله عليه وسلم: «واجعلن في الآخرة كافورًا» إلا أن يكون الميت مُحْرِمًا فإنه لا يُمس طيبًا كما سيأتي.

13 - ويرى بعض العلماء (3): بعد الفراغ من الغسل أن تُرد اليدان والرجلان فيلصقا بالجنبين، ويُحف القدمان، ويلصق أحد الكعبين بالآخر، ويُضم الفخذان، ثم يخفف بثوب، ورأوا كذلك أن يمسح على البطن أثناء الغسل ليخرج ما به، وأن يُقعد عند آخر كل غسلة.

_________

(1) «الأم» (1/ 249)، و «المغنى» (2/ 458).

(2) «الأم» (1/ 249).

(3) «الأم» (1/ 249)، و «المجموع» (5/ 168).

 

(1/625)

 

 

14 - ولا يمسَّ الغاسل عورة الميت بيده مباشرة إلا لضرورة: فيلف على يده خرقة يمسحه بها لئلا يمس عورته لأن النظر إليها حرام، فاللمس أولى (1).

هل تُقَلُّم أظفار الميت أو يؤخذ من شعر عانته؟ (2) للعلماء في هذا قولان:

أحدهما: يُفعل ما كان فطرة في الحياة، ولأنه تنظف فشرع في حقه لإزالة الوسخ، وبه قال الشافعي في الجديد.

وقد يُستدل له بحديث أبي هريرة -في قصة مقتل خبيب رضي الله عنه- وفيه: «.. فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها فأعارته ...» (3) فكأنه استحدَّ استعدادًا للموت إذ هو بين قوم من المشركين لن يفعلوا معه ذلك بعد موته.

وعن أبي قلابة: «أن سعدًا غسَّل ميتًا فدعا بموسى فحلقه» (4) وصحَّ نحوه عن بكر بن عبد الله المزني.

الثاني: أنه يكره، لأنه قطع جزء منه فهو كالختان، وبه قال المزني من الشافعية وعن ابن سيرين: «أنه كان يعجبه إذا ثقل المريض أن يؤخذ من شاربه وأظفاره وعانته، فإن هلك لم يؤخذ منه شيء» (5).

قلت: الأظهر أنه إذا رؤي من الميت شعر فاحش مما يسنُّ إزالته فلا مانع من أخذه، فالمردُّ في هذا إلى مصلحة الميت، والله أعلم.

فائدة: ما يؤخذ من شعر الميت أو ظفره، أو ما يسقط من ذلك ماذا يُصنع به؟

قال عدد من أهل العلم: إنها تجعل معه وتدفن معه، وفي هذا جملة آثار عن السلف عند ابن أبي شيبة (3/ 247) فلتراجع.

إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين حي:

إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين، فإن كانت ترجى حياته فإنه يُشَقُّ بطنها

_________

(1) «الأم» (1/ 249)، و «المغنى» (2/ 457).

(2) «الغسل والكفن» (ص: 97)، و «الأم» (1/ 248)، و «المجموع» (5/ 178).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (3989)، وأحمد (2/ 294)، وأبو داود (2660) وغيرهم.

(4) رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 247)، ورجاله ثقات ليس فيه إلا ما يخشى من إرسال أبي قلابة.

(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 246).

 

(1/626)

 

 

لإخراجه فإن لم تُرجَ حياته لم يشق، وهو مذهبا الحنفية والشافعية والمتجه عند الحنابلة، وبعض المالكية (1).

إذا ماتت المرأة وهي حائض أو جنب تُغسَّل غسلاً واحدًا: لأنها إذا ماتت خرجت من أحكام التكليف ولم يبق عليها عبادة واجبة، وإنما الغسل للميت تعبُّد، وليكون في حال خروجه من الدنيا على أكمل حال من النظافة والنضارة، وهذا يحصل بغسل واحد، ولأن الغسل الواحد يجزئ من وجب في

حقه موجبان له كما لو اجتمع الحيض والجنابة (2).

من غسَّل ميتًا، هل يغتسل؟

رُوى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غسَّل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (3) وهو حديث مضطرب ضعفه أئمة الحديث: ابن المديني وأحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى والشافعي وابن المنذر والبيهقي وغيرهم.

ورُوى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة وغسل الميت» (4) وهو ضعيف كذلك.

وفي حديث ناجية بن كعب -في قصة موت أبي طالب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: «اذهب فَوارِ أباك ثم لا تحدثن شيئًا حتى تأتيني» قال: فذهبت فواريته وجئته، فأمرني، فاغتسلت ودعا لي» (5) وهو مختلف في تحسينه، على أنه ليس فيه أن عليًّا غسلَّه.

ومما سبق يتضح أنه لا يثبت حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيجاب الغسل على من غسَّل الميت، بل ورد عنه خلافه: فعن ابن عباس قال: قال رسول الله

_________

(1) «الفتاوى الهندية» (1/ 157)، و «غاية المنتهى» (1/ 254)، و «بلغة السالك» (1/ 232).

(2) «المغنى» لابن قدامة (2/ 463) بتصرف يسير.

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3161)، وأحمد (2/ 433)، والبيهقي (1/ 303) وغيرهم وطرقه كلها معلولة، انظر «الغسل والكفن» (ص: 110 وما بعدها) ومع هذا فقد صححه العلامة الألباني -رحمه الله- ولكلٍّ وجهة.

(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3160)، وضعَّفه، وضعفه البخاري كما في البيهقي (1/ 302).

(5) في سنده لين: أخرجه أبو داود (3214)، والنسائي (4/ 79)، وأحمد (1/ 97) وسنده لين، وهل يحسَّن بمجموع الطرق؟ محلُّ نظر، وقد صححه الألباني.

 

(1/627)

 

 

صلى الله عليه وسلم: «ليس عليكم في غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم» (1) لكنه معلول كذلك والصواب وقفه على ابن عباس.

وعلى كل حال فإن جمهور أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم لا يرون وجوب الاغتسال من غسل الميت، وإنما يرونه مستحبًّا (2).

وهذا ثابت عن ابن عباس وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم بأسانيد صحيحة (3).

على أن بعض أهل العلم كأبي داود قد قال بعد إيراد حديث أبي هريرة: وهذا منسوخ.

إذا عُدم الماء أو تعذَّر استعماله يُيَمَّم الميت (4):

إذا تعذر غسل الميت لفقد الماء، أو خيف من غسله أن يتهرى لحرق ونحوه، يُيمم، وهذا التيمم واجب لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة نجاسة فوجب الانتقال فيه عند العجز عن الماء إلى التيمم كغسل الجنابة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا إذا لم نجد الماء» (5).

إذا دفن الميت دون أن يُغَسَّل؟ فذهب الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وداود وابن حزم إلى أنه يجب نبشه ليغسَّل ما لم يتغيَّر.

وقال أبو حنيفة: لا يجب ذلك بعد إهالة التراب عليه!! (6) قلت: يدلُّ على جواز إخراج الميت من قبره لغرض صحيح: حديث جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته، فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه» (7).

_________

(1) أُعِلَّ بالوقف. أخرجه الحاكم (1/ 386)، والبيهقي (1/ 306) وضعَّفه والصواب وقفه على ابن عباس.

(2) «الأم» (1/ 235)، و «المجموع» (5/ 185)، و «معالم السنن» (3/ 512).

(3) انظر «الغسل والكفن» (ص: 120 - 125).

(4) «المجموع» (5/ 178)، و «المحلى» (5/ 122).

(5) صحيح: تقدم في «التيمم».

(6) «المجموع» (5/ 300)، و «المحلى».

(7) صحيح: أخرجه البخاري (1350)، ومسلم (2773).

 

(1/628)

 

 

تكفين الميِّت

حكمه:

أجمع العلماء على أن تكفين الميت بما يستره فرض كفاية، وقد دلَّت النصوص على ذلك:

1 - فعن ابن عباس أن رجلاً وقصه بعيره ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبين، ولا تُمسَّوه طِيبًا، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيًا» (1).

2 - وفي حديث خباب بن الأرت قال: «هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئًا منهم مصعب بن عمير -ومنا من أينعت له ثمرته فهو يُهْدبِها- قُتل يوم أُحد فلم نجد ما نكفِّنه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر» (2).

3 - وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يومًا فذكر رجلاً من أصحابه قُبِضَ فكُفِّن في كفن غير طائل، وقُبر ليلاً، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقْبَر الرجل بالليل حتى يُصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كفَّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه» (3).

على من تكون تكاليف الكفن (4)؟

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن قيمة الكفن وتكاليف الغسل والدفن من رأس مال الميت، واستدلَّ بعضهم بحديث عبد الرحمن بن عوف «أنه أتُي يومًا بطعامه فقال: قُتل مصعب بن عمير -وكان خيرًا مني- فلم يوجد له ما يُكفَّن فيه إلا بردة ....» الحديث (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1267)، ومسلم (1206).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1276)، ومسلم (940).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (943)، وأبو داود (3148)، والنسائي (4/ 33)، والمراد بإحسان الكفن: نظافته وكثافته وستره ونحوه، لا أن المراد السرف فيه والمغالاة ونفاسته (أفاده النووي).

(4) «الأم» (1/ 236)، و «المجموع» (5/ 188)، و «المحلى» (5/ 121)، و «الغسل والكفن» (ص: 150).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1274)، وغيره.

 

(1/629)

 

 

وقال أكثرهم: يُبدأ بالكفن ثم بالدَّين ثم بالوصية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي وقصه بعيره: «وكفنوه في ثوبين» ولم يستفصل هل عليه دين أم لا؟ فدلَّ على تقديم الكفن على الدين، فليس لغرمائه ولا لورثته منع ذلك، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمهم نفقته فإن لم يكن ففي بيت المال فإن لم يكن وجب على المسلمين يوزعه الإمام على أهل اليسار وعلى من يراه ..

وقيل: بل يقدَّم الدين، لأن الله تعالى لم يجعل ميراثًا ولا وصية إلا فيما يخلفه المرء بعد دينه فصحَّ أن الدين مقدَّم، فإن لم يكن له مال وجب على المسلمين تكفينه، وأما الاستدلال بحديث من وقصه بعيره فيرد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تكفل بديون من مات من المسلمين لقوله: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته» (1) وهو قول أبي محمد بن حزم.

وأما تكاليف المرأة المزوَّجة:

فقال بعض أهل العلم: يُلزم زوجها بتكاليف كفنها وسائر مؤن تجهيزها (2)، وقيل: بل يُخصم من رأس مالها إن تركت مالاً ولا يلزم زوجها، لأن أموال المسلمين محظورة إلا بنص قرآن أو سنة، قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» (3) وإنما أوجب تعالى على الزوج النفقة والكسوة والإسكان، ولا يسمى في اللغة التي خاطبنا الله تعالى بها الكفن كسوة، ولا القبر إسكانًا» (4).

قلت: وهذا هو الأظهر والله أعلم.

فائدة: يجوز للشخص تجهيز كفنه قبل الموت:

فعن سهل بن سعد «أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتُها ... قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلان، فقال: اكسنيها ما أحسنها، قال القوم: ما أحسنتَ، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يردُّ؟!

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6731)، وغيره.

(2) «المجموع» (5/ 188)، وانظر كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 189) ط. التوفيقية.

(3) صحيح: يأتي بطوله وتخريجه في «الحج».

(4) «المحلى» لابن حزم (5/ 122).

 

(1/630)

 

 

قال: إني والله ما سألتهُ لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه (1).

 

صفة الكفن:

(أ) كفن الرجال:

عن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفِّن في ثلاثة أثواب يمانية بيض سَحُولِيَّة (2) من كُرْسُف (3) ليس فيهن قميص ولا عمامة» (4).

ويؤخذ من هذا الحديث ومن غيره أنه يستحب في الكفن ما يأتي:

1 - أن يكون أبيض: ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنه خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» (5).

2 - أن يكفَّن الرجل في ثلاثة أثواب.

3 - أن تكون من القطن.

4 - أن لا يكون فيها قميص ولا عمامة، وإن كفِّن في قميص فلا بأس وإن كان الأولى تركه، فعن

ابن عمر أن عبد الله بن أُبَيٍّ لما تُوفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفِّنه فيه وصلِّ عليه واستغفِر له، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ... الحديث» (6) قال الشافعي في «الأم» (1/ 236): وإن كفن في قميص، جعل القميص دون الثياب والثياب فوقه ... اهـ.

5 - أن يكون أحد هذه الأثواب ثوب حبرة: أي مُخططًا أو ملونًا، فعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توفى أحدكم فوجد شيئًا، فليكفن في ثوب حَبِرَة» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1277)، وابن ماجه (3555).

(2) ثياب بيض نقية منسوبة إلى قرية سحول باليمن.

(3) الكرسف هو: القطن.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1264)، ومسلم (941).

(5) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (3878)، والترمذي (994)، وابن ماجه (1472) وغيرهم.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1269)، ومسلم (2774).

(7) صحيح: أخرجه أبو داود (3150)، والبيهقي (3/ 403)، وقد أعلَّه ابن معين بما رُدَّ عليه، وقد ورد نحوه عند أحمد (3/ 335)، وابن أبي شيبة (3/ 266) من وجهين آخرين فصحَّ الحديث، وهو في «صحيح الجامع» (455).

 

(1/631)

 

 

6 - أن يُطيَّب الكفن: فعن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أجمرتم الميت، فأجمروه ثلاثًا» (1).

وقد استحب هذا طائفة من أهل العلم، قالوا: ولأن هذا عادة الحي عند غسله وتجديد ثيابه أن يجمر بالطيب والعود فكذلك الميت (2).

إذا لم يَكْفِ الثوب لتغطية جميع الجسد؟

تقدم في حديث خباب أن مصعب بن عمير «... قُتل يوم أُحد فلم نجد ما نكفنه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر» (3).

ويستفاد منه أنه إذا لم يوجد ساتر البتة أنه يغطى جميعه بالإذخر فإن لم يوجد فبما تيسر من نبات الأرض (4).

تكفين المُحِرْم في ثياب إحرامه، وعدم تغطية رأسه:

لما تقدم في حديث ابن عباس قال: بينا رجل واقف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين -أو قال: في ثوبيه- ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة يُلبِّي» (5).

تكفين الشهيد في ثيابه التي قتل فيها أو في غيرها:

عن عبد الله بن ثعلبة بن صفير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحد: «زملوهم في ثيابهم» (6).

_________

(1) حسن: أخرجه أحمد (3/ 331)، وابن أبي شيبة (3/ 265)، والحاكم (1/ 355)، والبيهقي (3/ 405).

(2) «المغنى» (2/ 464)، وانظر «المجموع» (5/ 197).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1276)، وقد تقدم.

(4) «فتح الباري» (3/ 142).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1849) وقد تقدم.

(6) حسن بطرقه: أخرجه بهذا اللفظ أحمد (5/ 431) بسند لين، وقد ضعفه بعض أهل العلم بأنه مخالف لسائر رواياته عند أحمد (5/ 431)، والنسائي (4/ 87 - 6/ 28) بلفظ «زملوهم بكلومهم ودمائهم» قلت: لا مخالفة، لأن مؤدى اللفظين واحد كما هو واضح، ثم للحديث شاهد من حديث جابر عند أبي داود (3133)، وآخر عن ابن عبس (3134) وابن ماجه (1515) وغيرهما، والله أعلم.

 

(1/632)

 

 

وقد اتفق أهل العلم على استحباب تكفين الشهداء في ثيابهم التي قتلوا فيها، وقال أكثرهم: ينزع عنهم من لباسهم ما لم يكن من عادة لباس الناس من الجلود والفراء والحديد (1).

ومما يدل على أن تكفين الشهداء في ثيابهم مستحب وليس بواجب مُحتَّم: حديث الزبير في أن صفية أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفِّن فيهما حمزة رضي الله عنه، فكفنه في أحدهما، وكفن في الآخر الأنصاري الذي لم يكن له كفن (2).

فدلَّ على أن الخيار للولي.

وكذلك تقدم حديث تكفين مصعب بن عمير، وقد قتل في أُحد.

(ب) كفن المرأة:

كفن المرأة ككفن الرجل، إلا أن المستحب -عند أكثر أهل العلم- أن يكون خمسة أثواب، وقد ورد في هذا حديث ضعيف الإسناد أن ليلى بنت قائف الثقفية قالت: «كُنت فيمن غسَّل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِقو، ثم الدِّرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعدُ في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب، معه كفنها يناولناه ثوبًا ثوبًا» (3).

قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفَّن المرأة في خمسة أثواب، وإنما استحب ذلك لأن المرأة تزيد في حال حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته، فكذلك بعد الموت. اهـ (4).

تكفين المرأة في الحرير: جائز، لأنه يجوز لبسه في الحياة، لكن يكره تكفينها فيه لأن فيه سرفًا، ويشبه إضاعة المال، بخلاف اللبس في الحياة فإنه يجمل للزوج (5).

_________

(1) «المغنى» (2/ 531).

(2) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد (1/ 165)، والبيهقي (3/ 401) وغيرهما.

(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3157) بسند ضعيف.

(4) «المغنى» (2/ 470)، وانظر «المجموع» (5/ 205).

(5) «المجموع» للنووي (5/ 197).

 

(1/633)

 

 

حمل الجنازة واتبَّاعها

حمل الجنازة واتِّباعها من حقوق الميت على المسلمين، لحديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق المسلم على المسلم خمس: ردُّ السلام، وعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» (1).

وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُودوا المريض، واتَّبِعوا الجنائز تذكركم الآخرة» (2).

وقد أجمع أهل العلم على أن حمل الجنازة فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وذهب جمهورهم إلى أن اتباعها وتشييعها سنة (3)، لحديث البراء بن عازب قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز» (4) قالوا: والمر هنا للندب لا للوجوب؛ للإجماع!! قلت: إن ثبت الإجماع فذاك، وإلا فلا فرق بين حكم الحمل والتشييع، والظاهر أن كليهما فرض كفاية، والله أعلم.

حمل الجنازة على أعناق الرجال:

السنة أن تُحمل الجنازة على أعناق الرجال، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وُضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها، أين تذهبون بها؟! يسمع صوتها كلُّ شيء إلا الإنسان، ولو سمعه صعق» (5).

وفيه أنه لا يشرع للنساء حمل الجنازة سواء كان الميت ذكرًا أو أنثى، ولا خلاف في هذا، لأن النساء يضعفن عن الحمل، وربما انكشف منهن شيء لو حملن، ويضاف إلى هذا ما يتوقع منهن من الصراخ عند حمله ووضعه، ولأن الجنازة لابد أن يشيعها الرجال، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال فيفضي إلى الفتنة (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1240)، ومسلم (2162).

(2) حسن: أخرجه أحمد (3/ 27)، والبخاري في «الأدب المفرد» (518)، وابن أبي شيبة (4/ 73) وغيرهم.

(3) «ابن عابدين» (1/ 624)، و «الفتاوى الهندية» (1/ 159)، و «الفتح» (3/ 112)، و «شرح مسلم» (1/ 188).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1239)، ومسلم (2066).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1314)، والنسائي (1/ 270)، وأحمد (3/ 41).

(6) «المجموع» (5/ 270)، و «الفتح» (3/ 217)، و «جامع أحكام النساء» (1/ 535).

 

(1/634)

 

 

الإسراع بالجنازة: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدَّمونها إليه، وإن يك سوى ذل فشرٌّ تضعونه عن رقابكم» (1).

والمراد بالإسراع: الزيادة على المشي المعتاد، لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة للميت أو مشقة على الحامل أو المشيِّع.

تنبيه: لا يُشرع حمل الجنازة على سيارة والاكتفاء بذلك عن حملها على الأعناق لأمور (2):

1 - أن هذا من عادات الكفار وقد أُمرنا بمخالفتهم.

2 - أنها بدعة في عبادة مع معارضتها للسنة العملية في حمل الجنازة.

3 - أنها تفوِّت الغاية من حملها وتشييعها، وهي تَذكر الآخرة.

4 - أنها سبب لتقليل المُشيِّعين لها لا سيما إن كان المشيعون لها في سياراتهم!!

5 - أن هذه الصورة لا تتفق مع ما عُرف عن الشريعة المطهرة السمحة من البعد عن الشكليات والرسميات، لا سيما في مثل هذا الأمر الخطير: الموت.

قلت: وقد نصَّ الفقهاء على كراهة حمل الجنازة على ظهر الدابة بلا عذر، أما إذا كان عذر كأن كان المحل بعيدًا يشق حمله على الرجال، فيجوز (3)، وأقوال: ينبغي حينئذ أن يوقفوا العربات ويحملوا الجنازة مسافة مناسبة تحقيقًا للسنة وغايتها.

اتباع الجنازة مرتبتان:

1 - اتباعها من عند أهلها حتى الصلاة عليها.

2 - اتباعها من عند أهلها حتى يُفرغ من دفنها، وكلاهما فعله النبي صلى الله عليه وسلم (4).

ولا شك أن المرتبة الثانية أفضل، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد الجنازة [من بيتها] حتى يُصَلَّى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن، فله قيراطان [من الأجر]» قيل: يا رسول الله، وما القيراطان؟ قال: «مثل الجبلين العظيمين، وفي رواية: كل قيراط مثل أُحُد» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1315)، ومسلم (944).

(2) انظر «أحكام الجنائز» للإمام الألباني -رحمه الله- (ص: 99) ط. المعارف.

(3) «ابن عابدين» (1/ 623)، و «المجموع» (5/ 270).

(4) انظر: «أحكام الجنائز» (ص: 87، 88).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1325)، ومسلم (945).

 

(1/635)

 

 

نهي النساء عن اتباع الجنازة:

هذا الفضل -المتقدم- في اتباع الجنائز إنما هو للرجال دون النساء، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهن عن اتباعها: فعن أم عطية قالت: «نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزم علينا» (1).

وقد حمل جمهور العلماء هذا النهي على الكراهة لا على التحريم (2) لقولها: «ولم يُعزم علينا».

لكن ... قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (24/ 355): «قد يكون مرادها: لم يؤكد النهي، وهذا لا ينفي التحريم، وقد تكون هي ظنت أنه ليس بنهي تحريم، والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا في ظنِّ غيره» اهـ.

أين يمشي المُشيِّعون للجنازة؟

يجوز المشي خلف الجنازة وأمامها، وعن يمينها ويسارها قريبًا منها، فعن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعُمر، كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها» (3).

لكن الأفضل المشي خلفها لأنه مقتضى الأدلة الآمرة باتباع الجنائز، ويؤيده قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «المشي خلفها أفضل من المشي أمامها، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذًّا» (4) وهذا مذهب الأوزاعي وأبي حنيفة وإسحاق خلافًا للجمهور (5).

ويجوز ركوب المشيِّعين، لكن خلف الجنازة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الراكب يسير خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها ...» (6).

وإن كان الأفضل المشي لأنه المعهود عنه صلى الله عليه وسلم، وروى ثوبان رضي الله عنه: «أن رسول الله أُتي بدابة -وهو مع الجنازة- فأبى أن يركبها، فلما انصرف أُتي بدابة فركب،

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1278)، ومسلم (938).

(2) «المجموع» (5/ 277)، و «فتح الباري» (2/ 599)، و «ابن عابدين» (1/ 208).

(3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1483)، والطحاوي (1/ 278)، وهو عند أبي داود (3179)، والترمذي (1077)، والنسائي (4/ 56) بدون (وخلفها)، وانظر «الإرواء» (739).

(4) حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 101)، وأحمد (1/ 97)، والبيهقي (4/ 25)، وحسنه الحافظ وقال: له حكم الرفع.

(5) «الأم» (1/ 240)، و «بداية المجتهد» (1/ 344)، و «فتح الباري» (3/ 219).

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (3180)، والترمذي (1031)، والنسائي (1/ 275)، وأحمد (4/ 247).

 

(1/636)

 

 

فقيل له، فقال: «إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبتُ» (1).

 

من آداب اتباع الجنائز:

1 - عدم اتباعها بمبخرة أو نار:

فقد اتفق الفقهاء على أن الجنازة لا تتبع بنار في مجمرة (مبخرة) ولا شمع ونحوه إلا لحاجة ضوء أو نحوه، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُتَّبع الجنازة بصوت ولا نار» (2). وفي سنده مقال، إلا أنه يتأيد بما صحَّ عن عمرو بن العاص أنه قال في وصيَّته: «فإذا أنا مِتُّ، فلا تصحبني نائحة ولا نار» (3).

وعن أبي هريرة أنه قال حين حضره الموت: «لا تضربوا عليَّ فسطاطًا، ولا تتبعوني بمجمر (وفي رواية: بنار)» (4).

وعن أبي موسى أنه أوصى حين حضره الموت قال: «إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بي المشي، ولا تتبعوني بمجمر ...» (5).

2 - الصمت عند اتباع الجنازة:

فلا يجوز رفع الصوت مع الجنازة لا بالذكر ولا بغيره، فعن قيس بن عُبَاد قال: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز» (6).

ولأن فيع تشبُّهًا بالنصارى، فإنهم يرفعون أصواتهم بشيء من أناجيلهم وأذكارهم مع التمطيط والتلحين والتحزين.

قال النووي في «الأذكار» (ص: 203): «واعلم أن الصواب المختار، وما كان عليه السلف رضي الله عنهم السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يُرفع صوتٌ بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي انه أسكنُ لخاطره، وأجمعُ لفكره

_________

(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3177)، والحاكم (1/ 355)، والبيهقي (4/ 23)، وانظر أحكام الجنائز (ص: 97).

(2) قواه الألباني بشواهد: أخرجه أبو داود (3171)، وأحمد (2/ 427)، وانظر «أحكام الجنائز» (ص 91).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (121)، وأحمد (4/ 199).

(4) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2/ 292).

(5) إسناده حسن: أخرجه ابن ماجه (1487)، وأحمد (4/ 397)، والبيهقي (3/ 395).

(6) رجاله ثقات: أخرجه البيهقي (4/ 74)، وابن المبارك في «الزهد» (83).

 

(1/637)

 

 

فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغترَّ بكثرة من يخالفه ....» اهـ.

قلت: وأما ما اعتاده الناس في زماننا من الذكر أمام الجنازة، وقول أحدهم «وحِّدوه!!» ورد المشيِّعين عليه. أو قوله «اشهدوا له!!» فبدعة نص الفقهاء على نحوها (1).

قال الألباني (2) -رحمه الله-: «وأقبح من ذلك تشييعها بالعزف على الآلات الموسيقية أمامها عزفًا

حزينًا كما يفعل في بعض البلاد الإسلامية تقليدًا للكفار، والله المستعان» اهـ.

3 - عدم جلوس المشيِّعين قبل وضع الجنازة:

عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع» (3) والمراد حتى توضع على الأرض عن الأعناق، وقيل: حتى توضع في اللحد.

وقد قال باستحباب القيام حتى توضع الجنازة، أكثر الصحابة والتابعين -كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وهو المختار عند الشافعية (4).

4 - هل يقوم عند مرور الجنازة؟ (5)

عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تخلِّفكم [أو توضع]» (6).

وعن جابر بن عبد الله قال: مرَّ بنا جنازة فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم، فقمنا به، قلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا» (7).

_________

(1) «ابن عابدين» (1/ 608)، و «الشرح الصغير» (1/ 229)، و «مغنى المحتاج» (1/ 247).

(2) «أحكام الجنائز» (ص: 92) ط. المعارف (1412 هـ - 1992 م).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1310)، ومسلم (959).

(4) «فتح الباري» (3/ 213)، و «المجموع» (5/ 280)، و «الاعتبار» للحازمي (ص: 138).

(5) «فتح الباري» (3/ 216)، و «المجموع» (5/ 280)، و «الاعتبار» (ص: 138)، و «الفتاوى الهندية» (1/ 160)، و «المحلى» (5/).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1307)، ومسلم (958).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (1311)، ومسلم (960).

 

(1/638)

 

 

وفي لفظ عن سهل بن حنيف وقيس بن سعد: «أليست نفسًا؟» (1).

لكن .. ذهب أكثر أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم إلى أن القيام للجنازة منسوخ بحديث علي بن أبي طالب قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم للجنازة فقمنا، ثم جلس فجلسنا» (2).

وفي لفظ: «... ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس» (3).

ذهب ابن حزم وابن حبيب وابن الماجشون من المالكية وبعض الشافعية -واختاره النووي- إلى أن قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام لبيان الجواز وأن الأمر كان للندب، وأن النسخ لا يُصار إليه إلا إذا تعذَّر الجمع وهو هنا ممكن.

 

صلاة الجنازة

حكمها:

الصلاة على الجنازة فرض كفاية -إذا فعله بعض المسلمين سقط عن الباقين- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه فضلاً؟ فإن حُدِّث أنه ترك وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: «صلوا على صاحبكم» (4).

وعن زيد بن خالد الجهني: «أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفى يوم خيبر فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صلوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: «إن صاحبكم غل في سبيل الله» ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز اليهود لا يساوي درهمين (5).

فضلها:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد الصلاة حتى يصلى

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1312)، ومسلم (961).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (962)، وابن ماجه (1544)، وأحمد (1/ 13).

(3) جوَّده الألباني: أخرجه أحمد (1/ 82)، والطحاوي (1/ 282)، وانظر «أحكام الجنائز» (ص: 101).

(4) أخرجه البخاري (1251)، والنسائي (1960).

(5) صححه الألباني. أخرجه مالك في الموطأ (2/ 14)، وأبو داود (2710)، والنسائي (4/ 64)، وابن ماجه (2848)، وأحمد (4/ 114، 5/ 192)، وانظر «الإرواء» (726).

 

(1/639)

 

 

عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى يدفن فله قيراطان. قيل وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين» (1).

وعن عبد الله بن عباس: «أنه مات ابن له بقديد -أو بعسفان- فقال: يا كريب انظر ما اجتمع له من الناس. قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته. فقال: تقول هم أربعون؟ قال: نعم. قال: أخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه» (2).

وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه» (3).

موقف الإمام من الجنازة:

القول الأول: أن يقف الإمام حذاء رأس الرجل، وحذاء وسط المرأة. وهو مذهب الشافعي

وأحمد وإسحاق (4)، وقد اختاره بعض الحنفية (5). قال الشوكاني: «وهو الحق».

واحتجوا بحديث أنس بن مالك: أن أبا غالب الخياط قال شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه [وفي رواية: رأس السرير] فلما رفع، أتى بجنازة امرأة من قريش -أو من الأنصار- فقيل له: يا أبا حمزة هذه جنازة فلانة ابنة فلان فصلِّ عليها، فصلى عليها، فقام وسطها [وفي رواية: عند عجيزتها، وعليها نعش أخضر] وفينا العلاء بن زياد العدوي. فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة قال: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم، قال: فالتفت إلينا العلاء فقال: احفظوا (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (945).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (948).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (947).

(4) «المجموع» للنووي (5/ 225).

(5) الهداية (1/ 462)، وشرح المعاني (1/ 284).

(6) صححه الألباني. أخرجه أبو داود (3194)، والترمذي (1034)، وحسنه، وابن ماجه (1494)، وأحمد (3/ 118، 204)، والبيهقي (4/ 33)، والطيالسي (2149)، وانظر: أحكام الجنائز للعلامة الألباني (ص: 138).

 

(1/640)

 

 

وحديث سمرة بن جندب قال: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها (1).

القول الثاني: أن يقف عند صدر الميت سواء في ذلك الرجل والمرأة وقد أجابوا عن حديث أنس المتقدم بأن وقوفهم عند وسط المرأة إنما كان من أجل الستر حيث لم تكن النعوش، واستشهدا بزيادة رواها أبو داود من حديث أنس المتقدم وهي: «قال أبو غالب: فسألت عن صنيع أنس في قيامه على المرأة عند عجيزتها. فحدثوني أنه إنما كان لأنه لم تكن النعوش، فكان يقوم الإمام حيال عجيزتها يسترها من القوم (2).

وقد أجاب الشيخ العلامة: الألباني على ما ذهب إليه الأحناف فقال: فهذا التعلي مردود من وجوه:

الأول: أنه صادر من مجهول، وما كان كذلك فلا قيمة له.

الثاني: أنه خلاف ما فعله راوي الحديث نفسه وهو أنس رضي الله عنه فإنه وقف وسطها مع كونها في النعش، ودل ذلك على بطلان ذلك التعليل ... إلخ (3).

وقال ابن حزم في المحلى: ويصلي على الميت بإمام يقف ويستقبل القبلة والناس وراءه صفوف،

ويقف من الرجل عند رأسه ومن المرأة عند وسطها ... إلخ (4).

يستحب أن يصفوا وراء الإمام ثلاثة صفوف وإن قلوا:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ميت يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب» (5).

وكلما كثر الجمع كان أفضل للميت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1332)، ومسلم (964) واللفظ له.

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3194).

(3) انظر: أحكام الجنائز وبدعها للألباني ص 139 في الهامش.

(4) المحلى لابن حزم (5/ 123).

(5) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (3150)، والترمذي (1033)، وابن ماجه (1490).

(6) صحيح: مسلم (947)، والترمذي (1034)، والنسائي (4/ 75).

 

(1/641)

 

 

اجتماع جنائز الرجال والنساء:

إذا اجتمع أكثر من ميت من الرجال والنساء، فإن للإمام أن يصلي على كل جنازة على حدة، ويجوز له كذلك أن يصلي عليهم صلاة واحدة، ويصف الجنائز واحدًا بعد الآخر ليكونوا جميعًا بين يدي الإمام، ويكون الرجال أمام والنساء (الأموات) مما يلي القبلة:

فعن نافع أن ابن عمر صلى على تسع جنائز جميعًا فجعل الرجال يلون الإمام والنساء يلين القبلة، فصفهن صفًّا واحدًا، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت على امرأة عمر بن الخطاب وابن لها يقال له: زيد، وُضعا جميعًا والإمام يومئذ سعيد بن العاص وفي الناس ابن عمر، وأبو هريرة، وأبو سعيد وأبو قتادة فوضع الغلام مما يلي الإمام فقال رجل: فأنكرت ذلك، فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة» (1).

يجوز للنساء الصلاة على الجنازة:

يجوز للنساء الصلاة على الجنازة إذا لم يتبعن الجنازة بل تَوافَق وجودهن حيث يصلى عليها:

فعن عبد الله بن الزبير: «أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرى ما نسى الناس، ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد» (2).

فائدة: في هذا الحديث أنه يجوز الصلاة على الجنازة في المسجد، لكن الأفضل الصلاة عليها خارج

المسجد في مكان مُعَد للصلاة على الجنائز، فقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم والغالب من فعله (3).

هل يصلى على بعض أجزاء الميت؟

قد وردت آثار تدور بين الضعف والإرسال عن بعض الصحابة أنهم صلوا على بعض أجزاء الميت:

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه النسائي (4/ 71)، والدارقطني (2/ 79)، والبيهقي (4/ 33)، وعبد الرزاق (6337).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (973)، وأبو داود (3173)، والنسائي (4/ 68).

(3) الوجيز (ص: 174).

 

(1/642)

 

 

- فعن خالد بن معدان أن أبا عبيدة صلى على رءوس بالشام (1).

- وروى عن أبي أيوب أنه صلى على رِجْل (2).

- وعن عمر أنه صلى على عظام بالشام (3).

وجملة الأقوال في هذه المسألة ثلاثة أقوال عن أهل العلم:

الأول: أنه يصلى عليه سواء قل البعض أم كثر وهو قول الشافعي وأحمد (4) وبه قال ابن حزم (5).

الثاني: إن وجد أكثر من نصفه غسل وصلى عليه وإن وجد النصف فلا غسل ولا صلاة وهو قول أبي حنيفة.

وقول مالك قريب من ذلك فذهب إلى أنه لا يصلى على اليسير منه (6).

 

الثالث: أنه لا يصلى عليه مطلقًا وهو قول داود (7).

قلت: والذي تميل إليه النفس أنه إن لم يكن قد صلى عليه فإنه يغسل ويصلى على ذلك الجزء ويدفن.

وإن كان قد صلى على الميت ثم وجد جزء منه فلا يصلى عليه ولكن يغسل ويدفن. والله تعالى أعلم.

لا يصلى على شيء من أجزاء الحي:

وذلك لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أنهم صلوا على ما فصل عن الحي، مع تواتر الأخبار بأنه أقيمت الحدود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعد وقطعت أيدٍ فلم يذكر أنهم غسلوا وصلوا على شيء منها، والله تعالى أعلم.

الصلاة على السقط والطفل:

أولا: الطفل: ونعني به من لم يبلغ الحلم، فإنه تشرع الصلاة عليه؛ فعن عائشة قالت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من صبيان الأنصار، فصلى عليه، قالت عائشة: فقلت: طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءًا، ولم

_________

(1) مرسل: أخرجه ابن أبي شيبة (4013)، والبيهقي (4/ 18).

(2) ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 40).

(3) مرسل: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 41).

(4) المجموع للنووي (5/ 214).

(5) المحلى لابن حزم (5/ 138 المسألة: 580).

(6) المجموع للنووي (5/ 214).

(7) المجموع للنووي (5/ 214).

 

(1/643)

 

 

يدرك، قال: أو غير ذلك يا عائشة؟ خلق الله عز وجل الجنة، وخلق لها أهلاً، وخلقهم في أصلاب آبائهم وخلق النار، وخلق لها أهلاً، وخلقهم في أصلاب آبائهم» (1).

ثانيًا: الصلاة على السقط:

لا خلاف بين أهل العلم أن السقط إذا استهل صارخًا أو عاطسًا صُلى عليه.

قال ابن المنذر (2): وأجمعوا على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل صُلي عليه اهـ.

وإنما وقع الخلاف في السقط إذا لم يستهل:

فذهب قوم إلى أنه لا يُصلَّى عليه، يروى ذلك عن جابر بن عبد الله وابن عباس، وبه قال الزهري، وهو قول الثوري، والأوزاعي، ومالك والشافعي، وأصحاب الرأي (3).

ويستدلون بما رواه جابر بن عبد الله والمسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرث الصبي حتى يستهل صارخًا» (4).

وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استهل المولود ورث» (5).

وذهب قوم إلى أنه يصلى عليه، يروى ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة وبه قال ابن سيرين، وابن

المسيب وهو قول أحمد وإسحاق (6).

واستدلوا بحديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (2662)، والنسائي (1/ 76)، واللفظ له، وأحمد (6/ 208).

(2) الإجماع ص30.

(3) شرح السنة للبغوي (5/ 373).

(4) صحيح: أخرجه الترمذي (1032)، والنسائي في «الكبرى» (6358، 6359)، وابن ماجه (1508، 2750، 2751)، والدارمي (4126)، وابن أبي شيبة (11603)، وعبد الرزاق (6608)، وابن حبان (6032)، والحاكم (4/ 348)، (1/ 363)، والبيهقي (4/ 8).

(5) في إسناده ضعف: أخرجه أبو داود (2920).

(6) شرح السنة للبغوي (5/ 373).

(7) صحيح: أخرجه الترمذي (1031)، والنسائي (4/ 358، 360)، وابن ماجه (1507)، وأحمد (4/ 247، 248) وغيرهم.

 

(1/644)

 

 

وقد أجاب إسحاق عن استدلال الفريق الأول فقال:

إنما الميراث بالاستهلال، أما الصلاة فإنه يصلى عليه لأنه نسمة كتب عليه الشقاء والسعادة (1).

وقد نقل الخطابي (2) عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أنهما قالا: كل ما نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر وعشر صلى عليه اهـ.

قال النووي -رحمه الله-: «والظاهر أن السقط إنما يصلى عليه إذا كان قد نفخت فيه الروح، وذلك إذا استكمل أربعة أشهر، ثم مات، فأما إذا سقط قبل ذلك فلا، لأنه ليس بميت كما لا يخفى. وأصل ذلك حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إله ملكًا ... ينفخ فيه الروح (3).

الصلاة على أهل البدع والكبائر والمعاصي:

حاصل كلام أهل العلم أنه يُصلَّى على كل مسلم ولو كان من أهل الكبائر والفُساق، أو من أهل البدع -ما لم يكفَّ- ببدعته- لكن إن ترك أئمة الدين وأهل الفضل الذي يُقتدى بهم الصلاة على أحدهم زجرًا لأمثالهم فهو حسن، كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على قاتل نفسه (4) وقال لأصحابه: «صلوا عليه».

وقد قال بهذا مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة (5).

الصلاة على من عليه دين:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت، عليه الدين، فيسأل: «هل ترك لدينه من قضاء». فإن حدِّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال «صلوا على

صاحبكم»، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفى وعليه دين فعليَّ قضاؤه ومن ترك مالاً فهو لورثته» (6).

_________

(1) شرح السنة للبغوي (5/ 373).

(2) «معالم السنن» للخطابي (1/ 268 - 269).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (978) وغيره.

(5) «المدونة» (1/ 165)، و «المغنى» (2/ 355)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 289).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (2298)، ومسلم (1619).

 

(1/645)

 

 

قال النووي -رحمه الله-: إنما كان يترك الصلاة عليه ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فلما فتح الله عليه عاد يصلي عليهم ويقضي دين من لم يخلف وفاء اهـ (1).

وعلى هذا فلا ينبغي لأحد من المسلمين أن يدع الصلاة على المدين من أجل دينه. والحمد لله رب العالمين.

الصلاة على قاتل نفسه:

للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا يصلى عليه وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، والأوزاعي (2) وحجتهم حيث جابر بن سمرة قال: أتُي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص (3) فلم يصلِّ عليه (4).

القول الثاني: يُصلَّى عليه وبه قال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء، وقد أجابوا عن حديث جابر المتقدم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجرًا للناس على مثل فعله، وصلَّت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من عليه دين زجرًا لهم عن التساهل في الاستدانة وعن إهمال وفائه وأمر أصحابه بالصلاة عليه فقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا على صاحبكم».

وقال القاضي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا (5).

القول الثالث: أن يتجنب أهل الفضل والصلاة الصلاة عليه وهو مروي عن مالك وغيره (6). وهو الأظهر.

وإليه جنح ابن تيمية حيث قال: «فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه، وأما

_________

(1) مسلم شرح النووي (11/ 60).

(2) مسلم شرح النووي (7/ 47).

(3) المشاقص: جمع مشقص وهو نصل السهم.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (978).

(5) انظر «النووي» شرح مسلم (7/ 47).

(6) «النووي» شرح مسلم (7/ 47).

 

(1/646)

 

 

أئمة الدين الذين يقتدى بهم فإذا تركوا الصلاة عليه زجرًا لغيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا حق، والله أعلم اهـ (1).

هل يصلى على شهيد المعركة؟

اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه لا يصلى عليه وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق وإحدى الروايات عن أحمد (2). وقد استدلوا بجملة أدلة منها:

1 - حديث جابر في قتلى أُحد مرفوعًا وفيه قال: «وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلِّ عليهم» (3).

2 - حديث أنس أن شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم [غير حمزة] (4).

3 - حديث أبي برزة في مقتل جليبيب وفيه قال: «فوضعه على ساعديه ليس له سرير إلا ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم قال: فحر له ووضع في قبره ولم يذكر غسلاً» (5).

القول الثاني: أنه تجب الصلاة على الشهيد وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وابن المسيب والحسن وإليه ذهب العترة (6) واستدلوا بجملة أدلة، منها:

حديث شداد بن الهاد أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وفي الحديث: «فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهو هو؟» قالوا: نعم. قال: «صدق الله فصدقه» ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدمه فصلى عليه

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (24/ 289).

(2) «نيل الأوطار» (4/ 54)، الأفنان الندية (2/ 295).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1343).

(4) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (3137) والزيادة له، والحاكم (1/ 520)، والبيهقي (4/ 10 - 11) وانظر «أحكام الجنائز» للألباني (73).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (2472)، والطيالسي (942)، وأحمد (4/ 421، 422، 425)، والبيهقي (4/ 21).

(6) «نيل الأوطار» (4/ 54)، و «الأفنان الندية» (2/ 295).

 

(1/647)

 

 

فكان فيما ظهر من

صلاته اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا أنا شهيد على ذلك (1).

حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أُحد بعد ثماني سنين صلاته على الميت كالمودع للأحياء والأموات (2).

ولهم جملة أدلة أخرى لا تصفو أسانيدها من انتقاد.

القول الثالث: وهو الأظهر والذي تميل إليه النفس وهو: أنه يجوز الفعل والترك فإن صلى على قتيل المعركة فحسن، وإن لم يصل عليه فحسن وهذا رأس ابن حزم (3) وهو إحدى الروايات عن أحمد واستصوبه ابن القيم (4).

وفيه العمل بجميع النصوص الثابتة.

فائدة: وأما شهيد غير المعركة فإنه يغسل ويصلى عليه كسائر الموتى. والله تعالى أعلم.

الصلاة على الغائب:

للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

الأول: أنه تجوز الصلاة على الغائب وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه (5) وعمدتهم في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم «نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى، وكبر أربع تكبيرات» (6).

الثاني: أنه لا يجوز الصلاة على الغائب؛ وأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي خاصة لا تعمم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة (7).

الثالث: وفيه تفصيل أنه تجوز الصلاة على الغائب الذي مات في أرض لم يُصلِّ عليه فيها أحد، وإن صلى عليه حيث مات لم يُصلَّ عليه صلاة الغائب لأن

_________

(1) صحيح: أخرجه النسائي (4/ 60)، وعبد الرزاق في «المصنف» (9597)، والحاكم في «المستدرك» (3/ 595 - 596)، والبيهقي (4/ 15 - 16).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (4042)، ومسلم (2296).

(3) «المحلى» لابن حزم (5/ 115).

(4) انظر «الأفنان الندية» (2/ 294).

(5) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 197).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (951)، من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

(7) «المحلى» لابن حزم (5/ 139).

 

(1/648)

 

 

الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه. وهو

مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية (1) رحمه الله، واختاره العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- وحجتهم: أنه لم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على غائب إلا على النجاشي لأنه مات بين أمة مشركة ليسوا أهل صلاة، ولو كان منهم من آمن فلا يعرف عن كيفية الصلاة شيئًا (2).

لا يجوز الصلاة على الكافر:

لا يجوز الصلاة على الكافر لقول الله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3).

وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} (4).

الصلاة على أطفال المشركين:

لا يجوز الصلاة على أطفال المشركين، لأن لهم حكم آبائهم إلا من حكمنا بإسلامه، مثل: أن يسلم أحد أبويه، أو يموت أو يسبى منفردًا من أبويه -فإنه يصلى عليه (5).

الحكم لو وجد ميت فلم يعلم أمسلم هو أم كافر:

الظاهر من أقوال أهل العلم في المسألة أن ينظر إلى العلامات من الختان والثياب والخضاب وغيرها من علامات المسلمين، فإن وجدت غسل وصلى عليه، وإن لم توجد علامات وكان في دار الإسلام غسل وصُلى عليه، وإن كان في دار الكفر لم يغسل، ولم يصل عليه. وقد نص عليه أحمد (6).

لو اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار:

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

_________

(1) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 197).

(2) «الشرح الممتع» لابن عثيمين (5/ 439).

(3) سورة التوبة، الآية: 84.

(4) سورة التوبة، الآية: 113.

(5) «المغنى» لابن قدامة (3/ 507، 508).

(6) «المغنى» لابن قدامة (3/ 478)، وانظر «المبسوط» للسرخسي (1/ 54)، و «المجموع» للنووي (5/ 213).

 

(1/649)

 

 

الأول: أنه إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين فلم يميزوا صلى عليه جميعهم ينوي المسلمين وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد (1).

الثاني: أنه إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، فإن كانت الغلبة للمسلمين غسلوا وصلى عليهم مع الغالب إلا من عرف أنه كافر، وإن كانت الغلبة لموتى الكفار لا يصلى عليهم إلا من عرف أنه مسلم بالسيما، فإذا استويا لم يصل عليهم لأن الصلاة على الكفار منهي عنها، ويجوز ترك الصلاة على بعض المسلمين. وهو مذهب أبي حنيفة (2).

 

أين يصلى على الجنازة؟

الصلاة على الجنازة في المصلى:

ويستحب الصلاة على الجنازة في المصلى لأن الغالب من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الجنائز كان في المصلى في مكان مُعد لذلك كما ورد:

- عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقًا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية جهة المشرق (3).

- وفي حديث أبي هريرة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي قال أبو هريرة: «إن النبي صلى الله عليه وسلم صف بهم بالمصلى فكبر عليه أربعًا» (4).

- وعن عبد الله بن عمر: «أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريبًا من موضع الجنائز عند المسجد» (5).

قال ابن حجر: ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان مُعد للصلاة عليها (6).

الصلاة على الجنازة في المسجد:

للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

_________

(1) «المغنى» لابن قدامة (3/ 477).

(2) «المغنى» لابن قدامة (3/ 477)، و «المبسوط» للسرخسي (1/ 54 - 55).

(3) «فتح الباري» (3/ 237).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1328)، ومسلم (952).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1329).

(6) «فتح الباري» (3/ 237).

 

(1/650)

 

 

الأول: وهو الكراهة، وإليه ذهب الحنفية والمالكية (1) وحجتهم ما أوردناه من أدلة في مسألة الصلاة على الجنازة في المصلى كما يستدلون بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له» (2).

الثاني: الجواز وهو مذهب الحنابلة (3) واستدلوا بحديث عائشة أنها قالت: «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد» (4).

الثالث: الندب إذا أمن تلويث المسجد وهو مذهب الشافعية (5) واستدلوا بحديث عائشة المتقدم، وبأن الصلاة عليه في المسجد أشرف.

 

صلاة الجنازة على القبر:

اختلف أهل العلم في صلاة الجنازة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة على ثلاثة أقوال (6):

الأول: يُصلَّى عليه، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وابن حزم وغيرهم، واستدلوا بما يلي:

1 - حديث ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى على قبر بعد ما دفن فكبر عليه أربعًا» (7).

2 - حديث أبي هريرة: «أن أسود -رجلاً أو امرأة- كان يقم المسجد فمات، ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بموته فذكره ذات يوم فقال: «ما فعل ذلك الإنسان؟» قالوا: مات يا رسول الله، قال: «أفلا آذنتموني؟» فقالوا: إنه كان كذا وكذا -قصته-

_________

(1) «فتح الباري» (3/ 224).

(2) صححه الألباني. أخرجه أبو داود (3191)، وابن ماجه (1517)، وأحمد (2/ 444، 455، 505)، وانظر السلسلة الصحيحة (2352).

(3) الموسوعة الفقهية (16، 36).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (973).

(5) الموسوعة الفقهية (16، 36).

(6) «الأم» (1/ 414)، و «المجموع» (5/ 210)، و «المدونة» (1/ 170)، و «المغنى» (3/ 500)، و «نيل المآرب» (1/ 66)، و «سنن الترمذي» رقم (1037)، و «المحلى» (5/ 139)، و «البدائع» (1/ 314).

(7) صحيح: أخرجه البخاري مطولاً (1247)، ومسلم (954) واللفظ له.

 

(1/651)

 

 

قال: فحقَّروا شأنه، قال: «فدلوني على قبره» فأتى قبره فصلَّى عليه» (1). وما في معناهما.

والقائلون بهذا القول منهم من أجاز الصلاة على القبر إلى ثلاثة أيام لا يصلَّى بعدها، ومنهم من أجازه إلى شهر، ومنهم: ما لم يبل جسده، ومنهم من أجازها أبدًا.

الثاني: لا تجوز الصلاة على القبر مطلقًا.

الثالث: لا تجوز الصلاة على القبر إلا إذا دفن قبل الصلاة عليه: والقولان مرويان عن النخعي وأبي حنيفة ومالك وحجتهم:

1 - أدلة النهي عن الصلاة في المقبرة وإلى القبور.

2 - احتجوا بزيادة وردت في حديث أبي هريرة - في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل أو المرأة السوداء- أنه قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينوِّرها بصلاتي عليهم» (2).

فقالوا: الصلاة على القبر من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

الراجح: الأدلة ثابتة في الصلاة على القبر ثبوتًا لا يُقابل بغير القبول، فأمل فيمن لم يُصلَّ عليه فالأمر أوضح من أن يخفى ولا تزال الصلاة مشروعة عليه ما عَلم الناس أنه لم يُصلِّ عليه أحد، وأما فيمن قد صُلِّي عليه فلمثل حديث السوداء المتقدم، ومعلوم أن الميت لا يدفن في عصره صلى الله عليه وسلم بدون صلاة عليه (3).

وأما أدلة النهي عن الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبور فإنها مخصصة بما سوى صلاة الجنازة بلا شك، فإن الذي نهى عن ذلك هو الذي صلَّى على القبر، فهذا قوله وهذا فعله ولا يناقض أحدهما الآخر (4).

وأما دعوى الخصوصية فلا تنهض، لأنها خلاف الأصل ولا تثبت إلا بدليل، والزيادة التي احتجوا بها فالصواب أنها مدرجة في هذا الإسناد وهي من مراسيل

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1337).

(2) أخرجه بهذه الزيادة مسلم (956) من طريق أبي الربيع وأبي كامل ثنا حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة.

(3) «الروضة الندية» (1/ 171).

(4) «المحلى» (5/ 139)، و «زاد المعاد» (1/ 195).

 

(1/652)

 

 

ثابت، بيَّن ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد، ولذا لم يُخرج البخاري هذه الزيادة (1).

ثم على فرض ثبوتها، فإن مجرد كون الله ينور القبور بصلاته صلى الله عليه وسلم على أهلها لا ينفي مشروعية الصلاة على القبر لغيره لا سيما بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا كما رأيتموني أصلي» (2) هذا، على أنه قد صلَّى بعض الصحابة على القبر خلف النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم، فالصواب أنه تجوز الصلاة على القبر لمن لم يُصلِّ على الميت لا سيما إن كان من أهل الفضل والصلاح،

والله أعلم.

 

أفعال صلاة الجنازة:

1 - التكبير:

(أ) عدد التكبيرات: قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير عدة صور:

الأولى: أربع تكبيرات:

- فعن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات» (3).

- وعن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعًا» (4).

- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مات رجل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فدفنوه بالليل، فلماأصبح أعلموه، فقال: ما منعكم أن تعلموني؟ قالوا: كان الليل، وكانت الظلمة فكرهنا أن نشق عليك، فأتى قبره فصلى عليه وكبر أربعًا» (5).

وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي وابن أبي أوفى، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وابن عامر، ومحمد ابن الحنفية، وعطاء، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، ومالك وأصحاب الرأي، وابن المبارك، والشافعي (6).

_________

(1) «فتح الباري» (عقب حديث (458)، و «سنن البيهقي» (4/ 47).

(2) «نيل الأوطار» (4/ 64) ط. الحديث.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1333)، ومسلم (951).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1334).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (954)، والنسائي (1/ 284).

(6) «المجموع» للنووي (5/ 189)، و «شرح السنة» للبغوي (5/ 342، 343)، و «الأم» للشافعي (1/ 413)، و «الدسوقي» (1/ 414)، و «كشاف القناع» (2/ 112).

 

(1/653)

 

 

الثانية: خمس تكبيرات:

- فعن عبد الرحمن بن أبي يعلى قال: كان زيد يكبر على جنائزنا أربعًا، وإنه كبر على جنازة خمسًا فسألته فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها (1).

- وروى عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستًّا، وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وعلى سائر الناس أربعًا (2).

قال الإمام الترمذي عن التكبير خمسًا: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من أصحاب النبي

صلى الله عليه وسلم وغيرهم، رأوا التكبير على الجنازة خمسًا (3).

الثالثة: سبع تكبيرات:

وقد ورد فيها حديث ضعيف وإنما ذكرتها إشارة إلى ضعف حديثها:

- فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد بالقتلى فجعل يصلى عليهم فوضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يجاء بتسعة فيكبر عليهم سبعًا حتى فرغ منهم» (4).

الرابعة: تسع تكبيرات:

- فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أُحد بحمزة فسجي ببردة ... ثم صلى عليه فكبر تسع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يصفون ويصلى عليهم وعليه معهم (5).

فائدة: قد ورد عن الصحابة -رضوان الله عليهم- آثار صحيحة في التكبير على الجنازة ثلاثًا، وأربعًا، وخمسًا، وستًّا، وسبعًا (6).

وقد أشار النووي -رحمه الله- إلى هذا الخلاف ثم قال: «.. ثم انقرض ذلك الخلاف وأجمعت الأمة الآن على أنه أربع تكبيرات بلا زيادة ولا نقص» (7) اهـ.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (957).

(2) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (11454).

(3) انظر الحديث رقم (1023).

(4) ضعيف: أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 503).

(5) إسناده حسن: أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 503).

(6) «الأوسط» (5/ 429)، و «ابن أبي شيبة» (1/ 497)، و «شرح المعاني» (1/ 497)، و «المحلى» (5/ 128).

(7) «المجموع» (5/ 187) وقد كذَّب ابن حزم هذا الإجماع في «المحلى» (5/ 126) بنحو ما ذكرته أعلاه.

 

(1/654)

 

 

قلت: لا يُحتج بإجماع يخرج منه عليٌّ وابن مسعود وأنس وابن عباس والصحابة بالشام والتابعون، والصحيح أنه يُعمل بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُلتفت إلى إنكار من أنكر، وإن كان الذي يظهر من أحاديث الباب أن الزيادة في التكبير على أربع إنما يُخصُّ بها أهل العلم والفضل كما بوب عليها الطحاوي رحمه الله، والله تعالى أعلم.

إذا ترك تكبيرة مما نواه (1):

من ترك تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الجنازة: فإن تركها سهوًا فإنه يكبِّرها ثم يسلِّم، فعن أنس أنه كبَّر على جنازة ثلاثًا ثم انصرف ناسيًا، فتكلم وكلم الناس، فقالوا: يا أبا حمزة، إنك كبرت ثلاثًا؟ قال:

«فصُفُّوا» ففعلوا فكبَّر الرابعة (2). وإن تركها الإمام عمدًا بطلت صلاته، ولا يُشرع سجود السهو على أي حال.

هل يرفع يديه مع التكبيرات؟

لم يصحَّ في هذا الباب حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم فيه فريقان (3):

الأول: قالوا: يرفع يديه في التكبيرة الأولى فقط، وهو مذهب الثوري ورواية عن أبي حنيفة ومالك وابن حزم واختاره الألباني، رحمهم الله جميعًا، وحجتهم:

1 - ما يروى عن أبي هريرة مرفوعًا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى» (4) وسنده تالف.

2 - ما يروى عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ثم لا يعود» (5) وسنده ضعيف.

3 - أنهم أجمعوا على الرفع في الأولى، ولم يأت فيما سواها شيء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجز فعله.

الثاني: قالوا: يرفع يديه في جميع التكبيرات: وبه قال أكثر أهل العلم: الشافعي وأحمد وإسحاق وهو رواية عن أبي حنيفة ومالك، وحجتهم:

_________

(1) «المغنى» (3/ 451)، و «ابن عابدين» (1/ 613)، و «الدسوقي» (1/ 411).

(2) في إسناده كلام. أخرجه عبد الرزاق (6417) من طريق معمر عن قتادة وفيها كلام.

(3) «المبسوط» (2/ 46)، و «المدونة» (1/ 160)، و «المجموع» (5/ 232)، و «كشاف القناع» (2/ 72)، و «الأوسط» (5/ 426)، و «المحلى» (5/ 128)، و «رفع اليدين» للبخاري (ص: 175)، و «أحكام الجنائز» (ص: 148).

(4) ضعيف جدًّا: أخرجه الترمذي (1077)، والدارقطني (2/ 75)، والبيهقي (4/ 38).

(5) ضعيف: أخرجه الدارقطني (2/ 75)، والعقيلي (3/ 449).

 

(1/655)

 

 

1 - ما يروى عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلَّى على الجنازة رفع يديه في كل تكبيرة» (1) والصواب وقفه على ابن عمر، وهو الآتي بعده.

2 - ما ثبت عن ابن عمر: «أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة، وإذا قام من الركعتين» (2).

3 - ونحوه عن ابن عباس، أشار إليه الحافظ في «التلخيص» (2/ 147) وصححه.

قلت: الأمر في هذا واسع وإن كان الأقوى القول الثاني لفعل ابن عمر -وهو أشد الصحابة اتباعًا

لسنة النبي صلى الله عليه وسلم- لاسيما عند من يرى أنه لا يفعله إلا بتوقيف، والله أعلم.

وهل يُشرع الاستفتاح في صلاة الجنازة؟ (3):

ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يشرع الاستفتاح في صلاة الجنازة، بل قال الشافعية والحنابلة: يكبر ثم يستعيذ ثم يقرأ.

وقال الثوري: يستفتح فيها، ورُوي عن أحمد مثله، قلت والظاهر أنه لا مانع منه.

قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة:

لأهل العلم في حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة قولان (4):

الأول: تجب قراءتها: وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وداود وابن حزم، وبه قال ابن عباس وأبو أمامة، ودليلهم:

1 - عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (5) قالوا: واسم الصلاة يتناول صلاة الجنازة.

2 - عن أبي أمامة قال: «السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مُخافتة، ثم يكبِّر ثلاثًا، والتسليم عند الآخرة» (6).

_________

(1) أعلَّ بالوقف. أخرجه الدارقطني في «العلل».

(2) إسناده صحيح: أخرجه البخاري في «رفع اليدين» (110)، والبيهقي (4/ 44).

(3) «المجموع» (5/ 193)، و «المغنى» (3/ 410).

(4) «المجموع» (5/ 191)، و «المغنى» (3/ 411)، و «المحلى» (5/ 131)، و «ابن عابدين» (1/ 611)، و «زاد المعاد» (1/ 192)، و «بداية المجتهد» (1/ 188).

(5) صحيح: تقدم مرارًا في «الصلاة».

(6) إسناده صحيح: أخرجه النسائي (4/ 75)، وعبد الرزاق (6428)، والبيهقي (4/ 39).

 

(1/656)

 

 

3 - عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: «صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: لتعلموا أنها سنة» (1).

وعند شيخ الإسلام أن قراءتها في الجنازة مستحبة لا واجبة.

الثاني: لا يقرأ في الجنازة بشيء من القرآن: وهو مذهب الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومالك وبه قال ابن عمر وعبادة بن الصامت من الصحابة، وحجتهم:

1 - أن عمل أهل المدينة أنه لا يقرأ في الجنازة (عند مالك).

2 - ما ثبت عن ابن عمر أنه: «كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة» (2).

3 - وعن أبي هريرة أنه سأل عبادة بن الصامت عن الصلاة على الميت؟ فقال: أنا والله أخبرك: «تبدأ فتكبِّر ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: اللهم إن عبد الله فلانًا كان لا يشرك بك شيئًا، أنت أعلم به، إن كان محسنًا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده» (3).

قلت: والقول الأول أرجح لما تقدم، وأما أثر ابن عمر فيمكن حمله على أنه لا يقرأ غير أم القرآن، وكذلك أثر عبادة ليس فيه حجة لا سيما ولم يذكر باقي التكبيرات ولا التسليم، فهل يقال: لا تجب؟! فالصواب أنها تقرأ، والله أعلم.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية:

يستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية لحديث أبي أمامة أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: «أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًّا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات الثلاث لا يقرأ في شيء منهن ثُم يسلم سرًّا في نفسه» (4).

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أكملها الصيغة التي في التشهد.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1335)، وأبو داود (3182)، والترمذي (1032)، والنسائي (4/ 75)، وابن ماجه (2495).

(2) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11404).

(3) إسناده حسن: أخرجه البيهقي (4/ 40).

(4) الشافعي في «الأم» (1/ 270)، والبيهقي (4/ 39) وصحح الحافظ إسناده.

 

(1/657)

 

 

إخلاص الدعاء للميت بعد سائر التكبيرات:

يستحب إخلاص الدعاء للميت بعد سائر التكبيرات، فعن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صليتم على الجنائز فأخلصوا لها الدعاء» (1).

من صيغ الدعاء في صلاة الجنازة:

- «اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، أو: من عذاب النار» (2).

- «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته

منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده» (3).

فائدة: الإسرار بالقراءة والدعاء:

ويسر بالقراءة والدعاء في صلاة الجنازة، وإن روى عن ابن عباس (4) أنه جهر بفاتحة الكتاب إلا أن ذلك كان للتعليم كما قال أحمد: إنما جهر ليعلمهم (5).

التسليم:

اختلف أهل العلم: هل يسلم تسليمة واحدة أم تسليمتين؟

أولاً: القائلون بالتسليمة: صح عن ابن عمر (6) وواثلة بن الأسقع (7) أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة.

كما روى ذلك عن علي وابن عباس وجابر وأبي هريرة وأنس بن مالك وابن أبي أوفى، وبه قال سعيد بن جبير، والحس، وابن سيرين، وأبو أمامة بن سهل،

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3197)، وابن ماجه (1497)، والبيهقي (4/ 40)، وابن حبان (3077).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (963).

(3) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (3201)، والترمذي (1024)، وابن ماجه (1498).

(4) البخاري (1335) وقد تقدم.

(5) «المغنى» لابن قدامة (3/ 412).

(6) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (11491).

(7) سنده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (11505).

 

(1/658)

 

 

والقاسم بن محمد، والحارث، وإبراهيم النخعي، والثوري، وابن عيينة، وابن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، ومالك، وأحمد، وإسحاق (1).

وهو قول مروي عن الشافعي (2).

ثانيًا: القائلون: يسلم تسليمتين:

ذهب إلى ذلك الشافعي وأصحاب الرأي، وهو ما اختاره القاضي (3).

وإليه ذهب أبو حنيفة (4).

وحجتهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

وحديث عبد الله بن أبي أوفى «أنه صلى على ابنته فكبر أربعًا ...» وفيه «ثم سلم عن يمينه وعن

شماله» (5) وقد رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: وهو حديث ضعيف.

المسبوق ببعض التكبير:

ذهب بعض أهل العلم إلى أن المأموم إذا سُبق بشيء من التكبير فإنه يقضي ما فاته، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وعطاء، والنخعي، والزهري، وابن سيرين، وقتادة، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وابن حزم (6).

واختلفوا: إذا قضى هل يدعو بين التكبير أم لا؟ فمذهب أبي حنيفة أن يدعو بين التكبير المقضي، وذهب مالك والشافعي إلى أنه يقضيه نسقًا (7). وحجة القائلين بالقضاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (8).

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يقضي ما فاته من تكبير، صح ذلك عن الحسن (9) وعن ابن عمر أنه لا يقضي وإن كبر متتابعًا فلا بأس (10).

_________

(1) «المغنى» لابن قدامة (3/ 418)، و «المدونة الكبرى» (1/ 170).

(2) «المجموع» للنووي (5/ 198 - 200).

(3) «المغنى» لابن قدامة (3/ 418).

(4) الموسوعة الفقهية (16/ 28).

(5) ضعيف: أخرجه البيهقي في سننه (4/ 43).

(6) «المغنى» لابن قدامة (3/ 423)، و «المحلى» لابن حزم (5/ 179).

(7) «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 190).

(8) صحيح: أخرجه البخاري (635)، ومسلم (602).

(9) صحيح: عبد الرزاق (5/ 64).

(10) «المغنى» لابن قدامة (3/ 423).

 

(1/659)

 

 

وعن أحمد قال: إذا لم يقض لم يبال (1).

 

دفن الميت، وما يتبعه

حكم دفن الميت:

دفن الميت فرض على الكفاية حتى لو كان الميت كافرًا:

1 - لحديث أبي طلحة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طُوىً من أطواء بدر ....» الحديث (2).

 

2 - وتقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ لما مات أبو طالب -كافرًا-: «... اذهب

فَوارِهِ» (3).

لا يدفن مسلم مع كافر، ولا كافر مع مسلم: بل يُدفن المسلم في مقابر المسلمين، والكافر في مقابر المشركين، كذلك كان الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر إلى عصرنا هذا (4).

إذا ماتت امرأة كتابية وهي حامل من رجل مسلم، أين تُدفن؟

قال الإمام أحمد: تدفن بين مقبرة المسلمين ومقبرة أهل الكتاب، فهي كافرة لا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذوا بعذابها، ولا تُدفن في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم فيتأذى بعذابهم، فتدفن منفردة، قالوا: ويجعل ظهرها إلى القبلة على جانبها ليكون وجه الجنين إلى القبلة على جانبه الأيمن، لأن وجه الجنين إلى ظهرها (5).

السنَّة: الدفن في المقبرة (6):

لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع، كما تواترت الأخبار بذلك، ولم يُنقل عن أحد من السلف أنه دُفن في غير المقبرة إلا ما تواتر أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم [وصاحبيه] دفنوا في حجرة عائشة رضي الله عنهان وهذا خاص بهم.

_________

(1) السابق.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (3976)، ومسلم (2875).

(3) إسناده ليِّن: تقدم تخريجه.

(4) انظر أدلة ذلك في «أحكام الجنائز».

(5) «المغنى» (2/ 563).

(6) «أحكام الجنائز» (ص: 173 وما بعدها).

 

(1/660)

 

 

ويستثنى كذلك شهداء المعركة: فإنهم يُدفنون في مواطن استشهادهم، ولا ينقلون إلى المقابر، لحديث جابر أنه لما جاءت عمته بأبيه وخاله -وقد استشهدا- لتدفنهما في المقابر «.. إذ لحق رجل ينادى: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعت بهما فدفناهما حيث قُتلا» (1).

يُكره دفن الميت في هذه الأوقات إلا لضرورة:

1، 2، 3 - وقت طلوع الشمس، واستوائها، وغروبها: لحديث عقبة بن عامر قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نُصلِّي فيهن، أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب» (2).

4 - الدفن ليلاً من غير ضرورة:

لحديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من أصحابه قُبض فكُفِّن في كفن غير طائل وقُبر ليلاً، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقبر الرجل بالليل حتى يُصلَّى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك» (3).

وذلك لأن الدفن في الليل مظنة قلة المصلين على الميت فنهى عن الدفن ليلاً حتى يصلى عليه نهارًا، لأن الناس في النهار أنشط في الصلاة عليه، فإن اضطروا لدفنه ليلاً خوف تغيره بسبب الحر أو نحوه، فيجوز الدفن ليلاً ولو مع استعمال المصباح والنزول في القبر، لحديث ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل رجلاً قبره ليلاً، وأسرج في قبره» (4).

 

صفة القبر:

1 - يستحب إعماق القبر وتوسيعه وتحسينه:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أُحد: «.. احفروا وأوسعوا وأعمقوا وأحسنوا ...» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3149)، والنسائي (4/ 79)، والترمذي (1771)، وأحمد (3/ 397).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (831)، وأبو داود (3176)، والترمذي (1035)، والنسائي (1/ 275)، وابن ماجه (1519).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (943)، وأبو داود (3148)، وأحمد (3/ 295 - 329).

(4) حسنه الألباني: أخرجه الترمذي (1063).

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1399)، والترمذي (1766)، والنسائي (4/ 8).

 

(1/661)

 

 

2 - يجوز في القبر اللحد والشق، والأول أفضل:

اللَّحد: هو الشق عرض القبر (جانبه) من جهة القبلة.

الشَّق: هو الضريح أو الحفرة التي تحفر لأسفل (كالنهر).

وقد جرى العمل عليهما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

واللحد أفضل وهو الذي اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فعن أنس قال: «لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يَلْحد، وآخر يُضَرِّح، فقالوا: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأُرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا النبي صلى الله عليه وسلم» (1).

وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «ألحدوا لي لحدًا، وانصبوا عليَّ اللَّبن نصبًا، كما صُنع برسول الله صلى الله عليه وسلم» (2).

قال النووي: «أجمع العلماء أن الدفن في اللَّحد والشقِّ جائزان، لكن إن كانت الأرض صُلبة لا

ينهار ترابها فاللَّحد أفضل، لما سبق من الأدلة، وإن كانت رخوة تنهار فالشق أفضل» اهـ (3).

 

من الذي يقوم بالدَّفن؟

1 - لا يجوز للنساء القيام بدفن الموتى (4): فإن المعهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي جرى عليه عمل المسلمين حتى اليوم أن يتولى الرجال الدفن، ولأن الرجال أقوى على ذلك، ثم لو تولته النساء لأفضى ذلك إلى انكشاف شيء من أبدانهن أمام الأجانب وهو غير جائز، وأصرح من هذا كله أن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّم أبا طلحة لدفن ابنته - وهو أجنبي عنها- كما سيأتي، ولم يقدِّ النساء، والله أعلم.

2 - من الأحق بدفن الميت؟

أولياء الميت وذوو رحمه أحق بإنزاله إلى قبره، لعموم قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (5).

ولحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: «غسَّلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبتُ أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئًا، وكان طيبًا حيًّا وميتًا، ووَلَىَ دفنه وإجنانه دون الناس أربعة:

_________

(1) حسن: أخرجه ابن ماجه (1557)، وأحمد (3/ 99).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (966)، والنسائي (1998)، وابن ماجه (1556).

(3) «المجموع شرح المهذب» (5/ 287).

(4) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 198) ط. التوفيقية.

(5) سورة الأنفال، الآية: 75.

 

(1/662)

 

 

عليٌّ والعباس والفضل وصالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحد لرسول الله لحدًا، ونصب عليه اللبن نصبًا» (1).

3 - ومن يدخل المرأة قبرها؟

(أ) محارمها: لعموم الآية الكريمة السابقة، ولحديث عبد الرحمن بن أبزى:

«أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كبَّر على زينب بنت جحش أربعًا، ثم أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: من يُدخل هذه قبرها؟ فقلن: من كان يدخل عليها في حياتها» (2).

(ب) زوجها:

وهو أحق من الغريب، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «وددت أن ذلك كان وأنا حي، فهيأتك ودفنتك ...» (3).

3 - يشترط فيمن يدفن الميت ألا يكون قد جامع أهله في تلك الليلة:

حتى إنه يُقدَّم الرجل الغريب الأجنبي في الدفن على المحرم والزوج إذا كان جامع أهله تلك الليلة.

فعن أنس قال: «شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل في قبرها» فنزل في قبرها فقبرها» (4).

وعن أنس: أن رقية لما ماتت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة» (5).

ومعنى قارف أهله: جامع زوجته.

صفة وضع الميت في القبر:

1 - السنة إدخال الميت من جهة رِجلى القبر:

لحديث أبي إسحاق قال: «أوصى الحارق أن يُصلِّي عليه عبد الله بن زيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قِبَل رجلى القبر، وقال: هذا من السنة» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه الحاكم (1/ 362)، وعنه البيهقي (4/ 53) وله شواهد.

(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 324)، والبيهقي (4/ 53).

(3) صحيح: تقدم تخريجه في غسل الرجل زوجته.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1342)، وأحمد (3/ 126).

(5) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 370)، والحاكم (4/ 47) بسند صحيح.

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (3195)، بسند صحيح.

 

(1/663)

 

 

2 - يُجعل الميت في قبره على جنبه الأيمن، ووجهه إلى القبلة: وعلى هذا جرى عمل أهل الإسلام من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا (1).

3 - يقول الذي يضعه في لحده:

«بسم الله، وعلى سنة (أو على ملة) رسول الله صلى الله عليه وسلم» (2).

4 - هل يُستر قبر المرأة بثوب عن أعين الناظرين حتى تدفن؟

قد ورد في هذا حديث ضعيف، لكن قال ابن قدامة في المغنى (2/ 501): والمرأة يخمر قبرها بثوب؟ لا نعلم في استحباب هذا بين أهل العلم خلافًا [ثم أورد آثارًا بهذا عن عمر وأنس، ثم قال:] لأن المرأة عورة ولا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون ... اهـ.

5 - يستحب أن يحثو من التراب ثلاث حثوات بيده بعد الفراغ من سد اللحد:

لحديث أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى على جنازة، ثم أتى الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثًا» (3).

6 - رفعُ القبر عن الأرض قليلاً نحو شبر ليتميز فَيُصان، وجَعْلُه مسنَّمًا: لحديث جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم أُلحد له لحد، ونصب عليه اللبن نصبًا، ورفع قبره من الأرض نحوًا من شبر» (4).

وعن سفيان التمار قال: «رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنَّمًا» (5).

7 - تعليم القبر بحجر أو نحوه، ليدفن إليه من يموت من أهله:

لحديث المطلب بن حنطب قال: «لما مات عثمان بن مظعون أخرجه بجنازته فدُفن، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر ذراعيه ... ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: «أتعلَّم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» (6).

_________

(1) «المحلى» (5/ 173).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3197)، والترمذي (1051)، وابن ماجه (1550) بسند صحيح.

(3) صححه الألباني. أخرجه ابن ماجه (1565)، وصححه في «الإرواء» (751).

(4) حسن: أخرجه ابن حبان (2160)، والبيهقي (3/ 410) بسند حسن.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1390).

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (3205)، والبيهقي (3/ 412).

 

(1/664)

 

 

يجوز دفن اثنين أو أكثر في القبر للضرورة:

فعن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع الرجلين من قتلى أُحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم» (1).

وفيه: أنه إذا دفن اثنان فأكثر يقدَّم أفضلهم.

وتُدفن المرأة مع الرجل للضرورة:

فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: «أنه كان إذا دفن الرجال والنساء جميعًا يجعل الرجل في القبر مما يلي القبلة، ويجعل المرأة وراءه في القبر» (2).

قال الشافعي في «الأم» (1/ 245): «ولا أحب أن تدفن المرأة مع الرجل على حال، وإن كان ضرورة ولا سبيل إلى غيرها كان الرجل أمامها وهي خلفه، ويجعل بين الرجل والمرأة في القبر حاجزًا من تراب» اهـ.

 

تعزية أهل الميت

يشرع للناس -الرجال والنساء- تعزية أهل الميت بما يُسليِّهم ويكفُّ من حزنهم، ويحملهم على الرضا والصبر، مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إن كانوا يستحضرونه، وإلا فبما تيسَّر مما يحقق الغرض ولا يخالف الشرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عزَّى أخاه المؤمن في مصيبة، كساه الله حُلَّة خضراء يُحبَر بها يوم القيامة» قيل: يا رسول الله، ما يُحبر؟ قال: «يُغبط» (3).

ومما ثبت في التعزية:

«لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عند بأجل مسمَّى، ... فلتصبر وتحتسب» (4).

تنبيه: يُكره الاجتماع للعزاء في مكان خاص «المأتم» (5):

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1343)، والنسائي (1/ 277)، والترمذي (1036)، وأبو داود (3138)، وابن ماجه (1514).

(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6378)، وثمة آثار أخرى تنظر في «جامع أحكام النساء» (1/ 556).

(3) حسنه الألباني. وانظر «الإرواء» (764).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1224)، ومسلم (923).

(5) «الأم» للشافعي (1/ 248)، و «فقه السنة للنساء» (ص: 202).

 

(1/665)

 

 

فإنه يجدد الأحزان، ويكلِّف المؤنة، وقد ورد فيه حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة» (1) فلا يتفق على مثل هذا الاجتماع، وإنما حسبما تيسَّرت التعزية قدِّم العزاء.

وأما ما يسمى بالخميس والأربعين والسنوية ونحو ذلك، فإنها من البدع المحدثة المخالفة لدين الله سبحانه وتعالى.

صناعة الطعام لأهل الميت.

السنة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه الطعام لأهل الميت، وقد ورد عن عبد الله ابن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فإنه قد أتاهم أمر يشغلهم» (2). وفيه ضعف، لكنه يتأيَّد بحديث عائشة أنها كانت إذا مات الميت من أهلها: «.. أمرت ببرمة من تلبينة» (3) فطُبخت ثم صُنع ثريد، فصبَّت التلبينة عليها، ثم قالت: كُلْنَ منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التلبينة مُجِمَّةُ (4) لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن» (5).

تنبيه: وأما ما اعتاده الناس من عكس هذه السنة وصناعة أهل الميت الطعام للمعزِّين فمكروه لأنه خلاف السنة، ولحديث جرير المتقدم.

 

ما ينتفع به الميت بعد موته

1 - دعاء المسلمين له:

قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (6).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ...» (7).

_________

(1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3132)، والترمذي (998)، وابن ماجه (1610) ويشهد له ما بعده.

(2) إسناده ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1612)، وأحمد (2/ 204).

(3) طعام يتخذ من دقيق وربما جعل فيها عسل.

(4) مجمة: أي مريحة.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (5417)، ومسلم (2216).

(6) سورة الحشر، الآية: 10.

(7) صحيح: أخرجه مسلم (2733) وغيره.

 

(1/666)

 

 

2 - قضاء الدين عنه من أي شخص:

لما تقدم من قضاء أبي قتادة لدين الرجل الذي مات (1).

3 - قضاء وليه الصوم عنه:

لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صوم، صام عنه وليُّه» (2) وهذا عام في قضاء رمضان وقضاء صيام النذر، وهذا أصح أقوال العلماء كما سيأتي تحريره في «الصيام» إن شاء الله.

4 - قضاء النذر عنه صومًا كان أو غيره:

فقد استفتى سعد بن عبادة، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: «اقض عنها» (3).

5 - ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة:

قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» (5).

6 - ما يَخَلِّفه من آثار صالحة وصدقات جارية:

قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (6).

ما حكم إهداء ثواب قراءة القرآن للميت؟

قال الله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (7) فالأصل أن لا ينتفع الميت بشيء من فعل الأحياء إلا ما خصَّه الدليل من هذا العموم مما تقدم ذكره، وأما ما عدا ذلك فإنه باقٍ على العموم كما هو مقرر في الأصول.

_________

(1) صحيح: تقدم في أول الباب.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (2761)، ومسلم (1638).

(4) سورة النجم، الآية: 39.

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3511)، والترمذي (1369)، والنسائي (7/ 241)، وابن ماجه (2137).

(6) صحيح: أخرجه مسلم (1631)، وأبو داود (2863)، والترمذي (1390)، والنسائي (6/ 251).

(7) سورة النجم، الآية: 39.

 

(1/667)

 

 

ولهذا لم يحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم الأمة على إهداء ثواب القراءة للأموات، ولم يرشدهم إلى ذلك، ولم يُنقل هذا عن أحد الصحابة -فيما نعلم- وإنما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم للاستغفار للميت فقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل» (1).

فعُلم أن القراءة لا يستفيد بها الميت، وهذا مذهب الشافعي خلافً للجمهور.

 

زيارة القبور وما يتعلق بها

تشرع زيارة القبور للاتِّعاظ بها وتَذَكُّر الآخرة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها [تذكركم الآخرة]» (2).

 

هل تشرع زيارة النساء للقبور؟

للعلماء في هذا ثلاثة أقوال: أحدها: التحريم، والثاني: يكره، والثالث: مباح من غير كراهة وهو رواية عن أحمد وبه قال مالك وبعض الأحناف (3)، وهو الراجح بشرط أن تكون الزيارة لأجل تذكر الموت والآخرة مع تجنب المحرمات، وذلك لأمور:

1 - لحديث أنس -الذي تقدم- «مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: «اتقي الله واصبري ...» (4) فلم ينهها عن الزيارة.

2 - ولزيارة عائشة قبر أخيها، فعن ابن أبي مليكة «أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول

الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها» (5).

3 - لقول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: «كيف أقول يا رسول الله؟ [تعني إذا أتت المقابر] قال: «قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3221)، وغيره.

(2) صحيح: يأتي تخريجه.

(3) «تهذيب السنن» لابن القيم (9/ 58 - عون المعبود) بتصرف.

(4) صحيح: البخاري (1283)، ومسلم (926).

(5) صحيح: الحاكم (1/ 376)، والبيهقي (4/ 78)، وأصله عند ابن ماجه (1569) مختصرًا وهو صحيح.

(6) صحيح: مسلم (974)، وأحمد (6/ 221)، وعبد الرازق (6712)، والبيهقي (4/ 79).

 

(1/668)

 

 

4 - ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «كُنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورورها ...» (1).

تنبيهات (2):

1 - إذا عُلم من حال النساء أنهن إذا ذهبن إلى القبور يصحن ويندُبن وينُحْن ويعددن على الأموات، ويفعلن البدع والمحرمات، فتحرم حينئذ زيارتهن للقبور.

2 - إذا عُلم من أحوالهن أنهن يذهبن إلى قبور من يطلقون عليهم الصالحين أو الأولياء، يلتمسن عندهم تفريج الكربات وقضاء الحاجات وكشف الغمات، فهذا شرك وتحرم حينئذ الزيارة بلا شك.

3 - إذا خصص النساء يومًا لزيارة القبور فيه، كما يحدث في أيام الجمع والأعياد ونحو ذلك فهذا من البدع.

4 - لا يجوز خروج النساء إلى المقابر وغيرها متبرجات متزينات متعطرات كما لا يخفى.

 

من الأذكار الثابتة عند زيارة القبور:

1 - «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم وما توعدون غدًا مؤجَّلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل (ويسمي المقابر)» (3).

2 - «السلام عليكم أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله [بكم] للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» (4).

3 - «السلام على أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون» (5).

_________

(1) صحيح: مسلم (977)، وأبو داود (3235) مختصرًا، والنسائي (4/ 89)، والترمذي (1054).

(2) «جامع أحكام النساء» (1/ 581) بتصرف وعنه كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 204).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (974)، والنسائي (1/ 287) وغيرهما.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (975)، والنسائي (2040)، وابن ماجه (1547).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (974)، وأحمد (6/ 221).

 

(1/669)

 

 

صحيح

فقه السنة

وأدلته

وتوضيح مذاهب الأئمة

أعده

أبو مالك كمال بن السيد سالم

مع تعليقات فقهية معاصرة

فضيلة الشيخ/ ناصر الدين الألباني

فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن باز فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين

الجزء الثاني

 

(2/1)

 

 

4 - كتاب الزكاة

 

(2/3)

 

 

تعريف الزكاة:

الزكاة لغة: مصدر «زكا الشيء»: إذا نما وزاد، فالزكاة هي: البركة والنماء والطهارة والصلاح (1).

والزكاة شرعًا: حصة مقدرة، من مال مخصوص، في وقت مخصوص، يصرف في جهات مخصوصة.

وسميت هذه الحصة المخرجة من المال «زكاة» لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه وتوفره في المعنى، وتقيه الآفات (2)، ولأنها تزكى نفس المتصدق (3) كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (4).

 

حكم الزكاة ومنزلتها

الزكاة فرض عين على كل من توفرت فيه شروط وجوبها، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقد تضافرت آياته في إيجاب الزكاة والعناية بها، حتى أنها قُرنت بالصلاة في اثنتين وثمانين آية، منها قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (5).

وقال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (6). وعظَّم الوعيد على الشح في إخراجها، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (7). وقد صح عن ابن عمر وجابر بن عبد الله أنهما قالا: «ما أُدى زكاته فليس بكنز» (8).

وأما السنة فقد جاءت بتأكيد وجوب الزكاة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب،

_________

(1) «المعجم الوسيط» (1/ 398).

(2) «المجموع» للنووي (5/ 324).

(3) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (25/ 8) بمعناه.

(4) سورة التوبة: 103.

(5) سورة البقرة: 110.

(6) سورة التوبة: 103.

(7) سورة التوبة: 34، 35.

(8) مصنف عبد الرزاق (4/ 107) بسندين صحيحين.

 

(2/5)

 

 

فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله عز وجل افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة من أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (1).

وقد اتفق الإجماع على فرضية الزكاة لم يخالف أحد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.

وأما منزلتها من الدين:

فالزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهي ثالثة دعائم الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً» (2).

ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ على الصحابة البيعة عليها:

فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» (3).

وأمر صلى الله عليه وسلم بقتال مانعي الزكاة:

فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ....» (4).

 

من فضائل وفوائد الزكاة

1 - أنها من صفات الأبرار أصحاب الجنة: قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (57)، ومسلم (56).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22).

(5) سورة الذاريات: 15 - 19.

 

(2/6)

 

 

2 - أنها من صفات المؤمنين المستحقين لرحمة الله: قال سبحانه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (1).

3 - أن الله ينميها ويربيها لصاحبها: قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2).

وقال صلى الله عليه وسلم: «من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يُرَبِّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل» (3).

4 - أن الله تعالى يظل صاحبها من حر يوم القيامة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ...» (4).

5 - أنها تزكي المال وتنميه وتفتح لصاحبها أبواب الرزق:

فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال ...» (5).

6 - أنها سبب لنزول الخيرات: ومنعها سبب في منعها، ففي الحديث: «... وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا» (6).

7 - أنها تكفر الخطايا والذنوب:

ففي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» (7).

8 - أنها دليل على صدق إيمان المزكي: وذلك أن المال محبوب للنفوس، والمحبوب لا يبذل إلا ابتغاء محبوب مثله أو أكثر، بل ابتغاء محبوب أكثر منه،

_________

(1) سورة التوبة: 71.

(2) سورة البقرة: 276.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1410)، ومسلم (1014).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (2588).

(6) ابن ماجه (4019) وغيره وصححه الألباني في «الصحيحة» (105) لشواهده.

(7) الترمذي (609)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (5/ 531) وهو محتمل للتحسين.

 

(2/7)

 

 

ولهذا سميت الزكاة صدقة، لأنها تدل على صدق طلب صاحبها لرضا الله عز وجل (1).

9 - أنها تزكي أخلاق المزكي، وتشرح صدره:

فالزكاة تنتشل صاحبها من زمرة البخلاء، وتدخله في زمرة الكرماء، وهي تشرح صدره، فإن الإنسان إذا بذل ماله -عن طيب نفس وسخاء- فإنه يجد في نفسه انشراحًا (2)

10 - أنها تصون المال وتحصنه من تطلع الفقراء وامتداد أيدي الآثمين.

11 - أنها عون للفقراء والمحتاجين: تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاء إن كانوا قادرين، وتساعدهم على ظروف العيش الكريم إن كانوا عاجزين، فتحمي المجتمع من مرض الفقر، والدولة من الإرهاق والضعف (3).

12 - أنها مساهمة من المسلم بواجبه الاجتماعي في رفد الدولة الإسلامية بالعطاء عند الحاجة، وتجهيز الجيوش، وصد العدوان، وفي إمداد الفقراء إلى حد الكفاية (4).

13 - أنها شكر لنعمة المال (5).

 

حكم منع الزكاة وعقوبة مانعها

1 - اتفق العلماء على أن من جحد وجوب الزكاة وأنكر فرضيتها، فهو كافر بالإجماع، لأنه مكذِّب بالقرآن والسنة، ومنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة (6).

2 - وأما من أقَرَّ بوجوبها، وامتنع من أدائها:

(أ) فرُوى عن أحمد أنه قال: «تاركها بخلاً يكفر كتارك الصلاة كسلاً» وقوَّى هذه الرواية بعض الحنابلة (7) واستدلوا لها بقوله تعالى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (8).

_________

(1) «الشرح الممتع» (6/ 12).

(2) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (2/ 25).

(3) «الفقه الإسلام وأدلته» (2/ 732).

(4) «الفقه الإسلام وأدلته» (2/ 732).

(5) «الذخيرة» للقرافي (3/ 7).

(6) «المغنى» (2/ 572)، و «المجموع» (5/ 334).

(7) «الشرح الكبير» مع الإنصاف (3/ 43)، و «المبدع» (1/ 308) و «الشرح الممتع» (6/ 7).

(8) سورة التوبة: 11.

 

(2/8)

 

 

قالوا: فالأخوة في الدين لا تنتفي إلا بخروج الإنسان من الملة، وقد رتب الله ثبوت الأخوة على هذه الأوصاف الثلاثة: التوبة من الشرك، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.

(ب) بينما ذهب جمهور العلماء إلى أن من منع الزكاة بخلاً من غير جحود لفرضيتها، فهو مرتكب لكبيرة من الكبائر، وإثم عظيم، وواقع تحت الوعيد الشديد بالعذاب الأليم يوم القيامة، ولكنه لا يخرج بهذا من الملة ما دام مقرًّا بوجوبها.

وهذا هو الصواب، ويؤيده ما في حديث أبي هريرة من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر مانع زكاة الذهب والفضة، وذكر عقوبته، قال بعد ذلك: «ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» (1).

ولو كان كافرًا لم يكن له سبيل إلى الجنة، والله أعلم.

وأما عقوبة مانع الزكاة في الدنيا: فقدرية، وشرعية:

فالقدرية (2): أن يبتلى الله تعالى كل من يبخل بحق الله وحق الفقير في ماله بالمجاعة والقحط، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين» (3).

وفي رواية: «إلا حبس عنهم القطر».

والشرعية:

(أ) أنه إذا كان مانع الزكاة في قبضة الحاكم، فإنه تؤخذ منه الزكاة قهرًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» ومن حقها الزكاة، قال أبو بكر رضي الله عنه بمحضر الصحابة «الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ...» (4).

وذهب الجمهور إلى أن مانع الزكاة إذا أخذت منه قهرًا لا يؤخذ معها شيء من ماله مستدلين بحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (987).

(2) «فقه الزكاة» (1/ 92).

(3) أخرجه الطبراني في الأوسط (4577)، والحاكم (2/ 136)، والبيهقي (3/ 346) وحسنه الألباني.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20).

(5) ابن ماجه (1789) بسند ضعيف.

 

(2/9)

 

 

وذهب الشافعي في القديم وإسحاق وبعض أصحاب أحمد، إلى أنه يؤخذ منه شطر ماله مع الزكاة عقوبة له (1).

واحتجوا بحديث: «.. ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله» (2).

وأجاب الأولون عن هذا الحديث بأنه منسوخ، وتعقب هذا بأن دعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ.

(ب) وإذا كان مانع الزكاة خارجًا عن قبضة الحاكم، فعلى الحاكم أن يقاتله، لأن الصحابة قاتلوا الممتنعين من أدائها.

وأما عقوبة مانع الزكاة في الآخرة: فقد وردت فيه عدة نصوص، منها:

1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (3).

2 - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من آتاه الله مالاً، فلم يؤدِّ زكاته، مُثِّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول: أنا كنزك، أنا مالك» ثم تلا هذه الآية: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ ..... بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (4) (5).

3 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أُحمى عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاته، إلا بُطح لها بقاع قرقرٍ، كأوفر ما كانت تستن عليه، كلما مضى عليه أخراها رُدَّت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بُطح لها بقاع قرقرٍ، كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان

_________

(1) «نيل الأوطار» (4/ 147)، و «الموسوعة الفقهية» (23/ 231) الكويت.

(2) أبو داود (1560)، والنسائي (5/ 15 - 17)، وأحمد (5/ 4) بسند حسن.

(3) سورة التوبة: 34، 35.

(4) سورة آل عمران: 180.

(5) البخاري (1403).

 

(2/10)

 

 

مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ....» (1).

 

شروط وجوب الزكاة

لا تجب الزكاة في الأموال إلا بشروط، فمن حكة الله عز وجل في فرض شرائعه، أنه جعل لها شروطًا أي: أوصافًا معينة لا تجب إلا بوجودها، لتكون الشرائع منضبطة.

إذ لو لم يكن هناك شروط لكان كل شيء يحتمل أنه واجب أو غير واجب ثم هناك موانع أيضًا تمنع وجوب الزكاة مع وجود الشروط، وجميع الأشياء لا تتم إلا بتوفر شروطها، وانتفاء موانعها (2).

وهذه الشروط على قسمين: شروط في من تجب في ماله الزكاة، وشروط في المال نفسه.

الشرط التي يجب توفرها في صاحب المال لتجب الزكاة عليه:

يشترط في صاحب المال الذي تجب فيه الزكاة شرطان:

1 - الحرية: فلا تجب الزكاة على العبد، لأنه لا يملك، والسيد مالك لما في يده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من باع عبدًا له مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» (3).

ولقول ابن عمر رضي الله عنهما: «ليس في مال العبد زكاة حتى يعتق» (4).

وعن كيسان بن أبي سعيد المقبري قال: «أتيت عمر بزكاة مالي مائتي درهم -وأنا مكاتب- فقال: هل عتقت؟ قلت: نعم، قال: اذهب فاقسمها» (5).

2 - الإسلام: فلا زكاة على الكافر بالإجماع، لأنها عبادة مطهِّرة، والكافر لا طهرة له ما دام على كفره، وإنَّما نقول لا تجب في ماله زكاة، ونعني أننا لا نلزمه بها حتى يسلم، فإنها لا تقبل منهم، فلا فائدة في إلزامهم بها، وقد قال تعالى:

_________

(1) مسلم (987)، وأبو داود (1642).

(2) «الشرح الممتع» (6/ 18).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (2379)، ومسلم (1173).

(4) البيهقي (4/ 108) بسند صحيح، وانظر «الإرواء» (3/ 252).

(5) مصنف ابن أبي شيبة بسند جيد كما في «الإرواء» (3/ 252).

 

(2/11)

 

 

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ....} (1). وليس معنى هذا أنه لا يحاسب على تركها، فإن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة على المعتمد في الأصول، والله أعلم.

هذا في الكافر الأصلي، أما المرتد -والعياذ بالله- (2) فإن كانت الزكاة قد وجب عليه في حال إسلامه فلا تسقط عنه بالردة -عند الشافعية والحنابلة- لأنها حق ثبت وجوبه فلم يسقط بردته كغرامة المتلفات.

وذهب الحنفية إلى أنها تسقط بالردة.

هل تجب الزكاة في مال الصغير والمجنون؟

للعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران:

الأول: لا تجب الزكاة في مالهما إما مطلقًا أو في بعض الأموال (3):

وبهذا قال الحنفية، وهو مروي عن بعض السلف.

قالوا: لأن الزكاة عبادة محضة كالصلاة، فهي تفتقر إلى نية، والصبي والمجنون لا تتحقق منهما النية.

ولأن الصبي والمجنون قد سقط عنهما التكليف فلا تجب عليهما.

ولأن الزكاة طهرة للمزكي، والتطهير إنما يكون من أرجاس الذنوب، ولا ذنب للصبي والمجنون.

ولأن في عدم الأخذ من مالهما حفاظًا على هذا المال، مع عدم استطاعتهما استثماره.

القول الثاني: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون مطلقًا (4):

وهو قول الجمهور، وهو قول عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعائشة وجابر بن عبد الله (5)، ولا يُعلم لهم من الصحابة مخالف إلا رواية ضعيفة عن ابن عباس لا يحتج بها.

_________

(1) سورة التوبة: 54.

(2) «الموسوعة الفقهية» (23/ 233 - الكويت)، و «فقه الزكاة» (1/ 115).

(3) «المغنى» (2/ 622)، و «بدائع الصنائع» (2/ 4 - 5)، و «المجموع» (5/ 329)، و «المحلى» (5/ 205)، و «فقه الزكاة» (1/ 125).

(4) «المحلى» (5/ 201)، و «المجموع» (5/ 329)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 17)، و «الموسوعة» (23/ 232)، و «الشرح الممتع» (6/ 26).

(5) انظر مصنف عبد الرزاق (6986 إلى 6992)، ومصنف ابن أبي شيبة (3/ 149)، و «سنن البيهقي» (4/ 107)، و «المحلى» (5/ 208)، والأموال لأبي عبيد (ص 448).

 

(2/12)

 

 

ويؤيد هذا القول:

- عموم النصوص الدالة على وجوب الزكاة في مال الأغنياء وجوبًا مطلقًا، ولم تستثنِ صبيًّا ولا مجنونًا.

- ما ورد عن عمر بن الخطاب قال: «اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة» (1).

أن مقصود الزكاة سد خلة الفقراء من مال الأغنياء، شكرًا لله تعالى، وتطهيرًا للمال، ومال الصبي والمجنون قابل لأداء النفقات والغرامات، فلا يضيق عن الزكاة.

أن الزكاة حق الآدمي فاستوى في وجوب أدائها المكلف وغير المكلف.

وهذا القول هو الراجح، وعليه فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة.

شروط المال لتجب الزكاة فيه؟

يشترط في المال حتى تجب فيه الزكاة شروط:

1 - أن يكون من الأصناف التي تجب فيها الزكاة: وستأتي تفصيلاً فيما بعد.

2 - أن يبلغ النصاب: وهو القدر الذي رتب الشارع وجوب الزكاة على بلوغه، فمن لم يملك هذا القدر وملك ما دونه، أو لم يملك شيئًا أصلاً فلا زكاة عليه، وهو يختلف باختلاف المال، كما سيأتي.

3 - أن يكون هذا المال مملوكًا ملكًا تامًّا:

والدليل على هذا الشرط (2): إضافة الأموال إلى أربابها في القرآن والسنة في مثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (3)، وقوله {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} (4) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض عليهم في أموالهم ...».

ولأن الزكاة هي تمليك المال للمستحقين له، والتمليك فرع عن الملك.

_________

(1) ضعيف: أخرجه الترمذي (641)، وموطأ مالك (بلاغًا)، والدارقطني (2/ 111)، وعبد الرزاق (6989) بسند ضعيف وانظر «الإرواء» (788).

(2) «فقه الزكاة» للقرضاوي (1/ 150).

(3) سورة التوبة: 103.

(4) سورة المعارج: 24.

 

(2/13)

 

 

فلابد في الزكاة من الملك، واختلف: أهو ملك اليد (الحيازة) أم ملك التصرف؟ أم أصل الملك؟ (1).

 

زكاة الديون

وعلى هذه الأوجه الثلاثة اختلف في زكاة الدَّيْن: هل يكون على الدائن باعتباره المالك الحقيقي للمال؟ أم يكون على المدين باعتباره المتصرف فيه والمنتفع به؟ أم يُعفى كلاهما لأن ملك كل منهما غير تام؟

وأعدل الأقوال في زكاة الدَّيْن أن يقال: إن الدين نوعان:

1 - دين مرجو الأداء، بأن يكون على موسر مقر بالدين، فهذا يعجل زكاته مع ماله الحاضر في كل حول.

رواه أبو عبيد في الأموال (ص 432) عن عمر وعثمان وابن عمر من الصحابة وغيرهم من التابعين.

2 - دين غير مرجو الأداء، بأن يكون على معسر لا يرجى يساره، أو على جاحد ولا بيَّنة، فقيل: يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنين (وهو مذهب علي (2) وابن عباس (3".

وقيل: يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة (وهو مذهب مالك).

وقيل: لا زكاة عليه لشيء مضى من السنين ولا زكاة لسنته أيضًا (وهو مذهب أبي حنيفة).

قال شيخ الإسلام (25/ 48): «وأقرب الأقوال: قول من لا يوجب فيه شيئًا بحال، حتى يحول الحول، أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض، فهذا القول له وجه، وهذا وجه» اهـ.

وقد صح عن عثمان بن عفان أنه قال: «هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده، حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة» (4).

_________

(1) انظر «مجموع الفتاوى» (25/ 45).

(2) إسناده صحيح: رواه عنه أبو عبيد في الأموال (431/ 1220)، وعنه البيهقي (4/ 150) بسند صحيح.

(3) إسناده ضعيف: رواه أبو عبيد في الأموال وضعفه الألباني في «الإرواء» (786).

(4) صحيح: أخرجه مالك (591)، وعنه الشافعي (1/ 237)، والبيهقي (4/ 148)، وهو صحيح كما في «الإرواء» (789).

 

(2/14)

 

 

وقالت عائشة: «ليس في الدين زكاة [حتى يقبضه]» (1).

فائدة:

من كان في يده مال تجب فيه الزكاة، وهو مدين، فإن كان هذا الدين مما يستغرق النصاب أو ينقص المال عن النصاب فلا زكاة فيه.

وإن كان الدين ينقص المال لكن لما فوق النصاب، فإنه يخرج ما يفي بدينه ويزكى الباقي، فمثلاً إذا كان ماله ثلاثون دينارًا وعليه خمسة، زكى خمسة وعشرين.

4 - أن يمر على الملك -عند المالك- عام هجري كامل: (حَوَلان الحَوْل).

وهذا يشترط في زكاة الذهب والفضة والماشية، أما الزروع والثمار فلا، فإن حولها عند اكتمالها واستوائها وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار (2).

وهاهنا يرد سؤال وهو:

حكم «المال المستفاد» في أثناء الحول؟

المال المستفاد أثناء الحول على ثلاثة أقسام (3):

1 - إذا كان المال المستفاد من ربح المال الذي عنده (من جنسه) كربح مال التجارة ونتاج الماشية، فهذا يجب ضمُّه إلى أصله، فيعتبر حوله بحول الأصل، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافًا (4).

2 - إذا كان المال المستفاد من غير جنس المال الذي عنده، كأن يكون ماله إبلاً، فيستفيد ذهبًا من إرث أو نحوه، فهذا المستفاد يُعتبر له حول من يوم استفادته إن كان نصابًا، وليس متعلقًا بحول المال الأصلي.

3 - إذا كان المال المستفاد من جنس المال الذي عنده -الذي بلغ النصاب- لكن ليس هذا المال المستفاد من نماء المال الأول، ومثاله: أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول، فيشترى أو يوهب له مائة أخرى، فهنا مذهبان:

_________

(1) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 32) من طريقين في كل منهما ضعف، وحسنه الألباني في «الإرواء» (784) بهما.

(2) «بداية المجتهد» (2/ 261 - 262)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 14).

(3) «المغنى» (2/ 626)، (3/ 32)، و «فتح القدير» لابن الهمام (1/ 510)، و «الموسوعة الفقهية» (23/ 244).

(4) الظاهر أن ابن حزم يخالف في هذا، انظر «المحلى» (6/ 83) وما بعدها.

 

(2/15)

 

 

الأول: أنه يضم المستفاد إلى المال الأول في النصاب وليس في الحول، فيزكى كلاًّ منهما باعتبار حوله الخاص. (وهو مذهب الشافعية والحنابلة).

الثاني: أنه يضم المستفاد إلى المال الأول -ويزكيهما جميعًا- عند تمام حول الأول (وهو مذهب الأحناف).

 

الأصناف التي تجب فيها الزكاة

اختلف أهل العلم في أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة اختلافًا كبيرًا، بين مضيِّق هذه الأصناف على ما وردت به النصوص الصريحة (1)، وبين مُوسِّع حتى يشمل كل مالٍ نامٍ، حتى إنه لم يشترط النصاب في بعضها!! (2).

ما وجهة «المضيِّقين» فيما ذهبوا إليه؟

نظرية ابن حزم ومن تبعه في قصر وجوب الزكاة على الأصناف الثمانية التي أخذ منها النبي صلى الله عليه وسلم، تقوم على أصلين (3):

1 - حرمة مال المسلم التي ثبتت بالنصوص، فلا يجوز أن يؤخذ شيء من ماله إلا بنص.

2 - أن الزكاة تكليف شرعي، والأصل براءة الذمم من التكاليف إلا ما جاء به النص، حتى لا نشرِّع في الدين ما لم يأذن به الله.

أما القياس، فلا يجوز إعماله، وخاصة في باب الزكاة.

ما وجهة «الموسِّعين» فيما ذهبوا إليه؟

أما الموسِّعون في الأصناف التي تجب فيها الزكاة، فأقاموا منهجهم على أصول منها:

1 - الاستدلال بعمومات نصوص الكتاب والسنة في أن كل مال فيه حق أو صدقة.

2 - أن كل غنى وكل مال في حاجة لأن يتزكى ويتطهر.

3 - اعتبار النماء والربح، قالوا: فمالك العمارات والمصانع التي قد تدر من الأرباح أضعاف ما تدره الأرض الزراعية، أولى بدفع الزكاة.

_________

(1) كأبي حزم ثم الشوكاني وصديق خان، رحمهم الله.

(2) كأبي حنيفة، رحمه الله.

(3) انظر «فقه الزكاة» (1/ 165).

 

(2/16)

 

 

4 - اعتبار المصلحة العامة لسد حاجة الفقير والمسكين وإقامة المصالح العامة للمسلمين.

الأصناف المتفق على وجوب الزكاة فيها

اتفق أهل العلم على وجوب الزكاة في تسعة أصناف:

1، 2 - الذهب والفضة (النقدين).

3، 4، 5 - الإبل والبقر والغنم (الماشية).

6، 7، 8، 9 - الحنطة والشعير والتمر والزبيب (1) (الزروع والثمار).

 

زكاة الذهب والفضة

إذا تحققت في الذهب والفضة ومالكهما الشروط التي تقدمت الإشارة إليها، فبلغا النصاب وحال عليهما الحول ونحو ذلك، فإنه يجب حينئذٍ إخراج الزكاة فيهما وتكون مرة واحدة في كل عام.

نصاب كل من الذهب والفضة ومقدار الزكاة فيهما

جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول ففيهما خمسة دراهم، وليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون دينارًا، فإذا كانت لك عشرون دينارًا، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار» (2).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أَواق من الوَرق صدقة، ...» (3).

ويستفاد منهما أمور:

الأول: أن نصاب الفضة (5) أوراق (4) = (200) درهمًا من الفضة الخالصة

= (595) جرامًا من الفضة.

_________

(1) الزبيب لم يثبت عند ابن حزم الحديث فيه، فلم يقل به، وقال بالثمانية الآخرين. وانظر «المحلى» (5/ 209).

(2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (1558)، والترمذي (616)، والنسائي (5/ 37)، وابن ماجه (1790)، وأحمد (1/ 121)، وقد صححه البخاري -كما نقله الترمذي عنه- وحسنه الحافظ في الفتح، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1391).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1484)، ومسلم (979).

(4) أواق: جمع أوقية وهي تساوي أربعين درهمًا بالاتفاق، فتكون الخمس أواق مساوية مائتي درهم.

 

(2/17)

 

 

وأن نصاب الذهب (20) دينارًا = (20) مثقالاً

= (85) جرامًا من الذهب عيار (24)

= (97) جرامًا من الذهب عيار (21)

= (113) جرامًا من الذهب عيار (18)

الثاني: أنه لابد من مرور الحول (السنة الهجرية الكاملة) على النصاب فما فوق حتى تجب فيه الزكاة.

الثالث: أن مقدار الزكاة في كل من الذهب والفضة = 2.5% = 1/ 40.

مثال توضيحي: رجل يملك (1/ 2) كيلو جرام من الذهب عيار (24)، فما مقدار الزكاة فيه إذا حال عليه الحول؟

فنقول: بما أن مقدار الذهب والمملوك يعتبر أكثر من النصاب (85جم) فإنه يجب فيه ربع العشر، فيكون المقدار الواجب إخراجه = 500 جرامًا × 1/ 40 = 12.5 جرامًا.

هل يُضم الذهب إلى الفضة لتكميل النصاب؟

إذا ملك رجل مقدارًا من الذهب دون النصاب، ومقدارًا من الفضة دون النصاب، فللعلماء في هذه المسألة قولان:

الأول: أنه يضم الذهب إلى الفضة ليكمل النصاب ثم يخرج الزكاة، وهو مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية وهو رواية عن أحمد وقول الثوري والأوزاعي) (1).

واستدلوا بأن نفعها متحد، من حيث إنهما ثَمنان، يقصد بهما الشراء.

والثاني: أنه لا يضم أحدهما إلى الآخر، وهو مذهب الشافعية ورواية عن أحمد، وقول أبي عبيد وابن أبي ليلى وأبي ثور (2) وابن حزم (3) واختاره الألباني (4) وابن عثيمين (5) وهو الراجح، إن شاء الله.

_________

(1) «الموسوعة الفقهية» (23/ 267).

(2) السابق.

(3) «المحلى» (6/ 83).

(4) «تمام المنة» (ص: 360).

(5) «الشرح الممتع» (6/ 107).

 

(2/18)

 

 

واستدلوا لهذا بما يأتي:

1 - عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة» (1) وقوله:

«ليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون دينارًا» (2).

فإنهما يدلان على أن من جمع الذهب إلى الفضة يكون قد أوجب زكاة كل منهما دون نصابه.

2 - القياس على البقر والغنم -وسيأتي بيانه- فإنه لا يكمل نصاب أحدهما بالآخر، مع أن المقصود واحد وهو التنمية، وكذلك لا يضم الشعير إلى البر حتى عند القائلين بضم الذهب إلى الفضة؟!! فإن الجنس لا يضم إلى غيره، والله أعلم.

فائدة: يستثنى من هذا، أموال الصيارف، فإنه يضم فيها الذهب إلى الفضة، لا ضم جنس إلى جنس، ولكن لأن المراد بهما التجارة، فهما عروض تجارة (3).

على القول بالضم، فهل يضم بالأجزاء أو القيمة؟

اختلف القائلون بضم الذهب إلى الفضة على قولين:

1 - فذهب مالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية إلى أن الضم يكون بالأجزاء (4):

بمعنى أن من كان عنده نصف نصاب من ذهب، ونصف نصاب من فضة وجبت عليه الزكاة، وكذلك لو كَان عنده ربع من هذا وثلاثة أرباع من هذا، وهكذا. ثم يخرج من كل من الذهب والفضة ربُع عشْره.

2 - وذهب أبو حنيفة إلى أن يضم أحدهما إلى الآخر بالتقويم في أحدهما بالآخر بما هو أحظ للفقراء، أي يضم الأكثر إلى الأقل (5).

فمثلاً: لو كان عنده نصف نصاب فضة، وربع نصاب ذهب، وكان ربع نصاب الذهب تساوي قيمته نصف نصاب فضة، فعليه الزكاة.

_________

(1) تقدم تخريجه قريبًا.

(2) تقدم تخريجه قريبًا.

(3) «الشرح الممتع» (6/ 109)، وانظر «المغنى» (3/ 2 - 3).

(4) «الموسوعة الفقهية» (23/ 267).

(5) «الموسوعة الفقهية» (23/ 267).

 

(2/19)

 

 

الزكاة في الأوراق النقدية «البنكنوت»

تكييفها الفقهي:

نظرًا لقلة تعامل الناس في هذه الأيام بالنقدين «الذهب والفضة» وتعاملهم بدلاً منهما بالعملات الورقية المعروفة «بأورق البنكنوت» فقد واجهت الفقهاء مشكلة «التكييف الفقهي للنقود الورقية» وانبرى علماء الشريعة لإطلاق الأحكام على هذا النوع الجديد من النقود على ضوء تكييفهم وتصنيفهم لهذه النقود.

وقد وقفت لأهل العلم في هذا الشأن على خمسة أقوال (1):

1 - أن هذه النقود سندات دَيْن على الجهة التي أصدرتها:

واعتمدوا على أن هذا هو وضعفها الحقيقي حسبما تقتضيه صيغة الإقرار بالمديونية المسجلة على كل ورقة نقدية، وبذلك طبقوا عليها أحكام التعامل بأسناد الديون (2).

ومن سلبيات هذا التكييف: أنه سيخضع هذه النقود للخلاف الذي تقدم بين العلماء في زكاة الدين فمن لا يرى إخراج زكاة الدين سيمنع إخراجها من هذه النقود.

وكذلك إذا كانت هذه النقود سندات دين، فلا يجوز البيع بها دينًا، للإجماع على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين، أضف إلى ذلك أنها إذا كانت سندات دين مغطاة بالذهب والفضة، فلا يجوز أن يشترى بها الذهب أو الفضة أصلاً، لأنه يشترط هنا التقابض وهو منعدم.

2 - أنها عرض من عروض التجارة وسلعة من السلع (3):

واعتمدوا على وصفها بأنها مال متقوم تختلف فيه الرغبات ويخضع لقانون العرض والطلب في ثبات قيمته، وبالتالي حاولوا تطبيق الأحكام الفقهية المتعلقة بعروض التجارة -والتي سيأتي بعضها- على هذه العملات.

_________

(1) «النقود .. وظائفها الأساسية وأحكامها الشرعية» لعلاء الدين زعتري (ص: 329 وما بعدها) وهي دراسة قيمة.

(2) وممن قال بهذا: مشيخة الأزهر، والعلامة الشنقيطي في «أضوءا البيان» (1/ 257).

(3) ممن قال بهذا: السعدي -رحمه الله - كما في «الفتاوى السعدية» (ص: 338 - 339) ولم يوافقه تلميذه ابن عثيمين، رحمه الله.

 

(2/20)

 

 

ومن سلبيات هذا التكييف: أنه سيفتح الباب للربا؛ فإن اعتبار هذه النقود عروضًا سيجيز بيع بعضها ببعض متفاضلاً ولو كانت من جنس واحد!! وهذا عين الحرام.

وكذلك فكونها من عروض التجارة فلا يجب فيها الزكاة إذا لم تكن معدة للتجارة والنماء!!

3 - أنها تشبه الفلوس المسكوكة من غير الذهب والفضة (كالنحاس والنيكل ...) (1).

فقالوا كأنها فلوس مسكوكة من الورِق، وهذه الفلوس تعتمد في قيمتها على العرف لا على قيمة المادة المصنوعة منها.

وهذه الفلوس ينظر إلهيا باعتبارين: باعتبار الأصل هي (عرض) لأن أصل النحاس والنيكل ونحوهما من العروض التي تباع وتشترى، وباعتبار ما صارت إليه هي (ثمن).

فمن نظر إلى الأصل ففيها السلبيات التي تقدمت في عروض التجارة.

ومن نظر إلى ما صارت إليه وأنها ثمن، بقيت عنده مشكلة وهي اختلاف الفلوس عن هذه العملات الورقية من عدة أوجه (2) مما يمنع إلحاق النقود الورقية بالفلوس التي تقل عنها درجة وكفاءة.

4 - أنها متفرعة من الذهب والفضة (3):

وقالوا: هي بديل عنهما، واعتمدوا على أن إصدار النقود الورقية يقتضي تغطيتها بالذهب أو الفضة، فإن كان غطاء العملة ذهبًا فحكمها حكم الذهب، وإن كان فضة فحكمها حكم الفضة.

ومن سلبيات هذا التكييف: أنه لا يوجد في العالم الآن عملتان متساويتان في القيمة، مع أنهما متفرعتان من جنس الذهب، فيلزم من هذا أنه لا يجوز التفاضل عند إبدال دينار كويتي بدينار ليبي -مثلًا- بل لابد من التماثل -على أساس أن جنسهما واحد- وبينهما فارق كبير!! ثم إن افتراض وجود غطاء كامل ذهبي أو

_________

(1) ممن قال بهذا: مصطفى الزرقا، كما نقله ابن منيع في «الورق النقدي» (ص 147).

(2) تنظر في «النقود» للزعتري (ص: 346 وما بعدها).

(3) ممن قال بهذا: الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية.

 

(2/21)

 

 

فضي للعملات الورقية منقوض بحكم الواقع الذي يؤكد أن النقود تعتمد كثيرًا على قوة الدولة ونفوذ سلطانها.

5 - أن النقود الورقية نقد قائم بذاته (1):

قالوا: لأن كل مال متقوَّم اعتمد عليه الناس في أداء وظائف النقود، فإنه يأخذ صفة الثمنية، وبالتالي يصلح أن يكون نقدًا، لاسيما وأنه لم يرد في الشرع حصر الثمنية في الذهب والفضة.

وقد لمَّح شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الناس لو اصطلحوا على جعل شيء ثمنًا أن يأخذ حكم الأثمان، فقال: «فإذا صارت الفلوس أثمانًا، وصار فيها المعنى، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل» (2).

وأكد -رحمه الله- أن الثمنية غير محصورة أو مقصورة على الذهب والفضة، وأن المرجع في هذا إلى العُرف والاصطلاح فقال: «وأما الدرهم والدينار فما يُعرف له حد طبيعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به ...» (3).

قلت: ولعل هذا القول الأخير، بأن النقود الورقية ثمن يجري عليها أحكام الأثمان هو الصواب والذي تنظم معه المعاملات المالية المختلفة.

 

نصاب الأوراق النقدية

من العلماء المعاصرين من رأى أن يعتبر زكاة الأوراق النقدية بنصاب الفضة، لكونه مجمعًا عليه، ولأن التقدير به أنفع للفقراء.

بينما ذهب آخرون إلى أن نصابها نصاب الذهب، لأن الفضة قد تغيرت قيمتها بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده حتى لم تعد لها قيمة تذكر، بخلاف الذهب فإن قيمته تعتبر ثابتة إلى حد كبير.

ثم إن نصاب الذهب مقارب لباقي الأنصبة في الزكاة كخمس من الإبل، أربعين من الغنم ونحو ذلك، إذ كيف يعقل أن لا يوجب الشرع الزكاة على

_________

(1) وبهذا قالت هيئة كبار العلماء بالسعودية (قرار (10) تاريخ 17/ 4/ 1393 هـ) والدكتور القرضاوي وغيرهم.

(2) «مجموع الفتاوى» (30/ 472).

(3) «مجموع الفتاوى» (19/ 251).

 

(2/22)

 

 

من يملك أربعًا من الإبل أو تسعًا وثلاثين من الغنم ويعتبره فقيرًا، ثم يوجب الزكاة على من يملك نصاب الفضة الذي لا يشتري به شاة واحدة ويعدُّه غنيًّا؟! (1).

ولا شك أن هذا المذهب أعدل، والله أعلم.

مثال توضيحي:

شخص يمتلك (2000) جنيه، وآخر يمتلك (100000) جنيه فما مقدار الزكاة في مال كل منهما إذا حال عليهما الحول؟

والجواب:

نحتاج أولاً على أن نعرف مقدار النصاب -وهو نصاب الذهب كما تقدم [85 جرامًا] فإذا فرض أن ثمن الجرام من الذهب = (30) جنيهًا، فيكون النصاب = 85 × 30 = 2550 جنيه وبما أن ما يمتلكه الشخص الأول أقل من النصاب فلا زكاة عليه إلا أن يتصدق.

وأما الشخص الآخر فيمتلك مبلغًا أكبر من النصاب فيجب عليه زكاة ربع العُشر:

مقدار الزكاة = 100000 × 40 = 2500 جنيه.

 

زكاة الحلي

اختلف أهل العلم من السلف والخلف في زكاة الحلي من الذهب والفضة على أقوال، أشهرها قولان:

الأول: أنه لا زكاة في حُلي الذهب والفضة المعتاد للمرأة (الملبوس):

وهو مذهب جمهور العلماء (2) وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة وأسماء بنت أبي بكر من الصحابة، وحجة القائلين به:

1 - حديث: «ليس في الحُلي زكاة» (3) وهو حديث باطل مرفوعًا، والصواب وقفه على جابر.

_________

(1) انظر: «فقه الزكاة» للقرضاوي (1/ 286 وما بعدها)، و «الفقه الإسلامي وأدلته» (2/ 760).

(2) الدر المختار (2/ 41)، وبداية المجتهد (1/ 242)، والمجموع (6/ 29)، والمغنى (3/ 9 - 17).

(3) ابن الجوزي في «التحقيق» وحكم عليه البيهقي وغيره بالبطلان، وانظر «الإرواء» (817).

 

(2/23)

 

 

2 - عن نافع أن ابن عمر «كان يُحلِّي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج منه الزكاة» (1).

3 - وقول ابن عمر: «ليس في الحلي زكاة» (2).

4 - قول جابر بن عبد الله: لما سئل عن الحلي أفيه زكاة؟ قال جابر: «لا»، فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار؟ فقال جابر: «كثير» (3) وفي رواية قال: «يُعار ويُلبس».

5 - عن عائشة أنها «كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة» (4).

6 - عن أسماء: أنها «كانت لا تزكي الحُلي» (5).

7 - قالوا: الزكاة إنما تكون في المال النامي المغل، والحلي المباح لا نماء فيه فهو كالثياب، بخلاف ما إذا ادخر واتخذ كنزًا أو أعد للتجارة، فتكون فيه الزكاة.

تنبيه: أصحاب هذا القول يشترطون أن يكون الحلي ما يباح، فإذا كان محرمًا كاتخاذ الرجل الذهب مثلًا ففيه الزكاة عندهم.

القول الثاني: أن حلي الذهب والفضة تجب فيه الزكاة مطلقًا إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول: سواء كان ملبوسًا أو مدخرًا أو معدًّا للتجارة (6). وحجة هذا القول (7):

1 - العمومات الواردة في الكتاب العزيز، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ...} (8).

_________

(1) صحيح: أخرجه مالك (585)، والبيهقي (4/ 138) بسند صحيح.

(2) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4/ 82)، ونحوه ابن أبي شيبة (3/ 154)، والدارقطني (2/ 109) بسند صحيح.

(3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4/ 82)، والبيهقي (4/ 138) بسند صحيح والرواية لابن أبي شيبة (3/ 155).

(4) صحيح: أخرجه مالك (584)، وعبد الرزاق (4/ 83)، وهو صحيح.

(5) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 155) بسند صحيح.

(6) وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد وابن حزم انظر «فتح القدير» (1/ 524)، و «الدر المختار» (2/ 41)، و «المحلى» (6/ 78) وهو قول ابن مسعود وعمر وعبد الله بن عمرو ورواية عن عائشة.

(7) انظر «جامع أحكام النساء» (2/ 143) وما بعدها لشيخنا مصطفى بن العدوي -حفظه الله-.

(8) سورة التوبة: 34.

 

(2/24)

 

 

2 - الأحاديث العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم الآمرة بإخراج زكاة الذهب والفضة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب لا يؤدي ما فيها إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها ...» (1).

3 - الأحاديث الخاصة الواردة بخصوص إخراج زكاة الحلي والوعيد لمن لم يخرجها ومنها:

(أ) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا، قال: «أيسرُّك أن يُسَوِّرك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟» قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله (2).

(ب) حديث عبد الله بن شداد قال: دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من وَرِق، فقال: «ما هذا يا عائشة؟» فقلت: صنعتهن أتزيَّن لك يا رسول الله، قال: «أتؤدين زكاتهن؟» قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: «هو حسبك من النار» (3).

(جـ) حديث أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها أسورة من ذهب فقال لنا: «أتعطيان زكاته؟» قالت: فقلنا: لا، قال: «أما تخافان أن يسِّوركما الله أسورة من نار؟ أدِّيا زكاته» (4).

4 - الآثار الواردة عن بعض الصحابة مثل:

(أ) أثر ابن مسعود: أن امرأة سألته عن زكاة الحلي؟ فقال: «إذا بلغ مائتي درهم فزكِّيه، قالت: إن في حجري يتامى لي أفأدفعه إليهم؟ قال: «نعم» (5).

_________

(1) تقدم تخريجه قريبًا.

(2) صحيح لشواهده: أخرجه أبو داود (1563)، والنسائي (5/ 38)، والترمذي (637)، وأحمد (2/ 178).

(3) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (1565)، والدارقطني (2/ 105)، والحاكم (1/ 389)، والبيهقي (4/ 139) وفي إسناده مقال ينجبر بما قبله.

(4) حسن لشواهده: أخرجه أحمد (6/ 461)، والطبراني في «الكبير» (24/ 181) وسنده حسن لشواهده المتقدمة.

(5) صحيح لغيره: أخرجه عبد الرزاق (4/ 83)، والطبراني (9/ 371) بسند صحيح لغيره.

 

(2/25)

 

 

(ب) أثر عمر: أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أن «اؤمر مَن قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهن [وفي رواية: أن يزكي الحلي] ولا يجعلن الهداية والزيادة تعارضًا بينهن» (1).

(جـ) أثر عبد الله بن عمرو: «أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة» (2).

(د) أثر عائشة: أنها قالت: «لا بأس بلبس الحلي إذا أعطى زكاته» (3).

وقد صح هذا المذهب عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، وعبد الله بن شداد، وسفيان الثوري وغيرهم، كما نقله شيخنا -حفظه الله- في «جامع أحكام النساء» (2/ 156 - 157).

الترجيح: وبعد عرض أدلة الفريقين، فالذي يترجح -عندي- والعلم عند الله تعالى أن القول بوجوب إخراج الزكاة من حلي الذهب والفضة على كل حال ما دام بلغ النصاب وحال عليه الحول هو الأقوى دلالة، والأحوط عملاً، وبه يخرج من الخلاف.

لا تجب الزكاة في الحلي من اللؤلؤ والجواهر

لا تجب الزكاة فيما دون الذهب والفضة كاللؤلؤ والمرجان والزبرجد والياقوت ونحوها بالاتفاق، إذ لا دليل على ذلك (4).

لكنها إذا كانت عروضًا معدَّة للاتِّجار فيها ففيها الزكاة كسائر العروض -عند الجمهور- وسيأتي هذا في موضعه، إن شاء الله.

إذا كان عند المرأة خواتيم من ذهب وبها فصوص من الجوهر، فكيف تزكيه؟

إن كان يمكنها نزع الجوهر دون إفساد للخاتم فإنها تزكي خواتيم الذهب -دون الجوهر- إذا كانت بلغت النصاب وحال عليها الحول، وإن لم يمكنها نزعه إلا

_________

(1) ابن أبي شيبة (3/ 153)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 217)، والبيهقي (4/ 139) وسنده مرسل.

(2) سنن الدارقطني (2/ 107) بسند حسن.

(3) الدارقطني (2/ 107)، والبيهقي (4/ 139) وسنده حسن.

(4) انظر «موطأ» مالك (1/ 250)، و «الأم» للشافعي (2/ 36)، و «المجموع» (6/ 6).

 

(2/26)

 

 

بفساد فإنه يُقدر ويخرج زكاة الذهب منه، وإن كانت هذه الخواتيم معدة للتجارة فإنه يخرج كذلك الزكاة عن قيمة الجواهر كعروض التجارة عند الجمهور.

هل تخرج الزكاة في الأواني والتحف الذهبية والفضية؟

استعمال الأواني من الذهب والفضة -لا سيما في الأكل والشرب ونحو ذلك- مُحرَّم لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (1).

ولا خلاف بين أهل العلم -حتى القائلين بعدم وجوب الزكاة في الحلي الملبوس والمستعمل- أن ما حُرِّم استعماله واتخاذه من الذهب والفضة تجب فيه الزكاة، سواء في ذلك الرجال والنساء لأن المعنى المقتضي للتحريم يعمها، وهو الإفضاء إلى السرف والخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، فيستويان في التحريم ... وإنما أبيح للنساء التحلي لحاجتهن إليه، للتزين للزوج، وليس هذا بموجود في الآنية ونحوها فتبقى على التحريم.

والتماثيل محرَّمة، ولو كانت من فضة أو ذهب تضاعفت حرمتها.

إذا ثبت هذا، فإن فيها الزكاة، بغير خلاف بين أهل العلم، ولا زكاة فيها حتى تبلغ نصابًا بالوزن أو يكون عنده ما يبلغ نصابًا بضمها إليه (2). [يعني من جنسه].

 

الزكاة في الرواتب وكسب الأعمال

الشخص الموظف أو العامل الذي يتقاضى مرتبًا شهريًّا أو أسبوعيًّا أو نحو ذلك لا يخلو من أحد أمرين:

الأول: أن يكون عنده مال بلغ النصاب ثم يستفيد مال الراتب كل شهر زيادة عليه:

فهذه هي الحالة الثالثة -التي تقدمت- من أحوال المال المستفاد في الحول (3) فلهذا المالك أن يجعل لنفسه جدول حساب لكسبه يخص فيه كل مبلغ من المبالغ التي يوفرها من الراتب ويضيفها على ماله ويخرج زكاة كل مبلغ بعد مضي الحول عليه من تاريخ امتلاكه إياه.

وإن أراد الراحة وسلك طريق السماحة، وطابت نفسه أن يؤثر جانب الفقراء

_________

(1) البخاري (5633)، ومسلم (2067).

(2) «المغنى» لابن قدامة (3/ 15 - 16).

(3) راجع حكم المال المستفاد.

 

(2/27)

 

 

وغيرهم من مستحقي الزكاة على جانب نفسه، زكى جميع ما يملكه من النقود، حينما يحول الحول على أول نصاب ملكه منها، وهذا أعظم لأجره، وأرفع لدرجته، وأوفر لراحته. وحينئذ يكون ما أضافه إلى المال بعد اكتمال أول نصاب عنده، قد دفعت زكاته معجلة قبل تمام حولها، وتعجيل الزكاة قبل تمام الحول جائز لا سيما إذا دعت الحاجة أو المصلحة إليه (1).

وله أن يفعل شيئًا ثالثًا: وهو أن يخرج زكاة الصافي [بعد ما يلزم معيشته ومن يعولهم] شهريًّا في كل شهر (2)، ثم يخرج زكاة ماله الذي كان عنده إذا حال حوله.

الثاني: أن لا يكون عنده مال بالغًا النصاب، وهو يستفيد هذا الراتب شهريًّا:

فإذا كان يدخر كل شهر مبلغًا معينًا فلا تجب عليه الزكاة، حتى يبلغ النصاب أو يكمل مع ماله المدخر نصابًا، فحينئذ يبدأ في حساب الحول، ويكون كالحالة التي تقدمت.

 

زكاة الصداق

صداق المرأة (المهر) مال كسائر الأموال، فيفعل فيه ما يفعل في الأموال:

1 - فإذا كانت المرأة قبضت مهرها، وكان مما يؤخذ منه الزكاة، وبلغ النصاب أو أكثر، فإذا حال عليه الحول أخرجت زكاته.

2 - إذا كان صداقها مؤجلاً (مؤخرًا)، فله حكم الديون -وقد تقدمت- فإن كان زوجها موسرًا وفيًّا وجب عليها إخراج الزكاة في صداقها الذي هو في ذمة زوجها، لأنه مرجو الأداء، وإن كان معسرًا، فلا يجب عليها إخراج زكاته على الراجح، فإذا قبضت مهرها أخرجت الزكاة لسنة واحدة.

3 - إذا قبضت المرأة صداقها، ثم طُلقت قبل الدخول، وكان حال عليه الحول، وهو بالغ النصاب، فإنها تخرج الزكاة عن نصف الصداق ويخرج زوجها عن النصف الآخر، والله أعلم (3).

_________

(1) من فتاوى اللجنة الدائمة، وفتاوى العلامة ابن باز -رحمه الله- «فتاوى إسلامية» جمع المسند ص 76.

(2) «فقه الزكاة» للقرضاوي (1/ 549).

(3) انظر «المغنى» (3/ 52)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 165)، وكتابي «فقه السنة للنساء» (ص 217).

 

(2/28)

 

 

زكاة المواشي

أصناف الحيوان التي تؤخذ منها الزكاة:

أجمع العلماء أن الزكاة تؤخذ من الإبل والبقر والغنم، واستدلوا لذلك بأحاديث كثيرة يأتي بعضها في موضعه، إن شاء الله.

ثم اختلفوا في الخيل (1): فذهب الجمهور -ومنهم صاحبا أبي حنيفة- إلى أن الخيل التي ليست للتجارة لا زكاة فيها- ولو كانت سائمة واتخذت للنماء- سواء كانت عاملة أو غير عاملة.

ويؤيد مذهبهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة» (2) بينما ذهب أبو حنيفة وزفر إلى أن الخيل إذا كانت سائمة ذكورًا وإناثًا ففيها الزكاة وليس في ذكورها منفردة زكاة لأنها لا تتناسل، وكذلك في الإناث المنفردات!! واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر ... [وفيه] ولم ينس حق الله في رقابها، ولا ظهورها» (3).

قال: فحق الرقاب الزكاة.

أما سائر الحيوان كالبغال والحمير وغيرها، فليس فيه زكاة، ما لم تكن للتجارة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث «الخيل لرجل آخر ....» لما سئل عن الحمير قال: «لم ينزل عليَّ فيها إلا هذه الآية الفاذَّة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (4) (5).

شروط وجوب الزكاة في المواشي:

يشترط في المواشي لتجب فيها الزكاة ثلاثة شروط:

1 - النصاب: وسيأتي بيانه.

2 - حولان الحول: لحديث: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (6).

_________

(1) «المغنى» (2/ 620)، و «فتح القدير» (1/ 502)، و «شرح المنهاج» (2/ 3)، و «الموسوعة» (23/ 262).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1464)، ومسلم (628).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (2371)، ومسلم (987).

(4) سورة الزلزلة: 7.

(5) الحديث السابق.

(6) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1792) وهو ضعيف وإن كان صححه الألباني في «صحيح الجامع» (7497) لكن العمل على مقتضاه في الماشية، وانظر «المحلى» (5/ 267).

 

(2/29)

 

 

3 - أن تكون سائمة: أي راعية في الكلأ المباح أكثر العام.

المواشي أربعة أقسام:

يمكن تقسيم المواشي (الإبل والبقر والغنم) إلى أربعة أقسام هي (1):

1 - أن تكون سائمة: وهي أن تكون راعية في كلأ مباح أكثر العام، وتكون معدة للدر والنسل، كما قال تعالى {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (2). فهذه التي فيها الزكاة.

2 - أن تكون معلوفة: وإن كانت متخذة للدر والنسل لكن صاحبها يشتري لها العلف أو يحصده لها، فليس فيها زكاة.

3 - أن تكون عاملة: كالإبل التي يؤجرها صاحبها للحمل على ظهورها والركوب عليها وكبقر الحرث والسقي، ولا زكاة فيها عند الجمهور (3) خلافًا للمالكية.

4 - أن تكون معدَّة للتجارة: فهذه فيها زكاة كعروض التجارة، فقد تجب الزكاة في بعير واحد إذا كانت قيمته تساوي النصاب، سواء كانت سائمة أو معلوفة أو مركوبة.

 

زكاة الإبل

أنصبة الزكاة في الإبل والقدر الواجب فيها:

من ملك أقل من خمس من الإبل -ذكورًا أو إناثًا، صغارًا أو كبارًا- فليس عليه زكاة.

فعن أبي سعيد الخُدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ من الإبل صدقة» (4).

أما ما زاد على الخمس، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المقادير الواجبة في زكاتها في حديث أنس في كتاب أبي بكر إليه، وها هو بنصه لكثرة الحاجة إليه بعد ذلك:

عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سُئلها من المسلمين على وجهها فليُعطِها، ومن

_________

(1) «الشرح الممتع على زاد المستنقع» (6/ 52 - 53).

(2) سورة النحل: 1.

(3) شرح «فتح القدير» (1/ 509)، و «المغنى» (2/ 576).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1447)، ومسلم (979) وقد تقدم.

 

(2/30)

 

 

سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة، إذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستًّا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت -يعني ستًّا وسبعين إلى تسعين- ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها» (1).

وبناء على هذا الحديث، تؤخذ الزكاة من الإبل حسب الجدول التالي:

عدد الإبل المملوكة ... مقدار الواجب فيها

من ... إلى

1 ... ليس فيها زكاة

5 ... 14 ... (1) شاة واحدة ... 10 ... 19 ... (2) شاتان ... 15 ... 24 ... (3) ثلاث شياه ... 20 ... (4) أربع شياه

25 ... (1) بنت مخاض (2) [وهي أنثى الإبل التي أتمت سنة ودخلت في الثانية، وسميت بذلك لأن أمها لحقت بالمخاض وهي الحوامل]

36 ... (1) بنت لبون [وهي أنثى الإبل التي أتمت سنتين ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك لأن أمها وضعت غيرها وصارت ذات لبن]

46 ... (1) حقَّة [وهي أنثى الإبل التي أتمت ثلاث سنين ودخلت الرابعة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يطرقها الفحل]

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1454)، وأبو داود (1567)، والنسائي (5/ 18).

(2) فإن لم توجد، فيجزئ عنها ابن لبون ذكر -كما سيأتي-.

 

(2/31)

 

 

61 ... (1) جذعة [وهي أنثى الإبل التي أتمت أربع سنين ودخلت في الخامسة]

76 ... 120 ... (2) بنتا لبون

91 ... (2) حقتان

 

قلت: هذه هي الأعداد والمقادير هي التي وردت في حديث أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انعقد الإجماع عليها (1).

وأما إذا زاد عدد الإبل عن مائة وعشرين، فالمعمول به عند أكثر العلماء -خلافًا للحنفية (2) والنخعي والثوري- يمثله الجدول التالي، ومضمونه: أن في كل خمسين: حقة، وفي كل أربعين: بنت لبون، وهو الوارد في الحديث السابق:

عدد الإبل المملوكة ... مقدار الواجب فيها

من ... إلى

121 ... 139 ... (3) بنات لبون

130 ... 149 ... (1) حقة + (2) بنتا لبون

140 ... 159 ... (2) حقة + 1 بنت لبون

150 ... 169 ... (3) حقاق

160 ... 179 ... (4) بنات لبون

170 ... 189 ... (3) بنات لبون + (1) حقة

180 ... 199 ... (2) بنتا لبون + (2) حقتان

190 ... 209 ... (3) حقاق + (1) بنت لبون

200 ... (4) حقاق + (5) بنات لبون

 

وهكذا: ما دون العشر عفو، فإذا كمُلت عشرًا انتقلت الفريضة ما بين الحقائق وبنات اللبون على أساس ما ذكرنا أن في كل (50): حقة، وفي كل (40) بنت لبون (3).

_________

(1) «المجموع» (5/ 400)، و «الأموال» لأبي عبيد (ص: 363)، و «المغنى» (2/ 577).

(2) فذهب الحنفية إلى أن الفريضة تستأنف بعد (120) ففي كل خمس مما زاد عليها: شاة، بالإضافة إلى الحقتين، فإذا بلغ الزائد ما فيه بنت مخاض أو بنت لبون، وجبت إلى أن يبلغ الزائد ما فيه حقة فتجب [انظر «فتح القدير» (1/ 497)].

(3) انظر «فقه الزكاة» للدكتور يوسف القرضاوي -حفظه الله- (1/ 195).

 

(2/32)

 

 

تنبيه: الأعداد المذكورة في الجدول يجمع فيها كل أنواع الإبل من بُخت (ما لها سنامان) وعراب وغيرها لأن مسمى الإبل يصدق عليها جميعًا.

من وجب عليه إخراج سنِّ معينة حسبما تقدم ولم تكن عنده ماذا يفعل؟

من وجبت عليه سنٌّ معينة، فلم يكن في إبله ذلك السن، فله أن يخرج من السن الذي تحته -مما يجزئ في الزكاة (1) - ويعطى الساعي فوقها شاتين أو عشرين درهمًا [والمقصود بالدرهمين التقويم لا التعيين بمعنى أنها ثمن الشاتين] أو أن يخرج من السن التي فوقه، ويأخذ من الساعي [الذي يجمع الزكاة] شاتين أو عشرين درهمًا، هذا عن كل واحدة مما وجب عليه.

فعن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم: «من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل من الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل من الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطى شاتين أو عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطى معها عشرين درهمًا أو شاتين» (2).

ويستنبط من الحديث كذلك (3) أنه إذا لم يجد ما وجب عليه، لكن وجد ما هو أرفع بدرجتين أو أدنى بدرجتين فإن يدفعه ويكون الفارق أربعين درهمًا وأربع شياه جبرانًا وهكذا.

ويستثنى من القاعدة السابقة: أنه إذا وجب عليه بنت مخاض، ولم يكن عنده ابنة لبون، بل كان عنده ابن لبون ذكر، فإنه يجزئ عن بنت المخاض دون أن يدفع أو يأخذ معه شيئًا.

لحديث أنس أيضًا في كتاب أبي بكر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة، وفيه: «فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه وليس معه شيء» (4).

_________

(1) وهي على الترتيب: بنت مخاض، ثم بنت لبون، ثم الحقة، ثم جذعة الإبل.

(2) البخاري (1453)، وابن ماجه (1800).

(3) انظر «فتح الباري» (3/ 371).

(4) البخاري (1448)، والنسائي (2447).

 

(2/33)

 

 

هل يجزئ إخراج فوق الذي يجب عليه؟

إخراج ما فوق الواجب له حالتان:

الأولى: أن يتطوع المزكي فيخرج ستًّا أعلى من السن التي تجب عليه، كأن يخرج بدل بنت المخاض: بنت لبون أو حقة أو جذعة، فهذا جائز بلا خلاف (1). ويدل عليه حديث أبي كعب، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قدم ناقة عظيمة سمينة- وقد وجب في إبله بنت مخاض-: «ذاك الذي عليك، وإن تطوعت بخير قبلناه منك، وآجرك الله فيه» (2).

الثانية: أن يُخرج بدل الشاة ناقة، وكذا عما يجب من الشياه -فيما دون خمس وعشرين من الإبل-، فهذا فيه خلاف:

فذهب أبو حنيفة والشافعي، وهو الأصح عند المالكية، أنه يجزئه.

وذهب الحنابلة إلى أنه لا يجزئ، لأنه أخرج عن المنصوص عليه غيره من غير جنسه فلم يجزئه (3)، وذهب بعضهم إلى قول الجمهور (4)، ولعله هو الراجح إن شاء الله فإن الشارع أسقط الإبل فيما دون خمس وعشرين رفقًا بالمالك، وليس ذلك للتعييب، إذ لا يعقل أن تجزئ بنت مخاض في خمس وعشرين من الإبل، ولا تجزئ في عشرين؟! (5).

 

زكاة البقر

أنصبة البقر، ومقدار الزكاة فيها:

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من البقر، من كل أربعين مُسنة، ومن كل ثلاثين: تبيعًا أو تبيعة» (6).

_________

(1) «المغنى» (2/ 582)، و «نيل الأوطار» (4/ 161).

(2) أبو داود (1583)، وأحمد (5/ 142) وسنده حسن.

(3) «المغنى» (2/ 578)، و «روضة الطالبين» (2/ 154).

(4) «الإنصاف» (3/ 49).

(5) «الشرح الممتع» (6/ 56).

(6) صححه الألباني. أخرجه الترمذي (619)، وأبو داود (1561)، والنسائي (5/ 26)، وابن ماجه (1803).

 

(2/34)

 

 

وهذا العدد يجمع فيه الجاموس إلى البقر، لأن الجاموس صنف من البقر بالإجماع فينضم إليه (1).

وأنت ترى أن الحديث ليس فيه تحديد لأقل النصاب، لكن ذهب جمهور العلماء إلى أنه ليس فيما دون الثلاثة زكاة، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة (جذع أو جذعة، وهو ما له سنة) ثم على حسب الجدول التالي:

 

عدد البقر ... مقدار الواجب إخراجه

من ... إلى

1 ... 39 ... ليس فيها زكاة

30 ... 59 ... تبيع أو تبيعة (وهي ما له سنة)

40 ... 69 ... مُسنَّة (وهي ما له سنتان)

60 ... 79 ... (2) تبيعان

70 ... 89 ... تبيع ومسنة

80 ... 99 ... (2) مسنتان

90 ... 109 ... (3) أتبعة

100 ... تبيعان ومسنة

 

وهكذا: في كل ثلاثين: تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعية مُسنة.

فإذا بلغت (120) فهل يكون فيها الأتبعة أو المسنات؟

فالظاهر أنه في هذه الحالة يخيَّر بين إخراج (4) أتبعة، أو (3) مُسنات (2)، والله أعلم.

 

زكاة الغنم

الأنصبة في الغنم ومقدار الواجب فيها:

أجمع العلماء على وجوب الزكاة في الغنم على ما جاء في حديث أنس في كتاب أبي بكر الذي تقدم، وأجمعوا كذلك على أن الغنم تشمل الضأن والمعز، فيضم بعضه إلى بعض، باعتبارهما صنفين لنوع واحد (3).

_________

(1) «المحلى» (6/ 2)، و «المغنى» (2/ 594)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 27 - 35).

(2) انظر «مجموع الفتاوى» (25/ 37).

(3) انظر «المجموع» (5/ 417)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 30 - 35).

 

(2/35)

 

 

وبناء على حديث أنس، تؤخذ الزكاة في الغنم طبقًا للجدول التالي:

 

عدد الإبل الغنم ... مقدار الواجب فيها

من ... إلى

1 ... 120 ... لا زكاة فيها

40 ... 200 ... (1) شاة

121 ... 339 ... (2) شاتان

201 ... 499 ... (3) شياه

400 ... 599 ... (4) شياه

500 ... (5) شياه

 

وهكذا ما زاد عن (300): في كل مائة شاة: شاة، عند جمهور العلماء.

فائدة: الشاة التي تدفع في الزكاة تجزئ سواء كانت من الضأن أو المعز، ذكرًا أو أنثى، وهو قول الحنفية والمالكية، وابن حزم، وهو الصواب (1).

 

مسائل عامة في زكاة المواشي

هل في صغار المواشي زكاة؟

اختلف أهل العلم في زكاة الفصلان [جمع فصيل وهو صغير الإبل]، والعجاجيل [وهي صغار البقر]، والحملان [جمع حمل: وهو صغير الغنم] (2).

1 - فقال بعضهم: تحسب الصغار من النصاب، وتجب فيها الزكاة، ولو كانت صغارًا ويخرج واحدة منها، وقال بعضهم: يكلَّف شراء السن الواجبة من غيرها.

2 - وقال آخرون: تحسب الصغار من النصاب، ولا تجب الزكاة فيها إلا أن يكون معها أمهاتها، سواء بلغت الأمهات النصاب وحدها أو لا.

واستدل الفريقان بما جاء عن عمر أنه قال لساعيه -سفيان بن عبد الله الثقفي-: «اعتدَّ بالسخلة، التي يرد بها الراعي على يده ولا تأخذها» (3).

_________

(1) انظر «المحلى» (5/ 268)، و «المجموع» (5/ 422)، و «حاشية ابن عابدين» (2/ 19).

(2) «بدائع الصنائ» (2/ 31)، و «فتح القدير» (1/ 504)، و «الدر المختار» (2/ 26)، و «المغنى» (2/ 602) وغيرها.

(3) حسن: أخرجه مالك (600)، والشافعي في «المسند» (651)، وابن حزم (5/ 275) بسند حسن.

 

(2/36)

 

 

والسخلة: الذكر والأنثى من أولاد الضأن والمعز ساعة تولد.

3 - وقال آخرون: إذا بلغت الأمهات نصابًا، فما زاد عن النصاب من الصغار اعتد به، وهو مذهب الجمهور (1).

4 - وقال ابن حزم (2): «ما صغر عن أن يسمى شاة لكن يسمى خروفًا أو جديًا أو سخلة لم يجز أن يؤخذ في الصدقة الواجبة، ولا أن يعد فيما تؤخذ منه الصدقة، إلا أن يتم سنة، فإذا أتمها عُدَّ، وأخذت الزكاة منه» اهـ.

واستدل الآخرون بحديث سويد بن غفلة قال: «أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إليه، فسمعته يقول: إن في عهدي أن لا نأخذ من راضع لبن» (3).

فحمله الجمهور على أن المراد: لا يؤخذ هو -أي الراضع- في الزكاة، فلا مانع من أن يحسب في النصاب.

وتعقبهم ابن حزم فقال: لو أراد أن لا يؤخذ هو في الزكاة لقال: «أن لا نأخذ راضع لبن» لكن لما منع أخذ الزكاة من راضع لبن -وراضع لبن اسم للجنس- صح بذلك أن لا تعد الرواضع فيما يؤخذ منه الزكاة. اهـ (4).

وقال -رحمه الله-: وأيضًا فقد أجمعوا على أن لا يؤخذ خروف ولا جدي في الواجب في الزكاة عن الشاء، فأقروا بأنه لا يسمى شاة ولا له حكم الشاء، فمن المحال أن يؤخذ منها زكاة، فلا تجوز هي في الزكاة بغير نص في ذلك (5) اهـ.

الصفات التي تُراعى في المأخوذ في زكاة الماشية:

ينبغي أن يكون المأخوذ في زكاة الماشية: الوسط، وهذا يقتضي أمرين، أحدهما على الساعي [وهو الموظف المخصص من الحاكم لجمع الزكاة] والآخر على المالك:

[1] أن يتجنب الساعي أخذ خيار المال المزكى، ما لم يخرجه المالك عن طيب نفس:

فقال قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أمره أن يأخذ الزكاة من أهل اليمن:

_________

(1) نقله عنهم شيخ الإسلام في الفتاوى (25/ 38).

(2) «المحلى» (5/ 274).

(3) حسن: أخرجه أبو داود (1579)، والنسائي (5/ 28)، وأحمد (4/ 315) وسنده حسن على الأقل.

(4) «المحلى» (5/ 278 - 279).

(5) «المحلى» (5/ 278 - 279).

 

(2/37)

 

 

«إياك وكرائم أموال الناس، واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب» (1).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «مُرَّ على عمر بن الخطاب بغنم من الصدقة، فرأى فيها شاة حافلاً ذات ضرع، فقال: ما هذه الشاة؟ فقالوا: شاة من الصدقة، فقال عمر: ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا خَزَرات المسلمين، نكبوا عن الطعام» (2).

[2] أن لا يعطى المالك شرار المال: كالمعيبة أو مريضة أو كسيرة أو هرمة -وهي الكبيرة التي سقطت أسنانها- أو بها عيب ينقص منفعتها وقيمتها.

فقد قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} (3).

وجاء في حديث عبد الله بن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من فعلهن طعم طعم الإيمان: .... وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولا يعطى الهرمة ولا الدرنة (4) ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة (5)، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره» (6).

هل الزكاة واجبة في عين المال أم في ذمة المزكي؟ وفائدة هذه المسألة:

للعلماء في هذه المسألة رأيان (7):

الأول: أن الزكاة تجب في عين المال:

وبهذا قال الجمهور، ومما يتفرع على هذا:

(أ) أنه إذا هلك المال بعد وجوب الزكاة فيه، فإن الزكاة تسقط بهلاكه.

(ب) أن من كان عنده أربعون -شاة مثلًا- ففيها شاة، فإذا لم يخرج الزكاة سنة وبقيت عنده الأربعون، لزمته هذه الشاة ولم يجب عليه شاة عن الحول الآخر، لأن هذه الأربعين في حكم التسع والثلاثين.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19).

(2) صحيح: أخرجه مالك (602)، وعنه الشافعي في «مسنده» (654) وسنده صحيح.

(3) سورة البقرة: 267.

(4) الدرنة: الجرباء.

(5) الشَرَط: صغار المال وشراره، واللئيمة: البخيلة باللبن.

(6) أبو داود (1582) ورجاله ثقات.

(7) «الدر المختار» (2/ 27)، و «المجموع» (5/ 341)، و «المغنى» (2/ 678)، و «المحلى» (5/ 262).

 

(2/38)

 

 

والثاني: أن الزكاة تجب في الذمة:

وبهذا قال الحنابلة وابن حزم ويتفرع على قولهم:

(أ) أنه لا تسقط الزكاة إذا هلك المال بعد وجوبه لأنه تعلق بذمة المالك.

(ب) أن من لم يخرج زكاة الأربعين شاة بعد الحول الأول، لزمه في الحول الآخر أن يخرج شاتين، لأن الشاة الأولى بقيت في ذمته، ولزمه أن يخرج أخرى عن الأربعين.

إذا كانت الماشية لشريكين فكيف تخرج الزكاة فيها؟

الخلطة (الشركة) -سواء كانت خلطة أعيان، أو خلطة أوصاف (1) - تجعل المالين كالمال الواحد، لحديث: «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة [وما كان من خيطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية]» (2).

وتجب الزكاة في مال الشركة كما تجب في مال الرجل الواحد بشروط (3):

1 - أن يكون الشريكان من أهل وجوب الزكاة (مسلم حر، تام الملك ...).

2 - أن يكون المال المختلط نصابًا.

3 - أن يمضي عليها حول كامل، وإلا زكى كل منهما على انفراد بحسب مضي حوله.

4 - أن لا يتميز مال أحدهما عن مال الآخر في ستة أوصاف: المسرح، والمبيت، والمشرب، والمحلب، والفحل، والراعي (4).

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ...».

1 - الشركة [التي تجعل المالين كالمال الواحد] قد تفيد الشريكين تخفيفًا، كأن

_________

(1) خلطة الأعيان: أن يشتركا في ماشية فيكون لكل منهما منها نصيب مشاع، كأن يكون ورثا هذه الماشية، وخلطة الأوصاف: أن يتميز مال كل واحد عن الآخر ولكنها تشترك في المسرح والمبيت ... وغيرها مما سيأتي.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (145)، وابن ماجه (1801) بدون زيادة، وهي عند النسائي (2447)، وأبو داود (1567)، والترمذي (621).

(3) انظر «الفقه الإسلامي وأدلته» (2/ 851).

(4) وذهب الحنفية وابن حزم في «المحلى» (6/ 51 وما بعدها) إلى أنه ليس للخلطة تأثير، وأنها لا تجعل المالين واحدًا.

 

(2/39)

 

 

يكون لكل منهما أربعون شاة، فإذا ضم مالهما صار ثمانين، فالواجب فيهما شاة واحدة عليهما -بخلاف ما إذا لم يكونا شريكين، فيكون على كل منهما شاة.

فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتال الرجلان فيشتركا تهربًا من الصدقة وتخفيفًا لها.

2 - وقد يكون في الشركة تثقيلاً على الشريكين، كأن يكونا شريكين (40) شاة، فتجب عليهما شاة، بخلاف، ما إذا كانا متفرقين فليس على أحدهما شيء فنُهى الشركاء عن تفريق مالهما تهربًا من الزكاة.

هل للخلطة تأثير في الأموال غير المواشي؟

مذهب الحنابلة (1) أن الخلطة لا تؤثر في غير بهيمة الأنعام، قالوا: لأن الخلطة في الماشية يكون فيها منفعة أحيانًا وضرر أحيانًا، أما غير الماشية فلا يتصور فيها غير الضرر برب المال، لأنه تجب فيها الزكاة فيما زاد على النصاب بحسابه، فلا أثر لجمعها، وعليه فإذا كان لكل من الشريكين مال غير الماشية يبلغ نصف النصاب فليس عليهما شيء. ومذهب الشافعي (2): أن الخلطة تؤثر في غير المواشي كذلك كالزروع والثمار والدراهم والدنانير ونحوها.

 

زكاة الزروع والثمار

الزكاة في الزروع والثمار -في الجملة- واجبة، وقد ثبت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع، وإن اختلفوا في التفاصيل (3).

وستأتي أدلة الكتاب والسنة أثناء بحثنا فيما بعد.

الزروع والثمار التي تجب فيها الزكاة

اتفق أهل العلم على وجوب إخراج الزكاة في الأصناف التي أخذ منها النبي صلى الله عليه وسلم وهي (القمح والشعير، والتمر والزبيب)، ثم حصل بينهم خلاف فيما عدا المنصوص عليه، فنجمل أقوالهم فيما يأتي:

[1] أنه لا زكاة إلا في الأصناف الأربعة، ولا شيء فيما عداها (4):

_________

(1) «الإنصاف» (3/ 83).

(2) «مغنى المحتاج» (2/ 76).

(3) «بدائع الصنائع» (2/ 54).

(4) «المحلى» (5/ 209) وما بعدها، و «نيل الأوطار» (4/ 170)، و «الأموال» لأبي عبيد (469/ 1378)، و «تمام المنة» (ص 372 - 373)، و «فقه الزكاة» (1/ 377).

 

(2/40)

 

 

وهذا مذهب ابن عمر (1)، والحسن البصري (2)، والثوري، والشعبي، وابن سيرين، وابن المبارك، وأبي عبيد وغيرهم من السلف، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب ابن حزم غير أنه لم يصح عنده في الزبيب حديث فلم يقل به، وهو مذهب الشوكاني ثم الألباني.

واحتج أصحاب هذا القول:

بما روى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن -يعلمان الناس أمر دينهم- فأمرهما ألا يأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب» (3).

وبأن غير هذه الأربعة، لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الافتيات بها، وكثرة نفعها ووجودها، فلم يصح قياسه عليها، ولا إلحاقه بها، فيبقى على الأصل.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين خصَّ هذه الأصناف الأربعة للصدقة، وأعرض عما سواها، قد كان يعلم أن للناس أقواتًا وأموالاً، مما تخرج الأرض سواها، فكان تركه ذلك وإعراضه عنه عفوًا منه كعفوه عن صدقة الخيل والرقيق.

[2] أن الزكاة في كل ما يقتات ويُدَّخر (4): (وهو مذهب مالك والشافعي).

والمقتات هو: ما يتخذه الناس قوتًا يعيشون به في حال الاختيار، لا في الضرورة، كالقمح والشعير والذرة والأرز ونحوها، ولا تجب في الجوز واللوز والفستق ونحوها، فهي وإن كانت مما يدخر، فليست مما يقتات الناس به.

واحتج أصحاب هذا القول: بحديث معاذ بن جبل وفيه: «فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (5).

_________

(1) روى أبو عبيد (469/ 1378) بسند صحيح عن ابن عمر قال في صدقة الزروع والثمار: «ما كان من نخل او عنب أو حنطة أو شعير» ونحوه في «مسند الشافعي» (656) بسند صحيح.

(2) رواه عنه أبو عبيد (469/ 1379 - 1380)، وابن زنجويه (1030/ 1899) بأسانيد صحيحة عنه.

(3) الحاكم (1/ 401)، والبيهقي (4/ 125)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (879).

(4) «الموطأ» (1/ 276 - ط. الحلبي)، و «المهذب» (5/ 493 - مع المجموع)، و «فقه الزكاة» (1/ 378).

(5) ضعيف: أخرجه البيهقي (4/ 129)، والحاكم (1/ 558)، والدارقطني (2/ 97)، وانظر «التلخيص» (837).

 

(2/41)

 

 

وبأن الأقوات تعظم منفعتها فهي كالأنعام في الماشية.

[3] أن الزكاة في كل ما ييبس ويبقى ويُكال (1): (وهو أشهر الروايات عن أحمد) وهذا يدخل فيه الحبوب والثمار المكيلة المدخرة والقطاني (الفول والحمص والعدس ...) والتمر والزبيب واللوز والفستق وغيرها لاجتماع هذه الأوصاف فيها.

ولا زكاة في سائر الفواكه كالجوز والتفاح ونحوهما ولا في الخضروات واحتج القائلون بهذا القول:

1 - بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (2) قالوا: فيه اعتبار التوسيق، فدل على أن الزكاة إنما تكون فيما يُوسق ويكال.

2 - وبقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس في حب ولا تمر صدقة، حتى يبلغ خمسة أوسق ...» (3).

قالوا: وهذا يدل على وجوب الزكاة في الحب والتمر وانتفائها عن غيرهما.

واختار ابن تيمية أن المعتبر هو الادخار لا غير، لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة فيه بخلاف الكيل فإنه تقدير محض والوزن في معناه.

[4] أن الزكاة في كل ما أخرجت الأرض مما يزرعه الآدمي (4):

وهو قول عمر بن عبد العزيز وهو مذهب أبي حنيفة وداود الظاهري، ورجحه ابن العربي وأطال في تأييده، واختاره القرضاوي.

واحتجوا لمذهبهم بما يأتي:

1 - عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ...} (5).

قالوا: فلم يفرق بين مخرج ومخرج.

2 - قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (6). بعد ذكر أنواع المأكولات من الجنات والنخل والزرع والزيتون والرمان.

_________

(1) «المغنى» (2/ 690)، و «شرح منتهى الإرادات» (1/ 388)، و «فقه الزكاة» (1/ 381).

(2) البخاري (1447)، ومسلم (979).

(3) مسلم (979)، والنسائي (2485).

(4) «المحلى» (5/ 212)، و «الهداية» (2/ 502)، و «عارضة الأحوذي» (3/ 135).

(5) سورة البقرة: 267.

(6) سورة الأنعام: 141.

 

(2/42)

 

 

3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر، وفيما سُقى بالنضح نصف العشر».

قالوا: فلم يفرق بين مقتات وغير مقتات، ومأكول وغير مأكول، وما يبقى وما لا يبقى، قال ابن العربي: «وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلاً، وأحوطها للمساكين، وأولاها قيامًا بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث». اهـ.

وطعن هؤلاء في الأحاديث التي حصرت الزكاة في الأصناف الأربعة، قالوا: وعلى فرض صحتها فهي مؤولة بأنه لم يكن ثمت غير هذه الأربعة؟!

القول الراجح مما سبق؟

لا يشترط الحول في زكاة الزروع والثمار:

لا يشترط الحول في زكاة الزروع والثمار، باتفاق العلماء، لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1).

ولأن الخارج نماء في ذاته فوجبت فيه الزكاة، بخلاف سائر الأموال الزكوية، فإنما اشترط فيها الحول ليمكن فيه الاستثمار (2).

متى تجب الزكاة في الزروع والثمار؟ ومتى تُخرج؟

تجب الزكاة عند بدو صلاح الزروع، باشتداد الحب، لأنه حينئذ طعام، وهو قبل ذلك بقل، كما تجب عند حلول الحلو أو التلون في التمر والعنب، وهو قبل ذلك بلح وحصرم.

وأما وقت إخراجها، فيجب إخراج الزكاة من الحبوب بعد التصفية، ومن الثمار بعد الجفاف، لأنه وقت الكمال وحالة الادخار.

ويتفرع على هذا أن الزرع لو تلف قبل وجوبه -قبل بدو الصلاح- فلا شيء عليه، ولو تلف بعد بدو صلاحه لكن قبل حفظه وتخزينه فلا ضمان عليه (3).

هل يشترط نصاب للزرع والثمار؟ وما مقداره؟

يشترط في وجوب الزكاة بلوغ النصاب عند الجمهور ومقداره: خمسة أوسق من الحب المصفَّى من التين.

_________

(1) سورة الأنعام: 141.

(2) «المغنى» (6/ 696).

(3) «المغنى» (2/ 702)، و «شرح منتهى الإرادات» (1/ 390).

 

(2/43)

 

 

لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (1).

وهذا المقدار يساوي (2): (50) كلية مصرية.

وتساوي (4 وسدس) أردب

 

وهو يساوي أيضًا ملء الإناء الذي يتسع لحوالي (647 كيلو جرام) من القمح.

فإذا نقص المحصول عن هذا النصاب لم يجب فيه الزكاة عند الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة، أما أبو حنيفة فأوجب الزكاة في القليل والكثير مستدلاً بعموم الحديث: «فيما سقت السماء العشر ....» (3) ولأنه لا يعتبر الحول له، فلم يعتبر له النصاب.

لكن الحديث: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (4) لا يجوز معارضته بالحديث السابق، فإن هذا خاص محكم مبين، وذاك عام متشابه مجمل، وهذا مبين للنصاب، وذاك إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه، فلا معارضة بينهما والله أعلم (5).

كيف يقدر النصاب في غير المكيلات عند من يوجب الزكاة فيها؟

أما ما لا يقدر بالكيل كالقطن مثلًا -عند من يوجب الزكاة فيه- فاختلف في تقدير نصابه على أقوال (6):

1 - يعتبر فيه القيمة، فإذا بلغت قيمته أدنى نصاب مما يوسق ففيه الزكاة وإلا فلا.

2 - يعتبر خمسة أمثال أعلى ما يقدر به ذلك الشيء.

3 - يعتبر فيه نصاب النقود.

4 - لا يعتبر فيه النصاب ويزكى قليله وكثيره.

يقدر بالوزن على ما تقدم بأنه (647) كيلو جرام.

ورجح الأخير ابن قدامة في المغنى (2/ 697) وقال معقبًا على الأقوال الأخرى:

«ولا أعلم لهذه الأقوال دليلاً ولا أصلاً يعتمد عليه، ويردها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» اهـ.

_________

(1) متفق عليه وقد تقدم.

(2) «فقه الزكاة» (1/ 400).

(3) يأتي تخريجه قريبًا.

(4) متفق عليه، وقد تقدم.

(5) انظر «المغنى» (2/ 695)، و «إعلام الموقعين» (3/ 229).

(6) انظر: «فقه الزكاة» (1/ 401).

 

(2/44)

 

 

واختار القرضاوي اعتبار القيمة.

أما مقيده -عفا الله عنه- فلست أرى فيها الزكاة أصلاً.

هل يُضم المحاصيل بعضها إلى بعض لتكميل النصاب؟

أظهر أقوال العلماء «أنه يُضم الأنواع من الجنس الواحد بعضها إلى بعض ولا تضم الأجناس، فلا تضم حنطة إلى شعير، ونحو ذلك، ولا يضم أجناس القطنية بعضها إلى بعض، فلا يضم الحمص إلى الباقلاء والعدس ونحو ذلك ....» (1) وهذا مذهب جمهور السلف.

«أما أصناف القمح فيضم بعضها إلى بعض، وكذلك تضم أصناف الشعير بعضها إلى بعض، وكذلك أصناف التمر بعضها إلى بعض» (2) وإن اختلف أسماؤها، ولو تباعدت البساتين التي يملكها الرجل.

ومن العلماء من أجاز ضم القمح والشعير، وضم القطاني: «الفول والحمص والعدس والبازلاء ونحوها، لتكميل النصاب من مجموعها، وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام (3).

قلت: لكن هذا القول لا أعلم عليه دليلاً، فالظاهر الأول، والله أعلم.

هل تضم محاصيل العام الواحد بعضها إلى بعض لتكميل النصاب؟

إذا كان عند إنسان بستان بعضه يُجنى مبكرًا، وبعضه يتأخر، فإنه يُضم بعضه إلى بعض لتكميل النصاب ما دام في عام واحد، وهو اختيار شيخ الإسلام (4).

لكنا نقيد هذا بما تقدم من اشتراط أن يكون المحصول من نفس الصنف أما ثمرة عامين فلا تضم بعضها إلى بعض.

خرص النخيل والأعناب

ينبغي للسلطان (الحاكم) إذا بدا صلاح الثمار أن يرسل ساعيًا يخرصها -أي يقدر كم سيكون مقدارها بعد الجفاف- ليعرف قدر الزكاة الواجبة على أصحابها، ويعرفهم بها، ويخيرهم بين حفظها إلى الجفاف، وبين الأكل منها -رطبًا- وضمان

_________

(1) «المجموع» للنووي (5/ 511 - 513).

(2) «المحلى» لابن حزم (5/ 253).

(3) «المغنى» (2/ 560)، و «المدونة» (1/ 288)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 23 - 24).

(4) «مجموع الفتاوى» (25/ 23)، وانظر «المغنى» (2/ 733).

 

(2/45)

 

 

حق الفقراء، فإن اختار حفظها حتى جفاف الثمر، فعليه حينئذ زكاة ما حفظه بعد جفافه قلَّ أو كثر، وإن اختار -أصحاب الثمر- الأكل منها فإنه يخرج حصة الفقراء بحساب الخرص.

فعن أبي حميد السادي رضي الله عنه قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى، إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اخرصوا»، وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، فقال لها: أحصى ما يخرج منها ... فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: كم جاء حديقتك؟ قالت: عشرة أوسق، خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه، ثم يخيِّر يهود: يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص، لكي يحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق» (2).

هل يجوز الأكل من الزرع قبل حصاده؟ وهل يحسب عليه؟

يجوز لصاحب الزرع أن يأكل منه ما يحتاج إليه قبل الحصاد، وله أن يتصدق منه حين الحصاد، ولا يحسب هذا عليه، وإنما يزكي ما صفى بعد هذا، لأن الزكاة لا تجب إلا حين إمكان الكيل، فما خرج عن يده قبل ذلك، فقد خرج قبل وجوب الصدقة فيه.

وبهذا قال الشافعي والليث وابن حزم (3).

ما مقدار الزكاة الواجبة في الزروع والثمار إذا بلغت النصاب؟

يختلف القدر الواجب في زكاة الزروع والثمار باختلاف طرق السقى (الري): فما سُقى بدون استعمال الآلات -من السواقي أو الماكينات- فيُخرج فيه العُشر (1/ 10).

وما سُقى باستعمال الآلة أو بماء مُشترى، ففيه نصف العشر (1/ 20) والدليل على هذا:

_________

(1) البخاري (1482)، ومسلم (1392).

(2) أبو داود (1606)، وأبو عبيد في «الأموال» (483/ 1438)، والبيهقي (4/ 123)، وأحمد (6/ 163) وهو حسن لشواهده كما في «الإرواء» (805).

(3) «المحلى» (5/ 259).

 

(2/46)

 

 

1 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا (1) العُشر، وفيما سُقى بالنضح نصف العُشر» (2).

2 - وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيما سقت الأنهار والغيم: العُشور، وفيما سقى بالسانية: نصف العشور» (3).

«فإن سقيت الأرض نصف الوقت بكلفة ونصفها بغير كلفة: فالزكاة ثلاثة أرباع العشر اتفاقًا.

وإن سقيت بأحدهما أكثر من الآخر فالجمهور على اعتبار الأكثر، ويسقط حكم الأقل، وقيل: يعتبر كل منهما بقسطه.

وإن جهل المقدار الغالب يخرج العشر احتياطًا، لأن الأصل وجوب العشر، وإنما يسقط بوجود الكلفة» (4).

هل تُطرح تكاليفُ ونفقاتُ الزراعة والديُّونُ من الخارج ثم يزكى الباقي؟

1 - أما الديون التي تكون على صاحب الزرع أو الثمر:

فلا تخلو من أحد أمرين:

الأول: أن يكون استدانها للنفقة على الزرع كثمن البذر والسماد وأجرة العمال ونحوها فهذه تطرح من الخارج من الأرض ثم يزكى الباقي، وهذا مذهب ابن عمر وجماعة من السلف منهم سفيان الثوري ويحيى بن آدم والإمام أحمد.

والثاني: أن يكون استدانها للنفقة على نفسه وأهله: فذهب ابن عمر إلى أنها تطرح [تقضى] ثم يزكى ما بقي.

وذهب ابن عباس إلى أنه لا يطرح دينه عن الخارج إلا أن يكون أنفقه على ثمره كما تقدم:

فعن ابن عمر قال: يبدأ بما استقرض فيقضيه، ويزكى ما بقي.

_________

(1) العثرى: ما يصيبه ماء المطر أو ماء النهر بغير سقى.

(2) البخاري (1483)، وأبو داود (1581)، والترمذي (635)، والنسائي (5/ 41)، وابن ماجه (1817).

(3) مسلم (981)، وأبو داود (1582)، والنسائي (5/ 42).

(4) انظر «المغنى» (2/ 699).

 

(2/47)

 

 

وقال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة ثم يزكى ما بقي (1).

وعن الإمام أحمد روايتان كقول كل منهما.

ورجَّح أبو عبيد مذهب ابن عمر ومن وافقه في رفع كل الديون من الخارج، إذ الذي عليه دين يحيط بماله ولا مال له، هو من أهل الصدقة، فكيف تؤخذ منه الصدقة وهو من أهلها؟ وكيف يكون غنيًّا فقيرًا في حالة واحدة؟ (2).

قلت: وهذا هو الراجح، وعليه فمن أخرجت أرضه - (20) وسقًا مثلًا من القمح- وكان مدينًا بما يعادل (17) وسقًا فإنه يقضيها ويبقى له (3) أوسق فليس فيها زكاة لأنها دون النصاب، والله أعلم.

2 - وأما النفقات على الزرع إذا لم تكن دَيْنًا:

كتكاليف البذر والسماد والحرث والحصاد ونحوها، فللعلماء فيها قولان:

الأول: أنها لا تُطرح من الخارج قبل أخذ العشر أو نصفه:

وهو مذهب الحنفية وابن حزم (3).

قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة، ولو رفعت المؤنة لكان الواجب بنفس المقدار، لأنه لم ينزل العشر إلى نصفه إلا المؤنة، والفرض أن الباقي بعد رفع قدر المؤنة لا مؤنة فيه.

والثاني: أنها تطرح من الخارج ويزكى ما بقي: وهو مذهب الحنابلة ورجحه ابن العربي (4) وهذا هو الأرجح والأشبه بروح الشريعة ويؤيده أمران (5):

1 - أن للكلفة والمؤنة تأثيرًا في نظر الشارع، فقد تقلل مقدار الواجب، كما في السقى بآلة، وقد تمنع الزكاة أصلاة كما في الأنعام المعلوفة أكثر العام، فلا عجب في إسقاط ما يقابلها من الخارج من الأرض.

2 - أن حقيقة النماء هو الزيادة، ولا يعد المال زيادة وكسبًا إذا أنفق مثله في الحصول عليه.

_________

(1) أخرجه عنهما أبو عبيد في «الأموال» (ص 509)، ويحيى بن آدم في «الخراج» (ص 162) بسند صحيح.

(2) «الأموال» لأبي عبيد (ص 510).

(3) «حاشية ابن عابدين» (2/ 49)، و «فتح القدر» (2/ 8 - 9)، و «المحلى» (5/ 258).

(4) «المغنى» (2/ 698)، و «عارضة الأحوذي» (3/ 143).

(5) «فقه الزكاة» (1/ 424).

 

(2/48)

 

 

الأراضي نوعان: عُشرية وخَراجِيَّة

الأرض العُشرية: هي الأرض التي أسلم أهلها طوعًا، أو فتحت عُنْوة وقسمت بين الفاتحين، أو أحياها المسلمون.

والأرض الخراجيَّة: هي التي فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين، وتركت في أيدي أهلها، أو صولح أهلها نظير خراج معلوم.

وهذا الخراج نوعان:

1 - خراج وظيفة: وهو ضريبة مفروضة على الأرض سواء استغلها صاحبها أم تركها، وقد وظفه عمر رضي الله عنه.

2 - خراج مقاسمة: وهو ضريبة مقطوعة من الناتج الزراعي، كأن يؤخذ نصف الخارج أو ثلثه أو ربعه، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر.

زكاة الخارج من الأرض الخراجية

إذا أخرجت الأرض الخراجية ما تجب فيه الزكاة من الزروع:

فذهب الجمهور أن يؤدَّى الخراج أولاً، ثم يزكى ما بقي، واستدلوا:

1 - بعموم الآيات والأحاديث المتقدمة التي تدل على الوجوب من غير تفريق بين العشرية والخراجية.

2 - وبكتاب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوف -عامله على فلسطين- فيمن كانت في يده أرض بجزيتها من المسلمين: أن يقبض جزيتها، ثم يأخذ منها زكاة ما بقي بعد الجزية (يعني الخراج) (1).

3 - وعن سفيان الثوري قال فيما أخرجت الخراجية: «أرفع دَيْنك وخراجك، فإن بلغ خمسة أوسق بعد ذلك فزكِّها» (2).

4 - بأن الخراج والعشر حقان مختلفان ذاتًا ومحلاًّ وسببًا ومصرفًا ودليلاً وقد خالف الحنفية في هذا فمنعوا اجتماع الخراج والعشر في الأرض واحتجوا بحديث باطل وهو «لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم» (3) وقول الجمهور أقوى والله أعلم.

_________

(1) «الأموال» لأبي عبيد (ص 88).

(2) «الخراج» ليحيى بن آدم (ص 163).

(3) «الكامل» لابن عدي (7/ 2155) قال ابن حبان: ليس هذا الحديث من كلام النبوة، وقال شيخ الإسلام (25/ 55): «كذب باتفاق أهل الحديث» اهـ.

 

(2/49)

 

 

كيف تخرج الزكاة في الخارج من الأرض المستأجرة، وهل تكون على المالك أو المستأجر؟

ذهب جمهور العلماء (المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة) إلى أن من استأجر أرضًا فزرعها، فالزكاة على المستأجر.

وذهب أبو حنيفة إلى أن العُشر على المؤجر (المالك).

وسبب اختلافهم (1): هل العشر حق الأرض أو حق الزرع؟

قلت: والأظهر أنه حق الزرع، فيجب على المستأجر لا على المالك -كقول الجمهور- لكن بعد أن يطرح الإيجار من الخارج، لأنه أشبه بالخراج.

فمثلاً (2):

إذا كان إيجار الأرض (20) جنيهًا، وأخرجت من القمح (10) أرادب، وكان الإردب يساوي خمسة جنيهات، فيكون مقدار الخارج (10 × 5= 50 جنيهًا) فإنه يخرج عن (6) أرادب فقط، والأربعة تطرح مقابل الإيجار ولو كان المتبقي دون النصاب فليس فيه زكاة.

أما مالك الأرض فإنه يزكي أجرة أرضه على حسب ما تقدم في زكاة المرتبات الشهرية والمكاسب المهنية.

وقد اختار القرضاوي -حفظه الله- أن يزكي ما دفع إليه بدلاً من الزرع وهو الأجرة التي يقبضها بشرط أن تبلغ قيمة نصاب من الزرع القائم بالأرض لأنها بدل عنه (3).

هل تجب الزكاة في العسل؟

العلماء في مسألة زكاة العسل: طرفان ووسط:

1 - فذهب الجمهور (منهم مالك والشافعي وابن أبي ليلى وابن المنذر) إلى أنه لا زكاة فيه لأمرين:

(أ) أنه ليس في وجوب الزكاة فيه خير يثبت ولا إجماع، والسنن ثابتة فيما يؤخذ منه، فكان العسل عفوًا.

_________

(1) «بداية المجتهد» (1/ 239)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 55).

(2) «فقه الزكاة» (1/ 430).

(3) «المجموع» (5/ 478)، و «المغنى» (2/ 713)، و «ابن عابدين» (2/ 334)، و «مواهب الجليل» (2/ 278).

 

(2/50)

 

 

(ب) أنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن، واللبن لا زكاة فيه بالإجماع.

2 - وذهب الحنفية وأحمد إلى أن العسل تؤخذ منه الزكاة واحتجوا بأمرين:

(أ) بعض الآثار الواردة في هذا:

كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه أخذ من العسل العشر» (1).

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «جاء هلال -أحد بني متعان- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمي له واديًا يقال له سلبة فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي، فلما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك، فكتب عمر رضي الله عنه: إن أدَّى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فاحمِ له سلبته، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء» (2).

قلت: والذي يظهر لي أن الرواية الثانية هي الصواب وأنها تُعِلُّ الأولى، فإن الرواية الأولى من طريق ابن لهيعة والأخرى من طريق عمرو بن الحارث (ثقة ففيه حافظ) والمخرج متحد، والعجب من ابن القيم -رحمه الله- حيث قال: «هذه الآثار يقوي بعضها بعضًا، وقد تعددت مخارجها! واختلفت طرقها، ومرسلها يعضد بمسندها»؟! (3).

هذا على أن الرواية الأخرى اختلف في وصلها وإرسالها.

وعلى فرض ثبوتها وأنها موصولة فلا حجة فيها، لأن الظاهر أن أخذ العشر من العسل لم يكن زكاة، وإنما كان في مقابلة الحمى (4)، ولو كان زكاة واجبة لم يكن لعمر الفقه المحدَّث أن يخيِّر فيها. والله أعلم.

_________

(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1824)، وأبو عبيد في «الأموال» (497/ 1489) وسنده ضعيف.

(2) أبو داود (1600)، والنسائي (1/ 346) وغيرهما بسند صحيح واختلف في وصله وانظر «الإرواء» (810).

(3) «زاد المعاد» (1/ 312).

(4) وأشار إلى هذا الحافظ في «الفتح» (3/ 348) وقبله ابن زنجويه في «الأموال» (1095)، ثم الخطابي في «معالم السنن» (1/ 208)، ثم رأيت الألباني في «تمام المنة» (ص 374) مال إلى هذا.

 

(2/51)

 

 

(ب) قالوا: والعسل يتولد من نَور الشجر والزهور، ويكال ويدَّخر، فوجبت فيه الزكاة كالحب والتمر، ولأن الكلفة فيه دون الكلفة في الزروع والثمار (1).

وهؤلاء الموجبون للزكاة في العسل أوجبوا فيه العُشر، واشترط الحنفية في العسل المزكَّى: أن لا يكون في أرض خراجية، وأن يكون مملوكًا.

ولم يحددوا له نصابًا، بل رأوا الزكاة في كثيره وقليله.

بينما قال الحنابلة: نصاب العسل عشرة أفراق [حوالي 64.68 كيلو جرام] ورجح الدكتور القرضاوي -حفظه الله- أن يكون النصاب خمسة أوسق [647 كيلو جرام].

3 - وتوسط أبو عبيد في «الأموال» (ص 506) فقال:

«وأشبه الوجوه في أمره [يعني العسل] أن يكون أربابه يؤمرون بصدقته، ويُحثون عليها، ويكره لهم منعها، ولا يؤمن عليهم المأثم في كتمانها من غير أن يكون ذلك فرضًا عليهم كوجوب صدقة الأرض والماشية ... وذلك أن السنة لم تصح فيه كما صحت فيهما» اهـ.

قلت: وهذا هو الأرجح أنه لا تجب الزكاة في العسل، وإن كان لا يخلو إخراجها فيه من كونها خيرًا، فإنه إن كان واجبًا فقد أدى ما وجب، وأبرأ ذمته، وإن لك يكن واجبًا فهو صدقة.

ولذا فإن ابن مفلح (2) [وهو من أعلم الناس بفقه شيخ الإسلام] كان يرى أنه لا زكاة في العسل.

 

زكاة عروض التجارة

عُروض التجارة هي: كل ما عدا النقدين (الذهب والفضة) من الأمتعة والعقارات وأنواع الحيوان والزروع والثياب والآلات والجواهر ونحو ذلك مما أعد للتجارة.

وعرَّفها بعضهم بأنها: ما يُعد للبيع والشراء بقصد الربح.

_________

(1) «زاد المعاد» (1/ 314).

(2) «الفروع» (2/ 450).

 

(2/52)

 

 

حكم الزكاة في عروض التجارة:

اختلف العلماء في زكاة عروض التجارة على قولين (1):

1 - أنها تجب فيها الزكاة: وهو قول جمهور العلماء، وحكى بعضهم أنه إجماع الصحابة والتابعين كما سيأتي.

واستدلوا بالكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين، وبالقياس:

(أ) فمن القرآن: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} (2).

وبوَّب عليها البخاري في كتاب الزكاة في «صحيحه» قال: (باب صدقة الكسب والتجارة) ومعنى قوله (ما كسبتم) يعني: التجارة (3).

(ب) ومن السنة:

استدلوا بحديث سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع» (4).

وبحديث أبي ذر مرفوعًا: «في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته» (5).

والبز: الثياب، فهو يشمل الأقمشة والمفروشات والأواني ونحوها، وهذه إذا كانت للاستمتاع الشخصي فلا زكاة فيها بلا خلاف، فبقي أن المراد إذا كانت للاستغلال والتجارة.

غير أن الحديثين ضعيفان، لكن يمكن أن يستدل للزكاة في عروض التجارة بدخولها في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «... أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة من أموالهم ...» الحديث وقد تقدم.

_________

(1) انظر «فقه الزكاة» (1/ 340) وما بعدها، وغير ذلك من المراجع التي أشير إلهيا فيما بعد.

(2) سورة البقرة: 267.

(3) انظر «تفسير الطبري» (5/ 555)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 235) وغيرهما.

(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1562)، وعنه البيهقي (1/ 97)، والدارقطني (ص 214) وغيرهم بسند ضعيف وانظر «الإرواء» (827).

(5) ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 179)، والبيهقي (4/ 147)، الدارقطني (2/ 101)، وانظر الضعيفة (1178).

 

(2/53)

 

 

إذ عروض التجارة مال بلا شك، هذا بضميمة قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات ...» (1).

فإن هذا التاجر لو سئل: ماذا تريد بالتجارة؟ لقال: الذهب والفضة؟! (2) ويستدل لهذا أيضًا بحديث أبي هريرة في منع خالد بن الوليد الزكاة وشكوى الناس ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «... وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله ...» (3).

فكأنهم ظنوا أنها للتجارة فطالبوه بزكاة قيمتها، فأعلمهم -عليه الصلاة والسلام- بأنه لا زكاة عليه فيما حبس (4).

ومن آثار الصحابة والسلف:

1 - عن ابن عبد القاري قال: «كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب، فكان إذا خرج العطاء، جمع أموال التجار ثم حسبها، شاهدها وغائبها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» (5).

2 - عن ابن عمر قال: «ليس في العروض زكاة، إلا ما كان للتجارة» (6).

3 - عن ابن عباس قال: «لا بأس بالتربص حتى يبيع والزكاة واجبة فيه» (7).

4 - عن عطاء قال: «لا صدقة في اللؤلؤ، ولا زبرجد، ولا ياقوت، ولا فصوص، ولا عرض، ولا شيء لا يدار (أي لا يتاجر به) وإن كان شيئًا من ذلك يدار ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع» (8).

5 - وكتب عمر بن عبد العزيز إلى زريق: «انظر من مرَّ بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات من كل أربعين دينارًا دينارًا ....» (9).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).

(2) مستفاد من «الشرح الممتع» (6/ 141).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1468)، ومسلم (983).

(4) انظر «فتح الباري» (3/ 392) وقال: وهذا يحتاج لنقل خاص فيكون فيه حجة. اهـ.

(5) «الأموال» و «مصنف ابن أبي شيبة» و «المحلى» وصححه ابن حزم وتأوله.

(6) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 68)، وعبد الرزاق (4/ 97)، والبيهقي (4/ 147) بسند صحيح.

(7) «الأموال» (ص 426)، وابن حزم في «المحلى» (5/ 234) وصحح إسناده لكن تأوله.

(8) إسناد صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7061)، وابن أبي شيبة (3/ 144) بسند صحيح.

(9) إسناد صحيح: أخرجه مالك (594)، والشافعي في «الأم» (2/ 68).

 

(2/54)

 

 

ولم ينقل عن واحد من الصحابة ما يخالف قول عمر وابنه وابن عباس، بل استمر العمل والفتوى على ذلك في عهد التابعين وفي زمان عمر بن عبد العزيز، وكذلك اتفق فقهاء التابعين ومن بعدهم على القول بوجوب الزكاة في أموال التجارة.

حتى نقل ابن المنذر وأبو عبيد الإجماع على ذلك، إلا قولاً ذكره أبو عبيد ولم ينسبه لقائل ثم قال عقبه: «وأما القول الآخر فليس من مذاهب أهل العلم عندنا» اهـ.

(ء) وأما القياس:

فالعروض المتخذة للتجارة: مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي تجب فيها الزكاة (النقدين، والماشية، والزروع).

(هـ) وأما من جهة النظر والاعتبار:

-فإن عروض التجارة المتداولة للاستغلال نقود معنى، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التي هي أثمانها، إلا في كون النصاب يتقلب ويتغير بين الثمن وهو النقد، والمثمن وهو العروض، فلو لم تجب الزكاة في التجارة، لأمكن لجميع الأغنياء أو أكثرهم أن يتجروا بنقودهم، ويتحروا ألا يحول الحول على نصاب من النقدين أبدًا، وبذلك تعطل الزكاة فيهما عندهم (1).

ثم إن أحوج الناس إلى تطهير أنفسهم وأموالهم وتزكيتها هم التجار، فإن طرائقهم في الكسب لا تسلم من شوائب وشبهات:

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة» (2).

فائدة (3): قد نقل الإجماع على وجوب الزكاة في عروض التجارة: ابن المنذر وأبو عبيد وعنهما جماعة من أهل العلم وفيه نظر، لأن الخلاف في المسألة قديم -كما ذكر الشافعي وغيره- وخالف فيها الظاهرية كما سيأتي.

_________

(1) «تفسير المنار» لرشيد رضا (10/ 591).

(2) أبو داود (3326)، والترمذي (1208)، والنسائي (3797)، وابن ماجه (2145) وهو صحيح.

(3) «الإجماع» (14)، و «الأموال» (429)، وانظر «المجموع» (6/ 47)، و «بداية المجتهد» (1/ 254)، و «الروضة الندية» (1/ 286)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (3/ 36، 44) ط. الفكر.

 

(2/55)

 

 

القول الثاني: أنها لا تجب فيها الزكاة: وهو مذهب الظاهرية -ومن تابعهم كالشوكاني وصدق خان ثم الألباني، وقد تبنى قولهم ابن حزم ودافع عنهم في «المحلى» وأطال النفس في نقض مذهب الجمهور بما لا يسلم له، ومما تعلقوا به:

1 - حديث: «ليس على مسلم في عبده ولا فرسه صدقة» (1).

وظاهره عدم الوجوب سواء كانت للتجارة أو لغيرها.

وأجاب الجمهور بأن المراد نفي الزكاة عن عبده الذي يخدمه، وفرسه الذي يركبه، وهما من الحوائج الأصلية المعفاة من الزكاة بالإجماع.

2 - أن الأصل في مال المسلم الحرمة وبراءة الذمم من التكاليف.

وهذا الأصل إنما يصار إليه عند عدم الدليل، وقد تقدم إجماع الصحابة على القول بوجوب الزكاة عروض التجارة.

3 - حديث قيس بن أبي غرزة قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبيع الرقيق نسمي السماسرة، فقال: «يا معشر التجار، إن بيعكم هذا يخالطه لغو وحلف فشوبوه بالصدقة أو بشيء من صدقة» (2).

قال ابن حزم: فهذه صدقة مفروضة غير محدودة، ولكن ما طابت به أنفسهم وتكون كفارة لما يشوب البيع مما لا يصح من لغو وحلف. اهـ.

إلى غير ذلك من الحجج والتشغيبات التي شغبَّ بها ابن حزم -رحمه الله- في «المحلى» (5/ 233) وما بعدها، وقول الجمهور هو الصواب، والله أعلم.

شروط الزكاة في مال التجارة (3)

يشترط في المال المعد للكسب والتجارة لتجب الزكاة فيه شروط:

1 - أن لا تكون العروض مما يجب الزكاة فيه أصلاً، كالماشية والذهب والفضة ونحوها.

لأنه لا تجتمع زكاتان إجماعًا، بل يكون فيها زكاة العين -على الراجح- لأن

_________

(1) البخاري (1464)، ومسلم (628).

(2) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 6)، والنسائي (7/ 14)، وأبو داود، والترمذي (1208)، وابن ماجه (2154) وغيره.

(3) ويشترط لاعتبار المال مال تجارة: أن يملكه صاحبه بفعله كالشراء، وأن ينوي به التجارة.

 

(2/56)

 

 

زكاة العين أقوى ثبوتًا من زكاة التجارة لانعقاد الإجماع عليها ومن كان يتاجر فيما دون نصاب العين فإنه يخرج زكاة التجارة (1).

2 - أن يبلغ النصاب: وهو نصاب النقد (85 جرامًا من الذهب).

3 - حولان الحول.

متى يعتبر النصاب في مال التجارة؟

في وقت اعتبار النصاب في أموال التجارة ثلاثة أقوال:

1 - في آخر الحول (وهو قول مالك والشافعي).

2 - في جميع الحول: بحيث لو نقص النصاب لحظة انقطع الحول (مذهب الجمهور).

3 - في أول الحول وآخره دون ما بينهما (مذهب أبي حنيفة).

كيف يزكي التاجر ثورته التجارية؟

إذا حلَّ موعد الزكاة فإن على التاجر أن يضم ماله بعضه إلى بعض، وهذا المال يشمل:

1 - رأس المال والأرباح والمدَّخرات وقيمة بضائعه.

2 - الديون المرجوة الأداء.

فيقوِّم قيمة البضائع ويضيفها إلى ما لديه من نقود، وإلى ما له من ديون مرجوة الأداء، ويطرح منها ما عليه من ديون.

ثم يخرج عن هذا كله ربع العُشر (2.5%) بحسب سعرها وقت إخراج الزكاة، لا بحسب سعر شرائها.

هذا هو رأي جمهور الفقهاء، ووافقهم مالك فيه في التاجر المدير الذي يبيع ويشتري.

لكن قال في التاجر «المحتكر» الذي يشتري السلعة أو العقار ثم يتربص مدة من الزمن، ويرصد السوق، حتى ترتفع الأسعار، فيبيع، قال: لا يزكي إلا إذا باع السلعة فيزكيها لسنة واحدة وإن بقيت أعوامًا.

هل تخرج الزكاة من عين البضائع أم من قيمتها؟

ذهب الجمهور إلى وجوب إخراج القيمة، وأنه لا يجوز الإخراج من عين

_________

(1) انظر «المجموع» (6/ 50)، و «المغنى» (3/ 34).

 

(2/57)

 

 

العروض، لأن النصاب معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها كالعين في سائر الأموال.

وعند أبي حنيفة والشافعي -في أحد أقواله- أن التاجر مخيَّر بين إخراج السلعة أو القيمة (1).

واختار شيخ الإسلام التفصيل بحسب مصلحة الآخذ للزكاة (2).

 

زكاة الركاز والمعادن

الركاز لغة: من الركز، فهو الشرع المركوز في باطن الأرض من معدن أو مال مدفون.

وهو شرعًا: دفن الجاهلية (الكنز) الذي يؤخذ من غير أن يطلب بمال ولا يتكلف له كثير عمل، سواء كان ذهبًا أو فضة أو غيرهما.

وأما المعدن لغة: من العدن وهو الإقامة، ومركز كل شيء معدنه.

وشرعًا: كل ما خرج من الأرض مما يُخلق فيها من غيرها مما له قيمة.

والمعادن إما أن تكون جامدة تذوب وتنطبع بالنار كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والزئبق.

أو أن تكون مائعة كالبترول والقار (الزفت) ونحوه.

والركاز والمعدن بمعنى واحد عند الحنفية، والجمهور على التفريق بينهما، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «... والمعدن جبار، وفي الركاز الخُمس» (3). ففرَّق بين المعدن والركاز.

من وجد كنزًا، كيف يصنع فيه؟

من وجد كنزًا لا يخلو من أحد خمس حالات:

[1] أن يجده في أرض موات أو لا يُعلم لها مالك:

فهو له، ويخرج خُمسه، ويكون له أربعة أخماسه.

_________

(1) «البدائع» (2/ 21)، و «المغنى» (3/ 31).

(2) «مجموع الفتاوى» (25/ 80).

(3) البخاري (1499)، ومسلم (1710).

 

(2/58)

 

 

فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -في كنز وجده رجل في خربة جاهلية-: «إن وجدته في قرية مسكونة أو في سبيل ميتاء (1) فعرِّفه، وإن وجدته في خربة جاهلية، أو في قرية غير مسكونة، ففيه، وفي الركاز الخمس» (2).

[2] أن يجده في طريق مسلوكة أو قرية مسكونة: فهذا يعرَّفه، فإن جاء صاحبه فهو له، وإلا كان من حقه، للحديث السابق.

[3] أن يجده في ملك غيره: وللعلماء فيه ثلاثة أقوال (3):

1 - أنه لصاحب الملك: وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وقياس قول مالك، ورواية عن أحمد.

2 - أنه لواجده: وهو رواية أخرى عن أحمد واستحسنه أبو يوسف.

قالوا: لأن الكنز لا يملك بملك الدار، فيكون لمن وجده.

3 - التفريق: فإن اعترف به مالك الدار فهو له، وإن لم يعترف به فهو لأول مالك وهذا مذهب الشافعي.

[4] أن يجده في ملكه المنتقل إليه ببيع أو نحوه (4): ففيه قولان:

1 - أنه لواجده في ملكه: وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والمشهور عن أحمد إن لم يَدِّعه المالك الأول.

2 - أنه للمالك قبله إذا اعترف به وإلا فللذي قبله وهكذا، فإن لم يعرف له مالك فكالمال الضائع: أي يكون لقطة.

وهذا قول الشافعي.

[5] أن يجده في دار حرب:

فإن ظهر عليه بجمع من المسلمين فهو غنيمة حكمه حكمها.

_________

(1) سبيل ميتاء: أي طريق مسلوك، وميتاء مفعال من الإتيان.

(2) أبو داود (1710)، والشافعي في «مسنده» (673)، وأحمد (2/ 207)، والبيهقي (4/ 155) وسنده حسن.

(3) المبسوط (2/ 214)، وفتح القدير (2/ 183)، والمغنى (3/ 49)، و «الأم» (2/ 41)، والمجموع (6/ 41).

(4) المبسوط (2/ 212)، والمدونة (1/ 290)، والمغنى (3/ 49)، والأم (2/ 44)، والمجموع (6/ 40).

 

(2/59)

 

 

وإن قدر عليه بنفسه دون مساعدة أحد: فللعلماء فيه قولان (1):

1 - أنه لواجده: وهو مذهب أحمد، قياسًا على ما وجد في أرض موات.

2 - إذا كان عرف مالك الأرض وكان حربيًّا يذب عنها، فهو غنيمة، وإذا لم يعرف ولم يكن يذب عنها، فهو ركاز، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفصيلات بينهم.

لا يشترط النصاب والحول في الركاز:

لا يشترط النصاب ولا الحول في الركاز، وتجب الزكاة فيه بمجرد العثور عليه، فيخرج الخُمس، لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «في الركاز الخُمس» (2) وهذا قول جمهور العلماء.

إلى من يصرف الخمس في الركاز؟

اختلف العلماء في بيان مصرف الخُمس على قولين (3):

1 - أن مصرف الخمس هو مصرف الزكاة: وهو قول الشافعي وأحمد إلا أنه قال: وإن تصدق به على المساكين أجزأه.

وحجتهم: ما رُوى عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن رجل من قومه يقال له حجمة قال: «سقطت عليَّ جرة من دير قديم بالكوفة عند جبانة بشر، فيها أربعة آلاف درهم، فذهبت بها إلى علي بن أبي طالب فقال: اقسمها خمسة أخماس فقسمتها، فأخذ عليٌّ منها خمسًا، وأعطاني أربعة أخماس، فلما أدبرت دعاني، فقال: في جيرانك فقراء ومساكين؟ قلت: نعم، قال: فخذها فاقسمها بينهم» (4).

ولأنه مستفاد من الأرض، فأشبه الزرع.

2 - أن مصرفه مصرف الفيء: وهو قول أبي حنيفة ومالك ورواية في مذهب أحمد وصححهما ابن قدامة.

وحجتهم: ما رُوى عن الشعبي: «أن رجلاً وجد ألف دينار مدفونة خارجًا من المدينة، فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ منها الخمس مائتي دينار، ودفع إلى

_________

(1) المغنى (3/ 50)، والمدونة (1/ 291)، والمبسوط (2/ 215)، والمجموع (6/ 40).

(2) متفق عليه، وقد تقدم قريبًا.

(3) «الأم» (2/ 44)، و «المغنى» (3/ 51)، و «المدونة» (1/ 292)، و «المبسوط» (2/ 212).

(4) أخرجه عبد الرزاق (7179)، والطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 304)، والبيهقي (4/ 157) بسند ضعيف.

 

(2/60)

 

 

الرجل بقيتها، وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضره من المسلمين إلى أن أفضل منها فضلة، فقال: أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه، فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهي لك» (1).

والشاهد: أنها لو كانت زكاة لخص بها أهلها، ولم يرده على واجده.

قالوا: ولأنه يجب على الذمي، والزكاة لا تجب عليه، ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكافر [على اعتبار أنه دفن الجاهلية] فأشبه خمس الغنيمة.

قلت: الدليلان لا يصلحان للاحتجاج بهما، ولذا قال الألباني (2) -رحمه الله تعالى-: «وليس في السنة ما يشهد صراحة لأحد القولين على الآخر، ولذلك اخترت في (أحكام الركاز) أن مصرفه يرجع إلى رأي إمام المسلمين، يضعه حيثما تقتضيه مصلحة الدولة، وهو الذي اختاره أبو عبيد في (الأموال)» اهـ.

هل تدخل المعادن في حكم الركاز؟

1 - ذهب مالك -في إحدى الروايتين- والشافعي -في قوله الثاني- إلى أن المعادن لا يجب فيها شيء إلا الأثمان (الذهب والفضة).

2 - وذهب الجمهور إلى أن المعادن على اختلاف أنواعها من ذهب وفضة ونحاس وحديد ورصاص ... وبترول، كالركاز يجب فيه حق، على خلاف في مقداره (3) وهذا هو الأرجح لعموم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} (4).

ولا شك أن النفط (البترول) الذي يعرف بالذهب الأسود هو من أثمن الأثمان فلا يصح أن يخرج من هذا الحكم، والله أعلم.

مقدار الواجب في المعدن:

ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وأبو عبيد، وغيرهم إلى أن الواجب في المعدن الخمس كالركاز.

بينما ذهب الجمهور إلى أن فيه ربع العشر قياسًا على النقدين وسبب الخلاف، اختلافهم في معنى الركاز، وهل يشمل المعدن أم لا؟

_________

(1) «الأموال» لأبي عبيد (874) بسند ضعيف.

(2) «تمام المنة» (ص: 378).

(3) المبسوط (2/ 295)، و «المدونة» (1/ 292)، و «الأم» (2/ 45)، و «المغنى» (3/ 50).

(4) سورة البقرة: 267.

 

(2/61)

 

 

وفرَّق بعض الفقهاء، فقال: إن كان الخارج كثيرًا بالنسبة إلى العمل والتكاليف فالواجب الخمس، وإن كان قليلاً بالنسبة إليهما فالواجب هو ربع العشر (1) ولقائل أن يقول: ليس في المعدن زكاة -غير الذهب والفضة- «والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» (2) بناء على أن المراد بقوله (المعدن جبار) أي: لا زكاة فيه بدليل اقترانه بقوله (وفي الركاز الخمس)، ولأنه -أي الركاز- مال مجموع يؤخذ بغير كلفة ولا تعب، بخلاف المعدن لأنه يحتاج إلى كلفة وتعب في استخراجه فأسقطت الزكاة منه.

وإن كان يمكن أن يكون المراد بقوله (المعدن جبار): أن من استأجر من يحفر له معدنًا فسق عليه فقتله فهو جبار، ويؤيده اقترانه بقوه (البئر جبار -والعجماء جبار).

 

أحكام عامة في الركاز

هل يجزئ إخراج القيمة بدل العين الواجبة في الزكاة؟

للعلماء في إخراج القيمة من الزكوات مذهبان:

الأول: أن ذلك لا يجوز، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود (3)، وحجتهم:

1 - أن الشرع نص على الواجب في الزكاة فلا يجوز العدول عنه كما لا يجوز في الأضحية، ولا في المنفعة، ولا في الكفارة.

2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون» (4).

قالوا: ولو جازت القيمة لبيَّنها.

3 - قوله صلى الله عليه وسلم فيمن وجبت عليه جذعة: «تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين أو عشرين درهمًا» (5).

_________

(1) انظر «فقه الزكاة» (1/ 471) وما بعدها.

(2) متفق عليه وقد تقدم.

(3) المدونة (1/ 258)، والمجموع (5/ 428 - 429)، والمغنى (2/ 565).

(4) سبق تخريجه.

(5) سبق تخريجه.

 

(2/62)

 

 

قالوا: ولو كانت القيمة مجزئة لم يقدره، بل أوجب التفاوت بحسب القيمة.

4 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير ...» (1).

قالوا: ولم يذكر القيمة، ولو جازت لبينها فقد تدعو الحاجة إليها.

5 - قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر» (2).

6 - أن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير، وشكرًا لنعمة المال، والحاجات متنوعة، فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تندفع به حاجته، ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به.

الثاني: أنه يجوز إخراج القيمة، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والظاهر من مذهب البخاري، ووجه في مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، وحجتهم (3):

1 - ما رُوى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لأهل اليمن: «ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس مكان الشعير والذرة آخذه منكم، فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة» (4).

2 - استدلوا بإجزاء ابن اللبون عن بنت المخاض، وإجزاء الحقة مع عشرين درهمًا عن الجذعة (وهما الدليلان الثاني والثالث لأصحاب القول الأول).

قالوا: ففي هذا اعتبار القيمة.

3 - أن المقصود بأداء الزكاة إغناء الفقير، والإغناء يحصل بأداء القيمة، كما يحصل بأداء العين، وربما سد الخلة بأداء القيمة أظهر.

وقد اجتهد كل فريق في الجواب عن أدلة الفريق الآخر وإظهار مذهبه. والذي يترجح عندي، هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (5). من التوسط

_________

(1) أخرجه البخاري (1504)، ومسلم (984).

(2) أخرجه أبو داود (1599)، وابن ماجه (1814)، والحاكم (1/ 546)، والبيهقي (4/ 112)، والدارقطني (2/ 99) وفي سنده لين.

(3) المبسوط (2/ 156)، والمجموع (2/ 429).

(4) علَّقه البخاري (3/ 336) ... ووصله الحافظ في «التغليق» (3/ 12) سنده ضعيف لانقطاعه.

(5) مجموع الفتاوى (25/ 80 - 82).

 

(2/63)

 

 

في هذا الباب، فلم يجز مطلقًا ولم يمنع مطلقًا، بل رأى جواز إخراج القيمة مقيدًا له بالحاجة والمصلحة والعدل.

فإذا لم تكن حاجة، ولا مصلحة راجحة، فالأظهر أن إخراج القيمة ممنوع منه وهذا الذي ذهب إليه هو مقتضى الجمع بين الأدلة، والله أعلم.

ما حكم تعجيل الزكاة قبل حولان الحول؟

قد علمت أن المال إذا بلغ النصاب، فإنه لا تجب فيه الزكاة حتى يحول عليه الحول، لكن إذا أراد صاحب المال أن يخرج زكاته قبل الحول، فللعلماء في هذا قولان:

الأول: الجواز، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماعة من السلف (1) واحتجوا بما يأتي:

1 - ما رُوى أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل «فرخَّص له في ذلك» (2).

2 - ما رُوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «إنا كنا تعجلنا صدقة العباس لعامنا هذا عام أول» (3).

3 - أنه تعجيل لمال وجد سبب وجوبه (وهو كمال النصاب) قبل وجوبه فجاز، كتعجيل قضاء الدين قبل حلول أجله، وأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث، وكفارة القتل بعد الجرح قبل الزهوق.

القول الثاني: المنع، وهو مذهب مالك -وأجازه إذا بقى من الحول الشيء اليسير -وهو قول ربيعة وداود وابن حزم (4)، وحجتهم:

1 - حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (5).

_________

(1) المبسوط (2/ 176)، و «الأم» (2/ 20)، والمجموع (6/ 86)، والمغنى (2/ 470).

(2) أبو داود (1624)، والترمذي (678)، وابن ماجه (1795) وغيرهم من أوجه فيها مقال وحسنها الألباني في «الإرواء» (857).

(3) انظر السابق.

(4) المدونة (1/ 284)، وبداية المجتهد (1/ 232)، والمحلى (6/ 95).

(5) الترمذي (631)، وأبو داود (1573)، وابن ماجه (1792)، والدارقطني (198)، والبيهقي (4/ 104)، وصححه الألباني في «الإرواء» (787).

 

(2/64)

 

 

2 - حديث أبي بكر الصديق: «أنه كان لا يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول» (1).

3 - أن الحول شرط في وجوب الزكاة، فلم يجز تقديم الزكاة عليه كالنصاب.

4 - أن للزكاة وقتًا، فلم يجز تقديمها عليه كالصلاة.

والراجح: أنه يجوز إخراج الزكاة قبل حولان الحلو لعدم الدليل على المنع، أما حديث «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» فغاية ما يفيده أن لا يجب إخراج الزكاة قبل الحول، وليس فيه ما يمنع تعجيلها.

وأما قولهم (إن للزكاة وقتًا فلم يجز تقديمها)، فنقول: إذا دخل الوقت في الشيء رفقًا بالإنسان كان له أن يعجله ويترك الإرفاق بنفسه، كالدين المؤجل. وأما القياس على الصلاة فلا يصح لأن العبادات لا يقاس بعضها على بعض، والتوقيت في الصلاة غير معقول، فيجب أن يقتصر عليها. والله أعلم.

 

مصارف الزكاة

مصارف الزكاة محصورة في ثمانية أصناف، والأصناف الثمانية قد نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2).

و {إِنَّمَا} التي صدرت بها الآية أداة حصر، فلا يجوز صرف الزكاة لأحد -أو في وجه غير داخل في هذه الأصناف.

هل يجب استيعاب هذه الأصناف الثمانية؟ أم يجوز دفعها إلى بعضها؟

ذهب جمهور العلماء (الحنفية والمالكية والحنابلة، وجماعة من السلف منهم عمر، وابن عباس) إلى أنه لا يجب استيعاب هذه الأصناف في صرف أموال الزكاة، بل يجوز الدفع إلى واحد منها، وإعطاؤه الصدقة مع وجود الباقين.

واحتجوا بما يأتي:

1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» (3).

قالوا: والفقراء صنف واحد من أصناف أهل الزكاة الثمانية.

_________

(1) مصنف عبد الرزاق (7024).

(2) سورة التوبة: 60.

(3) متفق عليه وتقدم كثيرًا.

 

(2/65)

 

 

2 - بما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أفرادًا الزكاة، كحديث قبيصة بن مخارق لما تحمل حمالة وأتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله في الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» (1).

وغير هذه الواقعة مما تقدم بعضه.

بينما ذهب الشافعي وجماعة إلى أنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية في القسم وقال أبو ثور، وأبو عبيد: إن أخرجها الإمام وجب استيعاب الأصناف، وإن أخرجها المالك جاز أن يجعلها في صنف واحد (2).

[1، 2] الفقراء والمساكين:

الفقراء والمساكين هم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما يكفيهم، وإذا أطلق لفظ (الفقراء) وانفرد دخل فيهم (المساكين)، وكذلك عكسه، وإذا جمع بينهما في كلام واحد، كما في آية مصارف الزكاة، تميز كل منهما بمعنى. وقد اختلف الفقهاء في أيهما أشد حاجة، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الفقير أشد حاجة من المسكين، واحتجوا بأن الله تعالى قدم ذكرهم في الآية، وذلك يدل على أنهم أهم، وبقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (3)، فأثبت لهم وصف المسكنة مع كونهم يملكون سفينة ويحصلون نولاً، واستأنسوا لذلك أيضًا بالاشتقاق، فالفقير لغة: فعيل بمعنى مفعول، وهو من نزعت بعض فقار صلبه، فانقطع ظهره، والمسكين مفعيل من السكون، ومن كسر صلبه أشد حالاً من الساكن، وذهب الحنفية والمالكية إلى أن المسكين أشد حاجة من الفقير، واحتجوا بأن الله تعالى قال: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} (4). وهو المطروح على التراب لشدة جوعه، وبأن أئمة اللغة قالوا ذلك، منهم الفراء وثعلب وابن قتيبة، وبالاشتقاق أيضًا، فهو من السكون، كأنه عجز عن الحركة فلا يبرح. ونقل الدسوقي قولاً أن الفقير والمسكين صنف واحد، وهو من لا يملك قوت عامه، سواء كان لا يملك شيئًا أو يملك أقل من قوت العام.

واختلف الفقهاء في حد كل من الصنفين (5): فقال الشافعية والحنابلة: الفقير

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1044) وغيره وقد تقدم.

(2) المجموع (6/ 185)، والمغنى (2/ 668)، والأموال لأبي عبيد (ص: 692).

(3) سورة الكهف: 79.

(4) سورة البلد: 16.

(5) «الموسوعة الفقهية» (23/ 312).

 

(2/66)

 

 

من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من حاجته، كمن حاجته عشرة فلا يجد شيئًا أصلاً، أو يقدر بماله وكسبه وما يأتيه من غلة وغيرها على أقل من نصف كفايته. فإن كان يجد النصف أو أكثر ولا يجد كل العشرة فمسكين. وقال الحنفية والمالكية: المسكين من لا يجد شيئًا أصلاً فيحتاج للمسألة وتحل له. واختلف قولهم في الفقير، فقال الحنفية: الفقير من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب، فإذا ملك نصابًا من أي مال زكوي فهو غني لا يستحق شيئًا من الزكاة، فإن ملك أقل من نصاب فهو غير مستحق، وكذا لو ملك نصابًا غير نامٍ وهو مستغرق في الحاجة الأصلية، فإن لم يكن مستغرقًا منع، كمن عنده ثياب تساوي نصابًا لا يحتاجها، فإن الزكاة تكون حرامًا عليه، ولو بلغت قيمة ما يملكه نصابًا فلا يمنع ذلك كونه من المستحقين للزكاة إن كانت مستغرقة بالحاجة الأصلية كمن عنده كتب يحتاجها للتدريس، أو آلات حرفة، أو نحو ذلك. وقال المالكية: الفقير من يملك شيئًا لا يكفيه لقوت عامه.

الغِنى المانع من أخذ الزكاة بوصف الفقر أو المسكنة: الأصل أن الغني لا يجوز إعطاؤه من الزكاة، وهذا اتفاق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حظ فيها لغني» (1). ولكن اختلف في الغنى المانع من أخذ الزكاة: فقال الجمهور من المالكية والشافعية وهو رواية عن أحمد قدمها المتأخرون من أصحابه: إن الأمر معتبر بالكفاية، فمن وجد من الأثمان أو غيرها ما يكفيه ويكفي من يمونه فهو غني لا تحل له الزكاة، فإن لم يجد ذلك حلت له ولو كان ما عنده يبلغ نُصُبًا زكوية، وعلى هذا، فلا يمنع أن يوجد من تجب عليه الزكاة وهو مستحق للزكاة. وقال الحنفية: هو الغنى الموجب للزكاة، فمن تجب عليه الزكاة لا يحل له أن يأخذ الزكاة. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم». ومن ملك نصابًا من أي مال زكوي كان فهو غني، فلا يجوز أن تدفع إليه الزكاة ولو كان ما عنده لا يكفيه لعامه، ومن لم يملك نصابًا كاملاً فهو فقير أو مسكين، فيجوز أن تدفع إليه الزكاة، كما تقدم. وفي رواية أخرى عند الحنابلة عليها ظاهر المذهب: إن وجد كفايته، فهو غني، وإن لم يجد وكان لديه خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب خاصة، فهو غني كذلك ولو كانت لا تكفيه، لحديث «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1633)، والنسائي (2598).

 

(2/67)

 

 

خموش أو خدوش أو كدوح. قالوا يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب» (1). وإنما فرقوا بين الأثمان وغيرها اتباعًا للحديث.

هل يجوز إعطاء الفقير والمسكين القادرين على الكسب؟

من كان من الفقراء والمساكين قادرًا على كسب كفايته وكفاية من يمونه، أو تمام الكفاية، لم يحل له الأخذ من الزكاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (2).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى» (3) وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وهو الراجح.

بينما ذهب الحنفية والمالكية إلى جواز إعطائه ما دام فقيرًا أو مسكينًا واحتجوا بما في قصة الحديث المذكور، من أن رجلين سألا النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة، فقلَّب فيهما بصره، فرآهما جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (4).

قالوا: فإنه أجاز إعطاءهما، وقوله (لا حظ فيها ...) معناه: لا حق ولا حظ لكما في السؤال (5).

قلت: ولا يخفى ما في هذا التأويل، والظاهر أن قوله (إن شئتما أعطيتكما) ليس المقصود به تجويز إعطائها، وإنما هو للتحذير، كقوله تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (6).

القدر الذي يُعطاه الفقير والمسكين من الزكاة

يُعطى الفقير والمسكين من الزكاة الكفاية أو تمامها، له ولمن يعول، عامًا كاملاً، ولا يزاد عليه، عند جمهور العلماء.

_________

(1) في سنده اختلاف. أخرجه الترمذي (650)، وابن ماجه (1840).

(2) أبو داود (1617)، والنسائي (5/ 99) وصححه الألباني.

(3) الترمذي (647)، وأبو داود (1618)، وانظر «صحيح الجامع» (7251).

(4) سبق تخريجه قريبًا.

(5) فتح القدير (2/ 28)، والمغنى (6/ 423)، والمجموع (6/ 190)، والموسوعة الفقهية (23/ 316).

(6) سورة الكهف: 29.

 

(2/68)

 

 

وإنما حددوا العام لأن الزكاة تتكرر كل عام غالبًا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يحبس لأهله قوت سنة» (1).

وقال بعضهم: فإن كان صاحب حرفة، أُعطى ما يشتري به أدوات حرفته بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته تقريبًا (2).

[3] العاملون على الزكاة: يجوز إعطاء العاملين على الزكاة منها. ويشترط في العامل الذي يعطى من الزكاة شروط تقدم بيانها. ولا يشترط فيمن يأخذ من العاملين من الزكاة الفقر، لأنه يأخذ بعمله لا لفقره. وقد قال النبي: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة .. فذكر منهم العامل عليها» (3). قال الحنفية: يدفع إلى العامل بقدر عمله، فيعطيه ما يسعه ويسع أعوانه غير مقدر بالثمن، ولا يزاد على نصف الزكاة التي يجمعها وإن كان عمله أكثر. وقال الشافعية والحنابلة: للإمام أن يستأجر العامل إجارة صحيحة بأجر معلوم، إما على مدة معلومة، أو عمل معلوم. ثم قال الشافعية: لا يعطى العامل من الزكاة أكثر من ثُمن الزكاة، فإن زاد أجره على الثُمن أتم له من بيت المال. وقيل من باقي السهام. ويجوز للإمام أن يعطيه أجره من بيت المال. وله أن يبعثه بغير إجارة ثم يعطيه أجر المثل. وإن تولى الإمام أو والي الإقليم أو القاضي من قبل الإمام أو نحوهم أخذ الزكاة وقسمتها لم يجُز أن يأخذ من الزكاة شيئًا، لأنه يأخذ رزقه من بيت المال وعمله عام.

[4] المؤلفة قلوبهم:

المؤلفة قلوبهم ضربان: كفار ومسلمون، وهم جميعًا السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم.

المسلمون منهم أربعة أضرب:

1 - سادة مطاعون في قومهم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيعطون تثبيتًا لهم.

2 - قوم لهم شرف ورياسة أسلموا ويعطون لترغيب نظرائهم من الكفار ليسلموا.

3 - صنف يراد بتألفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار، ويحملوا من يليهم من المسلمين.

_________

(1) البخاري (5357)، ومسلم (1757).

(2) المجموع (6/ 194).

(3) أخرجه أبو داود (1635)، وابن ماجه (1841).

 

(2/69)

 

 

4 - صنف يراد بإعطائهم من الزكاة أن يُجبوا الزكاة ممن لا يعطيها.

والكفار على ضربين:

1 - من يرجى إسلامه فيعطى لتميل نفسه إلى الإسلام.

2 - من يخش شره ويرجى بعطيته كف شره وكف غيره معه (1).

هل انقطع سهم المؤلفة قلوبهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنه لا يزال باقيًا:

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين (2):

الأول: أن سهم المؤلفة قلوبهم باق كغيره من الأصناف المذكورة في كتاب الله:

وهو مذهب أحمد، والمعتمد عند المالكية والشافعية، وهو قول الحسن، والزهري.

الثاني: أن سهمه قد انقطع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وحجتهم: أن الله قد أعزَّ الإسلام وأغناه عن أن يتألف عليه الرجال.

واستدلوا لهذا بأن عمر بن الخطاب لم يُعطِ هذا السهم إلى من كانوا يُعطَونه، وقال: «هو شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألفكم، والآن قد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم ...» (3).

«والحقيقة أن عمر لم يسقط هذا السهم مطلقًا، وإنما منعهم لزوال الوصف عنهم الذي بموجبه سموا (المؤلفة قلوبهم)، وهذا من قبيل الاجتهاد في توافر شروط تطبيق النص، وليس من قبيل إبطال حكم النص وهذا واضح. وعلى هذا فإذا ظهرت حاجة في إعطاء من يتحقق فيهم معاني وأوصاف (المؤلفة قلوبهم) فإن الإمام يعطيهم من هذا السهم حسب مصلحة المسلمين» (4) لا سيما وقد انقلبت عزة المسلمين ذلاًّ وظهر عليهم أعداؤهم، والله أعلم.

[5] في الرقاب: وهم ثلاثة أضرب: الأول: المكاتبون المسلمون: فيجوز عند الجمهور الصرف من الزكاة إليهم، إعانة لهم على فك رقابهم، ولم يجز ذلك مالك، كما لم يجز صرف شيء من الزكاة في إعتاق من انعقد له سبب حرية بغير الكتابة، كالتدبير والاستيلاء والتبعيض. فعلى قول الجمهور: إنما يعان المكاتب إن

_________

(1) «المغنى» لابن قدامة (2/ 498).

(2) شرح فتح القدير (2/ 200)، والمدونة (1/ 297)، والمجموع (5/ 144)، والمغنى (2/ 497).

(3) سنن البيهقي (7/ 20) بنحوه.

(4) «المفصل» لعبد الكريم زيدان (1/ 433 - 434) بتصرف.

 

(2/70)

 

 

لم يكن قادرًا على الأداء لبعض ما وجب عليه، فإن كان لا يجد شيئًا أصلاً دفع إليه جميع ما يحتاج إليه للوفاء. الثاني: إعتاق الرقيق المسلم، وقد ذهب إلى جواز الصرف من الزكاة في ذلك المالكية وأحمد في رواية، وعليه فإن كانت الزكاة بيد الإمام أو الساعي جاز له أن يشتري رقبة أو رقابًا فيعتقهم، وولاؤهم للمسلمين. وكذا إن كانت الزكاة بيد رب المال فأراد أن يعتق رقبة تامة منها، فيجوز ذلك لعموم الآية {وَفِي الرِّقَابِ} ويكون ولاؤها عند المالكية للمسلمين أيضًا، وعند الحنابلة: ما رجع من الولاء رد في مثله، بمعنى أنه يشتري بما تركه المعتق ولا وارث له رقاب تعتق. وعند أبي عبيد: الولاء للمعتق. وذهب الحنفية والشافعية وأحمد في رواية أخرى إلى أنه لا يعتق من الزكاة، لأن ذلك كدفع الزكاة إلى القن، والقن لا تدفع إليه الزكاة؛ ولأنه دفع إلى السيد في الحقيقة، وقال الحنفية: لأن العتق إسقاط ملك، وليس بتمليك، لكن إن أعان من زكاته في إعتاق رقبة جاز عند أصحاب هذا القول من الحنابلة. الثالث: أن يفتدي أسيرًا مسلمًا من أيدي المشركين، وقد صرح الحنابلة وابن حبيب وابن عبد الحكم من المالكية بجواز لأنه فك رقبة من الأسر، فيدخل في الآية بل هو أولى من فك رقبة من بأيدينا. وصرح المالكية بمنعه.

[6] الغارمون: والغارمون المستحقون للزكاة ثلاثة أضرب: الضرب الأول: من كان عليه دين لمصلحة نفسه. وهذا متفق عليه من حيث الجملة، ويشترط لإعطائه من الزكاة ما يلي:

1 - أن يكون مسلمًا.

2 - أن لا يكون من آل البيت، وعند الحنابلة قول بجواز إعطاء مدين آل البيت منها.

3 - واشترط المالكية أن لا يكون قد استدان ليأخذ من الزكاة، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ منها، بخلاف فقير استدان للضرورة ناويًا الأخذ منها.

4 - وصرح المالكية بأنه يشترط أن يكون الدين مما يحبس فيه، فيدخل فيه دين الولد على والده، والدين على المعسر، وخرج دين الكفارات والزكاة.

6 - أن يكون الدين حالاًّ، صرح بهذا الشرط الشافعية، قالوا: إن كان الدين مؤجلاً ففي المسألة ثلاثة أقوال، ثالثها: إن كان الأجل تلك السنة أعطى، وإلا فلا يعطى من صدقات تلك السنة.

 

(2/71)

 

 

7 - أن لا يكون قادرًا على السداد من مال عنده زكوي أو غير زكوي زائد عن كفايته، فلو كان له دار يسكنها تساوي مائة وعليه مائة، وتكفيه دار بخمسين فلا يعطى حتى تباع، ويدفع الزائد في دينه على ما صرح به المالكية، ولو وجد ما يقضي به بعض الدين أعطى البقية فقط، وإن كان قادرًا على وفاء الدين بعد زمن بالاكتساب، فعند الشافعية قولان في جواز إعطائه منها.

الضرب الثاني: الغارم لإصلاح ذات البين: الأصل فيه حديث قبيصة قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها» (1).

فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن هذا النوع من الغارمين يعطى من الزكاة سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، لأنه لو اشترط الفقر فيه لقلت الرغبة في هذه المكرمة، وصورتها أن يكون بين قبيلتين أو حيين فتنة، يكون فيها قتل نفس أو إتلاف مال، فيتحمله لأجل الإصلاح بينهم، فيعطى من الزكاة لتسديد حمالته، وقيد الحنابلة الإعطاء بما قبل الأداء الفعلي، ما لم يكن أدى الحمالة من دين استدانه؛ لأن الغرم يبقى، وقال الحنفية: لا يعطى المتحمل من الزكاة إلا إن كان لا يملك نصابًا فاضلاً عن دينه كغيره من المدينين. ولم يصرح المالكية بحكم هذا الضرب فيما اطلعنا عليه. الضرب الثالث: الغارم بسبب دين ضمان وهذا الضرب ذكره الشافعية، والمعتبر في ذلك أن يكون كل من الضامن والمضمون عنه معسرين، فإن كان أحدهما موسرًا ففي إعطاء الضامن من الزكاة خلاف عندهم وتفصيل (2).

الدين على الميت: إن مات المدين ولا وفاء في تركته لم يجز عند الجمهور سداد دينه من الزكاة. وقال المالكية: يُوفى دينه منها ولو مات، قال بعضهم: هو أحق بالقضاء لليأس من إمكان القضاء عنه، وهو أحد قولين عند الشافعية.

[7] في سبيل الله: وهذا الصنف ثلاثة أضرب. الضرب الأول: الغزاة في سبيل الله تعالى، والذين ليس لهم نصيب في الديوان، بل هم متطوعون للجهاد، وهذا الضرب متفق عليه عند الفقهاء من حيث الجملة، فيجوز إعطاؤهم من الزكاة قدر ما يتجهزون به للغزو من مركب وسلاح ونفقة وسائر ما يحتاج إليه الغازي لغزوه مدة الغزو وإن طالت، ولا يشترط عند الجمهور في الغازي أن يكون فقيرًا،

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1044)، وأبو داود (1624)، والنسائي (5/ 96).

(2) «الموسوعة الفقهية» (23/ 322).

 

(2/72)

 

 

بل يجوز إعطاء الغني لذلك، فإنه لا يأخذ لمصلحة نفسه، بل لحاجة عامة المسلمين، فلم يشترط فيه الفقر، وقال الحنفية: إن كان الغازي غنيًّا، وهو من يملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب كما تقدم في صنف الفقراء -فلا يعطى من الزكاة، وإلا فيعطى، وإن كان كاسبًا؛ لأن الكسب يقعده عن الجهاد، وعند محمد: الغازي منقطع الحاج لا منقطع الغزاة، وصرح المالكية بأنه يشترط في الغازي أن يكون ممن يجب عليه الجهاد، لكونه مسلمًا ذكرًا بالغًا قادرًا، وأنه يشترط أن يكون من غير آل البيت. وأما جنود الجيش الذين لهم نصيب في الديوان فلا يعطون من الزكاة، وفي أحد القولين عند الشافعية: إن امتنع إعطاؤهم من بيت المال لضعفه، يجوز إعطاؤهم من الزكاة. الضرب الثاني: مصالح الحرب وهذا الضرب ذكره المالكية، فالصحيح عندهم أنه يجوز الصرف من الزكاة في مصالح الجهاد الأخرى غير إعطاء الغزاة، نحو بناء أسوار للبلد لحفظها من غزو العدو، ونحو بناء المراكب الحربية، وإعطاء جاسوس يتجسس لنا على العدو، مسلمًا كان أو كافرًا، وأجاز بعض الشافعية أن يشتري من الزكاة السلاح وآلات الحرب وتجعل وقفًا يستعملها الغزاة ثم يردونها، ولم يجزه الحنابلة، وظاهر صنيع سائر الفقهاء -إذ قصروا سهم سبيل الله على الغزاة، أو الغزاة والحجاج -أنه لا يجوز الصرف منه في هذا الضرب، ووجهه أنه لا تمليك فيه، أو فيه تمليك لغير أهل الزكاة، أو كما قال أحمد: لأنه لم يؤت الزكاة لأحد، وهو مأمور بإيتائها.

الضرب الثالث: الحجاج: ذهب جمهور العلماء (الحنفية والمالكية والشافعية والثوري وأبو ثور وابن المنذر وهو رواية عن أحمد، وقال ابن قدامة: إنه الصحيح) إلى أنه لا يجوز الصرف في الحج من الزكاة؛ لأن سبيل الله في آية مصارف الزكاة مطلق، وهو عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، لأن الأكثر مما ورد من نذكره في كتاب الله تعالى قصد به الجهاد. فتحمل الآية عليه. وذهب أحمد في رواية، إلى أن الحج في سبيل الله فيصرف فيه من الزكاة، لما روى (أن رجلاً جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله» (1) فعلى هذا القول لا يعطى من الزكاة من كان له مال يحج به سواها، ولا يعطى إلا لحج الفريضة خاصة، وفي قول عند الحنابلة: يجوز حتى في حج التطوع. وينقل عن بعض فقهاء الحنفية أن مصرف «في سبيل الله» هو لمنقطع الحجاج. إلا أن مريد الحج يعطى من الزكاة عند الشافعية على أنه ابن سبيل كما يأتي.

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1974)، والحاكم (1838)، والبيهقي (6/ 164).

 

(2/73)

 

 

[8] ابن السبيل: سُمي بذلك لملازمته الطريق، إذ ليس هو في وطنه ليأوي إلى سكن. وهذا الصنف ضربان: -الضرب الأول: المتغرب عن وطنه الذي ليس بيده ما يرجع به إلى بلده: وهذا الضرب متفق على أنه من أصحاب الزكاة، فيعطى ما يوصله إلى بلده. إلا في قول ضعيف عند الشافعية: أنه لا يعطى؛ لأن ذلك يكون من باب نقل الزكاة من بلدها.

لا يعطى من الزكاة إلا بشروط: الشرط الأول: أن يكون مسلمًا، من غير آل البيت. الشرط الثاني: أن لا يكون بيده في الحال مال يتمكن به من الوصول إلى بلده وإن كان غنيًّا في بلده، فلو كان له مال مؤجل أو على غائب، أو معسر، أو جاحد، لم يمنع ذلك الأخذ من الزكاة على ما صرح به الحنفية. الشرط الثالث: أن لا يكون سفره لمعصية. صرح بهذا الشرط المالكية والشافعية والحنابلة، فيجوز إعطاؤه إن كان سفره لطاعة واجبة كحج الفرض، وبر الوالدين، أو مستحبة كزيارة العلماء والصالحين، أو كان سفره لمباح كالمعاشات والتجارات، فإن كان سفره لمعصية لم يجز إعطاؤه منها لأنه إعانة عليها، ما لم يتب، وإن كان للنزهة فقط ففيه وجهان عند الحنابلة: أقواهما: أنه لا يجوز؛ لعدم حاجته إلى هذا السفر. الشرط الرابع: وهو للمالكية خاصة: أن لا يجد من يقرضه إن كان ببلده غنيًّا. ولا يعطى أهل هذا الضرب من الزكاة اكثر مما يكفيه للرجوع إلى وطنه، وفي قول للحنابلة: إن كان قاصدًا بلدًا آخر يعطى ما يوصله إليه ثم برده إلى بلده.

قال المالكية: فإن جلس ببلد الغربة بعد أخذه من الزكاة نزعت منه ما لم يكن فقيرًا ببلده، وإن فضل معه فضل بعد رجوعه إلى بلده نزع منه على قول عند الحنابلة. ثم قد قال الحنفية: من كان قادرًا على السداد فالأولى له أن يستقرض ولا يأخذ من الزكاة. الضرب الثاني: من كان في بلده ويريد أن ينشئ سفرًا: فهذا الضرب منع الجمهور إعطاءه، وأجاز الشافعية إعطاءه لذلك بشرط أن لا يكون معه ما يحتاج إليه في سفره، وأن لا يكون في معصية، فعلى هذا يجوز إعطاء من يريد الحج من الزكاة إن كان لا يجد في البلد الذي ينشئ منه سفر الحج ما لا يحج به. والحنفية لا يرون جواز الإعطاء في هذا الضرب، إلا أنَّ مَن كان ببلده، وليس له بيده مال ينفق منه وله مال في غير بلده، لا يصل إليه، رأوا أنه ملحق بابن السبيل (1).

_________

(1) «الموسوعة الفقهية» (23/ 324).

 

(2/74)

 

 

هل يجوز أن تُعطى الزكاة للابن أو الأب؟

دفع الزكاة إلى الوالدين، أو إلى الأبناء -ممن لا تلزمه نفقتهم- إن كانوا غارمين أو مكاتبين أو غزاة- جائز ومتجه قوي (1) وهو مذهب الشافعي (2).

وأما إن كانوا فقراء، وهو عاجز عن نفقتهم، فالجمهور على منع دفع الزكاة إليهم.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (3) أنه يجوز دفع الزكاة إليهم، إذا عجز عن نفقتهم.

وهذا هو الأظهر، لأن منع الجمهور من صرف الزكاة إلى من تلزم نفقتهم، كان لعلتين: (الأولى): أنه غني بالنفقة عليه، و (الثانية): أنه بالدفع إليه يجلب على نفسه نفعًا، وهو منع وجوب النفقة عليه.

فإذا كان الرجل عاجزًا عن النفقة عليهم أصلاً، أو لم تكن تلزمه نفقتهم، فقد انتفت العلتان، مع وجود المقتضى، فجاز، والله أعلم (4).

هل يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها لزوجها إن كان من أهل الزكاة.

اختلف العلماء في دفع المرأة زكاتها إلى زوجها على قولين:

[1] لا يجوز دفعها إليه: وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد (5).

وحجتهم في هذا:

- أنه أحد الزوجين فلم يجز للآخر دفع زكاته إليه كالآخر.

- وأنها تنتفع بدفعها إليه.

_________

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (25/ 90 - 92)، والمحلى (6/ 151 - 152).

(2) المجموع للنووي (6/ 229).

(3) مجموع الفتاوى (25/ 90 - 92).

(4) قلت: ولعله يؤيد الجواز، حديث معن بن يزيد قال: «.. وكان أبي -يزيد- أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردتُ فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن» رواه البخاري (1422).

وهذا يحتمل أن يكون معن ممن يلزم أباه نفقته فيكون حجة لجواز دفع الزكاة إلى الأبناء مطلقًا. وإما أن يكون مستقلاًّ عن نفقة أبيه، فيكون حجة لجواز دفع الزكاة إلى الأبناء الذين لا يلزم الأب النفقة عليهم، والله أعلم.

(5) المدونة (1/ 298)، وشرح فتح القدير (2/ 209)، والمغنى (2/ 484).

 

(2/75)

 

 

[2] يجوز دفعها إليه: وهذا مذهب الشافعي والرواية الأخرى عن أحمد (1).

وهو الراجح لموافقته للدليل:

- لحديث أبي سعيد أن زينب امرأة ابن مسعود، قالت: يا بني الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حُليٌّ لي فأردت أن أتصدق بها، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحقُّ من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم» (2).

ولأنه لا تجب على المرأة نفقة زوجها، فلا يمنع دفع الزكاة إليه كالأجنبي.

أما زكاة الرجل، فلا يجوز أن تُدفع إلى زوجته، لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن أخذ الزكاة، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على هذا (3).

هل تدفع الزكاة إلى الأقارب ذوي الأرحام؟

يجوز دفع الزكاة إلى الأقارب إذا كانوا من أهل الزكاة، وهو أفضل من دفعها إلى غيرهم.

لقوله صلى الله عليه وسلم: «صدقتك على ذي الرحم: صدقة وصلة» (4).

ويشهد له ما في حديث زينب: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم، ولها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة» (5) وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة لما جاء بصدقته إليه: «... وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ...» (6).

هل يجوز دفع الزكاة إلى الفاسق والمبتدع ومن يستعين بها على المعصية؟

لا يخلو حال المنتسبين إلى الإسلام -والذين قد يكونون مستحقين للزكاة- من ثلاثة أحوال:

_________

(1) المجموع (6/ 138)، والمغنى (2/ 484).

(2) البخاري (1462)، ومسلم (1000)، وابن ماجه (1834).

(3) المغنى (6/ 649)، والبدائع (2/ 49).

(4) أخرجه الترمذي (658)، والنسائي (2582)، وابن ماجه (1844) وفيه ضعف.

(5) البخاري (1466)، ومسلم (998).

(6) البخاري (1461)، ومسلم (998).

 

(2/76)

 

 

1 - أن يكونوا مسلمين طائعين مقيمين للشرائع:

فهؤلاء تدفع إليهم الزكاة -إذا كانوا من أهلها- بلا خلاف.

2 - أن يكونوا من أهل البدع المكفِّرة:

فهؤلاء تمنع الزكاة عنهم، بلا خلاف، لأنهم خارجون بهذه البدع من الملة، والكفار لا يعطون من الزكاة بالإجماع.

3 - أن يكونوا من أهل البدع والمعاصي:

فهؤلاء إن غلب على ظن المعطي أنهم يصرفونها في المعصية فلا يجوز أن يُعطوا من الزكاة (عند الشافعية والحنابلة).

ولذا قال شيخ الإسلام، كما في الفتاوى (25/ 87):

«فينبغي للإنسان أن يتحرى بزكاته المستحقين من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم من أهل الدين المتبعين للشريعة.

ومن أظهر بدعة أو فجورًا فإنه يستحق العقوبة بالهجر وغيره، والاستتابة، فكيف يعان على ذلك؟

كذلك لا ينبغي أن تعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته، فمن لا يصلي لا يُعطى حتى يتوب ويلتزم بأداء الصلاة، ومن كان من هؤلاء منافقًا أو مظهرًا لبدعة تخالف الكتاب والسنة من بدع الاعتقادات والعبادات، فإنه مستحق لعقوبة، ومن عقوبته أن يُحرم حتى يتوب ...» اهـ.

وأما إن لم يكونوا يستعينون بمال الزكاة على المعصية: فرأى شيخ الإسلام أنهم لا يعطون كذلك.

ورأى غيره أنهم يعطون لأنهم داخلون في عموم آية مصارف الزكاة ولم تفرق بين عاصٍ ومطيع.

وعلى كل حال فالأولى تقديم أهل الدين المستقيمين عليه في الاعتقاد والعمل، على من عداهم عند الإعطاء من الزكاة. والله أعلم.

قلت: ومما ورد في هذا الباب:

1 - عن قزعة قال: «قلت لابن عمر: إن لي مالاً، فإلى من أدفع زكاته؟

 

(2/77)

 

 

فقال: ادفعها إلى هؤلاء القوم -يعني الأمراء- قلت: إذًا يتخذون بها ثيابًا وطيبًا، فقال: وإن اتخذوا بها ثيابًا وطيبًا، ولكن في مالك حق سوى الزكاة» (1).

2 - عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: «أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال وأريد إخراج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى؟ قال: ادفعها إليهم، فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد رضي الله عنهم فقالوا مثل ذلك» (2).

والظاهر من سياق هذه الآثار، أن المراد بالقوم -الذين يدفع إليهم الزكاة رغم عصيانهم- الأمراء ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم، فليس فيه معارضة لما رجحناه من مذهب شيخ الإسلام، والله أعلم.

هل تُدفع الزكاة إلى «الهاشميين»؟

بنو هاشم هم: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وآل الحارث، وكذلك آل المطلب، على الراجح (3).

وهؤلاء لا يحل لهم أن يأخذوا من الزكاة المفروضة، بلا خلاف بين أهل العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، وإنما هي أوساخ الناس» (4).

ومعنى (أوساخ الناس): أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم فهي غسالة الأوساخ.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا لا تحل لنا الصدقة» (5).

وقال صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي لما أخذ تمرة من تمر الصدقة: «كخ كخ (ليطرحها) أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة» (6).

وقد اختار شيخ الإسلام أنه يجوز لبني هاشم أن يأخذوا من زكاة الهاشميين لا من زكاة الناس، وهذا مروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف (7).

_________

(1) «الأموال» لأبي عبيد (1798) بسند صحيح ونحوه ابن أبي شيبة (4/ 28).

(2) «الأموال» (1789)، والبيهقي (4/ 115) بسند صحيح.

(3) لقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما عند البخاري (40/ 3) وغيره-: «إنا وبني المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد» وشبك بين أصابعه.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1072)، والنسائي (2609).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1069)، وأبو داود (1650).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1491)، ومسلم (1069).

(7) فتح القدير لابن الهمام (2/ 272)، وانظر «الجامع للاختيارات الفقهية لابن تيمية» د. أحمد موافي (1/ 400).

 

(2/78)

 

 

نقل الزكاة

الأصل أن تؤخذ الزكاة من أغنياء البلد، وتردُّ على فقرائهم، فلا تنقل إلى بلد آخر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم» (1).

لكن إذا استغنى أهل بلد المزكي عن الزكاة، أو كان غيرهم أشد حاجة إليها أو كانوا أقرب للمزكي مع استحقاقهم للزكاة، أو غير ذلك من المصالح الراجحة، فإنه لا حرج في نقل الزكاة إلى بلد آخر، والله أعلم.

 

زكاة الفطر

تعريفها:

زكاة الفطر (اصطلاحًا): صدقة تجب بالفطر من رمضان.

الحكمة من مشروعية زكاة الفطر:

حكمة مشروعية زكاة الفطر: الرفق بالفقراء، بإغنائهم عن السؤال في يوم العيد، وإدخال السرور عليهم في يوم يُسر المسلمون بقدوم العيد عليهم، وتطهير من وجبت عليه بعد شهر الصوم من اللغو والرفث (2).

فعن ابن عباس قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (3).

حكم زكاة الفطر:

زكاة الفطر واجبة على كل مسلم، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:

«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (4).

وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (5) «هو زكاة الفطر».

_________

(1) متفق عليه وقد تقدم.

(2) المغنى (3/ 56).

(3) حسن: أخرجه أبو داود (1609)، وابن ماجه (1827) وغيرهما بسند حسن.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1503)، ومسلم (984) وغيرهما.

(5) سورة الأعلى: 14.

 

(2/79)

 

 

وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض (1).

على من تجب زكاة الفطر:

تجب زكاة الفطر على من توفرت فيه الشروط الآتية:

[1] الإسلام: لأن زكاة الفطر قُربة من القُرب، وطهرة للصائم من الرفث واللغو -كما تقدم- وليس الكافر من أهلها، وإنما يعاقب على تركها في الآخرة، ولذا قال في حديث ابن عمر المتقدم «... من المسلمين» والإسلام شرط عند جمهور العلماء، خلافًا للشافعية، فالأصح عندهم أنه يجب على الكافر أن يؤديها عن أقاربه المسلمين (2).

[2] القدرة على إخراج زكاة الفطر:

وحدُّ هذه القدرة: أن يكون عنده فضل عن قوته وقوت من في نفقته ليلة العيد ويومه، عند جمهور العلماء (المالكية والشافعية والحنابلة) (3).

لأن من كان هذه حاله يكون غنيًّا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار» فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: «أن يكون له شبع يوم وليلة» (4).

وخالف الحنفية وأصحاب الرأي فقالوا: لا تجب إلا على من يملك نصابًا من النقد أو ما قيمته فاضلاً عن مسكنه (5).

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صدقة إلا عن ظهر غني» (6) قالوا: والفقير لا غنى له فلا تجب عليه، ولأن الصدقة تحل له فلا تجب عليه كمن لا يقدر عليها.

قلت:

ورأي الجمهور أرجح، لأمور:

_________

(1) «الإجماع» لابن المنذر (ص: 49).

(2) الدر المختار (2/ 72)، ومغنى المحتاج (1/ 402).

(3) مغنى المحتاج (1/ 403، 628)، والمغنى (3/ 76).

(4) حسن: أخرجه أبو داود (1629) بسند حسن.

(5) شرح فتح القدير (2/ 218)، وحاشية ابن عابدين (2/ 360).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1426).

 

(2/80)

 

 

1 - أن فرض زكاة الفطر ورد مطلقًا على الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد، ولم يقيدها بغني أو فقير، كما قيد زكاة المال بقول (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).

2 - أن زكاة الفطر لا تزيد بزيادة المال، فلا يعتبر وجوب النصاب فيها كالكفارة.

3 - أن الاستدلال بحديث: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» لا يسلم لهم، فإننا نقول معهم: إن العاجز عنها لا تجب عليه، بل قدمنا الحديث بأن الإنسان يغنيه شبع يوم وليلة.

فائدة: تجب زكاة الفطر على المسلم القادر على أدائها، حتى وإن كان عبدًا مملوكًا -كما ذهب إليه الحنابلة- خلافًا لجمهور الفقهاء، فقد اشترطوا لإيجاب الزكاة الحرية، وقالوا: لا تجب على العبد لأن العبد لا يملك.

والصواب أنه يجب على السيد المسلم أن يخرج زكاة الفطر عن عبده، لحديث ابن عمر قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل عبد أو حر، صغيرًا أو كبيرًا» (1).

والخلاصة:

أن زكاة الفطر تجب على كل حر مسلم -يملك قوته وقت عياله يومًا أو ليلة- عن نفسه وعمن تلزمه نفقته: كزوجته وأبنائه وخدمه المسلمين. فعن ابن عمر قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد ممن تمونون» (2).

وذهب ابن حزم إلى أن زكاة الفطر لا تجب على شخص عن غيره، لا عن أبيه ولا عن أمه ولا عن زوجته ولا عن أحد ممن تلزمه نفقته إلا عن نفسه، وأنه يجب على كل من هؤلاء إخراجها عن نفسه من ماله لظاهر حديث ابن عمر المتفق عليه.

فوائد:

1 - لا يلزم الرجل إخراج زكاة الفطر عن زوجته التي لم يدخل بها لأنه لا تلزمه نفقتها.

_________

(1) صحيح: وتقدم قريبًا.

(2) حسن لغيره: أخرجه الدارقطني (220)، ومن طريقه البيهقي (4/ 161)، وانظر «الإرواء» (835).

 

(2/81)

 

 

2 - إذا نشزت المرأة في وقت زكاة، الفطر، ففطرتها على نفسها لا على زوجها.

3 - إذا كانت الزوجة كتابية فلا يخرج عنها زكاة الفطر.

الأنواع التي تخرج في زكاة الفطر:

تُخرج زكاة الفطر مما يقتاته المسلمون، ولا تُقتصر على ما نص عليه (الشعير والتمر والزبيب) بل تخرج من الأرز والذرة ونحوهما مما يعتبر قوتًا.

وهذا أصح أقوال العلماء -وهو مذهب الشافعية والمالكية (1) - واختاره شيخ الإسلام، وأما فرض النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، فلأن هذا كان قوت أهل المدينة، ولو كان هذا ليس قوتهم بل يقتاتون غيره، لم يكلفهم أن يخرجوا مما لا يقتانون، كما لم يأمر بذلك في الكفارات، فقد قال تعالى في الكفارة {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (2).

وصدقة الفطر من جنس الكفارات، فكلاهما متعلق بالبدن، بخلاف صدقة المال فإنها تجب بسبب المال من جنس ما أعطاه الله (3).

وأما الحنابلة فقالوا: لا يجزئ إلا التمر والشعير والبر.

ما المقدار الواجب عن كل شخص في زكاة الفطر:

لأهل العلم في المقدار الواجب عن الشخص مذهبان (4):

الأول: أن الواجب صاع من أي صنف:

وبهذا قال جمهور العلماء -خلافًا لأبي حنيفة وأصحاب الرأي- وحجتهم:

1 - حديث أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية المدينة، فتكلم، فكان مما كلَّم الناس: إني لأرى مُدَّيْن من سمراء الشام [يعني: القمح] تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك [قال أبو سعيد]: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه» (5).

_________

(1) لكنهم اشترطوا أن تكون من المعشرات.

(2) سورة المائدة: 89.

(3) مجموع الفتاوى (25/ 69).

(4) المدونة (1/ 358)، والمجموع (6/ 48)، والمغنى (3/ 81)، وشرح فتح القدير (2/ 225).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1505)، ومسلم (985)، وأبو داود (1616)، والترمذي والنسائي.

 

(2/82)

 

 

2 - حديث ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر: صاعًا من تمر، وصاعًا من شعير، فعدل الناس إلى نصف صاع من بُر» (1).

المذهب الثاني: أن الواجب: الصاع إلا في البر فيجزئ نصف الصاع:

وهذا مذهب أصحاب الرأي، والزبيب كالبر عند أبي حنيفة في رواية، وحجتهم:

1 - ما رُوى عن ثعلبة بن أبي صُعير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«صاع من بُر أو قمح على كل اثنين» (2).

2 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديًا في فجاج مكة: «ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم: ذكر أو أنثى أو عبد، صغير أو كبير، مُدَّان من قمح، أو سواهما صاعًا من طعام» (3).

قال الحافظ في الفتح (3/ 437):

«قال ابن المنذر: لا نعلم في القمح خبرًا ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثُر زمنَ الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمة، فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة أنهم رأوا في زكاة الفطر نصف صاع من قمح. اهـ[كلام ابن المنذر] وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية، لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة ...» اهـ (من الفتح).

فائدة: الصاع =4 أمداد = 1/ 6 كيلة مصرية = 2.157 كيلو جرام (بالوزن تقريبًا).

متى تُخرج زكاة الفطر:

يجب إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد، ويحرم تأخيرها إلى ما بعدها؛ فعن ابن عمر قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (4).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1511)، ومسلم (984).

(2) ضعيف: أبو داود (1619) بسند صحيح.

(3) ضعيف: الترمذي (669) بسند لين، وفيه اختلاف، وانظر تحفة الأحوذي (3/ 348).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1509)، ومسلم (986) وغيرهما.

 

(2/83)

 

 

وعن ابن عباس قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (1).

أما بداية وقت الوجوب فهو: غروب شمس آخر يوم من رمضان (عند الشافعية والحنابلة وقول عند المالكية) وطلوع فجر يوم العيد (عند الحنفية وقول عند المالكية) (2).

وفائدة الخلاف في بداية وقت الوجوب يظهر فيمن مات بعد غروب الشمس آخر يوم من رمضان، فعلى القول الأول: تخرج عنه زكاة الفطر لأنه كان موجودًا وقت وجوبها، وعلى الثاني: لا يخرج عنه.

وكذلك من ولد بعد غروب الشمس آخر يوم من رمضان: فعلى الأول: لا تخرج عنه وعلى الثاني: تخرج عنه.

يجوز إخراج زكاة الفطر قبل وقت وجوبها:

يجوز تعجيل زكاة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين:

فعن نافع قال: «كان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين» (3).

هل تسقط زكاة الفطر بخروج وقتها:

اتفق العلماء على أن زكاة الفطر لا تسقط إذا خرج وقتها، لأنها وجبت في ذمته لمستحقيها، فهي دين لهم لا يسقط إلا بالأداء، لأنها حق للعبد، أما حق الله في التأخير عن وقتها فلا، إلا بالاستغفار والندامة، والله أعلم.

هل يجزئ إخراج القيمة في زكاة الفطر:

تقدم الكلام (4) عن حكم إخراج القيمة في الزكوات عمومًا، وأن الأصل إخراجها على الوجه الذي ورد به النص، ولا يعدل عنه إلى إخراج القيمة إلا لضرورة أو حاجة أو مصلحة راجحة، فيجزئ حينئذ، والله أعلم.

_________

(1) حسن: تقدم تخريجه قريبًا.

(2) «الموسوعة الفقهية» (23/ 340).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1511)، ومسلم (986).

(4) راجع ص (....).

 

(2/84)

 

 

مصرف زكاة الفطر

اختلف العلماء في مصرف زكاة الفطر على قولين:

الأول: أن مصرفها هو مصارف الزكاة الثمانية:

وهو مذهب جمهور العلماء، خلافًا للمالكية (1).

الثاني: أنها تصرف للمحتاجين (الفقراء والمساكين فقط):

وهو مذهب المالكية واختاره شيخ الإسلام (2)، وهو الراجح، لمناسبته لمشروعية زكاة الفطر من كونها «طعمة للمساكين ...» (3).

ولأن صدقة الفطر أشبه بالكفارة، فلا يجزئ إطعامها إلا لمن يستحق الكفارة.

_________

(1) الدر المختار (2/ 369)، والمجموع (6/ 144).

(2) مجموع الفتاوى (25/ 73).

(3) حسن: وقد تقدم تخريجه.

 

(2/85)

 

 

5 - كتاب الصيام

 

(2/86)

 

 

تعريف الصيام (1):

الصيام والصوم لغةً: الإمساك والكف عن الشيء، ويستعمل في كل إمساك، قال تعالى إخبارًا عن مريم -عليها السلام-: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} (2). أي صمتًا وإمساكًا وكفًّا عن الكلام.

وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع نية التعبد لله تعالى.

من فضائل الصيام وفوائده

(أ) الصيام من أعظم الطاعات التي يُتقرَّب بها إلى الله سبحانه، ويثاب المؤمن عليه ثوابًا لا حدود له، وبه تغفر الذنوب المتقدمة، وبه يباعد بين وجهه وبين النار وبه يستحق العبد دخول الجنان من باب خاص أُعدَّ للصائمين، وبه يفرح العبد عند لقاء ربه.

1 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإن كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإنه شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم -مرتين- والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه» (3).

2 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (4).

3 - وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصوم عبد يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا» (5).

4 - وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة بابًا يقال له الريَّان

_________

(1) «اللباب» (1/ 162)، و «المجموع» (6/ 248)، و «المغنى» (3/ 84).

(2) سورة مريم: 26.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) وغيرهما.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1900)، ومسلم (760) وغيرهما.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (2840)، ومسلم (1153) وغيرهما.

 

(2/87)

 

 

يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» (1).

(ب) والصيام مدرسة خلقية كبرى يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء ونزغات الشيطان التي قد تلوح له، ويتعوَّذُ به الإنسان خلق الصبر على ما قد يُحرم منه وعلى الأهوال والشدائد التي قد يتعرض لها، ويعلم النظام والانضباط، وينمي في الإنسان عاطفة الرحمة والأخوة والشعور بالتضامن والتعاون التي تربط المسلمين (2).

 

أقسام الصيام:

اعلم أن الصيام على قسمين:

1 - صيام واجب.

2 - صيام تطوع.

 

1 - الصيام الواجب وأقسامه:

الصيام الواجب على ثلاثة أقسام (3):

(أ) ما يجب للزمان نفسه، وهو صوم (شهر رمضان) بعينه، وهو الذي نتناول أحكامه هنا.

(ب) ما يجب لعلَّة، وهو صيام (الكفارات).

(جـ) ما يجب لإيجاب الإنسان ذلك على نفسه: وهو (صيام النَّذر).

وهذان القسمان (صيام الكفارة والنذر) سنذكره مفرقًا في مواضعه في أبواب الفقه.

 

صيام رمضان

حكمه: صيام رمضان واجب على كل مسلم بالغ عاقل صحيح مقيم وهو ركن من أركان الإسلام، دلَّ على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع الأمة:

فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1896)، ومسلم (1152) وغيرهما.

(2) «الفقه الإسلامي وأدلته» (2/ 566 - 568).

(3) «بداية المجتهد» (1/ 422).

 

(2/88)

 

 

أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1).

ومن السنة:

1 - حديث طلحة بن عبد الله رضي الله عنه أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس -وفيه- فقال: أخبرني مما فرض الله عليَّ من الصيام، فقال: «شهر رمضان إلا أن تطوع شيئًا» (2).

2 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» (3).

3 - حديث جبريل المشهور وفيه: قال: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان ...» (4) الحديث.

- وقد أجمع المسلمون على أن الصوم ركن من أركان الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة بحيث يكفر مُنكره، وأنه لا يسقط عن المكلف إلا بعذر من الأعذار الشرعية المعتبرة (5) التي يأتي ذكرها.

من فضائل «رمضان» والعمل فيه:

1 - عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شهران لا ينقصان، شهرا عيد: رمضان وذو الحجة» (6).

وفيه أن رمضان وذو الحجة في الفضل سيَّان، وأن كل ما ورد في فضلهما وأجرهما وثوابهما حاصل بكماله وإن كان الشهر تسعًا وعشرين (7).

_________

(1) سورة البقرة: 183 - 185.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9).

(5) «الإفصاح» لابن هبيرة (1/ 232)، و «المغنى» (3/ 285)، و «المجموع» (6/ 252).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1912)، ومسلم (1089).

(7) «فتح الباري» (4/ 150)، و «المجموع» (6/ 253)، و «صحيح ابن حبان» (8/ 218 - إحسان).

 

(2/89)

 

 

2 - وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل شهر رمضان، فتحت أبوب السماء، وغُلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين» (1).

3 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (2).

قال أبو حاتم بن حبان: «إيمانًا» يريد إيمانًا بفرضه، و «احتسابًا» يريد به مخلصًا فيه.

4 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (3)

5 - أن فيه العشر الأواخر وليلة القدر، وسيأتي فضلها والعمل فيها.

بم يجب صيام رمضان (ثبوت الشهر):

يجب صيام رمضان بثبوت الشهر، وهو يثبت بأحد أمرين:

1 - رؤية هلال رمضان:

قال الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (4).

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له» (5).

وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» (6).

معرفة الهلال بالرؤية لا بالحساب:

الطريق إلى معرفة الهلال هو الرؤيا لا غيرها، وضبط مكان الطلوع بالحساب لا يصح، فإنا نعلم بالاضطرار -من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم والحج، أو العدة، أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال، بخبر الحاسب لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، منها قوله

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1899)، ومسلم (1079).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (38)، و (4/ 157)، وابن ماجه (1641).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (233).

(4) سورة البقرة: 185.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1900)، ومسلم (1080).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1907).

 

(2/90)

 

 

صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا ...» (1) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين، وقد أجمع المسلمون بذلك عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم -أصلاً- ولا خلاف حديث إلا عن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة في جواز أن يعمل الحاسب -في نفسه- بالحساب، وهذا شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه (2).

رؤية هلال رمضان تثبت بشاهد عدل (3):

إذا رأى واحدٌ عدل يوثق به هلال رمضان فإنه يُعمل بخبره عند أكثر أهل العلماء، كأبي حنيفة والشافعي -في أصدق قوليه وهو الصحيح عنده- وأحمد وأهل الظاهر واختاره ابن المنذر.

وذهب مالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي في قوله الآخر إلى اشتراط شاهدي عدل، قياسًا على الشهادة، والأول أظهر لأن تشبيه رائي الهلال بالراوي، أمثل من تشبيهه بالشاهد، وقد صح في الشرع قبول خبر الواحد، ثم إنه يتشدد في الأموال والحقوق ما لا يتشدد في الأخبار الدينية.

ويدل على الاكتفاء بخبر الواحد، حديث ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال، فرأيته، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصام وأمر الناس بصيامه» (4).

والخبر بهذا من الرجل والمرأة على السواء في أصح قولي العلماء (5).

وأما هلال شوال:

فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يكفي في إثبات هلال شوال شهادة واحد، وإنما لا يقبل فيه إلا شهادة عدلين، وخالف في هذا أبو ثور وابن حزم وأيده

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1913)، ومسلم (1080) وغيرهما.

(2) انظر «مجموع الفتاوى» (25/ 113، 132، 146)، وحاشية ابن عابدين (2/ 393)، و «المجموع» (6/ 279)، و «بداية المجتهد» (1/ 423).

(3) «بداية المجتهد» (1/ 426)، و «المحلى» (6/ 235)، و «المجموع» (6/ 289)، و «المغنى» (3/ 289) ط. الغد، و «نيل الأوطار» (4/ 222).

(4) صحيح: أبو داود (2342)، والدارمي (2/ 4)، وابن حبان (3447)، وانظر «الإرواء» (908).

(5) وهو مذهب الحنابلة، كما في «شرح المنتهى» (1/ 440)، وابن حزم في «المحلى» (6/ 350).

 

(2/91)

 

 

الشوكاني، وكأن ابن رشد مال إليه، وقالوا: بل يكفي شهادة الواحد لأنه أحد طرفي شهر رمضان فأشبه الأول.

قلت: وحجة الجماهير حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدثوه أنه قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (1).

وهو يدل على عدم جواز شهادة رجل واحد في الصيام والإفطار، فخرج الصيام بدليل حديث ابن عمر المتقدم، وبقي الإفطار حيث لا دليل على جوازه بشهادة واحد، والله أعلم.

من رأى الهلال وحده (2):

من رأى الهلال وحده فرُدَّ قولُه: فللعلماء في صومه أو فطره برؤيتهُ ثلاثة أقوال:

الأول: أنه يصوم إذا رأى هلال رمضان، ويفطر لهلال شوال سرًّا لئلا يخالف الجماعة وهذا قول الشافعي ورواية عن أحمد ومذهب ابن حزم، لقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (3).

الثاني: يصوم برؤيته، ولا يفطر إلا مع الناس، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والمشهور عن أحمد.

الثالث: لا يعمل برؤيته، فيصوم مع الناس ويفطر معهم، وهو رواية عن أحمد واختاره شيخ الإسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون» (4) ومعناه أن الصوم والفطر يكون مع الجماعة.

قلت: والأظهر أنه يعمل برؤيته في الصيام والإفطار -سرًّا- إن خالف الناس، ما لم يزد صيامه على ثلاثين يومًا، والله أعلم.

2 - إكمال عدة شعبان ثلاثين:

لأن الشهر الهلالي لا يقل عن تسعة وعشرين ولا يزيد عن ثلاثين يومًا، فإذا لم يروا الهلال -مع صحو السماء وخلوها من الغيم وأي مانع للرؤية -ليلة

_________

(1) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 300)، وأحمد (4/ 321)، وانظر «الإرواء» (909).

(2) البدائع (2/ 80)، والمدونة (1/ 193)، والمبدع (3/ 10)، والمجموع (6/ 280)، والمحلى (6/ 350)، ومجموع الفتاوى (25/ 114).

(3) سورة البقرة: 185.

(4) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (2324) وغيره، وانظر «الإرواء» (905).

 

(2/92)

 

 

الثلاثين مع شعبان، أتموا شعبان ثلاثين وأصبحوا مفطرين إما وجوبًا وإما استحبابًا على ما يأتي في صيام يوم الشك.

إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو نحوه ليلة الثلاثين من شعبان:

فللعلماء في هذه المسألة أقوال، أشهرها أربعة (1).

الأول: لا يجوز صومه، لا وجوبًا ولا تطوعًا: وهو مذهب الجمهور ورواية عن أحمد واستدلوا بما يلي:

1 - حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرين ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» (2).

2 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتقدَّمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم» (3).

3 - حديث عمار بن ياسر قال: «من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (4).

4 - أن صيام هذا اليوم على سبيل الاحتياط من التنطُّع في الدين، لأن الاحتياط إنما يكون فيما كان الأصل وجوبه، أما ما كان الأصل عدمه فلا احتياط في إيجابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعِّون» (5).

الثاني: يجب صومه على أنه من رمضان: وهو المشهور من مذهب الحنابلة وبه قالت طائفة من الصحابة منهم علي وعائشة وابن عمر، وجماعة من السلف، واستدلوا بما يلي:

1 - أن ابن عمر رضي الله عنهما «كان إذا كان يوم الثلاثين من شعبان وحال دونه غيم أو قتر أصبح صائمًا» (6) قالوا: وابن عمر هو راوي حديث «فإن غم عليكم ...» فعمله تفسير له.

_________

(1) «البدائع» (2/ 78)، و «الخرشي» (2/ 238)، و «المجموع» (6/ 269)، و «الإنصاف» (2/ 269)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 124)، و «زاد المعاد» (2/ 46 - 49).

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (2317)، والترمذي (681)، والنسائي (4/ 153)، وابن ماجه (1645)، وانظر «الإرواء» (961).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (2670)، وأبو داود (4608) من حديث ابن مسعود.

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (2320)، وأحمد (2/ 5)، وانظر «الإرواء» (904).

 

(2/93)

 

 

2 - أن قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليه فاقدروا له» معناه (ضيِّقوا له) وتضييق العدد بأن يجعل شعبان تسعة وعشرين.

3 - أن قوله «فإن غم عليكم فاقدروا له» إنما هو في حال الصحو لأنه علَّق الصيام على الرؤية، فأما في حال الغيم فله حكم آخر.

4 - أنه يحتمل أن يكون الهلال قد ظهر ومنعه الغيم، فيصوم احتياطًا.

الثالث: أن الناس تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر فطروا: وهو رواية عن أحمد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحى الناس» (1).

قلت: وقول الجمهور بمنع الصيام أظهر للأدلة المتقدمة، وأما فعل ابن عمر فليس فيه ما يدل على أنه كان يعتقد وجوبه حتى يعتبر مفسرًا لما رواه، ويدل على ذلك أنه لو كان واجبًا لأمر الناس به ولو أهله، فغاية ما فيه أنه صامه استحبابًا أو احتياطًا، وهذا هو القول الرابع وهو الذي اختاره ابن تيمية وابن القيم، هذا على أنه قد ثبت عن ابن عمر قوله: «لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يُشك فيه» (2).

قلت: ثم إن فعل ابن عمر هذا مخالف لفعله صلى الله عليه وسلم الذي روته عائشة رضي الله عنه إذ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ عن شعبان ولا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عدَّ ثلاثين يومًا ثم صام» (3).

إذا تبيَّن في يوم الشك أنه من رمضان:

كأن يكون الذي رأى الهلال لم يحضر عند القاضي إلا في أثناء النهار، أو أن يروا الهلال من النهار -قبل الزوال- ونحو ذلك، فلا يخلو من أحد أربعة:

1 - أن يكون قد صام يوم الشك بنية أنه من رمضان -كما هو مذهب الحنابلة- فهذا يجزئه صيامه بلا خلاف.

2 - أن يكون قد صام هذا اليوم تطوعًا أو بنية معلقة، فذهب الجمهور إلى أنه لا يجزئه لأنه يجب تعيين النية واعتقاد أنه يصوم رمضان (4).

_________

(1) صححه الألباني: وقد تقدم قريبًا.

(2) إسناده صحيح: نقله ابن القيم في «الزاد» (2/ 49) هم حنبل في مسائله بسند صحيح.

(3) أخرجه أبو داود (2325)، وأحمد (6/ 149)، والبيهقي (4/ 206) وسنده مقارب.

(4) «الخرشي» (2/ 238)، و «المجموع» (6/ 270)، و «الروضة» (2/ 353)، و «المغنى» (3/ 27).

 

(2/94)

 

 

وقال أبو حنيفة: يجزئه -بناء على أصله في عدم اشتراط النية في رمضان- والإجزاء رواية عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام (1)، قلت: والأول أظهر من جهة الدليل.

3 - أن يصبح ناويًا الإفطار ثم يتيقن أثناء النهار -وقبل أن يطعم أو يشرب شيئًا- أنه رمضان، فقال الشافعي (2): يتم صومه وعليه الإعادة لأنه لم يبيت النية، وقال أبو حنيفة يجزئه.

4 - أن يصبح مفطرًا ثم يتيقن أثناء النهار أنه من رمضان بعد ما طعم وشرب، فيجب عليك الإمساك بقية يومه بلا خلاف، لحديث سلمة بن الأكوع قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم أن أذن في الناس: أن من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإنه اليوم يوم عاشوراء» (3) وقد كان واجبًا حينها، ثم عليه قضاء هذا اليوم لأنه لم يبيِّت النية من الليل، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (4) وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (5) إلى أنه لا يلزمه -والحالة هذه- أن يقضيه، لأن القضاء يفتقر إلى دليل -لا سيما مع عدم التفريط- وأجاب عن عدم النية بأن النية تتبع العلم، وأن الله تعالى لا يكلف أحدًا أن ينوي ما لم يعلم، والعلم لم يحصل إلا أثناء النهار وهو مذهب وجيه، لكن الأحوط قضاؤه، والله أعلم.

إذا رُؤى الهلال في بلد، فهل يلزم سائر البلاد؟

في هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل العلم:

الأول: إذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم دون اعتبار اختلاف المطالع:

وهذا هو المعتمد عند الحنفية، ومذهب المالكية، وبعض الشافعية، والمشهور عند الحنابلة (6).

- قالوا: لأن الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتموه فصوموا» لكل المسلمين.

_________

(1) «المبسوط» (3/ 60)، و «المغنى» (3/ 27).

(2) «فتح المالك في ترتيب التمهيد» لابن عبد البر (5/ 97).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (2007)، ومسلم (1129).

(4) «الأم» (2/ 95)، و «الكافي» لابن قدامة (1/ 350).

(5) «مجموع الفتاوى» (25/ 110)، و «الشرح الممتع» (6/ 342)، و «الاختيارات» (ص: 107).

(6) «حاشية ابن عابدين» (2/ 393)، و «الشرح الكبير» (1/ 510)، و «المجموع» (6/ 273)، و «الإنصاف» (3/ 273).

 

(2/95)

 

 

- ولأن ذلك أقرب إلى اتحاد المسلمين وتوحيد كلمتهم، ولسهولة الاتصال بين طرفي المعمورة في هذه الأزمان عن طريق الأقمار الصناعية.

الثاني: أن لكل بلد -تحت ولاية واحدة- رؤيتهم: وقد نقله ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق (1)، ودليلهم حديث كريب -مولى ابن عباس- قال: «قدمت الشام واستهل عليَّ هلال رمضان، وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» (2).

وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (3). ومفهومه أن من لم يشهده لا يصوم حتى يراه أو يكمل عدة شعبان.

الثالث: أنه يجب الصوم على البلاد التي لا تختلف مطالعها: وهذا أصح الأوجه عند الشافعية ومذهب بعض المالكية والحنفية وقول عند الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام (4) وهذا هو القول الوسط في المسألة، فإن المطالع تختلف باتفاق أهل المعرفة، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا، وأما القول الأول بعدم اعتبار اختلاف المطالع فهو مخالف لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات، فإنه لو غابت الشمس في المشرق فليس لأهل المغرب الفطر اتفاقًا، وأما حديث كريب فإنما يدل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده -ونحن نقول به- وإنما الخلاف في وجوب قضاء اليوم الأول، وليس هو في الحديث (5) ثم إنه لا يعدو كونه فهم ابن عباس لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصيام والإفطار لرؤية الهلال، والحجة إنما هي في المرفوع، والله أعلم.

_________

(1) «المغنى» (3/ 289 - الغد)، و «المجموع» (6/ 274).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1087)، وأبو داود (2332)، والنسائي (4/ 131)، والترمذي (693).

(3) سورة البقرة: 185.

(4) «القوانين الفقهية» (103) والمراجع السابقة.

(5) «المغنى» (3/ 289 - الغد)، وانظر «نيل الأوطار» (4/ 231).

 

(2/96)

 

 

شروط صحة الصيام:

يشترط لصحة الصيام أمران:

1 - الطهارة من الحيض والنفاس: وهو شرط لوجوب الأداء وللصحة معًا (1)، وسيأتي الكلام على ذلك قريبًا.

2 - النية: فإن صوم رمضان عبادة فلا يصح إلا بالنية كسائر العبادات، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (3).

ولأن الإمساك قد يكون للعادة أو لعدم الاشتهاء أو لمرض أو رياضة أو غير ذلك، فلا يتعين إلا بالنية، قال النووي: «لا يصح الصوم إلا بنية، ومحلها القلب» (4) اهـ.

ويشترط لإجزاء النية أربعة شروط:

(أ) الجزم: ويشترط قطعًا للتردد، حتى لو نوى ليلة الشك صيام غد، إن كان من رمضان لم يجزه (5).

(ب) التعيين: فلابد من تعيين النية في صوم رمضان وصوم الفرض والواجب، ولا يكفي مطلق الصوم، ولا تعيين صوم معين غير رمضان عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (6).

(جـ) التبييت: وهو إيقاع النية في الليل، ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وهذا شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة، لحديث ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يُجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له» (7).

_________

(1) «فتح القدير» (2/ 234)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 509).

(2) سورة البينة: 5.

(3) صحيح: تقدم مرارًا.

(4) «روضة الطالبين» (2/ 350).

(5) «الهداية» (2/ 248)، و «الروضة» (2/ 353)، و «كشاف القناع» (2/ 315).

(6) «روضة الطالبين» (2/ 350)، و «بداية المجتهد» (1/ 435)، و «المغنى» (3/ 22).

(7) أُعلَّ بالوقف: أخرجه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (4/ 196)، وابن ماجه (1700) بسند صحيح لكن أُعل بالوقف، والذي يظهر أنه مما لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع ثم هو إن كان موقوفًا فهو موافق للأصل إذ لابد من النية قبل الدخول في العبادة وقد صححه الألباني في «صحيح الجامع» (6538).

 

(2/97)

 

 

هل يشترط تبييت النية في صيام التطوع؟

تقدم حديث: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له».

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: «هل عندكم شيء؟» فقلنا: لا، قال: «فإني إذا صائم» ثم أتانا يومًا آخر فقلنا: يا رسول الله، أهدى لنا حَيْس، فقال: «أرينيه، فلقد أصبحت صائمًا» فأكل (1).

وقد اختلف أهل العلم، في حكم تبييت النية في صيام التطوع، لهذين الحديثين، فسلك الجمهور مسلك الجمع، فحملوا حديث حفصة على صيام الفرض، وحديث عائشة على صيام التطوع، والنية في صوم النافلة من النهار قبل الزوال، وبعضهم بعده، قال شيخ الإسلام (2) بعد حديث عائشة: «وهذا يدل على أنه أنشأ الصوم من النهار، لأنه قال: «فإني صائم»، وهذه الفاء تفيد السبب والعلة، فيصير المعنى: إني صائم لأنه لا شيء عندكم، ومعلوم أنه لو قد أجمع الصوم من الليل، لم يكن صومه لهذه العلة، وأيضًا: فقوله: «فإني إذن صائم»، و (إذن) أصرح في التعليل من الفاء ...» اهـ.

وأيدوا استدلالهم بأن هذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت إنشاء نية صوم التطوع من النهار عن: ابن مسعود، وابن عباس، وأبي أيوب، وأبي الدرداء وحذيفة وأبي طلحة رضي الله عنهم.

واستدلوا كذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالصوم يوم عاشوراء، وكان مفروضًا قبل فرض رمضان: «من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم» (3).

وذهب مالك والليث وابن حزم وتبعه الشوكاني مذهب الترجيح، فأخذوا بحديث حفصة، فلم يفرقوا بين صوم النفل والفرض في اشتراط تبييت النية، وقالوا:

إن قوله صلى الله عليه وسلم -في حديث حفصة- «لا صيام» نكرة في سياق النفي فيعم كل صيام، ولا يخرج عنه إلا ما قام الدليل على أنه لا يشترط فيه التبييت (4).

وأجابوا عن حديث عائشة بأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن نوى الصيام من

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1451).

(2) «شرح العمدة» (1/ 186).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) «نيل الأوطار» (4/ 233).

 

(2/98)

 

 

الليل، ولا أنه أصبح مفطرًا ثم نوى الصوم بعد ذلك، لكن فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبح متطوعًا صائمًا ثم يفطر وهذا مباح، فيحتمل أنه نوى من الليل وأراد أن يفطر، ويدل عليه قوله في حديث عائشة: «فلقد أصبحت صائمًا» ولا يجوز ترك اليقين في حديث حفصة للظن للمحتمل في حديث عائشة (1).

وأجابوا عن حديث (عاشوراء) بأن النية إنما صحت في نهار عاشوراء لكون الرجوع إلى الليل غير مقدور، والنزاع فيما كان مقدورًا فيخص الجواز بمثل هذه الصورة (2).

قلت: كلا المذهبين يحتمله الدليل واشتراط التبييت في التطوع أحوط والله أعلم.

(د) تجديد النية لكل ليلة من رمضان:

فيجب تبييت الصيام في كل ليلة من ليالي رمضان -عند الجمهور- لعموم حديث حفصة المتقدم ولأن كل يوم عبادة مستقلة لا يرتبط بعضه ببعض، ولا يفسد بفساد بعضه، ويتخللها ما ينافيها، وهو الليالي التي يحل فيها ما يحرم في النهار، فأشبهت القضاء بخلاف الحج وركعات الصلاة (3).

وذهب زفر ومالك -وهو رواية عن أحمد- أنه تكفي نية واحدة عن الشهر كله في أوله، كالصلاة، وكذلك في كل صوم متتابع ككفارة الصوم والظهار (4).

قلت: والأول أرجح لعموم الحديث، وقد أنصف ابن عبد الحكم -من المالكية- فقال بمذهب الجمهور.

فائدة: تتحقق النية على الوصف المتقدم بالقيام في وقت السحر وتناول الطعام والشراب في ذلك الوقت لا سيما لمن لم يكن هذا بعادة له في غير أيام الصوم، لأن النية هي القصد إلى الشيء أو الإرادة له، وهذا قد حصل له القصد المعتبر، والله أعلم.

ركن الصيام: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى المغرب.

قال الله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} (5).

_________

(1) «المحلى» (6/ 172، 173).

(2) «نيل الأوطار» (4/ 233).

(3) «رد المحتار» (2/ 87)، و «المجموع» (6/ 302)، و «كشاف القناع» (2/ 315).

(4) «القوانين الفقهية» (ص/ 80)، و «الشرح الكبير» (1/ 521).

(5) سورة البقرة: 187.

 

(2/99)

 

 

فقد أباح الله تعالى هذه الجملة من المفطرات ليالي الصيام، ثم أمر بالإمساك عنها في النهار، فدلَّ على أن حقيقة الصوم وقوامه هو الإمساك (1).

سنن الصوم وآدابه:

1 - السحور: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«تسحَّروا، فإن في السحور بركة» (2).

وعن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور» (3).

ويتحقق السحور ولو بجرعة ماء، فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تسحَّروا ولو بجرعة ماء» (4).

ولو جعل في السحور تمرًا فهو أفضل، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نِعْمَ سحور المؤمن التمر» (5).

2 - تأخير السحور: لحديث أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال:

«تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة»، قلت: كم بين الأذان والسحور؟ قال: «قدر خمسين آية» (6).

وعن أُنيسة بنت حبيب قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أذن ابن أم مكتوم، فكلوا واشربوا، وإذا أذَّن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا» فإن كانت الواحدة منا ليبقى عليها الشيء من سحورها، فتقول لبلال: أمهل حتى أفرغ من سحوري (7).

إذا سمع أذان الفجر وطعامه أو شرابه في يده: فله أن يتم أكلته أو شربته،

_________

(1) «تحفة الفقهاء» (1/ 537)، و «بدائع الصنائع» (2/ 90).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1096)، وأبو داود (2343)، والترمذي (709)، والنسائي (4/ 46).

(4) حسن: أخرجه ابن حبان (3476) وله شاهد عند أحمد (3/ 12)، وأبي يعلى (3340) عن أنس.

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2345)، وابن حبان (3475) وله شواهد.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1921)، ومسلم (1097) وغيرهما.

(7) إسناده صحيح: أخرجه بهذا اللفظ النسائي (2/ 10)، وأحمد (6/ 433)، وابن حبان (3474).

 

(2/100)

 

 

لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمع أحدكم النداء، والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» (1).

3 - تعجيل الإفطار: فعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير، ما عجَّلوا الفطر» (2).

وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر -وهو صائم- فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان، قم فاجدح لنا (3) فقال: يا رسول الله، لو أمسيت، قال: انزل فاجدح لنا ... (ثلاثًا) فنزل فجدح لهم، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم» (4).

4 - أن يفطر على الرطب أو التمر -إن تيسَّر- أو الماء:

فعن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من الماء» (5).

«فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خُلُوِّ المعدة أدعى إلى قبوله، وانتفاع القُوى به، ولا سيما القوم الباصرة، فإنها تقوى به، ... وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يُبس، فإذا رطبت بالماء، كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع، أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده، هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب» (6) اهـ.

5 - الدعاء عند الفطر بما يأتي:

عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: «ذهب الظمأ وابتلَّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2333)، والحاكم (1/ 426)، وانظر «صحيح الجامع» (607).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1957)، ومسلم (1097).

(3) الجدح: تحريك الطعام في القدر بعود ونحوه.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1955)، ومسلم (1101).

(5) حسن: أخرجه أبو داود (2356)، والترمذي (692)، وانظر «الإرواء» (922)، والصحيحة (2065).

(6) «زاد المعاد» (2/ 50، 51).

(7) حسَّنه الألباني: أخرجه أبو داود (2357)، والنسائي في الكبرى (3329 - 10131)، وابن السني (472)، وانظر «الإرواء» (920).

 

(2/101)

 

 

6، 7 - الجود، وقراءة القرآن ومدارسته:

فعن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة» (1).

8 - الترفُّع عما يحبط ثواب الصوم من المعاصي الظاهر والباطنة: فيجب أن يصون لسانه عن اللغو والهذيان والكذب، والغيبة والنميمة، والفحش والجفاء والخصومة والمراء، ويكف جوارحه عن جميع الشهوات والمحرمات، فإن هذا سر الصوم كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2). ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (3).

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم» (4).

ويستفاد من الحديثين: أن هذه المعاصي يزيد قبحها في الصيام على غيرها، وأنها تخدش في سلامة الصيام بل ربما اقتضت عدم الثوب عليه (5).

9 - أن يقول إذ شُتم: إني صائم.

لحديث أبي هريرة السابق، فيستحب لمن شُتم أن يقول لشاتمه في الصوم: (إني صائم) ويستحب أن يجهر بها سواء كان صوم فريضة أو نفل -على المختار (6) - وفي هذا فائدتان:

الأول: علم الشاتم بأن المشتوم لم يترك مقابلته إلا لكونه صائمًا لا لعجزه.

الثانية: تذكير الشاتم بأن الصائم لا يشاتم أحدًا، فيكون متضمنًا نهيه عن الشتم.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308).

(2) سورة البقرة: 183.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1903)، وأبو داود (2345)، والترمذي (702).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).

(5) انظر «فتح الباري» (4/ 140، 141 - سلفية).

(6) وهو اختيار شيخ الإسلام كما في «الاختيارات» (ص: 108).

 

(2/102)

 

 

مبطلات الصيام (المفطرات):

يبطل الصوم -بوجه عام- بانتفاء شرط من شروطه، أو اختلال ركن من أركانه، وأصول هذه المفطرات ثلاثة ذكرها الله في كتابه: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} (1).

وقد أجمع العلماء على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم، والمشروب، والجماع، ثم اختلفوا من ذلك في مسائل منها ما هو مسكوت عنه ومنها ما هو منطوف به (2).

المبطلات قسمان:

[أ] ما يبطل الصيام، ويوجب القضاء:

1، 2 - الأكل والشرب عامدًا ذاكرًا لصومه: فإن أكل أو شرب ناسيًا، فإنه يتم صومه ولا قضاء عليه، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي -وهو صائم- فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» (3).

ويستوي في ذلك الفرض والنفل -لعموم الأدلة عند الجمهور، خلافًا لمالك (4) فخص الحكم بصيام رمضان، وأما لو نسي في غير رمضان فأكل أو شرب فعليه القضاء عنده، والصحيح أنه لا فرق.

والأكل هو: إدخال شيء إلى المعدة عن طريق الفم، وهو عام يشمل ما ينفع، وما يضر، وما لا نفع فيه ولا ضرر.

إذا أكل أو شرب أو جامع ظانًا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر فظهر خلافه؟

لأهل العلم في هذه المسألة مذهبان:

الأول: أن عليه القضاء، وهو مذهب جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة (5).

_________

(1) سورة البقرة: 187.

(2) انظر «بداية المجتهد» (1/ 431 - العلمية).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1155).

(4) «المغنى» (3/ 50)، و «روضة الطالبين» (2/ 356)، و «القوانين الفقهية» (ص 83).

(5) «البحر الرائق» (2/ 292)، و «المنتقى» للباجي (2/ 292)، و «مغنى المحتاج» (1/ 432)، و «الشرح الكبير» (2/ 31)، و «المغنى» (3/ 354).

 

(2/103)

 

 

الثاني: أنه لا قضاء عليه، وهو مذهب إسحاق ورواية عن أحمد وداود وابن حزم وعزاه إلى جمهور السلف، وبه قال المزني من الشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (1)، وهو الراجح لما يأتي:

1 - لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ...} (2).

2 - وقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا ...} (3) فقال الله -كما في الحديث: «نعم» (4).

3 - حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: «أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس» قيل لهشام [الراوي عن أُمِّه فاطمة عن أسماء]: فأُمروا بالقضاء؟ قال: بُدٌّ من قضاء، وقال معمر: سمعت هشامًا يقول: «لا أدري أقضوا أم لا» (5).

فحديث أسماء لا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه، وأما كلام هشام فقاله برأيه، ويدل عليه سؤال معمر له.

فتحصَّل أنهم لم يؤمروا بالقضاء، ولو كان عليهم قضاء لحفظ، فلما لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأصل براءة الذمة، وعدم القضاء.

4 - قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (6). قد علَّق الإمساك على تبين طلوع الفجر لا على مجرد طلوعه.

5 - أن الجاهل معذور، ففي حديث عدي بن حاتم قال: «لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل، فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: «إنما ذلك سواد الليل والنهار» (7) ولم يأمره بالقضاء، لأنه جاهل ولم يقصد مخالفة الله ورسوله، بل رأى أن هذا حكم الله ورسوله فَعُذِر (8).

_________

(1) «المحلى» (6/ 220، 229)، و «المجموع» (6/ 311)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 231).

(2) سورة الأحزاب: 5.

(3) سورة البقرة: 286.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (125).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1959).

(6) سورة البقرة: 187.

(7) صحيح: أخرجه البخاري (4509)، ومسلم (1090).

(8) «الشرح الممتع» (6/ 403).

 

(2/104)

 

 

وهذا القول هو الأصح لموافقته الدليل، على أن يراعى الآتي:

1 - من أفطر قبل أن تغرب الشمس ثم تبين أنها لم تغرب، فيجب عليه الإمساك، لأنه أفطر بناء على سبب، ثم تبين عدمه.

2 - هذا إذا غلب على ظنه غروب الشمس أو طلوع الفجر، أما إذا كان شاكًّا لم يغلب على ظنه: فإن أكل شاكًّا في طلوع الفجر صحَّ صومه لأن الأصل بقاء الليل حتى يتيقن الفجر أو يغلب على ظنه، وإن أكل شاكًّا في غروب الشمس، لم يصح صومه، لأن الأصل بقاء النهار، فلا يجوز أن يأكل مع الشك، وعليه القضاء ما لم يعلم أنه أكل بعد الغروب فلا قضاء حينئذ، والله أعلم.

تعمُّد الأكل والشرب يوجب القضاء فقط (1): وبهذا قال الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وأهل الظاهر، وكثير من أهل العلم، لعدم ورود نص يوجب الكفارة إلا في الجماع -كما سيأتي- فيقتصر عليه ولا يعدى به إلى غيره لعظم هتك حرمة الشهر، لإمكانه أن يصبر عنه إلى الليل بخلاف ما اعتاده من الأكل والشرب، ولأن الحاجة إلى الزجر عنه أمسُّ والحكم في التعدي به آكد.

بينما ذهب مالك وأبو حنيفة وإسحاق وطائفة إلى أن تعمد الأكل والشرب يوجب القضاء والكفارة قياسًا على الجماع لاشتراكهما في انتهاك حرمة الصوم.

والأول أصح لعدم النص، والأصل أن الكفارات لا يقاس عليها. والله أعلم.

3 - تعمُّد القيء: فإن غلبه القيء وخرج بنفسه، فلا قضاء عليه ولا كفارة، بلا خلاف، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض» (2).

4، 5 - الحيض والنفاس: فمن حاضت أو نفست ولو في اللحظة الأخيرة من النهار، فسد صومها، وعليها قضاء هذا اليوم، بإجماع العلماء.

6 - تعمُّد الاستمناء: وهو تعمد إخراج المني بما دون الجماع، كالاستمناء باليد

_________

(1) «شرح فتح القدير» (2/ 70)، و «المدونة» (1/ 219)، و «المجموع» (6/ 329)، و «المغنى» (3/ 130)، و «المحلى» (6/ 185).

(2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (2380)، والترمذي (716)، وابن ماجه (1676)، وأحمد (2/ 468) وغيرهم، وأعله البخاري وأحمد كما في «نصب الراية» (2/ 448)، وصححه الألباني في «الإرواء» (923)، و «صحيح الجامع» (6243).

 

(2/105)

 

 

أو نحو ذلك بقصد إخراجه بشهوة، فإن أنزل بشيء من ذلك متعمدًا ذاكرًا لصيامه فسد صومه ولزمه القضاء عند الجمهور (1).

وذهب ابن حزم إلى أنه إن استمنى -بغير جماع- لم يفسد صومه وإن تعمَّد، قال: «ولم يأت بذلك نص ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس» (2).

قلت: ومذهب الجمهور أرجح، ويُستدل له بقول الله تعالى في الحديث القدسي في شأن الصائم: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» (3) والاستمناء شهوة وكذا خروج المني، ومما يؤكد أن المني يطلق عليه (شهوة) قوله صلى الله عليه وسلم: «وفي بُضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ فقال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام» ... الحديث (4) فالذي يوضع هو المني وقد سماه شهوة.

أما إذا تفكر أو نظر فأنزل، ولم يتعمد بتفكره أو نظره إلى امرأته ونحو ذلك إنزال المني، لم يفسد صومه.

7 - نيَّة الإفطار (5): فإن نوى -وهو صائم- إبطال صومه، وعزم على الإفطار جازمًا متعمدًا ذاكرًا أنه في صوم، بطل صومه، وإن لم يأكل أو يشرب لأن «لكل امرئ ما نوى» ولأن الشروع في الصوم لا يستدعي فعلاً سوى نية الصوم، فكذلك الخروج لا يستدعي فعلاً سوى النية، ولأن النية شرط أداء الصوم، وقد أبدله بضده، وبدون الشرط لا تتأدَّى العبادة.

وهذا مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد وأبي ثور والظاهرية وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا: إن عاد فنوى قبل انتصاف النهار أجزأ، بناء على أصلهم أنه تصح النية من النهار.

8 - الرِّدَّة عن الإسلام (6): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن من ارتد عن

_________

(1) «الدر المختار» (2/ 104)، و «القوانين الفقهية» (81)، و «روضة الطالبين» (2/ 361)، و «الأم» (2/ 86)، و «المغنى» (3/ 48)، و «كشاف القناع» (2/ 352).

(2) «المحلى» (6/ 203 - 205).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1984)، ومسلم (1151) عن أبي هريرة.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1006) عن أبي ذر.

(5) «المحلى» (6/ 175)، و «المجموع» (6/ 314)، و «المغنى» (3/ 25)، و «المبسوط» (3/ 87).

(6) «المغنى» (3/ 25)، و «كشاف القناع» (2/ 309).1

 

(2/106)

 

 

الإسلام في أثناء الصوم أنه يفسد صومه، وعليه القضاء إذا عاد إلى الإسلام، سواء أسلم أثناء اليوم أو بعد انقضائه، لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (1).

ولأن الصوم عبادة من شرطها النية فأبطلتها الردة.

ما يبطل الصيام، ويوجب القضاء والكفَّارة:

- وهو الجماع لا غيره:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله هلكت، قال: «ما لك؟»، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟» قال: لا، قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك أُتى النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيها تمر، قال: «أين السائل؟» فقال: أنا، قال: «خذ هذا فتصدق به»، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها (2) -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطعمه أهلك» (3). وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن جماع الصائم في نهار رمضان عامدًا مختارًا بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السبيلين (القبل أو الدبر المحرم) مفطر، يوجب القضاء والكفارة أنزل أو لم ينزل.

قلت (أبو مالك): مستند الجمهور في إيجاب القضاء على المُجامع في رمضان هو زيادة وردت في بعض طرق هذا الحديث وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخره: «وصم يومًا مكانه» (4)

وهي زيادة ضعيفة لا تثبت، ولذا ذهب ابن حزم -رحمه

_________

(1) سورة الزمر: 65.

(2) يعني: بين طرفي المدينة.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111).

(4) حديث أبي هريرة المتقدم مروي من طريق الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به بدون ذكر القضاء، رواه عن الزهري على هذا الوجه -فيما وقفت عليه- أكثر من عشرة من الثقات، في الصحيحين وغيرهما.

وخالفهم، هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة (!!) عن أبي هريرة وزاد: «وصم يومًا مكانه» أخرجه الدارقطني (2/ 190)، وهشام بن سعد فيه ضعف.

ورواه عبد الجبار بن عمر عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب عن أبي هريرة بهذه الزيادة، وأخرجه ابن ماجه (1671) لكن عبد الجبار واهٍ، وعند مناكير كما قال البخاري، فلا يُفرح به، ثم إنه قد رُوى عن ابن المسيب مرسلاً ليس فيه ذكر أبي هريرة، أخرجه البيهقي (4/ 227).

 

وللحديث بهذه الزيادة شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 348) وفي سنده حجاج بن أرطأة، وهو ضعيف كذلك، فالذي يظهر لي أن هذه الزيادة لا تثبت، والله أعلم.

وانظر «المحلى» لابن حزم (6/ 180) مسألة رقم (735).

 

(2/107)

 

 

الله- إلى أن عليه الكفارة فقط دون القضاء، وهذا قوي ومتجه، وهو موافق لما تقدم تحريره -في قضاء الصلوات، وما سيأتي في قضاء الصيام- من أنه لا يُشرع القضاء لمن ترك عبادة مؤقتة -بغير عذر- إلا بدليل جديد، والله أعلم.

هل تجب الكفارة على المرأة كالرجل؟

في حديث أبي هريرة المتقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بالكفارة، وسكت عن المرأة، ولهذا اختلف أهل العلم في المرأة التي جامعها زوجها، هل عليها كفارة أم لا؟ على أقوال (1): أحدها: ليس على المرأة كفارة مطلقًا: وهو مذهب الشافعي، وقول لأحمد، أن يجزيهما كفارة واحدة وأنها على الرجل دونها لما يأتي:

1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المرأة بكفارة مع أنه جامعها والفعل قد حصل منه ومنها معًا، فدلَّ على أنه لو رأى عليها كفارة لألزمها ذلك ولم يسكت عنها.

2 - وأنه حق مال اختص بالجماع فاختص بالرجل كالمهر.

الثاني: أن على المرأة الكفارة كالرجل: وهو قول الجمهور: أبي حنيفة ومالك وقول للشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه، على اختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة، قالوا:

1 - لأنها هتكت صوم رمضان بالجماع فوجبت عليها الكفارة كالرجل، وقد سوَّت الشريعة بين الناس في الأحكام إلا في مواضع قام الدليل على تخصيصها، فإذا لزمها القضاء لأنها أفطرت بجماع متعمد كما وجب على الرجل، وجبت عليها الكفارة لهذه العلة كالرجل سواء.

2 - وأما عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة بالكفارة، فهذا حكاية حال لا عموم لها وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعذر من مرض أو سفر أو تكون مكرهة أو ناسية لصومها أو نحو ذلك.

_________

(1) «فتح القدير» (2/ 336)، و «المجموع» (6/ 370)، و «كشاف القناع» (2/ 325)، و «الإنصاف» (3/ 313).

 

(2/108)

 

 

3 - لأن المرأة لم تستفت النبي صلى الله عليه وسلم كما استفتاه الرجل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكمًا ما لم تعترف.

4 - ويحتمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء.

الثالث: أن يجزيهما كفارة واحدة إلا إن كانت الكفارة بالصيام فعليهما: وهذا مذهب الأوزاعي.

قلت: والأرجح مذهب الجمهور، وقول الشافعي ليس ببعيد كذلك، والله أعلم.

تنبيه: المرأة إذا كانت مكرهة أو ناسية أو جاهلة فلا قضاء عليها ولا كفارة على الأصح وكذلك الرجل إذا كان ناسيًا أو جاهلاً، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد (1).

هل تجب الكفارة على الترتيب؟

ذهب الجمهور (2) إلى وجوب الترتيب في الكفارة فلا ينتقل إلى صيام الشهرين المتتابعين إلا إذا عجز عن العتق، ولا يطعم ستين مسكينًا إلا بعد العجز عن الصيام، على ظاهر حديث أبي هريرة المتقدم.

وذهب مالك إلى أنها على التخيير لما وقع في رواية مسلم لهذا الحديث عن أبي هريرة: أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفِّر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا» (3).

قالوا: رواية البخاري للحديث لا يلزم منها الترتيب فإن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير، فيحمل على أن إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفارة، وحمل بعضهم الترتيب على الأولوية والتخيير على الجواز.

وأما الجمهور فسلكوا مسلك الترجيح، فرجحوا رواية الترتيب على رواية التخيير بأن الذين رووا الحديث على الترتيب أكثر مع اتحاد المخرج وبأن راوي التخيير تصرف في اللفظ، وبأن الترتيب أحوط لأن الأخذ به مجزئ على القولين، والله أعلم.

_________

(1) «المغنى» (3/ 27) ط. إحياء التراث العربي.

(2) «المغنى» (3/ 344)، و «بداية المجتهد» (1/ 451)، و «فتح الباري» (4/ 198).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1111).

 

(2/109)

 

 

هل تتكرَّر الكفارة بتكرُّر الجماع؟ (1):

1 - من جامع في نهار رمضان، ثم كفَّر، ثم وطئ في يوم آخر فعليه كفارة أخرى إجماعًا.

2 - من جامع في يوم واحد مرارًا، فليس عليه إلا كفارة واحدة إجماعًا.

3 - من جامع في نهار رمضان، ولم يُكفِّر ثم جامع في يوم آخر، ففيه قولان:

الأول: أن عليه لكل يوم كفارة، لأن كل يوم عبادة منفردة، فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل، وهو قول مالك والشافعي وجماعة.

والثاني: عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الجماع الأول، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والزهري، قياسًا على الحدِّ، والأول أرجح، والله أعلم.

أمور لا تفسد الصيام:

1 - أن يصبح يوم الصيام جُنبًا:

فمن نام -وهو صائم- فاحتلم لم يفسد صومه، بل يتمه إجماعًا (2)، وكذلك من أجنب ليلاً ثم أصبح صائمًا، فصومه صحيح، ولا قضاء عليه عند الجمهور، لحديث عائشة وأم سلمة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم» (3).

2 - تقبيل الزوجة ومباشرتها إن أمن الإمناء:

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه» (4).

وعنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلني وهو صائم وأنا صائمة» (5).

قال ابن حزم (6/ 208): «وكانت عائشة إذ مات عليه السلام بنت ثماني عشرة سنة، فظهر بطلان قول من فرَّق في ذلك بين الشيخ والشاب، وبطلان قول من

_________

(1) «بداية المجتهد» (1/ 453)، و «المغنى» (3/ 341)، و «المجموع» (6/ 370).

(2) «رد المحتار» (2/ 98)، و «القوانين الفقهية» (81).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1926)، ومسلم (1109).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1927)، ومسلم (1106).

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2384)، وعبد الرزاق (8410).

 

(2/110)

 

 

قال: إنها مكروهة، وصحَّ أنها حسنة مستحبة وسنة من السنن، وقربة من القرب إلى الله تعالى اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ووقوفًا عند فتياه بذلك» اهـ.

قلت: ولا يقال: إن جواز القبلة للصائم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء:

1 - عن عُمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَلْ هذه» لأم سلمة، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له» (1).

2 - وعن جابر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هششت يومًا، فقبلت وأنا صائم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لقد صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قال: «وما هو؟» قلت: قبلت وأنا صائم، قال: «أرأيت لو تمضمضت من الماء؟» قلت: إذًا لا يضر، قال: «ففيم؟» (2).

والمباشرة -وهي مس بشرة الرجل لبشرة المرأة فيما دون الجماع -كالقبلة ولا فرق، وعن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما يحلُّ للرجل من امرأته صائمًا؟ قالت: «كل شيء إلا الجماع» (3).

وعن عمرو بن شرحبيل: «أن ابن مسعود كان يباشر امرأته بنصف النهار وهو صائم» (4).

وعن عكرمة قال: «كان سعد بن مالك يفرك قُبُلها بيده وهو صائم» (5).

قلت: فالصحيح أنه لا يكره أن يقبل أو يباشر، فإن قبَّل أو باشر فأمذى أو أمذت فلا شيء عليهما (6)، فإن كان يعلم من نفسه أنه يمني بذلك لم يجز له، فإن فعل وأمنى أو أَمْنت هي فقد أفطر الذي أنزل المني منهما وبطل صومه وعليه القضاء (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1108)، وانظر «شرح النووي» (3/ 163).

(2) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (2382)، وأحمد (1/ 52)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (21) وهو صحيح لغيره كما قال شيخنا حفظه الله.

(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8439).

(4) إسناد صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8442)، وابن أبي شيبة (3/ 63).

(5) صحيح لغيره: أخرجه عبد الرزاق (8444)، وله شاهد عند ابن أبي شيبة (3/ 63).

(6) «المجموع» (6/ 323)، وانظر «جامع أحكام النساء» (2/ 361).

(7) «الأم» (2/ 86)، و «المجموع» (6/ 322)، و «المبسوط» (3/ 65).

 

(2/111)

 

 

3 - الاغتسال، والصب على الرأس للتبرُّد:

لما تقدم قريبًا: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم».

وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر» (1).

4 - المضمضة والاستنشاق من غير مبالغة:

فعن لقيط بن صبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (2).

فلا بأس بالمضمضة للصائم ولو في غير وضوء أو غسل، ولا يفسد صومه البلل الذي يبقى في الفم بعد المضمضة، إذا ابتلعه مع الريق، لأنه لا يمكن التحرز عنه (3).

فإن تمضمض أو استنشق فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف فلا شيء عليه في أصح قولي العلماء، وبه قال الأوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه، خلافًا لقول أبي حنيفة ومالك بأنه يفطر.

5 - تَذَوُّق الطعام للحاجة ما لم يصِل إلى الجوف:

فعن ابن عباس قال: «لا بأس أن يذوق الخل أو الشيء، ما لم يدخل حلقه وهو صائم» (4).

وقال شيخ الإسلام: «... وذوق الطعام يكره لغير حاجة، لكن لا يفطره، وأما للحاجة فهو كالمضمضة» اهـ (5).

وفي معنى التذوق: مضغ الطعام للحاجة، فعن يونس عن الحسن قال: «رأيته يمضغ للصبي طعامًا -وهو صائم- يمضغه ثم يخرجه من فيه، يضعه في فم الصبي» (6).

_________

(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (2348).

(2) صحيح: تقدم في الطهارة.

(3) «رد المحتار» (2/ 98).

(4) حسن لغيره: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 47)، وله شاهد عند البخاري (4/ 153) معلقًا، والبيهقي (4/ 2612).

(5) «مجموع الفتاوى» (25/ 266)، وانظر «المبسوط» (3/ 93).

(6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7512)، وله شاهد عند ابن أبي شيبة (3/ 47).

 

(2/112)

 

 

فائدة: يُكره للصائم مضغ العِلْك (اللِّبان) الشديد إذا لم يتحلب منه شيء يدخل إلى الجوف ولم يكن له طعم يوجد في الحلق، لأنه يجفف الفم ويعطش، فإذا كان يتحلب منه ما يدخل إلى الجوف، فإنه يفطر عند الجمهور (1).

6 - الحجامة (2)، والتبرع بالدم، لمن لم يخش الضعف:

صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم -من عدة طرق- أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» (3).

وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم» (4).

فذهب أحمد وابن سيرين وعطاء والأوزاعي وإسحاق وابن المنذر وابن خُزيمة، واختاره ابن تيمية أن المحتجم يفطر بالحجامة وهو قول عليٍّ وأبي هريرة وعائشة، وحجة هذا المذهب (5).

1 - حديث «أفطر الحاجم والمحجوم».

2 - تضعيف الإمام أحمد لحديث ابن عباس المتقدم، وهو في البخاري؟!

3 - قالوا: وعلى فرض صحته فهو منسوخ.

وزاد ابن تيمية -عن الحنابلة- أن الحاجم كذلك يفطر إذا مصَّ القارورة.

وذهب الجمهور: أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم إلى أن الحجامة لا يفطر بها الحاجم ولا المحجوم، وبه قال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأنس وأبو سعيد الخدري وطائفة من السلف، وحجتهم (6)!

1 - أن حديث عباس ثابت صحيح، وأجابوا عن تضعيف الإمام أحمد، أن مهنا قال:

سألت أحمد عن هذا الحديث فقال ليس فيه «صائم» إنما هو محرم» ثم ساقه من طرق عن ابن عباس لكن ليس فيها طريق أيوب التي في البخاري، قال الحافظ: «فالحديث صحيح لا مرية فيه» اهـ.

_________

(1) «المغنى» (3/ 109)، و «المجموع» (6/ 353)، و «فتح الباري» (4/ 160).

(2) الحجامة:

(3) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (774)، وأبو داود (2367) وغيرهما، وانظر «الإرواء» (931).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1939)، وأبو داود (2372)، والترمذي (776).

(5) «الإنصاف» (3/ 302)، و «الفروع» (3/ 48)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 255).

(6) «المبسوط» (3/ 56)، و «القوانين الفقهية» (105)، و «المجموع» (6/ 349)، و «فتح الباري» (4/ 209).

 

(2/113)

 

 

2 - قالوا: إن حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» هو المنسوخ، وأطال النووي الكلام على ذلك، وبهذا قال الشافعي والبيهقي وابن عبد البر وغيرهم.

3 - ضعَّفوا حديث «أفطر الحاجم والمحجوم».

قلت:

والحق أنه ليس على دعوى النسخ من الفريقين برهان لا سيما مع الجهل بالتاريخ، ثم إن الحديثين صحيحان لا مطعن في واحد منهما، فهاهنا مسلكان يجب المصير إلى واحد منهما:

(أ) إما أن يقال إن إفطار الحاجم والمحجوم منسوخ بحديث آخر وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم» (1).

قال ابن حزم (6/ 204): وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدلَّ على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجمًا أو محجومًا. اهـ.

(ب) وإما أن يقال النهي عن احتجام الصائم ليس على التحريم، فيحمل حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» على المجاز بمعنى أنه سيأول أمْرهما إلى الفطر ويؤيد هذا ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الحجامة والمواصلة -ولم يحرمهما- إبقاء على أصحابه ...» (2) فدلَّ على أنه إنما كره ذلك في حق من كان يضعف به ويؤكده حديث ثابت أنه قال لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «لا، إلا من أجل الضعف» (3).

قلت: وهذا هو الأولى بالقبول فيترجح مذهب الجمهور بأن الحجامة لا تفطر، لكنها تكره في حق من كان سيضعف بها، وتحرم إذا بلغ به الضعف إلى أن تكون سببًا في إفطاره ويدخل في معنى الحجامة التبرع بالدم، فيقال فيه ما تقدم، والله أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (3241)، والدارقطني (2/ 182)، والبيهقي (4/ 264)، وانظر «الإرواء» (4/ 74).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2374)، وعبد الرزاق (7535) وجهالة الصحابي لا تضر.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1940).

 

(2/114)

 

 

7 - 10 - الاكتحال (1) والحقنة (2) والقطرة (3) وشم الطيب:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأم الكحل والحقنة، وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة (4) فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع إلا بالكحل، ومنهم من فطَّر بالجميع إلا بالتقطير، ومنهم من لا يفطر بالكحل ولا بالتقطير، ويفطر بما سوى ذلك.

والأظهر: أن لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك، والحديث الذي ورد في الكحل ضعيف (5)» (6) اهـ.

وقال (7): «فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبيَّنه صلى الله عليه وسلم كما بيَّن الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف، ويدخل الدماغ، وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن

_________

(1) مذهب الحنفية والشافعية وبعض المالكية أن الكحل لا يفطر سواء وجد طعمه في الحلق أو لا، وهذا مروي عن ابن عمر وأنس وابن أبي أوفى من الصحابة، ومذهب مالك وأحمد أنه يفطر إذا وصل الحلق، انظر: «الهداية» (1/ 126)، و «المجموع» (6/ 348)، و «القوانين» (104)، و «الإنصاف» (3/ 299).

(2) المراد بالحقنة هنا الشرجية، ومذهب الجمهور أنها تفطر، وذهب داود والحسن بن صالح وقول عند المالكية أنها لا تفطر، انظر: «الهداية» (1/ 125)، و «المجموع» (6/ 320)، و «القوانين» (104)، و «الإنصاف» (3/ 299).

(3) مذهب الحنفية وظاهر كلام الشافعية أن التقطير لا يفطر، وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يفطر إن وصل إلى الحلق، وانظر: «الفتاوى الهندية» (1/ 203)، و «القوانين» (80)، والمراجع السابقة.

(4) المأمومة هي الجراحة التي تصل إلى الدماغ، والجائفة هي الجراحة التي تصل إلى الجوف.

(5) هو حديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم» وهو منكر أخرجه أبو داود (2377).

(6) «مجموع الفتاوى» (25/ 233 - 234).

(7) «مجموع الفتاوى» (25/ 242).

 

(2/115)

 

 

ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دلَّ على جواز تطيبه وتبخره وادَّهانه، وكذلك اكتحاله، وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم إما في الجهاد، وإما في غيره، مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين ذلك».

وقال -رحمه الله (1) -: «والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر ... لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، فأقوى ما احتجوا به قوله: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (2).

قال (3): «وهو قياس ضعيف، وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه، فحصل بذلك ما يحصل للشارب بفمه ويغذى بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش، ويطبخ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم، وذلك غير معتبر، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر، فليس هو مفطرًا، ولا جزءً من المفطر لعدم تأثيره، بل هو طريق إلى المفطر، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة، فإن الكحل لا يغذى البتة، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا فمه، وكذلك الحقنة [يعني الشرجية] لا تغذى، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئًا من المسهلات أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة.

والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه ...» اهـ.

وقد أطال -رحمه الله- الكلام في إبطال هذا القياس، والذي يتحصل:

- أن النص قد أثبت الفطر بالأكل والشرب وهذه الأمور لا تسمى أكلاً ولا شربًا ولا يقصد بها أكل أو شرب، وعليه فإن الحقن المعروف والإبر بأنواعها لا تفطر إلا أن تكون للتغذي فموضع نظر.

- أن ما يحصل به ما يحصل بالأكل والشرب يلحق به.

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (25/ 235)، وانظر «المحلى» (6/ 215).

(2) صحيح: سبق تخريجه.

(3) «مجموع الفتاوى» (25/ 244).

 

(2/116)

 

 

- أن العلة في التفطير بالأكل والشرب قد لا تكون مجرد التغذية، بل قد تكون مركبة من التغذية والتلذذ بالأكل والشرب، وقد يدل على هذا أن المريض الذي يغذى عن طريق الحقن لمدة أيام يكون في شدة الشوق إلى الطعام (1)، فإذا كان كذلك فإن الحقن جميعها لا تفطر وإن كانت للتغذية، والله أعلم.

11 - السواك:

السواك مندوب إليه شرعًا -كما تقدم- ولم يرد نص بمنعه للصائم، بل قد وردت أحاديث بعضها يثبت مشروعية الاستياك للصائم وأخرى تحض عليه في الصيام، لكنها ضعيفة لا تثبت فالأصل إباحة السواك ولو كان مفطرًا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ولنقله أصحابه مع عموم البلوى.

وقد اتفق الفقهاء على جواز السواك للصائم، إلا أن الشافعية والحنابلة استحبوا ترك السواك للصائم بعد الزوال، للإبقاء على رائحة الخلوف التي هي أطيب عند الله من ريح المسك.

قلت: والأظهر أنه لا بأس بالسواك في كل وقت، والله أعلم.

فائدة: هل يجوز استعمال معجون الأسنان للصائم؟

بناء على ما تقدم فإنه يجوز استعمال الفرشاة والمعجون للصائم إذا أمن نفوذه إلى الحلق، والأولى تركه نهارًا وفعله بالليل، والله أعلم.

12 - ابتلاع النخامة:

النخامة: هي ما يخرج من الخيشوم عند التنحنح، أو البلغم الصاعد من الصدر. ومذهب الحنفية والمعتمد عند المالكية ورواية عن أحمد أن النخامة لا تفطر، لأن ابتلاعها في الفم غير واصل من خارج، فأشبه الريق (2).

وعند الشافعية والحنابلة يجوز ابتلاعها ما لم تصل إلى الفم، فإن وصلت فمه فابتلعها أفطر (3).

قلت: الأظهر أنه لا حرج في ابتلاعها ولو كانت في فمه ما لم تفحش، أو يقصد الأكل أو الشرب.

_________

(1) أفاده العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- كما في «الممتع» (6/ 381).

(2) «رد المحتار» (2/ 101)، و «المغنى» (2/ 43)، و «وجواهر الإكليل» (1/ 149).

(3) «روضة الطالبين» (2/ 360)، و «كشاف القناع» (2/ 329).

 

(2/117)

 

 

13 - ابتلاع ما لا يحترز منه، مثل:

(أ) ما يعلق بالأسنان من بقايا الطعام: إذا كان يسيرًا لأنه تبع للريق ولا يمكن الاحتراز منه، بشرط أن لا يقصد ابتلاعه، أو يعجز عن تمييزه ومَجِّه (1).

(ب) الدم اليسير من اللثة والأسنان: فلو دميت لثته فدخل ريقه حلقه مخلوطًا بالدم ولم يصل إلى جوفه لا يفطر عند الحنفية لأنه لا يحترز منه إلا أن يغلب الدم على الريق فيفطر به عندهم.

وعند الشافعية والحنابلة: يفطر بابتلاع الريق المختلط بالدم، والدم نجس -عندهم- لا يجوز ابتلاعه وإذا لم يتحقق أنه بلع شيئًا نجسًا لا يفطر، إذ لا فطر ببلع ريقه الذي لا تخالطه النجاسة!! (2) قلت: الأظهر أنه لا يجوز له أن يتعمد بلع الدم لأنه محرم، فإن غلب عليه بلعه أو شقَّ عليه التحرز من بلعه، أو لم يعلم به لم يفطر.

(جـ) غبار الطريق والطحين ونحو ذلك: مما لا يمكن الاحتراز منه.

14، 15، 16 - الأكل والشرب والجماع ناسيًا.

17 - القيء غير المتعمد:

وقد تقدمت الأدلة على عدم فساد الصيام بهذه الأمور قريبًا.

 

المفطرون وأحكامهم

المفطرون في رمضان على ثلاثة أقسام (3):

(أ) قسم يجوز له الفطر والصوم.

(ب) قسم يجب عليه الفطر.

(جـ) قسم لا يجوز له الفطر.

[أ] من يجوز لهم الفطر والصوم:

[1] المريض:

المرض هو: كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة (4).

_________

(1) «رد المحتار» (2/ 98، 112)، و «كشاف القناع» (2/ 32)، و «روضة الطالبين» (2/ 361)، و «القوانين» (80).

(2) «رد المحتار» (2/ 98)، و «الروضة» (2/ 359)، و «كشاف القناع» (2/ 329).

(3) «بداية المجتهد» (1/ 438).

(4) «المصباح المنير» مادة (مرض).

 

(2/118)

 

 

وقد أجمع العلماء على إباحة الفطر للمريض في الجملة (1)، ثم إذا برئ قضاه والأصل فيه قول الله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2).

وعن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (3). كان من أراد أن يفطر، يفطر ويفتدي، حتى أنزلت الآية التي بعدها» (4) يعني قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (5).

وللمريض ثلاث حالات (6):

1 - أن يكون مرضه يسيرًا لا يتأثر بالصوم ولا يكون الفطر أرفق به، كالزكام اليسير، أو الصداع اليسير أو وجع الضرس ونحوه، فهذا لا يجوز له أن يفطر.

2 - أن يزيد مرضه أو يتأخر برؤه ويشق عليه الصوم لكن لا يضره، فهذا يستحب له الفطر ويكره له الصوم.

3 - أن يشق عليه الصوم ويتسبب في ضرر قد يفضي إلى الهلاك، فهذا يحرم عليه الصوم أصلاً، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (7).

هل يفطر الصحيح الذي يخشى المرض بالصيام؟ (8):

يُباح للصحيح الذي يخشى المرض بالصيام أن يفطر، لأنه كالمريض الذي يخاف زيادة مرضه أو إبطاء برئه بالصوم، قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (9).

وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (10).

_________

(1) «المغنى» مع الشرح (3/ 16).

(2) سورة البقرة: 185.

(3) سورة البقرة: 184.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (4507)، ومسلم (1145).

(5) سورة البقرة: 185.

(6) أفاده في «الشرح الممتع» (6/ 352، 353)، وانظر: «المجموع» (6/ 258)، و «المغنى» (3/ 16)، و «القوانين الفقهية» (82).

(7) سورة النساء: 29.

(8) «المغنى» (3/ 364 - الغد)، و «المحلى» (6/ 228).

(9) سورة النساء: 29.

(10) سورة البقرة: 185.

 

(2/119)

 

 

وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» (2).

[2] المسافر:

يشرع للمسافر -سفرًا يُقصر فيه- أن يفطر، لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3).

إذا صام المسافر صَحَّ صومه:

ذهب جماهير الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة إلى أن الصوم في السفر صحيح مجزئ، ورُوى عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم -وهو مذهب ابن حزم- أنه غير صحيح ويجب القضاء على المسافر إن صام في سفره، وروى القول بكراهته، ومذهب الجماهير أقوى، كما سيأتي.

هل الأفضل للمسافر الصوم أو الفطر؟

اختلف أهل العلم في ذلك، والتحقيق في المسألة، وهو الذي تجتمع عليه النصوص أن يقال:

إن للمسافر ثلاث حالات:

1 - أن يشق عليه الصوم أو يعوقه عن فعل خير: فالفطر في حقه أولى، ومن هذا ما في حديث جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه فقال: «ما هذا؟» قالوا: صائم، فقال: «ليس من البر الصوم في السفر» (4).

وحديث أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصُوَّام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» (5).

_________

(1) سورة الحج: 78.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).

(3) سورة البقرة: 185.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1119).

 

(2/120)

 

 

وفي حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه -وكانوا في غزوة-: «إنكم مصبحو العدو غدًا والفطر أقوى لكم» (1).

2 - أن لا يشق عليه الصيام ولا يعوقه عن فعل الخير، فالأولى له الصيام، لعموم قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} (2).

وعن أبي الدرداء قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حارٍّ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة» (3).

وعن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ -وكان كثير الصيام- فقال: «إن شئت فصُم، وإن شئت فأفطر» (4).

ولأن الصوم -إذا لم يكن فيه مشقة- أسرع في إبراء الذمة، وأسهل على المكلف غالبًا أن يصوم مع الناس من أن يقضي والناس مفطرون.

3 - أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة غير محتملة قد تفضي إلى الهلاك، فهنا يجب الفطر ويحرم الصوم، كما في حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة فسار حتى بلغ كراع الغميم، وصار الناس، ثم دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» (5).

وقت جواز الفطر للمسافر أحوال:

الأولى: أن يبدأ السفر قبل الفجر، أو يطلع عليه الفجر وهو مسافر، وينوي الفطر، فيجوز له الفطر إجماعًا، لأنه متصف بالسفر عند وجود سبب الوجوب (6).

الثانية: أن ينشئ السفر بعد الفجر (أثناء النهار):

فهذب الجمهور (أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد) إلى أنه لا

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1120).

(2) سورة البقرة: 184.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1943)، ومسلم (1121).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1114)، ونحوه في البخاري (1948) عن ابن عباس.

(6) «القوانين الفقهية» لابن جزى (82).

 

(2/121)

 

 

يباح له الفطر ذلك اليوم، ووجه ذلك: أن الصوم عبادة تختلف بالحضر والسفر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة (1).

وذهب أحمد وإسحاق والحسن -وهو اختيار ابن تيمية، وهو الراجح في المسألة -إلى جواز الفطر في ذلك اليوم (2)، لعموم قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3). ولحديث جابر المتقدم قريبًا في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح، وفيه: «... فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه» (4).

ونحوه حديث ابن عباس ففيه: «.. ثم دعا بماء فرفعه إلى يده ليراه الناس فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان ...» (5).

ويؤيد هذا المذهب كذلك حديث محمد بن كعب قال: «أتيت -في رمضان- أنس بن مالك، وهو يريد سفرًا، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ فقال: سنة، ثم ركب» (6).

وعن عبيد بن جبير قال: «ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان، فدفع ثم قرب غداؤه، ثم قال: اقترب، فقلت: ألست بين البيوت؟ فقال أبو بصرة: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» (7).

تنبيه: في الحديثين الأخيرين دليل على أن للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع الذي أراد السفر منه، قال ابن العربي: وأما حديث أنس فصحيح يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر، وهذا هو الحق (8) اهـ.

وقد منع الجمهور من الفطر قبل مغادرة بلده، لأنه قبل المغادرة لا يكون على سفر بل هو ناو للسفر، لكن ...

_________

(1) «حاشية ابن عابدين» (2/ 431)، و «القوانين» (106)، و «المجموع» (6/ 261).

(2) «الإنصاف» (3/ 289)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 212).

(3) سورة البقرة: 185.

(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1948).

(6) صححه الألباني: أخرجه الترمذي (799)، والبيهقي (4/ 247)، والدارقطني (2/ 187)، والضياء في «المختارة» (2602) وغيرهم، وللعلامة الألباني رسالة في تصحيحه فلتراجع.

(7) أخرجه أبو داود (2412)، وأحمد (6/ 398)، والدارمي (1713)، والبيهقي (4/ 246) وانظر الرسالة المشار إليها قبله.

(8) «نيل الأوطار» (4/ 271).

 

(2/122)

 

 

الثالثة: أن ينوي الصوم -وهو مسافر- ثم يبدو له أن يفطر: فيجوز له الفطر -إذا بدا له ذلك- للأدلة المتقدمة في الحالة الثانية، وبه قال الجمهور خلافًا للمالكية والحنفية (1).

انقطاع رخصة الفطر للمسافر:

تسقط رخصة الفطر للمسافر بأمرين:

[1] إذا نوى الإقامة مطلقًا، أو مدة الإقامة (2):

عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان وصام، حتى إذا بلغ الكديد الماء الذي بين قديد عُسفان، فلم يزل مفطرًا حتى انسلخ الشهر» (3).

ومعلوم أن الفتح كان لعشر بقين من رمضان، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بمكة عشرة أيام أو أحد عشر على اختلاف الروايات، ولا شك أن فطره في هذه المدة لا ينفي الفطر فيما زاد عليها.

فالحاصل أن من نوى الإقامة في بلده إقامة مطلقة فإنه يصوم ولا يفطر، وإن لم ينو الإقامة لكن أقام لقضاء حاجة له بلا نية الإقامة ولا يدري متى تنقضي فله أن يفطر والله أعلم.

[2] إذا عاد إلى بلده:

فإذا عاد إلى محل إقامته ليلاً، فإن كان الغد من رمضان وجب عليه الصوم بلا خلاف، أما لو قدم في النهار، فهل يمسك بقية يومه؟ فيه قولان، والأظهر أنه لا يلزمه الإمساك بل يبقى على فطرة وهذا مذهب الشافعي ومالك وصحَّ عن ابن مسعود أنه قال: «من أكل أول النهار فليأكل آخره» (4)، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمسك بقية اليوم، قياسًا على من يطرأ عليه في يوم الشك، وفيه نظر، لأن ذاك أكل لموضع الجهل، وهذا أكل لسبب مبيح (5).

_________

(1) «المغنى» (3/ 19)، و «المجموع» (6/ 260)، و «القوانين» (82)، و «ورد المحتار» (2/ 122).

(2) مدة الإقامة التي يفطر فيها عند المالكية والشافعية: أربعة أيام، وعند الحنابلة أكثر من أربعة أيام، وعند الحنفية خمسة عشر يومًا؟! وهذه تحديدات ليس عليها دليل وانظر «المحلى» (6/ 244).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (4275).

(4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (9343).

(5) «بداية المجتهد» (1/ 441 - 442).

 

(2/123)

 

 

ويتفرَّع على هذا فائدة وهي:

إذا قدم المسافر أثناء النهار -من رمضان- وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت في أثناء النهار من حيض أو نفاس، أو برأت من مرض وهي مفطرة فله أن يجامعها ولا كفارة عليه (1).

مسألة: رجل لم يصبر -يومًا- عن جماع زوجته، فهل له أن يسافر بها حتى يفطر ويجامعها؟ الظاهر أنه لا بأس بذلك، والله أعلم.

[3، 4] الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يُرجى بُرْؤه:

أجمع العلماء على أن الشيخ والعجوز العاجزين عن الصوم، يجوز لهما الفطر ولا قضاء عليهما، ثم اختلفوا فيما عليهما إذا أفطرا، فقال الجمهور: يطعمان عن كل يوم مسكينًا، وقال مالك: ليس عليهما إطعام إلا أنه استحبه (2) وقول الجمهور أقوى.

والأصل في هذا قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (3).

وعن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية فقال ابن عباس: «ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فليطعما مكان كل يوم مسكينًا» (4)، وجمهور الصحابة -ومنهم ابن عباس على التحقيق كما سيأتي- يرون أنها منسوخة فعن سلمة بن الأكوع قال: «لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها» (5).

وعلى القول بنسخها، فالآية في محل الاستدلال أيضًا، لأنها إن وردت في الشيخ الفاني -كما ذهب إليه بعض السلف- وإن وردت للتخيير فكذلك، لأن النسخ إنما يثبت في حق القادر على الصوم، فبقي الشيخ الفاني على حاله كما كان (6).

_________

(1) «المجموع» (6/ 268)، وهو قول الشافعي في «الأم» (2/ 62)، ومالك في «المدونة» (1/ 184).

(2) «القوانين الفقهية» (82)، و «المجموع» (6/ 258)، و «المغنى» (3/ 79)، و «كشاف القناع» (2/ 309)، و «بداية المجتهد» (1/ 447).

(3) سورة البقرة: 184.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (4505) لكن قرأها ابن عباس (وعلى الذين يطوَّقونه) وهي شاذة وانظر تفسير الطبري (3/ 438).

(5) أخرجه البخاري (4507).

(6) «العناية على الهداية» (2/ 227 - مع فتح القدير).

 

(2/124)

 

 

ثم إن وضع الصوم عن الشيخ والعجوز هو الموافق للعمومات القاضية برفع الحرج.

والمريض الذي لا يرجى برؤه في حكم الكبير (1).

[5، 6] الحامل والمرضع:

إذا خافت الحامل على الجنين، أو خافت المرضع على رضيعها قلة اللبن أو ضيعته ونحو ذلك بالصوم، فلا خلاف في أنه يجوز لهما الفطر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم» (2).

لكن اختلف العلماء فيما يجب عليها إذا أفطرتا على خمسة أقوال:

الأول: عليهما القضاء والإطعام عن كل يوم مسكينًا: وبه قال مالك والشافعي وأحمد (3) وعند الشافعية والحنابلة أنهما إذا أفطرتا خوفًا على نفسيهما فعليهم القضاء فقط!!

الثاني: عليهما القضاء فقط: وهو مذهب الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور وأبي عبيد (4)، وهؤلاء اعتبروا دلالة اقتران المسافر بالحامل والمرضع في الحديث المتقدم، أو قاسوا الحامل والمرضع على المريض أو المسافر.

وقد أُورد على هذا القول أن المسافر إنما لزمه القضاء بنص خارج عن الحديث وهو قوله تعالى {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ ...} (5). أما الحامل والمرضع فلا دليل على إيجاب القضاء عليهما، ثم بإمعان النظر في الحديث نرى أن المسافر إذا قصر الصلاة في السفر لا يطالب -بعد رجوعه- بإتمام ما كان قصره من ركعات، فليقل كذلك: إن الحامل والمرضع لا يلزمان بقضاء ما أفطرتاه!! (6).

الثالث: عليهما الإطعام فقط دون القضاء: وهو عكس السابق، وبه قال ابن عباس وابن عمر، وهو مذهب إسحاق، وهو اختيار العلامة الألباني، رحمهم الله.

_________

(1) «رد المحتار» (2/ 119)، و «المجموع» (6/ 258)، و «الروض المربع» (1/ 138).

(2) حسن أخرجه أحمد (4/ 347)، وعبد بن حميد «المنتخب» (430) وحسنه شيخنا هناك.

(3) نقله الترمذي عنهم (3/ 402 - التحفة) وانظر المصادر السابقة.

(4) «بداية المجتهد» (1/ 446)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 394).

(5) سورة البقرة: 185.

(6) «جامع أحكام النساء» (2/ 395).

 

(2/125)

 

 

فعن ابن عباس قال: «رخص للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة في ذلك، وهما يطيقان الصوم، يفطران إن شاءا، ويطعمان كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليهما، ثم نسخ ذلك في هذه الآية: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1) وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كان لا يطيقان الصوم، والحبلى والمرضع إذا خافتا، وأطعمتا كل يوم مسكينًا» (2).

وفي قوله: «ثبت» إشعار بأن هذا الحكم في حق من لا يطيق الصوم كان مشروعًا كما كان مشروعًا في حق من يطيق الصوم، فنسخ هذا، واستمر الآخر، وكل من شرعيته واستمراره إنما عرفه ابن عباس من السنة، وليس من القرآن (3).

ويؤيد هذا أن ابن عباس أثبت هذا الحكم للحبلى والمرضع إذا خافتا، ومن الظاهر جدًّا أنهما ليستا كالشيخ والشيخة في عدم الاستطاعة، بل إنهما مستطيعتان، ولذا كان يأمر وليدة له حبلى أن تفطر ويقول: «أنت بمنزلة الكبير الذي لا يطيق الصيام فأفطري وأطعمي عن كل يوم نصف صاع من حِنْطَة» (4).

فمن أين أعطاهما ابن عباس هذا الحكم مع تصريحه بأن الآية منسوخة؟! ذلك من السنة بلا ريب.

وعن نافع قال: «كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملاً، فأصابها عطش في رمضان، فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا» (5).

الرابع: القضاء على الحامل، والقضاء والإطعام على المرضع: وبه قال مالك، وهو قول عند الشافعية (6).

الخامس: ليس عليهما قضاء ولا إطعام: وهو مذهب ابن حزم (7) قال: وإذا سقط الصوم، فإيجاب القضاء عليهما شرع لم يأذن الله تعالى به، ولم يوجب الله

_________

(1) سورة البقرة: 185.

(2) صحيح: أخرجه ابن الجارود (381)، والبيهقي (4/ 230)، وانظر «الإرواء» (4/ 18).

(3) أفاده الألباني -رحمه الله- في ش «الإرواء» (4/ 24) فعليه عن ابن عباس أن الآية منسوخة كما جزم به ابن حزم (6/ 264)، ولا تعارض بينه وبين قول ابن عباس في رواية البخاري «ليست منسوخة».

(4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7567)، والدارقطني (2/ 206) وصححه.

(5) إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني (2/ 207)، وانظر «الإرواء» (4/ 20)

(6) «المحلى» (6/ 265)، و «بداية المجتهد» (1/ 446)، و «المجموع» (6/ 273).

(7) «المحلى» (6/ 263).

 

(2/126)

 

 

تعالى القضاء إلا على المريض والمسافر والحائض والنفساء ومتعمد القيء ... وأما تكليفهم إطعامًا .. فلا يجوز لأحد إيجاب غرامه لم يأت بها نص ولا إجماع ... اهـ.

قلت: وأرجح هذه الأقوال أنهما تفطران وتطعمان عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليهما وهو قول ابن عباس وابن عمر ولا يُعلم لهما مخالف من الصحابة، ثم إن حديث ابن عباس له حكم الرفع لأنه حديث صحابي جاء في تفسير يتعلق بسبب نزول الآية، فهذا حديث مسند كما تقرر في علم المصطلح (1) والله أعلم.

[ب] من يجب عليه الفطر وعليه القضاء:

1، 2 - الحائض والنفساء:

أجمع العلماء على أن الحائض والنفساء لا يصح صومهما، ولا يجب عليهما، ويَحرُم عليهما، ويجب عليهما -بعد الطهر- قضاؤه (2).

فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تَصُم؟ فذلك نقصان دينها» (3).

وعن عائشة قالت: «كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (4).

مسائل تتعلق بالحائض والصيام (5)

إذا طهرت أثناء النهار: فإنها تتمادى في فطرها، فتأكل وتشرب وإن قدم زوجها من سفر وهو مفطر فله أن يجامعها، وليس لها أن تمسك بقية اليوم بنية الصيام.

إذا طهرت قبل الفجر: ونوت الصيام صح صومها وإن أخرت الغسل لما بعد الفجر، وهذا قول الجمهور.

_________

(1) انظر: «تدريب الراوي» (1/ 192 - 193)، و «علوم الحديث» لابن الصلاح (ص 24).

(2) «المغنى» (3/ 142)، و «المجموع» (6/ 259).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1951).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (335)، وأبو داود (259)، والترمذي (784)، والنسائي (4/ 191).

(5) مستفاد من «جامع أحكام النساء» لشيخنا (2/ 391 - 393).

 

(2/127)

 

 

هل تتناول المرأة دواءً يقطع الحيضة في رمضان؟

الحيض أمر كتبه الله على بنات آدم، ولم تكن النسوة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلفن ذلك ليصمن رمضان كاملاً، وعليه فلا يستحب ذلك.

لكن إذا فعلت ذلك -ولم يكن هذا الدواء يضر بها- فلا بأس به، فإذا تناولته وانقطع دمها كان لها حكم الطاهرة فتصوم ولا إعادة عليها. والله أعلم.

المستحاضة لا تمتنع من الصوم: ولا من الصلاة، بل يجبان عليها بإجماع العلماء.

3 - من خشي الهلاك بصومه: فيجب عليه الفطر (1).

[جـ] من لا يجوز له الفطر:

وهو كل مسلم، بالغ، عاقل، صحيح غير مريض، مقيم غير مسافر، والمرأة الطاهرة من الحيض والنفاس.

 

قضاء رمضان

1 - من أفطر بغير عذر:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن من أفطر متعمدًا يجب عليه القضاء سواء كان بعذر أو بغير عذر، واختلف هؤلاء:

فأوجب بعضهم على من أكل أو شرب: القضاء والكفارة قياسًا على الجماع (2) (!!) وهو قول ابن المبارك والثوري وإسحاق وأبي حنيفة ومالك وقال الشافعي وأحمد: عليه القضاء دون الكفارة.

وذهب ابن حزم (3) إلى أنه لا يُشرع له القضاء إذا أفطر متعمدًا بغير عذر على أصله في أن العبادة المؤقتة محددة الطرفين إذا تركت من غير عذر لم يشرع قضاؤها إلا بنص جديد، فإيجاب صيام غير رمضان -الذي افترض عليه صيامه- بدلاً منه، إيجاب شرع لم يأذن به الله تعالى، قلت (أبو مالك): وهو مذهب قوي -كما تقدم تحريره في قضاء الصلوات الفائتة- ويؤيده هنا أنه لم يثبت أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمجامع في رمضان بالقضاء مع ثبوت الكفارة كما تقدم قريبًا، وقد صحَّ عن

_________

(1) «المحلى» (6/ 228)، و «المجموع» (6/ 262)، و «الدر المختار» (2/ 116)، و «القوانين الفقهية» (82).

(2) قد مرَّ قريبًا أن أمر المجامع في رمضان بالقضاء لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3) «المحلى» (6/ 180) مسألة (735).

 

(2/128)

 

 

ابن مسعود أنه قال: «من أفطر يومًا من رمضان من غير عذر ولا رخصة لم يجزِه صيام الدهر كله» (1) ونحوه عن أبي هريرة.

قلت: لكن يخرج مما تقدم من تعمد التقيؤ فإنه يقضي لأجل النص فيه كما مرَّ في موضعه، والله أعلم.

2 - قضاء رمضان لا يجب على الفور:

قضاء الفوات من رمضان -بعذر شرعي- لا يجب على الفور، وإنما وجوبه على التراخي وجوبًا مُوسَّعًا، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان» (2).

قال الحافظ في «الفتح» (4/ 191): وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان سواء كان [يعني التأخير] لعذر أو لغير عذر. اهـ.

لكن يستحب المبادرة بالقضاء، لعموم قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (3).

فائدة: إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان الذي بعده: فإنه يصوم رمضان الذي ورد عليه -كما أُمر- فإذا أفطر في شوال قضى الأيام التي كانت عليه فقط ولا مزيد على هذا، فلا يجب عليه إطعام ولا غيره، لعدم ثبوت شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة وابن حزم، وهو الراجح وقال مالك: يطعم في القضاء عن كل يوم مُدًّا مُدًّا عددها مساكين إن تعمد ترك القضاء وهو قول الشافعي (4).

3 - لا يجب التتابع في القضاء:

لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (5). وقال ابن عباس: «لا بأس أن يفرق» (6)،

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (9784).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146).

(3) سورة المؤمنون: 61.

(4) «المحلى» (6/ 260، 261)، وانظر «المجموع» (6/ 412).

(5) سورة البقرة: 184.

(6) إسناده صحيح: علَّقه البخاري، ووصله عبد الرزاق (4/ 43)، والدارقطني (2/ 192)، والبيهقي (4/ 258) بسند صحيح.

 

(2/129)

 

 

وقال أبو هريرة: «يواتره إن شاء» (1)، وقال أنس: «إن شئت فاقض رمضان متتابعًا، وإن شئت متفرقًا» (2).

وأما ما رُوى عن أبي هريرة مرفوعًا: «من كان عليه صوم رمضان، فليسرده ولا يقطعه» (3) فضعيف لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذهب إلى التخيير بين المتابعة والتفريق في قضاء الصيام الأئمةُ الأربعة (4).

4 - من مات وعليه صوم:

اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم، هل يصوم عنه وليه؟ على ثلاثة أقوال:

الأول: لا يُصام عنه لا في النذر ولا في قضاء رمضان: وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ومالك وظاهر مذهب الشافعي (5) وحجتهم:

1 - قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (6).

2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (7).

3 - ما يُروى عن عبادة بن نسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مرض في رمضان فلم يزل مريضًا حتى مات لم يطعم عنه، وإن صح فلم يقضه حتى مات أطعم عنه» (8) ولا يصح.

4 - حديث عمرة: أن أمها ماتت وعليها صيام من رمضان فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: «لا، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين» (9).

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني وانظر «الإرواء (4/ 95).

(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (9115)، والبيهقي (4/ 258).

(3) ضعيف: أخرجه الدارقطني (2/ 191)، والبيهقي (4/ 259)، وانظر «الإرواء» (4/ 95).

(4) «المحلى» (6/ 261)، و «مسائل أحمد» لأبي داود (ص 95)، و «المجموع» (6/ 312)، و «المغنى» (3/ 43).

(5) «تهذيب السنن» (7/ 27 - مع العون)، و «المجموع» (6/ 412)، و «فتح القدير» (2/ 360).

(6) سورة النجم: 39.

(7) صحيح: أخرجه البخاري مسلم (1631)، والترمذي (1376)، وأبو داود (2880)، والنسائي (3651).

(8) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (7635).

(9) إسناده ضعيف: أخرجه الطحاوي في «المشكل» (3/ 142)، وابن حزم في «المحلى» (7/ 4).

 

(2/130)

 

 

ورُوى عنها أنها قالت: «لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم» (1).

قالوا: وهي التي روت قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صوم، صام عنه وليُّه» (2) فدل على أن العمل على خلاف ما روته!!

5 - عن ابن عباس أنه قال: «لا يصلِّي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد» (3).

وهو راوي حديث الصوم عن الأم الذي سيأتي.

6 - تأوَّلوا: حديث «صام عنه وليه» بأن المراد: فعل عنه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام!! قال النووي في المجموع (6/ 419): هو تأويل باطل يرده باقي الأحاديث.

7 - قالت المالكية: عمل أهل المدينة على خلاف ذلك؟!!.

الثاني: يُصام عنه النذور والقضاء مطلقًا: وهو مذهب أبي ثور وأحد قولي الشافعي -واختاره النووي- وأصحاب الحديث وابن حزم (4) واستدلوا:

1 - بحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليُّه» (5).

2 - حديث ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر [وفي رواية: «صوم نذر»] فأقضيه عنها؟ قال: «نعم، فدين الله أحق أن يُقضى» (6).

3 - حديث بريدة قال: بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتته امرأة فقالت: يا رسول الله، إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، فقال: «وجب أجرك، وردَّها عليك الميراث»، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها» ... الحديث (7).

_________

(1) إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه عبد الرزاق، والبيهقي (4/ 256).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147).

(3) إسناده صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (2918)، ومن طريقه ابن عبد البر في «التمهيد» (9/ 27)، والطحاوي في «المشكل» (6/ 176).

(4) «المحلى» (7/ 2 - وما بعدها)، و «المجموع» (6/ 418)، و «الفتح» (4/ 228).

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (1149)، والترمذي (667).

 

(2/131)

 

 

4 - حديث ابن عباس «أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهرًا فنجاها الله تعالى، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت بنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها» (1).

5 - أجابوا عن استدلال المانعين بقوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (2). بأن الذي أنزل هذه الآية هو الذي أنزل قوله {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (3) وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصيام دينًا، فعلم أن المراد: ليس للإنسان إلا ما سعى، وما حكم الله ورسوله أن له من سعي غيره عنه والصوم من جملة ذلك.

6 - وأجابوا عن حديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله ...» بأنه لا متعلَّق له بمسألتنا لأن فيه انقطاع عمل الميت، وليس فيه انقطاع عمل غيره عنه ولا المنع منه.

7 - أجابوا في فتوى ابن عباس وعائشة بأن الآثار عنهما فيها مقال، ولو صحت لكانت الحجة فيما روياه مرفوعًا دون فتواهما، كما هو مقرر في الأصول.

الثالث: يُصام عنه النذر دون قضاء رمضان: وهو مذهب أحمد وإسحاق وأبي عبيد والليث (4) وحجتهم:

1 - أن حديث عائشة عام، وحديث ابن عباس خاص فيحمل عليه، ويكون المراد بالصيام الذي يصومه الولي صيام النذر.

2 - أن الثابت عن عائشة في منعها من الصيام عن الميت إنما هو في قضاء صيام الفرض لا النذر كما تقدم في أثر عمرة عنها وفيه: «إن أمها ماتت وعليها من رمضان ...»، فالظاهر أنها لا تمنع من صيام النذر عن الميت عملاً بما روته من العموم، فيدل على أنها لم تفهم الإطلاق الشامل لصوم رمضان غيره في مَرْويِّها.

3 - أن الثابت عن ابن عباس -وهو راوي الحديث الآخر في الصوم عن الميت- قوله: «إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاءٌ، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه» (5) ولا شك أنه الأدرى بمعنى مَرْوِيِّه.

_________

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3308)، والنسائي (3816).

(2) سورة النجم: 39.

(3) سورة النساء: 11.

(4) «تهذيب السنن» (7/ 27 - العون)، و «الفتح» (4/ 228).

(5) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (2398)، وابن حزم (7/ 7).

 

(2/132)

 

 

4 - أن فرض الصيام جارٍ مجرى الصلاة والإسلام، فكما أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يُسلم أحد عن أحد، فكذلك الصيام، ومقتضى الدليل أن فعلهما عن الميت بعد موته لا يبرئ ذمته، ولا يقبل منه، ولا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله عليه.

وأما النذر فإن الشارع لم يلزمه به ابتداءً وإنما ألزم به المكلف نفسه، فصار بمنزلة الدَّيْن الذي استدانه، فدخلته النيابة.

قلت (أبو مالك): والذي يترجح لديَّ أنه يصام عن الميت القضاء والنذر مطلقًا، لأن العام (في حديث عائشة) لا يُخَصَّصُ بأحد أفراده (في حديث ابن عباس) إلا عند التعارض -كما تقرر في الأصول- ولا تعارض هنا، ولذا قال الحافظ في «الفتح» (4/ 228): فحديث ابن عباس صورة مستقلة يسأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة. اهـ.

والحاصل: أن من مات وعليه صيام لا يخلو من أحد ثلاثة:

1 - أن يتصل عذره في قضائه حتى يموت وهو غير قادر على قضائه، فهذا لا شيء عليه ولا على ورثته، ولا في تركته لا صيام ولا إطعام (1).

2 - أن يزول عذره ويتمكن من قضاء رمضان، ولا يقضيه حتى يموت، فهذا يُصام عنه.

3 - أن يموت وعليه نذر، فيصوم عنه ورثته.

فائدتان:

1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» خبر بمعنى الأمر وتقديره (فليصم عنه وليه) وهذا الأمر للندب لا للإيجاب عند الجمهور (2) خلافًا لأهل الظاهر، ويقوي هذا رواية البزار ففيها (فليصم عنه وليه إن شاء) (3)، وهذا هو الموافق للقواعد فإن الأصل براءة الذمة وأن المكلف غير ملتزم بأداء ما ثبت في ذمة غيره إلا بدليل صريح.

2 - من مات وعليه صوم، وصام عنه رجال بعدد الأيام التي عليه جاز ذلك.

وأما الإطعام فإن جمع وليه مسكين بعدد الأيام التي عليه وأشبعهم، جاز، كذلك فعل أنس بن مالك رضي الله عنه.

_________

(1) «المجموع» (6/ 414).

(2) «فتح الباري» (4/ 228).

(3) هذا لو صحت، وهي زيادة منكرة وانظر «تمام المنة» (ص: 427).

 

(2/133)

 

 

2 - صيام التطوع (1)

رغب الشرع في صيام أيام غير رمضان وهي:

1 - ستة أيام من شوال:

يستحب أن يُتبع رمضان بصيام ست من شوال -لا يشترط تتابعها- لأن هذا يعدل صيام الدهر، فعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر» (2).

وإنما كان ذلك كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والسنة بشهرين، كما في حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان، فشهر بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بعد الفطر، فذلك تمام صيام السنة» (3).

وقد استحب صيام هذه السنة كثير من أهل العلم منهم الشافعي وأحمد، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك إلى كراهة صيامها لئلا يُعتقد وجوبه إلحاقًا برمضان، ولا وجه لهذه الكراهة لمعارضتها النص الصحيح الصريح باستحبابها، ثم إن الإلحاق إنما خيف في أوَّل الشهر، أما في آخره فقد فصل بينه وبين غيره بيوم العيد الذي لا يجوز صومه (4).

من كان عليه قضاء من رمضان، هل يصوم الستة قبل القضاء؟

الظاهر من حديث أبي أيوب المتقدم أن حوز فضيلة ثواب صوم الدهر مشروطة بصيام رمضان ثم إتباعه بست من شوال، فلا يقدم صيام الست على قضاء رمضان (5)، قلت: إلا أن يقال إن قوله «ثم أتبعه ستًّا» خرج مخرج الغالب فليس له مفهوم، فيجوز حينئذ صيام الست قبل قضاء رمضان لا سيما لمن ضاق عليه شوال لو قضى، وهذا يحتمله إطلاق حديث ثوبان، والله أعلم.

_________

(1) استفدت في هذا الباب مما جمعه أخي الفاضل: أسامة عبد العزيز -أثابه الله- في كتابه «صيام التطوع فضائل وأحكام».

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1164)، وأبو داود (2433)، والترمذي (759)، والنسائي في الكبرى (2862)، وابن ماجه (1716).

(3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 280)، والنسائي في الكبرى (2860)، وابن ماجه (1715).

(4) «شرح مسلم» للنووي (3/ 238)، و «شرح العمدة» (2/ 556)، و «المغنى» (4/ 438)، و «فتح القدير» (2/ 349)، و «حاشية ابن عابدين» (3/ 421)، و «الاستذكار» (10/ 259).

(5) أفاده العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- كما في «الممتع» (6/ 448).

 

(2/134)

 

 

2، 3 - صيام المحرم، وتأكيد التاسع والعاشر (عاشوراء):

يستحب الإكثار من الصيام في شهر المحرم، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (1).

ويتأكد الاستحباب في صيام العاشر من المحرم (عاشوراء)، فعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله» (2).

وسئل ابن عباس عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: «ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر، يعني رمضان» (3).

ويستحب أن يصوم قبله يوم التاسع من المحرم، لحديث ابن عباس قال: «حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن كان العام المقبل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع» قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم» (4).

وقد ذهب إلى استحباب الجمع بين صيام التاسع والعاشر من المحرم: مالك والشافعي وأحمد حتى لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر (5).

تنبيه: ذهب بعض العلماء إلى استحباب صيام الحادي عشر مع التاسع والعاشر مستدلين بما رُوى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا قبله يومًا وبعده يومًا» (6) لكنه حديث ضعيف جدًّا فليس فيه حجة لاستحباب صيام الحادي عشر، فلينتبه، والله أعلم.

4 - الإكثار من الصيام في شعبان:

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه كله إلا قليلاً، فعن عائشة قالت: «كان رسول الله

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1163)، والنسائي في «الكبرى» (2905)، وابن ماجه (1742).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1162).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (2006)، ومسلم (1132).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1134).

(5) «شرح الزرقاني» (2/ 237)، و «المجموع» (6/ 383).

(6) ضعيف جدًّا: أخرجه أحمد (2418)، والحميدي (485)، وابن خزيمة (2095) وغيرهم.

 

(2/135)

 

 

صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يُفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان» (1).

تنبيهان:

الأول: تخصيص صيام يوم النصف من شعبان بدعة:

فمن لم يكن من عادته الإكثار من صيام شعبان أو صيام الأيام الثلاثة البيض، فخص يوم الخامس عشر من شعبان بالصيام معتقدًا اختصاصه بفضيلة، ففعله بدعة إذ لا يصح في فضل النصف من شعبان ولا صيامه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما ورد في هذا فهو شديد الضعف أو موضوع كحديث على مرفوعًا: «إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها ...» (2).

الثاني: لا يثبت النهي عن الصيام بعد انتصاف شعبان:

اختلف العلماء في صيام التطوع بعد انتصاف شعبان، فذهب الجمهور إلى جوازه، وذهب الشافعية إلى كراهته، مستدلين بحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» (3) لكنه ضعيف -على الراجح وقد أنكره الأئمة الذين يُدان بقولهم في هذا الشأن، فلا حرج في الصيام بعد انتصاف شعبان، ويؤيد هذا الأحاديث الصحيحة، كحديث عائشة المتقدم في صيام النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر شعبان، وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتقدمنَّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم» (4) ففيه النهي عن صوم يوم أو يومين فقط من آخر شعبان خشية أن يزاد في الشهر ويلحق به ما ليس منه، إلا أن يكون صومًا اعتاده فلا بأس، وعن أم سلمة قالت: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156).

(2) ضعيف جدًّا: أخرجه ابن ماجه (1388).

(3) منكر: أخرجه أبو داود (2337)، والترمذي (738)، والنسائي في «الكبرى» (2911)، وابن ماجه (1651)، وأحمد (2/ 442) وقد أنكره عبد الرحمن بن مهدي وأحمد ويحيى ابن معين وأبو زرعة وغيرهم، وقد تكلمت عليه في تعليقي على «شرح البيقونية» لابن عثيمين (ص 22 - 24)، وقد صححه العلامة الألباني رحمه الله!!.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082).

(5) صحيح: أخرجه الترمذي (726)، والنسائي (4/ 150)، وابن ماجه (1648)، وأحمد (6/ 293).

 

(2/136)

 

 

5 - صيام يوم عرفة لغير الحاج:

يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة، لحديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده» (1).

وتكفير السنتين إما أن يراد به أن الله تعالى يغفر له ذنوب سنتين [إذا اجتنبت الكبائر] أو أنه يعصمه في هاتين السنتين، فلا يعصى فيهما (2).

لا يستحب للحاج صيام عرفة: فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، الفطر يوم عرفة بعرفة، فعن ميمونة رضي الله عنها: «أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب -وهو واقف في الموقف- فشرب منه، والناس ينظرون» (3).

وسئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة بعرفة، فقال: «حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه، ولا آمر بصومه، ولا أنهي عنه» (4).

والأفضل للحاج أن يفطر يوم عرفة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ولما فيه ن التقوية على الدعاء والذكر في هذا الموقف، وهذا مذهب جمهور العلماء (5).

6 - صيام الاثنين والخميس:

فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الاثنين والخميس» (6).

وسأل أسامة بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامه الاثنين والخميس، فقال صلى الله عليه وسلم: «ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1162).

(2) «المجموع» للنووي (6/ 381) بنحوه.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1989)، ومسلم (1124).

(4) صحيح: أخرجه الترمذي (751)، والنسائي في «الكبرى» (2826)، وأحمد (2/ 47).

(5) «المجموع» (6/ 380)، و «التمهيد» (21/ 158)، و «شرح العمدة» لشيخ الإسلام (2/ 762).

(6) صحيح: أخرجه الترمذي (745)، والنسائي (2186)، وابن ماجه (1739).

(7) حسن: أخرجه النسائي (2357)، وأحمد (5/ 201)، والبيهقي في «الشعب» (3821).

 

(2/137)

 

 

7 - صيام ثلاثة أيام من كل شهر:

فعن أب هريرة قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» (1).

وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «... وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر ...» (2).

ويستحب أن تكون الثلاثة البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر، صيام الدهر، أيام البيض صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة» (3).

8 - صوم يوم وفطر يوم (صوم داود عليه السلام):

وهذا أفضل الصيام، وأعدله، وأحبه إلى الله عز وجل، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصوم إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا» (4) وفي رواية «وهو أعدل الصيام» (5).

لكن هذا مشروط بمن لم يضيع ما أوجب الله عليه بسبب الصيام، فإن ضيع الفرائض أو انشغل به عن مؤنة أهله كان منهيًّا عنه (6).

فائدة: يستحب أن لا يخلى شهرًا من صوم.

عن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لعائشة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا معلومًا سوى رمضان؟ قالت: «والله إن صام شهرًا معلومًا سوى رمضان حتى مضى لوجهه، ولا أفطر حتى يصيب منه» (7).

فيستحب أن لا يخلى شهرًا من صيام، فإن النفل غير مختص بزمان معين، بل السنة كلها صالحة له إلا ما نهى عن صومه وإن كان الأفضل الصيام من الأيام التي رغب الشرع في صيامها. والله أعلم.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1981)، ومسلم (821).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1976)، ومسلم (1159).

(3) صحيح لشواهده: أخرجه النسائي (2419)، وأبو يعلى (7504)، والطبراني في «الكبير» (2/ 2499) عن جرير، وله شواهد عن أبي ذر وقتادة بن ملحان.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1976)، ومسلم (1159).

(6) مستفاد من «الشرح الممتع» لابن عثيمين -رحمه الله- (6/ 474).

(7) صحيح: أخرجه مسلم (1156).

 

(2/138)

 

 

مسائل تتعلق بصيام التطوع

1 - تبييت النية من الليل:

تقدم في «شروط صحة الصيام» أن مذهب الجمهور جواز إنشاء نية صيام التطوع أثناء النهار (1) لمن لم يأكل أو يشرب وأراد أن يصوم، وأنه لا يشترط تبييتها من الليل كصيام الفرض، لكن تبييتها قبل الفجر أحوط لاحتمال الأدلة.

2 - المتطوع أمير نفسه إن شاء أتم صومه وإن شاء أفطر ولا قضاء عليه:

من دخل في صوم تطوع، فإن المستحب له أن يُتمَّه لكن إن بدا له أن يفطر فله ذلك ولا قضاء عليه وبه قال الشافعي وأحمد (2).

واحتجوا بما رُوى عن أم هانئ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح فأُتى بشراب فشرب، ثم ناولني، فقلت: إني صائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المتطوع أمير نفسه، فإن شئت فصومي، وإن شئت فأفطري» (3).

قلت: وهذا حديث ضعيف، لكن يشهد لمعناه حديث أبي جحيفة قال: «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سليمان وأبي الدرداء، ... فصنع [أي سلمان] له طعامًا، فقال: كُلْ، قال: إني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، ... ، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حق، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان» (4).

وفيه أن أبا الدرداء أفطر، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء.

وحديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «يا عائشة، هل عندكم شيء؟ قالت: فقلت: يا رسول الله ما عندنا شيء، قال: «فإني صائم»، قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية، أو جاءنا زور، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله أهديت لنا هدية أو جاءنا زور، وقد خبأت لك شيئًا، قال: ما

_________

(1) عند أبي حنيفة والشافعي في المشهور عنه: لا تصح النية إلا قبل الزوال، وعند أحمد وقول للشافعي أنه يصح في أي وقت من النهار وهذا قول أكثر السلف وهو الأعدل، والله أعلم.

(2) «المجموع» (6/ 393)، و «شرح العمدة» (2/ 601).

(3) ضعيف: أخرجه الترمذي (732)، والنسائي في «الكبرى» (3302)، وأحمد (6/ 341).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1968).

 

(2/139)

 

 

هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئت به، فأكل، ثم قال: «قد كنت أصبحت صائمًا» (1).

وهذا نص في جواز الإفطار بعد إجماع الصيام، وقد ثبت هذا عن ابن عباس وابن مسعود وجابر بأسانيد صحيحة (2).

وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن من أصبح متطوعًا فأفطر متعمدًا فعليه القضاء (3)، واحتجوا بما رُوى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ولحفصة لما كانتا صائمتين فأكلتا: «اقضيا يومًا آخر مكانه» (4) وهو ضعيف.

واحتجوا بزيادة وردت في حديث عائشة -في فطره صلى الله عليه وسلم بعد صيامه- وهي قوله: «إني كنت أردت الصوم، ولكن أصوم يومًا مكانه» (5) وهي شاذة، وقاسوا إتمام صيام التطوع على إتمام الحج والعمرة، وهذا قياس مع الفارق، فإن من أفسد صلاته أو صيامه كان عاصيًا لو تمادى فيه فاسدًا، أما في الحج فهو مأمور بالتمادي فيه فاسدًا، ولا يجوز له الخروج منه حتى يتمه على فساده ثم يقضيه وليس كذلك الصوم والصلاة، فلا يقاس على الحج (6)، ثم هو ههنا قياس في مقابل النص فلا يعتبر به.

3 - هل يجوز صيام التطوع قبل قضاء رمضان؟

تقدم أن مذهب جماهير السلف والخلف جواز تأخير قضاء رمضان -لمن أفطر بعذر- مطلقًا وعدم اشتراط المبادرة بعد أول الإمكان.

ثم اختلفوا في جواز التطوع قبل قضاء رمضان، فذهب الحنفية، ورواية عن أحمد إلى الجواز، وكرهه المالكية، واستحب الشافعية القضاء قبل التطوع، وعن أحمد رواية أخرى بعدم الجواز (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1154) وقد تقدم.

(2) انظر «مصنف عبد الرزاق» (7767 - 7768 - 7771)، و «سنن البيهقي» (4/ 277).

(3) «شرح معاني الآثار» (2/ 111)، و «المدونة» (1/ 183).

(4) ضعيف: أخرجه الترمذي (735)، والنسائي في «الكبرى» (3291)، وأحمد (6/ 263).

(5) شاذ: أخرجه النسائي في «الكبرى» (3300)، وعبد الرزاق (7793)، والدارقطني (2/ 177)، والبيهقي (4/ 275)، وقال النسائي: هذا خطأ، وقال البيهقي: وهو عند أهل العلم بالحديث غير مفحوظ.

(6) نقله في «التمهيد» (12/ 77) عن الشافعي.

(7) «البدائع» (2/ 104)، و «مواهب الجليل» (2/ 417)، و «المجموع» (6/ 375)، و «المغنى» (4/ 401).

 

(2/140)

 

 

قلت: لا يصح دليل في المنع من صيام التطوع قبل القضاء، بل يدل على الجواز أن الله تعالى أطلق القضاء بقوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1). ويدل عليه كذلك حديث عائشة قالت: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان» (2).

ولا شك أنها كانت تتطوع في أثناء العام، وكان هذا بعلم النبي صلى الله عليه وسلم فهو إقرار منه، ثم إن القضاء واجب يتعلق بوقت موسع، فجاز التطوع في وقته قبل فعله كالصلاة يتطوع في أول وقتها. والله أعلم.

4 - المرأة تستأذن زوجها في الصيام:

لا يجوز للمرأة أن تصوم صيام تطوع في حضور زوجها بغير إذنه، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه» (3).

وسبب هذا أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه منه واجب على الفور، فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي (4).

فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الفجر حتى تطلع الشمس، فقال صفوان: يا رسول الله، أما قولها يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتنا، قال: فقال: «لو كانت سورة واحدة لكفت الناس» وأما قولها: يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها» ... الحديث (5).

فإذا كان زوجها غائبًا عنها فصومها التطوع جائز بلا خلاف، لمفهوم الحديث ولزوال معنى النهي (6). والله أعلم.

_________

(1) سورة البقرة: 185.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (5192)، ومسلم (1026).

(4) «البدائع» (2/ 107)، و «المدونة» (1/ 186)، و «شرح مسلم» للنووي (3/ 65).

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2459)، وأحمد (3/ 84)، والبيهقي (4/ 303).

(6) «المجموع» للنووي (6/ 392).

 

(2/141)

 

 

الأيام المنهي عن صيامها

1، 2 - يوما العيدين:

أجمع العلماء على تحريم صوم يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى بكل حال، سواء صامها عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك (1).

لحديث أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم» (2).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر» (3).

3 - أيام التشريق (4):

ولا يجوز صومها تطوعًا في قول أكثر أهل العلم، لحديث نُبَيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب» (5).

وعن أبي مرة مولى أم هانئ: أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو ابن العاص، فقرب إليهما طعامًا فقال: «كُل، فقال: إني صائم، فقال عمرو: «كُلْ، فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نفطرها، وينهانا عن صيامها» (6).

لكن: يُرخَّص للحاج الذي لم يجد الهدي أن يصوم فيها -كما سيأتي- فعن عائشة وابن عمر قالا: «لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهدي» (7).

4 - صوم يوم الجمعة منفردًا:

لا يجوز صوم يوم الجمعة إلا لمن صام يومًا قبله، أو يومًا بعده، أو كان يصوم يومًا ويفطر يومًا فصادف صيامه الجمعة فلا بأس بذلك.

_________

(1) «شرح مسلم للنووي» (3/ 207)، و «المغنى» (4/ 424)، و «فتح الباري» (4/ 281).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1990)، ومسلم (1137).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1991)، ومسلم (1138).

(4) هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر (يوم عيد الأضحى) وهي ثاني وثالث ورابع أيام عيد الأضحى.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1141).

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (2418)، وأحمد (4/ 197).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (1997 - 1998).

 

(2/142)

 

 

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده» (1).

وعن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة، وهي صائمة، فقال: «أَصُمت أمس؟» قالت: لا، قال: «تريدين أن تصومي غدًا؟». قالت: لا، قال: «فأفطري» (2).

وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وخالف في هذا أبو حنيفة ومالك فقالوا: لا يكره (3) واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر، وقلما يفطر يوم الجمعة» (4).

ويجاب عنه بأجوبة: منها أن الأظهر أنه ضعيف، وعلى فرض صحته فيحمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يومًا قبله أو بعده معه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال (5)، ثم إن هذا فعل وذاك قول، والقول مقدم، على الفعل عند التعارض وعدم إمكان الجمع.

وأما مالك -رحمه الله- فلم يبلغه النهي، ومن علم حجةٌ على من لم يعلم.

فائدة: إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة فلا حرج في إفراده بالصيام، فإن النهي إنما هو عن تعمده بعينه، والله أعلم (6).

5 - صيام يوم الشك:

لا يجوز أن يستقبل رمضان بصيام يوم أو يومين على نية الاحتياط لرمضان، وهذا لمن لم يصادف عادة له (7)، أو يصله بما قبله، فإن لم يصِل ولا صادف عادة

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1985)، ومسلم (1144).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1984)، ومسلم (1143).

(3) «حاشية ابن عابدين» (3/ 336)، و «الموطأ» (1/ 330)، و «شرح مسلم» (3/ 210)، و «المغنى» (4/ 427).

(4) إسناده لين: أخرجه أبو داود (2450)، والترمذي (742)، والنسائي (2367)، وابن ماجه (1725) من طريقة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وعاصم له أوهام وروايته عن زر فيها مقال.

(5) «التلخيص» (2/ 216)، و «سبل السلام» (2/ 347).

(6) «شرح العمدة» (2/ 652)، و «الزاد» (2/ 86).

(7) كأن تكون عادته صوم يوم وفطر يوم، أو صوم الاثنين أو الخميس ونحوه.

 

(2/143)

 

 

فهو حرام، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم» (1).

وعن عمار بن ياسر قال: «من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (2).

6 - صيام الدهر:

عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أنه يسرد الصوم قال له: «لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد» (3).

وفي حديث أبي قتادة: قال عمر: يا رسول الله، كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: «لا صام ولا أفطر» (4).

فيكره صوم الدهر، وإن لم يجد مشقة أو ضعفًا، وكذلك لو لم يصم الأيام المنهي عن صيامها، فإن صامها كذلك فيحرم عليه. والله أعلم.

هل يُشرع صيام رجب؟

لم يصح في فضل صيام رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة مكذوبة (5).

فلا يجوز تحري صيام رجب خاصة أو تخصيص أوله بصيام، وقد كان عمر يضرب على صيامه، فعن خرشة بن الحر قال: «رأيت عمر يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كان يعظمه أهل الجاهلية» (6).

وعن محمد بن زيد قال: «كان ابن عمر إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كره ذلك» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082).

(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2334)، والترمذي (681)، والنسائي (4/ 153)، وابن ماجه (1645).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1977)، ومسلم (1159).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1162).

(5) «مجموع الفتاوى» (25/ 290)، و «لطائف المعارف» (ص 228)، و «السيل الجرار» (2/ 143).

(6) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 102)، وابن كثير في «مسند الفاروق» (1/ 285).

(7) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 102).

 

(2/144)

 

 

وعن عطاء قال: «كان ابن عباس ينهى عن صيام رجب كله، لأن لا يتخذ عيدًا» (1).

وذهب بعض أهل العلم إلى استحباب صيام رجب لكونه من الأشهر الحرم (2).

قلت: الأشهر الحرم قد خصها الله تعالى بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها وإن كان منهيًّا عنه في كل زمان قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} (3). فهذا نهي عن ارتكاب الذنوب في هذه الأشهر لعظم حرمتها عند الله تعالى وأن العقاب قد يضاعف فيها على الذنوب، وكذلك يُضاعف الثواب على العمل الصالح، لكن هل يعني هذا أن تخصص هذه الأشهر بصيام من بين الشهور، لا سيما ولا يصح في هذا شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الباهلي: «صم من الحرم واترك» (4) وهو ضعيف؟

هذا على أن لتفسير الآية الكريمة وجهًا آخر، وهذا أن المراد بقوله تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}: لا تُصيِّروا حرام هذه الأشهر حلالاً، وحلالها حرامًا (5).

فالثابت هو الصيام في المحرم كما تقدم بيانه، أما صيام رجب وتخصيصه بذلك -لا سيما مع اعتقاد أفضليته- فلا يجوز، فإن صام منه غير معظم لأمر الجاهلية، من غير أن يجعله حتمًا، أو يخص منه أيامًا يواظب على صومها أو ليالٍ معينة يواظب على قيامها، بحيث يظن أنه سنة، إن خلا صيامه من هذا فلا بأس حينئذ والله أعلم (6).

حكم إفراد السبت بالصوم:

عن عبد الله بن بُسر عن أخته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة، أو عود شجرة فليمضغه» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7854).

(2) «المجموع» (6/ 386)، و «مقدمات ابن رشد» (1/ 242)، و «نيل الأوطار» (4/ 293).

(3) سورة التوبة: 36.

(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (2428)، والنسائي في «الكبرى» (2743)، وأحمد (5/ 28).

(5) «تفسير الطبري» (6/ 366).

(6) انظر «تبيين العجب بما ورد في فضل رجل» للحافظ بن حجر (ص: 70).

(7) أعلَّه الأئمة: أخرجه أبو داود (2421)، والترمذي (744)، والنسائي في «الكبرى» (2762)، وابن ماجه (1726)، وأحمد (6/ 368)، وقال مالك: كذب، وقال أبو داود: منسوخ، وقال الحافظ: مضطرب، وقال الطحاوي: شاذ، وكذا شيخ الإسلام وغيرهم وقد تكلمت عليه في تعليقي على «شرح المنظومة البيقونية» لابن عثيمين (ص: 24).

 

(2/145)

 

 

وقد اختلف أهل العلم في فقه هذا الحديث على قولين:

الأول: جواز صيام السبت تطوعًا ولو مفردًا: وهذا مذهب مالك، ويفهم من كلام أحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيم (1)، وهؤلاء ضعَّفوا الحديث، وقدموا عليه الأحاديث الصحاح التي تحث على صيام عرفة وست من شوال وعاشوراء وصيام ثلاثة أيام البيض وصيام يوم وإفطار يوم، فلابد أن يوافق أحد هذه الأيام يوم السبت!!

وكذلك حديث صيام يوم قبل الجمعة أو يومًا بعده، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لجويرية لما صامت الجمعة: «أتريدين أن تصومي غدًا»؟ ... وكل هذا تقدم.

الثاني: كراهة إفراد السبت بالصيام: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والحنابلة (2)، وقد حملوا هذا الحديث على المنع من إفراده بالصوم لأنه تشبه باليهود، وأيدوا هذا بما رُوى عن ابن عباس أن أم سلمة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، كان يقول: «إنهما عيدان للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم» (3).

قلت: أما حديث عبد الله بن بسر فقد تضافرت أقوال الأئمة على إعلاله، وعليه فلا حرج في صيامه لا سيما إن وافق يومًا ندب الشرع إلى صيامه، والله أعلم.

كراهة وِصال الصوم:

يكره مواصلة الصوم ومتابعة بعضه بعضًا دون فطر أو سحور، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والوصال» -قالها ثلاثًا- قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: «إنكم لستم في ذلك مثلي، إني ابيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون» (4) لكن إذا لم تكن هناك مشقة فلا بأس بالوصال إلى السحر فقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر» (5).

_________

(1) «الإنصاف» (3/ 347)، و «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 575)، و «مختصر السنن» (3/ 298).

(2) «المجموع» (6/ 440)، و «البدائع» (2/ 79)، و «المغنى» (4/ 428).

(3) ضعيف: أخرجه النسائي في «الكبرى» (2776)، وأحمد (6/ 323) وغيرهما بسند ضعيف.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1966)، ومسلم (1103) عن أبي هريرة.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1967)، وأبو داود (2344).

 

(2/146)

 

 

ليلة القدر

فضلها:

قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (1).

وقد انتظمت هذه السورة الكريمة جملة فضائل لهذه الليلة (2):

1 - إن الله عز وجل أنزل القرآن في هذه الليلة، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} (3).

2 - أن الله عز وجل عظَّم شأنها بذكرها وبقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.

3 - أن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

4 - أن الملائكة تتنزل في هذه الليلة، قيل: تتنزل بالرحمات والبركات والسكينة وقيل: تتنزل بكل أمر قضاه الله وقدَّره لهذه السنة، كما قال سبحانه {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (4).

5 - أن الأمن والسلام يحل في هذه الليلة على أهل الإيمان، وتسليم الملائكة يتوالى عليهم فيها.

6 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (5).

أي ليلة هي؟

لا شك أن ليلة القدر في رمضان لقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (6).

مع قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (7).

_________

(1) سورة القدر: 1 - 5.

(2) «التسهيل لتأويل التنزيل» لشيخنا العدوي (جزء عم 2/ 448).

(3) سورة الدخان: 3.

(4) سورة الدخان: 4، 5.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (759).

(6) سورة القدر: 1.

(7) سورة البقرة: 185.

 

(2/147)

 

 

وأما تحديدها فقال الحافظ ابن حجر: وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافًا كثيرًا، وتحصَّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً اهـ. [ثم ذكر هذه الأقوال وأدلة أصحابها] (1).

والأكثرون على أنها في العشر الأواخر من رمضان لحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «... فابتغوها في العشر الأواخر» (2).

وأكثرهم على أنها في الوتر من العشر الأواخر لقوله صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر» (3).

وأكثرهم كذلك على أنها ليلة السابع والعشرين وهو قول جماعة من الصحابة وبه جزم أبي ابن كعب وحلف عليه كما في صحيح مسلم (4).

قلت: الذي يظهر لي أن ليلة القدر في العشر الأواخر وأوتار العشر آكد وأنها تنتقل فيها، وأنها لا تختص بليلة السابع والعشرين، فإن ما جاء عن أُبيٍّ أنها ليلة السابع والعشرين هذا في سنة ولا يعني تعيينها في كل سنة، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وافق ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين، كما في حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم فقال: «إني أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين» ... قال أبو سعيد: مطرنا ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه مُبْتَلٌّ طينًا وماءً (5).

وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها والله أعلم.

إخفاء ليلة القدر:

وإنما أخفيت ليلة القدر ليجتهد العباد في الطاعة في جميع الليالي، رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر، فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله، فهذا هو السر في عدم تعيينها، ولعله يشير إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني

_________

(1) «فتح الباري» (4/ 309 - سلفية).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (2018)، ومسلم (1167) عن أبي سعيد.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (2017).

(4) صحيح مسلم (762)، والترمذي (3351).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (2018)، ومسلم (1167).

 

(2/148)

 

 

خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرُفعت [يعني: رُفع علمها]، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها ...» (1).

كيف يتحرى المسلم ليلة القدر؟

هذه الليلة المباركة من حُرِمها فقد حُرِم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم، لذلك ينبغي للمسلم الحريص على طاعة الله أن يحييها إيمانًا وطمعًا في أجرها العظيم، وأن يجتهد في العشر الأواخر أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد ما لا يجتهد في غيرها» (2).

وعليه أن يكثر من القيام في هذه الليالي وأن يعتزل النساء ويحث أهله على الطاعة فيها، فعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، شدَّ مئزره (3)، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» (4).

حتى يكون حريًّا بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (5).

الدعاء فيها:

ويستحب الدعاء فيها والإكثار منه لا سيما بالدعاء الوارد في حديث عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن عملت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟

قال: «قولي: اللهم إنك عَفُوٌّ تحب العفو فاعفُ عني» (6).

علامات ليلة القدر:

ليلة القدر لها علامات تُعرف بها، ومن هذه العلامات ما يكون في الليلة نفسها مثل:

1 - أن يكون الجو مناسبًا والريح ساكنة، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة سمحة، طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (2023).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1174).

(3) أي اعتزل النساء لأجل العبادة، وشمَّر في طلبها وجدَّ في ذلك.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (2024)، ومسلم (1174).

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) صحيح: أخرجه الترمذي (3760)، وابن ماجه (3850).

(7) حسن: أخرجه الطيالسي (349)، وابن خزيمة (3/ 231)، والبزار (1034).

 

(2/149)

 

 

2 - الطمأنينة والسكينة التي تنزل بها الملائكة، فيحس الإنسان بطمأنينة القلب، ويجد من انشراح الصدر ولذة العبادة في هذه الليلة ما لا يجده في غيره.

3 - قد يراها الإنسان في منامه، كما حصل لبعض الصحابة.

ومن العلامات ما يكون لاحقًا مثل:

4 - أن تطلع الشمس في صبيحتها صافية لا شعاع لها، فعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صبيحة ليلة القدر تطلع الشمس لا شعاع لها، كأنها طَسْت، حتى ترتفع» (1).

تنبيه:

للعامَّة حول علامات ليلة القدر خرافات كثيرة، واعتقادات فاسدة، منها أن الشجر يسجد وأن المباني تنام، وأن المالحة تعذب في تلك الليلة وأن الكلاب تكف عن النباح وغير ذلك مما هو ظاهر الفساد والبطلان.

 

الاعتكاف

1 - معناه: الاعتكاف هو الإقامة على الشيء، فقيل لمن لازم المسجد وأقام فيه للعبادة: معتكف وعاكف (2).

2 - مشروعيته:

يستحب الاعتكاف في رمضان، لحديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قُبض منه اعتكف عشرين يومًا» (3).

وأفضله آخر رمضان، لما ثبت عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل» (4).

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف آخر العشر من شوَّال، قضاءً لاعتكاف رمضان فإنه لم يعتكف ذلك في رمضان (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1174).

(2) «المصباح المنير» (2/ 424)، و «لسان العرب» (9/ 252).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (2044).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (2026)، ومسلم (1172).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (2041)، ومسلم (1173).

 

(2/150)

 

 

فإن نذر الإنسان أن يعتكف يومًا أو أكثر وجب عليه الوفاء بنذره، فعن عمر بن الخطاب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: «فأوف بنذرك [فاعتكف ليلة] ..» (1).

3 - لا يشرع الاعتكاف إلا في المسجد:

لقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2).

ولأنه معتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أزواجه، ولو كان يصح الاعتكاف لما اعتكف أزواجه صلى الله عليه وسلم في المسجد مع المشقة في ملازمته، ولو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة.

وقد ذهب الجمهور إلى أنه يشرع الاعتكاف في كل مسجد -على اختلاف بينهم في اشتراط كونه جامعًا ونحوه -لعموم قوله تعالى: {فِي الْمَسَاجِدِ}.

وقال قوم: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وبه قال حذيفة وسعيد بن المسيب (3)، ومذهب الجمهور أرجح، وأما ما يُروى عن حذيفة مرفوعًا: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» (4) فاخُتلف في رفعه ووقفه.

4 - ويُشرع اعتكاف النساء بشرطين:

يشرع للنساء الاعتكاف، فعن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها ... الحديث» (5).

وعنها قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده» (6)، ويشترط لاعتكاف المرأة أمران:

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (2042)، ومسلم (1656).

(2) سورة البقرة: 187.

(3) «بداية المجتهد» (1/ 466 - الكتب العلمية).

(4) أخرجه البيهقي (4/ 316)، والإسماعيلي كما في «معجم شيوخه» (3/ 721)، والذهبي في «السير» (15/ 81)، وابن الجوزي في «التحقيق» (1181) من طريق ابن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عن حذيفة به مرفوعًا، واختلف على ابن عيينة فرواه عند عبد الرزاق (8016)، ومن طريقه الطبراني (6/ 301 - 302) بسنده عن حذيفة موقوفًا، وتابعه إبراهيم عن حذيفة موقوفًا عند عبد الرزاق (8014)، والطبراني (9/ 301).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (2045)، ومسلم (1172).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (2026)، ومسلم (1172).

 

(2/151)

 

 

(أ) إذن زوجها: لأنها لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وقد تقدم في حديث عائشة أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم وكذا حفصة وزينب لأجل الاعتكاف.

فائدة: إذا أذن لها الزوج في الاعتكاف، فهل له أن يخرجها منه؟ (1).

- إذا كان اعتكافها تطوعًا فله أن يخرجها منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذنته عائشة في الاعتكاف وتبعتها حفصة ثم زينب، خاف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه، فأخرجهن وقال: «... آلبر أردت؟ ما أنا بمعتكف ...» (2).

- وإذا كان اعتكافها واجبًا (كالنذر مثلًا): فإما أن يكون نذرًا متتابعًا (نذرت اعتكاف العشر الأواخر) وأذن زوجها فليس له أن يخرجها منه، وإن لم تكن اشترطت التتابع في نذرها فله أن يخرجها ثم تستدرك فيما بعد بقية النذر (3).

(ب) أن لا يكون في اعتكافها فتنة:

فالمرأة تعتكف ما لم يكن في اعتكافها فتنة، فإن ترتب على اعتكافها فتنة لها أو للرجال، فتمنع ولا تُمكَّن منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع أزواجه من الاعتكاف فيما دون ذلك كما تقدم في حديث عائشة.

5 - هل يشترط الصوم للاعتكاف؟ (4)

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين (5):

الأول: لا يصح الاعتكاف إلا بصوم: وهو مذهب أبي حنيفة (6) ومالك وأحمد -في إحدى الروايتين- وهو مروي عن عائشة وابن عباس وابن عمر، وحجتهم:

1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في رمضان، ولم يعرف مشروعية الاعتكاف إلا بصوم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه أنهم اعتكفوا بغير صوم.

_________

(1) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 247) عن «جامع أحكام النساء» (2/ 416) بتصرف.

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) «المجموع» للنووي (6/ 476).

(4) فائدة هذا محلُّها: إذا اعتكف في غير رمضان لنذر أو نحوه، أو كان مفطرًا في رمضان بعذر وأراد أن يعتكف.

(5) «بداية المجتهد» (1/ 470)، و «تهذيب السنن» (7/ 104 - 109 - مع عون المعبود).

(6) اشتراط الصوم للاعتكاف عند أبي حنيفة خاص باعتكاف النذر فقط.

 

(2/152)

 

 

2 - اقتران الاعتكاف مع الصوم في آية واحدة.

3 - حديث عائشة قالت: «السُّنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة ولا يمسَّ امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بُدَّ منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» (1) وقد رُوى عنها مرفوعًا ولا يصح.

الثاني: لا يشترط الصوم للاعتكاف وإنما يستحب: وهو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وهو مروي عن عليٍّ وابن مسعود، وحجتهم:

1 - أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: «فأوف بنذرك»، فاعتكف ليلة» (2).

قالوا: والليل ليس بمحل للصيام، وقد جوَّز الاعتكاف فيه.

2 - في رواية لحديث عائشة الذي تقدم -في اعتكاف أزواجه صلى الله عليه وسلم- فقال لما رأى أخيبة أزواجه: «آلبرَّ تُرِدْن؟» فأمر بخبائه فقُوِّض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان، حتى اعتكف في الأوَّلِ من شوال» (3).

قالوا: وأول شوال وهو يوم الفطر لا يحل صومه.

3 - ما رُوى عن ابن عباس مرفوعًا: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» (4) وهو ضعيف، والصواب وقفه.

4 - أن الاعتكاف عبادة مستقلة بنفسها، فلم يكن الصوم شرطًا فيها كسائر العبادات.

5 - أنه لزوم مكان معين لطاعة الله تعالى، فلم يكن الصوم شرطًا كالرباط.

قلت: والأظهر أنه لا يشترط الصوم لاعتكاف وإنما يستحب، والله أعلم.

_________

(1) إسناده جيد: أخرجه أبو داود (2473)، والبيهقي (4/ 315)، وقد اختلف في ثبوت قولها «السنة»، بل جزم الدارقطني بأن اللفظ كله مدرج من كلام الزهري، لكن ردَّه الألباني في «الإرواء» (4/ 140).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (2042)، ومسلم (1656).

(3) صحيح: أخرجه هذا اللفظ مسلم (1172).

(4) ضعيف: أخرجه الحاكم (1/ 605) والبيهقي (4/ 318)، والدارقطني (2/ 199) بسند ضعيف والصواب وقفه على ابن عباس.

 

(2/153)

 

 

6 - أقل مدة للاعتكاف (1):

ذهب الجمهور ومنهم أبو حنيفة والشافعي إلى أن زمان الاعتكاف لا حَدَّ لأَقلِّه، وقال مالك: أقله يوم وليلة، وعنه: ثلاثة أيام، وعنه: عشرة أيام.

والظاهر أن من اعتقد أن من شرط الاعتكاف الصوم، قال: لا يجوز اعتكافه ليلة، فلا أقل من يوم وليلة إذ انعقاد النهار إنما يكون بالليل.

قلت: والأظهر أن أقلَّه ليلة لحديث عمر لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره فاعتكف ليلة وقد تقدم في المسألة السابقة، وأما قول الجمهور بأنه يجزئ أقل من ليلة ولو لحظة من ليل أو نهار، فهذا يحتاج إلى دليل.

7 - متى يدخل المعتكف ومتى يخرج؟

من نذر أن يعتكف أيامًا معدودة، أو أراد أن يعتكف العشرة الأخيرة من رمضان فالسنة أن يدخل المعتكف بعد صلاة الفجر أول هذه الأيام (الحادي والعشرين) هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباءً فيصلي الصبح ثم يدخله ...» (2) وهو قول الأوزاعي والليث والثوري.

وذهب الأئمة الأربعة وطائفة إلى أنه يدخل قبيل غروب الشمس (يوم العشرين) وأوَّلوا الحديث على أنه دخل أول الليل وإنما تخلى بنفسه في الخباء بعد صلاة الصبح، قالوا: لأن العشر اسم لعدد الليالي فيلزم أن يبدأ قبل ابتداء الليلة.

قلت (أبو مالك): الحديث يلزم منه أحد أمرين: إما أن يكون شرع في الاعتكاف من الليل -كما قالوا- وإنما دخل خبائه بعد الفجر، فهذا يشكل على من منع الخروج من العبادة بعد الدخول فيها.

وإما أن يكون إنما شرع في الاعتكاف بعد الفجر، ويقوي هذا -عندي- حديث أبي سعيد الخدري: «اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين ...» (3).

ففيه أنه صلى الله عليه وسلم لما كان يعتكف العشر الأوسط كان يخرج صبيحة العشرين فيكون دخوله فجر العاشر، فوافق حديث عائشة والله أعلم.

_________

(1) «بداية المجتهد» (1/ 468)، و «فتح الباري» (4/ 319).

(2) صحيح: تقدم تخريجه.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (2036)، وقد تقدم.

 

(2/154)

 

 

وأما الخروج: فعلى القول الأول: يخرج بعد فجر يوم العيد إلى المصلى، وهذا استحبه مالك، وعلى القول الثاني يخرج بعد غروب الشمس آخر يوم من رمضان، والله أعلم.

8 - ما يبطل به الاعتكاف: يبطل الاعتكاف بواحد مما يلي:

(أ) الخروج من غير عذر شرعي ولغير الحاجة المُلحَّة: فلا يخرج من المسجد إلا لما لابد منه حسًّا أو شرعًا، ومثال الأول: أن يخرج للحصول على الأكل والشرب وقضاء الحاجة إن تعذر هذا بدون الخروج.

ومثال الثاني: أن يخرج ليغتسل من جنابة أو ليتوضأ إذا تعذر فعله في المسجد، فهذا مما لابد منه شرعًا.

فعن عائشة قالت: «وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدخل رأسه -وهو في المسجد- فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفًا» (1).

وقد تقدم قولها: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا ما لابد منه».

ويؤيده حديث عمرة قالت: «كانت عائشة في اعتكافها إذا خرجت إلى بيتها لحاجتها، تمرُّ بالمريض فتسأل عنه وهي مجتازة لا تقف عليه» (2).

إذا اشترط في نيته الخروج لشيء معين: كأن يشترط أن يخرج للجنازة أو إلى عمله نهارًا -كما يفعل بعض الموظفين- فأكثر الفقهاء على أن شرطه لا ينفعه، وأنه إن فعل بطل اعتكافه.

وقال الثوري والشافعي وإسحاق -وهو رواية عن أحمد- أنه إن اشترط في ابتداء اعتكافه لم يبطل بفعله كالاشتراط في الحج.

(ب) الجماع: أجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته في فرجها وهو معتكف عامدًا لذلك [ذاكرًا اعتكافه] أنه يبطل اعتكافه (3).

لقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (4).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (2029)، ومسلم (297).

(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (8055).

(3) «تفسير القرطبي»، و «بداية المجتهد» (1/ 470)، و «الفتح» (4/ 272)، و «السيل الجرار» (2/ 136).

(4) سورة البقرة: 187.

 

(2/155)

 

 

فالجماع قد نهي عنه بخصوصه في عبادة، ففعله يبطلها (1).

وأما المباشرة بما دون الجماع: فإن كانت لغير شهوة فلا بأس بها، كأن تغسل رأسه أو فعليه أو تناوله شيئًا، لحديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصغى إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض» (2) وإن كانت عن شهوة فهي محرمة لهذه الآية، فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه، وإن لم ينزل لم يفسد، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر: يفسد في الحالين، وهو قول مالك، لأنها مباشرة محرمة فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل، قال ابن قدامة: ولنا أنها مباشرة لا تفسد صومًا ولا حجًا فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة لغير شهوة. اهـ (3).

9 - ما يجوز للمعتكف:

(أ) الخروج للحاجة التي لابد منها: كالخروج للأكل أو الشرب أو قضاء الحاجة إذا تعذر فعله في المسجد، كما تقدم.

(ب) اشتغال المعتكف بالأمور المباحة: من تشييع (توصيل) زائره والقيام معه إلى باب المسجد، والحديث مع غيره.

(جـ، د) زيارة المرأة للمعتكف، وخلوة المعتكف بزوجته:

وهذه الأمور الثلاثة الأخيرة مستفادة من حديث صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم:

«أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة ...» الحديث (4).

(هـ) غسل المعتكف ووضوؤه في المسجد:

فعن رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «توضأ النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وضوءًا خفيفًا» (5) وقد تقدم غَسل عائشة وترجيلها رأس النبي صلى الله عليه وسلم.

_________

(1) «الشرح الممتع» (4/ 525).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (2029).

(3) «المغنى» (3/ 199).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (2035)، ومسلم (2175).

(5) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 364)، بسند صحيح.

 

(2/156)

 

 

(و) اتخاذ خيمة في مؤخرة المسجد يعتكف فيها: لأن عائشة رضي الله عنها كانت تضرب للنبي صلى الله عليه وسلم خباءً إذا اعتكف (1)، وكان ذلك بأمر منه صلى الله عليه وسلم (2).

(ز) أن يضع فراشه أو سريره في المسجد: فعن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف طُرح له فراش أو يوضع له سرير وراء إسطوانة التوبة» (3) ويشعر بهذا حديث أبي سعيد ففيه: «... فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا ...» الحديث (4).

(ح) الخطبة وعقد الزواج للمعتكف (5): وهذا لا بأس لأن الاعتكاف عبادة لا تحرم الطيب فلم تحرم النكاح كالصوم وهذا مشروط بعدم الجماع كما تقدم.

(ط) ويجوز اعتكاف المرأة المستحاضة (6): لكن ينبغي لها أن تتحفظ لئلا تلوث المسجد، فلها أن تخرج لتتحفظ ونحوه، صيانة للمسجد.

فعن عائشة قالت: «اعتكَفَتْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مستحاضة من أزواجه فكانت ترى الحمرة والصفرة فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي» (7).

هل يجوز للحائض الاعتكاف؟

اعتكاف الحائض مبني على مسألتين، الأولى: هل يلزم للاعتكاف صوم؟ والثانية: هل تدخل الحائض المسجد؟

فمن رأى أنه يلزم للاعتكاف صوم منع اعتكافها لأنها لا تصوم، وكذلك من رأى أن الحائض لا تدخل المسجد يمنع اعتكافها فيه (8).

وقد تقدم تحرير المسألتين في موضعهما من هذا الكتاب فليراجع، والله أعلم.

فائدة: إذا اعتكفت المرأة في المسجد استترت بشيء: فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن فضربت في المسجد، ولأن المسجد يحضره

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (2023).

(2) صحيح: مسلم (1173).

(3) حسن: أخرجه ابن ماجه (642 - الزوائد).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (2040).

(5) «الموطأ» (1/ 318)، و «المحلى» (5/ 192)، و «المغنى» (3/ 205).

(6) «المجموع» (6/ 520)، و «المغنى» (3/ 209).

(7) صحيح: أخرجه البخاري (2037)، ومسلم (2476).

(8) «جامع أحكام النساء» (2/ 430) وما بعدها.

 

(2/157)

 

 

الرجال، وخير لهم وللنساء أن لا يرونهن ولا يرينهم، فإن كان للنساء مكان مخصص في المسجد فهو الأفضل (1).

10 - من آداب الاعتكاف:

يستحب للمعتكف أن يشغل نفسه بطاعة الله، كالصلاة وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، واستغفاره والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتفسير القرآن ودراسة الحديث ونحو ذلك.

ويكره أن يشغل نفسه بما لا يفيد من الأقوال والأفعال، أو أن يتخذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين، وأخذه بأطراف الأحاديث بينه وبين مجالسيه، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون آخر.

_________

(1) انظر كتابي: «فقه السنة للنساء» (ص: 247) ط. التوفيقية.

 

(2/158)

 

 

6 - كتاب الحج والعمرة

 

(2/159)

 

 

أولاً: الحج

تعريف الحج:

الحج -بفتح الحاء ويجوز كسرها وهو شاذ- لغةً: أصله القصد، فيقال (حَجَّهُ حجًّا) أي: قصده، وقيل: هو من قولك: (حججته) إذا أتيته مرة بعد أخرى، وقيل غير ذلك، والأول هو المشهور (1).

والحج -في اصطلاح الشرع-: قصد بيت الله الحرام والمشاعر لأداء عبادة مخصوصة في زمن مخصوص بكيفية معينة.

حُكْم الحَجِّ:

الحج فرض عين على كل مكلف مستطيع في العمر مرة، وهو ركن من أركان الإسلام، وقد ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة والإجماع:

(أ) أما الكتاب: فقد قال الله سبحانه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (2).

(ب) وأما السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة جدًّا -بلغت حد التواتر- تفيد اليقين والعلم القطعي الجازم بثبوت هذه الفريضة (3)، ومن ذلك:

1 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» (4).

2 - حديث أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحُجُّوا»، فقال رجل: أَكُلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلتُ نعم لوجبت، ولما استطعتم ...» (5) الحديث.

_________

(1) سورة آل عمران: 97.

(2) تاج العروس، و «المجموع» (7/ 7).

(3) انظر «الترغيب والترهيب» (2/ 211).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16) وغيرهما.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1337).

 

(2/160)

 

 

وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب الحج - على المستطيع- مرة واحدة في العمر (1)، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة يكفر جاحده (2).

هل يجب الحج على الفورية أو التراخي؟

ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة -في أصح الروايتين- وأبو يوسف، ومالك وأحمد (3) إلى أن من وجدت عنده شروط وجوب الحج -التي ستأتي- وتحقق فرض الحج عليه، فإنه يجب عليه الفور، وأنه يأثم بتأخيره واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (4).

2 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» (5).

والأصل في الأمر أن يكون على الفور ما لم يصرفه صارف (6).

3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد الحج فليتعجل» (7).

4 - وبما روى مرفوعًا: «من ملك زادًا وراحلة تبلغ إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًّا» (8).

بينما هب الشافعي ومحمد بن الحسن وبعض السلف إلى أنه يجب على التراخي، فلا يأثم بتأخير الحج -مع الاستطاعة- بشرط العزم على فعله في

_________

(1) هذا إذا لم ينذر أن يحج، فإن نذره وجب عليه أيضًا.

(2) «المغنى» (3/ 241)، و «المجموع» (7/ 13).

(3) «المغنى» (3/ 241)، و «المجموع» (7/ 85)، و «الفروع» (3/ 242).

(4) سورة آل عمران: 97.

(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(6) ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم -في غزوة الحديبية- حين أمرهم بالإحلال فتباطئوا كما عند البخاري (2731).

(7) ضعيف: أخرجه أحمد (1737)، وابن ماجه (2883)، والطبراني (18/ 287 - 296)، والبيهقي (4/ 340)، وغيرهم من طريق أبي إسرائيل الملائي عن فضيل بن عمرو عن ابن جبير عن ابن عباس عن الفضل، وأبو إسرائيل فيه ضعف وله أغاليط، وقد تابعه -متابعة ناقصة- مهران أبو صفوان عن ابن عباس بنحوه أخرجه أبو داود (1732)، وابن أبي شيبة (3/ 227)، وأحمد (1871)، والدارمي (1784)، والبيهقي (4/ 339) وغيرهم، لكن مهران مجهول، فلا تفيد متابعته، والله أعلم.

(8) ضعيف: أخرجه الترمذي (812).

 

(2/161)

 

 

المستقبل، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة سنة ثمان (1)، ولم يحج إلا في السنة العاشرة، ولو كان واجبًا على الفورية لم يتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عما فرض عليه لا سيما ولم يحبسه عذر ظاهر من حرب أو مرض! (2). وبأنه إذا أخره ثم فعله بعد ذلك لم يكن قاضيًا له، وهذا يدل على أنه على التراخي.

وأجابوا عن الآية الكريمة بأن الأمر بالحج فيها مطلق عن تعيين الوقت، فيصح أداؤه في أي وقت فلا يثبت الإلزام بالفور لأنه تقييد للنص بغير دليل، وضعَّفوا الأحاديث الآمرة بالتعجيل.

قلت: مبنى الخلاف هنا على مسألة: الأصل في الأمر أنه على الفور أو التراخي؟ وعلى كل حال فالأولى التعجيل وعدم التأخير -مع الاستطاعة- احتياطًا، فإنه لا يدري لعله لا يمتد به العمر حتى يحج. والله أعلم.

من فضائل الحج:

1 - الحج يمحق الذنوب المتقدمة:

(أ) فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حجَفلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمُّه» (3).

(ب) ولما أراد عمرو بن العاص أن يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، اشترط أن يُغفر له، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله؟» (4).

2 - الحج سبب للعتق من النار:

فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة ...» (5).

_________

(1) والحج فرض سنة ست أو سبع أو ثمان أو تسع أو عشر من الهجرة على خلاف، انظر «المجموع» (7/ 87)، و «زاد المعاد» (1/ 175) و (3/ 25).

(2) «الأم» (2/ 118)، و «المجموع» (7/ 87).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1521)، ومسلم (1350).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (121).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1348).

 

(2/162)

 

 

3 - الحج جزاؤه الجنة:

فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمر كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (1).

4 - الحج من أفضل الأعمال:

فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله» قيل ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» (2).

5 - الحج أفضل جهاد النساء:

فعن عائشة أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟

قال: «لا، ولَكُنَّ أفضل الجهاد: حج مبرور» (3).

شروط إيجاب الحج:

وهي صفات يجب توفرها في الإنسان حتى يكون مطالَبًا بأداء الحج على سبيل الوجوب، فمن فقد أحد هذه الشروط لم يجب عليه الحج، وهي خمسة:

الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة.

قال ابن قدامة (4) «لا نعلم في هذا كله اختلافًا» اهـ.

- فأما الإسلام والعقل، فهما شرطا صحة كذلك، فلا يصح الحج من كافر ولا مجنون.

- وأما البلوغ والحرية، فهما شرطان لإجزاء الحج عن الفريضة كذلك، وليسا شرطين للصحة، فلو حج الصبي والعبد صح منهما لحديث المرأة التي: «... رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولك أجر» (5).

ولا يجزئهما عن حجة الإسلام على الراجح، لحديث: «من حج ثم عتق فعليه حجة أخرى، ومن حج وهو صغير ثم بلغ فعليه حجة أخرى» (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (26)، ومسلم (83).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1520)، والنسائي (5/ 114)، وابن ماجه (290).

(4) «المغنى» (3/ 218)، و «نهاية المحتاج» (2/ 375).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1336)، وأبو داود (1736)، والنسائي (5/ 120).

(6) صححه الألباني: أخرجه ابن خزيمة (3050)، والحاكم (1/ 481)، والبيهقي (5/ 179)، وانظر «الإرواء» (4/ 59).

 

(2/163)

 

 

- وأما الاستطاعة فهي شرط للوجوب فقط، فلو تجشَّم غيرُ المستطيع المشقة وحج، كان حجه صحيحًا مجزئًا، كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط عنه أجزأه (1).

بم تتحقق الاستطاعة؟

لا تتحقق الاستطاعة المشروطة لإيجاب الحج إلا بما يلي:

[1] صحة البدن وسلامته من الأمراض التي تعوقه عن أفعال الحج، لحديث ابن عباس: أن امرأة من جثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فأحجُّ عنه؟ قال: «حجِّي عنه» (2).

فمن وُجدت فيه سائر الشروط وكان مريضًا مُرمِنًا أو مُقعدًا فلا يجب عليه أداء الفريضة بنفسه اتفاقًا.

لكن اختلفوا هل يلزمه أن ينيب من يحج عنه؟ فذهب الشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة أنه يلزمه، بناء على أن صحة البدن شرط للأداء بالنفس لا شرط للوجوب.

وقال أبو حنيفة ومالك لا يلزمه (3)، قلت: والأظهر أنه يلزمه ويدل عليه حديث ابن عباس السابق، ففي بعض رواياته: «أرأيت إن كان على أبيك دين، أكنت قاضيته؟» قالت: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يُقضى» (4).

[2] ملك ما يكفيه في رحلته وإقامته وعودته، فاضلاً عن حاجاته الأصلية من دَيْن ونفقة عيل ومن تلزمه نفقتهم عند جمهور العلماء (5) -خلافًا للمالكية- لأن النفقة حق للآدميين وهو مقدم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» (6).

ويدخل في هذا ملك الزاد والراحلة، وقد فُسِّر السبيل في قوله تعالى:

_________

(1) «المغنى» (3/ 214).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1855)، ومسلم (1334).

(3) «نهاية المحتاج» (2/ 385)، و «الكافي» (1/ 214)، و «فتح القدير» (2/ 125).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (5699)، والنسائي (5/ 116)، وانظر «المحلى» (7/ 57).

(5) «المجموع» (7/ 56)، و «الموسوعة الفقهية» (17/ 31).

(6) صحيح: أخرجه أبو داود (1676)، وانظر «الإرواء» (989).

 

(2/164)

 

 

{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (1). بالزاد والراحلة وقد روى هذا التفسير مرفوعًا ولا يصح (2).

[3] أمن الطريق: وهو يشمل الأمن على النفس والمال وقت خروج الناس للحج لأن الاستطاعة لا تثبت بدونه.

ويُشترط المحَرْمَ لوجوب الحج على المرأة:

يشترط لإيجاب الحج على المرأة الشروط الخمسة المتقدمة ويزاد عليها أن يصحبها زوج أو محرم (3)، فإن لم تجد فلا يجب عليها الحج: فعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: «انطلق فحُجَّ مع امرأتك» (4) وهذا مذهب الحنفية والحنابلة (5).

بينما ذهب المالكية والشافعية (6) إلى أن المحرم ليس شرطًا في الحج لكنهم اشترطوا أمن الطريق والرفقة المأمونة، وهذا في حج الفريضة وأما حج النفل فلا يجوز خروجها له إلا مع محرم اتفاقًا.

وأجاز الظاهرية للمرأة التي لا زوج لها ولا محرم أو أبى زوجها، أن تحج بغير محرم (7).

واستدلوا جميعًا بما روى من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للاستطاعة بالزاد والراحلة وهو ضعيف كما تقدم، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها، لا تخاف إلا الله» (8) ويجاب عن هذا بأنه إخبار عما سيقع من الأمن ولا تعلق لهذا بحكم سفر المرأة بلا محرم.

_________

(1) سورة آل عمران: 97.

(2) «نفسير الطبري» (4/ 15).

(3) يأتي تعريف المحرم في «أبواب النكاح» من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341).

(5) «البدائع» (3/ 1089)، و «المغنى» (3/ 230)، و «بداية المجتهد» (1/ 348)، و «المجموع» (7/ 68).

(6) «البدائع» (3/ 1089)، و «المغنى» (3/ 230)، و «بداية المجتهد» (1/ 348)، و «المجموع» (7/ 68).

(7) «المحلى» (7/ 47).

(8) صحيح: أخرجه البخاري (3595) وغيره، والظعينة: المرأة.

 

(2/165)

 

 

إذا حجت المرأة بغير محرم:

إذا حجت المرأة بغير محرم صح حَجُّها وأثمت لخروجها بدونه.

تستأذن المرأة زوجها للحج وليس له منعها (1):

1 - إذا توفرت شروط وجوب الحج المتقدمة لدى المرأة -في حج الفريضة- فإنه يستحب لها أن تستأذن زوجها فإن أذن لها وإلا خرجت بغير إذنه، لأنه ليس للزوج أن يمنعها من الذهاب لحج الفريضة -عند الجمهور- لأن حق الزوج لا يقدم على فرائض الأعيان كصوم رمضان ونحوه.

2 - إذا كان حجها حج نذر: فإن كانت نذرته بإذن زوجها، أو نذرته قبل الزواج ثم أخبرته به فأقره، فليس له منعها، أما إذا نذرته رغمًا عنه فله منعها، وقيل بل ليس له منعها كذلك لأنه واجب كحجة الإسلام.

3 - إذا كان حجها حج تطوع أو حجًّا عن غيرها، فيجب عليها استئذان زوجها إجماعًا، ويجوز له أن يمنعها.

هل تخرج المُعْتَدَّة للحج؟ (2).

المرأة المعتدة عن طلاق أو وفاة مدة إمكان السير للحج لا يجب عليها الحج -عند الجمهور- لأن الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج بقوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} (3). ولأن الحج يمكن أداؤه في وقت آخر، وأما العدة فتجب في وقت مخصوص فكان الجمع بين الأمرين أولى.

وفرَّق الحنابلة بين خروجها للحج في عدة الطلاق، وعدة الوفاة، فمنعوه في عدة الوفاة، وأجازوه في عدة الطلاق المبتوت، قالوا: لأن لزوم البيت فيه واجب في عدة الوفاة، والطلاق المتبوت لا يجب فيه ذلك. اهـ.

قلت: لا يظهر لي وجه والتفريق -في لزوم البيت- بين عدة الوفاة وعدة الطلاق، على أن الآية تتعلق بالمطلقات، والمعتدة للوفاة تقاس عليها -على أحد القولين (4) - فهلا عكسوا هذا التفريق؟!!

_________

(1) «المغنى» (3/ 240)، و «الأم» (2/ 117)، و «فتح القدير» (2/ 130)، و «المحلى» (7/ 52).

(2) «المغنى» (3/ 240)، و «مغنى المحتاج» (1/ 536).

(3) سورة الطلاق: 1.

(4) والقول الثاني: أن المعتدة لوفاة زوجها تعتد حيث شاءت، وسيأتي هذا في «العِدد».

 

(2/166)

 

 

الحج عن الغير

1 - الحج عن العاجز:

من استطاع السبيل إلى الحج ثم عجز عنه، بسبب كبر أو مرض لا يرجى برؤه ويسمى المغصوب، فإنه يلزمه أن يقيم من يحج عنه من ماله، لحديث ابن عباس عن الفضل بن عباس: «أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: «نعم» (1).

وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أبيك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يقضى» (2).

وبهذا قال الجمهور خلافًا لمالك.

فائدة:

إذا حُجَّ عن المغصوب الذي لا يرجى برؤه ثم عافاه الله، فقد برئت ذمته ولا يطالب بالحج بنفسه بعد ذلك -في أصح قولي العلماء- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر -في الحديث السابق- أن دين الله يقضى بالحج عنه ويسقط عنه، فلا يجوز أن يعود فرضه إلا بنص ولا نص ههنا بعودته ولو كان ذلك عائدًا لبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما مع قيام احتمال أن يطيق الشيخ الركوب، فلا يجوز عودة الفرض عليه بعد صحة تأديته عنه. وهذا مذهب الحنابلة وإسحاق وابن حزم وذهب أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر إلى أنه يلزمه الحج ولابدَّ، قالوا: لأنه لما برئ تبين أنه لم يكن مأيوسًا منه فلزمه الأصل. والأول أرجح والله أعلم (3).

2 - الحج عن الميت الذي وجب عليه الحج من تركته:

من مات وهو مستطيع بأحد الوجوه التي قدمنا، حج عنه من رأس ماله مقدمًا على ديون الناس -إن لم يوجد من يحج عنه تطوعًا- سواء أوصى بذلك أو لم يوص، لقوله تعالى في المواريث: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (4). فعَمَّ عز

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1855)، ومسلم (1334).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (6699)، والنسائي (5/ 119).

(3) «المغنى» (3/ 449 - مع الشرح)، و «المحلى» (62).

(4) سورة النساء: 11.

 

(2/167)

 

 

وجل الديون كلها، وقد تقدم أن دين الله أحق بالقضاء وهذا مذهب الشافعي وأحمد وطائفة من السلف (1).

وقال أبو حنيفة ومالك: لا يحج عنه إلا أن يوصى بذلك فيكون من الثلث!!

3 - النائب عن غيره يحج عن نفسه أولاً:

يُشترط فيمن يريد الحج عن غيره أن يكون قد حج هو عن نفسه حجة الإسلام أولاً حتى يجزئ الفرض عن الأصيل، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وأكثر أهل العلم وبه قال ابن عباس ولا يعلم له من الصحابة مخالف (2) واستدلوا بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول:

لبيك عن شبرمة، قال: «من شبرمة؟» قال: أخ لي -أو قريب لي- قال: «حججت عن نفسك؟» قال: لا، قال: «حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة» (3) وهو مختلف في رفعه ووقفه وصحته.

وقال أبو حنيفة ومالك: يجزئ الحج وإن لم يحج عن نفسه، واستدلوا بإطلاق حديث الخثعمية السابق «حجي عن أبيك» من غير استخبارها عن حجها لنفسها.

قلت: الأولى أن لا يحج عن غيره إلا بعد الحج عن نفسه خروجًا من الخلاف، ولأنه قول صحابي وهو أولى من قول غيره لا سيما ولا يعلم له من الصحابة مخالف، ثم إن النظر يقتضي أن يقوم الإنسان نفسه على غيره لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في النفقات: «ابدأ بنفسك» (4).

وعلى هذا يحمل ترك استفصال النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية على أنه علم بحجها عن نفسها أولاً، إعمالاً للأدلة، كما قاله ابن الهمام. والله أعلم.

4 - حج النفل عن الغير:

يُشرع حج النفل عن الغير بإطلاق -وإن كان مستطيعًا- لأنها حجة لا تلزم المستطيع بنفسه، فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب، ولأنه يتوسع في النفل ما لا يتوسع في الفرض، فإذا جازت النيابة في الفرض ففي النفل أولى، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والحنابلة، وكذلك المالكية لكن مع الكراهة.

_________

(1) «المجموع» (7/ 93)، و «المحلى» (62).

(2) «المجموع» (7/ 98)، و «المغنى» (3/ 245)، و «الفروع» (3/ 265)، وفتاوى ابن تيمية.

(3) أُعل بالوقف والاضطراب، أخرجه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903) وغيرهما.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (997) عن جابر.

 

(2/168)

 

 

5 - المرأة تحج عن غيرها:

(أ) يجوز للمرأة أن تحج عن امرأة أخرى باتفاق العلماء، سواء كانت بنتها أو غير بنتها (1)، فعن موسى بن سلمة أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت ولم تحج، أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها؟ قال: «نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها؟ فلتحج عن أمها» (2).

(ب) ويجوز للمرأة أن تحج عن الرجل، عند جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، لحديث الخثعمية الذي تقدم مرارًا.

6 - الحج من مال حرام (3):

إذا حج بمال حرام أو راكبًا دابة مغصوبة، أثم وصح حجُّه وأجزأه عند أكثر العلماء، قالوا: لأن أفعال الحج مخصوصة، والتحريم لمعنى خارج عنها. وخالفهم الإمام أحمد فقال: «لا يجزئ، واستدل له بحديث: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا» (4) وبما يُروى مرفوعًا: «إا خرج الحاج حاجًّا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال، وحجُّك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه مناد من السماء، لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور» (5).

قلت: والراجح قول الجمهور لما تقدم، وأما حديث «إن الله طيب ...» فليس فيه حجة وأما حديث: «... وحجك مأزور غير مأجور» فضعيف لا يصح.

 

المواقيت

المواقيت: جمع ميقات، وهي زمانية ومكانية:

[1] المواقيت الزمانية: هي الأوقات التي لا يصح شيء من أعمال الحج إلا

_________

(1) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (26/ 13).

(2) صحيح: أخرجه النسائي (5/ 116)، وأحمد (1/ 279) بسند صحيح، ونحوه عند مسلم (1149)، والترمذي (667) عن بريدة.

(3) «المجموع» للنووي (7/ 51).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1015)، والترمذي (2986) وغيرهما.

(5) ضعيف: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5228)، وأبو نعيم في «الحلية»، وانظر «العلل المتناهية».

 

(2/169)

 

 

فيها، وقد ذكرها الله تعالى في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (1). فهذا نص على أن للحج أوقاتًا منصوصة، فلا يحل الإحرام به إلا في أشهر الحج، وقال تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (2).

فإن أحرم بالحج قبل أشهره (3): لم يصح منه، وهذا مذهب الصحابة رضي الله عنهم، وعن الشعبي وعطاء أنه يحل من إحرامه.

وقال الأوزاعي والشافعي: تصير عمرة ولابدَّ، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكره ذلك ويلزمه إن أحرم به قبل أشهر الحج.

والصواب أنه لا يصح بحال للآية الكريمة، وأما أنها تنعقد عمرة، ففيه نظر، إذ كيف نبطل عمله الذي دخل لأجل أنه خالف الحق، ثم نلزمه بذلك العمل عمرة لم يُرِدها قط ولا قصدها ولا نواها و «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (4)؟! فهذا كمن أحرم بصلاة قبل وقتها فإنها تبطل، ومن نوى صيامًا قبل وقته فهو باطل.

وأشهر الحج: هي شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة -اتفاقًا- ثم حصل الخلاف في يوم النحر وبقية ذي الحجة، فصارت الأقوال في أشهر الحج ثلاثة:

1 - أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة من السلف (5).

2 - أنها شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة فلا يدخل يوم النحر في أشهر الحج، وهو مذهب الشافعية (6)، وحجتهم قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} (7). ولا يمكن فرضه [أي الإحرام به] بعد ليلة النحر.

_________

(1) سورة البقرة: 197.

(2) سورة الطلاق: 1.

(3) «المحلى» (7/ 65 - 66)، و «المجموع» (7/ 128) وما بعدها.

(4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1907) وغيرهما.

(5) «شرح فتح القدير» (2/ 220)، و «المغنى» (3/ 275).

(6) «المجموع» (7/ 135)، و «نهاية المحتاج» (3/ 256).

(7) سورة البقرة: 197.

 

(2/170)

 

 

3 - أنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كله، وهذا مذهب مالك وابن حزم، وهو مروي عن عمر وابنه، وابن عباس رضي الله عنهم (1)، وحجتهم أن أقل الجمع ثلاثة، وأن رمي الجمار -وهو من أعمال الحج- يعمل يوم الثالث عشر، وطواف الإفاضة -وهو ركن في الحج- يعمل في ذي الحجة كله بلا خلاف.

قلت: الراجح القول الثالث فتكون أشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وهذا على معنى أنه يجب ألا يقع شيء من أعمال الحج قبل أو بعد هذه الأشهر، ولا يلزم أن يكون الحج يجوز في كل يوم من أيامها، فلابد من الاحتفاظ بالآتي:

أن من فاته الوقوف بعرفة في جزء من ليلة النحر فلا حج له، وهذا هو الذي نظر إليه الشافعي -رحمه الله- حين أخرج يوم النحر (العاشر من ذي الحجة) ومن أشهر الحج، ويردُّ عليه بأن الله تعالى قد سمى يوم النحر: يوم الحج الأكبر في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} (2).

[2] المواقيت المكانية:

وهي أماكن وقتَّها الشرع -أي حددها- ليُحرم منها من أراد الحج أو العمرة ولا يجوز له أن يتجاوزها -إن كان قاصدًا للحج أو العمرة- دون أن يحرم، وهذه المواقيت لكل من مرَّ بها- مريدًا للنسك سواء كان من أهل تلك الجهات أو لم يكن، وهذه الأماكن:

1 - ذو الحليفة: لأهل المدينة، وهي المعروفة الآن «بآبار علي».

2 - الجحفة: وهي لأهل الشام ومصر والمغرب، وهي قريبة من «رابغ» التي جُعلت الآن الميقات.

3 - قرن المنازل: وهي لأهل نجد، وهي المعروفة الآن بـ «وادي السيل».

4 - يلملم: وهي لأهل اليمن.

وهذه المواقيت الأربعة متفق عليها، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن

_________

(1) «بداية المجتهد» (1/ 351)، و «الكافي في مذهب أهل المدينة» (1/ 357)، و «المحلى» (7/ 69).

(2) سورة التوبة: 3.

 

(2/171)

 

 

ولأهل اليمن يلملم قال: «فهنُّ لهنَّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن مهلُّه من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها» (1).

5 - ذات عِرْق: لأهل العراق والمشرق، وهذا المكان قريب من «العقيق» وقد اختلف فيمن وَقَّته، فقيل عمر، لحديث ابن عمر قال: «لما فُتح هذان المصران (يعني البصرة والكوفة) أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا؟ قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق» (2).

وقيل: بل حدَّه النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث جابر: «مَهلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، وهلُّ العراق من ذات عرق، ومهلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل العراق من ذات عرق، ومهلَّ أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم» (3) وهو مختلف في رفعه، لكن يؤيد الرفع حديث عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق ذات عرق» (4). ويجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وقته وخفى علمه على عمر رضي الله عنه فاجتهد فوافق السنة وكم له من موافقات للشرع!!

المقيم بمكة ميقاته: منازل مكة، والمقيم بين مكة وأحد هذه المواقيت فميقاته منزله.

من كان طريق لا تمر بشيء من هذه المواقيت، فإذا علم أنه حاذى أقربها منه أحرم منه، ومن كان في طائرة فإنه يحرم إذا حاذى الميقات وكان فوقه، ويكون متأهبًا قبل الإحرام بأن يلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه نوى الإحرام في الحال، لا أن يؤخره إلى أن يهبط (5).

 

سياق صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم

عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله ... فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بيده فعقد تسعًا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1526)، ومسلم (1181).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1531)، والبيهقي (5/ 27).

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1183)، ولرفعه شواهد «الإرواء» (998).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1739)، والنسائي (2/ 6) وغيرهما، وانظر «لإرواء» (999).

(5) «أوضح المسالك إلى أحكام المناسك» للسلمان (ص: 42، 43) باختصار.

 

(2/172)

 

 

مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشرٌ كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحُليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع قال: «اغتسلي واستثفري بثوب واحرمي» فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئًا منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال جابر رضي الله عنه لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (1) فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} (2) أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.

ثم دعا بين ذلك ثال مثل هذا ثلاث ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن خثعم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج -مرتين- لا، بل لأبد أبد وقدم عليٌّ من اليمن ببُدُن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت إن أبي أمرني بهذا قال فكان عليٌّ

_________

(1) سورة البقرة: 125.

(2) سورة البقرة: 158.

 

(2/173)

 

 

يقول بالعراق فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشًا على فاطمة للذي صنعت مستفتيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت فيه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت ماذا قلتَ حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدى فلا تحل، قال: فكان جماعة الهدى الذي قدم به على من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة.

قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقُبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعًا في بني سعد فقتله هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربًا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد -ثلاث مرات- ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حَبْل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحدٍ وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع رسول الله صلى

الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه

 

(2/174)

 

 

وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيمًا فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن مُحسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الحمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثًا وستين بيده ثم أعطى عليًّا فنحر ما غير وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدرٍ فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلوالا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوًا فشرب منه.

وحدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا جعفر بن محمد حدثني أبي قال أتيت جابر بن عبد الله فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث: بنحو حديث حاتم بن إسماعيل وزاد في الحديث وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ويكون منزله، ثم فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل (1).

 

ملخص أفعال حج التمتُّع (2)

لا ريب في أن المسلم حريص على أن يكون صفة حجته كحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتكون أحرى لقبولها، وأدعى أن ينال فضائلها التي تقدمت.

وهأنذا أُلخِّصُ أفعال «حج التمتع» من مجموع ما ثبت من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتبع هذا السرد بتفصيلات هذه الأفعال وقسيماتها من حيث ما هو ركن وواجب ومستحب وغير ذلك، فأقول:

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجه (3074)، والدارمي (1850) وغيرهم.

(2) الحج يجوز على إحدى كيفيات ثلاث: الإفراد أو التمتع أو القران، على ما يأتي بيانه، وأفضلها التمتع وهو الأنسب للحاج من بلادنا والأيسر عليه.

 

(2/175)

 

 

ما قبل السفر

1 - من استطاع الحج، واستقر عزمه وجزمه على أدائه، بادر بتوبة نصوح من كل المعاصي، واجتهد في الخروج من مظالم الخلق بردِّها إلى أصحابها، ويجتهد في قضاء ما أمكنه من ديونه، ويجتهد في رضا والديه، ويسترضي أقاربه إن كان بينه وبينهم شيء، ويترك لأولاده ومن تلزمه نفقتهم ما يلزمهم مدة غيابه.

2 - يحرص على أن يكون زاده طيبًا، ويحذر ما كان من المشتبهات والغُصوب، ليكون أقرب إلى القبول.

3 - يجتهد في تحصيل الرفقة الصالحة المرغِّبة في الخير، المعينة عليه، المبغضة للشر، وإن تيسر أن تكون الرفقة من العلماء العاملين فهو أفضل.

4 - ويخرج إلى سفره ملتزمًا الآداب الشرعية في السفر، وذلك في أشهر الحج.

 

الإحرام

5 - فإذا أتى الميقات فيتجرد من ثيابه ويغتسل كما يغتسل من الجنابة، ويتطيَّب بأطيب ما يجد من الطيب، وكذلك تفعل المرأة ولو كانت حائضًا أو نفساء، ولا يضرهما بقاء الطيب في الثوب والبدن بعد الإحرام.

6 - ويلبس الرجل ملابس الإحرام، وتلبس المرأة ما شاءت من الثياب.

7 - ويصلي إن حضر وقت فريضته، وإلا صلى ركعتين بنية سنة الوضوء، فإذا فرغ نوى الإحرام بعمرة، بعد أن يركب راحلته (سيارته) حامدًا مكبِّرًا مستقبلاً القبلة، ويقول: «لبيك اللهم عمرة».

8 - ومن كان في طائرة، فإنه يحرم إذا حاذى الميقات وكان فوقه، ويكون متأهبًا قبل الإحرام بالغسل والطيب وملابس الإحرام.

9 - فإذا أهلَّ بالعمرة لبىِّ: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، ويرفع الرجل بها صوته، وترفع المرأة بقدر ما تسمع من يجنبها.

10 - وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية خصوصًا عند تغيُّر الأحوال والأزمان مثل أن يعلو مرتفعًا أو أن ينزل منخفضًا، أو أن يُقبل الليل أو النهار، وتلبي المرأة وإن كانت حائضًا، ولا تُقطع التلبية إلا عند ابتداء الطواف (1).

_________

(1) لأنه في عمرة، وأما المفرد والقارن فلا يقطع التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة.

 

(2/176)

 

 

دخول مكة والطواف

11 - فإذا وصل مكة، أسرع إلى المسجد الحرام، ويتقدم إلى الحجر الأسود، فيستلمه (يلمسه) بيده اليمنى ويقبِّله -إن تيسَّر- وإلا استلمه وقبَّل يده، فإن لم يستطع أشار إليه بيده ويكبِّر ولا يقبل يده، والأفضل ألا يزاحم فيؤذي الناس ويتأذى بهم.

12 - ثم يطوع -جاعلاً الكعبة عن يساره- فإذا بلغ الركن اليماني استلمه من غير تقبيل -إن تيسَّر- فإذا كان بين الركن اليماني والحجر الأسود قال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فإذا بلغ الحجر الأسود فقد أتم شوطًا ويفعل عنده ما تقدم، ثم يطوف حتى يكمل سبعة أشواط.

13 - وينبغي للرجل -دون المرأة- في هذا الطواف أن يضطبع (1) من بداية الطواف إلى انتهائه، ويرمل (يسرع المشي) في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، ويمشي كعادته في الأربعة الأخرى.

14 - فإذا أتم طوافه صلَّى ركعتين خلف مقام إبراهيم، يقرأ فيهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.

15 - ثم يذهب إلى زمزم فيشرب منها ويصب على رأسه.

16 - ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه إن تيسَّر.

 

السعي بين الصفا والمروة

17 - ثم يخرج إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} ويقول: أبدأ بما بدأ الله به.

18 - ويرقى على الصفا حتى يرى الكعبة فيشتبلها قائلاً: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ويدعو بما شاء، ويفعل ذلك ثلاث مرات.

19 - ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيًا، ويسرع الرجل -دون المرأة- بين العلمين الأخضرين.

_________

(1) الاضطباع: أن يجعل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر.

 

(2/177)

 

 

20 - فإذا وصل إلى المروة فعل مثلما فعل على الصفا، وهذا شوط، ثم ينزل إلى الصفا وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط (الذهاب شوط والعودة شوط).

 

التحلل من الإحرام

21 - إذا أتم سعيه حلق رأسه أو قصَّر شعره، والتقصير -هنا- أفضل لا سيما إذا كان وقت الحج قريبًا، والمرأة لا تحلق وإنما تقصر.

ثم يلبس ملابسه المعتادة ويحل له كل ما كان محرمًا عليه بالإحرام، من جماع وغيره، حتى يأتي وقت الحج (1).

 

يوم التروية

22 - إذا كان يوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) فإنه يستعد للإحرام كما تقدم -من منزله بمكة- ثم يحرم بالحج قائلاً: «لبيك اللهم لبيك» ويلبِّي، وإن كان يخشى أن يعوقه شيء ويمنعه من إتمام حجه فله أن يشترط فيقول: «وإن حبسني حابس فمحلى حيث حبستني».

23 - ثم يخرج إلى منى ضُحى ويبيت بها يُصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، قصرًا من غير جمع.

 

يوم عرفة

24 - فإذا طلعت الشمس -يوم التاسع (عرفة) - سار من منى إلى عرفة، فنزل بنمرة فيقيم بها إلى الزوال (الظهر) إن تيسر.

25 - فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا (جمع تقديم) بأذان واحد وإقامتين -مع الإمام- بدون سنة.

26 - ثم يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء والتضرع إلى الله تعالى -على عرفة رافعًا يديه مستقبلاً القبلة -وليس الجبل!! - ويقف هكذا حتى تغرب الشمس.

27 - فإذا غربت الشمس، فإنه ينزل بهدوء وسكينة.

 

الإفاضة إلى المزدلفة والمبيت بها

28 - ثم يسير إلى مزدلفة، فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين وبدون سنة.

_________

(1) وبهذا تكون قد تمت مناسك العمرة.

 

(2/178)

 

 

29 - ينام بمزدلفة حتى الفجر، ولا يصلي بالليل.

30 - يصلي الفجر في أول الوقت بأذان وإقامة، ثم يقف على المشعر الحرام (1) مستقبل القبلة، داعيًا مكبِّرًا مهللاً حتى يسفر الصبح جدًّا.

31 - ويرخَّص للضعفة من النساء وغيرهن في الرحيل من مزدلفة بعد منتصف الليل وغياب القمر.

 

يوم النحر

الإفاضة إلى منى ورمى الجمرة:

32 - ثم يدفع إذا أسفر الصبح، قبل طلوع الشمس من مزدلفة إلى منى، ويسرع في وادي محسر.

33 - فإذا وصل منى قطع التلبية عند الشروع في رمي جمرة العقبة -وهي الأخيرة جهة مكة- بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، يكبِّر مع كل حصاة، ويكون الرمي بعد طلوع الشمس.

34 - فإذا رمى جمرة العقبة فقد حلَّ له ما كان حرامًا إلا الجماع (2).

35 - ثم يذبح هَدْيه بمنى أو مكة، وله الذبح في أي من أيام التشريق، فإن لم يملك ثمن الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد رجوعه إلى أهله.

36 - ثم يحلق رأسه، وتقصِّر المرأة شعرها ولو قدر أنملة.

الرجوع إلى مكة وطواف الإفاضة:

37 - ثم يرجع إلى مكة، فيطوف سبعًا، ويسعى بين الصفا والمروة (3)، وله تأخير الطواف آخر أيام التشريق، فإذا طاف حل له كل شيء حتى الجماع (4).

38 - وإذا كانت المرأة -أثناء المناسك- حائضًا، فإنها تفعل جميع المناسك إلا الطواف فتؤخره حتى تطهر إن استطاعت.

39 - فإذا كان في انتظارها مشقة عليها -كأن لا تكون مرتبطة بموعد رحلة

_________

(1) المشعر الحرام: جبل معروف بالمزدفة.

(2) وهذا يسمى التحلل الأول، فيلبس ما شاء من الثياب ويقلم أظفاره ويتطيب.

(3) لأنه متمتع، فأما القارن فلا يطوف إلا طوافًا واحدًا.

(4) وها هو التحلل الأكبر.

 

(2/179)

 

 

العودة وتخشى الضرر إن بقيت -فإنها تطوف وهي حائض في أصح أقوال العلماء، لأن هذا غاية وسعها.

الذهاب إلى منى:

40 - ثم بعد الطواف والسعي، يرجع إلى منى ليبيت بها ليالي التشريق (ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر).

 

أيام التشريق

رمي الجمرات الثلاث يوم الحادي عشر والثاني عشر:

41 - ثم يرمي الجمرات الثلاث يوم الحادي عشر -بعد الظهر ولو إلى الليل- كل جمرة بسبع حصيات مكبرًا مع كل حصاة، مبتدئًا بالصغرى ثم الوسطى، يتقدم بعد كل جمرة فيستقبل القبلة ويدعو دعاءً طويلاً -إن تيسَّر- ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات، ولا يقف للدعاء بعدها، والحصاة التي لا تقع في المرمى لا تعدُّ.

42 - ثم يفعل في اليوم الثاني عشر كما فعل في الذي قبله تمامًا.

فإذا أتم رمي الجمار -في الثاني عشر- فإن شاء تعجل ونزل من منى، وإن شاء تأخَّرَ فبات بها ليلة الثالث عشر، والتأخر أفضل.

الرمي في اليوم الثالث عشر (آخر أيام التشريق):

43 - فإن اختار المبيت ليلة الثالث عشر أو غربت عليه الشمس يوم الثاني عشر وهو بمنى فيلزمه أن يبيت بمنى، ليرمي الجمرات الثلاث يوم الثالث عشر كما فعل في اليومين السابقين بعد الظهر.

 

طواف الوداع قبل السفر

44 - إذا أراد الحاج السفر إلى بلده، فلا يخرج حتى يطوف للوداع، فيجعله آخر عهده بمكة، وأما الحائض والنفساء فيرخَّصُ لهم في ترك طواف الوداع.

45 - ويستحب له أن يزور المسجد النبوي بالمدينة، لكنه ليس من مناسك الحج كما يظنه كثير من الناس.

46 - ثم يعود إلى بلده، وينحر ببلده بقرة أو جملاً لأهله وللفقراء والمساكين إن تيسَّر وإلا فلا يلزمه ذلك، والله تعالى أعلم.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

 

(2/180)

 

 

أركان الحج

تنقسم الأفعال السابقة إلى أركان وواجبات ومستحبات، وهذا أوان ذكر أركان الحج التي دلَّ الدليل على ركنيتها، وما يتعلق بكل ركن منها من واجبات ومسنونات ومكروهات وغير ذلك.

وأركان الحج عند الجمهور أربعة (1): الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة.

الركن الأول: الإحرام:

تعريف الإحرام: الإحرام هو نية الحج أو العمرة من الميقات المعتبر شرعًا، وهو ركن من أركان الحج عند جمهور العلماء، وشرط لصحته عند الحنفية، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2). وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (3).

أنواع الإحرام:

يُؤدىَّ الحج على كيفيات (أو أنساك) ثلاث:

1 - الإفراد: وهو أن يهلَّ (أي ينوي) الحاجُّ بالحجِّ فقط عند إحرامه قائلاً: لبيك اللهم بحج، ثم يأتي بأعمال الحج وحده.

2 - القران: وهو أن يهلَّ (ينوي) بالحج والعمرة معًا قائلاً: لبيك حجًّا وعمرة فيأتي بهما في نسك واحد، أو أن يدخل الحج على العمرة قبل الطواف.

وقال الجمهور: إنهما يتداخلان، فيطوف طوافًا واحدًا ويسعى سعيًا واحدًا، ويجزئه ذلك عن الحج والعمرة، وقال الحنفية: يطوف طوافين ويسعى سعيين والقارن يجب عليه أن ينحر هديًا بالإجماع كما سيأتي.

3 - التمتع: وهو أن يهلَّ (ينوي) بالعمرة فقط في أشهر الحج، قائلاً: لبيك عمرة ويأتي مكة فيؤدي مناسك العمرة ويتحلل، ويمكث بمكة حلالاً، ثم يحرم بالحج ويأتي بأعماله، وذلك في العام نفسه.

ويجب على المتمع كذلك أن ينحر هديًا بالإجماع.

_________

(1) وهه الأركان عند الشافعية ستة: هذه الأربعة، والحلق أو التقصير، والترتيب بين معظم الأركان، وعند الحنفية: للحج ركنان هما الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة.

(2) سورة البينة: 5.

(3) صحيح: وقد تقدم كثيرًا.

 

(2/181)

 

 

مشروعية الأنساك الثلاثة:

1 - لا خلاففي أن الحج كان عند ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم به جائزًا بأنواعه الثلاثة المتقدمة، وكذلك كان أصحابه رضي الله عنهم: منهم المتمتع، ومنهم القارن، ومنهم المفرد، لأنه صلى الله عليه وسلم خيَّرهم في ذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أراد منكم أن يهلَّ بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهلَّ، ومن أراد أن يهلَّ بعمرة فليهلَّ ...» الحديث (1).

2 - ثم نقلهم النبي صلى الله عليه وسلم -بعد هذا التخيير- إلى التمتع، دون أن يعزم عليهم: قالت عائشة: «... فنزلنا سرِف (2) فخرج إلى أصحابه فقال: «من لم يكن منكم أهدى، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا» قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه [ممن لم يكن معه هدي] ...» (3).

وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى (ذي طوى) -موضع قريب من مكة- وبات بها- «فلما أصبح قال لهم: «من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة» (4).

3 - ثم أمرهم -من كان لم يسق الهدي منهم- أن يفسخوا الحج إلى عمرة ويتحللوا، فعن عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا مكة تطوفنا بالبيت، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، قالت: فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن الهدي فأحللن ...» (5).

وفي رواية ابن عباس: «... فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقال: يا رسول الله، أي الحِلِّ؟ قال: الحل كله» (6).

قلت:

لأجل هذه المراحل المتقدمة اختلف أهل العلم في مشروعية الأنساك الثلاثة:

فذهب الجماهير من السلف والخلف إلى أن الأنساك الثلاثة: الإفراد والقران

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1211).

(2) سرف: موضع قريب من التنعيم.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1560)، ومسلم (1211) والزيادة له.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1561)، ومسلم (1211).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240).

 

(2/182)

 

 

والتمتع، كلها جائزة وأن الأمر فيها واسع، حتى إن بعضهم نقل الإجماع على ذلك (1)، ثم اختلف هؤلاء -بعد الاتفاق على المشروعية- في أي هذه الأنساك أفضل على ما سيأتي.

بينما ذهب بعض العلماء إلى وجوب التمتع على من لم يسق الهدي، وأنه إذا طاف وسعى فقد حلَّ شاء أم أبى، وهذا مذهب ابن عباس وأبي موسى الأشعري وبه قال أهل الظاهر وانتصر له ابن حزم ثم ابن القيم ببحثين ما تعين (2).

واستدلوا على ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة، وتحتيمه ذلك عليهم، وتعاظم ذلك عندهم مما يدل على أنهم فهموا من الأمر الإيجاب وغضبه صلى الله عليه وسلم لما تراخوا وراجعوه كما في حديث عائشة: «... فدخل عليَّ وهو غضبان، فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ...» (3).

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به «ألعامنا هذا، أم لأبد الأبد؟» فشبَّك صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد» (4).

وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يناظر على هذه المسألة حتى يقول: «أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء» (5) لأن أبا بكر وعمر كانا يريان أن الإفراد أفضل من التمتع كما سيأتي.

وخلاصة هذا المذهب: «أن من أراد الحج وجاء إلى الميقات: فإن لم يكن معه هدي وجب عليه أن يحرم بعمرة مفردة ولابدَّ [يعني يكون متمتعًا] فإن أحرم بحج، أو بقران حج وعمرة، وجب عليه أن يفسخ إهلاله بعمرة يحل إذا أتمها، ثم يبتدئ الإهلال بالحج مفردًا من مكة.

_________

(1) انظر «المجموع» (7/ 144)، و «المغنى» (3/ 276)، و «معالم السنن» للخطابي (2/ 301). وقال النووي في «شرح مسلم» بعد أن أورد خلاف بعض الصحابة في المسألة: «وقد انعقد الإجماع بعد هذا على جواز الإفراد والتمتع والقران من غير كراهة» اهـ.

(2) راجع «المحلى» (7/ 99 وما بعدها)، و «زاد المعاد» (2/ 177 وما بعدها)، و «صفة حجة النبي».

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1211)، وأحمد (6/ 175).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1218) وهو في السنن مختصرًا.

(5) مسند أحمد (1/ 337)، و «الفقيه والمتفقه» (1/ 145)، و «جامع بيان العلم» (2/ 239).

 

(2/183)

 

 

وإن كان ساق الهدي فإنه يقرن فيقول: «لبيك بعمرة وحج معًا» (1).

أي الأنساك الثلاثة أفضل؟

وعلى قول الجماهير بجواز الأنساك الثلاثة، فقد اختلفوا في أفضلها على أقوال، وسبب هذا الخلاف: الخلاف في حج النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان مفردًا، أم قارنًا أم متمتعًا؟.

[1] القول الأول: الإفراد أفضل: وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي وهو مروي عن عمر وعثمان وابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم (2) وحجتهم ما يلي:

1 - ما ثبت عن جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحج» (3).

وفي رواية: «أهلَّ بالحج مفردًا».

2 - أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج وواظبوا عليه، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان، واختلف فعل علي.

3 - أن عمر قال: «افصلوا حجكم عن عمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم» (4).

4 - وقال عثمان رضي الله عنه لما ذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج: «إنه أتم للحج والعمرة ألا يكونا في شهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله تعالى قد وسع في الخير ...» (5).

5 - أن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع وذلك لكماله بخلاف التمتع والقران.

6 - أنه قد أجمعت الأمة -كذا قالوا؟!! - على جواز الإفراد من غير كراهة بخلاف التمتع والقران، فكان أولى.

[2] القول الثاني: القران أفضل: وهذا مذهب الحنفية والثوري، ورواية عن أحمد -لمن ساق الهدي- وحجتهم:

_________

(1) انظر «المحلى» (7/ 99).

(2) «المدونة» (1/ 360)، و «الأم» (2/ 143)، و «المجموع» (7/ 145 وما بعدها).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (1211) عن عائشة وفيهما عن الباقين كذلك.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1217)، ومالك (778).

(5) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 92)، وابن جرير (2/ 207) بسند صحيح.

 

(2/184)

 

 

1 - ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بحج وعمرة، كحديث أنس: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لبيك عمرة وحجًّا» (1).

2 - قول علي بن أبي طالب لما نهى عثمانُ عن المتعة [يعني هنا القران]: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: «إني لا أستطيع أن أدعك» فلما رأى عليٌّ ذلك أهل بهما جميعًا (2).

3 - أن على القارن دم، وليس دم جبران لأنه لم يفعل حرامًا بل دم عبادة، والعبادة المتعلقة بالبدن والمال أفضل من المختصة بالبدن.

4 - أن القارن مسارع إلى العبادة فهو أفضل من تأخيرها.

5 - أن القران تحصيل العمرة في زمن الحج، وهو أشرف.

[3] القول الثالث: التمتع أفضل: وهو مذهب أحمد بن حنبل وأحد قولي الشافعي وهو مذهب أهل الظاهر وابن القيم، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة وجماعة من السلف (3)، وحجتهم:

1 - حديث عائشة قالت: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه» قال الزهري: مثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (4).

2 - وعن عمران بن حصين قال: «تمتع النبي صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه» (5).

3 - وعنأبي جمرة قال: تمتعت فنهاني ناس عن ذلك، فسألت ابن عباس فأمرني بها، فرأيت في المنام كأن رجلاً يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس، فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم» (6).

4 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا ويجعلوها عمرة -كما تقدم- فنقلهم من الإفراد والقران إلى التمتع، ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (4354)، ومسلم (1222).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1569)، ومسلم (1222).

(3) «المغنى» (3/ 260)، و «المجموع» (7/ 150 - 152)، و «المحلى» (7/ 99)، و «زاد المعاد» (2/ 177).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1692)، ومسلم (1237) والظاهر أن التمتع هنا يراد به القرآن كما قال شيخ الإسلام.

(5) صحيح: أخرجه البخاري بمعناه (1572)، ومسلم (1226) واللفظ له.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1567)، ومسلم (1243).

 

(2/185)

 

 

5 - حديث جابر قال: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردًا، فقال لهم: «حلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة» قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به» (1).

6 - أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2). دون سائر الأنساك!

7 - أن التمتع يجتمع فيه الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما ويسرهما.

8 - أن قوله صلى الله عليه وسلم يقدم على فعله عند التعارض.

[4] القول الرابع: التفصيل: وهواختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (3) وخلاصة كلامه، رحمه الله (4):

(أ) أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة هو إذاكان قد اعتمر قبل أشهر الحج. قال: وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر وكان يختاره للناس، وكذلك عليٌّ.

(ب) وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين (الحج والعمرة) بسفرة واحدة، وقدم إلى مكة في أشهر الحج، ولم يسق الهدي، فالتمتع أفضل له.

(جـ) وإذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، ويسوق الهدي، فالقرآن أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قرن وساق الهدي.

ثم أيهما أفضل: أن يسوق الهدي ويقرن، أو أن يتمتع بلا سوق للهدي ويحل؟ قال: هذا موضع اجتهاد، لتعارض ما اختاره الله تعالى لنبيه مع ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومال -رحمه الله- إلى الأول.

قلت: وهذا تفصيل وجيه، وقد أعمل فيه ابن تيمية كل النصوص الواردة كلاًّ في موضعه، ثم جعل أفضل الأنواع بحسب الصعوبة والمشقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قالت: يا رسول الله، يصدر الناس بنُسْكين وأصدر بنسك؟ فقال: «إذا

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1568)، ومسلم (1216).

(2) سورة البقرة: 196.

(3) «مجموع الفتاوى» (26/ 85 - 91).

(4) «مجموع الفتاوى» (26/ 85 - 91).

 

(2/186)

 

 

طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم ائتينا بمكان كدا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك» (1).

وكذلك جعل أفضل الأنواع بحسب سوق الهدي، وقد جاءت السنة بكل هذا.

وبذلك لم يقع فيما وقع فيه كثير من الفقهاء من الاضطراب بسبب التفضيل المطلق.

هذا، على أنه لا يخف في قوة قول من ذهب إلى تفضيل التمتع بل ووجوبه، فالله أعلم.

ليس لأهل الحرم إلا الإفراد (2):

قال الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...} (3).

فأباح الله تعالى التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أي: من لم يكن مسكنه في مكة أو الحرم -على الأصح- لأن التمتع شرع له أن لا يلم بأهله، والمكي ملم بأهله فلم يكن له ذلك، وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة، ويؤيده حديث ابن عباس الذ فيه «... ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدى كما قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}. إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة، فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ...» (4). قلت: مبنى هذا المذهب على أن قوله تعالى في الآية (ذلك) وقول ابن عباس في الحديث - (أنزله في كتابه وسنة نبيه) عائد على التمتع وهو الأظهر.

ويجوز أن يكن من حاضري المسجد، فإن كان فلا دم عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وانتصر له ابن حزم.

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1787)، ومسلم (1211).

(2) انظر: «المجموع» (7/ 165 - 166)، و «فتح الباري» (3/ 508)، و «المحلى» (7/ 156).

(3) سورة البقرة: 196.

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1572).

 

(2/187)

 

 

هل يجوز إدخال الحج على العمرة (1):

إذا أحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، ثم بدا له أن يدخل عليها الحج فيصير قارنًا جاز له ذلك عند الجمهور (خلافًا للحنفية) بشرط أن يكون قبل الشروع في الطواف، فإن شرع فيه ولو بخطوة فلا يجوز إدخال الحج على العمرة.

ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما حاضت عائشة بسرف وهي محرمة بالعمرة أمرها أن تهلَّ بالحج وقال: «طوافك بالبيت وبالصفا والمروة، يسعك لعمرتك وحجك» (2) وهو دليل على أن أمره صلى الله عليه وسلم لها بالإهلال بالحج لم يكن إبطالاً لعمرتها.

لكن ... لقائل أن يقول: إن الدليل إنما وقع في حاله تشبه الضرورة، لأن عائشة لا يمكن أن تكمل عمرتها وهي حائض، فيكون الدليل هنا أخص من المدلول، وهذا في النفس منه شيء، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أحرم بالحج ولم يسق الهدي أن يجعله عمرة، فكيف نجعل العمرة حجًّا وهو خلاف ما أمر به؟!

هل يجوز إدخال العمرة على الحج؟ (3)

أما إذا أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، فذهب مالك، والشافعي في الجديد، وأحمد، أنه لا يصح ولا يصير قارنًا، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

وخالف أبو حنيفة فجوَّزه بناء على أصله: أن عمل القارن زيادة على عمل المفرد، فإذا أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة صار قارنًا ولزمه طوافان وسعيان.

قلت: وأنا أميل إلى قوله أبي حنيفة -لا لأجل ما بنى عليه- ولكن لحديث عائشة: «أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج» (4) مع حديث ابن عمر مرفوعًا: «أتاني آت من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» (5) واختاره العلامة ابن عثيمين، طيب الله ثراه.

هل يصح إطلاق نية الإحرام؟

من أحرم إحرامًا مطلقًا من غير أن يعين نوعًا من هذه الأنواع الثلاثة لعدم

_________

(1) «المجموع» (7/ 168)، و «الشرح الممتع» (7/ 94).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1211).

(3) «المجموع» (7/ 170)، و «المغنى» (3/ 512)، و «المبسوط» (4/ 180)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 88).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (1211).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1534)، وأبو داود (1783)، وابن ماجه (2976).

 

(2/188)

 

 

علمه بها، أو أحرم كإحرام شخص يعرفه، فهذا جائز ويصح إحرامه عند جمهور العلماء -خلافًا للمالكية- لحديث أبو موسى «أن عليًّا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كيف قلت حين أحرمت؟» قال على: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم (1).

لا يجوز مجاوزة الميقات بدون إحرام (2):

من مر بالميقات -وهو قاصد للحج أو العمرة- فلا يجوز له مجاوزة الميقات بغير إحرام إجماعًا.

فإن جاوزه ثم أحرم بعده فقد أثم بذلك، ولا يذهب عنه الإثم إلا أن يعود إلى الميقات فيحرم منه ثم يتم سائر نسكه، ولا دم عليه إن كان عاد إلى الميقات قبل التلبُّس بالنسك سواء كان ركنًا كالوقوف والسعي أو سنة كطواف القدوم، وهذا مذهب الشافعية والثوري وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور.

وقال مالك وابن المبارك وأحمد: لا يسقط عنه الدم بالعود، وقال أبو حنيفة: إن عاد ملبيًا سقط الدم وإلا فلا، وحكى ابن المنذر عن الحسن والنخعي أنه لا دم على المجاوز مطلقًا. والله أعلم.

فإن لم يَعُد فنسكه صحيح، ويلزمه دم عند الجمهور.

الإحرام قبل الميقات (3):

أجمع من يعتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه (أي قبله) وقال داود: لا يجوز الإحرام قبله ولا يصح إحرامه، وهو مردود عليه بإجماع من قبله، لكن يكره الإحرام قبل الميقات على الأصح، والله أعلم.

من مرَّ بميقاتين:

إذا مرَّ الشامي أو المصري بميقات أهل المدينة قبل الوصول إلى الجحفة (ميقاته الأصلي) فلا يجوز له أن يؤخر إحرامه، وعليه أن يحرم من ذي الحليفة عند الجمهور لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» (4).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1734)، ومسلم (1221).

(2) انظر «المجموع» (7/ 212 - 215).

(3) «المجموع» (7/ 205) بتصرف.

(4) صحيح: تقدم في المواقيت قريبًا.

 

(2/189)

 

 

وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجب عليه، وأنه يجوز التأخير إلى ميقاته لأنه الأصل، واختاره شيخ الإسلام، والأول أحوط، والله أعلم.

اشتراط المحرم التحلل بعذر:

يجوز للمحرم أن يشترط -عند إحرامه- التحلل متى حبسه عن إتمام النسك شيء من مرض أو نحوه قائلاً: «اللهم محلى حيث حبستني».

لحديث عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: «أردت الحج؟» قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: «حُجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» (1).

فإذا اشترط جاز له أن يتحلل من إحرامه إذا حبس ولا دم عليه.

أما إذا لم يشترط فإذا حبسه عارض لزمه دم لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2).

سنن الإحرام:

1 - الغسل عند الإحرام: لحديث زيد بن ثابت أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل» (3).

وتغتسل المرأة وإن كانت حائضًا أو نفساء: ففي حديث جابر: «.. حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماءُ بنت عميس، محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي واستثفري (4) بثوب وأحرمي» (5).

2 - التطيُّب على البدن قبل الإحرام: لحديث عائشة قالت: «كنت أُطيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت» (6).

وكذلك تتطيَّب المرأة: لحديث عائشة قالت: «كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسُّك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا» (7).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207).

(2) سورة البقرة: 196.

(3) حسن: أخرجه الترمذي (831).

(4) الاستثفار: هو أن تضع المرأة خرقة (فوطة) على محل الدم وتشدها على وسطها.

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1218).

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (1189).

(7) صحيح: أخرجه أبو داود (1830)، والبيهقي (5/ 48).

 

(2/190)

 

 

قلت: فأما بعد الإحرام فلا يجوز استعمال الطيب بإجماع العلماء كما نقله النووي في «المجموع» (7/ 270).

3 - أن يحرم الرجل في إزار ورداء أبيضين: فعن ابن عباس قال: «انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجَّل وادَّهن ولبس إزاره ورداءه هو أصحابه» (1).

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» (2).

أما المرأة: فإنها تلبس ما شاءت من الثياب، لكن لا تلبس النقاب ولا القفازين -كما سيأتي في المحظورات- ولا يختص لباسها بلون معين كالأبيض أو غيره- كما يعتقد كثير من النساء خصوصًا المصريات- فقد «كانت عائشة رضي الله عنها تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة» (3).

4 - الصلاة في «وادي العقيق» لمن مرَّ به: وهو واد بقرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال (4) وقد قال عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: «أتاني الليلة آت من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» (5).

5 - الصلاة في مسجد ذي الحليفة لمن مرَّ به:

لحديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين» (6).

وفي حديث جابر: «فلما أتى ذا الحليفة صلى وهو صامت حتى أتى البيداء» (7).

تنبيه: أخذ الجمهور من حديث ابن عمر استحباب صلاة ركعتين لأجل الإحرام، فقال النووي في شرحه: «فيه استحباب صلاة الركعتين عند إرادة الإحرام ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصري: أنه استحب كونها بعد صلاة

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1545).

(2) صحيح: أخرجه الترمذي (999)، وأبو داود (3860).

(3) إسناده صحيح: عزاه ابن حجر في الفتح (3/ 405) إلى سعيد بن منصور وقال: إسناده صحيح.

(4) «فتح الباري» (3/ 459) ط. السلفية.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1534) وغيره وقد تقدم.

(6) صحيح: أخرجه مسلم (1184).

(7) حسن: أخرجه النسائي (2756).

 

(2/191)

 

 

فرض، قال لأنه روى أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث» اهـ.

قلت: بل ظاهر الحديث استحباب الصلاة لأجل المسجد لا لأجل الإحرام، ويؤيد هذا حديث ابن السمط: أنه خرج مع عمر إلى ذي الحليفة فصلَّى ركعتين فسألته عن ذلك، فقال: «إنما أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1) فليس فيه ذكر الإحرام. وإنما الذي قد يؤخذ من الحديث ما يأتي بعده:

6 - إيقاع نية الإحرام عقب صلاة فريضة أو نافلة:

فالأفضل أن يكون الإحرام عقب أداء فريضة أو نافلة لسبب مشروع، للأحاديث السابقة، ويؤيد هذا أيضًا أنه في حديث ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنة ..... فلما قعد عليها واستوت على البيداء أهلَّ بالحج» (2).

قلت: فالأظهر أن الصلاة التي صلاَّها صلى الله عليه وسلم قبل إحرامه كانت صلاة الظهر، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر بذي الحليفة -كما تقدم في صلاة المسافر- فصلاَّه ركعتين.

وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم «أتاني آت من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» (3) وهذه الصلاة يحتمل أن تكون فريضة أو نافلة، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4): «إن كان يصلي فرضًا أحرم عقيبه، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصُّه وهذا أرجح» اهـ.

7 - الحمد والتسبيح والتكبير -على الدابة- قبل الإهلال:

لما في حديث أنس قال: «... ثم ركب حتى استوت به على البيداء، حمد الله، وسبَّح وكبَّر، ثم أهلَّ بحج وعمرة» (5).

8 - استقبال القبلة عند الإهلال:

فعن نافع قال: «كان ابن عمر إذا صلى بالغداة بذي الحليفة أمر براحلته

_________

(1) حسن: أخرجه أحمد (202).

(2) حسن: أخرجه الدارمي (1912)، وأبو داود (1752)، وأحمد (2982).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) «مجموع الفتاوى» (26/ 108) ونحوه في «المحلى» لابن حزم (7/ 90).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1551)، وأبو داود (1779).

 

(2/192)

 

 

فرحلت ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائمًا يلبيِّ ... وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك» (1).

9 - رفع الصوت بالتلبية:

لحديث السائب بن خلاد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جائني جبريل فقال: يا محمد، مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» (2).

وهذا أمر ندب عند الجمهور، وأمر وجوب عند الظاهرية (3) وعن جابر وأبي سعيد قالا: «قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخًا» (4).

هل ترفع المرأة صوتها بالتلبية؟:

أجمع أهل العلم على أن المراة لا يلبِّي عنها غيرها، بل هي تلبِّي عن نفسها (5).

أمَّا: هل ترفع المرأة صوتها بالتلبية؟ فذهب الأكثرون (6) إلى أنها لا ترفع صوتا بالتلبية واحتجوا بما يلي (7):

1 - أن المرأة مأمورة بالستر، فيكره لها رفع الصوت مخافة الافتتان بها.

2 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» (8) فدلَّ على أنها لا ترفع صوتها بالتلبية إلحاقًا بحالها في الصلاة.

3 - ما يروى عن ابن عمر أنه قال: «لا تصعد المرأة فوق الصفا والمروة، ولا ترفع صوتها بالتلبية» (9) لكنه ضعيف.

بينما ذهب آخرون -على رأسهم عائشة رضي الله عنها- إلى أن المرأة ترفع صوتها لما يأتي:

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1553).

(2) صحيح: أخرجه الترمذي (830)، وأبو داود (1197)، والنسائي (5/ 162)، وابن ماجه (2922).

(3) حاشية السندي على النسائي (5/ 162).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1148).

(5) نقله الترمذي في «الجامع» (849) وأما حديث جابر «كنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان» فضعيف لا يصح.

(6) حتى نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك، وهو منقوض بما يأتي عن عائشة وغيرها.

(7) «الأم» للشافعي (2/ 133)، و «المغنى» (3/ 330)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 499).

(8) صحيح: تقدم في «الصلاة».

(9) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في «سننه» (5/ 46).

 

(2/193)

 

 

1 - لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «جاءني جبريل فقال: يا محمد، مُر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» (1) وهو عام يشمل الرجال والنساء، وهذا ما فهمته عائشة رضي الله عنها.

2 - فعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: «خرج معاوية ليلة النفر، فسمع صوت تلبية، فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة، اعتمرت من التنعيم، فذُكر ذلك لعائشة، فقالت: لو سألني لأخبرته» (2).

قال ابن حزم في «المحلى» (7/ 93): وقد كان الناس يسمعون كلام أمهات المؤمنين ولا حرج في ذلك، وقد روى عنهن وهنَّ في حدود العشرين سنة وفويق ذلك ولم يختلف أحد في جواز ذلك واستحبابه اهـ. ثم أورد آثارًا في هذا.

قلت: أعدل الأقوال ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (26/ 115):

«والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها» اهـ.

الحائض والنفساء تهلُّ وتلبي:

تقدم أن الحيض والنفاس لا يمنعان الإحرام بالحج، وأنه يستحب لهما الاغتسال، وكذلك تهلُّ الحائض والنفساء بعد اغتسالها، فعن عائشة قالت: «نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهلَّ» (3).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة -لما حاضت-: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (4) قال الشافعي في «الأم» (2/ 134): والتلبية مما يفعل الحاج. اهـ.

لفظ التلبية (5):

عن نافع عن ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».

_________

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 4/ 389).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1209)، وأبو داود (1744)، وابن ماجه (2911).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (294)، ومسلم (1211).

(5) التلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته، على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، والملبي هو: المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته، والمعنى: (أنا مجيبك لدعوتك، مستسلم لحكمك، مطيع لأمرك، مرة بعد مرة، لا أزال على ذلك). ذكره شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى. عن «حجة النبي» ص 55).

 

(2/194)

 

 

قال: [وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغبة إليك والعمل]» (1).

وفي حديث جابر الطويل: «... فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهلَّ الناس بهذا الذي يُهلُّون به، فلم يردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته ...» الحديث (2).

وفي رواية: «وأهل الناس بهذا الذي يهلون به: لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، فلم يردَّ رسول الله ..» (3).

وقد صح عن أبي هريرة أنه «كان من تلبيته -عليه الصلاة والسلام-: لبيك إله الحق» (4).

قلت: يستفاد من هذه الأحاديث أمران:

1 - جواز الزيادة على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم لإقراره لأصحابه على ذلك، ولما ثبت عن ابن عمر وغيره.

2 - الاكتفاء بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل لملازمته صلى الله عليه وسلم لها، قال الشافعي -رحمه الله-: وإن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم الله، فلا بأس إن شاء الله، وأحب أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ. وذهب مذهب الجمهور كما في «الفتح» (3/ 480).

مواطن التلبية:

يستحب الإكثار من التلبية من حين الإحرام فما بعده دائمًا في حال الركوب والمشي، والنزول والصعود وعلى كل حال، حتى يرمي جمرة العقبة -عند الجمهور- خلافًا للمالكية، ومما يدل على ذلك أنه ثبتت مشروعية التلبية في المواطن الآتية:

1 - أثناء الصعود والهبوط في الطريق:

فعن ابن عباس مرفوعًا -في حديث الدجال-: «أما موسى كأني أنظر إليه إذا

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1549)، ومسلم (1184) والزيادة له.

(2) صحيح: تقد بتمامه.

(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1812)، وأحمد (13918).

(4) صحيح: أخرجه النسائي (2752)، وابن ماجه (2920).

 

(2/195)

 

 

انحدر في الوادي يلبِّي» (1) قال الحافظ (2): وفي الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود. اهـ.

2 - في الطريق إلى عرفات:

فعن أنس بن مالك أنه سئل -وهو غاد من منى إلى عرفات- عن التلبية: كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «كان يلبِّي الملبِّي لا ينكر عليه، ويكبِّر المكبِّر فلا ينكر عليه» (3).

3 - حين الإفاضة من عرفة حتى يرمي الجمرة:

فعن ابن عباس أن أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قال: «لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُلبِّي حتى رمى جمرة العقبة» (4) قال النووي: وهو دليل على أنه يستديم التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة (5) غداة يوم النحر، وهذا مذهب الشافعي وسفيان والثوري وأبي حنيفة وأبي ثور، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ومن بعدهم ... وقال أحمد وإسحاق وبعض السلف: يلبِّي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة .... ويجيب الجمهور بأن المراد: حتى شرع في الرمي، ليجمع بين الروايتين. اهـ.

وعن ابن مسعود قال: «ونحن بجمع (6): سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المقام: لبيك اللهم لبيك» (7).

تنبيه: ذهب المالكية إلى أنه يقطع التلبية عند دخول مكة فيطوف ويسعى ثم يعاود حتى ظهر يوم عرفة، ودليلهم حديث نافع قال: «كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك» (8) قال الحافظ (9): قوله (كان

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1555)، ومسلم (166).

(2) «فتح الباري» (3/ 485).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1659)، ومسلم (1284).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1544)، ومسلم.

(5) يعني رواية مسلم: «لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة».

(6) أي: المزدلفة.

(7) صحيح: أخرجه مسلم (1383)، والنسائي (5/ 265).

(8) صحيح: أخرجه البخاري (1573) وغيره.

(9) «فتح الباري» (3/ 509).

 

(2/196)

 

 

يفعل ذلك): يحتمل أن الإشارة به إلى الفعل الأخير وهو الغسل ... ويحتمل أنها إلى الجميع وهوالأظهر. اهـ.

لكنه قال -رحمه الله- (1): الظاهر أنه أراد: يمسك عن التلبية، وكأنه أراد بالحرم المسجد، والمراد بالإمساك عن التلبية التشاغل بغيرها من الطواف وغيره لا تركها أصلاً، ... ، والظاهر أيضًا أن المراد بالإمساك: ترك تكرار التلبية ومواظبتها ورفع الصوت بها الذي يفعل في أول الإحرام لا ترك التلبية رأسًا، والله أعلم. اهـ.

 

محظورات الإحرام

هي الأمور التي منع الشارع المُحِرْمَ منها، وحرَّمها عليه ما دام محرمًا، وهذه المحظورات على قسمين:

(أ) محظور يُفسد الحج: وهو الجماع قبل التحلل الأول (قبل رمي جمرة العقبة على الأرجح) وهو أشد المحظورات إثمًا وأعظمها تأثيرًا في النسك. قال الله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2). وقد صح عن ابن عباس وابن عمر وقتادة أن الرفث في الآية: الجماع (3) وقيل الرفث: الإفحاش للمرأة في الكلام فيما يتعلق بالجماع وما أشبه ذلك، واختار ابن جرير أنه عام يشمل هذا كله.

قال ابن قدامة (4): «أما فساد الحج بالجماع في الفرج فليس فيه اختلاف، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع» اهـ.

قلت: ههنا أمور:

الأول: أما الاستدلال بالآية الكريمة، فعلى القول بأن الرفث فيها: الجماع، فإن غاية ما تدل عليه المنع لا أنه يفسد الحج، وإلا لزم في الجدال أنه يفسد الحج ولا قائل بذلك (5) [غير ابن حزم].

الثاني: ليس في هذه المسألة حديث مسند صحيح مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_________

(1) السابق (3/ 483).

(2) سورة البقرة: 197.

(3) انظر هذه الآثار في «تفسير الطبري» (4/ 125 - 136) بأسانيد صحيحة.

(4) «المغنى» (3/ 334)، و «الإجماع» لابن المنذر (ص 144).

(5) «الروضة الندية» (1/ 254).

 

(2/197)

 

 

الثالث: أن الإجماع الذي نقله ابن المنذر وغيره، هل ينتقض بما نقله الشوكاني في «نيل الأوطار» عن داود الظاهري؟ على أن هذا الإجماع -لو سلم- لم يستقر انعقاده على شيء بعينه، وقد حصل اختلاف في تفاصيله:

فقال ابن عباس وأبوحنيفة: لا يبطل الحج بالوطء بعد عرفة.

وقال مالك: إن وطئ يوم النحر قبل رمي الجمرة بطل حجُّه، وإن وطئ يوم النحر بعد رمي الجمرة لم يبطل حجه، وإن وطئ بعد يوم النحر قبل رمي الجمرة لم يبطل حجه؟!

وقال الشافعي: إن وطئ ما بين أن يجزم إلى أن يرمي جمرة العقبة فسد حجه، وإن وطئ بعد الرمي فحجُّه تام.

ثم اختلفوا فيما يجب على من جامع اختلافًا كثيرًا (1)، كما سيأتي.

الرابع: ماذا على المجامع؟ وماذا يفعل؟

إذا جامع الرجل زوجته قبل التحلل الأول أثم وبطل حجُّه -عند الأكثرين- ويلزمها إتمام هذا لا حج -رغم فساده- لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (2). وعليهما الحج في العام القابل والهدي (بدنة).

وبهذا أفتى ابن عمر وابن عمرو وابن عباس رضي الله عنهم فعن وعمرو بن شعيب عن أبيه فقال: «أتى رجل ابن عمر فسأله عن محرم وقع بامرأته؟ فأشار له إلى عبد الله ابن عمرو فسأله فقال: بطل حجُّه، قال: فيقعد؟ قال: لا، بل يخرج مع الناس فيصنع كما يصنعون، فإذا أدركه قابل، حجَّ وأهدى، فرجعا إلى عبد الله بن عمر فأخبراه، فأرسلنا إلى ابن عباس، فسأله فقال له مثل ما قال ابن عمرو، فرجع إليه فأخبره فقال له الرجل: ما تقول أنت؟ فقال: مثل ما قالا» (3).

وذهبت الظاهرية (4) إلى أنه يفسد نسكه ويبطل وينصرف ولا يتمادى في حجه لأنه عمل فاسد، قالوا: وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحج إنما يجب مرة،

_________

(1) انظر «المحلى» (7/ 189).

(2) سورة البقرة: 196.

(3) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 142)، والبيهقي (5/ 167).

(4) «المحلى» (7/ 189) وما بعدها.

 

(2/198)

 

 

ومن ألزمه التمادي على ذلك الحج الفاسد ثم ألزمه حجًّا آخر فقد ألزمه حجتين وهذا خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

وذهب بعض التابعين (1) إلى أنه يتحلل بعمرة ويقضي، فيجعلونه بمنزلة من فاته الوقوف بعرفة، فإنه يتحلل بعمرة ويحل.

قلت: ولا شك أن الأرجح ما صح عن ثلاثة من علماء الصحابة (2) وأطبق عليه أكثر أهل العلم -إن لم يصح الإجماع- من أن المجامع يفسد حجه ويلزمه المضي فيه واتباع الصحابة في هذا أولى، لعمق عملهم وسداد رأيهم، لا سيما وهو الأحوط في الدين، والله أعلم.

فوائد:

1 - إذا أُكرهت المرأة على الجماع: فإن حجَّها صحيح، ولا فدية عليها بخلاف زوجها على أصح القولين للعلماء (3).

2 - إذا جامع بعد التحلل الأول: قبل أن يطوع ويسعى، لم يفسد حجُّه لكنه يأثم «ويجب عليه أن يخرج إلى الحل ويحرم -في إزار ورداء- ليطوف الإفاضة محرمًا لأنه أفسد ما تبقى من إحرامه فوجب عليه أن يجدده وعليه فدية» (4).

3 - إذا جامع قبل التحلل الأول ناسيًا لإحرامه (5):

إذا جامع المحرم قبل التحلل من العمرة، أو قبل التحلل الأول من الحج ناسيًا لإحرامه فالأصح أنه لا يفسد نسكه ولا شيء عليه لا كفارة ولا غيرها، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (6).

(ب) محظورات لا تفسد الحج:

1 - لبس الرجل المخيط من الثياب: يحرم على الرجل لبس المخيط، وما هو

_________

(1) «الشرح الممتع» (7/ 183).

(2) وورد كذلك فساد الحج بالجماع عن عمر وعلي وأبي هريرة، بأسانيد ضعيفة.

(3) انظر «المجموع» (7/ 404).

(4) «الشرح الممتع» لابن عثيمين (7/ 184).

(5) «المحلى» (7/ 186)، و «المجموع» (7/ 364).

(6) سورة الأحزاب: 5.

 

(2/199)

 

 

في معناه مما هو على قدر عضو من البدن (1)، فلا يلبس القميص ولا السراويل ولا العمائم ولا القلنسوة ولا الجبة ولا الخفين ولا الجوربين ولا القفازين ونحو ذلك.

لحديث ابن عمر: أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القُمُص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرنس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّه زعفران أو ورس» (2).

فائدة: هذا اللبس المُحرَّم على الرجل محمول على ما يعتاد في كل ملبوس، فلو التحف بقميص أو ارتدى أو اتزر بسراويل مما ليس يعتاد لبسه عليه فلا شيء فيه، لأنه حينئذ يكون من جنس الإزار والرداء (3).

من لم يجد إلا السراويل والخفين:

من لم يجد الإزار والرداء، فوجد السراويل والخفين -واحتاج للمشي- فيجوز له أن يلبس ما يجده، لحديث ابن عباس قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: «من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين» (4) فدلَّ على جواز لبس السراويل -إذا لم يجد إزارًا- كما هي ولا يلزمه أن يشقها فيتزر بها -كما يقول الأحناف- ولا شيء عليه، لا فدية ولا غيرها لأنها -أي الفدية- لو وجبت لبينَّها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت حاجة، وهذا مذهب الجمهور خلافًا للأحناف.

وإذا لم يجد النعلين لبس الخفين، لكن هل يقطعهما -كما في حديث ابن عمر- أم لا لحديث ابن عباس (5)؟ فذهب أحمد إلى أنه لا يلزم قطعهما، واختاره

_________

(1) «المجموع» (7/ 269)، و «المحلى» (7/ 80) وليس المراد بالمخيط ما فيه خيط فإن السنة أن يلبس الإزار والرداء وإن كانا مخيطين باتفاق الأئمة.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (1177).

(3) «المجموع» (7/ 270)، و «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (26/ 109).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1843)، ومسلم (1178).

(5) في رواية أحمد (1/ 228) من طريق ابن جريج عن أبي الشعثاء (جابر بن زيد) عن ابن عباس نحو ما ذكرت، وفي آخرها: «قلت: لم يقل ليقطعهما؟ قال: لا» قلت: هذا القول يحتمل أن يكون قائله ابن جريج أو من هو دونه، فقد رواه عمرو بن دينار عن جابر عن ابن عباس بدونه في الصحيحين، بل رواه أيوب عن عمرو عن جابر عن ابن عباس وزاد في آخره: «.. وليقطعهما أسفل الكعبين» هكذا موافقًا لحديث ابن عمر، أخرجه النسائي (5/ 135) ورجاله ثقات إلا أن هذه الزيادة شاذة، والله أعلم.

 

(2/200)

 

 

ابن تيمية حيث قال: «والأفضل أن يحرم في نعلين إن تيسر ... فإن لم يجد نعلين لبس خفين، وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقطع أولاً، ثم رخَّص بعد ذلك في عرفات ... وإنما رخص في المقطوع أولاً لأنه يصير بالقطع كالنعلين» اهـ.

وقال بعضهم: قطع الخفين إفساد للمال وقد نهى عنه. اهـ.

بينما ذهب الجمهور إلى أنه يجب قطع ما دون الكعبين (1)، حملاً للمطلق في حديث ابن عباس على المقيد في حديث ابن عمر، قلت: وهذا أولى من الأول والله أعلم.

2 - تغطية الرجل رأسه بمُلاصق:

فلا يلبس على رأسه قلنسوة (طاقية) ولا عمامة ونحوها لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتقدم قريبًا: «لا يلبس القمص ولا العمائم ...».

ويغطي رأسه بخمار (غترة ونحوها) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم فيمن وقصته دابته بعرفة: «لا تخمروا رأسه» (2) وهذا عام في كل غطاء ولا يقال: إنه يخصص بالعمائم دون سائر الأغطية، فإن العام لا يخصص بأحد أفراده إلا عند التعارض -كما تقرر في الأصول- ولا تعارض هنا، والله أعلم.

فإن استظل بمنفصل عنه كمظلة أو شمسية أو سيارة أو شجرة ونحوها فلا بأس بذلك كما سيأتي.

3 - لبس المرأة النقاب والبرقع والقفازين:

لزيادة وردت في حديث ابن عمر المتقدم وهي قوله: «... ولا تنتقب المُحرمة، ولا تلبس القفازين» (3) وقد اختلف فيها: هل هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم هي مدرجة من قول ابن عمر؟ ورجَّح الأخير الحافظ في «الفتح» (4).

واختلف العلماء في لبسها النقاب، فمنعه الجمهور، وأجازه الحنفية وهو رواية عند الشافعية والمالكية (5).

_________

(1) «فتح الباري» (3/ 471)، والكعبان: هما العظمتان الناتئتان عند مفصل الساق والقدم.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1851)، ومسلم (1206).

(3) إسناده صحيح: أخرجه البخاري (1838)، وأبو داود (1825)، والترمذي (833)، والنسائي (5/ 133).

(4) انظر «فتح الباري» (4/ 64)، وأيَّده شيخنا -حفظه الله- في «جامع أحكام النساء» (2/ 483).

(5) «فتح الباري» (4/ 65).

 

(2/201)

 

 

قلت: على القول بالمنع من النقاب للمحرمة، فإنه يجوز لها أن تسدل خمارها من على رأسها على وجهها عند مرور الرجال الأجانب، سواء كان ماسًّا لوجهها أم لا، لأنها إنما نهيت عن النقاب، ولا يسمى السدل نقابًا (1)، وسيأتي بعض الأدلة على ذلك قريبًا.

4 - استعمال -المحرم أو المحرمة- الطيب على ثوب أو بدن:

لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: «... ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّهُ زعفران أو ورس» (2).

ولقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته: «لا تحنِّطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» (3).

5 - حلق شعر الرأس:

لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (4).

وقد أجمع المسلمون على تحريم حلق الرأس، يستوي في هذا الرجال والنساء، وتجب الفدية (5).

فإن تأذى المحرم ببقاء شعره جاز له إزالته، وفيه فدية، لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (6).

وقد نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة لما مرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم -وهو محرم- والقمل يتهافت على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: «أتؤذيك هوامُّك هذه؟» قال: نعم، قال: «احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة» (7).

هل يُمنع من قص الشعر أو حلق غير الرأس؟

قال النووي (8): «قال أصحابنا: ولا يختص التحريم بالحلق ولا بالرأس، بل

_________

(1) «المحلى» لابن حزم (7/ 91)، و «فتاوى ابن تيمية» (26/ 112).

(2) صحيح: تقدم قريبًا.

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) سورة البقرة: 196.

(5) «المجموع» للنووي (7/ 262).

(6) سورة البقرة: 196.

(7) صحيح: أخرجه البخاري (1814)، ومسلم (1201) وغيرهما.

(8) «المجموع» (7/ 262).

 

(2/202)

 

 

تحرم إزالة الشعر قبل وقت التحلل، وتجب به الفدية سواء شعر الرأس واللحية والشارب والإبط والعانة وسائر البدن، وسواء الإزالة بالحلق والتقصير والإبانة بالنتف أو الإحراق وغيرهما، ولا خلاف في هذا كله عندنا» اهـ.

قلت: ولا شك أن الدليل أخص من الحكم، فلا يصح الاستدلال، إلا أن يقال: (الدليل هنا القياس)، فنقول: إذن لابد أن يتساوى الأصل والفرع في العلة، فمن جعل العلة في النهي عن حلق الرأس: منه الترف (وهو قول الأكثرين) منع حلق سائر الشعر، ومن جعل العلة: أن المحرم إذا حلق رأسه فإنه يسقط به نُسكًا مشروعًا وهوالحلق أو التقصير، قال: لا يحرم إلا حلق الرأس، وأيَّدوا هذا بأن الأصل الحل فيما يؤخذ من الشعور فلا يمنع إلا بدليل (1).

قلت: وهذا القول له وجهه، لكن هل يعكِّر عليه حديث.

وعلى كلٍّ فالأحوط العمل بقول الجمهور في هذه المسألة، فيمنع الأخذ من شعر رأسه وشاربه وإبطه وعانته، والله أعلم.

فائدة: إذا حك المحرم رأسه فلا حرج عليه وإن سقط بعض شعره إذا لم يقصده.

6 - تقليم الأظفار:

نقل ابن المنذر إجماعًا على منع المحرم من أخذ الأظفار، وقال ابن قدامة:

«أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره، وعليه الفدية بأخذها في قول أكثرهم: حماد ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وروى عن عطاء، وعنه: لا فدية عليه، لأن الشرع لم يرد فيه بفدية» اهـ (2).

قلت: إن صح الإجماع فهو حجة ملزمة، وإلا فالبحث فيه كالذي تقدم في حلق سائر الشعور.

وقد خالف في هذا داود الظاهري فأجاز تقليم الأظفار كلها وقال: لا فدية فيها (3) قال النووي (4): «وقد نقل ابن المنذر وغيره إجماع المسلمين على تحريم

_________

(1) أفاده العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- كما في «الممتع» (7/ 131 - 132).

(2) «الإجماع» لابن المنذر (57)، و «المغنى» (5/ 388).

(3) «المجموع» (7/ 263).

(4) «المجموع» (7/ 263).

 

(2/203)

 

 

قلم الظفر في الإحرام، فلعلهم لم يعتدُّوا بداود، وفي الاعتداد به في الإجماع خلاف ...» اهـ.

قلت: وخالف في هذا أيضًا ابن حزم في «المحلى» (7/ 246) فأجاز قص الأظفار.

فائدة: احتج الشنقيطي -رحمه الله- في «أضواء البيان» (5/ 404) على المنع من تقليم الظفر بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (1). بناء على تفسير بعض الصحابة والتابعين قضاء التفث بأنه: حلق الرأس وتقليم الأظفار ونتف الإبط ... فقال -رحمه الله-: «وعلى التفسير المذكور فالآية تدل على أن الأظفار كالشعر بالنسبة للمحرم، لا سيما أنها معطوفة بـ «ثم» على نحر الهدايا، فدلَّ على أن الحلق وقص الأظفار ونحو ذلك ينبغي أن يكون بعد النحر» اهـ.

فائدة: إذا انكسر ظفره، فله إزالته، ولا شيء عليه.

8 - دواعي الجماع: قال النووي: «فتحرم المباشرة بشهوة كالمفاخذة والقبلة واللمس باليد بشهوة قبل التحللين، وفيما بين التحللين خلاف، ومتى ثبت التحريم فباشر عمدًا بشهوة لزمته الفدية، وهي شاة أو بدلها من الإطعام أو الصيام، ولا يلزمه البدنة بلا خلاف سواء أنزل أو لا وإنما تجب البدنة في الجماع، ولا يفسد نسكه بالمباشرة بشهوة بلا خلاف سواء أنزل أم لا، هذا كله إذا باشر عالمًا بالإحرام، فإن كان ناسيًا فلا فدية بلا خلاف ...» (2).

قلت: ودليل تحريم ذلك أنه داخل في عموم قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ} كما تقدم.

لكن لا أعلم دليلاً من الكتاب أو السنة يوجب على من باشر بشهوة -فيما دون الجماع- دمًا، اللهم إلا القاعدة التي عند الفقهاء بأن فعل المحرم في الإحرام يوجب الكفارة، وإن كانتغير مسلَّمة.

وقد ذهب مالك إلى أنه إن باشر أو قبَّل أو لمس فأنزل فقد فسد حجُّه وعليه الحج من قابل، وإن قبَّل أو باشر أوتلذذ فلم ينزل ولم يولج فعليه دم (3)؟!

أما ابن حزم فأباح كل ما كان دون الجماع، بناء على أن الرفث: الجماع لا غير (4).

_________

(1) سورة الحج.

(2) «المجموع» (7/ 306).

(3) «المدونة» (1/ 327).

(4) «المحلى» (7/ 254).

 

(2/204)

 

 

9، 10 - الخطبة وعقد الزواج:

لحديث عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب» (1) قال الترمذي: «والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، ولا يرون أن يتزوج المحرم، وإن نكح فنكاحه باطل» اهـ.

وقد عارض هذا الحديث حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوَّج ميمونة وهو محرم» (2) وبه قال أبو حنيفة والثوري فأجازوا نكاح المحرم.

لكن أجاب عنه الجمهور بعدة أجوبة، منها ما جرى على مسلك الترجيح (3) ومن ذلك:

1 - أن قول ابن عباس هذا مما استدرك عليه، وعدَّ من وهمه، قال سعيد بن المسيب: ووهم ابن عباس -وإن كانت خالته- ما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حلَّ. وقال أحمد: هذا لحديث خطأ.

2 - أن ابن عباس كان حينئذ ابن عشر سنين، وقد يخفى على مثله تفاصيل الأمور التي جرت في زمنه.

3 - أن ميمونة نفسها وأبا رافع -سفير النبي صلى الله عليه وسلم لزواجها- أثبتا أنه تزوجها في الحِلِّ: فعن يزيد بن الأصم قال حدثتني ميمونة بنت الحارث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال» قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس (4).

وعن أبي رافع قال: «تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1409)، والترمذي (840)، وأبو داود (1841)، والنسائي (5/ 292)، وابن ماجه (1966).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1837)، ومسلم (1410).

(3) انظر «المحلى» (7/ 200)، و «المغنى» (3/ 158)، و «فتح الباري» (4/ 62)، «زاد المعاد» (3/ 372)، و «شرح العمدة» لشيخ الإسلام (2/ 194).

(4) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (1411)، وأبو داود (1843)، والترمذي (845)، وابن ماجه (1964) وغيرهم.

(5) ضعيف: أخرجه الترمذي (841) بسند ضعيف، وهو يتقوى بما قبله، وأعله الترمذي بالإرسال، ولا أراه هنا علة لأن يزيد قد أخذه عن ميمونة على أية حال، وقد صرح بالتحديث في رواية مسلم.

 

(2/205)

 

 

4 - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تزوجها في عمرة القضاء -بلا خلاف- ومكة يومئذ دار حرب وإنما هادنهم عليه السلام على أن يدخلها معتمرًا ويبقى بها ثلاثة أيام فقط ثم يخرج فأتى من المدينة محرمًا بعمرة ولا شك أنه تزوجها بعد ما أتم عمرته ثم رجع بها معه من مكة، وإنماكان يحرم من ذي الحليفة، فكان ظاهر الحال أنه تزوجها في إحرامه، أما من روى أنه تزوجها حلالاً فقد اطلع على حقيقة الأمر وأخبر به.

5 - على فرض صحة حديث ابن عباس (1) فقد تعارض الفعل مع القول -في حديث عثمان- فيجب تقديم القول، لأن الفعل موافق للبراءة الأصلية، وهي كون النكاح حلالاً في كل حال، والقول ناقل عن الأصل فيكون حديث ابن عباس منسوخًا ولا يجوز تقديم الفعل هنا لأنه يلزم منه تغيير الحكم مرتين وهو خلاف قاعدة الأحكام.

قلت: وهذا أقوى الأجوبة، لموافقته الأصول.

ويؤيده كذلك أن تحريم زواج المُحرم قد ثبت العمل به عند الخلفاء الراشدين، فعن أبي غطفان عن أبيه: «أن عمر فرَّق بينهما، يعني: رجلاً تزوج وهو محرم» (2).

وعن علي قال: «لا ينكح المحرم، فإن نكح ردَّ نكاحه» (3).

11، 12 - اقتراف المعاصي، والمخاصمة والجدال: لقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (4).

ومن العلماء من سلك مسلك الخصوصية ورأى أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يعارض الأمر الخاص بالأمة، لا سيما وللنبي صلى الله عليه وسلم في النكاح خصوصياته المعروفة، لكن الترجيح السابق أولى لافتقار الخصوصية إلى الدليل، والله تعالى أعلم.

_________

(1) أشار الحافظ في «الفتح» (9/ 166) إلى أنه قد صح حديث ابن عباس عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنها، قلت: بل في كل منهما كلام، ولعله لأجل ذلك قال ابن عبد البر في التمهيد (3/ 153): «ما أعلم أحدًا من الصحابة روى عنه أنه عليه السلام نكح ميمونة وهو محرم إلا ابن عباس» اهـ.

(2) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (869)، وعنه البيهقي (5/ 66)، وانظر «الإرواء» (1038).

(3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 66).

(4) سورة البقرة: 197.

 

(2/206)

 

 

13 - التعرض لصيد الحيوان البرِّي: سواء بالقتل أو الذبح أو الإشارة أو الدلالة، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (1).

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (2).

ولحديث أبي قتادة الذي فيه: «... فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يُحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمُر وحش، فحمل أبو قتادة على الحُمر فعقر منها أتانًا، فنزلوا فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إنا كنا أحرمنا، وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حُمُر وحش، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانًا، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال: «منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟» قالوا: لا، قال: «فكلوا ما بقي من لحمها» (3).

جزاء قتل الصيد:

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (4).

والآية الكريمة تدل على أن قاتل الصيد مخيَّر في الجزاء بين أحد أمور ثلاثة، بأيها شاء كفَّر، سواء كان موسرً أو معسرًا، وهذه الأمور هي:

[1] ذبح مثل ما قتل -إن كان له مثل من النَعَم- والتصدق به على الفقراء الحرم، وله أن يذَبحه في أي وقت شاء، ولا يختص ذلك بأيام النحر.

والمراد بالمثل: الأشبه في الصورة والخلقة لا في القيمة فيذبح أشبه النعم بما صاده من أغلب الوجوه، فيذبح في صيد الضبع كبشًا، وفي الغزال عنزًا وفي النعامة ناقة وهكذا فعن جابر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع؟ فقال: «هو صيد، ويُجْعَل فيه كبش، إذا صاده المحرم» (5).

_________

(1) سورة المائدة: 96.

(2) سورة المائدة: 95.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1824)، ومسلم (1196).

(4) سورة المائدة: 95.

(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3801)، وغيره وصححه في «الإرواء» (1050).

 

(2/207)

 

 

وعن جابر: «أن عمر بن الخطاب قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة» (1).

وقد قضى السلف من الصحابة والتابعين (2) في النعامة ببدنة (ناقة) وهو قول مالك والشافعي، قال ابن حزم: «ولا شيء أشبه بالنعامة من الناقة في طول العنق والهيئة والصورة» اهـ.

وفي حمار الوحش والإبل وبقر الوحش: بقرة.

وقد حكم عمر رضي الله عنه في الحمامة بشاة (3)، وكذا حكم ابن عباس رضي الله عنهما (4) فما كان من الصيد لم تحكم فيه الصحابة -مما تقدم وغيره- أقمنا حكمين عدلين خبيرين للحكم في المثل فإن لم يجدا له شبهًا من النعم، فيجب فيه قيمته، ولا يجوز أن يتصدق بها دراهم، بل يقوِّم بها طعامًا ثم يخيَّر بين الأمرين الآخرين من الثلاثة.

[2] أن يقوِّم المثل بالدراهم والدراهم بطعام ويتصدق به على المساكين لكل مسكين مُدًّا، ولا يجزئ إخراج القيمة (5).

[3] أن يصوم بدل ذبح المثل والإطعام: عن كل مُدٍّ يومًا عند جمهور العلماء.

والإطعام والصيام يفعلان في أي موضع شاء؛ لأن الله تعالى لم يحُد لهما موضعًا (6).

_________

(1) صحيح: أخرجه مالك (947)، وعنه الشافعي (987)، وعنه البيهقي (5/ 183)، وانظر «الإرواء» (1051).

والعناق: من أولاد المعز وهي التي من حين تولد إلى أن ترعى.

واليربوع: حيوان يشبه الفأر.

والجفرة: ما بلغ أربعة أشهر من الماعز وفصل عن أمه.

(2) نقل ابن قدامة في «المغنى» (5/ 204، 404)، وشيخ الإسلام في «شرح العمدة» (2/ 283) إجماع الصحابة على ذلك وعلى ما تقدم عن عمر، وانظر مصنف عبد الرزاق (8213)، والمحلى (7/ 226).

(3) حسنه الحافظ. أخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 214)، والبيهقي (5/ 502) وقال ابن حجر في «التلخيص» (2/ 285): «إسناده حسن».

(4) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 205)، وانظر «الإرواء» (1056).

(5) انظر «المجموع» (7/ 423).

(6) «المحلى» (7/ 235).

 

(2/208)

 

 

إذا اشترك جماعة في قتل صيد: فليس عليهم إلا جزاء واحد لقوله تعالى {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (1). فليس في الصيد إلا مثله لا أمثاله، وعن عمار ابن أبي عمار أن موالى لابن الزبير قتلوا ضبعًا وهم محرمون فسألوا ابن عمر؟ فقال: اذبحوا كبشًا، فقالوا: عن كل إنسان منا؟ فقال: «بل كبش واحد عن جميعكم (2)»). وهذا في أول دولة ابن الزبير، ولا يعرف لابن عمر مخالف من الصحابة، وهو مذهب الشافعي وجماعة من السلف.

فالجزاء والإطعام يشترك فيه القاتلون، أما إذا اختاروا الصيام فعلى كل واحد منهم الصيام كله، لأن الصيام لا يُشترك فيه ولا يمكن ذلك بخلاف الأموال.

من قتل صيدًا بعد صيد: فعليه لكل مرة جزاء، وليس قول الله تعالى {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} (3). بمسقط للجزاء عنه، فإن الله تعالى لم يقل: لا جزاء عليه، بل قد أوجب الجزاء على القاتل للصيد عمدًا، فهو على كل قاتل مع النقمة على العائد (4).

من قتل الصيد ناسيًا؟

ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالك والشافعي، إلى أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه، وحجتهم في ذلك (5).

1 - قالوا: قد أوجب الله تعالى الكفارة على قاتل المؤمن خطأ، فقسمنا عليه قاتل الصيد الخطأ.

2 - قالوا: لما كان متلف أموال الناس يلزمه ضمانها بالخطأ والعمد، وكان الصيد ملكًا لله تعالى، وجب ضمانه بالعمد والخطأ.

3 - قال بعضهم: إنما نص على المتعمد ليعلم إن حكم المخطئ مثله.

بينما ذهب ابن حزم إلى أن الناسي لإحرامه وغير المتعمد لا جزاء عليه ولا إثم لقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} (6). قال: لأن إذاقة الله تعالى وبال

_________

(1) سورة المائدة: 95.

(2) إسناده حسن: أخرجه الدارقطني (2/ 250)، وابن حزم (7/ 237).

(3) سورة المائدة: 95.

(4) «المحلى» (7/ 238)، و «المجموع» (7/ 437).

(5) انظر «المحلى» لابن حزم (7/ 214) وما بعدها، و «المجموع» (7/ 316).

(6) سورة المائدة: 95.

 

(2/209)

 

 

الأمر وعظيم وعيده بالانتقام منه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنه ليس على المخطئ البتة ولا على غير العامد للمعصية القاصد إليها ... وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (1). اهـ.

ونقل هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وسعيد ابن جبير وابن المسيب وطاوس والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعطاء ومجاهد.

ثم أجاب عن حجج الجمهور بكلام في غاية السداد فليراجع، والله ولي التوفيق.

ما لا يحرم قتله أو صيده للمحرم:

1 - الحيوان الإنس أصلاً: تقدم أنه يحرم قتل أو صيد الحيوان البريِّ، أما الإنس كالإبل والبقر والغنم والدجاج فلا يحرم شيء منه إن لم يكن وحشيًّا، فإن ندَّ بعير من صاحبه -وهو محرم- فأدركه وقتله رميًا فهو حلال، حتى لو توحش هذا البعير لأن الأصل أنه أنسي (2).

2 - صيد البحر: لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (3).

3 - قتل مُحرَّم الأكل: كالسباع وذوات الناب والمخلب، لأنه لا قيمة له وليس بصيد، وهو مذهب الشافعي وقول للحنابلة خلافًا للجمهور الذين أوجبوا فيه الفدية (4).

4 - ما أُمر بقتله وما يؤذي: وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على خمس يقتلن في الحل والحرم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق تقتلن في الحِلِّ والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» (5).

قال شيخ الإسلام (6): «وجملة أن ما أذى الناس أو آذى أموالهم فإن قتله مباح سواء كان قد وجد منه الأذى كالسبع الذي قد عدا على المحرم، أو لا يؤمن أذاه مثل الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور، فإن هذه الدواب ونحوها تدخل

_________

(1) سورة الأحزاب: 5.

(2) «الشرح الممتع على زاد المستقنع» (7/ 167) بتصرف يسير.

(3) سورة المائدة: 96.

(4) «المحلى» (7/ 238)، وانظر «تفسير ابن كثير» (2/ 98).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1829)، ومسلم (1198).

(6) «شرح العمدة» (1/ 136).

 

(2/210)

 

 

بين الناس من حيث لا يشعرون وتعم بلواهم بها، فأذاهم بها غير مأمون، قال أصحابنا: قتلها مستحب» اهـ.

وكذلك قتل البعوض والذباب والبراغيث والقمل إذا كانت تؤذيه لا حرج فيه ولا شيء عليه (1).

5 - قتل الآدمي الصائل:

للإنسان أن يدفع عنه كل ما يؤذيه من الآدميين والبهائم، حتى لو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد» (2).

14 - الأكل مما صيد من أجله أو بإشارته أو إعانته:

لما تقدم في حديث أبي قتادة من قوله صلى الله عليه وسلم: «أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا» (3).

فإذا صاد المُحلُّ صيدًا فأطعمه المحرم، فإنه يجوز له الأكل منه إذا لم يكن قد صيد من أجله.

فعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال: «خرجنا مع طلحة بن عبيد الله -ونحن حرم- فأُهدي له طير، وطلحة راقد، فمنَّا من أكل، ومنَّا من تورَّع، فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكل وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» (4) وهو محموا على أنه لم يُصَدْ من أجله.

فإن كان صاده من أجل إطعامه المحرم لم يجُز الأكل منه، وعليه يحمل حديث الصعب بن جثامة أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا فردَّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه قال: «إنا لم نردَّه عليك إلا أنا حُرُم» (5) فهو محمول على أنه كان صاده من أجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحرم فلم يجز.

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (26/ 118)، و «المحلى» (7/ 245).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (2480)، ومسلم (141).

(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1197) وغيره.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1825)، ومسلم (1193).

 

(2/211)

 

 

وهذا هو مذهب جمهور العلماء ورجَّحه ابن القيم (1) وقال: آثار الصحابة كلها في هذا إنما تدل على هذا التفصيل. اهـ.

أمور لا بأس بها للمُحْرِم (المباحات):

وهذه أمور يتحرَّج منها بعض الحجاج، ولا حرج منها، فمن ذلك:

1 - الاغتسال لغير احتلام، وتغيير إزاره وردائه:

فعن عبد الله بن حنين عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما اختلفا بالأبواء، فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك، فوجدته يغتسل بين القرنين، وهو يستتر بثوب، قال: فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، ثم قال لإنسان يصب: صب، فصبَّ على رأسه ثم حرَّك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل، [فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدًا]» (2) وفيه دليل على جواز الاغتسال للمحرم.

وعن ابن عباس قال: «ربما قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعال أُباقيك في الماء أيُّنا أطول نفسًا ونحن محرمون» (3).

2 - الامتشاط: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقال: «انقضى رأسك وامتشطي» (4) وهو جائز إذا أمن من سقوط شيء من شعره، وأما إذا لم يأمن فهو محل نزاع واجتهاد، والأظهر جوازه لعدم الدليل على المنع.

3 - حكُّ الرأس والجسد: فعن عائشة أنها سئلت عن المحرم يحكُّ جسده؟ فقالت: «نعم، فليحككه وليشدد» (5).

ويدل لهذا حديث أبي أيوب المتقدم، ولذا قال شيخ الإسلام (6): «وله أن يحك بدنه إذا حكَّه، وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره» اهـ.

_________

(1) انظر «زاد المعاد» (1/ 164)، و «تهذيب السنن» (5/ 215 - مع عون المعبود).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1840)، ومسلم (1205) والزيادة له.

(3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 63).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (316)، ومسلم (1211).

(5) صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (803).

(6) «المجموعة الكبرى» (2/ 368) عن «حجة النبي» (ص: 27).

 

(2/212)

 

 

وقال النووي: «وأما حك المحرم رأسه فلا أعلم خلافًا في إباحته ... لكن قالوا: يرفق لئلا ينتتف شعره» (1).

4 - الاحتجام ولو بحلق الشعر مكان الحجم:

لحديث ابن بجينة رضي الله عنه قال: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم (وهو مُحرم بلحى جمل) -موضع بطريق مكة- في وسط رأسه» (2).

قال شيخ الإسلام (3): «وله أن يحك بدنه إذا حكَّه، ويحتجم في رأسه وغير رأسه، وإن احتاج أن يحلق شعر الذكر جاز، فإنه قد ثبت في الصحيح (ثم ساق الحديث السابق وقال:) ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر ...» اهـ.

وذهب الجمهور إلى جواز الاحتجام بشرط ألا يتضمن قطع الشعر، وإلا لزمه الفدية، وردَّه ابن حزم في «المحلى» (7/ 257) بقوله عقب الحديث السابق: «لم يخبر عليه السلام أن في ذلك غرامة ولا فدية، ولو وجبت لما أغفل ذلك، وكان عليه السلام كثير الشعر أفرع، وإنما نهينا عن حلق الرأس في الإحرام، والقفا ليس رأسًا ولا هو من الرأس ...» اهـ.

فائدة: ويدخل فيما تقدم نزع الضرس وفقء الدمل فإنه لا حرج فيه.

5 - شم الريحان والطيب لحاجة لا للتلذذ به:

فعن ابن عباس قال: «المحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، ويشم الريحان، وإذا انكسر ظفره طرحه، ويقول: أميطوا عنكم الأذى، فإن الله عز وجل لا يصنع بأذاكم شيئًا» (4).

وشم الطيب له ثلاث حالات (5):

1 - أن يشمه بلا قصد منه، فهذا لا حرج فيه.

2 - أن يقصد شمه، لكن لا للتلذذ به أو الترفيه، بل لاختباره ونحو ذلك، وهذا لا بأس كذلك.

_________

(1) «المجموع» (7/ 363).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1836)، ومسلم (1203).

(3) «مجموع الفتاوى» (26/ 116).

(4) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 62 - 63).

(5) انظر «الشرح الممتع» (7/ 158 - 159).

 

(2/213)

 

 

3 - أن يشمه قاصدًا التلذذ به، فيمنع منه في أقرب قولي العلماء، ولقائل أن يقول: إنه لا بأس لأنه ليس استعمالاً ولا تأثير للشم في الثوب أو البدن.

6 - طرح الظفر إذا انكسر:

ويدل عليه أثر ابن عباس السابق، وقد سئل سعيد بن المسيب عن ظفر انكسر وهو محرم؟ فقال: «اقطعه» (1).

7 - تغطية الوجه للرجل:

لا بأس أن يغطي الرجل وجهه بما هو ملتحف به أو بغير ذلك، ليتقي الشمس أو الغبار أو نحوه وهو محرم، وهذا مروي عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن الزبير، وجابر، وابن عباس وجمهور التابعين وهو مذهب الثوري والشافعي (2). وأحد القولين في مذهب أحمد (3).

بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك إلى أن المحرم لا يغطي وجهه، وهو مروي عن ابن عمر، ويُستدل له بزيادة وردت في حديث المحرم الذي وقصته ناقته فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تخمروا رأسه» ففي رواية «ولا تغطوا وجهه» بدل (ولا تخمروا رأسه» وفي رواية الجمع بينهما، وهذه الزيادة مختلف في صحتها (4)، فمن ضعَّفها قال: لا بأس بتغطية الوجه، ومن صحَّحها: فمنهم من منع تغطية الرجل المحرم وجهه، ومنهم من خص المنع بالمحرم الميت دون الحي أخذًا بظاهر اللفظ وهومذهب ابن حزم، ومنهم من قال: إنما نهى عن تغطية وجهه لصيانة رأسه لا يقصد كشف وجهه، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأس، ولا بد من تأويله، لأن مالكًا وأبا حنيفة يقولان: لا يمتنع من ستر رأس الميت ووجهه، والجمهور يقولون: يباح ستر الوجه دون الرأس، فتعين تأويل الحديث، قاله في «المجموع» (7/ 281).

8 - إسدال المرأة من على رأسها على وجهها (5):

وقد تقدم أنه لا يجوز للمرأة أن تلبس النقاب وما في معناه كالبرقع ونحوه

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (805).

(2) انظر الآثار عنهم في «المحلى» (7/ 91)، وانظر «المجموع» (7/ 280).

(3) «المبدع» (3/ 140).

(4) الحديث متفق عليه وقد تقدم، والزيادة عند مسلم، وانظر «الفتح» (4/ 47)، و «الإرواء» (4/ 200).

(5) «مجموع الفتاوى» (26/ 112)، و «المحلى» (7/ 91)، و «المغنى» (3/ 325).

 

(2/214)

 

 

وأنه يجوز لها أن تسدل خمارها من على رأسها على وجهها عند مرور الأجانب بها، سواء كان ماسًّا لوجهها أم لا، وهذا أصح قولي العلماء، لأن السدل لا يسمى نقابًا فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: «كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام» (1).

وقالت عائشة: «كان الركبان يمرُّون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا، أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» (2).

9 - لبس المرأة ما شاءت من الثياب من أي لون:

فعن القاسم بن محمد قال: «كانت عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة» (3).

وعن أسماء بنت أبي بكر: «أنها كانت تلبس الثياب المعصفرات المشبعات وهي محرمة، ليس فيها زعفران» (4).

وعن يزيد الفقير قال: «سافرت مع أم سلمة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- فكان بعض من معها يلبس المعصفر» (5).

وعن عطاء -في قصة طواف عائشة رضي الله عنها مع الرجال- «.. ورأيت عليها درعًا مُورَّدًا» (6).

ولا يختص لباس المرأة المحرمة بالبياض كما يعتقد كثير من النساء -وخصوصًا المصريات- بل لها أن تلبس ما شاءت ما دام قد توفر فيه شروط اللباس الشرعي.

10 - لبس المرأة السراويل والخفين:

يجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من سراويل وغيرها، وليست تُمنع مما يمنع منه الرجل من لبس المخيط (7) -غير أنها لا تنتقب ولا تلبس القفازين كما تقدم-.

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 454).

(2) حسن لغيره: أخرجه أحمد (6/ 30)، وأبو داود (1833) بسند ضعيف وله شواهد يحسَّن بها.

(3) إسناده صحيح: عزاه الحافظ في «الفتح» (2/ 405) إلى سعيد بن منصور وصحح إسناده.

(4) إسناده صحيح: أخرجه مالك (719)، والشافعي في «الأم» (2/ 126).

(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف».

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1618)، وعبد الرزاق (5/ 67).

(7) انظر «الأم» (2/ 126)، و «المغنى» (3/ 328)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 112)، و «فتح الباري» (3/ 406)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 490).

 

(2/215)

 

 

ولها كذلك أن تلبس الخفين، ولا تقطع ما فوق الكعبين منهما:

فعن ابن عمر قال: «لا بأس أن تلبس المحرمة الخفين والسراويل» (1).

وعن سالم عن أبيه: أنه كان يفتي النساء إذا أحرمن أن يقطعن الخفين، حتى أخبرته صفية عن عائشة أنها كانت تفتي النساء أن لا يقطعن فانتهى عنه» (2).

11 - لبس المرأة المُحرمة الحليَّ إن شاءت:

فعن صفية بنت شيبة أن امرأة قالت لعائشة: يا أم المؤمنين، إن ابنتي فلانة حلفت أن لا تلبس حليها في الموسم (وفي رواية: في إحرامها)، فقالت عائشة: قولي لها: «إن أم المؤمنين تقسم عليك ألا لبست حليك كلَّه» (3).

وعن نافع أن «نساء عبد الله بن عمر وبناته، كُنَّ يلبس الحلي وهنَّ محرمات» (4).

وعن مالك بن مغول قال: سألت ابن الأسود: تلبس المحرمة من لمحلي؟ فقال: «ما كانت تلبس وهي مُحِلَّة» (5).

وقد صح عن عطاء أنه كان يكره الحلي المشهور، أي الذي تشتهر به المرأة من بين النساء (6).

12 - خضاب المحرمة بالحناء ونحوها إن شاءت:

للمحرمة أن تختضب بالحناء وغيرها لعدم ورود النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الحناء ليست بطيب وهو مذهب الشافعي والحنابلة (7)، إلا أن بعضهم كرهه لأنه من الزينة.

وقال الأحناف والمالكية: لا يجوز الخضاب للمحرم رجلاً كان أم امرأة.

قلت: الظاهر أنه لا دليل على المنع لا للرجل ولا للمرأة، وعليه فلو لفت المرأة الخرق مع الحناء على يديها فإنه لا حرج فيه ولا فدية في أقرب أقوال العلماء.

_________

(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 92).

(2) إسناده صحيح موقوفًا: أخرجه الشافعي، وقد ورد مرفوعًا عند أبي داود (1831)، والبيهقي (5/ 25)، وغير همام والصواب وقفه.

(3) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي، ومن طريقه البيهقي (5/ 52)، وابن أبي شيبة (1/ 4/ 319).

(4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 320).

(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 320).

(6) انظر «جامع أحكام النساء» (2/ 495) لشيخنا -حفظه الله-.

(7) انظر «المجموع» (7/ 219)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 497).

 

(2/216)

 

 

لكن هل يعكِّر على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «طيب المرأة ما ظهر لونه وخفى ريحه» (1)؟! فتكون الحناء طيبًا بهذا النص؟! قلت: الأظهر: لا يعكر كون الحناء من الطيب، لأن المنهي عنه ما له رائحة كما تقدم، والله أعلم.

13 - الاكتحال للحاجة:

لا بأس أن يكتحل المحرم من وجع يجده في عينيه، وقد اتفق العلماء -كما نقله النووي- على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية عليه في ذلك (2).

وعن شميسة قالت: «اشتكيت عيني وأنا محرمة، فسألت عائشة أم المؤمنين عن الكحل، فقالت: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد، أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة ونحن نكرهه، وقالت: إن شئت كحلتك بصبر، فأبيت» (3).

وعن ابن عمر قال: «يكتحل المحرم بأي كحل شاء ما لم يكن فيه طيب» (4).

قلت: الأحوط أن يقيد جواز الاكتحال بالحاجة من وجع ونحوه، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشعر بكراهته، وإن لم يكن صريحًا، كحديث جابر في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ففيه: «... وقدم عليٌّ من اليمن ببُدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حلَّ ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت إن أبي أمرني بهذا ...» الحديث (5).

قال في «المغنى» (3/ 327): وهذا يدل على أنها كانت ممنوعة من ذلك. اهـ. يعني حال الإحرام.

وفي صحيح مسلم أن عمر بن عبيد الله اشتكى عينيه وهو محرم -وقد خرج أبان بن عثمان: «... فأراد أن يكحلها فنهاه أبان بن عثمان، وأمره أن يضمدها بالصبر، وحدَّث عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك» (6).

_________

(1) حسن: وسيأتي تخريجه في موضعه، إن شاء الله.

(2) «شرح مسلم» (3/ 292)، وهذا مذهب مالك -كما في المدونة- (1/ 342)، والشافعي في «الأم» (2/ 129).

(3) أخرجه البيهقي (5/ 63)، وشميسة هذه لم توثق إلا أنها صاحبة القصة.

(4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 424).

(5) صحيح: أخرجه مسلم وقد تقدم بتمامه وتخريجه في «صفة الحج».

(6) صحيح: أخرجه مسلم (1204).

 

(2/217)

 

 

14 - الاستظلال بالخيمة أو المظلة (الشمسية) وفي السيارة:

وهذا لا حرج فيه، فعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: «حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً رضي الله عنهما وأحدهما آخذ بخطام ناقته، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة» (1).

قلت: فعلم أن ما يفعله بعض الحجاج من تكلف ركوب ما لا سقف له من السيارات، تنطع وتشدد لم يأذن به الله تعالى.

15 - شد الحزام على إزاره، ولبس الخاتم والساعة والنظارة:

لعدم النهي عن ذلك، وورود بعض الآثار بجواز بعض ذلك، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الهميان للمحرم؟ فقالت: «وما بأس؟ ليستوثق من نفقته» (2).

وعن عطاء قال: يتختم -يعني المحرم- ويلبس الهميان (3).

قال الألباني -رحمه الله تعالى-: «ولا يخفى أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم والمنطقة [يعني الحزام] مع عدم ورود ما ينهى عنهما {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (4). اهـ.

16 - قتل ما يؤذي من الحيوان كالفواسق وغيرها مما تقدم.

 

دخول مكة

سنن دخول مكة:

1، 2، 3 - المبيت بذي طوى، والاغتسال لدخولها، ودخولها نهارًا:

لحديث نافع قال: «كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1298)، وأبو داود (1834)، وأحمد (25998)، والبيهقي (5/ 69).

(2) إسناده صحيح: انظر «حجة النبي صلى الله عليه وسلم» للألباني (ص: 30).

(3) رواه البخاري تعليقًا.

(4) سورة مريم: 64.

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1573)، ومسلم (1259).

 

(2/218)

 

 

4 - دخول مكة من الثنية العليا:

لحديث ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السلفى» (1).

5 - تقديم رجله اليمنى عند دخول المسجد الحرام والدعاء بقوله:

«بسم الله، اللهم صلِّ على محمد وسلِّم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك» (2).

6 - رفع اليدين والدعاء عند رؤية الكعبة:

لثبوته عن ابن عباس (3)، فيدعو بما تيسر، وإن قال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام» (4) فهوحسن لثبوته عن ابن عمر.

7 - أن يطوف بالبيت: وهو طواف القدوم وسيأتي عقبه.

الركن الثاني: الطواف (طواف الإفاضة)

تعريف الطواف:

الطواف لغة: الدوران حول الشيء، وفي الاصطلاح: هو الدوران حول البيت الحرام على الوجه الذي يأتي الكلام عليه.

أنواع الطواف:

الأطوافة المشروعة في الحج ثلاثة:

1 - طواف القدوم: ويسمى طواف الورود، وطواف التحية، لأنه شرع للقادم من غير مكة لتحية البيت، وهو مستحب للآفاقي القادم من خارج مكة عند جمهور العلماء -خلافًا للمالكية الذين أوجبوه وقالوا: من تركه لزمه دم- تحيةً للبيت العتيق.

والأصل في هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جابر: «حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا» (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1575)، ومسلم (1257).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (713)، والترمذي (314)، والنسائي (729) بدون الصلاة، وهي عند أبي داود (465).

(3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 96)، وانظر «مناسك الحج» للألباني (20).

(4) إسناده حسن: أخرجه البيهقي (5/ 72)، وانظر «مناسك الحج» (20).

(5) صحيح: أخرجه مسلم (1218)، وقد تقدم.

 

(2/219)

 

 

وعن عائشة رضي الله عنها: «أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أنه توضأ ثم طاف ... الحديث» (1).

فاستدل المالكية على الوجوب بذلك مع قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (2).

وقال الجمهور: إن القرينة قد قامت على أنه غير واجب، لأن المقصود التحية، فأشبه تحية المسجد فيكون سنة، وهو الراجح، والله أعلم.

فائدة: من ذهب من الميقات رأسًا إلى منى أو عرفات ولم يدخل مكة قبله، فلا يستحب في حقه -ولا في حق المتمتع- أن يطوف للقدوم بعد الوقوف بعرفة (3). فإن طواف القدوم يفوت بالوقوف بعرفة.

2 - طواف الإفاضة (طواف الركن): ويسمى طواف الزيارة، وهو ركن من أركان الحج بالاتفاق، ولا يتحلل الحاج بدونه التحلل الأكبر، ولا ينوب عنه شيء البتة، وقد ثبتت ركنية بالكتاب والسنة والإجماع (4).

قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (5).

وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية في طواف الإفاضة.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن صفية بنت حيي رضي الله عنها حجت مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي؟» قالوا: إنها قد أفاضت، قال: «فلا، إذن» (6).

فدلَّ على أن طواف الإفاضة فرض لابد منه، ولولا فرضيته لم يمنع من لم يأت به عن السفر.

وقت طواف الإفاضة (7):

(أ) أول وقته: لا يصح طواف الإفاضة قبل الوقت المحدد له شرعًا، وهو وقت موسع يبتدئ من طلوع الفجر يوم النحر عند الحنفية والمالكية، وذهب

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1615)، ومسلم (1235).

(2) صحيح: أخرجه مسلم (1297)، والنسائي (3062)، وأبو داود (1970).

(3) نحوه في «مجموع الفتاوى» (26/ 139).

(4) «المغنى» (3/ 440)، و «البدائع» (1/ 128)، و «التمهيد» (6/ 133 - فتح المالك).

(5) سورة الحج: 29.

(6) صحيح: أخرجه البخاري (1733)، ومسلم (1211).

(7) «الهداية» (2/ 180)، و «حاشية ابن عابدين» (2/ 250)، و «نهاية المحتاج» (2/ 429)، و «شرلاح الزرقاني» (2/ 281)، و «المغنى» (3/ 441، 443)، و «الموسوعة الفقهية» (17/ 53).

 

(2/220)

 

 

الشافعية والحنابلة إلى أن وقته يبدأ من بعد منتصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبله.

(ب) آخر وقته: ذهب الحنفية إلى أن آخر وقت لطواف الإفاضة هو آخر أيام التشريق، وعند المالكية: وقته شهر ذي الحجة فإن أخره ففيه دم، وأما الشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة.

فقالوا: الأصل عدم التأقيت وليس هناك ما يوجب فعله في أيام النحر، ولا يلزمه فدية إذا أخره بعد أيام النحر أو بعد شهر ذي الحجة، ولا يسقط عنه أبدًا ولا يكفي الفداء عنه لأنه ركن ويظل محرمًا عن النساء أبدًا إلى أن يعود فيطوف.

قلت: القول بأنه لا يجوز تأخيره عن شهر ذي الحجة -لغير عذر- متجه؛ لأنه تقام فيه أعمال الحج، وإن كان الأحوط ألا يؤخره إلى مابعد أيام النحر خروجًا من الخلاف، ولذا قال شيخ الإسلام في «منسكه»: «يدخل مكة فيطوف طواف الإفاضة -إن أمكنه ذلك يوم النحر- وإلا فعله بعد ذلك، لكن ينبغي أن يكون في أيام التشريق، فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع» (1) اهـ.

(جـ) أفضل وقته: يستحب أن يكون طواف الإفاضة يوم النحر (يوم العيد) لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر الطويل وغيره.

يشترط في طواف الإفاضة خاصة: أن يكون مسبوقًا بالوقوف بعرفة، فلو طاف للإفاضة قبل الوقوف بعرفة، لا يسقط به فرض من الطواف، إجماعًا.

إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة:

فإن استطاعت -من غير مشقة- أن تنتظر حتى تطهر ثم تطوف، لزمها ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (2) قال شيخ الإسلام (3): «أما الذي لا أعلم فيه نزاعًا أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر، فما أعلم منازعًا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به، وتنازعوا في إجزائه: فمذهب أبي حنيفة: يجزئه ذلك، وهو قول في مذهب أحمد ...» اهـ.

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (26/ 138)، وذهب ابن حزم (7/ 172) إلى أنه إن أخره إلى ما بعد شهر ذي الحجة بطل حجُّهُ.

(2) صحيح: تقدم تخريجه.

(3) «مجموع الفتاوى» (26/ 205 - 206).

 

(2/221)

 

 

لكن ... إذا كانت غير قادرة على الانتظار حتى تطهر كي تطوف، لارتباطها بموعد رحلة العودة ونحو ذلك -وهو وارد جدًّا في هذه الأيام- فلا تخلو هذه المرأة من ثمانية أقسام (1):

1 - أن يقال لها: أقيمي بمكة -وإن رحل الرجال حتى تطهري وتطوفي؟! وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر ما فيه.

2 - أن يقال لها: يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه؟! وهذا لا قائل به، فإنه ركن الحج الأعظم وهو المقصود لذاته، والوقوف بعرفة وتوابعه مقدمات له.

3 - أن يقال لها: إذا خشيت مجيء الحيض في وقت الطواف جاز لك تقديمه على وقته؟! وهذا لا يعلم قائل به وهو كتقديم الوقوف بعرفة على يوم عرفة.

4 - أن يقال: إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج، فيسقط عنها فرضه حتى تصير آيسة من الحيض وينقطع بالكلية؟! ولازم هذا سقوط الحج عن كثير من النساء وهو باطل، ثم إن من لم يجب عليه الحج لو تكلفه صح منه فماذا يقال حينئذ؟!

5 - أن يقال: ترجع على إحرامه- تمتنع من الجماع والنكاح- حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة ولو بعد سنين؟! وهذا مما تردُّه أصول الشريعة، وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة، ولا يخفى ما فيه من المشقة.

6 - أن يقال: بل تتحلل حتى تطهر كما يتحلل المحصر مع بقاء الحج في ذمتها، فمتى قدرت على الحج لزمها، وتطوف طاهرًا؟! وهذا ضعيف لأن الإحصار أمر عارض للحاج يمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج، وهذه متمكنة من البيت، ثم إن عذرها لا يسقط فرض الحج عليها ابتداءً، فلا يكون عروضه موجبًا للتحلل كالإحصار.

7 - أن يقال: يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب العاجز عن الحج بنفسه؟! وهذا لا قائل به، ثم إن المعضوب يكون آيسًا من زوال عذره، وهذه لا تيأس من زوال عذرها لجواز أن ينقطع دمها زمن اليأس أو قبله، فليست كالمعضوب.

فبطلت هذه التقديرات السبع، فتعين التقدير الثامن وهو:

_________

(1) مختصر من بحث رائق للعلامة ابن القيم في «إعلام الموقعين» (3/ 19) وما بعدها.

 

(2/222)

 

 

8 - أن يقال: تطوف بالبيت -وهي حائض- للضرورة، وهذا هو الموافق لروح الشريعة السمحة، ولرفع الحرج عن الأمة.

وأمَّا ما ورد في كلام الأئمة وفتاويهم في اشتراط طهارة المرأة من الحدث الأكبر في طوافها -إنما هو في حال القدرة والسعة، لا في حال الضرورة والعجز، فالإفتاء بهذا لا ينافي الشرع ولا قول الأئمة.

وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (1) الذي قال في خاتمة بحثه:

«هذا هو الذي توجَّه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها عملاً وعلمًا لما تجشَّمت الكلام، حيث لم أجد فيها كلامًا لغيري، فإن الاجتهاد عند الضرورة مما أمرنا الله به ...». اهـ.

قلت: إن استطاعت المرأة أن تتناول دواءً يمنع الحيضة وقت الحج، فلها أن تفعل -إن لم يكن يضرُّها- خروجًا من الخلاف، والله تعالى أعلم.

3 - طواف الوداع: ويسمى طواف الصَّدر، وطواف آخر العهد، وهو واجب من واجبات الحج عند جمهور العلماء -خلافًا للمالكية فهو عندهم سنة- لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» (2).

وفي لفظ: «كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» (3).

وهو دليل على وجوب طواف الوداع، وعلى أن المرأة إذا حاضت بعد ما طافت طواف الإفاضة فإنها لا يلزمها البقاء حتى تطهر وتطوف للوداع، لكن يرخَّص لها في ترك طواف الوداع والسفر إلى بلدها، ولا يلزمها دم بذلك، ويدلُّ على ذلك ما تقدم قريبا أن صفية لما حاضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي؟» قالوا: إنها قد أفاضت، قال: «فلتنفر إذن» (4).

_________

(1) «مجموع الفتاوى» (26/ 176 - 241) ورجحه شيخنا في «جامع أحكام النساء» (2/ 572) وما بعدها.

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1755)، ومسلم (1327).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1327).

(4) «الأم» للشافعي (2/ 154).

 

(2/223)

 

 

قلت: وقد صرف المالكية أمره صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع بالترخيص للحائض في تركه دون فداء؟! وهذا ليس بشيء، فليس في سقوطه عن المعذور ما يجوِّز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها، والله أعلم.

تنبيه: إن طهرت المرأة قبل أن تسافر فعليها الطواف للوداع: إذا لم تكن قد خرجت من بيوت مكة، فإن طهرت وهي لا تزال في بيوت مكة لزمها أن تطوف طواف الوداع (1).

المكِّيُّ لا وداع عليه:

لا يجب طواف الوداع إلا على الحاج من أهل الآفاق، فأما المكي فلا وداع عليه عند الحنفية والحنابلة -وألحق الحنفية بالمكي من كان منزله داخل المواقيت- لأن الطواف وجب توديعًا للبيت، وهذا المعنى لا يوجد في أهل مكة لأنهم في وطنهم.

وعند المالكية والشافعية يُطلب طواف الوداع في حق كل من قصد السفر من مكة، ولو كان مكيًّا إذا قصد سفرًا تقصر فيه الصلاة، لعموم الأمر بأن يكون آخر العهد بالبيت (2).

 

أحكام في الطواف عامة

شروط الطواف:

1 - هل تشترط الطهارة للطواف؟

ذهب جمهور العلماء -خلافًا للحنفية ورواية عن أحمد وابن حزم- إلى أن الطهارة من الأحداث والأنجاس شرط لصحة الطواف، فإذا طاف فاقدًا أحدهما فطوافه باطل لا يعتد به.

وحجتهم في هذا حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام ...» (3) وهو مختلف في رفعه والصواب وقفه.

_________

(1) «الأم» للشافعي (2/ 154).

(2) «الموسوعة الفقهية» (17/ 58).

(3) أخرجه الترمذي (960)، والنسائي (2922)، والحاكم (1/ 630) وغيرهم، ولا يصح مرفوعًا، والصواب وقفه كما بينه شيخنا -حفظه الله- في «جامع أحكام النساء» (2/ 515 - 521) خلافًا للعلامة الألباني -رحمه الله- حيث صحح رفعه في «الإرواء» (1/ 156).

 

(2/224)

 

 

وهذا الاستدلال مردود لأمور:

(أ) أن الحديث لا يصح مرفوعًا، فالصواب أنه موقوف من كلام ابن عباس، كما رجَّحه الترمذي والبيهقي وابن تيمية وابن حجر، وشيخنا مصطفى العدوي.

(ب) على فرض صحته، فلا يلزم منه أن الطواف يشابه الصلاة في كل شيء حتى يشترط له ما يشترط للصلاة!! (1).

(جـ) أنه قد كانت أعداد من المسلمين -لا يحصيهم إلا الله عز وجل- يطوفون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد أنه أمر أحدًا منهم بالوضوء لطوافه مع احتمال انتقاض وضوء الكثيرين ودخول كثير منهم الطواف بلا وضوء، لا سيما مع شدة الزحام في طواف القدوم والإفاضة (2).

ولذا قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (6/ 198): «وتبين أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب، ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى، [يعني الوضوء] فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه ..» اهـ. وقال ابن حزم (7/ 179): «والطواف بالبيت على غير طهارة جائز» اهـ. وهو اختيار العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في «الممتع» (7/ 300).

قلت: ومع ترجيحنا لجواز الطواف على غير وضوء، فلا شك أنه يستحب ذلك لحديث عائشة قالت: «أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم ...» (3) الحديث. لعموم الأدلة على استحباب الذكر على طهارة.

لكننا لا نستطيع أن نلزم من انتقض وضوؤه في الطواف بالذهاب للوضوء لا سيما مع شدة الزحام -بغير دليل واضح، والله أعلم.

هذا كله في الطهارة من الحدث الأصغر، فأما الحدث الأكبر كالحيض والنفاس والجنابة، فالظاهر أنه يجب الطهارة منه للطواف لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة -وقد حاضت-: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (4) فمن طاف محدثًا

_________

(1) انظر أوجه التفريق بين الصلاة والطواف في «جامع أحكام النساء» (2/ 522).

(2) «جامع أحكام النساء» (2/ 515) بتصرف يسير وانظر «مجموع الفتاوى» (21/ 273).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (5/ 16)، ومسلم (1235).

(4) صحيح: تقدم تخريجه.

 

(2/225)

 

 

حدثًا أكبر -بغير عذر- ثم خرج إلى بلده، فقال مالك والشافعي: حكمه حكم من لم يطف أصلاً، وقال أبو حنيفة: يبعث بدم ويجزيه (1).

2 - ستر العورة: فلا يجوز لأحد أن يطوف بالبيت عريان، فإن فعل لم يجزئه عند الجمهور، لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2).

ولحديث أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» (3).

وقال الحنفية ستر العورة واجب في الطواف وليس شرطًا لصحته، فمن طاف عريان بطل طوافه عند الجمهور وصح عند الحنفية لكن يلزمه دم.

3 - أن يكون الطواف خارج البيت (الكعبة): قال تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4). فلو طاف في الحجر (5) لم يصح طوافه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحجر من البيت» (6) وقد تركته قريش لضيق النفقة وأحاطته بالجدار، فيشترط لصحة الطواف أن يكون خارج الحجر وإلا بطل عند الجمهور، وعند الحنفية يجب إعادته ما دام في مكة فإن رجع إلى بلده فعليه هدي يرسله إلى مكة.

4، 5 - أن يبدأ طوافه من الحجر الأسود وينتهي إليه ويجعل البيت عن يساره:

لحديث جابر: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى الحجر الأسود فاستلمه ثم مشى عن يمينه، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا» (7) وهذا شرط للطواف عند الجمهور، لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، لأنه بيان لمجمل الأمر القرآني بالطواف فكان من حقيقته، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (8).

_________

(1) «التمهيد» لابن عبد البر (19/ 262).

(2) سورة الأعراف: 31.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (369)، ومسلم (1347).

(4) سورة الحج: 29.

(5) الحجر: هو الموضع المحاط بجدار مقوس تحت ميزاب الكعبة في الجهة الشمالية منها ويسمى الحطيم والجدر.

(6) صحيح: أخرجه الترمذي (876)، وأبو داود (2028)، وابن ماجه (2955)، وأصله في الصحيحين عن عائشة.

(7) صحيح: تقدم بتمامه وتخريجه.

(8) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا (في البيوع)، ومسلم (1718).

 

(2/226)

 

 

6 - أن يكون سبعة أشواط كاملة:

لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم المبيِّن للقدر الذي يحصل به امتثال قوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا} فيكون فرضًا، وهو مذهب الجمهور، فلو ترك خطوة في أي شوط لم يجزئ هذا الشوط، وأما الحنفية فجعلوا الركن: الإتيان بأكثر السبعة، والأقل الباقي واجبًا لا ركنًا، وهذا مردود بأن مقادير العبادات لا تعرف بالرأي والاجتهاد، وإنما بالتوقيف والنص، فهي كمن نقص من الصلاة ركعة فلا تصح، ولذا خالف الكمال بن الهمام -وهو من الحنفية- المذهب فقال: «الذين ندين به أنه لا يجزئ أقل من سبع، ولا يجبر بعضه بشيء» (1) اهـ.

الشك في عدد الأشواط:

من شك في عدد أشواط طوافه وهو في الطواف بنى على اليقين، وهوالأقل، عند جمهور الفقهاء (الشافعية والحنابلة) ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك (2).

قلت: لكن لو ترجَّح عنده الأكثر بنى عليه، والله أعلم.

7 - الموالاة بين الأشواط: بمعنى عدم الفصل الطويل بين الأشواط، وهو شرط للطواف عند المالكية والحنابلة، وفي قول عند الشافعية أنه واجب، وعند الحنفية والشافعية سنة.

ومن قطع طوافه لعذر كقضاء حاجة أو وضوء -لمن يراه شرطًا- أو أداء الصلاة المكتوبة، أو ليستريح من تعب ونحوه، فإنه يبني على ما طاف، ولو قطع طوافه عابثًا لغير عذر بطل طوافه (3).

سنن الطواف:

1 - الوضوء قبل الطواف: لحديث عائشة رضي الله عنها: «إن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت» (4) وهذا مجرد فعل يدل على الاستحباب ولا ينتهض للوجوب، وليس الوضوء بداخل في عموم المناسك حتى يقال أنه بيان لقوله «خذوا عني مناسككم»، ثم يحتمل أنه توضأ لأجل ما يعقب الطواف من الصلاة.

_________

(1) «نهاية المحتاج» (2/ 409)، و «بدائع الصنائع» (2/ 132)، و «فتح القدير» (2/ 247).

(2) «المغنى» (3/ 378)، و «المجموع» (8/ 25).

(3) انظر «المحلى» لابن حزم (7/ 180).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1615)، ومسلم (1235).

 

(2/227)

 

 

وعلى كلٍّ فالطواف ذكر فتستحب له الطهارة لحديث الرجل الذي سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم «فلم يَرُدَّ عليه حتى أقبل فمسح بوجهه ويديه ثم ردَّ عليه السلام» (1).

2 - الاضطباع [للرجال فقط]: وهو أن يجعل وسط إزاره تحت إبطه الأيمن ويَرُدَّ طرفيه على منكبه الأيسر، فيكون منكبه الأيمن مكشوفًا، لحديث يعلى بن أمية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعًا» (2).

والاضطباع سنة -عند الجمهور- للرجال دون النساء، في جميع الأشواط، ويُسَنُّ الاضطباع في كل طواف بعده سعي، كطواف القدوم لمن أراد أن يسعى بعده، وطواف العمرة، وطواف الزيارة لمن أخر السعي إليه، في مذهب الحنفية والشافعية، ومذهب الحنابلة أنه لا يضطبع في غير طواف القدوم (3).

تنبيه: الاضطباع إنما يشرع في الطواف دون سائر المناسك، لا كما يفعل كثير من الناس، من الاضطباع من حين يحرم ويستمر كذلك حتى يُحلَّ، وهذا من الجهل بالسنة، حتى إنه ليصلي مكشوف العاتق، وهذا منهي عنه، كما تقدم في «مكروهات الصلاة».

وعلى هذا فينبغي له أن يسوِّي رداءه فيغطي عاتقه الأيمن كذلك بعد إنهاء طوافه، لأن الاضطباع محله الطواف فقط.

3 - الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى [للرجال]:

ومعناه: إسراع المشي مع تقارب الخطى وهزِّ الكتفين من غير وثب، ويكون في الأشواط الثلاثة الأول فقط، ويمشي في الأربعة الأخرى.

والرَّمل سنة في كل طواف بعد سعي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حُمَّى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحُمَّى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين (4) ليرى المشركون جَلَدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد

_________

(1) حسن: أخرجه أبو داود (1875) وغيره.

(2) حسن: أخرجه أبو داود (1883)، والترمذي (859)، وابن ماجه (2954) وحسنه الألباني.

(3) «الموسوعة الفقهية» (29/ 134).

(4) أي الحجر الأسود والركن اليماني، وذلك لأنهم بينهما يغيبون عن نظر المشركين، قاله في «الفتح» (3/ 551) قلت: فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستريحوا ليبقوا على قوتهم.

 

(2/228)

 

 

من كذا وكذا» (1) وهذا في عمرة القضاء في السنة السابعة، لكن الرَّمل ظل سنة في الأشواط الثلاثة الأولى بتمامها، فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجته -وكانت بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا- كما في حديث جابر «... فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا» (2) وفي حديث ابن عمر «سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط ومشى أربعة في الحج والعمرة [من الحجر إلى الحج]» (3) وسعى -هنا- يعني: أسرع.

ويؤيد أن الرمل سنة باقية -بعد زوال العلة من إغاظة المشركين- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان همَّ أن يتركه «قال: ما لنا وللرَّمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه» (4).

لا يُشرع تدارك الرَّمل: فلو تركه في الثلاثة الأُوَل لأجل الزحام ونحوه، فلا يقضه في الأربعة الأخرى، لأن هيئتها السكينة فلا تغير (5).

لا يشرع الرمل للنساء (6): وهو يقول أكثر أهل العلم، حتى نقل بعضهم الإجماع عليه.

قالت عائشة رضي الله عنها: «يا معشر النساء، ليس عليكنَّ رمل بالبيت، لَكُنَّ فينا أسوة» (7) وصح نحو هذا عن ابن عمر (8) وروى عن ابن عباس (9) وغيرهما من السلف.

4، 5 - استلام الحجر الأسود وتقبيله في كل شوط إن أمكن:

استلام الحجر هو: مسحه باليد، وهو سنة لحديث ابن عمر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع» (10).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1602)، ومسلم (1266).

(2) صحيح: تقدم كثيرًا.

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1604)، ومسلم (1261) وغيرهما بدون الزيادة، وهي عند ابن ماجه (2950).

(4) صحيح: أخرجه البخاري (1605)، ومسلم (1270).

(5) «فتح الباري» (3/ 551).

(6) «الأم» (2/ 150)، و «المغنى» (3/ 394)، و «فتح الباري» (3/ 551)، و «شرح مسلم» (3/ 397).

(7) حسن لغيره: أخرجه البيهقي (5/ 84)، وابن أبي شيبة (809).

(8) صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 84)، وابن أبي شيبة (1/ 4/ 121).

(9) إسناده لين: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 122) وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.

(10) صحيح: أخرجه البخاري (1603)، ومسلم (1261).

 

(2/229)

 

 

وعن نافع قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبَّل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله» (1).

وقد قبَّل عمر بن الخطاب الحجر، وقال: «لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبَّلتك» (2).

إذا لم يستطع تقبيله أو استلامه:

المستحب أن يستلم الحجر بيده ويقبِّله إن أمكنه، فإن استلمه وشقَّ عليه تقبيله قبَّل يده، فإن شق عليه استلامه بيده، فله أن يستلمه بعصا ونحوها ويقبِّلها: لحديث ابن عباس قال: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الرُّكن بمحجن» (3) زاد مسلم في روايته من حديث أبي الطفيل: «ويقبِّل المحجن» (4).

فإن عجز عن استلامه فإنه يشير إليه بيده ويكبِّر، لحديث ابن عباس قال: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبَّر» (5).

وصح عن ابن عمر: «أنه كان إذا استلم الركن قال: بسم الله، الله أكبر» (6).

6 - السجود على الحجر الأسود: فعن ابن عمر قال: «رأيت عمر بن الخطاب قبَّل الحجر، وسجد عليه، ثم عاد فقبَّله وسجد عليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، وقد ثبت هذا أيضًا عن ابن عباس من فعله، قال الألباني -رحمه الله- في الإرواء (4/ 312): «فيبدو من مجموع ما سبق أن السجود على الحجر الأسود ثابت، مرفوعًا وموقوفًا والله أعلم» اهـ.

7 - استلام الركن اليماني: لحديث ابن عمر قال: «لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين» (8).

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1268).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1065)، ومسلم (1270).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1607).

(4) صحيح: أخرجه مسلم (1275).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1613).

(6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8894)، والبيهقي (5/ 79)، وصححه الحافظ في «التلخيص» (2/ 247).

(7) حسَّنه الألباني: كما في «الإرواء» (4/ 312).

(8) صحيح: أخرجه البخاري (1609)، ومسلم (1267).

 

(2/230)

 

 

لا تزاحم المرأة الرجال:

لا ينبغي للمرأة أن تزاحم الرجال في الطواف لاستلام الركنين أو تقبيل الحجر الأسود، فعن عطاء قال: «كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة (1) من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عني، وأبت [قال عطاء:] يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كُنَّ إذا دخلن البيت قُمن حتى يدخلن وأخرج الرجال ...» (2).

ولما اشتكت أم سلمة رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» (3).

لا يُستلم الركنان الشاميَّان:

لحديث ابن عمر المتقدم قريبًا، لأن الركن الشمالي والغربي (جهة الحجر) ليسا على قواعد إبراهيم عليه السلام كما تقدم.

8 - الدعاء بين الركنين اليمانيين:

عن عبد الله بن السائب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول بين الركن والحجر: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (4).

قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (26/ 122): «... ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى، ويدعوه بما يُشرع، وإن قرأ القرآن سرًّا فلا بأس، فليس فيه ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك، فلا أصل له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بين الركنين بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (5). كما كان يختم سائر دعائه بذلك» اهـ.

9 - الانتهاء إلى مقام إبراهيم -بعد الطواف- وقراءة: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (6).

_________

(1) حجرة أي: ناحية معتزلة عن الرجال (الفتح 3/ 562 - سلفية).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1618)، وعبد الرزاق (5/ 67).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1619)، ومسلم (1276).

(4) حسن: أخرجه أبو داود (1892)، والنسائي في «الكبرى» (3934)، وأحمد (3/ 411) وغيرهم، وقد ثبت كذلك من فعل عمر وابنه عند عبد الرزاق (8966، 8964).

(5) سورة البقرة: 201.

(6) سورة البقرة: 125.

 

(2/231)

 

 

10 - صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم بعد الطواف إن تيسَّر.

11 - أن يقرأ في هاتين الركعتين: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.

وهذه السنن الثلاث الأخيرة ثابتة في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم والركعتان بعد الطواف خلف المقام سنة عند الجمهور، خلافًا للحنفية فتجب عندهم، وهو رواية عن أحمد وقول عند الشافعية ووافقهم المالكية في طواف الركن دون غيره (1).

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه إذا صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف.

وتصلي ركعتا الطواف في أي وقت من غير كراهة ولو في أوقات النهي، لحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» (2).

لا يجوز المرور أمام المصلي في الحرم ولا في غيره:

وأما قول شيخ الإسلام رحمه الله: فلو صلى المصلي في المسجد والناس يطوفون أمامه، لم يُكره، سواء مرَّ أمامه رجل أو امرأة، وهذا من خصائص مكة (3). اهـ. فلا أعرف دليلاً على هذه الخصوصية، والأصل عدم جواز المرور أمام المصلي كما تقدم في أبواب الصلاة. والله أعلم.

12 - الشرب من ماء زمزم وصَبُّه على الرأس بعد الطواف والركعتين:

ففي حديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر، وصلى ركعتين ثم عاد إلى الحجر، ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصبَّ على رأسه ثم رجع فاستلم الركن ....» (4).

13 - ل يُلتَزم (5) ما بين الحجر الأسود والباب (المُلتَزَم)؟

رُوى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله يوم الفتح، فعن عبد الرحمن بن أبي صفوان قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، انطلقت، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من

_________

(1) «فتح القدير» (2/ 154)، و «حاشية العدوي» (1/ 467)، و «مغنى المحتاج» (1/ 492)، و «المغنى» (3/ 394).

(2) صحيح: أخرجه الترمذي (869)، والنسائي (5/ 223)، وابن ماجه (1254).

(3) «مجموع الفتاوى» (26/ 122).

(4) إسناده حسن: أخرجه أحمد (3/ 394)، وفي مسلم (1218) الشرب فقط.

(5) أي: يلصق صدره وخدَّه الأيمن بجدار الكعبة بين بابها والحجر الأسود، ويداه مبسوطتان قائمتان.

 

(2/232)

 

 

الكعبة هو وأصحابه وقد استلموا الركن من الباب إلى الحَطيم ووضعوا خدودهم على البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم» (1).

ورُوى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: «طُفت مع عبد الله بن عمرو، فلما حاذى دُبُر الكعبة قلت: ألا تتعوَّذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، فقام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه هكذا -وبسطها بسطًا- وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله» (2).

قلت: في كلا الحديثين ضعف، لكن هل يتقوى أحدهما بالآخر؟ هذا محل نظر، ثم هذا الالتزام يحتمل أن يكون وقت الوداع، وأن يكون في غيره، لكن قال الجمهور: يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ويدعو، لأنه من المواضع التي يستجاب فيها الدعاء كما ورد عن ابن عباس (3)، والله أعلم.

الكلام والتعليم والإفتاء في الطواف (4):

بجوز الكلام في الطواف، ولا يبطل به ولا يكره، لكن الأولى تركه إلا أن يكون كلامًا في خير، كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو تعليم جاهل أو جواب فتوى ونحو ذلك، فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ -وهو يطوف بالكعبة- بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو شيء غير ذلك، فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: قُد بيده» (5).

الطواف ركبًا: يجوز الطواف راكبًا -ولو مع القدرة على المشي- للحاجة الداعية إليه، فقد «طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير يستلم الركن بمحجن» (6). ليراه الناس، لحديث جابر قال: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، بين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف، وليسألوه، فإن الناس قد غشوه» (7) أي: ازدحموا عليه.

_________

(1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1898).

(2) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1899)، وابن ماجه (2962)، والبيهقي في «السنن» (5/ 93)، وفي «الشعب» (4058) بسند ضعيف.

(3) «زاد المعاد» (2/ 298)، و «شرح ابن عابدين» (1/ 170 - 187)، و «روضة الطالبين» (3/ 118)، و «كشاف القناع» (2/ 513).

(4) «المجموع» للنووي (8/ 62 - 63).

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1620).

(6) صحيح: تقدم قريبًا.

(7) صحيح: أخرجه مسلم (1216).

 

(2/233)

 

 

وبهذا قال الشافعية، وهو رواية عن أحمد، ولا شيء على الراكب -ولو لغير عذر- عندهم، بينما أوجب الحنفية والحنابلة المشي مطلقًا، وكذا المالكية -لكن في الطواف الواجب فقط- فلو طاف راكبًا مع القدرة على المشي لزمه دم عندهم (1)، والأظهر أنه ليس عليه شيء والله أعلم.

الركن الثالث: السعي بين الصفا والمروة:

تعريفه: السعي هو المشي بين الصفا والمروة ذهابًا وجيئة، بنية التعبد، وهو سبعة أشواط تبدأ من الصفا وتنتهي بالمروة.

حكمه:

السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج في أصح أقوال العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد -في إحدى الروايتين- وإسحاق وأبي ثور وبه قال ابن عمر، وجابر وعائشة رضي الله عنهم ومن نسيه أو نسي شوطًا منه فعليه أن ينصرف إليه حيث ذكره في بلده أو غير بلده حتى يأتي به كاملاً، وإلا بطل حجه بتركه له ولا يجبره دم ولا غيره (2)، والأدلة على ذلك:

1 - قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (3).

وقد بيَّنت عائشة رضي الله عنها معنى نزول الآية ومخرجها، وجاءت بالعلم الصحيح في ذلك:

2 - قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا بن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المسلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول

_________

(1) «البدائع» (2/ 128)، و «حاشية العدوي» (1/ 468)، و «المغنى» (3/ 397)، و «نهاية المحتاج» (3/ 275).

(2) «فتح القدير» (2/ 156)، و «حاشية العدوي» (1/ 470)، و «المجموع» (8/ 71)، و «المغنى» (3/ 385).

(3) سورة البقرة: 158.

 

(2/234)

 

 

الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية قالت عائشة رضي الله عنها وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما (1).

3 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» (2).

4 - وقالت عائشة رضي الله عنها: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون -تعني بين الصفا والمروة- فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة» (3).

5 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزيك أو يكفيك لحجك وعمرتك» (4) فلو لم يكن واجبًا لما قال: يجزيك، والله أعلم.

6 - عن عمرو بن دينار قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت في عمرة ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا وصلى خلف المقام ركعتين فطاف بين الصفا والمروة سبعًا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وسألنا جابر بن عبد الله فقال: «لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا والمروة» (5).

وللعلماء في حكم السعي قولان آخران:

فذهب أبو حنيفة والثوري والحسن البصري إلى أن السعي واجب، وليس بركن، فمن تركه فعليه دم، وحجه صحيح.

وذهب أنس بن مالك وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين إلى أن السعي سنة وليس بواجب، وليس في تركه شيء، وروى هذا عن ابن عباس، ويشبه أن يكون مذهب أبي بن كعب وابن مسعود، لأن في مصحف أبي وابن مسعود «فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما».

قال ابن عبد البر: ليس فيما سقط من مصحف الجماعة حجة، لأنه لا يقطع

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1561).

(2) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد (6/ 421)، والحاكم (4/ 70)، وانظر «الإرواء» (1072).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1277)، وابن ماجه (2986).

(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1897)، والبيهقي (5/ 106)، والبغوي (7/ 84)، وهو عند مسلم (1211) بلفظ «يسعك طوافك لحجك وعمرتك».

(5) صحيح: أخرجه البخاري (1646)، وأخرج مسلم (1234) أثر ابن عمر.

 

(2/235)

 

 

به على الله عز وجل، ولا يحكم بأنه قرآن: إلا بما نقلته الجماعة بين اللوحين، وأحسن ما روى في تأويل هذه الآية [ما ذكرته] عائشة (1)، والله تعالى أعلم.

طواف سعي القارن والمتمتع:

اختلف العلماء في طواف القارن والمتمتع على ثلاثة مذاهب (2):

[1] أن على كل منهما طوافين وسعيين: وهو مروي عن علي وابن مسعود، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة والأوزاعي وإحدى الروايات عن أحمد.

[2] أن على كلٍ منهما طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا: وهذا نص عليه الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.

[3] أن على المتمتع طوافين وسعيين، وعلى القارن سعي واحد: وهو قول عطاء وطاوس والحسن، وهو مذهب مالك والشافعي وظاهر مذهب أحمد.

فأما القول الأول فضعيف إذ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وغاية ما عند القائلين به قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} ولا دليل في ذلك، فإن التمام حاصل وإن لم يطف -القارن- إلا طوافًا واحدًا، كما هو واضح من أدلة الفريقين الآخرين، وأما القولان الآخران فسبب الخلاف بينهما تعارض الأحاديث الواردة في ذلك:

فعن جابر قال: «لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طواف الأول» (3) يعني بالطواف: السعي.

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك» (4) وكانت قارنة على الأصح.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «... فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت

_________

(1) «التمهيد» لابن عبد البر (2/ 98).

(2) «الزاد» (2/ 271)، و «تهذيب السنن» (5/ 243 - مع العون)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 104).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1215)، والترمذي (947)، وأبو داود (1895)، والنسائي (2986)، وابن ماجه (2972).

(4) صحيح: تقدم قريبًا.

 

(2/236)

 

 

وبين الصفا والمروة ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا» (1).

قال ابن القيم: فإما أن يقال عائشة أثبتت وجابر نفى والمثبت مقدم على النافي، أو يقال: مراد جابر من قرن مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهدي -وهم قلة- فإنهم إنما سعوا سعيًا واحدًا ولم يرد عموم الصحابة، أو يُعلَل حديث عائشة بأن قولها: فطاف ... إلخ) مُدرج في حديثها، فهذه ثلاث طرق للناس في حديثها. اهـ (2).

قلت: أما دعوى الإدراج فيلزم منها تخطئة جبال الحفظ الثقات بغير بيِّنة كالزهري وغيره، فحديثها ثابت لا شك فيه وله طرق تؤيده (3)، وهو دليل على أن المتمتع عليه طوافان وسعيان وعائشة قد حفظت ما لم يحفظ جابر ويشهد له حديث ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: «أهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، إلا من قلد الهدي» طفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، وأتينا النساء لبسنا الثياب، وقال: «من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهلَّ بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، فقد تم حجنا وعلينا الهدي ...» (4).

وهذا مؤكد لما دلَّ عليه حديث عائشة من أن المتمتع يلزمه طواف وسعي لعمرة ثم يحلِّ ويَلزمه طواف وسعي آخران بعد الإفاضة من عرفة، وأما القارن فعليه طواف واحد وسعي واحد عند الجمهور.

هل يجوز تقديم السعي على الطواف بالبيت؟

ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن من سعى قبل الطواف أنه لا يجزئه، وعليه أن يعيد، إلا أن مالكًا وأبا حنيفة قالا: يعيد الطواف والسعي جميعًا، وقال الشافعي: يعيد السعي وحده ليكون بعد الطواف (5).

_________

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1556)، ومسلم (1211).

(2) «زاد المعاد» بتصرف يسير.

(3) انظر «حجة النبي» للألباني (ص: 90).

(4) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا ومسلم خارج صحيحه موصولاً وكذا الإسماعيلي في مستخرجه ومن طريقه البيهقي (5/ 23)، ورجاله رجال الصحيح.

(5) «التمهيد» (6/ 12 - فتح المالك)، و «المجموع» (8/ 105).

 

(2/237)

 

 

قلت: يُستدل لهم بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها -لما حاضت-: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (1) وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت، ولم تَسْعَ كما لم تطف، فلو لم يكن السعي متوقفًا على تقدم الطواف قبلها لما أخرته، لا سيما والحائض لا تمنع من السعي -على الصحيح- كما سيأتي قريبًا.

لكن لقائل أن يقول (2): ليس معنى تأخير عائشة للسعي إلى أن تطوف أن هذا ملزم لغيرها، وخصوصًا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر يوم النحر إلا قال: «افعل ولا حرج» كما سيأتي، وهذا عطاء والأوزاعي وطائفة من أصحاب الحديث.

هل يجوز للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة؟

وردت زيادة في حديث عائشة المتقدم: «أفعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت [ولا بين الصفا والمروة] حتى تطهري» لكن قوله (ولا بين الصفا والمروة) زيادة شاذة لا تصح (3)، وعلى فرض أنها محفوظة فلا تدل على اشتراط الطهارة للسعي، لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله -عند الجمهور- فكان المانع من السعي عدم الطواف.

وليس هناك دليل على اشتراط الطهارة للسعي، بل صح عن ابن عمر أنه قال: «إذا طافت بالبيت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة، فلتسعَ بين الصفا والمروة» (4).

وقد صح نحوه عن الحسن وعطاء والحكم وحماد وغيرهم من السلف، وهومذهب الشافعي (5).

_________

(1) صحيح: تقدم تخريجه.

(2) قاله شيخنا المبارك مصطفى بن العدوي -أمتع الله بحياته- في «جامع أحكام النساء» (2/ 535).

(3) انظر «فتح الباري» (3/ 589)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 534).

(4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 4/ 343).

(5) «مصنف ابن أبي شيبة» (1/ 4/ 344) بأسانيد صحيحة، وانظر «المجموع» (8/ 106).

 

(2/238)

 

 

أحكام السعي بين الصفا والمروة

شروط السعي:

يشترط لصحة السعي بين الصفا والمروة أمور:

1 - أن يكون بعد طواف صحيح -عند الجمهور- كما تقدم.

2 - أن يكون سبعة أشواط: من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط وهكذا (1) فلو شك في العدد قبل فراغه لزمه البناء على الأقل كما في الطواف.

3 - أن يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة: لو نكَّسه وبدأ شوطه الأول بالمروة لم يُعتد بهذا الشوط، فلو بدأ أشواطه بالمروة وختم السابع بالصفا، لم يجزه الأول وبقي عليه السابع (2).

4 - أن يكون السعي في المسعى: وهو الطريق الممتد بين الصفا والمروة.

وذلك كله لفعله صلى الله عليه وسلم وهوالقائل: «خذوا عني مناسككم» (3).

سنن السعي:

1 - أن يكون على طهارة: لأنه ذكر كما في الطواف.

2 - أن يستلم الركن قبل خروجه للسعي: كما في حديث جابر.

3، 4 - إذا اقترب من الصفا، يقرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} ويقول: ابدأ بما بدأ الله به. وهذا في حديث جابر.

5، 6 - استقبال الكعبة وهو على الصفا، ويقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ويدعو بما شاء، يفعل هذا ثلاث مرات.

7 - أن يمشي إلى المروة وله الركوب لمصلحة: ففي حديث جابر: «ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا ...».

_________

(1) وقد وهم ابن حزم فزعم أنه يرمل في الثلاثة ويمشي في الأربعة، ووهم غيره فجعلها أربع عشرة مرة، وكلاهما غلط، كما بينه ابن القيم في «الزاد» (2/ 231).

(2) «المجموع» (8/ 95).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1297)، وأبو داود (1970)، والنسائي (3062).

 

(2/239)

 

 

وقال ابن عباس لما سئل عن سعي النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة راكبًا: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت ... فلما كثر عليه ركب، والمشي والسعي أفضل» (1).

8 - شدة السعي (الإسراع) بين العلمين الأخضرين، وهذا خاص بالرجال دون النساء كما في الطواف.

9 - وله الدعاء بين الصفا والمروة: كما ثبت عن ابن مسعود أنه كان يقول: «رب اغفر وارحم، إنك أنت الأعز الأكرم» (2).

10 - أن يفعل على المروة كما فعل على الصفا: من القراءة والتهليل والتكبير واستقبال البيت والدعاء.

الحلق والتقصير للمتمتع:

إذا فرغ الحاج المتمتع من السعي بين الصفا والمروة، فإنه يتحلل من عمرته بالحلق أو التقصير، والأفضل في حقه أن يقصِّر من شعره، ولا يحلقه، وإنما يحلقه يوم النحر بعد فراغه من أعمال الحج، ففي حديث جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حلوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصِّروا، وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلُّوا بالحج ...» (3) فإن فعل صار حلالاً يحلُّ له كل شيء حتى الجماع حتى يأتي يوم التروية.

سنن الخروج إلى منى:

1 - أن يحرم الححاج [المفرد من أهل مكة أو المتمتع الذي كان قد حلَّ] من منزله يوم التروية (الثامن من ذي الحجة).

2 - أن يتوجه الجميع -ومعهم القارن والمفرد الآفاقي -يوم التروية إلى منى قبل الظهر.

3 - أن يصلوا الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، يوم التروية.

4 - أن يبيتوا بمنى حتى يصلوا الفجر وتطلع الشمس (يوم عرفة).

5 - أن ينتقل في هذه المواطن راكبًا، وهو أفضل من المشي.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1264) من حديث أبي الطفيل.

(2) صحيح مرفوعًا: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 68)، والطبراني في «الدعاء» (870).

(3) صحيح: أخرجه البخاري (1568)، ومسلم (1216).

 

(2/240)

 

 

6 - أن يضرب له قبة (خيمة) بنمرة، إن شاء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ودليل هذه السنن ما جاء في حديث جابر: «... فلما كان يوم التروية توجَّهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ... حتى أتى عرفة ...» (1).

7 - أن يلبِّي أو يكبِّر في طريقه من منى إلى عرفة: لحديث محمد بن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك -وهما غاديان من منى إلى عرفة -كيف كنتم تضنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كان يهلُّ المهل منا فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه» (2) وعن ابن عمر قال: «غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات، فمنَّا الملبِّي ومنَّا المكبِّر» (3).

8 - أن يخطبهم الإمام: فيبيِّن لهم المناسك ويحرضهم على الإكثار من الدعاء والابتهال، ويبيِّن لهم ما يهمهم من الأمور الضرورية لشئون دينهم واستقامة أحوالهم، كما في حديث جابر، وهذه الخطبة سنة بالاتفاق، والسنة أن تكون خطبة واحدة لا خطبتين يجلس بينهما، وهو المشهور في كتب الفروع.

9 - أن يصلي الظهر والعصر جمعًا وقصرًا مع الإمام بنمرة (يوم عرفة) (4) ولا يصلي بينهما شيئًا.

الركن الرابع: الوقوف بعرفة:

تعريفه:

المراد من الوقوف بعرفة: وجود الحاج في أرض (عرفة) بالشروط والأحكام المقررة.

حكمه: الوقوف بعرفة ركن أساسي من أركان الحج، ويختص بأنه من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج.

وقد ثبت ركنيته بالأدلة القاطعة من الكتاب والسنة والإجماع.

_________

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1218).

(2) صحيح: أخرجه البخاري (1659)، ومسلم (1284).

(3) صحيح: أخرجه مسلم (1284).

(4) ومن فاته الصلاة مع الإمام جاز أن يصليهما منفردًا جامعًا بينهما عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يجوز.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب تحفة المودود

  كتاب تحفة المودود   بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله العلي العظيم الحليم الكريم الغفور الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن ال...