اللهم آمين

دعـــــاء ((سبحان الذي تعطف العزّ وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام)). دعـــــاء ((سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عددَ ما خلق في الأرض، وسبحان الله عددَ ما بين ذلك، وسبحان الله عددَ ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده، لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً...)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) دعـــــاء ((سبحان الله ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة)) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديعُ السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام...)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما خلق الله، والحمد لله ملء ما خلق الله، والحمد لله عدد ما في السموات والأرض، والحمد لله ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، وسبحان الله مثلهن)) دعـــــاء ((ربَّنا لك الحمد، مِلْءَ السموات والأرض ومِلْءَ ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناءِ والمجد، أحقُّ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)) دعـــــاء ((الحمد لله الذي يطعم ولا يُطعم، منّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكلِّ بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مُوَدّع ولا مكافئ ولا مكفور ولا مستغنىً عنه. الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العُرْي، وهدى من الضلالة، وبَصّر من العماية، وفضّل على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما أحصى كتابُه، والحمد لله عدد ما في كتابه، والحمد عدد ما أحصى خلقه، والحمد لله مِلْءَ ما في خلقه، والحمد لله مَلْءَ سماواته وأرضه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله على كل شيء)) دعـــــاء ((اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهَك. لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتُعصى فتغفر. أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال. القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم...)) دعـــــاء ((تمَّ نورك فهديت فلك الحمد، عظم حلمك فعفوت فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد. ربَّنا: وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهناها. تطاع ربَّنا فتشكر، وتُعصى ربَّنا فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضر، وتَشفي السُقم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد، ولا يبلغ مدحتَك قولُ قائل) دعـــــاء ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدّ) دعـــــاء ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، و النبيون حق، ومحمد حق. ) دعـــــاء اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت...) .(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم...) (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) دعـــــاء ((لا إله إلا الله قبل كل شيء، ولا إله إلا الله بعد كل شيء، ولا إله إلا الله، يبقى ويفنى كل شيء) دعـــــاء ((اللهم ربَّ السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كل شيء، فالقَ الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء اقض عنا الدين و أغننا من الفقر) دعـــــاء ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) دعـــــاء ((يا مَن أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا كريم الصَفح، يا عظيم المنّ، يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها، يا ربنا ويا سيدنا، ويا مولانا، ويا غاية رغبتنا أسألك يا الله أن لا تَشوي خلقي بالنار) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا مانع لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت...) دعـــــاء ((اللهم بك أصاول، وبك أحاول، وبك أقاتل)) دعـــــاء ((اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي...) دعـــــاء ((اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى، ونَحْفِد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك؛ إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلْحِق) دعـــــاء ((اللهم رب السموات ورب الأرضين، وربَّنا وربَّ كل شيء، فالق الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن... أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، والظاهر فليس فوقك شيء، والباطن فليس دونك شيء...) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك باسمك الطاهر الطيب المباركِ الأحب إليك الذي إذا دُعيت به أجبتَ، وإذا سُئلت به أعطيتَ، وإذا استُرحمت به رحمت، وإذا استُفرجت به فَرّجت...) دعـــــاء ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطَر السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون...) دعـــــاء ((اللهـم أنت المـلك لا إلـه إلا أنــت، أنـت ربـي وأنـا عبـدك... لبيـك وسعديـك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت... اللهم ربنا لك الحمد مِلْءَ السماء ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ مابينهما ومِلْءَ ما شئت من شي بعد... أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله ألا أنت) دعـــــاء ((اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم لك أنفه...) دعـــــاء ((اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 26 يناير 2024

مقالات الألباني نور الدين طالب

 

مقالات الألباني

نور الدين طالب

 

القسم الأول : المقالات :

1- وجوب التفقه في الحديث

 

نرى كثيراً من كتاب المجلات الإسلامية يوردون أحاديث ويرفعونها وينسبونها إلي النبي -صلى الله عليه وسلم-دون أن يذكروا مصادرها من كتب السنة المطهرة، وعلاوة على ذلك فإنهم يجزمون بعزوها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد تكون ضعيفة أو موضوعة، وإن منهم لمن يسود صفحات في شرح بعضها، ومنهم يحتج بما هو مقطوع عند المحققين من العلماء ببطلانها على مخالفه في رأيه وهو دخيل في الإسلام، كما وقع ذلك في بعض الأعداد الأخيرة من المجلة.

 

فإلى هؤلاء الأفاضل وأمثالهم من الخطباء والوعاظ والمرشرين أسوق هذه الكلمة نصيحة وذكرى:

لا يجوز للمسلم أن ينسب حديثاً ما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن يتثبت من صحته على قاعدة المحدثين، والدليل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- : " اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح كما في " فيض القدير ".

 

والتثبت له طريقان :

الأول : أن ينظر الطالب في إسناده ورجاله ويحكم عليه بما تقتضيه قواعد علم الحديث وأصوله من صحة أو ضعف، دون أن يقلد إماماً معيناً في التصحيح والتضعيف، وهذا أمر عزيز في هذا العصر، لا يكاد يقوم به إلا أفراد قلائل مع الأسف.

 

والآخر: أن يعتمد في ذلك على كتاب خصه مؤلفه بالأحاديث الصحيحة كالصحيحين ونحوهما، أو على أقوال المحققين من المحدثين كالإمام أحمد ، وابن معين، وأبي حاتم الرازي، وغيرهم من المتقدمين، وكالنووي، والذهبي، والزيلعي، والعسقلاني، ونحوهم من المتأخرين.

 

وهذه الطريق ميسرة لكل راغب في الحق، ولكنه يحتاج إلى شيء من الجهد في المراجعة والتنقيب عن الحديث، وهذا أمر لا بد منه، ولا ينبغي أن يصدف عنه من كان ذا غيرة على دينه، وحريص على شريعته أن يدخلها ما ليس منها، ولذلك قال الفقيه ابن حجر الهيثمي في كتابه " الفتاوى المدينية " (ص : 32) :

 

" وسئل -رضي الله عنه- في خطيب يرقى المنبر في كل جمعة، ويروي أحاديث كثيرة، ولم يبين مخرجيها ولا رواتها فما الذي يجب عليه ؟

فأجاب بقوله : ما ذكره من الأحايث في خطبته من غير أن يبين رواتها أو من ذكرها ، فجائز بشرط أن يكون من أهل المعرفة في الحديث، أو ينقلها من (كتاب) مؤلفه من أهل الحديث، أو من خطب ليس مؤلفها كذلك، فلا يحل ذلك ! ومن فعله عزر عليه التعزير الشديد، وهذا حال أكثر الخطباء، فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث حفظوها وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحادث أصلاً أم لا، فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك . . . ".

 

ثم قال : " فعلى هذا الخطيب أن يبين مستنده في روايته، فإن كان مستنداً صحيحاً، فلا اعتراض عليه، وإلا ساغ الاعتراض عليه، بل وجاز لولي الأمر أن يعزله من وظيفة الخطابة زجراً له عن أن يتجرأ على هذه المرتبة السنية بغير حق . . ".

محمد ناصر الدين الألباني

 

*** *** ***

 

2- من معجزات الإسلام العلمية

 

في عدد البارحة من " جريدة العلم " في (19 / شوال / سنة 1375) قرأت خبراً خلاصته:

 

" القاهرة : شنق زوج أسود زوجته لأنها أنجبت طفلة بيضاء، وقد سئل كبار أطباء الولادة حول الموضوع، فأجابوا : بأن ميلاد طفلة بيضاء من أب أسود ممكن، خصوصاً إذا كان جدود الزوج بيضاً، ولكن هذه حالة نادرة الحدوث ".

 

فلما قرأت هذا ! قلث الله أكبر، صدق الله ورسوله، فإن ما ذكره هؤلاء الأطباء ، قد أخبر به سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل ثلاثة عشر قرناً، وهو النبي الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رجلاً من بني فزارة جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : ولدت امرأتي غلاماً أسود، وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه، فقال له النبي " هل لك من إبل ؟ " قال : نعم ، قال " فما ألوانها ؟" قال : حمر ، قال : " هل فيها من أورق ؟ " ( وهو الذي يميل إلى الغبرة ) قال : إن فيها لورقا ، قال : " فأنى أتاها ذلك ؟ " قال : عسى أن يكون نزعة عرق ، قال : " فهذا عسى أن يكون نزعة عرق " ، ولم يرخص في الانتفاء منه.

 

فقوله -صلى الله عليه وسلم- : " فهذا عسى أن يكون نزعة عرق " عين ما قاله الأطباء المشار إليهم في الخبر : " إن ميلاد طفلة بيضاء من أب أسود ممكن خصوصاً إذا كان جدود الزوج بيضاً " ، فهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- : " نزعة عرق " فكيف عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا لو لم يخبره العليم الحكيم - سبحانه وتعالى - ، وصدق الله العظيم إذ يقول : ( والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) . ويقول : ( سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ) .

 

ولهذا الحديث الشريف ذهب جماهير العلماء إلى أنه لا يجوز للأب أن ينفي ولده بمجرد كونه مخالفاً في اللون ، وعليه لا يجوز له أن يقتل زوجته من أجل ذلك ، فليتأمل في هذا المحرومون من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.

 

وهذا مثل واحد من الأمثلة الكثيرة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لمعالجة المشاكل الاجتماعية التي يعالجها الغربيون بعيدين عن مدد السماء ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ).

 

محمد ناصر الدين الالباني

 

*** *** ***

 

3 – عودة إلى السنة  !

 

كتب الأستاذ الفاضل صديقنا الشيخ علي الطنطاوي مقالاً مسهباًً تحت عوان " مشكلة " نشره في عدد جمادى الأولى سنة 1375 من مجلة المسلمون.

 

بدأ فيه فوصف أفراداً من المسلمين جعلهم أمثلة للذين يدعون الإسلام منهم ولا يعملون به ، ثم تعرض لنقد طوائف نعتهم بـ " الدعاة إلى الله ، الذين نرجوا بهم نصرة الإسلام ، وإعادة أهله إليه ".

 

فبدأ بنقد " من يرى الإسلام في اتباع مذهب من المذاهب الأربعة والوقوف عندما أفتى به متأخرو فقهائه " ثم ثنى بالرد على " من يدعو إلى العودة إلى السنة " وأفاض هنا ما لم يفض في رده على غيرهم !

ثم ختم الشيخ مقاله بما خلاصته : " وهؤلاء الدعاة مختلفون أبداً ، آخذ بعضهم بخناق بعض ، يتناظرون أبداً ويتجادلون ، يتقاذفون الردود ، لا في مصر والشام والعراق وحدها ، بل في بلاد الإسلام جميعاً . . . والإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- واحد ، له مفهوم واحد ، فعلام هذا الاختلاف ؟ . . . ".

 

" وأنا لا أقول بتوحيد الأفهام ومنع الاختلاف ، فما أظن أن هذا يكون ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) ، ولكن الذي أقوله هو وجوب الاتفاق على الأسلوب الذي ندعو به إلى الاسلام ، والصورة التي نعرضها له على التلاميذ في المدارس ، والعامة في المساجد ، والأجانب في بلاد الغرب لنقول لهم هذا هو أساس الإسلام ، وهذه أركانه ، وهذا طريق الدخول فيه ، لا نفاجيء واحداً من هؤلاء بالخلاف في فهم مشكلات الآيات ، ولا الاجتهاد والتقليد ، ولا نبدؤهم بمستحدثات المتصوفة وقوانين الطرق ، ولا نحملهم على الآراء الفردية التي لا يقرها الجميع ".

" فما هو الأسلوب ( العملي ) الممكن للوصول إلى هذه الغاية ؟ هل يكون ذلك بمؤتمر لعلماء المسلمين ، أم يتولاه معهد من المعاهد العلمية، أو يقوم به واحد من المسلمين ؟ ما هو الأسلوب ؟ ".

وللجواب عن سؤال الأستاذ نسوق هذا المقال فنقول :

 

1- لا اتفاق على الأسلوب قبل الاتفاق على الهدف : (الإسلام)

 

إن الذي يقرأ مقال الشيخ بتدبر وإمعان ، يظهر له أن فيه فجوة تركها الشيخ دون أن يملأها ببيانه ، ذلك أنه بعد أن عرض " المشكلة " عرضاً بيناً قفز إلى الدعوة إلى وضع أسلوب عملي للدعوة إلى الإسلام ، والمنطق يشهد أنه كان من الواجب بعد عرض المشكلة التحدث عن طريقة حلها أو على الأقل دعوة العلماء إلى حلها ، ثم بعد ذلك يأتي دور الدعوة إلى وضع أسلوب عملي للدعوة إلى الإسلام ، لأنه من البدهي أنه مادام الدعاة إلى الإسلام مختلفين في فهم الإسلام ذلك الاختلاف الذي وصفه الشيخ وهو في الواقع أكثر مما وصف ! فإنه من غير الممكن أن يتفق هؤلاء على الأسلوب العملي ، كيف وهم لم يتفقوا على فهم الهدف ( الإسلام ) ؟

ولو فرضنا أنهم اتفقوا على أسلوب ما ، فلن يؤدي بهم إلى الدعوة إلى " إسلام واحد له مفهوم واحد " ، بل سيدعو كل منهم إلى الإسلام الذي فهمه هو ، أو تلقاه عن آبائه ومشايخه ، وبذلك تعود المشكلة كما هي دون أن نستفيد من أسلوب الدعوة شيئاً لو تمكنوا من وضعه !

 

إذن لابد من وضع حل لهذه " المشكلة " فما هو ؟ وأين هو ؟

2- حل المشكلة بالرجوع إلى السنة :

لا شك أن المفروض في الدعاة إلى الله تعالى أن يكونوا من أطوع الناس لله تعالى ، وأسرعهم مبادرة إلى تطبيق أحكامه عز وجل ، فإذا كانوا مختلفين في فهم الإسلام فمن الواجب عليهم أن يحتكموا إلى ما أمر الله به ، من الرجوع إلى السنة ، لأنها هي التي تفسر القران ، وتوضحه ، وتبين مجمله ، وتقيد مطلقه ، كما يشير لهذا قوله تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) وقد قال عز وجل : ( فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ).

 

 

فهذه الآية الكريمة صريحة في أن من كان مؤمناً حقاً رجع عند الاختلاف إلى حكم الله عز وجل في كتابه ، وبيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته ، وأن الرجوع إليهما يرفع الخلاف ، فوجب بنص هذه الآية على الدعاة أن يرجعوا إلى السنة الكريمة ليرفعوا الخلاف بينهم.

 

ومما لا شك فيه أن الرجوع إلى السنة يقتضي العلم بها والمعرفة بما صح منها وما لم يصح ، والدعاة في هذا العصير بين إحدى حالتين:

إما أن يكونوا قادرين على الرجوع إليها ، وحينئذ فالطريق سهل بين ليس عليهم إلا سلوكه ، وهم في الغالب لم يفكروا في سلوكه بعد ! وهنا يقال : كيف يدعو إلى الإسلام من لا يحكم الإسلام في نفسه ؟

وإما أن يكونوا عاجزين عن الرجوع إليها بسبب جهلهم بها ، كما هو الغالب مع الأسف على أكثر الدعاة ، ففي هذه الحالة عليهم أن يعدوا العدة لتخريج جماعة ، بل جماعات من العلماء ، يتدارسون كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويتفقهون فيهما ، ويصدرون الفتاوى معتمدين عليهما ، كما كان عليه الأمر في عهد السلف الصالح  فإذا تحقق هذا - وهو واقع إن شاء الله تعالى ولو بعد حين - نكون قد سلكنا النهج المستقيم للقضاء على الخلاف في فهم الإسلام على الصورة التي عرضها الشيخ الطنطاوي -حفظه الله تعالى- في مقال : " المشكلة " وبذلك يمكن حل ( المشكلة ) التي تقف عقبة في سبيل " الاتفاق على الأسلوب الذي ندعو به إلى الإسلام ".

 

3- هل يرض الدعاة بهذا الحل ؟

لكن يبدو للباحث أن كثيراً من الدعاة اليوم لا استعداد عندهم -مع الأسف الشديد- لتقبل الحل المذكور منهجاً للقضاء على الخلاف ، مما يحملنا على أن نعتقد أن تحقيق الاتفاق الذي يدعو إليه الشيخ بعيد المنال في الوقت الحاضر ، كيف لا ، ونحن نرى حضرته - وهو ممن كنا نظن أنه من أقربهم إلى السنة وأدناهم للتفاهم معه في سبيل الدعوة إليها والعمل بها - نراه قد حمل في مشكلته هذه على الدعاة إلى السنة حملة شعواء ، وهجاهم فيها بما لم يهج به القائلين بوحدة الوجود !

 

وهذا في الواقع من غرائب الاختلاف ، فبينما يرى دعاة السنة أن " المشكلة " لا تحل إلا بتبني الدعاة لدعوتهم حقاً ، إذا ببعض هؤلاء الدعاة يجعلهم من الدعائم التي قامت بسببهم " المشكلة " !

 

هذا ولما كان في رده عليهم كثير من الأخطاء والآراء التي يفهم منها القراء خلاف ما عليه دعاة السنة ، رأيت أنه لا بد من بيان ذلك إظهاراً للحق ودفعاً للتهمة ، راجياً من فضيلة الشيخ أن يتقبل ما عسى أن يظهر له صوابه ، وأن يدلنا على ما تبين له خطؤه ، سائلاً المولى -سبحانه وتعالى- أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه ، موافقة لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

 

4- نص كلام الأستاذ الطنطاوي :

 

" وآخر يرى الإسلام في ترك المذاهب كلها ، والعودة إلى السنة ، فكل من استطاع أن يقرأ البخاري ومسلم ومجمع الزوائد ، وأن يفتش عن اسم الراوي في التقريب أو التهذيب ، وجب عليه الاجتهاد ، وحرم عليه التقليد ، ويسمون هذا الفقه العجيب الذي يشبه فقه برد  (والد بشار) بفقه السنة ، لا يدرون أن الوقوف على الأحاديث ومعرفة إسنادها ودرجاتها شيء ، واستنباط الأحكام منها شيء آخر ، وأن المحدثين كالصيادلة ، والفقهاء كالأطباء ، والصيدلي يحفظ من أسماء الأدوية ويعرف من أصنافها ما لا يعرفه الطبيب ، ولكنه لا يستطيع أن ( يشخص ) الأمراض ويشفي المرضى ، وأن الصحابة أنفسهم لم يكن فيهم إلا مئة ممن يفتي ، وأن مئة الألف من المسلمين الذين توفي عنهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا يرجعون إلى هذه المئة ، ولا يجتهدون لأنفسهم ، وأنه إن لم يطلع الإمام من الأئمة على الحديث من الأحاديث ، فإن أتباع مذهبه قد اطلعوا عليه خلال هذه القرون الطويلة ، وأنهم كانوا اتقى لله وأحرص على دينهم من أن يخالفوا حديثاً صحيحاً لقول إمام أو غير إمام ، وأن المذاهب لم تأخذ الأحاديث وحدها ، بل أخذت الحديث وما قال فيه الصحابي ، والتابعي ، ومن بعده ، وسجلت هذه الشروح والأفهام المتعاقبة ثم استخلصت منها الحكم ، وأن من يترك اجتهادات الأئمة كمن يرى الطيارة وما بلغت إليه بعد الجهود المتتالية والرقي المتسلسل ، فيتركها ويعرض عنها ، ويحاول الطيران بأجنحة ليركبها لنفسه كما فعل العباس بن فرناس ، وإن دعوى منع التقليد في الدين دعوى باطلة ، لأن في كل علم أهل اختصاص فيه ، وغرباء عنه فإذا احتاج الغريب إلى معرفة حكم فيه رجع إلى أهله ، كالعامي يحتاج إلى مداواة مريضه ، أو عمارة بيته ، أو إصلاح ساعته ، فلا يستطيع إلا الرجوع إلى الطبيب أو المهندس أو الساعاتي ، وتقليده فيما يذهب به إليه اجتهاده " اهـ.

 

5- لماذا يدعو دعاة السنة للعودة إلى السنة:

 

وإني قبل الشروع في بيان ما في كلام الأستاذ الطنطاوي من الأخطاء ، أرى لزاماً علي أن أبين الأسباب التي تحمل دعاة السنة على الدعوة إليها ، وترك كل قول يخالفها فأقول :

 

أولاً : إنها المرجع الوحيد بعد القرآن الكريم ، وفي ذلك آيات كثيرة معروفة وعلى ذلك إجماع الأمة .

ثانياً : إنها عصمة من الوقوع في الخطأ وأمان من التردي في الضلال كما قال -صلى الله عليه وسلم- في حجة الودع : " يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه "   ، وليس كذلك اجتهادات الرجال وآراؤهم ، ولذلك قال الإمام مالك -رضي الله عنه- : " إنما أنا بشر أخطيء وأصيب ، فانظروا في رأي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه "   ، وقال شريح القاضي : " إن السنة سبقت قياسكم ، فاتبعوا ولا تبتدعوا ، فإنكم لن تضلوا ما أخذتم بالأثر " .

 

ثالثأ : إنها حجة ملزمة باتفاق المسلمين ، بخلاف آراء الرجال فإنها غير ملزمة عند السلف  وغيرهم من المحققين ، قال الإمام أحمد -رضي الله عنه - : " رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، وانما الحجة في الآثار "  .

 

رابعاً : إنه لا يمكن لطالب العلم أن يصير فقيهاً حقاً إلا بدراستها ، فهي وحدها بعد القرآن الكريم تؤهله لأن يستنبط ويقيس قياساً صحيحاً إذا أعوزه النص ، فلا يقع مثلاً في مثل الأخطاء التي يقع فيها الجهال بها ، كقياس الفرع على الفرع ، أو الضد على الضد ، أو القياس مع وجود النص ، ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله-  : " إن أصح الناس قياساً أهل الحديث ، وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح ، وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد ".

 

خامساً : إنه لا يمكن القضاء على ما دخل في المسلمين من البدع والأهواء إلا من طريق السنة ، كما أنها سد  منيع للوقوف في وجه المذاهب الهدامة ، والآراء الغربية التي يزينها أصحابها للمسلمين ، فيتبناها بعض دعاتهم ممن يدعي التجديد والإصلاح ونحو ذلك !

 

سادساً : إن المسلمين اليوم قد شعروا -على اختلاف مذاهبهم وفرقهم- أن لا مناص لهم من الاتحاد ونبذ الخلاف حتى يستطيعوا الوقوف صفاً واحداً تجاه أعدائهم ، وهذا لا يمكن إلا بالرجوع إلى السنة لما سبق ذكره في الأسباب ( 1، 2، 3).

 

سابعاً : إنها تقرن مع ما تحمله من أحكام مرغبات في تنفيذها ، ومرهبات عن التساهل بها ، وذلك أسلوب النبوة ، وروح الشرع ، مما يجعل أصحابها أرغب في القيام باحكامها من الذين يأخذونها من كتب الفقه العارية عن الدليل ، وهذا أمر مشهود ما أظن أن أحداً حتى من المتعصبين للمذاهب ينكره.

 

ثامناً : إن المتمسك بها يكون على مثل اليقين في الأحكام التي يأخذها منها ، بخلاف المقلدين الجهال بها ، فإنهم يضلون بين الأقوال الكثيرة المتضاربة التي يجدونها في كتبهم ، ولا يعرفون خطأها من صوابها ، ولذلك قد يفتي أحدهم في مسألة بقولين متعارضين ، فيقول مثلاً : يجوز ذلك عند أبي حنيفة ، ولا يجوز عند صاحبيه ، مع أن السنة الصحيحة الصريحة مع أحد القولين ، ولكنه لجهله بها يحكي القول المعارض لها ، بدون إنكار منه له ، ولو بطريق الإشارة ، فيلقي بذلك المستفتي في الحيرة ! بل إن بعضهم يجعل القولين المتناقضين كشريعتين محكمتين يجوز للمسلم أن يأخذ بأيهما شاء ! بل إن بعض الشافعية أجاز لنفسه أن يفتي بالقول الذي يعطى عليه أجراً أكبر !

تاسعاً: إن السنة تسد الطريق على الذين يريدون أن يتحللوا من الإسلام باسم المذاهب الفقهية نفسها ، ويتخذون من التلفيق باسم المصلحة ما يؤيد حجتهم ! ولا يعجزون أن يجدوا في ثنايا المذاهب في كل مسألة من الممسائل ما يوافق ويؤيد " مصلحتهم " المخالفة للسنة  ، وهم لذلك يحاربون الرجوع إلى السنة ، لأنها تسد الطريق عليهم كما قلنا ، وتكشف تسترهم وراء المذاهب و " سعة الشريعة الإسلامية بسعة الأقوال الكثيرة ، والاجتهادات الغزيرة والثروة الفقهية الطائلة التي قل أن تخرج مسألة عنها " ؟! والله أعلم بما يوعون.

 

فهذه بعض الأسباب التي تحضرني الآن مما يحمل أنصار السنة على الدعوة إليها ، وإيثارها على خلافها ، فكيف لا يدعون الناس إليها ويرغبونهم في الاهتداء بهديها ، والاستنارة بنورها ؟ بل كيف لا يفدون أرواحهم في سبيلها ؟

فالعجب ممن يريد أن يصدهم عنها ، ويحملهم على تركها إلى التمسك بالمذهب ، مع أن إمامه يأمر بالرجوع لها ، وتسليم القياد لها ، هيهات هيهات !

 

6- بيان ما في كلام الأستاذ الطنطاوي من المآخذ :

بعد هذا نعود فنذكر ما بدا لنا من المآخذ في كلام الطنطاوي فأقول :

قال الشيخ : " وآخر يرى الإسلام في ترك المذاهب كلها ، والعودة إلى السنة ".

 

أقول : أما العودة إلى السنة فحق واجب ، وقد سبق بيان أسباب ذلك في الفصل السابق ، وأزيد هنا فأقول : إنه يجب على كل مسلم أن يستجيب لدعوتهم هذه إن كان مؤمناً حقاً ، فقد قال تعالى : ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ) وقال في المنافقين : ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ) وقال  ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ) . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ، وهي معروفة ، وانما أوردنا بعضها للذكرى.

 

فلا حجة لأحد في أن لا يستجيب لدعوتهم هذه ، فكيف في الإنكار عليهم بسببها ؟ ولئن كان بعض الناس يزعم أن الدعاة إليها ليسوا أهلاً من الوجهة العلمية للقيام بها - كما قد يشير لهذا قول الشيخ في الفقرة الآتية ، فهذا -لو صح- ليس بمسوغ لهم أبداً أن يردوها عليهم ، لأن الحق يجب قبوله ، ولا يجوز رده مهما كان مصدر، وهذا شيء بين لا يحتاج إلى تدليل .

ثم إنهم لو كانوا صادقين في ذلك الزعم ، لبادروا إلى بيان ذلك للناس ، بضرب أمثلة يظهرون بها جهل هؤلاء الدعاة بالسنة وسوء فهمهم لها ، حتى يعرفهم الناس ويجتنبوهم ولا يغتروا بدعوتهم إلى السنة ! ولكنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك ، ولعلهم لن يفعلوا ، والسبب معلوم لديهم ، وعند أهل العلم من غيرهم !

7- رأي دعاة السنة في المذاهب :

وأما ترك المذاهب كلها ، فعزو هذا إلى الدعاة إلى السنة لا يخلو مما يوهم خلاف ما هم عليه ، ودفعاً لذلك أرى أنه لا بد من بيان رأيهم في المذاهب وموقفهم منها فأقول :

من المعلوم عند العلماء أن المذاهب الأربعة وغيرها ليست آراؤها متفقة في كل الأحكام الشرعية ، بل هي فيها على ثلاثة أقسام :

قسم منها متفق عليه ، كتحريم التشبه بالكفار -مثلاً-.

وقسم فيه خلاف ، ولكنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، مثل أدعية الاستفتاح والتشهد .

وقسم فيه اختلاف شديد لا يمكن الجمع بين الآراء المختلفة فيه بوجه من وجوه الجمع المعروفة لدى العلماء ، مثل : مس الرجل المرأة ونقض الوضوء به ، فإن فيه ثلاثة أقوال مشهورة : النقض ، وعدمه ، والفرق بين أن يكون المس بشهوة فينقض وإلا فلا.

وإذا كان الأمر كما فصلنا ، فكيف يعزو الشيخ للدعاة إلى السنة أنهم " يرون ترك المذاهب كلها " ! مع أن هذا الترك يستلزم الإعراض عما فيها من الحق المسلم به لديهم ؟! أليس هذا من الأدلة الكثيرة على أن الشيخ لا يتحرى الصواب حين يتهم خصومه في الرأي بما هم براء منه ؟

ولعلم أنصار السنة بما سبق من التفصيل يضطرون إلى أن يبحثوا عن الحق في المذاهب كلها ، ليس خارجاً عنها ، ولا في مذهب معين منها ، وهذا البحث قد بين لهم فضل أئمة المذاهب ، وعلمهم ، ودقة فهمهم للكتاب والسنة ، وتنبهوا بسبب ذلك لكثير من دقائق المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة ، فاستفادوا بسببهم علوماً كثيرة في أوقات يسيرة ، لولاهم لما وصلوا إليها ، فجزاهم الله عن المسلمين خيراً.

 

ولهذا فإن أنصار السنة أعرف بفضل الأئمة وعلمهم من أتباعهم الذين يقلدونهم على جهل بطرق الاستنباط والاستدلال ، والله تعالى يقول : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ).

 

هذا ، ثم إن الدعاة إلى السنة لما تبين لهم بعد البحث في المذاهب أن فيها الخلاف المذكور في القسم الثالث ، لم يجيزوا لأنفسهم أن يتمسكوا بمذهب معين فيها ، لأنهم علموا أن الصواب في الخلاف المذكور ليس محصوراً في مذهب واحد منها ، بل هو مشاع بين جميعها ، فالحق في المسألة الفلانية في المذهب الفلاني ، وفي المسألة الفلانية في المذهب الفلاني وهكذا سائر المسائل ، فلو أنهم تمسكوا فيها بالمذهب لأضاعوا كثيراً من الحق الوارد في المذاهب الأخرى وهذا لا يجوز عند مسلم عارف .

ولما كان لا سبيل لمعرفة الحق مما اختلف فيه الناس إلا بالرجوع إلى السنة على ما بيناه فيما سبق ، جعلها الدعاة إلى السنة الأمل الذي يرجعون إليه ، والأساس الذي يبنون آراءهم وأفكارهم عليه .

 

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنه لما كان الأئمة قد بذلوا جهوداً مشكورة في سبيل توضيح السنة وتقريبها للناس وبيان الأحكام الممكن استنباطها منها ، فإن الدعاة إلى السنة لا يسعهم إلا الاستفادة من علمهم والاستعانة بآرائهم على فهم الكتاب والسنة ، وبذلك يجمعون بين المحافظة على الأصل ( السنة ) وبين تقدير الأئمة قدرهم اللائق بهم ، وذلك مما وصى به السلف أتباعهم ، فقال عبد الله بن المبارك -رضي الله عنه-: " ليكن الأمر الذي تعتمدون عليه هذا الأثر ، وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث "  .

ذلك رأي الدعاة إلى السنة في المذاهب ، وذلك موقفهم من أئمتها ، فهل فيه ما يحمل المنصف على الطعن بهم والتنفير منهم ؟ أم ذلك ما ينبغي أن يكون عليه كل مسلم عرف الفرق بين كلام المعصوم وكلام غيره ، ثم لم ينس الفرق بين الغاية والوسيلة ؟

 

8- التقاء الطنطاوي مع الدعاة إلى السنة في ترك المذهب اتباعاً للسنة:

بعد هذا البيان أستطيع أن أقول : إن موقف الصديق الطنطاوي من المذاهب لا يختلف كثيراً عن موقف دعاة السنة منها ، ذلك لأن الطنطاوي يرى الخروج من المذهب جائزاً ، بدليل إنكاره في مقاله هذا " مشكلة " على من " يرى الإسلام في اتباع مذهب من المذاهب الأربعة والوقوف عندما أفتى به متأخرو فقهائه . . . " ويؤيد هذا قوله في مقدمة كتاب " قانون الأحوال الشخصية " (ص / 6):

" ومن السياسة الشرعية أن يفتح للناس باب الرحمة من الشريعة ، ويؤخذ من غير المذاهب الأربعة ، ما يؤدي إلى جلب مصلحة عامة أو دفع ضرر عام " .

وعلى هذه السياسة جرى حضرة الصديق في " مشروع الأحوال الشخصية " الذي تحدث عنه في المقدمة المذكورة ، فخالف فيه مذهبه الحنفي في مسائل كثيرة ، أكتفي بذكر مسألتين منها على سبيل المثال : 1- قال الشيخ في المقدمة (ص / 5) : " وقد عدل المشروع عن المذهب الحنفي الذي يحدد أقل المهر بعشرة دراهم إلى المذاهب الثلاثة التي لا تجعل لأقله حداً " . 2- ثم قال فيها (ص / 6 - 7): " نص أيضاً ( يعني المشروع ) على وقوع طلقة واحدة بالطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة أخذاً بما رواه مسلم في صحيحه من أن طلاق الثلاث كان يقع واحداً على عهد رسول الله (ص) إلخ . . .) وبرأي ابن تيمية ".

 

والواقع أن حضرة الشيخ الطنطاوي قد وفق للصواب فيما ذهب إليه في هاتين المسألتين ، وقد بين هو في المسألة الأولى خلافه للمذهب الحنفي ، وذهابه إلى المذاهب الثلاثة .

وأما المسألة الأخرى فخلافه فيها أشد لأن أحداً من أئمة المذاهب الأربعة لم يأخذ بحديث مسلم الذي ذكره هو ، وان أخذ به غيرهم من الأئمة .

وما ذهب إليه الشيخ في هاتين المسألتين ، هو مذهب الدعاة إلى السنة ، قبل أن يكتبهما الشيخ في مشروعه بسنين .

وقد رأيت أنه في المسألة الثانية إنما ذهب إلى خلاف الأئمة الأربعة أخذاً بالحديث وبرأي ابن تيمية ، وهذا هو عين ما يصنعه الدعاة إلى السنة ، فإنهم يأخذون بالحديث الصحيح مدعمين فهمهم إياه بتبني بعض الأئمة له كابن تيمية ومن قبله من أئمة الفقه والحديث ، فما بال الشيخ ينكر عليهم هذا وهو معهم فيه فعلاً ؟!

 

وخلاصة القول : إن الدعاة إلى السنة لا يتركون المذاهب كلها جملة وتفصيلاً ، بل إنهم يحترمونها ويقدرون أئمتها ، ويستعينون بها على فهم الكتاب والسنة ، ثم يتركون من أقوالهم وأرائهم ما تبين أنه على خلاف الكتاب والسنة ، وذلك من تمام إجلالهم واتباعهم ، كما قال أبو الحسنات اللكنوي في " الفوائد البهية في تراجم الحنفية " بعد أن ذكر أن عصام بن يوسف البلخي من أصحاب أبي يوسف ومحمد كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه ، قال أبو الحسنات (ص / 116) : " يعلم منه أن الحنفي لو ترك في مسألة مذهب إمامه لقوة دليل خلافه لا يخرج به عن ربقة التقليد ، بل هو في عين التقليد في صورة ترك التقليد ، ألا ترى إلى أن عصام بن يوسف ترك مذهب أبي حنيفة في عدم الرفع ومع ذلك هو معدود في الحنفية " .

قال : " وإلى الله المشتكى من جهلة زماننا حيث يطعنون على من ترك تقليد إمامه في مسألة واحدة لقوة دليلها ويخرجونه عن جماعة مقلديه ، ولا عجب منهم فإنهم من العوام ، إنما العجب ممن يتشبه بالعلماء ، ويمشي مشيهم كالأنعام. "

 

2- ثم قال الشيخ الطنطاوي تفريعاً على ما ذكر في الفقرة الأولى من المقال ، عن الدعاة إلى السنة :

" فكل من استطاع أن يقرأ في البخاري ومسلم ومجمع الزوائد وأن يفتش عن اسم الراوي في التقريب والتهذيب ، وجب عليه الاجتهاد وحرم عليه التقليد ".

 

أقول : في هذه الكلمة ما يوهم أيضاً خلاف ما عليه الدعاة إلى السنة وإليك البيان :

 

9- تعريف التقليد وبيان ما يحرم منه وما يجب:

 

من المقرر عند العلماء أن التقليد هو " أخذ القول من غير معرفة دليله " ومعنى ذلك أن التقليد ليس بعلم ، ولذلك جزم العلماء بأن المقلد لا يسمى عالماً  ، بل نقل الاتفاق على ذلك ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (2 / 36 ، 117) وابن القيم في " إعلام الموقعين " (3/293) والسيوطي وغيرهم من المحققين ، حتى بالغ بعضهم فقال : " لا فرق بين يهيمة تقلد وإنسان يقلد " ! وأطلق بعض الحنفية عليه اسم الجاهل ! فقال صاحب الهداية في صدد الكلام على تولية المقلد على القضاء : " فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا ، خلافاً للشافعي "  .

ولذلك قالوا : إن المقلد لا يجوز له الإفتاء.

 

فإذا عرف هذا يظهر السبب الذي من أجله حمل السلف على التقيلد والمقلدين وصرحوا بذمه وتحريمه  . ذلك لأنه يؤدي بصاحبه إلى الإعراض عن الكتاب والسنة في سبيل التمسك بآراء الأئمة وتقليدهم فيها ، كما هو الواقع بين المقلدين ، مما هو مشهور عنهم ، بل هو ما قرره بعض متأخريهم من الحنفية ، فقال الشيخ محمد الخضري في صدد الكلام عن دور التقليد وأهله :

" . . . ولا يستجيز الواحد منهم لنفسه أن يقول في مسألة من المسائل قولا يخالف ما أفتى به إمامه ، كأن الحق كله نزل على لسان إمامه وقلبه ! حتى قال طليعة فقهاء الحنفية في هذا الدور وامامهم غير منازع وهو أبو الحسن عبيد الله الكرخي : " كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة ، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ " وبمثل هذا أحكموا دونهم إرتاج باب الاختيار "  .

 

وقد استولى هذا التوجيه الخاطئ على قلوب كثير من المقلدة، لا سيما في الأزمنة المتأخرة ، بحيث صار من المعروف المشهور ردهم السنن الصحيحة اتباعاً للمذهب فإذا قيل لأحدهم : هذه المسألة التي ذكرتها خلاف السنة ، بادرك بقوله : أأنت أعلم بالسنة من علماء المذهب ؟! لا يجوز العمل بالحديث لغير المجتهد ! هذا جوابهم جميعاً لا فرق في ذلك بين عاميهم وعالمهم !

وهم حين يجيبونك بهذا الجواب الذي لا يمكن أن يصدر ممن عرف قدر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأدب معه ، يجهلوم أو يتجاهلون أن الحديث الذي لم يأخذ به مذهبهم قد قال به مذهب آخر أو إمام آخر ليس هو دون مذهبهم أو إمامهم ، فالذي ذهب إلى الحديث يكون قد أخذ به وبالمذهب الذي عمل به ، بينما مخالفه إنما يعمل بالمذهب فقط !

قد يقال : إن المذهب لابد له من دليل ولكنا لا نعلمه ، فنقول :إذا كان الأمر كما تقول فكيف يجوز لمسلم أن يترك الدليل الذي عرفه وهوحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لدليل لا يعلمه ، وقد يكون لو علمناه قياساً أو استنباطاً من عمومات أو كليات الشريعة لا ينهض تجاه الحديث إذ لا اجتهاد في مورد النص ، واذا ورد الأثر بطل النظر ، واذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ؟

 

هذا التقليد الذي هو رد الحديث انتصاراً للمذهب ونحوه هو الذي يحرمه دعاة السنة ، ويدعون المسلمين جميعاً إلى الخلاص منه ، بالرجوع إلى اتباع السنة أينما كانت ، وفي أي مذهب وجدت.

 

وأما تقليد المسلم من هو أعلم منه حين لا يجد نصاً عن الله ورسوله ، أو حين لا يمكن الفهم عنهما فليس مما نحن فيه ، بل لا يتصور أن يقول بتحريمه مسلم ، لأنه مضطر إليه ، والضرورات تبيح المحظورات ، ولولا ذلك لصار الدين هوى متبعاً -والعياذ بالله تعالى-. ولهذا ذكر العلماء : " إن التقليد إنما يباح للمضطر ، وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد ، فهو كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكى ، فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة "  .

 

10- الفرق بين التقليد والاتباع :

 

ولا يليق بالعاقل البصير في دينه أن يفهم مما سبق من بيان تحريم التقليد ، أن الاجتهاد واجب على كل مسلم مهما كان شأنه في العلم والفهم ، فإنه خطأ بين ، ويظهر أن الشيخ سبق إليه هذا الفهم مما بلغه من تحريم دعاة السنة للتقليد ، فاستلزم من ذلك أنهم يوجبون الاجتهاد على كل مسلم ، مهما كانت منزلته في العلم ، وذلك واضح من كلمته في هذه الفقرة وهو قوله : " وجب عليه الاجتهاد وحرم عليه التقليد " فجعل الاجتهاد مقابل التقليد ! وهذا خطأ بين عندنا ، لأن الذي يقابل التقليد المحرم ، هو الاتباع الواجب على كل مسلم ، وبينهما فرة ظاهر ، قال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي : " التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والاتباع ما يثبت عليه حجة ، وقال في موضع آخر : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح ، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه ، والاتباع في الدين مسوغ ، والتقليد ممنوع "  .

 

وأما الاجتهاد فمن المعلوم أنه " بذل الوسع لمعرفة الحكم من كتاب الله وسنة رسوله " ولا شك أنه فرض كفائي لا يجب على كل مسلم ، بل لا يستطيعه إلا القليل منهم ، بل قد ندر المجتهدون اليوم بسبب غلبة التقليد على العلماء والقيود التي وضعوها للمجتهد ، ومن العجائب أن الذين اشترطوا تحقق تلك الشروط في العالم حتى يسوغ له الاجتهاد هم من المقلدة الذين لا يدينون إلا بما قال إمامهم ! فهم في الواقع متناقضون ، يمنعون الاجتهاد ويوجبون التقليد ، ثم هم يجتهدون ولا يقلدون ، وليتهم إذا اجتهدوا أصابوا الحق ولم يخطئوه !

ويطول بنا المقام لو أردنا أن نذكر الأدلة على ذلك ، فأكتفي بمثال واحد يراجع في التعليق  .

 

والذي أراه أن ( الاجتهاد ) ليس عسيراً كما يظن البعض بل هو ميسور لمن كان عنده أهلية الخطاب ، وفهم أدلة ما يحتاجه من أدلة الكتاب والسنة ، وبتعبير آخر إن الذي عنده أهلية لفهم كتب المذاهب وعباراتهم ، سيما ما كان منها للمتأخرين فإنها تشبه الألغاز أحياناً ، يستطيع أن يفهم كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، فإنهما بدون ريب أبين وأوضح من كل ما سواها من الكلام ، خصوصاً إذا استعان على ذلك بكتب أهل العلم من التفسير ، وشروح الحديث ، وبمبسوطات الفقه ، التي تتعرض لذكرأدلة المختلفين ، كالمجموع للنووي ، وفتح القدير لابن الهمام ، ونيل الأوطار للشوكاني ونحوها ، ومن أنفعها كتاب " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " للعلامة ابن رشد ، فإنه إنما ألفه لإعداد طلاب العلم للوصول إلى رتبة الاجتهاد ، كما صرح بذلك في الكتاب نفسه  .

 

وخلاصة القول : إن الدعاة إلى السنة لا يوجبون الابتهاذ إلا لمن كان عنده أهلية ، وانما يوجبون الاتباع على كل مسلم ، ويحرمون -اتباعاً للسلف- التقليد إلا عند الضرورة وعدم الوقوف على السنة ، فمن نسب إليهم خلاف هذا فقد تعدى وظلم ، ومن طعن فيهم بعد هذا فإنما يطعن في السلف ، وفيهم الأئمة الأربعة وان ادعى أنه سلفي ! إذ ليست السلفية إلا فهم ما كان عليه السلف الصالح ، ثم السير على ذلك ، وعدو الخروج عنه.

 

ومما سبق يتبين للقارىء الكريم خطأ قول الأستاذ الطنطاوي في تمام الفقرة الرابعة : " وإن المحدثين كالصيادلة والفقهاء كالأطباء ، والصيدلي يحفظ . . . " فإن هذه الكلمة على إطلاقها تجرد المحدثين من صنعة الفقه والفهم لما يحملون من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما أنها تجرد أيضاً الفقهاء من العلم والاطلاع على حديثه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يخفى ما في ذلك من الطعن في الفريقين معاً. وأنا لا أنكر أن يكون في الفقهاء من هو أفقه من بعض المحدثين ، كيف وقد أشار لهذا قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور عنه : " نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره ، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "  ولكن ليس معنى ذلك أنه يسوغ لنا وصف المحدثين إطلاقاً بعدم الفقه ، كما هو ظاهر عبارة الشيخ ، فإن الحديث المذكور صريح في ردها حيث قال : " رب حامل فقه ليس بفقيه . . . " فأشار إلى قلة ذلك في المحدثين ، لأن الأصل في " رب " أنها للتقليل ، وكيف لا يكون الأصل في حق المحدثين ما ذكرناه ، وهم ممن عاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك "  قال ابن المديني : هم أصحاب الحديث ، والذين يتعاهدون مذهب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويذبون عن العلم ، لولاهم لأهلك الناس المعتزلة والرافضة والجهمية وأهل الأرجاء والرأي  .

 

ثم إنما تظهر الفائدة من التفريق بين معرفة الحديث ، وبين استنباط الأحكام منه والتفريق بين المحدث والفقيه في مسألة اختلف فيها الطرفان ودليل كل منهما هو عين دليل الآخر ، وإنما الخلاف في فهمه وتطبيقه ، ففي هذه الصورة يمكن ترجيح رأي الفقيه على رأي المحدث ، وهذا على كل حال بالنسبة للمقلد الذي لا معرفة عنده بطرق الترجيح ! وأما بالنسبة للمتبع فقد يترجح عنده رأي المحدث على رأي الفقيه لأدلة ظهرت له .

وأما إذا كان منشأ الخلاف بين الطرفين إنما هو اختلاف الدليل فأحدها يحتج بالحديث والآخر بالرأي والقياس أو بحديث ضعيف ، فههنا لا تظهر الفائدة من التفريق الذي ذكره الشيخ ، بل تكون النتيجة خلاف ما قصد إليه الشيخ -حفظه الله تعالى-، ولنوضح هذا بمثال: رجل سها فصلى الظهر خمساً ، فالحنفية تقول إن هذه الصلاة باطلة إن لم يكن قعد قدر التشهد وسجد في الخامسة ، وان كان قعد في الرابعة قدر التشهد فقد تمت له الظهر والخامسة تطوع ، وعليه أن يضيف إليها ركعة ثم يتشهد ويسجد سجدتي السهو ، وهذا يخالف مخالفة ظاهرة حديث الشيخين ، عن ابن مسعود قال : صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر خمساً فقيل له أزيد في الصلاة ؟ قال : " وما ذاك " ؟ قال : صليت خمساً ، فسجد سجدتين بعدما سلم فليس في الحديث ما يقوله الحنفية من إضافة الركعة السادسة ، ولا أنه -صلى الله عليه وسلم- جلس للرابعة ، ولهذا ذهب إلى ظاهر الحديث الجمهور فقالوا : من صلى الظهر خمسا يكفيه سجدتا السهو ، ولو لم يقعد في الرابعة .

فههنا نسأل فضيلة الشيخ : هل الفرق الذي ذكرته له تأثير في هذه المسألة وأمثالها ، بمعنى هل يجوز للمحدث الذي نشأ مثلاً على المذهب الحنفي أن يأخذ بهذا الحديث ولو خالف المذهب ، أم تقول : إنه يجب عليه التمسك بالمذهب ولو خالف الحديث بناء على " إن المحدثين كالصيادلة والفقهاء كالأطباء " ؟ فإن قلت بالأول فقد وافقت الدعاة إلى السنة فإنه الميدان الذي يدعون الناس إليه ، وان قلت بالثاني  -لا سمح الله- فهو مخالفة للكتاب والسنة ، وخروج عن تقليدك لإمامك الذي أمرك بتقديم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قوله ! كما أنه يلزمك أن تصف الجمهور من الأئمة الذين أخذوا بظاهر هذا الحديث بأنهم كالصيادلة ، والذين خالفوه كالأطباء !!

 

أيها الصديق ، إن الفهم في الدين ليس محصوراً بطائفة دون أخرى ، فلا يلزم من اختصاص البعض في علم الفقه أن يكون مصيباً في كل ما يستنبطه من الشرع كما لا يلزم من اختصاص الآخر في علم الحديث أن يكون مخطئاً في كل ما يستنبطه منه ، فالمرجع إذن هو الدليل ، فمن قام الدليل على إصابته ومعرفته للحق فيما اختلف فيه الناس كان هو الفقيه سواء كان معروفاً بالتخصص في الحديث أو الفقه ، ولذلك كان الأحرى بك أن ترد على أنصار السنة في بعض المسائل التي تراهم أخطأوا فيها الحق على ما تقتضيه الأدلة الشرعية لا حسبما يلزم من المذهبية الضيقة ، إنك لو قبلت ذلك لظهر للناس أي الفريقين أهدى سبيلا ، ولساعد ذلك المسلمين على السير في هذا المنهج العلمي الجديد ، الذي يعين على كشف الحقائق ، وتقريب وجهة الخلاف بين المسلمين ما استمروا فيه.

 

4- ثم قال الشيخ : " وإن الصحابة أنفسهم لم يكن فيهم إلا مئة ممن يفتي ، وإن مئة الألف من المسلمين الذين توفي عنهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا يرجعون إلى هذه المئة ولا يجتهدون لأنفسهم " . قلت : وهذه هفوة من الشيخ -حفظه الله- ، فمن أين له أنه لم يكن في الصحابة إلا هذا العدد من المفتين ؟! ونحن نقطع بأنهم كانوا أكثر من ذلك بكثير لأنه اللائق بفضلهم وصحبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كنا لا نستطيع أن نعين عددهم إلا أنه قد نص من قوله حجة في هذا الموضوع على عدد أكثر مما ذكره الشيخ ، بل جزم بأن كل من تشرف بصحبته -صلى الله عليه وسلم- والتلقي من علمه أفتى الناس ، فقال الإمام ابن حزم  : " وكل من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ عنه أفتى أهله وجيرانه وقومه ، وهذا أمر يعلم ضرورة ، ثم لم ترو الفتيا في العبادات والأحكام إلا عن مائة ونيف وثلاثين منهم "  .

 

تعقيب الأستاذ على الطنطاوي

1- أنا أولاً ، لست ممن يتألم أو يغضب إن رد عليه ، والرجوع عن رأي أعلنته ، وظهر لي خطؤه ، أهون علي من شربة الماء . 2- وقد قرأت رد الشيخ ناصر ، منتظراً أن أرى فيه ما يظهر لي خطأ رأيي ، فلم أجد فيه رداً ، بل وجدته قد انتهى هو إلى مثل رأيي أنا.

 

3- وأنا أقول : ( وقد أعلنت هذا في محاضرة مطبوعة ألقيتها سنة 1350 هـ ) إن الله إنما تعبدنا بالكتاب والسنة ، وإن الاجتهاد أصل ، والتقليد ضرورة ، وإنه ليس كل ما قال الفقهاء على درجة سواء فما كان مستنداً فيه إلى نص فهذا هو القول الملزم ، وما كان عن اجتهاد فهذا الذي قيل في مثله : إن تغير الأزمان لا يغير الأحكام .

4- ولكن المسألة هي: هل إن كل مسلم ، حتى الجاهل الأمي يأخذ الأحكام رأساً من الكتاب والسنة ، أم أن هنالك شروطاً للاجتهاد ؟ هناك شروط ، والإطلاع على طرق الحديث ، والاتساع في روايته ( وهذا ما نقر به للشيخ ناصر ) لا يكفي للاجتهاد ، بل لا بد مع ذلك من دراسة الفقه والوقوف على علم الخلاف ، والتمكن من العربية علماً وسليقة ، ومعرفة أسباب نزول الآية وورود الحديث ( أي ظروف النص ) ، والوقوف على أعراف الناس وأوضاعهم ، إلخ  ما هنالك وشروطه.

وهذا ما تضمه كلامي ، الذي جاء الشيخ ناصر ، يرد عليه فعاد إليه.

 

5- وإذا كان الشيخ ناصر يستطيع الاجتهاد ، فأهلاً و سهلاً ، ولكن لا في العبادات فقط ، فهذه مسائل فيها نصوص كئيرة ، وقد فرغ منها ، وكل ما يأتي به قد أتى به ناس من قبل ، ولكن ليتفضل فليأخذ القانون المدني ( الذي ابتلينا به مع الأسف ) وليبين لنا حكم الله في كل مادة منه ، بدليل من الكتاب والسنة .

6- وأنا أشكر لأخي على كل حال ما بذل من جهد في إعداد هذا البحث والسلام عليه ورحمة الله.

*** *** ***

4- نقد كتاب ( التاج ) في الحديث

 

منذ بضع سنين جمعني مجلس مع أحد الطلاب للعلم الشرعي فجرى البحث فيه حول بعض السنن النبوية التي هجرها الناس جهلاً بها أو غفلة عنها ، ومنها وضع اليدين على الصدر في الصلاة ، فذكر الطالب المشار إليه أن من السنة وضعهما تحت السرة .

فقلت له : إنها لا تثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فقال : بلى إنها ثابتة !

 

ثم جاءني بكتاب " التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول " تأليف الشيخ منصور علي ناصف من علماء الأزهر ، وأراني فيه (ص 188 ج 1) الحديث المعروف عن علي رضي الله عنه قال : " السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة " وقال في تخريجه : " رواه أبو داود وأحمد " وعلق عليه بقوله : " فالسنة وضعهما تحت السرة . . . ".

 

فقلت له : إن هذا الحديث ضعيف باتفاق علماء الحديث ، فلم يقبل ذلك مني بحجة أن أبا داود سكت عليه ، بناء على سكوت المؤلف عليه !

 

فقلت : لو سكت أبو داود عليه فلا حجة فيه بعد تبين علة الحديث واتفاق العلماء على تضعيفه ، وفي سنن أبي داود كثير من الأحاديث الضعيفة وقد سكت عنها أبو داود ، وهو إنما تعهد أن يبين ما فيه وهن شديد ، وأما الضعيف فقط الذي لم يشتد ضعفه فلم يتعهد بيانه كما هو مشروح في " مصطلح الحديث " ، ومع ذلك فإن أبا داود لم يسكت على هذا الحديث بالذات ، بل عقبه ببان ضعفه وعلته فقال : " سمعت أحمد بن حنبل يضعف عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي " يعني أحد رواة الحديث ، ثم أحلته في الاطلاع على تفصيل القول في تضعيف الحديث عل كتاب " المجموع " للنووي و " نصب الراية " للزيلعي ، وذكرت له أن الأحاديث الصحيحة تصرح بخلاف هذا الحديث ، وأن السنة وضع اليدين على الصدر لا تحت السرة .

 

وكنت من قبل لا علم لي بهذا الكتاب ( التاج ) ، فلما أطلعني ذلك الطالب على الحديث المذكور فيه راعني منه سكوت المؤلف عن تضعيف أبي داود للحديث حتى توهم الطالب أنه صالح ! فكان ذلك حافزاً لي على تتبع أحاديث أخرى منه ، فتبينت لي أخطاء أخرى كثيرة فيه ، فاندفعت أدرس الكتاب من أوله حديثاً حديثاً دراسة فحص وتدقيق إلى آخر الجزء الأول منه ، فهالني ما فيه من الأخطاء الفاحشة التي توحي بأن المؤلف -مع احترامنا لشخصه- لا علم عنده بالحديث وعلومه ورواته .

 

ثم حالت ظروف علمية بيني وبين الاستمرار في نقد ( التاج ) وبيان أخطائه المتكاثرة المختلفة ، ولكني تيقنت من دراستي المشار إليها أن الكتاب لا يصلح أن يعتبر من المصادر الحديثية التي ينبغي الرجوع إليها والاعتماد عليها ، وان كان المؤلف قد زينه بتقاريظ كثيرة " لحضرات أصحاب الفضيلة علماء الإسلام " جاء في بعضها : " إني وجدت الكتاب إلى الخير هادياً وإلى صحيح السنة مرشداً " وفي بعضها : " إني أعد ظهور هذا الكتاب في هذا الزمن . . . معجزة من معجزاته -صلى الله عليه وسلم- . . . " إلى غير ذلك مما جاء في تقاريظهم التي تدل على الأقل أن فضيلتهم لم يدرسوا الكتاب دراسة إمعان وتدبر بل مروا عليه مر السحاب.

 

ولذلك فقد ظللت أنصح كل من يسألني عن الكتاب أن لا يقتنيه ، وأن يستعيض عنه بغيره من الكتب الجامعة المؤلفة قبله ، فإنها أقل بكثيرخطأ منه لا سيما كتاب " بلوغ المرام " للحافظ ابن حجر ، فإنه على اختصاره منقح مصحح ، إلى أن كان يوم الأحد السابع والعشرين من شهر محرم الحرام سنة 1379 فجاءني أحد الشباب المؤمن المثقف فسألني عن الكتاب ورأيي فيه فأخبرته به وضربت له بعض الأمثلة فهاله ذلك ، وحضني على نشر ما كتبته عن الجزء الأول منه ، أو نشر فكرة عامة عن الكتاب حتى يكون الناس على علم بحقيقته لا سيما وقد طبح الكتاب طبعة ثانية ! فوعدته خيراً .

 

ثم نظرت في الأمر فرأيت أن نشر نقد الجزء الأول كله يقتضي أن أتوجه إلى نقد بقية أجزاء الكتاب الخمسة وهذا يتطلب مني سعة من الوقت والفراغ ، وهذا مما لا سبيل إليه ولا يمكن الحصول عليه ، ولذلك فقد بدا لي أن اكتب كلمة جامعة عن الكتاب ألخص فيها رأيي فيه ، وأحصر فيها أنوع الأخطاء التي وردت فيه مع ضرب أمثلة لكل نوع منها حتى يكون القاريء الكريم على بينة مما أقول فيه .

 

والله تعالى يشهد أنه ليس لي غرض من وراء ذلك إلا نصح الأمة وخدمة السنة وتطهيرها من الأخطاء التي قد تلصق بها باجتهاد خاطيء أو رأي غير ناضج .

 

أسأل الله عز وجل أن يلهمني الصواب في القول والعمل ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم .

 

إن الأخطاء الواردة في ( التاج ) من الكثرة بحيث لا يمكن إحصاؤها في هذه الكلمة ، ولذلك فإني أقتصر فيها على ذكر رؤوس هذه الأخطاء وأهمها ، فأقول ، وبالله أستعين:

 

أخطاء ( التاج ) بالجملة

 

يمكن حصر الأخطاء المشار إليها على الوجه الآتي:

 

1- تقويته للأحاديث الضعيفة والموضوعة .

 

2- تضعيفه للأحاديث القوية ، وهذا النوع والذي قبله أخطر شيء في ( التاج ).

 

3- نقله الأحاديث من كتب أخرى غير الأصول الخمسة التي ألف كتابه منها وخاصة في التعليق عليه ، فإنه ينقل فيه ما هب ودب من الحديث ، مما لا أصل له البتة في كتب السنة ، أو له أصل لكنه منكر ، أو موضوع دون أن ينبه عليها ، أو يشير أدنى إشارة إليها !

 

4- سكوته عن تضعيف الحديث ، مع أن من عزاه إليه قد صرح بضعفه أو أشار إليه ! وليس هذا من الأمانة العلمية في شيء !

 

5- عزوه الحديث إلى أحد أصحاب الأصول الخمسة وهو لم يخرجه !

 

6- تقصيره في تخريج الحديث ، فإنه يعزوه لأحد أصحاب الأصول وهو عند سائرهم أو بعضهم وقد يكون من أصحاب الصحيح ، وهذا عيب كبير عند أهل الحديث كما هو واضح .

 

7- إطلاقه العزو إلى البخاري ، وهو يفيد عند أهل العلم أنه عنده في صحيحه ، وليس الحديث فيه ، بل في غيره من كتبه كخلق أفعال العباد وغيره التي لا يتقيد فيها البخاري بالحديث الصحيح بخلاف كتابه " الجامع الصحيح " الذي اشترط أن يورد فيه أصح ما عنده ، فيوهم المؤلف أن الحديث في " الصحيح " وقد يكون غير صحيح !

 

8- إطلاقه العزو للصحيحين وهو يفيد عندهم أنه عندهما متصل الإسناد منهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، والواقع أنه عندهما معلق بدون سند فيوهم المؤلف بذلك أنه صحيح مسند ، وقد يكون صاحب الصحيح قد أشار لضعفه ، فتأمل كم في هذا الإطلاق من البعد عن الصواب ! وقد يطلق العزو إلى غير الصحيحين أيضاً ، وهذا أيسر ، إلا إذا أشار لضعفه وسكت عليه المؤلف !

 

9- قوله في الحديث الذي رواه أبو داود ساكتاً عليه " إسناده صالح " فيوهم بذلك القراء الذين لا علم عندهم باصطلاحات العلماء أنه صالح حجة أي أنه حسن أو صحيح ، كما هو الاصطلاح الغالب عند العلماء ، وهو المتبادر من هذه اللفظة ( صالح ) ، مع أن فيما سكت عليه أبو داود كثيراً من الضعاف ، ذلك لأن له فيها اصطلاحاً خاصاً ، فهو يعني بها ما هو أعم من ذلك بحيث يشمل الضعيف الصالح للاستشهاد به لا للاحتجاج كما يشمل ما فوقه ، على ما قرره الحافظ ابن حجر ، فما جرى عليه بعض المتأخرين من أن ما سكت عليه أبو داود فهو حسن ،  خطأ محض ، يدل عليه قول أبي داود نفسه " وما فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح ، وبعضها أصح من بعض " فهذا نص على أنه إنما يبين ما فيه ضعف شديد ، وما كان فيه ضعف غير شديد سكت عليه وسماه صالحاً ، من أجل ذلك نجد العلماء المحققين يتتبعون ما سكت عليه أبو داود ببيان حاله من صحة أو ضعف ، حتى قال النووي في بعض هذه الأحاديث الضعيفة عنده: " وإنما لم يصرح أبو داود بضعفه لأنه ظاهر " ذكره المناوي ، وعليه كان ينبغي على المصنف أن يعقب كل حديث رواه أبو داود ساكتاً عن ضعفه ببيان حاله تبعاً للعلماء المحققين ، لا بأن يتبعه بقوله " صالح " وإن كان ضعيفاً بين الضعف دفعاً للوهم الذي ذكرنا ، ولأنه لا يفهم منه على الضبط درجة الحديث التي تعهد المؤلف بيانها بقوله المذكور في مقدمة كتابه " كل حديث سكت عنه أبو داود فهو صالح " وسأتبع ذلك في بيان درجة ما رواه بقولي : بسند صالح " وليس في قوله البيان المذكور ، لما حققته آنفاً أن قول أبي داود يشمل الضعيف والحسن والصحيح ، فأين البيان ؟!

 

10- تناقضه في تقليده لأبي داود في كلمته المذكورة آنفاً ، وفي تعهد المؤلف في اتباع ما سكت عليه أبو داود بقوله " صالح " ، فتراه تارة قد وفى بهذا التعهد ، وإن كان فيه ما سبق بيانه في الفصل الذي قبله ، وتارة يسكت عن كثير مما سكت عليه أبو داود خلافاً للتعهد ، وفيه الضعيف والحسن والصحيح ، وأحياناً يعقبه بقوله : " لم يبينوا درجته " ، ورأيته مرة تعقبه في حديث بأن في سنده ضعيفاً ، والحديث صحيح -كما سيأتي بيانه-.

 

11- تقليده للترمذي في التضعيف ، مع أن سنده عند التحقيق حسن أو صحيح نظيف ، وفي التحسين وهو يستحق التصحيح.

 

12- مخالفته للترمذي وغيره في التضعيف ، فيقوي ما ضعفوه وهو مخطئ في ذلك !

 

13- يورد الحديث عن صحابي برواية بعض أصحاب الأصول ، ثم يعطف على ذلك فيقول : " ولأبي داود " ( مثلاً ) فيذكر الحديث بلفظ آخر يوهم أنه عنده عن ذلك الصحابي أيضاً ، والواقع أنه حديث آخر عن صحابي آخر ! وتارة يقول : " رواه فلان وفلان " وتارة يزيد عليه بقوله : " بسند حسن " ، والواقع أنهما إسنادان وقد يكون أحدها صحيحاً ، ولا يخفى ما في ذلك من بخس في الرواية لأن الحديث إما أن يكون ضعيفاً بسنده الأول فيقوى بسنده الآخر ، وإما أن يكون حسناً فيرتقي إلى الصحة بالسند الآخر أو صحيحاً فيزداد صحة.

 

14- يعزو الحديث لجماعة من المخرجين ثم يقول : " فلان سنده كذا وفلان سنده كذا " يغاير بين السندين والسند واحد ، وقد يكون الأول رواه من طريق الآخر ، وهذا من الطرائف !!

 

15- يعزو الحديث لأحدهم من رواية صحابي وهو عنده عن غيره أو لا إسناد له به !

 

16- يزيد في الحديث من عنده ما ليس عند أحد ممن عزاه إليهم بل ولا عند غيرهم ، وتارة يحذف منه ما هو ثابت فيه !!

 

17- يطلق العزو للنسائي ، وهو يعني به سننه الصغرى المعروفة بالمجتبى كما نص عليه في المقدمة ، وكثيراً ما لا يكون الحديث فيه ، بل في غيره من كتبه الأخرى مثل " عمل اليوم والليلة " و" السنن الكبرى " !!

 

18- تحسينه أو تصحيحه لأسانيد الأحاديث التي يقول الترمذي فيها " حديث حسن " أو " حديث صحيح " متوهماً أن الترمذي لا يقول ذلك إلا فيما كان سنده حسناً أو صحيحاً ! وذلك غفلة منه عما ذكره الترمذي نفسه في آخر كتابه ! قال (2 / 340) : " كل حدث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، ولا يكون الحديث شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن ".

 

فهذا نص منه على أنه يحسن الحديث الذي فيه ضعيف غير متهم وله طريق آخر ، فتحسين إسناد الحديث حينئذ لقول الترمذي فيه " حديث حسن " خطأ واضح ، بل لابد من النظر في سنده وأن يعطى له ما يستحق من ضعف أو حسن أو صحة ، شأنه في ذلك شأن الأحاديث التي سكت عليها أبو داود ، وقد عرفت الحق فيها -كما تقدم-.

 

19 – اعتماده على التوثيق الواهي دون التضعيف الراجح .

 

*** *** *** *** ***

القسم الثاني : الردود :

 

1- حول إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر

 

قرأت في باب " الفتاوى " من مجلتكم الزاهرة (ص 354 مجلد 20) ما نصه : سئلنا عن السفر الذي يبيح الفطر في رمضان ؟!

 

وخلاصة الجواب : إن جمهور العلماء حددوه بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة قياساً عليه ، وهو الذي تكون مسافته مدة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام -أي سير عشرين ساعة تقريباً- وتقدر هذه المسافة بواحد وثمانين كيلو متراً تقريباً . . . .

وعلى المسافر أن يبيت الصوم ليلة سفره ، وله أن يفطر منذ الفجر إذا أنشأ سفره قبله ، خلافاً لما يفعله كثير من المسافرين جهلاً منهم .

 

أقول : لا يهمني الآن البحث في السفر الذي يقصر فيه الصلاة ويحل فيه الإفطار ، وهل يحد بمسيرة أيام أو كيلو مترات ، أم هو مطلق في كل سفر طويل أو قصير لا يقيد بشيء من القيود المذكورة مادام يطلق عليه اسم السفر شرعاً ولغة ، كما هو مذهب كثير من العلماء المحققين ، لا أريد الآن البحث فيه ، فإن له مناسبة أخرى -إن شاء الله تعالى ، وإنما توجهت النية إلى الكلام على ما جاء في آخر هذه الفتوى من قوله : " وله أن يفطر منذ الفجر إذا أنشأ . . . " .

 

فأقول :

لقد عظم علي هذا القول جداً ، لأمرين أحدهما أهم من الآخر:

 

الأول : أن السنة الصحيحة تجيز صراحة ما نسبه صاحب الإفتاء إلى فعل الجهال ، وفيه أحاديث كثيرة أجتزيء الآن بواحد منها لقوة سنده ووضوح دلالته ، ألا وهو حديث أنس -رضي الله عنه- .

 

قال محمد بن كعب -رضي الله عنه : " أتيت أنس بن مالك في رمضان ، وهو يريد السفر ، وقد رحلت دابته ، ولبس ثياب السفر ، وقد تقارب غروب الشمس ، فدعا بطعام ، فأكل منه ، ثم ركب ، فقلت له : سنة ؟ فقال : نعم ".

 

أخرجه الترمذي وحسنه ، والبيهقي والسياق له ، وإسنادهما صحيح على شرط الشيخين   ، وترجم البيهقي بـ " باب من قال : يفطر وإن خرج بعد طلوع الفجر " .

 

والحدث صريح في هذا ، بل هو يدل على أكثر من ذلك ، وهو جواز الإفطار قبل الخروج بعد التأهب ، ولذلك قال ابن العربي المالكي : " وأما حديث أنس فصحيح يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر ، حتى ذكر أن قوله : " من السنة " لابد من أن يرجع إلى التوقيف ، والخلاف فى ذلك معروف فى الأصول " .

 

قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : " والحق أن قول الصحابي " من السنة " ينصرف إلى سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد صرح هذا الصحابي بأن الإفطار للمسافر قبل مجاوزة البيوت من السنة ".

 

الأمر الآخر : إنه قد قال بجواز ذلك جماعة من السلف والأئمة ، فمنهم الإمام أحمد كما في " مسائل أبي داود عنه " (ص 95) ، ومنهم الشعبي والحسن البصري كما في ( البداية ) لابن رشد (1 / 204) ، ومنهم عمرو بن شرحبيل -وهو تابعي مخضرم- رواه البيهقي بسند صحيح عنه ، ومذهب الحنابلة على هذا كما في كتب المذهب ، مثل " كشاف القناع " وغيره ، واستظهره الإمام الصنعاني .

 

فلعل كاتب الفتوى لم يستحضر حين الكتابة هذا الذي أوردناه من السنة ، وأقوال الأئمة ، ولذلك رأيت أنه لابد من أن أنبه إليه وأذكر به ، ( فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) ، والله سبحانه ولي المتقين . والحمد لله رب العالمين .

 

خادم السنة

محمد ناصر الدين الألباني

دمشق

21 / رمضان / سنة 73 هـ

*** *** ***

 

2- حول إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر

 

سبق أن علق الأستاذ الشيخ ناصر الدين الألباني بكلمة على فتوى في هذه المجلة حول هذا الموضوع فبين أن من السنة أن يفطر الصائم في بيته قبل مبارحته ، و قد وردتنا من الأستاذ الشيخ عبد الله بن محمد الهرري – بواسطة الأستاذ الشيخ حمدي الجويجاني – كلمة ذكر فيها أن بعض القراء( ) عرض عليه تلك الكلمة فرآها مستندة إلى حديث ضعيف ، و أطلعنا الأستاذ الألباني على كلمة الأستاذ الهرري ، فأيد ما ذهب إليه من قبل بكلمة جديدة ، فننشر الكلمتين فيما يلي:

 

قال الأستاذ الهرري : (( في جامع الترمذي : باب فيمن أكل ثم خرج سفراً : حدثنا قتيبة حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد سفراً و قد رحلت راحلته و لبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل ، فقلت : سنّة ، قال : سنّة ، ثم ركب .

حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم حدثني محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان فذكر نحوه .

 

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن و محمد بن جعفر هو ابن أبي كثير مدني ثقة و هو أخو إسماعيل بن جعفر .

 

و عبد الله بن جعفر هو ابن أبي نجيح والد علي بن المديني و كان يحيى بن معين يضعفه ، و قد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث و قال : للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج و ليس له أن يقصر حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية و هو قول إسحق .

 

فهذا التحسين من الترمذي مردود فقد ضعف هذا الحديث حافظان أحدهما من المتقدمين و الآخر من المتأخرين :

 

الأول هو الحافظ الناقد أبو حاتم الرازي ، قال ابنه الحافظ عبد الرحمن في (( العلل )) ( ص 240 ) ما نصه : (( سألت أبي عن حديث رواه عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن محمد بن كعب أنه أتى أنس بن مالك في رمضان و هو يريد سفراً فوجده قد رحلت راحلته و لبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلنا : سنّة ، قال : ليس بسنّة .

 

و رواه محمد بن عبد الرحمن  بن مجبر عن ابن المنكدر عن محمد بن كعب أنه أتى أنس بن مالك فذكر الحديث ، قال : فقلت : سنّة ، قال : سنّة ، قال أبي حديث الدراوردي أصح )) أهـ .

 

فهذا هو كما هو ظاهر صريح في أن رواية الترمذي مرجوحة و أن الراجح رواية النفي .

 

و الثاني فهو الحافظ العراقي زين الدين عبد الرحيم شيخ الحافظ ابن حجر قال في شرحه على الترمذي ( يوجد في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة نسخة خطية برقم 168 ) .

 

(( حديث أنس هذا انفرد بإخراجه الترمذي و حسنه لمتابعة محمد بن جعفر لعبد الله بن جعفر و إلا فعبد الله ضعيف كما حكى المصنف تضعيفه عن ابن معين فإنه قال فيه : ليس بشيء ، و قال فيه أبو حاتم الرازي : منكر الحديث جداً ، و قال في النسائي : متروك الحديث ، و قال الفلاّس : ضعيف الحديث ، و قال فيه الدارقطني : كثير المناكير ، و قال أبو حاتم : كان يهم في الأخبار فيأتي بـها مقلوبة و يخطئ في الآثار حتى كأنـها مقلوبة ، و قال ابن عدي : عامة أحاديثه لا يتابعه عليه أحد و هو مع ضعفه ممن يكتب حديثه ، قال صاحب الميزان : و هو متفق على ضعفه . أهـ .

 

قال : و إن الترمذي إنما حسن الحديث لكون عبد الله بن جعفر لم ينفرد به بل تابعه عليه محمد بن جعفر بن أبي كثير المدني و هو ثقة كما قال الترمذي .

 

إذا تقرر هذا فهنا أمر يجب التنبيه عليه فمحل الحجة من الحديث كون أنس قال فيه إنه سنة و حكم الصحابي على ( أمر )( ) بأنه سنة يكون حكمه حكم الحديث المرفوع على ما هو مقرر في علوم الحديث و الأصول و هذه اللفظة إنما رواها على الجزم عبد الله بن جعفر و هو متفق على ضعفه كما تقدم .

 

و أما طريق محمد بن جعفر فلم يسق الترمذي لفظها و إنما قال فذكر نحوه ، و هذا لا يقتضي أنه بلفظه كما هو مقرر في علوم الحديث ، ثم فتشنا عن لفظ رواية محمد بن جعفر بن أبي كثير فوجدناه لم يجزم بـهذه اللفظة كما جزم بـها عبد الله بن جعفر ، رواه كذلك إسماعيل بن إسحق القاضي في كتاب (( الصيام )) .

 

قال : حدثنا عيسى بن مينا قال : حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن ابن المنكدر عن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد سفراً فأكل فقلت : سنّة ؟ ، فلا أحسبه إلا قال : نعم .

 

فهذا لفظ رواية محمد بن جعفر و قد شك بعض رواته في هذه اللفظة و هو عمدة الاحتجاج و لكن قد رواها الدارقطني في سننه عن أبي بكر النيسابوري عن إسماعيل بن إسحق بن سهل عن ابن أبي مريم عن محمد بن جعفر فذكره ، و لم يشك في هذه اللفظة بل قال : فقلت : سنّة ، قال : نعم .

 

قال ابن العربي : حديث أنس صحيح لم يقل به إلا أحمد بن حنبل .

 

قلت : اختلف فيه على سعيد بن أبي مريم فقال إسماعيل بن إسحق عنه ما تقدم و خالف يحيى بن أيوب العلاف فجعل القصة في الإفطار يوم الشك لا إرادة السفر .

 

كذلك رواه الطبراني في المعجم الأوسط قال : حدثنا يحيى بن أيوب العلاف قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب قال : دخلت على أنس بن مالك عند العصر يوم يشكون و أنا أريد أن أسلم عليه فدعا بطعام فأكل فقلت : هذا الذي صنعت سنّة ؟ قال : نعم .

 

و قد تابع سعيد بن أبي مريم على روايته على هذا الوجه خالد بن نزار ، رواه الطبراني أيضاً في الأوسط ، قال : حدثنا المقدام هو ابن داود نا خالد بن نزار حدثنا محمد بن جعفر فالحديث إذاً اضطرب ليس بصحيح .

 

ثم فتشنا هل نجد أحداً تابع عبد الله بن جعفر و محمد بن جعفر على رواية هذا الحديث عن زيد بن أسلم ليقوى به أحد الروايتين ، فوجدنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي و هو أحد رجال الصحيح قد رواه عن زيد بن أسلم عكس رواية عبد الله بن جعفر رواه كذلك أيضاً إسماعيل القاضي قال : نا علي بن المديني و إبراهيم بن حمزة عن الدراوردي عن زيد بن أسلم بإسناده و قال فيه فقلت له : سنة ؟ فقال : لا ، ثم ركب . و هذه الطريق أقوى من طريق عبد الله بن جعفر فوجدنا الطريقين صحيحين أحدهما فيه الشك في اللفظة و الأخرى عكسها و في الطبراني حمل الحديث على معنى غير الفطر للسفر فتبين ضعف رواية إثبات كونـها سنة ، و الله أعلم .

 

و هذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على أقوال :

 

أحدها : و هو قول أكثر أهل العلم أن من أصبح صائماً ثم سافر فليس له أن يفطر ذلك اليوم البتة لا قبل الشروع في السفر و لا بعده و هو قول إبراهيم النخعي و الزهري و يحيى بن سعيد الأنصاري و الأوزاعي و أبي حنيفة و أصحابه و مالك و الشافعي و أبي ثور .

 

و الثاني : أنه له الفطر إذا خرج و برز عن البيوت و هو قول أحمد بن حنبل ، و روى عن عبد الله بن عمر و الشعبي و احتج بعضهم على جواز الفطر بالحديث الصحيح في خروجه صلى الله عليه و سلم في رمضان إلى مكة و أنه صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر . و في رواية حتى بلغ كراع الغميم .

 

فتوهم من استدل بـهذا أن الكديد و الكراع بقرب المدينة و أن النبي صلى الله عليه و سلم أصبح بالمدينة صائماً ثم بلغهما في بقية يومه فأفطر فالاستدلال بـهذا الحديث على ذلك باطل .

 

و الثالث : إن له الفطر إذا وضع رجله في الرحل و به قال داود و حكاه ابن عبد البر عن إسحق و هو مخالف لما حكاه الترمذي عنه من أن له الفطر في بيته قبل أن يخرج إلا أن يحمل على أنه وضع رجله في الرحل و هو في بيته ثم أكل قبل أن يخرج و حديث أنس مخالف له في أنه دعا بطعامه فأكل ثم ركب و الله أعلم

 

و الرابع : أن له الفطر في بيته يوم يريد أن يخرج و هو قول أنس و الحسن البصري فيما روى عنه و قد حكاه المصنف عن ابن راهويه كما تقدم .

 

قال ابن عبد البر : (( و اتفقوا في الذي يريد السفر في رمضان أنه لا يجوز له أن يبيت الفطر لأن المسافر لا يكون مسافراً بالنية إنما يكون مسافراً بالنهوض في سفره )) . انتهى كلام العراقي .

 

و أخرج البخاري عن ابن عباس : خرج النبي صلى الله عليه و سلم في رمضان من المدينة و معه عشرة آلاف من المسلمين يصوم و يصومون حتى بلغ الكديد ، فأفطر و أفطروا .

 

قال الحافظ ابن حجر : لو نوى الصوم و هو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار ؟ ، منعه الجمهور ، قال أحمد و إسحق بالجواز و اختاره المزني محتجاً بـهذا الحديث فقيل له ، قال كذلك ظناً منه أنه صلى الله عليه و سلم أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة . أهـ

 

و ليس كذلك فإن بين المدينة و الكديد عدة أيام ، و كذلك لا حجة للمخالف في حديث أبي بصرة الغفاري الذي رواه أحمد و أبو داود من طريق عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة بالفسطاط في رمضان فدفع ثم قرب غداءه ثم قال : اقترب فقلت ألست ترى البيوت ؟ ، فقال : أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأكل . لأمرين :

 

الأول : أنه لا يكفي على المعتمد في صحة الحديث سكوت أبي داود على ما يرويه في سننه بل لابد من النظر فيه و ذلك من وظيفة الحافظ لما تقرر في علوم الحديث من اشتراط الحفظ في إدراك الصحيح و السقيم من الحديث كما صرح به الحاكم في معرفة علوم الحديث ، و أما دعوى هذا المخالف لأهلية ذلك لنفسه فليست إلا دعوى فارغة .

 

الثاني : لو صح لم يكن فيه حجة لأنه ليس فيه أنه خرج بعد الصبح فركب ثم أكل ، فيحتمل أنه خرج من بيته قبل الفجر و ركب السفينة فجاز له الأكل كما هو مذهب الجمهور أن من خرج قبل الفجر جاز له الأكل في نفس ذلك النهار بخلاف من خرج بعد الفجر فإنه ليس له أن يفطر في ذلك النهار إلا فيما بعده ، و يقرب ما وجهنا به حديثه هذا قول الراوي ثم قرب غداءه و الغداء في اللغة ما يؤكل أول النهار بخلاف ما تعورف اليوم في اللغة العامية من إطلاق الغداء على ما يؤكل وسط النهار قبيل الظهر أو بعده ، فإن هذا عرف حادث ففي (( القاموس )) : الغداء طعام الغدوة و تغدى أكل أول النهار ، و فيه : الغدوة : البكرة أو ما بين صلاة الفجر و طلوع الشمس . و الله أعلم )) .

 

يقول محمد ناصر الدين : مستعيناً بالله وحده رب العالمين :

 

ينحصر كلام الشيخ في أربعة أمور :

الأول : تضعيف حديث أنس .

الثاني : فقه الحديث و من قال به .

الثالث : تضعيف حديث أبي بصرة الغفاري .

الرابع : عدم دلالته عنده على ما دل عليه حديث أنس .

 

و سأتكلم فيما يأتي على هذه الأمور واحدة بعد أخرى على الترتيب المذكور، سائلاً المولى سبحانه و تعالى أن يلهمني الصواب في ذلك كله ، و أن يوفق المخلصين إلى تقبله ، و العمل بما فيه من الفقه ، إنه سميع مجيب .

 

1- تأكيد صحة حديث أنس

أما حديث أنس ، فقد تأملت كلام الشيخ عليه ، فلم أجد فيه إلا ما زادني بصيرة في صحته ، و يقيناً بضعف كلامه ، و وهاء ما تشبث به في تضعيفه ، فإنه لم يأت على ما يدل عليه بما يصلح أن يعتبر شبهة في صحته ، فضلاً عن أن يكون حجة على ضعفه ، إذا ما عرض ذلك على قواعد علم الحديث و أصوله ، و شهادات العلماء بثبوته ، و إليك التفصيل :

 

لقد تجرأ الشيخ – على خلاف ما علمناه منه في بعض رسائله – فجزم بخطأ الترمذي في تحسينه للحديث ، و لم يبال البتة بتصحيح الإمام ابن العربي إياه و غيره ممن سنذكره ، و تشبث في ذلك بأمور يمكن أن نلخصها في أربعة :

 

الأول : ترجيح أبي حاتم لرواية الدراوردي بلفظ : (( ليس بسنة )) ، على الرواية الأخرى : (( قال : نعم سنّة )) ، و سنعبر عنها بـ (( رواية الإثبات )) .

 

الثاني : تضعيف الحافظ العراقي للرواية الأخرى .

 

الثالث : عدم جزم بعض الرواة بـها .

 

الرابع : الاختلاف في متنه على سعيد بن أبي مريم ، فذكر بعضهم عنه : أن الفطر إنما كان من أجل السفر ، و بعضهم أنه كان من أجل يوم الشك .

 

الجواب عن الأمر الأول :

 

إذا تبين ذلك فنقول في الإجابة عن الأمر الأول :

 

أولاً : إن فهم قول أبي حاتم : (( إن حديث الدراوردي أصح من حديث ابن مجبر )) على أنه يدل أن رواية الترمذي مرجوحة ضعيفة ، و أن الراجح رواية النفي يدل – مع الأسف – على الجهل البالغ بأساليب المحدثين في الترجيح ، و سوء فهم لمقاصدهم من ذلك ، إذ أن ترجيح أبي حاتم إنما هو محصور بين روايتين ليس منهما رواية الترمذي ! ثم هو ترجيح صحيح ، لأن الدراوردي ثقة على ضعف يسير في حفظه كما يأتي ، بخلاف المخالف له : ابن مجبر فإنه ضعيف اتفاقاً ، و قد قال فيه أبو حاتم نفسه : (( ليس بالقوي )) و قال صاحبه أبو زرعه : (( واهي الحديث ))( ) و لكن أي عالم بل أي عاقل عنده قليل من الفهم بالأسلوب العربي يفهم من ذلك ترجيح رواية الدراوردي هذه على رواية الترمذي و هي لم يرد لها ذكر في كلام أبي حاتم لا تصريحاً و لا تلويحاً ، بل لعله لم يقف عليها أصلاً ، ثم هي أقوى و أرجح من رواية الدراوردي كما سأبينه في الوجه الآتي بعد هذا ، فسقط بذلك قول الشيخ عقب كلام أبي حاتم : (( هو صريح في أن رواية الترمذي مرجوحة ، و أن الراجح رواية النفي )) ! .

 

ثانياً : إن قول الدراوردي في روايته (( ليس بسنّة )) ، منكر أو على الأقل شاذ لسببين :

 

1- مخالفته لمن هو أوثق منه ، ألا و هو محمد بن جعفر بن أبي كثير و هو ثقة كما قال الترمذي و نقله عنه الشيخ نفسه ، و لا خلاف فيه عند الأئمة النقاد ، بل احتج به الشيخان و جميع أصحاب السنن و غيرهم ، فروايته هي الراجحة عند التعارض على رواية الدراوردي لأنه مختلف فيه ، و قد وصفه أبو زرعة و غيره بأنه (( سيئ الحفظ )) فلا جرم أن البخاري لم يحتج به بينما احتجا جميعاً بمخالفه ، فثبت أن روايته هي أحق بالترجيح من رواية الدراوردي ، و لا يشك في هذا منصف شم رائحة مصطلح الحديث .

 

2- أن رواية الدراوردي لا متابع لها و لا شاهد خلافاً لرواية محمد بن جعفر ، فإن لها متابعاً و شاهداً:

 

أما المتابع فهو عبد الله بن جعفر عند الترمذي ، و هو و إن كان ضعيفاً فإنه يكتب حديثه كما قال ابن عدي ، فهو لا بأس به في المتابعات و الشواهد .

 

و أما الشاهد ، فهو حديث ابن المجبر الذي نقله الشيخ عن ابن أبي حاتم ، و لا يضر ضعفه لأنه في الشواهد كما لا يخفى ، و لا أظن أن الشيخ يخالف في ذلك لأنه ذكر نحو هذا في رسالته (( التعقب الحثيث )) ( ص 5 ) .

 

فسقط بـهذا التحقيق تعلق الشيخ بكلام أبي حاتم ، و تبين أن الصواب رواية الإثبات ، و أن رواية الدراوردي في النفي خطأ لا يعول عليه .

 

الجواب عن الأمر الثاني :

 

و أما الأمر الثاني و هو تضعيف العراقي لرواية الإثبات ، فالجواب من وجهين:

أولاً : معارضته بتصحيح من صحح الحديث و هم جماعة ، فقولهم أرجح عند التعارض من قول من خالفهم و هو فرد ، فمن صححه : الترمذي ، و ابن العربي ، و الضياء المقدسي – كما سيأتي – و ابن القيم في (( زاد المعاد )) ، و أبو المحاسن المقدسي في (( مختصر أحاديث الأحكام )) ( ق 61/ 1 ) و يمكن أن يضم إليهم الإمام أحمد و إسحق بن راهويه فإنـهما أخذا بالحديث و عملا به باعتراف العراقي نفسه و ذلك دليل – إن شاء الله تعالى – على أن الحديث ثابت عندهما و هو المطلوب .

 

ثانياً : أن قواعد علم الحديث تدل على خطأ التضعيف المذكور ، و أرجو ألا يستغل الأستاذ الشيخ أو أحد من المتعصبين له أو من غيرهم فيبادروا إلى الإنكار علينا بسبب هذا التصريح ، لأن الحق فوق الأشخاص ، و التحقيق العلمي لا يعرف النفاق!

 

على أن الشيخ قد سبقني إلى مثل هذه التخطئة فهو قد جزم بتخطئة الترمذي كما رأيت ، فكذلك أجزم بتخطئة العراقي و الشيخ معاً ، مع فارق جوهري بيني و بينه ، فإنه يخطئ الترمذي تقليداً للعراقي ، و هذا ترجيح بدون مرجح كما لا يخفى ، و لو عكس أحد عليه الأمر فقلد الترمذي و خطأ العراقي لم يجد سبيلاً إلى تخطئته إلا مجرد الدعوى ! أو اتباع الهوى ! و أما نحن فإنما نخطئ اتباعاً للقواعد العلمية التي وضعها العلماء ميزاناً لمعرفة الخطأ من الصواب ، و شتان بين هذا و ذاك!

 

أخطاء العراقي حول الحديث :

 

إن الباحث المدقق في كلام الحافظ العراقي الذي نقله الشيخ ليجد فيه كثيراً من الأخطاء التي لابد من الكشف عنها دفاعاً عن الحديث لا الأشخاص!

 

الأولى : إنه يقر الترمذي على تحسين الحديث لمتابعة محمد بن جعفر ، ثم يقول في رواية الإثبات : (( إنما رواها على الجزم عبد الله بن جعفر و هو متفق على ضعفه )) ، مع أنه ذكر بعد ذلك بقليل أن الدارقطني رواها على الجزم من طريق محمد بن جعفر الثقة ، فكيف يصح إذن قوله المذكور المتضمن خصر هذه الرواية بعد الله الضعيف ؟! و كذلك قوله في رواية محمد هذا : (( لم يجزم بـهذه اللفظة كما جزم بـها عبد الله بن جعفر )) ! لا شك في أن هذا القول و ذاك خطأ مخالف للواقع .

 

ثانياً : قوله أن رواية محمد بن جعفر على الشك ، مع أن هذه الرواية عنه لا تثبت ، و لو ثبتت لم تخالف الرواية الثابتة عنه كما سيأتي بيانه في الجواب المشار إليه .

 

ثالثاً : إعلاله الحديث بالاختلاف على سعيد بن أبي مريم برواية العلاف عنه مع أنـها رواية شاذة مخالفة لرواية الثقات عن سعيد كما سيأتي تحقيقه في الجواب عن الأمر الثالث .

 

رابعاً : ذكر رواية الدراوردي ثم قال : (( إنـها أقوى من طريق عبد الله بن جعفر )) و هذا صحيح ، و لكنه يوهم أن عبد الله لم يتابع على روايته ، مع أنه قد ذكر هو أن محمد بن جعفر قد تابعه على لفظه عند الدارقطني كما سبق ! فرواية محمد و عبد الله أصح من رواية الدراوردي كما سبق بيانه .

 

هذه الأخطاء هي دعائم قول الحافظ العراقي بـ (( ضعف رواية إثبات كونـها سنة )) ، فإذ قد انـهارت هذه الدعائم ، فقد انـهار قوله القائم عليها ، و سقط بالتالي تشبث الشيخ به و رجع منه بخفي حنين !

 

و في الجوابين التاليين زيادة بيان لما أجملناه هنا .

 

الجواب عن الأمر الثالث :

 

و أما الجواب عن الأمر الثالث ، و هو عدم جزم بعض الرواة برواية الإثبات فهو أنه لا يجوز التمسك بـها في إعلال الروايات الأخرى الجازمة بالإثبات بل إن هذه تعل رواية ذلك البعض ، و ذلك لوجوه :

 

الأول : أن من لم يجزم معناه أنه لا علم عنده بالأمر و أنه لم يحفظه ، بخلاف الذي جزم فإنه يدل على أنه قد علمه و حفظه ، فكيف يصح ترجيح رواية من لم يحفظ على رواية من حفظ ؟! و هل هذا إلا خلاف ما هو مسلم به عند جميع العلماء : أن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، و من علم حجة على من لم يعلم ، و خلاف للقاعدة المقررة عندهم و هي التي تقول : (( المثبت مقدم على النافي )) ، فكيف و هذا الذي لم يجزم ينف ، بل إنه أثبت ، و لكن بدون جزم ، فهذه الرواية في الحقيقة مؤيدة لرواية الإثبات و مقوية لها ، فكيف يصح أن تجعل معلة لها ؟!

 

ثانياً : أن رواية من لم يجزم بالإثبات لا تصح أصلاً ، فلا يجوز أن يحتج بـها فضلاً عن أن يعارض بـها ما رواه الثقات الأثبات عن محمد بن جعفر من الجزم بالإثبات ، ذلك لأن هذه الرواية تفرد بـها عن محمد هذا عيسى بن مينا و هو ضعيف ، قال الذهبي في (( المغني )) : (( حجة في القراءات ، لا في الحديث ، سئل عنه أحمد بن صالح ؟ فضحك و قال : يكتبون عن كل أحد ))( ).

 

ثالثاً : أن عيسى هذا قد ورد الحديث عنه بالإثبات كما رواه الثقات ، أخرجه عنه الضياء المقدسي في (( الأحاديث المختارة )) ( ق 124/ 2 ) من طريق إبراهيم بن الحسين ثنا عيسى بن مينا به بلفظ : (( فقلت له سنّة ؟ قال : نعم )) ، فجزم بالإثبات و لم يشك ، و قال المقدسي عقبها : (( رواه الترمذي عن محمد بن إسماعيل عن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن جعفر و قال : حديث حسن )) ، و أقره .

 

و ابن الحسين هذا هو ابن ديزل و هو ثقة مأمون كما قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي( ) .

 

فهذا دليل واضح على أن رواية عيسى مثل رواية غيره في الجزم بالإثبات ، و الظاهر أن إسماعيل القاضي نفسه هو الذي لم يضبط الرواية عن عيسى جيداً ، و إن كان أشار في الوقت ذاته إلى أنـها هي الراجحة عنده بقوله : (( .. أحسبه )) و ذلك من دقته في الرواية ، رحمه الله تعالى .

 

رابعاً : أنه قد خالف في ذلك جماعة من الثقات كلهم جزموا في روايتهم عن محمد بن جعفر أن أنساً قال : (( نعم )) بدون أي شك ، و هؤلاء الثقات هم :

 

الأول : عثمان بن سعيد الدارمي و هو ثقة ثبت حافظ إمام( ) ، و لفظ حديثه … عن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد السفر ، و قد رحلت دابته و لبس ثياب السفر ، و قد تقارب غروب الشمس ، فدعا بطعام فأكل منه ، ثم ركب ، فقلت له سنة ؟ قال : نعم .

 

أخرجه البيهقي في سننه الكبرى ( 4/ 247 ) .

 

الثاني : إسماعيل بن إسحق بن سهل ، و هو صدوق كما قال ابن أبي حاتم ( 1/1/158 ) ، و لفظه مثل لفظ حديث الدارمي تماماً .

 

أخرجه الدارقطني ( ص 241 ) ، و قد عزاه إليه الشيخ نفسه عن العراقي ، و هو من عجائبه ، فإنه سكت عنه مع أنه صحيح الإسناد ، و آثر عليه رواية الشك مع ضعفها و نكارتـها و عدم صلاحيتها للمعارضة لو صحت كما سبق !

 

الثالث : محمد بن إسماعيل و هو الإمام البخاري صاحب (( الجامع الصحيح )) .

أخرجه عنه الترمذي ( 1/152 ) و هو و إن لم يكن قد ساق لفظه فإنه قد أحال فيه على لفظ عبد الله بن جعفر المصرح بالإثبات ، و ذلك بقوله عقبه : (( نحوه )) مشيراً بذلك إلى أنه مثله في

المعنى .

 

فهذا القول من الترمذي و إن كان لا يقتضي أن رواية البخاري لفظها مثل لفظ حديث عبد الله بن جعفر كما قال العراقي ، فإنه لا ينفي أن يكون مثلها في المعنى ، بل هو نص على اتحادهما في المعنى ، كما هو مبين في علم (( مصطلح الحديث ))( ).

 

و إذا كان من الأمور المسلمة أن الألفاظ قوالب للمعاني ، و أن المعاني هي المقصودة بالذات ، فلا يضرنا بعد ذلك اتفقت الألفاظ أو اتحدت ، و لهذا اتفق جمهور العلماء على جواز رواية الحديث بالمعنى بتفصيل مذكور في محله من هذا العلم : (( المصطلح )) ، و قالوا : (( ينبغي لمن يروي حديثاً بالمعنى بأن يقول : أو كما قال ، أو نحو هذا )) .

 

فلو كانت رواية البخاري مثل رواية ابن مينا في المعنى لم يجز القول عقبها (( نحوه )) لأنـها ليست مثلها في المعنى ، بخلاف رواية عبد الله بن جعفر فإنـها متحدة في المعنى مع رواية البخاري و لذلك جاز للترمذي – و هو من أئمة هذا العلم – أن يقول عقبها (( نحوه )) أي نحو حديث ابن جعفر في اللفظ و مثله في المعنى .

 

فإذا تبين هذا ، فالاسترواح حينئذٍ إلى أن اللفظ مختلف مما لا يجدي ، مادام أن المعنى واحد !

 

على أن قول الترمذي (( نحوه )) لا ينفي الاتفاق بين الروايتين في بعض ألفاظ الحديث ، فإذا ثبت أن لفظ حديث محمد بن جعفر على الإثبات برواية الثقتين المذكورين ، فالأقرب أنه هو المراد برواية البخاري هذه ، و ليس رواية ابن ميناء الضعيف . إذ الأصل في روايات الثقات الاتفاق لا الاختلاف ، إلا لدليل و هو هنا معدوم ، فثبت من ذلك أن رواية البخاري كرواية الثقتين قبله و هو المراد .

 

الرابع : يحيى بن أيوب العلاف ، و هو صدوق كما قال الحافظ ابن حجر و غيره .

أخرج حديثه الطبراني في (( المعجم الأوسط )) ( 1/98/2 من الجمع بينه و بين المعجم

الصغير ) .

 

و هو و إن كان قد خالف من قبله في بعض الحديث كما سيأتي تحقيقه ، فقد تابعهم على رواية الحديث على الصواب في باقيه ، فكان في ذلك حجة على صحة رواية الإثبات .

 

فقد اتفق هؤلاء الثقات الأربعة جميعاً على أن رواية محمد بن جعفر الثقة لهذا الحديث على الإثبات ، و أنـها في ذلك مثل رواية عبد الله بن جعفر سواء ، فإذا تذكرت أن عيسى بن ميناء قد خالفهم عنه في هذه الرواية – على التفصيل الذي سبق بيانه – و أنه ضعيف لم يجز بوجه من الوجوه ترجيح روايته على روايتهم ، و الجزم بأن روايته هي لفظ رواية محمد بن جعفر كما فعل العراقي – سامحه الله – بل العكس هو الصواب ، كما لا يخفى على ذوي الألباب . ذلك لأن من المقرر في علم الحديث أن الثقة إذا خالف في حديثه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً فحديثه شاذ ، و إذا كان المخالف ضعيفاً فحديثه منكر( ) ، فلو أن ابن مينا كان ثقة لكان حديثه هذا شاذاً مردوداً ، فكيف و هو ضعيف ؟! فلا شك في أن حديثه منكر مرفوض !

 

و هنا نقف لنتساءل : هل اطلع فضيلة الشيخ الحبشي على رواية هؤلاء الثقات ، أم خفيت عليه ؟

 

الجواب عن الأمر الرابع :

 

و أما الأمر الرابع ، و هو الاختلاف فيه على سعيد بن أبي مريم ، فالجواب عنه يمكن أن يؤخذ من الفصل السابق ، و لكن لا بد من إيضاحه فأقول :

 

لم يقل أحد ممن روى هذا الحديث عن ابن أبي مريم أو غيره ثقة كان أو ضعيفاً أن القصة وقعت في (( يوم يشكون )) الذي هو قبيل رمضان إلا يحيى بن أيوب العلاف المتقدم ، خلافاً لرواية الثقات الآخرين الذين ذكروا قبله و هم عثمان الدارمي و إسماعيل بن إسحق ، و البخاري ، فهؤلاء كلهم قالوا عن ابن أبي مريم : أن القصة كانت في رمضان ، و كذلك قال عيسى بن مينا عن محمد بن جعفر ، و كذلك قال الدراوردي و عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر ، و كذلك قال ابن مجبر عن ابن المنكدر .

 

فاتفاق هؤلاء كلهم على ذلك خلافاً لرواية العلاف أكبر دليل على ضعف روايته و شذوذها .

 

و أما استرواح الشيخ إلى متابعة خالد بن نزار لابن أبي مريم فمما لا يقام له وزن عند من يعلم ، ذلك لأن خالداً نفسه فيه ضعف من قبل حفظه كما يشير إلى ذلك قول الحافظ فيه (( صدوق يخطئ )) ، ثم إن الراوي عنه : المقدام بن داود واه جداً ، قال النسائي : (( ليس بثقة )) ، فهل يعتمد عالم بالقواعد الحديثية عنده ذرة من الإنصاف بـهذه المتابعة ، و هذه حال صاحبها ، و الراوي عنها ، مع ما فيها من المخالفة الصريحة لما رواه الثقات الأثبات ؟!

 

و من ذلك يتبين أن لا أثر لهذا الاختلاف على ابن مريم في صحة الحديث ، و أن الإفطار فيه إنما كان في رمضان من أجل السفر ، لا قبله من أجل يوم الشك .

و بذلك يسقط آخر ما تشبث به الشيخ في تضعيفه للحديث ، و يتضح لكل ذي عينين صحة الحديث باللفظ الذي رواه الترمذي صدر به الشيخ مقاله !

 

و إن من الأمور التي لا ينقضي العجب منها تصريح الشيخ في رسالته (( التعقب )) ( ص 21 ) أنه ليس لمثله وظيفة التصحيح و التضعيف ، ثم تراه في هذا المقال يصرح بتضعيف ما تتابع العلماء على تصحيحه ، من الترمذي إلى ابن القيم ، مع تأييد القواعد الحديثية لذلك !

 

شهادة القرآن للحديث :

 

هذا و من المعلوم عند المشتغلين بالسنة ، أن الحديث الذي ورد من طريق فيه ضعف غير شديد أنه يقوى بمجيئه من طريق أخرى أو بوجود شاهد له و لو مثله في الضعف ، فكيف إذا كان الحديث صحيح الإسناد و كان له شاهد من القرآن الكريم فضلاً عن السنة المطهرة ، فإنه و الحالة هذه لا يشك من له أدنى إلمام بـهذا العلم في صحة الحديث و لو كان ضعيف الإسناد فكيف إذا كان صحيح الإسناد لذاته ، فلا ريب أنه بذلك يزداد قوة على قوة .

 

و حديثنا هذا من هذا القبيل ، فإنه صحيح الإسناد ، كما أثبتنا ذلك بتحكيم قواعد هذا العلم عليه ، مع الاستئناس بأقوال العلماء الذين سبق ذكرهم ممن صححوه ، و له شاهد من القرآن الكريم و السنة .

 

أما القرآن فهو قول الله تبارك و تعالى :  فمن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ، فإن قوله ( على سفر ) يشمل من تأهب للسفر و لما يخرج ، و قد صرح الإمام القرطبي في تفسيره (( الجامع لأحكام القرآن )) كما سيأتي أن ذلك مقتضى الآية ، و هذا واضح لا شك فيه عند المنصفين العارفين إن شاء الله تبارك و تعالى .

 

شاهد للحديث من السنة :

 

أما الشاهد من السنة ، فهو ما أخرجه أحمد ( 6/398 ) من طريق منصور الكلبي عن دحية بن خليفة رضي الله عنه أنه خرج من قريته إلى قريب من قرية عقبة في رمضان ، ثم إنه أفطر و أفطر معه ناس ، و كره آخرون أن يفطروا ، قال : فلما رجع إلى قريته ، قال : و الله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أن أراه ! إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه ! يقول ذلك للذين صاموا ، ثم قال عند ذلك : اللهم اقبضني إليك .

 

و أخرجه أبو داود ( رقم 2413 ) .

 

قلت : و رجال إسناده ثقات محتج بـهم في الصحيحين غير منصور هذا ، فقال فيه العجلي في (( كتاب الثقات ))( ) : (( مصري تابعي ثقة )) و وثقه ابن حبان أيضاً فأورده في (( الثقات )) ( 1/124 ) ، لكن قال فيه ابن المديني و غيره : (( مجهول )) ، و هذا هو الراجح عندي : أنه مجهول ، و هو معنى قول الحافظ فيه : (( مستور )) ، و لكن ذلك لا يمنع عندنا و لا عند الشيخ من الاستشهاد بحديثه ، لأن ذلك هو الذي تقرر في (( المصطلح )) ، و إليك ما قاله الشيخ الحبشي نفسه في نحو هذه المناسبة ، قال في (( التعقب )) ( ص 5 ) : (( فالجهالة من القسم الذي إذا تابع صاحبه غيره ممن هو مثله أو فوقه انجبر ضعفه ، و صار حديثه مقبولاً حسناً )) .

 

و عليه فالحديث مقبول عند الشيخ ، أو يلزم أن يكون مقبولاً عنده لأنه جاء من طريق أخرى و هي طريق أنس ، هذا لو سلم له أنـها ضعيفة ، فكيف و هي صحيحة على ما سبق تحقيقه ؟!

 

بل إن الشيخ يلزمه أن يقول بصحة إسناد الحديث لذاته ، إذا أراد أن لا يكون متناقضاً في تطبيق النهج الذي سلكه في تصحيح بعض الأحاديث في رسالته المشار إليها ! ذلك لأن الحديث ليس فيهم من يشك في عدالته غير منصور الكلبي ، و قد وثقه ابن حبان ، كما سبق و توثيقه عند الشيخ معتبر ، فقد وثق في رسالته ( ص 19 و 23 ) خزيمة و كنانة المجهولين ، بناء على توثيق ابن حبان إياهما ، و قال ( ص 23 و 26 ) في الجواب عن تجهيلنا إياهما تبعاً للحافظ الذهبي : (( إن جهالة الحال و جهالة العين ترتفع بتوثيق حافظ من أئمة الجرح ، و قد وثقهما ابن حبان )) !

 

و إذ الأمر كذلك عند الشيخ ، فيلزمه القول بعدالة منصور هذا ، و حينئذ فالحديث صحيح عنده لا علة فيه ، و هذا أمر لازم لازب لا مفر للشيخ منه ، و لا يستطيع أن يماري فيه ، إن كان طالباً للحق منصفاً كما آمل .

 

ثم إن دلالة الحديث على ما دل عليه حديث أنس من جواز الإفطار المختلف فيه واضح كل الوضوح ، فإن قوله : (( ثم إن أفطر ، و أفطر معه ناس )) صريح أو كالصريح في أنـهم خرجوا من القرية صائمين ثم أفطروا ، فلا يرد عليه ما أورده الشيخ على حديث أبي بصرة من عدم دلالته على المطلوب في زعمه ، و كأنه لذلك أعرض الشيخ عن ذكره فلم يتعرض له بجواب البتة لأنه حجة عليه ! و هذا شيء نود أن ننزه الشيخ عنه ، و لكن الأمر يحتاج إلى مساعدة منه !!

 

و حديث أبي بصرة المشار إليه هو في الحقيقة شاهد ثان للحديث و سيأتي الجواب عن كلام الشيخ عليه قريباً إن شاء الله تعالى .

 

آثار صحيحة تشهد للحديث :

 

هذا ، و إن مما يزيد الحديث قوة أنه جاء عن طائفة من الصحابة و غيرهم العمل بنحو ما فيه و خلاف ما ذهب إليه المانعون من الإفطار بعد الخروج ، فأنا أذكر ما وقفت عليه من الروايات عنهم إتماماً للفائدة :

1- عن اللجلاج قالوا ( كذا الأصل و لعله : اللجلاج و غيره قالوا ) : كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة و يفطر .

رواه ابن أبي شيبة في (( المصنف )) ( 2/ 151/ 2 ) بإسناد حسن أو قريب منه .

 

2- عن أنس بن مالك قال : قال لي أبو موسى : ألم أنبأ أنك إذا خرجت خرجت صائماً ، و إذا دخلت دخلت صائما ؟ فإذا خرجت فاخرج مفطرا . و إذا دخلت فادخل مفطرا .

 

رواه الدارقطني ( ص 241 ) و البيهقي ( 4/247 ) بإسناد صحيح على شرط الستة .

 

3- عن نافع عن ابن عمر أنه خرج في رمضان فأفطر .

 

رواه ابن أبي شيبة ( 2/ 151/ 1 ) بإسناد رجاله ثقات .

 

4- عن ابن عباس قال : إن شاء صام و إن شاء أفطر .

 

رواه ابن أبي شيبة في (( باب ما قالوا في الرجل يدركه رمضان فيصوم ثم يسافر )) ، ( 2/ 151/ 1 ) و إسناده صحيح .

 

5- عن مغيرة قال : خرج أبو ميسرة( ) في رمضان مسافراً فمر بالفرات ، و هو صائم ، فأخذ منه حسوة فشربه و أفطر .

رواه ابن أبي شيبة ( 2/151/1 ) بإسناد صحيح .

ثم روى هو ( 2/151/2 ) و البيهقي ( 4/247 ) بسند آخر عنه مختصراً و هو صحيح أيضاً .

6 و 7 – عن سعيد المسيب و الحسن البصري قالا : يفطر إن شاء .

رواه ابن أبي شيبة عقب الأثر الذي قبله و سنده صحيح .

 

و في رواية عن الحسن البصري (( يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج )) ذكرها القرطبي في تفسيره ( 2/279 ) .

 

و بعد فإن حديثاً كهذا يشهد له القرآن و السنة و الآثار الصحيحة عن السلف و فيهم بعض الخلفاء الراشدين( ) لحري ألا يكون موضع جدل و تردد في صحته ، مهما قيل في إسناده أو في متنه ، لولا أن بعض الناس يتعصبون لمذاهبهم ما لا يتعصبون للشرع الثابت عن نبيهم ، اتباعاً لما ألفوه ! فاللهم رحمتك و هداك .

 

2- فقه الحديث و من قال به

 

إذا تبين أن الحديث صحيح بلفظ الإثبات ، فهو حجة واضحة لما ذهب إليه الإمام إسحق بن راهويه ، كما حكاه الترمذي عنه( ) و قد نقله الشيخ عنه ، و في كتاب (( المسائل )) لإسحاق بن منصور المروزي ( ق 29/1 – 2 ) ما نصه : (( قلت ( يعني للإمام أحمد ) : إذا خرج مسافراً متى يفطر ؟ قال : إذا برز عن البيوت ، قال إسحق ( يعني ابن راهويه ) : بل حين يضع رجله فله الإفطار ، كما فعل ذلك أنس بن مالك( ) ، و سن النبي صلى الله عليه ( كذا ) ، و إذا جاوز البيوت قصر )) .

اتباع ابن العربي للحديث خلافاً للمذهب :

 

و لقد أنصف الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى ، فإنه ذهب إلى العمل بالحديث في هذه المسألة خلافاً لكثير من علماء المالكية ، و تبعه على ذلك القرطبي و غيره ، و سبقهم إلى الجهر بذلك الحافظ ابن عبد البر ، فقال ابن العربي في (( عارضة الأحوذي )) ( 4/13 – 16 ) تعليقاً على الحديث : (( و هذا صحيح ، لم يقل به أحد إلا أحمد بن حنبل ( ! ) ، فأما علماؤنا ( يعني المالكية ) فمنعوا منه ، لكنهم اختلفوا إذا أكل هل عليه كفارة أم لا ؟ فقال مالك في (( كتاب ابن حبيب )) : (( لا كفارة عليه )) ، و قال أشهب : (( نعم لأنه متأول )) ، و قال غيرهم : عليه الكفارة ، و يجب أن لا يكفر لصحة الحديث … و هو يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر )) .

 

و قال القرطبي في تفسيره (( الجامع لأحكام القرآن )) ( 2/278 – 279 ) بعد أن حكى الخلاف الذي ذكره ابن العربي : (( قلت : قول أشهب في نفي الكفارة حسن ، لأنه فعل ما يجوز له فعله ، و الذمة بريئة ، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين ، و لا يقين مع الاختلاف ، ثم إنه مقتضى قوله تعالى :  أو على سفر ، و قال أبو عمر ( هو ابن عبد البر ) : هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة ، و لو كان الأكل مع نية السفر( ) يوجب عليه الكفارة ، لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه ، فتأمل ذلك تجده كذلك ، إن شاء الله تعالى )) .

 

ثم ذكر ابن عبد البر من قال بأنه لا يفطر و أن عليه الكفارة إن أفطر ، ثم قال : (( و ليس هذا بشيء ، لأن الله سبحانه قد أباح الفطر في الكتاب و السنة ، و أما قولهم : (( لا يفطر )) فإنما ذلك استحباب لما عقده ، فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء ، و أما الكفارة فلا وجه لها ، و من أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله و لا رسوله صلى الله عليه و سلم )) .

 

و هذا هو الذي استظهره العلامة الصنعاني في (( سبل السلام )) ( 2/629 ) ، و هو الذي نقطع به لهذا الحديث الصحيح فإنه نص في المسألة لا يقبل التأويل ، مع تأيده بظاهر القرآن و الآثار الصحيحة عن السلف رضي الله عنهم .

 

و مما سبق يعلم أن القول بعدم جواز الإفطار ، و إيجاب الكفارة على المفطر مما لا دليل عليه في الشرع ، فعلى من نصب نفسه للرد علينا و حاول تضعيف الحديث الصحيح انتصاراً لمذهبه ، أن يأتي بالدليل الذي يقنع به نفسه قبل غيره بصحة ما ذهب إليه ، و إلا فهو عندنا و كما بينا خلاف ظاهر القرآن ، و نصوص الآثار الصحيحة ، و ذلك كاف في إثبات خطأه و لو كان الحديث عنده ضعيفاً .

 

فليتأمل في هذا المنصفون على اختلاف مذاهبهم يتبين لهم صواب ما ذكرنا . إن شاء الله تعالى ، و هو ولي التوفيق .

 

و إن مما يحسن التنبيه إليه أن ذلك الموقف الطيب الذي وقفه ابن العربي و من معه من الحديث هو الذي يجب على كل مسلم أن يتخذه تجاه هذا الحديث خاصة و الأحاديث الأخرى بصورة عامة ، و لو كانت على خلاف رأي الآباء و الشيوخ ، لأنه هو الموقف الوحيد الذي يتفق مع الإيمان الصحيح ، كما قال تعالى :  فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليما ، فلا جرم أن الأئمة أمروا بذلك أتباعهم و ألحوا عليهم بذلك ، في عبارات كثيرة مشهورة عنهم ، و قد ذكرت الكثير منها في مقدمة كتابي (( صفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم )) . فمن شاء رجع إليه .

 

3- حديث أبي بصرة الغفاري

 

بقي علينا الكلام على حديث أبي بصرة الغفاري ، لقد ذكر الشيخ أنه لا يكفي على المعتمد على صحة الحديث سكوت أبي داود عليه

 

و جوابنا عن ذلك من وجوه :

 

الأول : أن ما ذكره صحيح بالنسبة إلى العالم الناقد العارف بطرق الجرح و التعديل ، و التصحيح و التضعيف ، فإن مثل هذا لا يقنعه سكوت أبي داود على الحديث ، لأنه يعلم يقيناً أنه سكت عن أحاديث لا حصر لها و هي ضعيفة بينة الضعف كما قرر ذلك العلماء ، كالنووي و العسقلاني و غيرهما ، و بينا ذلك بأمثلة كثيرة في نقدنا لكتاب (( التاج الجامع للأصول الخمسة ))( ) ، فعلمه هذا يلزمه أن يرجع إلى السند و يحكم فيه قواعد هذا العلم فيصحح أو يضعف ، و أما المقلد الذي (( ليس له وظيفة التصحيح و التضعيف ))  مثل فضيلة الشيخ باعترافه هو كما سبق نقله عنه ، فهذا لا بد له من الاعتداد بسكوت أبي داود على الحديث حتى يقف على قول عالم آخر هو أوثق منه عنده ضَعَّف الحديث ، و أما هو نفسه فلا يجوز له الإقدام على التضعيف بداهة لأنه لا علم له بذلك ، و هذا شيء واضح ما أظن عاقلاً منصفاً يجادل فيه .

 

فما بال الشيخ إذن لا يرضى بسكوت أبي داود الذي يدل على أن الحديث صالح عنده ، بل يجتهد – مع أنه يعتقد حرمته عليه ! – فيذهب إلى تضعيف الحديث كما يشير إلى ذلك قوله : (( لو صح … )) دون أية حجة علمية و لا برهان و لو تقليداً لإمام ؟!

 

الثاني : أنني أعتقد أن اللائق بطريقة الشيخ التي عرفناها منه في (( التعقب الحثيث )) أن يذهب إلى القول بصحة هذا الحديث لا إلى تضعيفه ، و ذلك لأن رجال إسناده عند أبي داود ( رقم 2413 ) و أحمد ( 6/398 ) كلهم ثقات محتج بـهم في الصحيحين غير كليب بن ذهل و قد وثقه ابن حبان ( 2/253 ) و قال الحافظ في ترجمته من (( التقريب )) : (( مقبول )) ، و أما عبيد بن جبر ، فقد مال الحافظ إلى أن له صحبة ، و ذكره يعقوب بن سفيان في (( الثقات )) ، و قال العجلي ( رقم 884 ) : (( مصري تابعي ثقة )) ، و ذكره ابن حبان أيضاً في (( الثقات )) ( 1/140 ) إلا أنه قال : (( هو مولى الحكم بن أبي العاص )) ، فلا أدري هو هذا أو غيره ، و عهدنا بالشيخ أنه يعتد( ) بتوثيق ابن حبان للمجهولين كما سبق بيانه من كلامه ، فلماذا إذن يضعف الشيخ هذا الحديث و لا يصححه مع أنه صحيح على شرطه ؟!( ).

 

لا أريد أن أقول : إنه يكيل بكيلين و أن نـهجه في التصحيح و التضعيف ليس هو على ما ثبت في (( مصطلح الحديث )) و إن كان هو يصرح أنه ليس من أهل ذلك كما سبق نقله عنه ، و لكن لعله حين يكون الحديث مخالفاً لمذهبه ، لا ينشط لتحقيق القول فيه على مقتضى علم الحديث – على قدر معرفته به – خشية أن يتبين له صحته ، فيكتفي في تضعيفه بأي شيء عثر عليه و لو كخيوط القمر ! و إذا كان الحديث موافقاً لمذهبه لم ينشط أيضاً للنظر فيه مخافة أن يتبين له ضعفه ، و يقنع في تصحيحه بأي قول وجده و لو كان خلاف القواعد العلمية !!

 

و خلاصة القول : أن هذا الحديث صحيح على طريقة الشيخ ، و أما نحن فحسبنا فيه أنه شاهد ثان لحديث أنس ، و إن كان سنده فيه ما في الشاهد الأول ، فتضعيف الشيخ إياه خطأ بين على جميع الاحتمالات ، كما لا يخفى ، لأن أقل أحواله أنه حسن لغيره .

 

4- دلالة الحديث على ما دل عليه حديث أنس

 

و أما قول الشيخ : إن الحديث لو صح لم يكن فيه حجة لأنه ليس فيه أنه خرج بعد الصبح فركب ثم أكل فيحتمل أنه خرج من بيته قبل الفجر

 

فأقول : الاحتمال المذكور باطل من وجوه :

 

أولاً : أنه خلاف المتبادر من الحديث .

 

ثانياً : أنه خلاف ما فهم منه العلماء الذين خرجوه ، فهذا أبو داود يترجم له بقول : (( باب متى يفطر المسافر إذا خرج ؟ )) يشير بذلك إلى أن أبا بصرة كان خرج صائماً ثم أفطر ، و هذا المجد ابن تيمية ترجم له بقوله : (( من سافر في أثناء يوم هل يفطر فيه ؟ و متى يفطر ؟ )) ، و مثله و أصرح منه قول البيهقي الآتي قريباً إن شاء الله تعالى .

 

ثالثاً : أن أبا بصرة لو خرج قبل الفجر – كما ادعى الشيخ – فمعنى ذلك أنه سافر قبل أن يجب عليه الصيام لعدم وجود شرطه و هو الإقامة ، و من المعلوم أن مثل هذا يجوز له الأكل بعد الفجر بنص القرآن و اتفاق المسلمين ، بل إن بعضهم أوجبه عليه ، فإذ الأمر كذلك فهل يعقل أن يعترض عليه عبيد بن جبير بقول : (( ألست ترى البيوت ؟! )) ، فلا شك أن هذا القول منه دليل على أن أبا بصرة خرج صائماً ، و أنه أكل بعد الفجر و أفطر ، فأراد عبيد رحمه الله أن يلفت نظره إلى ما ظنه مانعاً من الإفطار و هو كونه لا يزال في حكم المقيم لأنه لم يجاوز البيوت ! فأخبره أبو بصرة رضي الله عنه بأن المجاوزة ليست بشرط ، و أن التمسك به خلاف السنة . هذا هو المعنى الذي يمكن فهمه من الحديث إذا تجردنا عن الهوى و التقليد الأعمى ، و هو الذي فهمه العلماء كما ذكرت في الوجه الأول . و يشهد لذلك أيضاً ترجمة البيهقي للحديث بقوله : (( باب من قال يفطر و إن خرج بعد طلوع الفجر )) ، فهذا نص قاطع على بطلان ما تأول الشيخ الحديث به من المعنى ، و هو مما يدل على أن الشيخ يجتهد في فهم الأحاديث – خلاف ما يتظاهر به ! – و كأنه – ألهمنا الله الصواب جميعاً – يجتهد لهدمها و إبطال معانيها حتى لا تتعارض مع مذهبه ، فالمذهب هو الأصل عنده ، و الحديث تبع له ! و هذا خلاف ما يجب أن يكون عليه المسلم كما سبق التنبيه عليه ، و خلاف ما جرى عليه العلماء المنصفون حتى من كان منهم معروفاً باتباعه لمذهب من المذاهب الأربعة ، و أقرب شاهد لدينا على ذلك ، الإمام البيهقي رحمه الله فإنه مع اتباعه للمذهب الشافعي و تأييده له في أكثر مسائله فسر الحديث بقوله الذي ذكرته آنفاً بخلاف ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، و لم يُحَمِّله معنى لا يتحمله و لا يساعد عليه الذوق العربي و الفهم السليم ، كما صنع غيره و هو ينتمي لمذهب الشافعي أيضاً !

 

رابعاً : قول عبيد بن جبير : (( ثم قرب غداءه )) ، فإن فيه إشارة إلى أن الخروج و الأكل كان غدوة و هي ما بين صلاة الفجر و طلوع الشمس كما نقله الشيخ نفسه عن القاموس ، فإذا ثبت هذا فلا أدري ما وجه تأييد الشيخ ما ذهب إليه في تأويل الحديث من المعنى بقول عبيد هذا ؟ لأن أكل أبي بصرة سواء كان في أول النهار – و هو بعد الفجر – أو كان بعد طلوع الشمس ، فلا يؤيد بوجه من الوجوه قول الشيخ أن الخروج كان قبل الفجر .

 

فإذا تأمل العاقل في هذه الوجوه الأربعة تبين له دون أي شك أن الحديث حجة نيرة على جواز الإفطار المختلف فيه و أنه في ذلك كحديث أنس رضي الله عنه ، و قد صرح بذلك المحقق الشوكاني في (( نيل الأوطار )) ( 4/195 ) .

 

الخلاصة :

 

و خلاصة القول أن الشيخ أخطأ في رده في عدة أمور :

 

تضعيفه لحديث أنس و هو صحيح كما تقتضيه قواعد علم الحديث .

إعراضه عن تقليد من صححه مع أنـهم أكثر ممن ضعفه و هذا خلاف المفروض في المقلدين و منطقهم الذي من عادته أن يحتج بالكثرة و السواد الأعظم !

تضعيفه لحديث أبي بصرة ، و هو صحيح على مقتضى منهجه في التصحيح .

إعراضه عن الاستشهاد به مع أنه صالح لذلك عنده .

كتمه لحديث دحية ، مع أنه صحيح أيضاً على منهجه ، و ما ذلك إلا لأنه صريح الدلالة على خلاف مذهبه !

غفلته عن تأييد القرآن للأحاديث الثلاثة .

غفلته أيضاً عن الآثار المؤيدة لها ، و بعضها عن عمر الفاروق رضي الله عنه .

 

الخاتمة :

 

و لذلك فأني أختم هذه الكلمة بأن أرجو من فضيلة الشيخ الحبشي أن يعيد النظر في موقفه من هذا الحديث و ما تضمنه من الحكم الذي شهد له القرآن الكريم ، مذكراً له بقوله تعالى فيه :  فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليما ، يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم ، و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه ، و أنه إليه تحشرون  .

 

*** *** ***

3- حول فتوى قتل الوالد ابنه

 

لقد علم المتتبعون لأخبار الصحف ، قصة ذلك الرجل المصري الذي قتل في الإسكندرية طفليه الصغيرين غرقاً في البحر ، وأن محكمة الجنايات فيها حكمت عليه بإعدامه مستندة في ذلك على مادة في القانون تدل على ذلك بعمومها ، ولكن المحكمة لما أحالت هذا الحكم إلى مفتي الإسكندرية فضيلة الشيخ أحمد بن يوسف رفضه ، وأفتى بما نصه : " . . . لا يجب عليه القصاص شرعاً ، لأنه لا يقتص من الوالد في قتل ولده ، إذ أن الوالد سبب في إحيائه فلا يكون الولد سبباً في إفنائه " .

 

ثم ساق ، حضرة المفتي نصوصاً من المذهب الحنفي ، يدعم بها فتواه هذه ، مؤيداً لها بقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا يقاد الوالد بولده ".

 

وعلى الرغم من وضوح هذه الحجة فقد أصرت المحكمة على حكمها السابق ، ولم تسلم لحكم هذا الحديث الشريف ، ولا غرابة في ذلك فهي إنما تحكم بحكم القانون لا بحكم الله ورسوله .

 

وإنما الغرابة أن ينتصر لها بعض كبار الشيوخ ، فقد نشرت جريدة الأهرام المصرية تاريخ 7/ 10/ 1954 م هذه الحادثة ونص المحكمة ثم فتوى المفتي فيها ، ثم عقبت عليها بنشر آراء رجال الشرع والقانون فيها ، ومن ذلك رأي حضرة الشيخ حسن مأمون ، وهو من كبار رجال الشرع ، وقد جاء في كلامه ما نصه : " . . . .ومحكمة الجنايات تطبق هذا القانون وليست ملزمة بتطبيق نصوص الشريعة الإسلامية " !

 

ومنها ما نقلته تلك الجريدة عن حضرة الشيخ محمود شلتوت في كلام له في هذه الفتوى :

 

" وأنا شخصياً أرجح مذهب القائلين بالقصاص في هذه الحالة وذلك عملاً بعموم الآيات . . . . . . . . . وأما الحديث الذي يروى في هذا المقام وهو " لا يقاد الوالد بولده " فإنه لم يثبت ، وطعن فيه بعض المحدثين " .

 

قلت : وليس يهمني الآن الكلام على فظاعة تلك الجناية ، ولا بيان ما في الكلام المنقول عن الشيخ حسن من الجناية على الشريعة الإسلامية ، وإنما القصد بيان خطأ الشيخ محمود شلتوت في تضعيفه للحديث المذكور ، وترجيحه حكم المحكمة على فتوى المفتي ، وتحقيقاً لما ادعيته .

 

أقول ومنه تعالى استمد العون والعصمة :

 

من المعلوم عند المشتغلين بالسنة المطهرة أن الحديث الواحد قد يكون له عدة طرق ، وقد تكون كلها ضعيفة ، وقد يكون ضعفها يسيراً بحيث أنه ينجبر بكثرة الطرق ، لخلوها من متهم أو متروك ، وعليه فقد يتفق أن يروي بعض المحدثين مثل هذا الحديث ، لكن من طريق واحد ضعيف ، أو من طرق ضعيفة لا يتقوى الحديث بها عنده ، فيحكم عليه من أجل ذلك بالضعف وهو معذور ، بينما يروبه غيره من طرق أخرى صحيحة أو تصلح للاعتضاد والتقوي بها ، فيحكم بسبب ذلك على الحديث بالصحة وهو مصيب ، ولكن من لا علم عنده يظن أن هذا الاختلاف منشأه من التباين في الرأي ، وإنما هو منشؤه من التباين في العلم وسعة الحفظ كما بينت.

 

فإذا عرف هذا فلا يليق بالعالم المحقق أن يضعف حديثاً ما ، لمجرد تضعيف بعض المحدثين له ، لا سيما إذا كان فيهم من صححه ، لأن تضعيفه والحالة هذه يكون اتباعاً للهوى ، وهو سبب الضلال كما لا يخفى ، بل عليه أن يتبع طرقه وأسانيده من مصادر السنة الموثوقة ، فإن لم يجد له إلا طريقاً واحداً ضعيفاً ، أو وجد له طرقاً لا يتقوى بعضها ببعض صح له حينئذ أن يتسمك بقوله من ضعف الحديث من المحدثين .

 

والذي أعتقده أن الشيخ محمود شلتوت لم يسلك هذه الطريق العلمية في حكمه على الحديث بالضعف ، بل غلب على رأيه العمل بالعموم الذي أشار إليه ، فلما رأى معارضة الحديث له تخلص منه بتقليده لمن ضعفه من المحدثين ، أقول هذا لأنه لو فعل ما أشرنا إليه من التتبع لما وسعه إلا الحكم على الحديث بالصحة وتخطئة من ضعفه ، ذلك لأن الضعف المزعوم إنما هو بالنسبة لبعض طرقه فقط ، وأما سائرها فلا علة فيها ، ولذلك صححه جماعة من المتقدمين والمتأخرين ، من المحدثين والفقهاء وغيرهم -كما سيأتي ذكرهم-.

 

وإلى القاريء الكريم تفصيل هذا الإجمال في عرض مبسط يصلح مثالاً لتطبيق الطريقة العلمية المشار إليها في الكلام السابق :

فاعلم أن الحديث المذكور ورد عن ثلاثة من الصحابة : عمر بن الخطاب ، وسراقة بن مالك ، وعبد الله بن عباس :

1- أما حديث عمر ، فله خمسة طرق ، وهي :

الأول : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " قتل رجل ابنه عمداً فرفع إلى عمر بن الخطاب فجعل عليه مائة من الإبل : ثلاثين حقه ، وثلاثين جذعة ، وأربعين ثنية ، وقال : لا يرث القاتل ، و لولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : " لا يقتل والد بولده " لقتلتك " .

 

أخرجه أحمد رقم (346) والترمذي (2/307 بشرح التحفة) وابن ماجة (2/146) والدارقطني (ص 347) من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو به.

قلت : والحجاج مدلس وقد عنعنه ، لكن قد تابعه ثقتان :

أحدهما : محمد بن عجلان ، أخرجه عنه الدارقطني والبيهقي في سننه الكبرى (8/38) ، وهذا وحده إسناد حسن ، فكيف إذا انضم إليه متابعة الحجاج ، والمتابعة الآتية ؟ وقد أخرجه البيهقي في " المعرفة " أيضاً كما في " نصب الراية " للحافظ الزيلعي (4/ 339) ونقل عنه أنه قال : " وهذا إسناد صحيح " وأقره الحافظ ابن حجر العسقلاني ، فقال في " تلخيص الحبير " (ص 336 طبع الهند ) : " وصحح البيهقي سنده لأن رواته ثقات " .

 

والآخر عبد الله بن لهيعة قال : حدثنا عمرو بن شعيب به مقتصراً على الحديث المرفوع .

 

أخرجه أحمد رقم (147 ، 148) وقال المعلق عليه فضيلة الشيخ أحمد محمد شاكر " إسناده صحيح " ! وهذا منه على ما جرى عليه في هذا الكتاب وغيره من تصحيح أحاديث ابن لهيعة ، ونحن نوافقه على هذا فيما إذا لم يتفرد ابن لهيعة بالحديث لأنه ثقة في نفسه ، لكن في حفظه ضعف فيؤمن هذا منه عند المتابعة ، كما في هذا الحديث كما لا يخفى .

 

الطريق الثاني : عن مجاهد قال : حذف رجل ابناً له بسيف فقتله ، فرفع إلى عمر فقال : لولا أني سمعت رسول اثه -صلى الله عليه وسلم- يقول : " لا يقاد الوالد من ولده " لقتلتك قبل أن تبرح .

أخرجه أحمد (رقم 98) ورجاله ثقات ، غير أن مجاهداً لم يسمع من عمر .

 

الطريق الثالث : عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعاً أخرجه أبو بكر بن الجصاص في " أحكام القرآن " (1/168 الطبعة البهية) ورجاله موثقون ، غير عبد الله بن سنان المروزي ، فإني لم أجد من ترجمه ، وفي سماع سعيد من عمر كلام .

 

الطريق الرابع : عن عمر بن عيسى القرشي ، عن ابن جريج ، بسنده عن عمر نحو رواية الطريق الأول .

أخرجه الطبراني ، وابن عدي في " الكامل " ، والعقيلي في " الضعفاء " والحاكم في " المستدرك " (2 / 216 ، 4 / 368) وقال: " صحيح الإسناد " ورده الذهبي بقوله : " بلى عمر بن عيسى منكر الحديث ".

 

الطريق الخامس : عن الحكم بن عتيبة ، عن رجل يقال له : عرفجة ، عن عمر مرفوعاً به .

أخرجه البيهقي (8 / 39) وعرفجة هذا الظاهر أنه ابن عبد الله الثقفي ، وقد أورده ابن حبان في الثقات ، وكذا العجلي وقال : " كوفي تابعي ثقة " وبقية رجاله ثقات غير أبي محمد عبد الرحمن بن يحيى الزهري القاضي المكي شيخ البيهقي ولم أجد له الآن ترجمته .

 

فهذه طرق خمسة لا يشك الواقف عليها في ثبوت الحديث مرفوعاً من طريق عمر وحده ، ولهذا قال الجصاص عقب الطريق الأولى :

" وهذا خبر مستفيض مشهور ، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه فكان بمنزلة قوله : ( لا وصية لوارث ) ونحوه في لزوم الحكم به وكان في خبر المستفيض المتواتر " .

 

2- وأما حديث سراقة :

 

فأخرجه الترمذي والدارقطني من طريق إسماعيل بن عياش ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، عن سراقة قال : حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه .

 

وأعله الترمذي بقوله : " المثنى بن الصباح يضعف في الحديث ، وقد روى هذا الحديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وقد روي عن عمرو بن شعيب مرسلا ، وهذا حديث فيه اضطراب ، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به ، وإذا قذفه لا يحد " .

 

قلت : وأنا أرجح أن الاضطراب المذكور لا يضعف الحديث ، لاتفاق ثلاثة من الرواة على روايته موصولاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب ، فالحديث حديثه ليس مرسلاً ، ولا من حديث سراقة ، ويقوي ذلك الطرق الأربعة الأخرى عن عمر ، ولو أن الترمذي -رحمه الله تعالى- وقف على هذه الطرق المسندة ، وعلى رواية ابن عجلان وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب بسنده المتصل عن عمر لما أعل الحديث بالاضطراب ، فتأمل وتذكر ما قلته بين يدي هذا التحقيق يتبين لك صوابه -والله تعالى الهادي- .

 

3- وأما حديث ابن عباس ولفظه : " لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقتل الوالد بالولد " .

فأخرجه الترمذى ، والدارمى (2 / 190 طبع دمشق) ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي من طريق إسماعيل بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن طاووس ، عن ابن عباس مرفوعاً .

وقال الترمذي : " لا نعرفه بهذا الإسناد مرفوعاً إلا من حديث إسماعيل من مسلم ، وإسماعيل بن مسلم المكي تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه " .

 

قلث : فضعفه لس لتهمة فيه بل لما يخشى من سوء حفظه ، وذلك يزول لمجرد متابعة غيره له إذا وجد وقد كان ، فقد قال الحافظ ابن حجر في " التلخيص " :

" لكن تابعه الحسن بن عبيد الله العنبري ، عن عمرو بن دينار -قاله البيهقي- " .

قلت : وهذه متابعة قوية ، فإن العنبري هذا ثقة ، وقد أخرجه عنه الدارقطني بسند صحيح إليه ، وبقية رجال السند أشهر من أن يذكروا ، فصح إسناد الحديث عن ابن عباس -والحمد لله على توفيقه-.

 

وقد تابعه سعيد بن بشير أيضاً أو قتادة ، أخرجه الحاكم في المستدرك (4/369) عن سعيد : حدثنا عمرو بن دينار به ، وسكت عليه هو والذهبي ، وسعيد هذا حسن الحديث لا سيما عند المتابعة ، وأخرجه عنه الدارقطني أيضاً إلا أنه أدخل بين سعيد وعمرو بن دينار قتادة وكذلك أخرجه البزار ، ولعله الصواب .

 

فتبين أن الحديث عن ابن عباس صحيح أيضاً لكن من غير طريق الترمذي وفي هذا إشارة أيضاً إلى ما أشرت إليه آنفاً وإلى أن مجال الاستدراك على المتقدمين واسع ، إذ أنك رأيت أن الترمذي قال : لا يعرف هذا الحديث إلا من طريق إسماعيل بن مسلم الضعيف ، مع أن غيره قد رواه وعرفه من طريق أخرى وصحيحة .

 

وخلاصة القول : إن حديث ابن عباس هذا بمتابعاته إذا ضم إلى حديث عمر بطرقه الخمسة ، فلا شك في إفادة ذلك صحة الحديث صحة لا يداخلها شك ولا ريب فلا جرم أن عمل به جماهير من العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم ، كما في سبل السلام ، وغيره وصححه ابن الجارود كما قال الحافظ في " بلوغ المرام " وأجاز العمل به شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله تعالى- وفي ذلك إشارة منه إلى تصحيحه للحديث ، وهو من هو في التحقيق ، كما لا يخفى على العارفين به ، وكذلك قواه من محققي المتأخرين العلامة صديق حسن خان ، وقال بعد ذلك في " الروضة الندية " (2 / 302) :

" وقد أجمع أهل العلم على ذلك لم يخالف فيه إلا البني ، ورواية عن مالك " .

 

وإذ قد علمت أن الحديث صحيح - يتبين لك حينئذ أن تمسك الأستاذ محمود شلتوت فيما رجحه (شخصياً!) من قتل الوالد بالولد -بعموم الآيات- ضعيف لا حجة فيه لأن النص الخاص يقضي على العام كما تقرر في الأصول ، ومن هذا القبيل قوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا يقتل مسلم بكافر " فهذا الحديث ، والحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه من المخصصات لتلك العمومات .

 

( وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) (ق:37)

 

ناصر الدين الألباني

أبو عبد الرحمن

دمشق 17/ 2/ 1774 هـ

 

 

*** *** ***

 

4- حول المهدي

 

كتب بعض القراء الأفاضل إلى هذه المجلة يقول :

" قرأت في الأجزاء (8، 9، 10) بحثاً قيماً عن المهدي كتبه الأستاذ ناصر الدين الألباني في باب " الأحاديث الضعيفة والموضوعة " وقد كنا قررنا واعتقدنا قبلاً ما كتبه الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره " المنار " (9-499-504) وكذلك ما كتبه الأستاذ محمد عبد الله السمان في كتابه " الإسلام المصفى " وإنني متيقن بأن الأستاذ ناصر الدين له علم بما كتباه ، فلذلك أرجو الأستاذ أن يطالع ما كتباه مرة ثانية ، ويكتب في المهدي مقالأ ضافياً فإن فيما كتباه ما يخالف ما كتبه الأستاذ ناصر الدين تمام المخالفة " .

 

أقول في الجواب عن ذلك :

 

نعم لقد كنت على علم بما كتبه الشيخ رشيد -رحمه الله- وكذا بما كتبه الأستاذ السمان في كتابه الذي أسماه " الإسلام المصفى " ! وأنا أجزم بخطأ ما كتباه في هذه المسألة لا سيما الأخير فإنه لا علم عنده ، ولذلك أنكر مسائل أخرى هي أقوى ثبوتاً من هذه المسألة ، مثل : خروج الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام ، وشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة ، فإن هذه المسائل الثلاث أدلة ثبوتها مقطوع بها لورود الأحاديث المتواترة بتأييدها ، ومع ذلك لم يتورع حضرة الأستاذ السمان من إنكارها ! وقد سبقه إلى شيء من ذلك السيد رشيد -رحمه الله- فإنه طعن في أحاديث الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام ، مع أنها أحاديث صحيحة متواترة ، كما صرح بذلك علماء هذا الشأن كالحافظ ابن حجر وغيره ، ولا مجال الآن لبيان ذلك فإلى مناسبة أخرى -إن شاء الله تعالى-.

 

أما مسألة المهدي فليعلم أن في خروجه أحاديث كثيرة صحيحة ، قسم كبير منها له أسانيد صحيحة ، وأنا مورد هنا أمثلة منها ثم معقب ذلك بدفع شبهة الذين طعنوا فيها فأقول :

 

الحديث الأول : حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً : " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم ، حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي ، يواطيء اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً ".

رواه أبو داود (2/207) ، والترمذي ، وأحمد ، والطبراني في الكبير والصغير ، وأبو نعيم في " الحلية " ، والخطيب في " تاريخ بغداد " من طرق عن زر بن حبيش عن ابن مسعود . وقال الترمذي : " حسن صحيح " والذهبي : " صحيح " وهو كما قالا .

 

وله طريق آخر عند ابن ماجة (2/517) عن علقمة عن ابن مسعود به نحوه، وسنده حسن.

 

الحديث الثاني : عن علي بن أبي طالب -رضى الله عنه- مرفوعاً نحوه وله عنه طريقان :

أخرج الأول أبو داود وأحمد ، وإسناده صحيح ، وأخرج الآخر ابن ماجة وأحمد ، وإسناده حسن .

 

الثالث : عن أبي سعيد الخدري ، وله طريقان أيضاً . الأول: أخرجه الترمذي، ، و ابن ماجه ، و الحاكم ، وأحمد ، و حسنه الترمذي ، وقال الحاكم : " صحيح على شرط مسلم " ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا.

وأخرج الطريق الثاني أبو داود ، والحاكم وصححه ، وسنده حسن.

 

الرابع : عن أم سلمة ، وقد ذكرت لفظه وتخريجه عند الكلام على الحديث الثمانين من المقال العاشر من " الأحاديث الضعيفة " .

وبقية الطرق قد ذكرها العلماء في كتب خاصة فليراجعها من أراد زيادة الاطلاع  وقد قال صديق حسن خان في " الإذاعة " :

 

" الأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياته كثيرة جداً تبلغ حد التواتر وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد ، وقد اضجع القول فيها ابن خلدون في كتابه " العبر وديوان المبتدأ والخبر " حيث قال : يحتجون في الباب بأحاديث خرجها الأئمة ، وتكلم فيها المنكرون لذلك ، وعارضوها ببعض الأخبار ، وللمنكرين فيها من المطاعن ، فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الإسناد بغفلة أو سوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها . إلى آخر ما قال ، وليس كما ينبغي فإن الحق الأحق بالاتباع ، والقول المحقق عند المحدثين المميزين بين الدار والقاع ، أن المعتبر في الرواة ورجال الأحاديث أمران لا ثالث لهما الضبط والصدق ، دون ما اعتبره أهل الأصول من العدالة وغيرها فلا يتطرق الوهن إلى صحة الحديث بغير ذلك ".

 

ثم قال صديق خان :

" وأحاديث المهدي بعضها صحيح ، وبعضها ضعيف ، وأمره مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار ، وأنه لا به في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت النبوي يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ، ويستولي على الممالك الإسلامية ، ويسمى بالمهدي ، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره . وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال ، ويأتم بالمهدي في صلاته إلى غير ذلك ، وأحاديث الدجال وعيسى أيضاً بلغت مبلغ التواتر ولا مساغ لإنكارها كما بين ذلك القاضي العلامة الشوكاني -رحمه الله- في " التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح " ، قال ( يعني الشوكاني ) : " والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها : خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر ، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف التواتر على ما هو دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول ، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضاً لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك . انتهى . وقد جمع السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليماني الأحاديث القاضية بخروج المهدي وأنه من آل محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه يظهر في آخر الزمان ثم قال : ولم يأت تعيين زمنه إلا أنه يخرج قبل خروج الدجال . انتهى " .

شبهات حول أحاديث المهدي :

 

هذا ثم إن السيد رشيد أو غيره لم يتتبعوا ما ورد في المهدي من الأحاديث حديثاً حديثاً ، ولا توسعوا في طلب ما لكل حديث منها من الأسانيد ، ولو فعلوا لوجدوا فيها ما تقوم به الحجة حتى في الأمور الغيبية التي يزعم البعض أنها لا تثبت إلا بحديث متواتر ! ومما يدلك على ذلك أن السيد رشيد -رحمه الله- ادعى أن أسانيدها لا تخلو عن شيعي ! مع أن الأمر ليس كذلك على إطلاقه ، فالأحاديث الأربعة التي أوردتها ليس فيها رجل معروف بالتشيع ، على أنه لو صحت هذه الدعوى لم يقدح ذلك في صحة الأحاديث لأن العبرة في الصحة إنما هو الصدق والضبط ، وأما الخلاف المذهبى فلا يشترط في ذلك كما هو مقرر في مصطلح علم الحديث ولهذا روى الشيخان في صحيحيهما لكثير من الشيعة وغيرهم من الفرق المخالفة واحتجا بأحاديث هذا النوع .

 

وقد أعلها السيد بعلة أخرى وهي التعارض ! وهذه علة مدفوعة لأن التعارض شرطه التساوي في قوة الثبوت ، وأما نصب التعارض بين قوي وضعيف فمما لا يسوغه عاقل منصف ، والتعارض المزعوم من هذا القبيل ، وقد أوردت بعض الأمثلة على ذلك في المقال الذي سبقت الإشارة إليه فليراجعه من شاء .

 

وقد يعل بعض الناس هذه الأحاديث وكذا أحاديث نزول عيسى عليه السلام بعلة أخرى ، وهي أنها كانت -بزعمهم- سبباً لحمل المسلمين على الاتكال عليها ، وانتظار خروج المهدي ، ونزول عيسى عليهما السلام ، وعلى ترك الأخذ بأسباب الحياة والقوة والمنعة ، ويظنون أن معالجة هذه المشكلة إنما هي بإنكار أحاديثهما ! وهذا خطأ يشبه معالجة المعتزلة للآيات المتشابهات ، والأحاديث التي في معناها ، فإنهم اشتهروا بتأويلهم للآيات وردهم للاحاديث الصحيحة التي من هذا القبيل حرصاً منهم -كما زعموا- على التنزيه ودفعاً للتشبيه ! وأما أهل السنة فكانوا يؤمنون بهذه الآيات والأحاديث على ظاهرها ، ولا يفهمون من ذلك تشبيهاً أو ما لا يليق بالله تعالى .

 

وكذلك القول في أحاديث المهدي ، فإنه ليس فيها ما يدل بل ما يشير أدنى إشارة إلى أن المسلمين لا نهضة لهم ولا عز قبل خروج المهدي ، فإذا وجد في بعض جهلة المسلمين من يفهم ذلك منها ، فطريق معالجة جهله أن يعلم ويفهم أن فهمه خطأ ، لا أن نرد الأحاديث الصحيحة بسبب سوء فهمه إياها !

 

ومن شبهات بعض الناس أن عقيدة المهدي قد استغلها بعض الدجالين ، فادعوا المهدوية لأنفسهم وشقوا بسبب ذلك صفوف المسلمين وفرقوا بينهم ، ويضربون على ذلك الأمثلة الكثيرة آخرها غلام أحمد القادياني دجال الهند ، ونحن نقول إن هذه الشبهة من أضعف الشبهات ، وفي رأيي أن حكايتها تغني عن ردها ، إذ أن من المسلم به أن كثيراً من الأمور الحقة يستغلها من ليس أهلاً لها ، فالعلم مثلاً يدعيه بعض الأدعياء وهو في الواقع مم الجهلاء ، فهل يليق بعاقل أن ينكر العلم بسبب هذا الاستغلال ؟! بل إن بعض الناس فيما مضى ادعى الألوهية فهل طريقة الرد عليه وبيان كذبه يكون بإنكار الألوهية الحقة ؟!

 

ومثال آخر : يفهم بعض المسلمين اليوم من عقيدة " القضاء والقدر " الجبر وأن الإنسان الذي قدر عليه الشر مجبر على ارتكابه ، وأنه لا اختيار له فيه ، وقع في هذا الفهم الخاطيء غير قليل من أهل العلم ، ونحن مع جماهير العلماء الذين لا يشكون في صحة عقيدة القضاء والقدر وأنها لا تستلزم الجبر مطلقاً ، فإذا أردنا أن نصحح ذلك الفهم الخاطيء الملصق بهذه العقيدة الحقة ، أفيكون طريق ذلك بإنكارها مطلقاً كما فعل المعتزلة قديماً وبعض أذنابهم حديثاً ؟! أم السبيل الحق الاعتراف بها لأنها ثابتة في الشرع ودفع فهم الجبر منها ؟ لا شك أن هذا السبيل هو الصواب الذي لا يخالف فيه مسلم البتة ، فكذلك فلتعالج عقيدة المهدي، فنؤمن بها كما جاءت في الأحاديث الصحيحة ، ونبعد عنها ما ألصق بها بسبب أحاديث ضعيفة واهية خبيثة ، وبذلك نكون قد جمعنا بين إثبات ما ورد به الشرع والإذعان لما يعترف به العقل السليم .

 

وخلاصة القول : إن عقيدة خروج المهدي عقيدة ثابتة متواترة عنه -صلى الله عليه وسلم- يجب الإيمان بها لأنها من أمور الغيب ، والإيمان بها من صفات المتقين كما قال تعالى : ( الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ) . وإن إنكارها لا يصدر إلا من جاهل أو مكابر . أسأل الله تعالى أن يتوفانا على الإيمان بها وبكل ما صح في الكتاب والسنة .

 

*** *** ***

5- حول رواية بني أمية للأحاديث وطعن المستشرقين بها

 

 

قرأت في المقال الثالث من مقالات " الأعاصير في وجه السنة حديثاً " للأستاذ الفاضل الشيخ مصطفى السباعي ، المنشور في العدد الخامس ، من مجلة " المسلمون " من سنة 1374 هـ ما نصه :

" وها هي أسانيد الأحاديث محفوظة في كتب السنة ، ولا نجد من بين آلاف الأحاديث واحداً في سنده عبد الملك أو معاوية أو يزيد أو أحد عمالهم كالحجاج وخالد بن عبد الله القسري وأمثالهما ، فأين ضاع ذلك في زوايا التاريخ لو كان له وجود ؟ ".

 

أقول : ذكر الأستاذ هذا الكلام في صدد رده ما ادعاه بعض المستشرقين من افتراء ولاة بني أمية الأحاديث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولا شك أن هذا الادعاء باطل عند المتجردين عن الأغراض والأهواء ، ولكن في هذا الكلام بعض الأوهام العلمية ، أهمها ما أفاده من أن معاوية ليس له في كتب السنة ولا حديث واحد ، ولما كان الواقع خلاف ذلك رأيت من الواجب بيان الحقيقة ، فأقول :

إن معاوية بن أبي سفيان له أحاديث كثيرة جداً في الكتب الستة والمسانيد والمعاجم وغيرها من كتب السنة ، ومجموع ما له من الأحاديث ماثة وثلاثون حديثاً ، فيما ذكره الخزرجي في " خلاصة تذهيب الكمال " وفي جزء مخطوطه في المكتبة الظاهرية  بدمشق أن الحافظ بقي بن مخلد روى له في مسنده مائة حديث وثلاثة وستين حديثاً ، وله منها في مسند الإمام أحمد (4 / 91-102) نحو مائة حديث ، وفي الكتب الستة نحو الثلاثين ، اتفق البخاري ومسلم في صحيحيهما على أربعة منها ، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة .

 

وقد يكون من تمام الفائدة أن أسوق بعض أحاديثه الثابتة عنه :

 

1 – " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " متفق عليه .

2- " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " رواه البخاري .

3- " لا توصل صلاة بصلاة حتى تخرج أو تتكلم " رواه مسلم وأحمد.

4- " من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار " رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح .

5_ قال معاوية : " رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمص لسانه أو قال شفته ( يعني الحسن بن علي ) عليهما السلام ، وإنه لن يعذب لسان أو شفتان مصهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " رواه أحمد بإسناد صحيح .

 

وبهذه المناسبة أقول :

إن للعلامة أبي عبد الله الوزير اليماني في كتابه الجليل " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم " بحثاً قيماً جداً بين فيه صدق معاوية رضي الله عنه في الرواية ، وقد تتبع فيه ماله من الأحاديث في الكتب الستة فساقها حديثاً حديثاً مع بيان شواهدها من رواية الصحابة الآخرين الذين لا طعن فيهم عند الطاعنين في معاوية من الفرق المخالفة !

 

فعسى أن الأستاذ السباعي يرجع إلى هذا الكتاب فيستفيد منه علوماً يغذي بها مقالاته القيمة " الأعاصير في وجه السنة حديثاً " بصورة عامة ، ومقاله هذا -الذي كتبت حوله هذه الكلمة- بصورة خاصة.

وختاماً أقدم إلى الأستاذ الفاضل شكري على مقالاته التي يخدم بها السنة ، مشفوعاً بتحيتي الإسلامية .

 

*** *** ***

 

6- حديث تظليل الغمام له أصل أصيل

 

قرأت في العدد السادس من المجلد السادس من مجلة " المسلمون " الغراء كلمة الأستاذ الطنطاوي بعنوان " صناعة المشيخة " فسرني ما فيها من الصراحة والشجاعة في محاربة الباطل الذي انطلى أمره على كثير من الناس فبارك الله فيه وزاده توفيقاً .

 

بيد أنني استنكرت قوله في التعليق : " وما يقوله القوالون من أنه ( المظلل بالغمام ) لا أصل له " .

 

ذلك لأن حديث تظليل الغمام للنبي عليه الصلاة والسلام ثابت في غير ما كتاب من كتب السنة ، فكيف يصح أن يقال فيه : " لا أصل له " ؟ نعم لو قال " لا يصح سنده " لكان أقرب إلى الصواب ، وأبعد عن الغلو في الخطاب ، وإنما قلت " أقرب " لأن الصواب أن الحديث صحيح ، وإن ضعفه بعضهم ، لأنه لم يأت عليه بحجة مقنعة وإليك البيان :

 

أخرج الترمذي (4/296 بشرح التحفة) وأبو نعيم في (دلائل النبوة 1/53) والحاكم (2/615-616) وابن عساكر في (التاربخ 1/187/1 – 188/1) عن قراد أبي نوح ، أنبأ يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا علىالراهب . . . قلت : فذكر القصة وفيها " فأقبل -صلى الله عليه وسلم- وعليه غمامة تظله ، قال : انظروا إليه غمامة تظله ! فلما دنا على القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال فيء الشجية عليه ، قال انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه " الحديث بطوله ، وفي آخر " وبعث معه أبو بكر بلالاً " .

 

قلت : فهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح :

أما أبو بكر بن أبي موسى فثقة بلا خلاف واحتج به الشيخان .

وأما يونس بن أبي إسحاق فاحتج به مسلم ، وفيه كلام لا يسقط حديثه عن رتبة الاحجاج به ، وقد قال الذهبي فيه " صدوق ما فيه بأس " .

وأما قراد ، واسمه عبد الرحمن » فثقة أيضاً احتج به البخاري .

 

قلت : فتبين أن الإسناد صحيح من الوجهة الحديثية ، وقد تناقضت فيه آراء العلماء ما بين مفرط ومفرط ، فهذا الحاكم يقول فيه : " صحيح على شرط الشيخين " ! وقال الجزري " إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح أو أحدهما " .

 

وفي الجانب الآخر قول الذهبي في تعقيبه على الحاكم : " قلت : أظنه موضوعاً ، فبعضه باطل " .

 

فهذا الغلو من القول لا يتفق في ميدان العلم والبحث الحر ، فأين الدليل على وضعه بطوله ، ومن المعلوم أن الوضع إنما يحكم به إما من جهة السند ، وهذا منفي هنا لما علمت من ثقة رجاله ، وإما من جهة متنه ، وهذا مفقود أيضاً إذ غاية ما يمكن أن ينكر منه ما ذكوه الذهبي في ترجمة قراد أبي نوح من " الميزان " فقال :

" أنكر ما له حديثه عن يونس بن أبي إسحاق . . . ومما يدل على أنه باطل قوله : " وبعث معه أبو بكر بلالاً .. وبلال لم يكن بعد خلق ، وأبو بكر كان صبياً " .

 

 

وقال في تاريخ الإسلام (1 / 39):

" تفرد به قراد ، واسمه عبد الرحمن بن غزوان ، ثقة احتج به البخاري والنيسابوري  ، ورواه الناس عن قراد وحسنه الترمذي ، وهو حديث منكر جداً ، وأين كان أبو بكر ؟! كان ابن عشر سنين فإنه أصغر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنتين ونصف ، وأين كان بلال في هذا الوقت ، فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم يكن ولد بعد " .

 

وذكر نحو هذا وأبسط منه ابن القيم في فصل له في هذا الحديث مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق (عام – 5485 / 100 - 103) .

 

قلت : وهذا النقد للمتن لو سلم به لم يقتض الحكم على الحديث كله بالوضع ، ذلك لأن رواته ثقات كما عرفت ، وحينثذ إنما يجوز أن يرد من حديث الثقة ما ثبت خطؤه ويبقى باقيه على الأصل وهو القبول ، ويؤيده أن البزار لما روى هذا الحديث لما روى هذا الحديث لم يسم " بلالاً " وإنما قال : " رجلاً " وعلى هذا يطيح الإشكال الذي اعتمد عليه الذهبي في إنكاره للحديث ، ويدل على أن تسمية الرجل بلالاً سهو من بعض الرواة ، وهذا لابد من الاعتراف به ، إذ الثقة قد يخطيء والجواد قد يكبو .

 

وتوسط آخرون فحسنوا الحديث كالترمذي ، فإنه قال : " حديث حسن غريب " .

 

وهذا هو الحق عندي لما عرفت من سلامة إسناده من قادح ؟ وما أشرنا إليه من الكلام في بعض رواته لا ينافي القول بحسنه لا سيما إذ علمنا مجيئه من طرق أخرى ، فقد قال السيوطي في " الخصائص الكبرى " (1 /84) :

" قال البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي.

قلت : ولها شواهد عدة سأوردها تقضي بصحتها ، إلا أن الذهبي ضعف الحديث لقوله في آخره : " وبعث معه أبو بكر بلالاً " . . . وقد قال ابن حجر في " الإصابة " : الحديث رجاله ثقات ، وليس فيه منكر سوى هذه اللفظة ، فتحمل على أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر وهماً من أحد رواته " .

 

ثم ساق السيوطي الشواهد التي أشار إليها فليراجعها من شاء فإن الكلام عليها مما يطيل البحث ، ولا مجال لذلك الآن .

 

بقي علينا أن ندفع شبهة أخرى على هذه المعجزة وقد تعلق بها الذهبي أيضاً ، فإنه قال عطفاً على قوله السابق في " التاريخ " :

وأيضاً فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة لأن ظل الغمامة تقدم فيء الشجرة التي نزل تحته .

 

فأقول : إنما يصح هذا الاستشكال لو كان في الحديث التصريح بأن الفيء مال مع بقاء الغمامة عليه -صلى الله عليه وسلم- ، وليس في الحديث شيء من هذا ، فمن الجائز أنه -صلى الله عليه وسلم- لما جلس عند الشجرة انكشفت الغمامة عنه ووقعت الشمس عليه فمال فيء الشجرة عليه ليظله بدل الغمامة ، وعليه فيكون قد ظهرت له -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة معجزتان الأولى تظليل الغمامة له ، والأخرى ميل الفيء عليه ، وهو -صلى الله عليه وسلم- أهل لذلك ولما هو أكثر منه بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- ، نقول هذا وإن كنا لسنا والحمد لله من الذين ينسبون إليه -صلى الله عليه وسلم- ما هب ودب مما لم يصح من المعجزات ، فإن فيما صح منها ما يكفي ويشفي والحمد لله .

 

على أنه ينبغي أن لا ننسى أنه ليس في هذه القصة أن الغمامة كانت تظله دائماً أينما سار وأينما نزل ، فإن هذا باطل قطعاً ، فهناك أحاديث كثيرة صحيحة تصرح بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يستظل بالشجرة والخيام وغيرها ، وإنما وقعت هذه المعجزة في خروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى الشام .

 

وخلاصة القول : إن تظليل الغمامة له صلى الله عليه وآله وسلم له أصل في السنة ، ولكن في ثبوته ما ألممت به من الخلاف ، والراجح عندي الصحة لما سبق ، فمن اقتنع بذلك فبها ، وإلا فحسبه التوقف وترك الجزم بالضعف ، وأما القول بأنه لا أصل له ، فلا أصل له .

 

محمد ناصر الدين الألباني

دمشق

18 ذي القعدة 1378 هـ

*** *** ***

7- حادثة الراهب المسمى " بحيرا " حقيقة لا خرافة

 

قرأت في الأجزاء (77-40) شوال سنة 1378 - من هذه المجلة الكريمة بحثاً من كتاب " المنتقى في تاريخ القرآن " للأستاذ عبد الرؤوف المصري تحت عنوان ( خرافة الراهب بحيرا ) جاء فيه :

" لم يثبت بالسند الصحيح عن الصحابة ولا عن التابعين حادثة بحيرا الراهب ( نسطورس ) ، ولم يثبت بالصحيحين ( كذا ) بأن بحيرا قابل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى في صغره مع عمه أبي طالب في سفره إلى الشام ، ولم يشر -صلى الله عليه وسلم- إلى تلك الحادثة لا تصريحاً ولا تلميحاً في جميع أحاديثه وأدوار حياته ، بل كانت حادثة بحيرا غفلة من بعض كتاب السيرة دسها داس لتعظيم شأن النبي في صغره ونقلها أصحاب السير من غير تمحيص " ثم قال : " . . . واعتمدوا على أمشاج من الروايات لا سند لها . . . " .

 

هذا لب ما جاء في البحث المذكور ويتلخص منه أن الحادثة لم تثبت في الصحيحين ولا في غيرهما عن أحد من الصحابة والتابعين بالسند الصحيح ، وأن كل ما هنالك إنما هو أمشاج من الروايات التي لا سند لها.

 

سند الحادثة :

 

كيف لا تصح هذه الحادثة وقد رواها من الصحابة أبو موسى الأشعري ، ومن التابعين الأجلاء أبو مجلز لاحق بن حميد رحمه الله تعالى ، ورد ذلك عنهما بإسنادين صحيحين ، وهاك البيان :

أما رواية أبي موسى الأشعري فأخرجها الترمذي في سننه (4/496) وأبو نعيم في " دلاثل النبوة " (1/53) والحاكم في " المستدرك " (12 / 615 - 616) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " (6/187 - 188/ 1) بأسانيد متعددة عن قراد أبي نوح : أنبأ يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال : خرج أبو طالب إلى الشام ، وخرج معه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فعلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب ، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت ، قال : فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال : هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين ، فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثم رجع فصنع لهم طعاماً فلما أتاهم به ، وكان هو في رعية الإبل ، قال : أرسلوا إليه ، فأقبل وعليه غمامة تظله ، فلما دنا من القوم وجد القوم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه ، فقال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه . الحديث بطوله .

 

وحسنه الترمذي وإسناده جيد وقد صححه الحاكم والجزري وقواه العسقلاني والسيوطي وقد بينت صحته على طريقة أهل الحديث قريباً في " مجلة المسلمون " العدد الثامن من سنة 1379 (ص 393 – 397) فليرجع إليه من أراد زيادة في التثبت.

 

وأما رواية أبي مجلز فأخرجها ابن سعد في " الطبقات الكبرى " قال (1 / 120) : أخبرنا خالد بن خداش : أخبرنا معتمر بن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب أو أبا طالب -شك خالد- قال : لما مات عبد الله عطف على مجمد -صلى الله عليه وسلم-، قال فكان لا يسافر سفراً إلا كان معه فيه ، وإنه توجه نحو الشام فنزل منزله فأتاه فيه راهب ، فقال : إن فيكم رجلاً صالحاً ، فقال : إن فينا من يقري الضيف ويفك الأسير ويفعل المعروف ، أو نحواً من هذا ، ثم قال : إث فيكم رجلاً صالحاً ، ثم قال : أين أبو هذا الغلام ؟ قال : ها أنا ذا وليه ، أو قيل . هذا وليه ، قال . احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام ، إن اليهود حسد ، وإني أخشاهم عليه ، قال : ما أنت تقول ذاك ولكن الله يقول ، فرده ، قال . اللهم إني أستودعك محمداً ، ثم إنه مات .

 

وهذا إسناد مرسل صحيح ، فإن أبا مجلز واسمه لاحق بن حميد تابعي ، ثقة ، جليل ، احتج به الشيخان في صحيحيهما ، وبقية أصحاب الكتب الستة ، وأخذ الحديث عن جماعة من الصحابة منهم : عمران بن حصين ، وأم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأنس ، وجندب بن عبد الله ، وغيرهم ، ومن بينه وبين ابن سعد كلهم عدول ثقات ، احتج بهم مسلم في صحيحه .

 

وإذا تبين هذا يسقط بداهة قول الأستاذ في خاتمة البحث : " إن خرافة بحيرا ابتدعت في القرن الثاني والثالث الهجري ، ولم يروها الثقات " فقد رواها الثقات من قبل القرن الذي زعم أن الحادثة ابتدعت فيه !

 

شبهاث حول الحادثة وجوابها:

 

بعد أن أثبتنا معه الحادثة بالحجة العلمية ، لا بد لنا من الإجابة عن الشبهات التي حملت الأستاذ المصري على الطعن في الحادثة واعتبارها من الخرافات التي راجت على أسلافنا جميعاً من كتاب السيرة ! حتى يأخذ البحث مداه العلمي فأقول :

 

الشبهة الأولى : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشر إلى تلك الحادثة لا تصريحاً ولا تلويحاً.

 

والجواب : إنها شبهة يغني حكايتها عن ردها ، إذ كل من عنده ذرة من علم بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرة غيره من العظماء يعلم أن أكثر هذه السيرة وردت عن أصحابهم متحدثين بما يعلمونه عنهم ، لا بما سمعوه منهم ، ومن هذا القسم الشمائل النبوية ، فهل طعن أحد في شيء من ذلك بعد ثبوت الرواية بها ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يثر إلى ذلك أصلاً ؟!

 

الشبهة الثانية : قول الأستاذ : " إن بحيرا الراهب كان في القرن الرابع للمسيح ، وادعاء مقابلة بحيرا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- كان في أواخر القرن السادس مع أن بحيرا وجد في القرن الرابع وحادثته التاريخية مشهورة يقصها تاريخ الكنيسة نفسه . . . " .

 

وجوابنا عن هذه الشبهة من وجوه :

الأول : إن الراهب في تلك الحادثة لم يسم مطلقاً في الرواية الصحيحة التي قدمتها وبذلك تسقط الشبهة من أساسها .

الثاني : إن تسمية الراهب بـ ( بحيرا ) إنما جاء في بعض الروايات الواهية ، في إحداها الواقدي وهو كذاب ، وفي الأخرى محمد بن إسحاق صاحب السيرة رواها بدون إسناد ، وهاتان الروايتان هما عمدة كل المؤرخين الذي سموه بهذا الاسم ، فلا يجوز اعتبارهما ورد الرواية الصحيحة بهما كما هو ظاهر ، على أن بعض مؤرخينا كالمسعودي وغيره ذكر أن اسمه جرجيس ، فلا إشكال أصلاً .

 

الثالث : إن هذه الشبهة إنما تقوم على ادعاء الأستاذ أن الراهب بحيرا كان في القرن الرابع من الميلاد ، وهي دعوى عارية عن الصحة إذ ليس لديه حجة علمية يستطع بها إثباتها ، وكل ما عنده من الحجة تاريخ الكنيسة ! فيا لله العجب كيف يثق الأستاذ بهذا التاريخ هذه الثقة البالغة إلى درجة أنه يعارض به تاريخ المسلمين ، وهو يعلم أن تاريخهم - مهما كان، في بعض حوادثه نظر من الوجهة الحديثية خاصة - أصح وأنقى بكثير من تاريخ الكنيسة الذي تعجز الكنيسة نفسها عن إثبات صحة كتابها المقدس الذي هو أصل دينها ، فكيف تستطيع أن تثبت تاريخها الذي هو بحق " أمشاج من الروايات التي لا سند لها " كما قاله الأستاذ نفسه لكن في تاريخ المسلمين لا تاريخ الكنيسة !!

 

الرابع : إنني رجعت إل دائرة المعارف الإسلامية تأليف جماعة من المستشرقين ، وإلى دائرة المعارف للبستاني ، وإلى " المنجد " فلم أجدهم ذكروا ما عزاه الأستاذ المصري إلى تاريخ الكنيسة ، بل ظاهر كلامهم أنهم لا يعرفون عنه شيئاً مما يتعلق بتاريخ حياته في أرض العرب ، إلا مما جاء في مصادرنا الإسلامية ، وخاصة ما يتعلق منه بقصة اتصاله بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حسبما تقدم تخريجه ، وإن كانوا يعتبرونها " من الأساطير التي أحاطت بسيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- " حسبما تقدم تخريجه ، كفراً منهم واستكباراً أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبشراً به في الكتب السماوية السابقة ، ومعروفاً عند المؤمنين بها ، ولذلك علق الأستاذ الفاضل المحقق أحمد محمد شاكر على هذه الكلمة الواردة في " دائرة المعارف الإسلامية " بقوله :

" ليست هذه القصص بالأساطير ، بل كثير منها ثابت بأسانيد صحيحة ، وعلم أهل الكتاب بالبشارة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في كتبهم ثابت عند المسلمين بنص القرآن الصريح ، وليسوا في حاجة إلى افتعال أساطير يؤيدون بها ما أثبته الوحي المنزل من عند الله ، وهو ثابت أيضاً عند المسلمين فيما قرءوه من كتب أهل الكتاب مما بقي في أيديهم من الصحيح من أقوال أنبيائهم المنقولة في كتبهم " .

 

الخامس : لنفترض أن ما عزاه الأستاذ إلى تاريخ الكنيسة صحيح ثابت ، وهو أن بحيرا الراهب كان في القرن الرابع من الميلاد ، فذلك لا ينفي أن يأتي شخص آخر على شاكلته في الترهب سمي باسمه منذ ولادته على عادة النصارى وغيرهم من التسمي بأسماء الصالحين عندهم ، أو لقب به بعد ، لظهور شبه فيه به ، هذا كله جائز ليس في العقل السليم ما ينفيه ، وإذا الأمر كذلك ، فبإمكان الأستاذ أن يعتقد وجود شخصين في زمنين متباينين باسم واحد ( بحيرا ) وبذلك يستطيع أن يوفق بين ثقته بالتاريخ الكنسي ، وثقته بالتاريخ الإسلامي ولا يقع في هذه المغالطة التي كتبها بقلمه : " فكيف التقى الزمان القرن الرابع والقرن السادس والتقى المكانان . . ." !!

 

تلك وجوه خمسة في الجواب عن الشبهة الثانية أقواها عندنا الوجه الأول ، وسائرها إنما هي بالنظر لترجيح التاريخ الإسلامي على التاريخ الكنسي ، ولا حاجة بنا إليها بعد الوجه الأول ، وإنما ذكرتها لبيان ما يرد على الأستاذ مما قد يكون غافلاً عنه .

 

الشبهة الثالثة : قول الأستاذ ما خلاصته : " إن الغرض من ذكر خرافة بحيرا الراهب ، إنما هو كرد على المبشرين والمستشرقين الذين يدعون بأن هذا الدين الإسلامي من بحيرا الراهب ، وكان يتردد على مكة يعلم محمداً تعاليمه ".

وأقول : لا شك أن الأستاذ المصري يشكر على قصده المذكور ولكن خفي عليه أن الرد على المبشرين لا يكون برد الحقائق التاريخية ، وانكار ثبوتها ، بحجة أن الكفار يستغلونها للطعن في الإسلام أو في نبيه عليه الصلاة والسلام ، بل المنهج العلمي الصحيح يوحي بالاعتراف بالحادثة الثابتة ، ثم الجواب عن استغلال المبشرين لها جواباً علمياً صحيحاً ، ومن المؤسف جداً أن هذه الطريقة التي جرى عليها حضرة الأستاذ في الرد على المبشرين والمستشرقين ، قد أخذ بها كثير من الكتاب المسلمين في العصر الحاضر ، لا سيما الذين لا علم عندهم بأدلة الكتاب والسنة ، فهؤلاء كلما رأوا مبشراً يورد شبهة على نص إسلامي ، أو يستغله للطعن في الدين ، بادروا إلى التشكيك في صحته إن كان حديثاً أو سيرة ، وإلى تأويل معناه إن كان لا سبيل إلى إنكاره من أصله كالقرآن ، وهذا الأسلوب مع ما فيه من عدم الاعتداد بنصوص الشريعة المعصومة ومعانيها ، فإنه في الوقت نفسه يدل على أن هؤلاء الكتاب قد وثقوا بعلم أولئك الكفار وفهمهم واخلاصهم ثقة عمياء ! مع أن الذي يدقق فيما كتبوه ويكتبونه من البحوث حول الشريعة الإسلامية والتاريخ الإسلامي يتجل له بوضوح لا وضوح بعده -إلا قليلاً منهم- لا إنصاف عندهم ولا علم ، وأنهم كل غرضهم من ذلك تشويه حقاثق الإسلام الناصعة وإبعاد المسلمين عنه ، وليس يتسع هذا المقال لضرب الأمثلة على ما نقول ، ولكن حسبنا منها هذه الحادثة التي أثبتنا صحتها ، فقد علمت مما سبق كيف أن جماعة من أولئك المستشرقين اعتبروها من الخرافات والأساطير ، وكيف أن الأستاذ المصري انزلق معهم في ذلك مع ما فيها من الآيات البينات على التبشير بنبوته -صلى الله عليه وسلم- ، ولذلك أنكرها أولئك الكفار ، وأما أخونا المصري فإنما أنكرها متأثراً بوحي خفي من بعض المستشرقين الآخرين الذين زعموا أن الحادثة تدل أن الدين الإسلامي مستقى من بحيرا الراهب ، وأنه كان يتردد إلى مكة يعلم محمداً -صلى الله عليه وسلم- تعاليمه ! كما نقله الأستاذ المصري عنهم ، وهم بهذا الزعم يرمون إلى أحد شيئين إما إثباته في قلوب ضعفاء العلم والإيمان منا ، وإما حمل من كان قوي الإيمان منا على رد الحادثة في سبيل رد هذا الزعم الباطل ، وهذا مع الأسف قد حصلوا عليه من بعضهم .

 

ومن الغرائب حقاً أن هذا الزعم الذي هو موضوع الرد مع أنه باطل في نفسه ولا صلة له بالحادثة مطلقاً ، لأن التقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة واحدة وفي ساعة أو ساعات محدودة مع الراهب في الشام شيء ، وتردد الراهب إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- في مكة شيء آخر ، وهذا التردد لو ورد شيء ، والالتقاء شئ آخر ، ومع أن هذا الزعم لم يخف بطلانه على الأستاذ المصري كما صرح به في بحثه مع ذلك كله فإنه رد الحادثة وحكم ببطلانها ! وهذا تناقض عجيب ، فإنه إذا كان الأستاذ جازماً ببطلان الزعم المذكور ، فلماذا رد الحادثة بعلة الرد على المبشرين الأفاكين ، مع أن الرد حصل عليهم كما رأيت بدون رد الحادثة ، بل ألا يكفي في الرد عليهم قول الله عز وجل في الرد على سلفهم من أمثالهم من المشركين الأفاكين الذين ادعوا مثل هذا الزعم في حياته ؟! فقال تعالى : ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين * إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم * إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ).

 

ما وراء إنكار الحادثة

 

إن أخشى ما أخشاه أن يكون الأستاذ المصري من أولئك الذين لا يصدقون بمعجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- -غير القرآن طبعاً- هذه المعجزات التي تجاوزت المئات ، وثبت قسم كبير منها بالطرق المتواترات التي لا يسع العالم بها أن ينكرها ، والذي يحملني على إبداء هذه الخشية أن الأستاذ نقل فصلاً من كلام الدكتور هيكل جاء فيه : " ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن ويصارح أصحابه بذلك " وأقره الأستاذ عليه ، وأتى عليه بمثال فقال عقبه " مثل شق الصدر وغيره " .

 

ونحن نعلم أن حادثة شق الصدر صحيحة ثابتة في صحيح مسلم وغيره ، فإذا كان الأستاذ ينكر ذلك تقليداً منه للدكتور هيكل في القول المذكور ، فمعنى ذلك أن الأستاذ ينكر المعجزات كلها مهما كانت أسانيدها صحيحة وكثيرة ، وحينئذ فإنكاره لحادثة التقائه -صلى الله عليه وسلم- بالراهب ليس الباعث عليه الرد على المبشرين لأن الرد حصل بدون ذلك كما عرفت ، وإنما هو ما قام في نفس الأستاذ من إنكار المعجزات ، وبما أن هذه الحادثة تتضمن أكثر من معجزة واحدة كتظليل الغمامة له -صلى الله عليه وسلم- وميل فيء الشمس عليه فلذلك أنكرها الأستاذ .

 

وإذا كان استنتاجنا هذا صحيحاً ، فالكلام حينئذ يأخذ مع الأستاذ مجالاً آخر وهو طريقة إثبات المعجزات كحوادث وقعت أو لم تقع وما هو السبيل إلى معرفة ذلك ، فهذا لا مجال للبحث فيه الآن ، ولعل الأستاذ لا يحوجنا إلى الولوج فيه ، وذلك بتصريحه بتخطئتنا في استنتاجنا المذكور .

 

ولكن لا بد لي من الإشارة إلى بطلان ما عزاه الدكتور هيكل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن ، فإن هذا مما لا أصل له عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، بل هو من المعاني المخترعة التي أحدثها الدكتور وأمثاله من منكري المعجزات وألصقوها ببعض الآيات القرآنية زاعمين أنها المراد بها ، ليضربوا بها المعجزات الثابتة بحجة أنها مخالفة لنص القرآن !!

 

ومجال القول في ذلك واسع جداً فأكتفي بالإشارة إليه وأجتزيء بدليل واحد يؤيد البطلان المذكور .

 

وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحدث أحياناً أصحابه ببعض معجزاته عملاًً بقول الله تبارك وتعالى : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) فكان -صلى الله عليه وسلم- يقول : " إني لأعرف حجراً كان يسلم علي قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن " رواه مسلم وغيره .

 

فإذا كان -صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه بمعجزاته ثم يرويها منسوبة إليه أصحابه من بعده ، فكيف يصح أن يقال : إنه كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة ؟!

 

وإني قبل أن أنهي هذا البحث لابد من أن ألفت نظر القاريء إلى أمر هام ، وهو أنني حين قرأت بحث الأستاذ وما نقله عن ابن خلدون ومحمد عبده والسيد رشيد رضا والدكتور هيكل من وجوب التدقيق في روايات الحديث والسيرة إذ ليس كل ما فيها صحيحاً ، تساءلت في نفسي : ترى هل دقق هؤلاء في هذه الحادثة فتبين لهم أنها خرافة كما ادعى الأستاذ المصري ؟ فرجعت إلى اثنين منهم من المعاصرين وهما الدكتور هيكل في كتابه " حياة محمد " والسيد رشيد رضا في رسالته " خلاصة السيرة النبوية " فإذا بالأول يذكر هذه الحادثة (112-113) كما يذكرها كل المؤرخين ، وكذلك فعل الثاني (ص 14-15) دون أن يذكر أو يشير أدنى إشارة إلى ضعفها فضلاً عن وضعها ! والحقيقة أن أحداً لم يصرح -فيما علمت- بأن حادثة بحيرا الراهب خرافة قبل الأستاذ المصري ، والحمد لله لست من " أهل الطرق ولا المتطفلين من بعض من يلبسون العمائم " وقد استندنا فيما أوردنا إلى طرق العلم الصحيح ، ولكن الأستاذ اتبع فيما أنكر ظنوناً وأوهاماً أدت به -ولو مع حسن النية- إلى إنكار حقيقة تاريخية لا شك فيها هي حادثة بحيرا الراهب ، فعسى أن الأستاذ المصري يعيد النظر فيما كان كتب فيها على ضوء الحجج التي أوردنا حتى نلتقي في صعيد واحد في ميدان العلم والحق .

 

محمد ناصر الدين الألباني

دمشق

22 / 3 /1379 هـ

 

*** *** ***

8- الأحاديث في العمامة

 

قرأت فى العدد الثامن ، من المجلد السادس ، من هذه المجلة الزاهرة ما كتبه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الحامد تحت عنوان " العمامة في الإسلام " تعقيباً على ما جاء في مقال الأستاذ الطنطاوي " صناعة المشيخة " ، فرأيت في التعقيب ما يجب أن أبين رأي في بعض ما جاء فيه ، فإن أصبت فمن الله ، وان أخطأت فمن نفسي ، وأرجو من فضيلة الشيخ وغيره أن يدلني على الخطأ .

 

1- (السؤال بوجه الله):

 

قال فضيلة الشيخ (أي الحامد) : " والسؤال بالله تعالى لا يجوز وقد بوب الإمام النووي لهذا : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة " رواه أبو داود) . ا.هـ.

 

أقول : وفي الاستدلال بهذا الحديث على عدم الجواز نظر من وجهين:

 

الأول : أنه ضعيف لا يصح إسناده ، فإن فيه سليمان بن قرم بن معاذ ، وقد تفرد به كما قال ابن عدي في " الكامل " (ق 155/1) ثم الذهبي ، وهو ضعيف لسوء حفظه فلا يحتج به ، ولذلك لما أورد السيوطي هذا الحديث من رواية أبي داود ، والضياء في " المختارة " وتعقبه المحقق عبد الرؤوف المناوي ، بقوله : " قال في ( المهذب) : فيه سليمان بن معاذ ، قال ابن معين : ليس بشيء وقال عبد الحق وابن القطان : ضعيف ".

 

قلت : وقال الحافظ في " التقريب " : " سيء الحفظ ".

 

ثانياً : لو صح الحديث لم يدل على ما ذهب إليه فضيلة الشيخ ، لأن المتبادر منه النهي عن السؤال به تعالى شيئاً من حطام الدنيا ، أما أن يسأل به الهداية إلى الحق الذي يوصل به إلى الجنة ، -وهو ما صنعه الأستاذ الطنطاوي - فلا يبدو لي أن الحديث يتناوله بالنهي؟ ويؤيدني في هذا ما قاله الحافظ العراقي " وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص ، فلا يسأل الله بوجهه في الأمور الدنيئة ، بخلاف الأمور العظام ، تحصيلاً أو دفعاً كما يشير إليه استعاذة النبي -صلى الله عليه وسلم- به " نقله المناوي وأقره .

 

ثالثاً : إنما بوب النووي للحديث بالكراهة ، لا بعدم الجواز ، فقال : " باب كراهة أن يسأل الإنسان بوجه الله غير الجنة " و الكراهة عند الشافعية للتنزيه ، فهل عدم الجواز يرادف هذه الكراهة ؟ هذا ما لا أعلمه ، وفضيلة الشيخ أعلم به مني ، والمتبادر عندي من قوله " لا يجوز " التحريم أو الكراهة التحريمية ، وحينئذ فنسبة ذلك إلى النووي لا يخفى بعده .

 

2- (الأحاديث في العمامة):

 

ثم قال فضيلة الشيخ (أي الحامد) : " وأما العمامة فإنها وإن لم تكن كالعمامة المعروفة في بلاد الشام ، لكنها في أصلها سنة عربية قررها الإسلام ، وارتضاها في أحاديث كثيرة ، وهي وإن كانت بمفرداتها ضعيفة لكنها لتعددها شكلت دليلاً للقول بسنيتها " .

 

ثم ساق الشيخ ثمانية أحاديث في فضل العمامة ،وهي كلها ضعيفة كما ذكر الشيخ ، ولكنها ضعيفة جداً تدور جميعها على متروكين وكذابين ، وبمثلهم لا ينهض دليل ، فقد ذكر النووي في " التقريب " ، والسيوطي في شرحه وغيرهما من المحدثين أن الحديث الضعيف إنما يقوى بكثرة الطرق ، إذا خلت من متروك أو متهم ، وهذه الأحاديث ليست كذلك ، وإليك البيان :

 

الحديث الأول : " اعتموا تزدادوا حلماً " رواه الطبراني عن أسامة بن عمير .

 

قلت : فيه عند الطبراني (ج 1 / 26 / 2) وغيره ( عبيد الله بن أبي حميد ) وهو ضعيف جداً ، قال النسائي : ليس بثقة ، وقال أحمد : ترك الناس حديثه ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال في موضع آخر : يروي عن أبي المليح عجائب ، قلت : وهذا من روايته عن أبي المليح ! ولهذا قال الحافظ في ترجمته من التقريب " متروك الحديث " .

 

وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق ابن أبي حميد هذا وقال : إنه متروك ، وتعقبه السيوطي في " اللآلي " (2 / 295 - 296) بأن له عند الطبراني طريقاً أخرى عن ابن عباس ، وسكت عليه فلم يحسن ، لأن في سنده عنده في " المعجم الكبير " (ج 3 / 183 / 1) شيخه محمد بن صالح بن الوليد النرسي ، ولم أجد له ترجمة فيما لدي من كتب الرجال ، وفيه عمران بن تمام وهو آفته ، فقد قال ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3 / 1 / 295) : " سألت أبي عنه فقال : كان عندي مستوراً إلى أن حدث عن أبي جمرة عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بحديث منكر أنه قال : " من إكفاء الدين تفصح النبط ، واتخاذ القصور في الأمصار " " يعني فافتضح هذا المستور برواية مثل هذا الحديث المنكر ، كما قال الحافظ في " اللسان " وحديث العمائم هذا من روايته عن أبي جمرة أيضاً عن ابن عباس ! وفيه ما يشهد عليه عندي ببطلانه ، ذلك لأن الحلم بالتحلم كما يقول -صلى الله عليه وسلم- ، فما علاقة العمامة بالحلم وكيف تزد صاحبها حلماً ؟! نعم لو قال : تزدادوا وقاراً ، كان معقولاً .

 

الحديث الثاني : مثل الأول بزيادة " والعمائم تيجان العرب " رواه ابن عدي ، والبيهقي ، عن أسامة أيضاًً .

قلت : هو الحديث الأول عينه بلفظه وسنده إلا أن فيه الزيادة المذكورة وهذا لا يسوغ جعله حديثاً ثانياً ما دام أن الطريق واحدة ، وعند ابن عدي في الكامل (ق 274 / 2) من طريق ابن أبي حميد المذكور وكذلك هو عند البيهقي كما في " الفيض " للمناوي .

 

الحديث الثالث : " العمامة على القلنسوة فصل ما بيننا وبين المشركين ، يعطى يوم القيامة بكل كورة يدورها على رأسه نوراً " رواه الباوردي عن ركانة .

قلت : وهذا ضعيف جداً ، وشطره الأول رواه غير الباوردي كما سيأتي في الحديث السابع ، وأما بهذا التمام فقد رواه الباوردي وحده ، بسند واه كما في " الدعامة " للشيخ الكتاني (ص 7) ويعني بذلك أنه ضعيف جداً كما في الصفحة (34) منه ، وصرح بذلك الفقيه ابن حجر الهيتمي فقال في كتابه " أحكام اللباس " (ق 9/ 2) :

" ولولا شدة ضعف هذا الحديث لكان حجة في تكبير العمائم " .

 

ولذلك فإني أعتقد أن الحديث باطل لأن تكثير كورات العمامة وتضخيمها خلاف السنة التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح ، بل إن العمامة الضخمة بدعة أعجمية ، وزي محدث ، لا نزال نراه على رؤوس بعض المشايخ ، وأئمة المساجد من الأعاجم وغيرهم ، ممن تأثر بهم وتزيى بزيهم ، وجهل أو تجاهل هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، فترى أحدهم تكاد عمامتهم من فخامتها تملأ المحراب إذا أم الناس ! ولم لا يضخمها وهو يرى هذا الحديث يقول : إن له بكل كورة نوراً ، وفي حديث آخر باطل كهذا " . . . بكل كورة حسنة " ؟! فليكثر إذن نوره وحسناته بتكثير كورات عمامته ! وقد يعلم بعضهم بضعف هذا الحديث ، ولا يمنعه ذلك من العمل به محتجاً بما شاع عند كثير من المشايخ حتى ظنوه قاعدة علمية " يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال " ولم يعلموا أنها غير متفق عليها خلافاً لما ذكره النووي -رحمه الله- في مقدمة " الأربعين " له ، وعلى فرض التسليم بها فهي مقيدة بشروط ذكرها العلماء المحققون ، منهم الحافظ ابن حجر في رسالة " تبيين العجب " منها : أن لا يشتد ضعفه ، وهذا الحديث ليس كذلك كما عرفت .

 

ولقد كان للأحاديث الضعيفة -لا سيما مع تبني القاعدة المزعومة دون مراعاة لشروطها- الأثر السيء في الأمة ، وهذا الحديث من أمثلة ذلك ، مما حملني على نشر مقالات متتابعة في مجلة التمدن الإسلامي بعنوان : " الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة " نصحاً لها وتحذيراً من التقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل فألفت نظر القراء إليها .

 

الحديت الرابع : " العمائم تيجان العرب ، فإذا وضعوا العمائم وضعوا عزهم ". وفي رواية " وضع الله عزهم " رواه الديلمي عن ابن عباس.

قلت : وسنده ضعيف جداً.

قال المناوي : " فيه عتاب بن حرب ، قال الذهبي : قال العلاثي : ضعيف جداً ، ومن ثم جزم السخاوي بضعف سنده ، ورواه عنه ابن السني ، قال الزين العراقي : وفيه عبيد الله ابن ( أبي حميد ) وهو ضعيف " . ونحوه في " الدعامة " (ص 6) . وقد قال ابن حبان في ( عتاب ) هذا : " كان ممن ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات على قلته ، فلا يحتج به " .

 

قلت : وهو عندي باطل كالأول ، فانه يحمل في طواياه ما يشهد عليه بالبطلان ، وذلك لأن العمامة أحسن ما قيل فيها : إنها سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها ، وليست بواجب قطعاً ، وحينئذ فكيف يعقل أن يكون جزاء المسلمين إذا وضعوها وتركوها أن يضع الله عنهم عزهم وأن يذلهم ؟!

 

إن الله تبارك وتعالى حكم عدل فهو لا يذل المسلمين إلا إذا عصوه وارتكبوا ما حرمه عليهم ، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ". وبما أن العمامة ليست من الفرائض التي يعاقب على تركها فلا يستحق المسلمون على وضعها أن يذلوا ، فثبت بذلك بطلان الحديث ولعله من وضع بعض المتحمسين للعمامة الغالين فيها !

 

الحديث الخامس : " العمائم تيجان العرب ، والاحتباء حيطانها ، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه " . رواه القضاعي والديلمي عن علي رضي الله عنه .

 

قلت : وهو ضعيف جداً أيضاً ، فقد أخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " (ق 8 / 1) عن موسى بن إبراهيم المروزي قال : حدثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده عن أبيه عن علي مرفوعاً .

 

وكتب بعض المحدثين وأظنه ابن المحب على هامش النسخة تعليقاً على الحديث " ساقط ".

 

قلت : وآفته ( موسى بن إبراهيم المروزي ) كذبه يحى بن معين ، وقال الدارقطني وغيره: متروك ، وذكر له الذهبي حديثاً غير هذا وقال إنه من بلاياه !

 

هذا هو علة الحديث ، وأعله المناوي بعلة أخرى فقال :

" قال العامري غريب ، وقال السخاوي ، سنده ضعيف أي وذلك لأن فيه حنظلة السدوسي ، قال الذهبي : تركه القطان ، وضعفه النسائي ، ورواه أيضاً أبو نعيم وعنه تلقاه الديلمي فلو عزاه المصنف للأصل كان أولى " .

 

قلت : حنظلة هذا ليس في طريق القضاعي كما رأيت فلعله في طريق الديلمي ، فإن كان كذلك فكان على المناوي أن يبين ذلك ويفرق بين الطريقين ، وينص على علة الطريق الأخرى أيضاً .

 

ثم إن ما ذكره من رواية أبي نعيم للحديث وتلقي الديلمي إياه عنه ، قد ذكر مثله السخاوي في " المقاصد الحسنة " (ص 291) في حديث ابن عباس الذي قبله لا في حديث علي هذا ، فلا أدري أوهم المناوي في النقل عن السخاوي أم أن الأمر كما ذكرا كلاها ؟ وغالب الظن أنه وهم.

 

ثم إن مما يوهن الحديث أن البيهقي أخرجه من قول الزهري كما في " المقاصد " ، والحديث به أشبه .

 

الحديث السادس: " العمائم وقار المؤمن وعز العرب ، فإذا وضعت العرب عمائمها فقد خلعت عزها " رواه الديلمي .

قلت : رواه من حديث عمران بن حصين ، وهو ضعيف جداً لأن في سنده عتاب بن حرب وقد عرفت حاله من الحديث الرابع .

 

الحديث السابع : " فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس " رواه أبو داود والترمذي عن ركانة .

قلت : وهذا الحديث هو الشطر الأول من الحديث الثالث -كما تقدم- وذكرت هناك أنه ضعيف جداً ، وقد ضعفه الترمذي نفسه ، فقال بعد تخريجه (1/ 330) :

" هذا حديث غريب ، وإسناده ليس بالقائم ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة يعني اللذين في إسناده ، وقال الذهبي في ترجمة أبي جعفر هذا : " لا يعرف ، تفرد عنه أبو الحسن العسقلاني فمن أبو الحسن ؟! " ، وقال في ترجمة أبي الحسن هذا : " تفرد عنه محمد بن ربيعة الكلابي في إسناد حديث موضوع ( يعني هذا ) " قال الخطيب : كان غير ثقة .

 

وقال الكتاني بعد أن حكى تضعيف الترمذي إياه (34) : " وقال السخاوي : هو واه ، أي : شديد الضعف " .

 

الحديث الثامن : " عمم النبي -صلى الله عليه وسلم- علياً . . . وقال : هذه تيجان الملائكة " . ذكره المناوي .

 

قلت : ولم أعثر على سنده في شيء من كتب السنة التي وقفت عليها ولا أورده صاحب الدعامة .

 

وجملة القول : إن هذه الأحاديث كلها ضعيفة جداً ليس فيها ما يمكن أن يتقوى بالطرق الأخرى لوهائها وشدة ضعفها .

 

ثم إنني حين أقطع بضعف تلك الأحاديث لا أنسى أن أذكر أن لبسه -صلى الله عليه وسلم- للعمامة كعادة عربية معروفة قبله -صلى الله عليه وسلم- أمر ثابت في الأحاديث الصحيحة لا يمكن لأحد إنكاره ، فإذا انضم إلى ما ذكره فضيلة الشيخ الحامد من أن الإسلام يحب تكوين أهله تكويناً خاصاً يصونهم عن أن يختلطوا بغيرهم في الهيئات الظاهرة . . . إلى آخر كلامه الطيب الذي فصل القول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء " فإني في النتيجة ألتقي مع فضيلته في الحض على العمامة ، ولكني لا أراها أمراً لازماً لزوم اللحية التي ثبت الأمر بها في الأحاديث الصحيحة معللاً بقوله : " خالفوا المجوس " رواه مسلم وغيره ، ولذلك فإني لا أرى الإلحاح في العمامة كثيراً بخلاف اللحية ، وأنكر أشد الإنكار اهتمام بعض المدارس الشرعية بالعمامة أكثر من اللحية بحيث يأمرون الطلاب بالأول دون الأخرى أو أكثر منها ، ويسكتون عن الطلاب الذين يحلقون لحاهم دون الذين يضعون عمائمهم ! فإن في ذلك قلباً للحكم الشرعي كما لا يخفى .

 

وختاماً أسأل الله تبارك بأسمائه الحسنى أن يوفقنا للعمل بما علمنا ، وسلامي إلى فضيلة الشيخ الحامد ورحمة الله وبركاته .

 

محمد ناصر الدين الألباني

دمشق

في 26 / 2 / 1379 هـ

 

*** *** ***

9- حول أحاديث ميمون بن مهران

 

قرأت في العدد الرابع من مجلة " المسلمون " الزاهرة مقالاً بعنوان : " مع العارفين - ميمون بن مهران " جاء في خاتمته (ص 406) أن ميمون ابن مهران روى عن ابن عمر هذه الأحاديث :

 

1- " نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن النميمة ، ونهى عن الغيبة والاستماع إلى الغيبة ".

2- " قل ما يوجد في آخر الزمان درهم من حلال أو أخ يوثق به " .

3- " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " .

وروى عن ابن عباس مرفوعاً :

1-  " من أذنب وهو يضحك دخل النار وهو يبكي " .

2- " اثنان من الناس إذا صلحا صلح الناس ، وإذا فسدا فسد الناس : العلماء والأمراء " .

 

ولما كانت هذه الأحاديث إنما رواها أبو نعيم في ترجمة ميمون بن مهران من " الحلية " (4/93-96) وكانت أسانيدها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بل وإلى ميمون بن مهران ضعيفة جداً ، ومن المعلوم أنه لا يجوز أن ينسب إليه -صلى الله عليه وسلم- ما لم يثبت ، لهذا كله رأيت من الواجب علي أن أنبه على حال هذه الأحاديث فأقول :

 

الحديث الأول : في سنده الفرات ابن السائب وقد اتهمه أحمد بالكذب.

 

الحديث الثاني : في سنده اثنان ضعيفان وآخر مجهول .

 

الثالث : فيه الفرات بن السائب وقد ذكر آنفاً وفيه أيضاً أحمد بن محمد بن عمر اليمامي وقد كذبه أبو حاتم وابن صاعد وغيرهما وقد أورد هذا الحديث من هذا الطريق وغيره ابن الجوزي في الموضوعات ، لكن تيقن السيوطي في " اللآلي المصنوعة " (2/330) بأنه حديث حسن صحيح لطرق أخرى ذكرها فلينظر فيها إذا كانت تشهد لقوله أم لا .

 

الحديث الرابع والخامس : موضوعان فإنهما من رواية محمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران ، واليشكري هذا قال الإمام أحمد وغيره : كذاب أعور يضع الحديث ، وقد تكلمت عليهما في مقالي الثالث من " الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة " وقد نشر في " مجلة التمدن الإسلامي " .

 

*** *** ***

10- حول المهر

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

 

أما بعد فقد قرأت مقال الأستاذ وهبي الألباني المنشور في عدد جمادى الأولى سنة 1381 هـ من مجلة التمدن الإسلامي الزاهرة ، في الرد على الأستاذ محمود مهدي استانبولي في مسألة تحديد المهور ، فرأيته قال فيه ما نصه:

 

" لقد قرر الأستاذ محمود مهدي أن قصة اقتراح عمر -رضي الله تعالى عنه- ترك التغالى في المهور هى خبر ضعيف ، لا يصح الاعتماد عليه ، مع أن الخبر قد صححه ابن كثير الذى ذكر الخبر في تفسيره فقال : قال الحافظ أبو يعلى ( بسنده إلى مسروق ) قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال : أيها الناس ! ما إكثاركم في صداق النساء ، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والصداقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم ، قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين ! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ؟ قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأين ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : ( ... واءتيتم إحداهن قنطارا ... ) الآية ، فقال : اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر ، فقال : أيها الناس إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقاتهم على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ، قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل . إسناده جيد قوي " ابن كثير ج 1 ص 467 ".

 

ومن الطبيعي من مثلي أن لا يدخل في نزاع جديد بين الطرفين المختلفين في قصة التحديد المذكور ، لأن للاجتهاد في ذلك مساغاً واسعاً ، ولكل رأيه ، لا سيما وهو يشبه من ناحية مسألة تحديد الأسعار التي قال بها بعض العلماء ، مع توارد الأحاديث في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبى أن يسعر للناس حين طلبوا ذلك منه ، وقال : " إن الله هو المسعر . . . " فإذا قال الأستاذ محمود بتحديد المهور ، وافترض أنه لم يسبق إليه ، فقد سبق إلى مثله ، بل وإلى ما هو أولى بالمنع منه ، وهو تحديد الأسعار عند من يمنع من تحديد المهور ، كالأستاذ وهبي ، فهل يقول بذلك ، هذا ما لا نظنه به ، ولذلك فإني ما كنت أود منه أن لا يشنع عليه في الرد ذلك التشنيع الذي يشعر الآخرين بأنه إنما حمله عليه التعصب المذهبي . . .

 

هذا مع علم الأستاذ وهبي -فيما أظن- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن صيام يوم الجمعة وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " ومع ذلك ، لم نسمع من الأستاذ وهبي ولا من غيره كلمة واحدة في إنكار هذه المخالفة الصريحة للسنة الصحيحة !

 

قلت : إنني لا أريد الدخول في نزاع جديد في المسألة ، وانما الذي أريد بيانه في هذه الكلمة ، هو بيان ضعف مستند الأستاذ وهبي في تصحيح قصة المرأة تقليداً منه للحافظ ابن كثير ، وأنا وإن كنت أعذر الأستاذ وهبي في هذا التقليد ( ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) فإني في الوقت نفسه ألفت نظره إلى أن التقليد ليس علماً باتفاق العلماء ، فلا يصلح إذن اتخاذه حجة للرد على المخالفين .

 

وهأنذا : أشرع الآن في بيان ضعف ذلك ، مستنداً فيه إلى القواعد الحديثية فأقول :

 

إن هذا الخبر الذي نقله الأستاذ عن الحافظ ابن كثير يتضمن أمرين:

الأول : نهي عمر عن الزيادة في مهور النساء على أربعمائة درهم .

والآخر : اعتراض المرأة عليه في ذلك وتذكيرها إياه بالآية .

إذا تبين ذلك . فباستطاعتنا الآن أن نقول :

أما الأمر الأول فلا شك في صحته عن عمر رضي الله عنه ، لوروده عنه من طرق ، ولا بأس من ذكرها لما لذلك من فائدة هامة ستتبين للقاريء الكريم فيما بعد :

 

1- عن أبي العجفاء قال :

" خطبنا عمر رحمه الله فقال : ألا لا تغلوا بصدق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ما أصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة من نسائه ، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية " زاد في رواية : " وان الرجل ليغالي بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كلفت لكم علق القربة "  .

 

أخرجه أبو داود (2106) والنسائي (2/ 87-88) والترمذي (1/ 308) والدارمي (2/141 ) وابن ماجة (1887 ) والحاكم (2/ 175-176 ) والبيهقي (7/231) والطيالسي (رقم 64) وأحمد (1/ 40 و 48) وقال الترمذي : " حديث حسن صحيح " . وقال الحاكم : " صحيح الإسناد " ووافقه الذهبي .

 

قلت : وهو كما قالوا ، فإن رجاله ثقات رجال الشيخين ، غير أبي العجفاء ، واسمه هرم ، وهو ثقة كما قال ابن معين والدارقطني وغيرهما ، وقد توبع كما يأتي ، وقد سمعه منه ابن سيرين كما في رواية أحمد .

 

2- عن ابن عباس قال :

قال عمر : لا تغالوا بمهور النساء . وذكر الحديث . رواه الحاكم .

 

3- عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس فقال : يا أيها الناس لا تغالوا مهر النساء . الحديث . رواه الحاكم .

 

4- عن شريح قال : قال عمر بن الخطاب : فذكره .

 

5- عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام على منبره فحمد الله وأثنى عليه فقال : فذكره .

أخرجه الحاكم وقال :

" فقد تواترت الأسانيد الصحيحة بصحة خطبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( بذلك ) ، وهذا الباب لي مجموع في جزء كبير " . ووافقه الذهبي .

قلت : وهذه الطرق جميعها ليس فيها قصة المرأة ومعارضتها لعمر ، وفي ذلك تنبيه لأهل العلم إلى احتمال ضعفها لشذوذ أو نكارة فلننظر في سندها إذن لنتبين مبلغ صحة هذا الاحتمال :

لقد ساق الحافظ ابن كثير إسناد أبي يعلى بتمامه من طريق " ابن إسحاق حدثني محمد بن عبد الرحمن عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال " . فذكره ، وقد اختصر إسناده الأستاذ وهبي فلم يحسن .

قلت : وفي هذا السند علل:

1- ضعف مجالد بن سعيد ، ولا أريد أن أطيل على القراء بذكر أقوال العلماء في تضعيفه ، وانما أقتصر على ذكر قول حافظين من الحفاظ المتأخرين المحيطين بأقوال المتقدمين ، وهما الحافظ الذهبي والحافظ العسقلاني ، فقال الأول في " الميزان " : " فيه لين " . وقال الحافظ العسقلاني في " التقريب " : " ليس بالقوي ، وقد تغير فى آخر عمره " .

2- الاختلاف في سنده ، فقد رواه ابن إسحاق عن مجالد عن الشعبي عن مسروق ، كما تقدم ، وخالفه هشيم فقال : حدثنا مجالد عن الشعبي قال : خطب عمر بن الخطاب . . .

أخرجه البيهقي (7 / 233) وقال :

" هذا منقطع " .

قلت : وذلك لأن الشعبي واسمه عامر ين شراحيل لم يسمع من عمر وادخال ابن إسحاق بينهما مسروقاً مما لا يطمئن القلب له ، لتفرد ابن إسحاق به ، وقد علم كل مشتغل بهذا الفن أن في تفرده نكارة ، قال الذهبي في خاتمة ترجمته : " حسن الحديث ، صالح الحال ، صدوق ، وما انفرد به ، ففيه نكارة ، فإن في حفظه شيئاً " .

 

قلت : وقد خالفه هشيم ، وهو ثقة ثبت كما في " التقريب " وهو قد أرسله ، فروايته هي المعتمدة .

ومما سبق يتبين أن في إسناد هذه القصة علتين :

ضعف مجالد ، والانقطاع .

وإذا كان الأمر كذلك ، فقول الحافظ ابن كثير :

" إسناده جيد قوي "  . غير قوي ، بل هو سهو منه -رحمه الله- لا يجوز لمن يبين له أن يقلده ، لا سيما مع إعلال الحافظ البيهقي إياه بالانقطاع .

 

وإذا تبين هذا التحقيق للقاريء الكريم ، وتذكر أن خطبة عمر هذه وردت عنه من خمسة طرق ، ليس فيها قصة المرأة ، عرف حينئذ أنها ضعيفة منكرة لا تصح .

 

ومما يؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي من طريق بكر بن عبد الله المزني قال : قال عمر بن الخطاب " لقد خرجت وأنا أريد أن أنهي عن كثرة مهور النساء حتى قرأت هذه الآية : ( وءاتيتم إحداهن قنطارا ) ".

وقال البيهقي :

" هذا مرسل جيد " .

قلت : وهو أصح ، من مرسل ابن إسحاق ، لأن رجاله كلهم ثقات ، وهو بظاهره يبطل قصة المرأة ، لأنه يدل على أن تراجع عمر -رضي الله عنه- عما هم به من النهي إنما كان بقراءته الآية قبيل خروجه إلى الناس ، بينما القصة تقول : إن تراجعه إنما كان بعد خروجه وتذكير المرأة إياه بالآية .

 

وعلى كل حال ، فهذان المرسلان لا يصحان لإرسالهما وللتعارض الذي بينهما ، ومخالفتهما لسائر طرق الحديث عن عمر ، التي أطبقت على أن عمر نهى عن التغالي في المهور ، ولم تذكر أنه رجع عن ذلك .

 

وليس في نهي عمر عن ذلك ما ينافي السنة حتى يتراجع عنه ، بل فيها ما يشهد ، فقد صح عن أبي هريرة قال :

" جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : إني تزوجت امرأة من الأنصار ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " هل نظرت إليها فإن في عيون الأنصار شيئاً ؟ " ، قال : قد نظرت إليها ، قال : " على كم تزوجتها ؟ " قال أربع أواق ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : " على أربع أواق ؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل " رواه مسلم .

 

وإذا تبين أن نهي عمر رضي الله عنه عن التغالي في المهور موافق للسنة ، وحينئذ يمكن أن نقول : إن في القصة نكارة أخرى تدل على بطلانها ، وذلك أن نهيه ليس فيه ما يخالف الآية ، حتى يتسنى للمرأة أن تعترض عليه ، ويسلم هو لها ذلك ، لأن له -رضي الله عنه- أن يجيبها على اعتراضها -لو صح- بمثل قوله : لا منافاة بين نهيي وبين الآية من وجهين.

 

الأول : أن نهيي موافق للسنة ، وليس هو من باب التحريم بل التنزيه .

 

الآخر : أن الآية وردت في المرأة التي يريد الزوج أن يطلقها ، وكان قدر لها مهراً ، فلا يجوز له أن يأخذ منه شيئاً دون رضاها ، مهما كان كثيراً ، فقد قال تعالى : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) فالآية وردت في وجوب المحافظة على صداق المرأة وعدم الاعتداء عليه ، والحديث وما في معناه ونهي عمر جاء لتطيف المهر وعدم التغالي فيه ، وذلك لا ينافي بوجه من الوجوه عدم الاعتداء على المهر بحكم أنه صار حقاً لها بمحض اختيار الرجل ، فإذا خالف هو ، ووافق على المهر الغالي فهو المسؤول عن ذلك دون غيره .

 

وبعد : فهذا وجه انشرح له صدري لبيان نكارة القصة من حيث متنها ، فإن وافق ذلك الحق ، فالفضل لله ، والحمد له على توفيقه ، وإن كان خطأ ، ففيما قدمنا من الأدلة على بيان ضعفها من جهة إسنادها كفاية ، والله سبحانه وتعالى هو الهادي .

 

محمد ناصر الدين الألباني

دمشق

6 / 7 / 1381 هـ

*** *** ***

11- حول الحج والعمرة

 

كنت وقفت على مقال " حول الحج والعمرة " للأستاذ الشيخ حمدي الجويجاتي ، في الأجزاء (5-8) من المجلد الحالي لهذه المجلة الزاهرة رد فيه علي ، فلم أنشط للرد عليه ، اكتفاءً بما هو واضح في مقالي الذي انتقدته ، ولكن شاع في بعض ( الأوساط ) أن سكوتي دليل أن الحق مع الشيخ ، وليست الحال كذلك ، وإلا فإني أرحب بكل نقد على أن يكون حقاً ، وألح علي بعض الإخوان بضرورة الرد ، فرأيت موافقتهم وأرجو أن ينفع الله به من فتح قلبه للحق .

 

إن رد الشيخ الجويجاتي ينحصر في نقطتين أساسيتين ، ثم بنقطة ثالثة ، أما ما جاء في تضاعيف كلامه فأضرب عنه صفحاً ، فأمره يطول وللمجلة نطاق محدود :

 

النقطة الأولى : زعمه أننا خالفنا بما ذهبنا إليه سنة الخلفاء الراشدين.

النقطة الثانية : وأنه لم يقل بذلك أحد من علماء المسلمين ( يعني أننا خرقنا الإجماع بزعمه ) .

النقطة الثالثة : " أن الخلاف الذي وقع بالاجتهاد ، إنما هو في الأفضلية في كثير من الفروع ، وفي هذا توسعة ورحمة . . . " كما قال : وليت الشيخ لجأ إلى الأحاديث التي استدللنا بها على وجوب التمتع -وهي كثيرة طيبة- ناقشها مناقشة العالم المتمكن رواية ودراية ، وإلى أجوبتنا الكثيرة عن احتجاج من احتج بنهي عمر رضي الله عنه عن التمتع بالحج وإفراد الخلفاء به ، ولكنه لم يصنع من ذلك شيئاً ، وإنما اتهمني بما ليس في ، وهذا ما سيراه القراء الكرام :

 

1- النقطة الأولى : قال الشيخ :

" هذا مع صريح اعترافه بأن عمر بن الخطاب نهى عن التمتع بالحج وعثمان والزبير (!) وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، وأن الخلفاء الراشدين قد أفردوا في الحج ، ثم قال بعد ذلك بكل اجتراح وجموح : " هذا مخالف للكتاب والسنة " وعلل عمل الصحابة بما أوحاه له تفكيره ضارباً عرض الحائط بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " .

 

أقول : سبحانك هذا بهتان عظيم ، فحن لم نقل بوجوب المتعة ، إلا اتباعاً لسنته -صلى الله عليه وسلم- ، وفراراً من غضبه على الذين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ، ولم يبادروا إلى اتباعه فوراً ، ( كما رواه مسلم وغيره ) ، وهو مذكور في مقالنا المنشور في الجزء (1-4) مع غيره من الأحاديث التي في معناه ، فكيف جاز للشيخ حمدي أن يتهمنا بهذه التهمة المكشوفة ؟!

 

وإن كان يعني أننا ضربنا عرض الحائط ببعض الحديث المذكور ، وهو " سنة الخلفاء الراشدين " فهو غير صحيح أيضاً ، لأن الخلفاء الراشدين لم يتفقوا على خلاف ما ذهبنا إليه في التمتع بالحج ، بل ثبت في " صحيح مسلم (4-46) أن علياً رضي الله عنه كان يأمر بها ، وأبو بكر رضي الله عنه ، لا يعرف عنه قول بخلافه ، فأين مخالفتنا للخلفاء الراشدين المزعومة ؟! بله ضربنا عرض الحائط بقوله -صلى الله عليه وسلم- ؟! فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه . . .

 

ولعل الشيخ من أولئك الذين يظنون أن معنى قوله عليه السلام : " وسنة الخلفاء الراشدين " أي أحدهم ، ثم لا يبالون بعد ذلك أكان له مخالف منهم أم لا ؟ فليعلم هؤلاء الظانون أن هذا التفسير خطأ محض ، وأن الصواب فيه : أي مجموعهم ، يعني ما اتفق عليه الخلفاء الراشدون ، وأما إذا اختلفوا ، فمحال أن يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- باتباع كل منهم على ما بينهم من الاختلاف ، وإنما المرجع حينذاك قول الله تبارك وتعالى : ( فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ).

 

على أن لبعض العلماء رأياً آخر في تفسير الحديث هذا ، فقد جاء في " إيقاظ الهمم " ( ص 32 طبع الهند ) :

" وقال يحيى بن آدم : لا تحتاج مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قول أحد ، وإنما يقال : سنة النبى -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم ليعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات وهو عليها ، أقول : وعلى هذا ينبغي أن يحمل حديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " ، فلا يرى فيه إشكال في العطف ، فليس للخلفاء سنة تتبع إلا ماكان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- " .

 

قلت : فعلى هذا (يكون) العطف في الحديث ، كالعطف في قوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ... ) فإن من المعلوم أن اتباع غير سبيل المؤمنين ، هو مشاققة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإنما ذكر سبيلهم ليدل على أنه هو الذي كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا المعنى في الحديث أرجح عندي من الذي قبله لأمور لا مجال لذكرها الآن.

 

وأما المعنى الأول فباطل قطعاً ، وهو الذي يجول في أذهان كثير ممن لا يعرفون كيف يؤخذ بالسنة .

 

فمن المخالف للسنة المطهرة منا ، ولقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأخير الذي ترك الناس عليه ، وأمر به علي رضي الله عنه ؟ إن الشيخ على القول المرجوح عنده في تفسير حديث السنة والراجح عند أمثاله هو - مخالف لسنة الخلفاء الراشدين !

 

أما أنا فقد خالفت -بعد ثبوت الدليل من السنة- عمر وعثمان ليس إلا ، وهما -رضي الله عنهما- قد ثبت أنهما نهيا عن التمتع ، ولكن أنكر ذلك عليهما جماعة من الصحابة منهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ، لمخالفته لنص القرآن الكريم ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) وكنا فصلنا القول في ذلك تفصيلاً في مقالنا الذي نشرته المجلة ، فلا نعيد القول فيه ، ولكني أرى أن أذكر الشيخ برواية أخرى فيها إنكار أقرب الناس إلى عمر -رضي الله عنه- وأعرفهم به ألا وهو عبد الله بن عمر ، وهو من هو " علماًَ وفهماً عربياً غير ذي عوج " فروى الإمام أبو جعفر الطحاوي عن سالم بن عبد الله بن عمر ، قال :

 

" إني لجالس مع ابن عمر -رضي الله عنه- في المسجد ، إذ جاءه رجل من أهل الشام ، فسأل عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال ابن عمر : حسن جميل ، فقال : فإن أباك كان ينهى عن ذلك ، فقال : ويلك ! فإن كان أبي قد نهى عن ذلك ، وقد فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر به ، فبقول أبي تأخذ أم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟! قال : بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال : فقم عني ". ورواه أحمد بنحوه. والترمذي وصححه .

 

فليتأمل المحب للسنة والمنتصر لها ، كيف كان السلف الصالح لا يؤثرون عليها قول أحد من الناس ولو كانوا آباءهم ، والشيخ ينكر علينا أخذنا بأمره -صلى الله عليه وسلم- بالتمتع ، ومخالفتنا لعمر وعثمان وليسا بمعصومين رضي الله عنهما !!

 

وقبل أن أنتقل إلى النقطة الثانية أريد أن أنبه القراء إلى أن ما نسبه الشيخ إلي عطفاً على نهي عمر عن التمتع من القول : " وغيرهم من الصحابة " أقول : وهذا القول افتراء محض علي ، وقوله : " والزبير " خطأ منه : والصواب " ابن الزبير " .

 

2- النقطة الثانية : زعم الشيخ أنه لم يقل بوجوب التمتع في الحج أحد من علماء المسلمين ، والدليل على ذلك قوله في رده : " فهلا ذكر واحداً باسمه من أئمة الاجتهاد والتشريع في الإسلام قال بوجوب التمتع " .

فأقول : قد فعلت ذلك في المقال نفسه الذي نشرته المجلة فقد جاء فيه ما نصه : " بل ذهب بعض العلماء المحققين إلى وجوبه إذا لم يسق معه الهدي ، منهم ابن حزم وابن القيم تبعاً لابن عباس وغيره من السلف " وأحلت في تفصيل ذلك على كتاب " المحلى " و" زاد المعاد " .

 

والشيخ حمدي على علم بقولي هذا ، فإنه أشار إليه في رده إشارة سريعة بقوله : " وتلقف أقوالاً عن بعض الصحابة وبعض العلماء المحققين بوجوبه إذا لم يسق الهدي " .

 

لقد حكى الشيخ هذا عني ، ثم لم يجب عنه ولو بشطر كلمة ، لأنه لا جواب عنده ، ثم يعود فيطلب تسمية أحد من أئمة الاجتهاد قال بوجوب التمتع ؟! ولا أجادله في ابن حزم وابن القيم ، فحسبنا الآن إثبات ما نسبنا لحبر الأمة :

 

روى مسلم في " صحيحه " عن أبي حسان قال : " قيل لابن عباس : إن هذا الأمر قد تقشع بالناس ( أي انتشر بينهم ) من طاف بالبيت فقد حل ، الطواف عمرة ، فقال : سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وإن رغمتم " .

 

وزاد في رواية له من طريق عطاء :

" وكان يأخذ ذلك من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع ".

 

وهذا هو مستند العلامة المحقق ابن القيم -رحمه الله- حين قال في " زاد المعاد ، في هدي خير العباد " بعد أن ذكر أن جواز التمتع واستحبابه محكم إلى يوم القيامة :

" لكن أبى ذلك الحبر ابن عباس ، وجعل الوجوب للأمة إلى يوم القيامة ، وأن فرضاً على كل مفرد وقارن لم يسق الهدي ، أن يحل ولابد ، بل قد حل ، وإن لم يشأ ، وأنا إلى قوله أميل " .

 

فقد تبين للقراء الكرام أننا حين قلنا بوجوب التمتع لم نأت بشيء جديد ، بل اتبعنا فيه حبر الأمة ، وغيره من الأئمة   ، لا مقلدين لهم ، بل متبعين ، كما أمر رب العالمين ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) وأننا حين خالفنا عمر أمير المؤمنين ، فما ذلك إلا اتباعاً لأمر سيد المرسلين ، وفراراً من غضبه -عليه السلام- كما سبق ذكره ، وأنه سبقنا إلى مخالفته ابن عمه عبد الله ، ووافقنا فى المخالفة الشيخ حمدي نفسه ، لأنه لا ينهى عن التمتع ، كما نهى عمر !

 

ثم إن الشيخ -هدانا الله وإياه- حكى مذاهب العلماء في الأفضل من أنواع الحج الثلاثة ، ونقل دليل كل منهم فيما ذهب إليه دون أن يحاول بيان الراجح من المرجوح منها ، أو التوفيق بين ما يمكن التوفيق منها ، وبذلك ترك القراء في حيرة في معرفة الأفضل من ذلك ولا بأس ، فإن لهم به أسوة ! وليس يهمنا من كلامه هنا إلا قوله :

" وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم القارن ، والمفرد ، والمتمتع ، وكل منهم يأخذ عنه أمر نسكه -صلى الله عليه وسلم- ويصدر عن فعله . . . ".

 

فإن كان يعني أنه كان فيهم المفرد في آخر الأمر بحيث أنه لم يتحلل من إحرامه بعمرة ، مع كونه لم يكن ساق الهدي، فهذا غير صحيح ، فلم يكن معه -صلى الله عليه وسلم- في حجته صحابي واحد لم يسق الهدي ، حج حجاً مفرداً ، وإنما كانوا في أول إحرامهم منهم القارن ، ومنهم المفرد ، ومنهم المتمتع وكانوا جميعاً على قسمين منهم من ساق الهدي معه من الحل ، ومنهم من لم يسق الهدي ، فأمر -صلى الله عليه وسلم- هذا القسم الثاني يأن يحل من الحج يعمرة فحلوا جميعاً من كان منهم قارناً أو مفرداً ، كما قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: " فحل من لم يكن ساق الهدي ، ونساؤه لم يسقن الهدي ، فأحللن " أخرجه الشيخان .

 

ومن هنا يتبين وهم من يحتج ببعض الأحاديث التى فيها أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر أهله أن يهلوا بحج وعمرة ، فإن هذا كان في أول الإحرام ، وأما فيما بعد فقد أمرهن أن يفسخوا ذلك إلى عمرة لأنهن لم يسقن الهدى كما سبق .

 

وقبل أن أنتقل إلى النقطة الثالثة والأخيرة ، أريد أن أنبه القراء أيضاً إلى قول الشيخ الجويجاتي بعد أن ذكر الصحابة والأئمة :

" فيغمزهم جميعاً بعملهم خلافاً للكتاب والسنة ، ويتناول بالقدح والذم عباد الله حجاج بيته الطائعين من ذلك العهد الطاهر حتى يومنا هذا ، بوصفهم بخلاء ومحتالين " .

 

وفي هذا النص نقطتان مخالفتان لا واحدة ، قد نبهت على الأولى إدارة المجلة فأغنتني عن الإعادة لا سيما و هي تفهم مما سبق من كلامنا . أما الفرية الأخرى ، فهي قوله إن قدحت جميع الحجاج من ذلك العهد الطاهر إلى يومنا هذا بوصفهم بخلاء ومحتالين !

 

والحقيقة ، أنني لم أقدح إلا في جماعة من الحجاج اتصلت بهم في بعض المواسم عرفت من كلامهم ما به يستحقون الوصف المذكور ، وهذا نص كلامي المنشور في مقالي السابق :

 

" وقد اتصلنا بكثير من الحجاج فعرفنا منهم أنهم مع كونهم يعلمون أن التمتع أفضل من الإفراد ، فكانوا يفردون ، ثم ياتون بالعمرة بعد الحج من التنعيم ، وذلك لئلا يلزمهم الهدي . . . و ( إنما يتقبل الله من المتقين ) وليس من البخلاء المحتالين " .

 

فتأمل أيها القارىء الكريم في كلامنا ، ثم فيما نسبه الشيخ إلينا ، والله المستعان .

 

3- النقطة الثالثة : قال الأستاذ الشيخ حمدي :

 

" إن جميع أصول الإسلام في العقائد والعبادات . ومنها الحج لم يكن فيها أي اختلاف ، ولكن وقع الخلاف بالاجتهاد في الأفضلية في كثير من الفروع ، وفي هذا توسعة ورحمة وحكمة بالغة . . . ".

 

قلت : وقد تضمن هذا القول أموراً ثلاثة :

الأول : أنه لم يقع اختلاف بين العلماء أصلاً في العقائد .

الثاني : وكذلك في العبادات لم يقع أي اختلاف إلا في تفضيل أمر على آخر ، أما في التحريم والتحليل ، والإيجاب والاستحباب ، فلم يقع في ذلك أي اختلاف .

الثالث : وإن الاختلاف المذكور توسعة ورحمة . . .

 

أقول : ليس عجبي من الأمر الأول والثالث ، فإن الشيخ مسبوق إليهما ، ولو من غير ذي إمامة وقدوة ، وإنما عجبي الذي لا يكاد ينتهي من الأمر الثاني فإن أحداً قبل الشيخ لم يتفوه بذلك ، فهذا مذهب الحنفية الذي يدين الشيخ به قد اختلفوا مثلاً في الأذان وفي صلاة الجماعة هل هما من السنة أم الواجبات ، وكذلك اختلفوا في الاطمئنان في الصلاة ، حتى قال أبو يوسف أو الإمام محمد إنها فرض عملي ، وذهب أبو حنيفة -رحمه الله- إلى عدم مشروعية صلاة الاستسقاء خلافاً لهما ، وإلى جواز شرب المسكرات المستخرجة من غير العنب ما لم يسكر بها ، على تفصيل معروف في كتب الفقه خلافاً لهما ، والمساثل الخلافية بينه وبين صاحبيه كثيرة جداً معروفة عند فقهاء المذهب .

 

وأما الخلاف بالعقاثد بين أئمة المسلمين والفقهاء المعروفين فحدث عن البحر ولا حرج ، فقد اختلفوا في الإيمان هل يزيد وينقص ، وهل يقول أنا مؤمن حقاً ، أم يقول أنا مؤمن إن شاء الله ، وترتب على ذلك ما ترتب من الأحكام بنظرهم ، ولبعض المتأخرين -فيما أذكر- رسالة جمع فيها المسائل التي وقع الخلاف فيها بين أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي مما له صلة بالعقيدة والتوحيد !

 

وأما الخلاف في العبادات والمعاملات والعقود فأشهر من أن يذكر ، وأكثر من أن يحصر ، فقد اختلفوا في عدد فرائض الوضوء مثل النية مثلاً ، ونواقضه ، مثل خروج الدم ومس المرأة ، وفي أركان الصلاة ، كقراءة الفاتحة ، وواجباتها ، مثل قراءة آية بعدها ، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد ، ومبطلاتها ، مثل كلام الناس فيها .

 

واختلفوا في الفتاة البالغة الراشدة تزوج نفسها بنفسها بدون إذن وليها فمنهم من يصححه ، ومنهم من يبطله . . .

 

وغير ذلك مما يطول الكلام به ، فمن شاء المزيد منها فليرجع إلى كتاب " الفقه على المذاهب الأربعة " أو " بداية المجتهد " ير العجب العجاب .

 

فهل هذا الاختلاف كما يقول الشيخ حمدي خلاف في الأفضلية فقط وفي الفروع فحسب ؟! فاللهم هداك ورحمتك .

 

وأما قوله : وفي هذا توسعة ورحمة . . . . " .

 

فهو مما لا معنى له هنا ما دام أنه زعم أن الخلاف إنما وقع في الأفضلية ، فلا تأثير حينئذ للخلاف ، ألا ترى أنهم اختلفوا في أفضل أنواع الحج ، فلو أنهم اتفقوا على أن الأفضل التمتع مثلاً ، فاتفاقهم هذا دليل على جواز النوعين الآخرين ، فكيف وهم قد اختلفوا فالحكم هو هو لم يتغير اتفقوا أم اختلفوا .

 

وإنما يقول هذا القول بعض من يرى التلفيق بين المذاهب ، بزعمهم أنهم جميعاً على صواب فيما ذهبوا ، وأن الحق يتعدد ، وحجتهم في ذلك الحديث المشهور : " اختلاف أمتي رحمة " وهو حديث باطل ، وما بني على باطل فهو باطل ، وقد فصلت القول في ذلك في سلسلة " الأحاديث الضعيفة " وفي " صفة الصلاة " الطبعة الثالثة ، ولذلك قال سليمان التيمي :

" إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله " .

رواه ابن عبد البر في " جامع العلم " (2/92) .

" هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً " .

 

وما أظن أن الشيخ حمدي يخالف هذا الإجماع ، ولذلك فلا أطيل الكلام فيه ، وفيما ذكرنا كفاية .

 

أبو عبد الرحمن الألباني

أصيل الجمعة

10 / 8 / 1385 هـ

 

*** *** ***

القسم الثالث : الفتاوى الحديثية :

 

1- حول حديث : " يوشك أن تتداعى عليكم الأمم ... "

 

( السؤال ):

ورد المجلة سؤال من أحد الأساتذة المحامين في بغداد يرجو فيه التحقيق من قبل الأستاذ ناصر الدين الألباني في صحة الحديث المشهور : " تتداعى عليكم الأمم . . . " ويقول :

" إنني أرتاب في صحة هذا الحديث لسببين :

الأول : أنه يخبر عن الغيب ، ولا يعلم الغيب غير الله .

والثاني : يهدف إلى حمل الناس على الرضا بما نحن فيه والبقاء عليه وعدم العمل على تغييره " .

ثم يستنتج من ذلك أنه :

" لا بد أن يكون الحديث من وضع عدو للإسلام ولدينهم " .

 

( الجواب ):

وجواب الأستاذ الألباني : إن الحديث صحيح بلا ريب ، وهو يخبر عن أمر غيبي بإطلاع الله تبارك وتعالى له عليه ، وهذا أمر سائغ جائز لا غبار عليه بل هو من مستلزمات النبوة والرسالة ، والحديث يهدف إلى خلاف ما ظنه السائل ، هذا مجمل الجواب ، واليك التفصيل :

 

1- صحة الحديث :

 

لا يشك حديثي في صحة هذا الحديث البتة ، لوروده من طرق متباينة وأسانيد كثيرة،  عن صاحبين جليلين:

 

الأول : ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

والثاني : أبو هريرة -رضى الله تعالى عنه- الذى حفظ لنا ما لم يحفظه غيره من الصحابة -رضوان الله عليهم- من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فجزاه الله عن المسلمين خيراً.

 

أما ثوبان -رضي الله عنه- فله عنه ثلاث طرق :

 

1- عن أبي عبد السلام ، عن ثوبان ، قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :

" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها " ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : " بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن " ، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال : " حب الدنيا ، وكراهية الموت " .

 

أخرجه أبو داود في سننه (2/10 2) والروياني في مسنده (ج 25/134/2) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عنه ، ورجاله ثقات كلهم غير أبي عبد السلام هذا فهو مجهول ، لكنه لم يتفرد به بل توبع -كما يأتي- فالحديث صحيح .

 

2- عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان مثله .

أخرجه أحمد (5/287) ومحمد بن محمد بن مخلد البزار في " حديث ابن السمان " (ق 182-183) عن المبارك بن فضالة ، حدثنا مرزوق أبو عبد الله الحمصي ، أنا أبو أسماء الرحبي به ، وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات ، وإنما يخشى من المبارك التدليس ، وقد صرح بالتحديث فأمنا تدليسه.

 

2- عن عمرو بن عبيد التميمي العبسي ، عن ثوبان مختصراً .

 

أخرجه الطيالسي في سنده (ص 123) ، (2/211 من ترتيبه للشيخ البنا) وسنده ضعيف لكنه قوي بما قبله .

فالطريق الثاني حجة وحده لقوة سنده ، وبانضمام الطريقين الآخرين إليه يصير الحديث صحيحاً لا شك فيه .

 

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد في المسند أيضاً (2/259) عن شبيل بن عوف ، عنه ، قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لثوبان :

 

" كيف أنت يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم . . . الحديث نحوه وسنده لا بأس به في الشواهد " ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (7/287) : " رواه أحمد والطبرانى فى الأوسط بنحوه ، وإسناد أحمد جيد " !

 

وجملة القول : إن الحديث صحيح بطرقه وشاهده ، فلا مجال لرده من جهة إسناده ، فوجب قبوله والتصديق به .

 

2- إخباره -صلى الله عليه وسلم- عن الغيب :

 

من المستغرب جداً عندنا الشك في صحة الحديث بدعوى " إنه يخبر عن الغيب ، ولا يعلم الغيب إلا الله " ومن المؤسف حقاً أن تروج هذه الدعوى عند كثير من شبابنا المسلم فقد سمعتها من بعضهم كثيراً ، وهي دعوى مباينة للإسلام تمام المباينة ، ذلك لأنها قائمة على أساس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر كسائر البشر الذين لا صلة لهم بالسماء ، ولا ينزل عليهم الوحي من الله تبارك وتعالى .

 

أما والأمر عندنا معشر المسلمين على خلاف ذلك ، وهو أنه عليه السلام مميز على البشر بالوحي ، ولذلك أمره الله -تبارك وتعالى- أن يبين هذه الحقيقة للناس فقال في آخر سورة الكهف : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) وعلى هذا كان لكلامه -صلى الله عليه وسلم- صفة العصمة من الخطأ لأنه كما وصفه ربه عز وجل : ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) ، وليس هذا الوحى محصوراً بالأحكام الشرعية فقط ، بل يشمل نواحي أخرى من الشريعه منها الأمور الغيبيه ، فهو -صلى الله عليه وسلم- وإن كان لا يعلم الغيب كما قال فيما حكاه الله عنه : ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) ( الأعراف : 187 ) فإن الله تعالى يطلعه على بعض المغيبات وهذا صريح فى قول الله تبارك وتعالى ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ) وقال : ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ).

 

فالذى يجب اعتقاده أن النبى -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب بنفسه ولكن الله تعالى يعلمه ببعض الأمور المغيبه عنا ، ثم هو صلى الله تعالى عليه وسلم يظهرنا على ذلك بطريق الكتاب والسنة ، وما نعلمه من تفصيلات أمور الآخرة من الحشر والجنة والنار ومن عالم الملائكه والجن ونحو ذلك مما وراء المادة ، وماكان وماسيكون ، ليس هو الا من الأمور الغيبية التي أظهر الله تعالى نبيه عليها ، ثم بلغنا إياها ، فكيف يصح بعد هذا أن يرتاب مسلم فى حديثه لأنه يخبر عن الغيب ؟! ولو جاز هذا للزم منه رد أحاديث كثيرة جداً قد تبلغ المائه حديثاً أو يزيد ، هى كلها من أعلام نبوته -صلى الله عليه وسلم- وصدق رسالته ، ورد مثل هذا ظاهر البطلان ، ومن المعلوم أن ما لزم منه باطل فهو باطل ، وقد استقصى هذه الأحاديث المشار إليها الحافظ ابن كثير فى تاريخه وعقد لها بابا خاصا فقال : " باب ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم- من الكائنات المستقبلة فى حياته وبعده فوقعت طبق ما أخبر به سواء بسواء " ثم ذكرها فى فصول كثيرة فليراجعها حضره السائل إن شاء في " البداية والنهاية " (6/182-256) يجد فى ذلك هدى ونوراً بإذن الله تعالى ، وصدق الله العظيم إذ يقول :

( وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ) وقال : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم * وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور )

 

فليقرأ المسلمون كتاب ربهم وليتدبروه بقلوبهم يكن عصمة لهم من الزيغ والضلال ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- : " إن هذا القرآن طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً "  .

 

3- هدف الحديث :

 

عرفنا مما سبق أن الحديث المسؤول عنه صحيح الإسناد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأن ما فيه من الإخبار عن أمر مغيب إنما هو بوحي من الله تعالى إليه -صلى الله عليه وسلم- ، فإذا تبين ذلك استحال أن يكون الهدف منه ما توهمه السائل الفاضل من " حمل الناس على الرضى بما نحن فيه . . . " بل الغاية منه عكس ذلك تماماً ، وهو تحذيرهم من السبب الذي كان العامل على تكالب الأمم وهجومهم علينا ، ألا وهو " حب الدنيا وكراهية الموت " فإن هذا الحب والكراهية هو الذي يستلزم الرضا بالذل والاستكانة إليه والرغبة عن الجهاد في سبيل الله على اختلاف أنواعه من الجهاد بالنفس والمال واللسان وغير ذلك ، وهذا هو حال غالب المسلمين اليوم مع الأسف الشديد .

 

فالحديث يشير إلى أن الخلاص مما نحن فيه يكون بنبذ هذا العامل ، والأخذ بأسباب النجاح والفلاح فى الدنيا والآخرة ، حتى يعودوا كما كان أسلافهم " يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة " .

 

وما أشار إليه هذا الحديث قد صرح به حديث آخر فقال -صلى الله عليه وسلم- : " إذا تبايعتم بالعينة  ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "  .

 

فتأمل كيف اتفق صريح قوله فى هذا الحديث " لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " مع ما أشار إليه الحديث الأول من هذا المعنى الذى دل عليه كتاب الله تعالى أيضاً ، وهو قوله : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).

 

فثبت أن هدف الحديث إنما هو تحذير المسلمين من الاستمرار في " حب الدنيا وكراهية الموت " ، ويا له من هدف عظيم لو أن المسلمن تنبهوا له وعملوا بمقتضاه لصاروا سادة الدنيا ، ولما رفرفت على أرضهم راية الكفار ، ولكن لا بد من هذا الليل أن ينجلي ، ليتحقق ما أخبرنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى أحاديث كثيرة ، من أن الإسلام سيعم الدنيا كلها ، فقال عليه الصلاة والسلام :

 

" ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر "   .

 

ومصداق هذا الحديث من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .

 

وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ولتعلمن نبأه بعد حين ).

 

 

أبو عبد الرحمن

محمد ناصر الدبن الألباني

 

*** *** ***

2- حول حديث " لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه "

 

( السؤال ) :

" . . وبعد ، قرأنا في باب " إن لبدنك عليك حقاً " ص 816 من المجلد الخامس من مجلتنا العزيزة " المسلمون " في الإجابة على السؤال عن الزوائد في الجلد وطريقة شفائها ، ومما ذكر قول : " لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه " ، فأرجوكم إجابتنا على صفحات " المسلمون " هل هذا قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أو حكمة من حكم العرب أو غير ذلك " ؟ وقد قرأت في مجلة ( الهدي النبوي ) العدد 2 -7 ، 1376 ، ص 99 أن هذا الحديث من وضع المشركين عباد الأوثان . أرجوكم عرض ذلك على الشيخ ناصر الدين الألباني لإفادتنا مشكورين.

 

خالد محمد حون

سلمية

 

( الجواب ) :

" الحديث المذكور ، قال ابن تيمية : إنه كذب ، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني : إنه لا أصل له ، وأقرهما الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة " (195-160) ولا يمكن أن يكون حكمة من حكم العرب ، إلا أن يكون للعرب المشركين لما فيه من تأييد ظاهر لوثنيتهم المعروفة التي إنما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتحطيمها ، وإنقاذ أصحابها منها إلى نور التوحيد الخالص من أوضارها " ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) .

 

محمد ناصر الدين الألباني

دمشق

*** *** ***

3- حول حديث " يوم صومكم يوم نحركم "

 

( السؤال ) :

سأل سائل من أفاضل المشتركين في هذه المجلة الكريمة عن الحديث المتداول على الألسنة : " يوم صومكم يوم نحركم " هل هو من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟

 

( والجواب ) :

 

إن هذا الحديث لا أصل له باتفاق علماء الحديث وقد صرح بذلك الإمام أحمد وغيره كالزركشي والسيوطي كما في " كشف الخفاء " للشيخ إسماعيل العجلوني (2/398 رقم 3263) وقوله : " أغفله السخاوي " سهو منه أو هو بالنسبة للنسخة التي وقعت إليه من " المقاصد الحسنة " وإلا فهو قد أورده فيه (ص 480 رقم 1355 الخانجي) وقال فيه :

" لا أصل له كما قال أحمد وغيره " .

 

وممن جزم بأن الحديث لا أصل له ، الحافظ العراقي في " شرح علوم الحديث " (ص 224) ونقل عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم -ثقة فقيه من أصحاب مالك- أنه قال :

" هذا من حديث الكذابين " .

 

ونقله أيضأ الزركشي في " اللآلي المنثورة " (ص 7 من مخطوطتي) عن خط ابن الصلاح عن ابن عبد الحكم وأقره.

 

وسلامي إلى السائل الكريم ورحمة الله وبركاته .

 

محمد ناصر الدين الألباني

دمشق

 

*** *** ***

4 – حول حديث " العنان "

 

( السؤال ) :

ورد إلى المجلة سؤال من بعض القراء الأفاضل عن صحة الحديث الذي أورده الحافظ ابن كثير في تفسيره ولفظه :

" عن العباس بن عبد المطلب قال : كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمرت بهم سحابة فنظر إليها ، فقال : " ما تسمون هذه ؟ " قالوا : السحاب ، قال : " والمزن ؟ " قالوا : والمزن ، قال : " والعنان ؟ " قالوا : والعنان - قال أبو داود : ولم أتقن العنان جيداً - قال : " هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض ؟ " قالوا : لا ندري . قال : " بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ثم السماء فوقها كذلك ، حتى عد سبع سموات ، ثم فوق السماء السابعة بحر ما بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهن العرش ، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك " .

 

( الجواب ) :

إن الحديث ضعيف الإسناد لا تقوم به حجة ، وإليك البيان:

 

تخريجه:

 

أخرج الحديث الإمام أحمد في مسنده (رقم 0177 و7711) وأبو داود (2/276) وعنه البيهقي في " الأسماء والصفات " (ص 399) والترمذي (4/205-206) وابن ماجة (1/83) وابن خزيمة في " التوحيد " (ص68-69) والحاكم في " المستدرك " (2/378) والحافظ عثمان الدارمي في " النقض على بشر المريسي " (ص 90-91) والبغوي في تفسيره (8/465-466) من طرق عن سماك بن حرب عن عبد الله بن عميرة عن العباس به.

وقال الترمذي:

" هذا حديث حسن غريب "

وقال الحاكم:

" صحيح الإسناد " ووافقه الذهبي ! وليس كما قالوا ، وقد تناقض الذهبي -كما يأتي بيانه-:

 

علة الحديث :

 

وللحديث علتان : الاضطراب في إسناده ، وجهالة أحد رواته وهو ابن عميرة ، فقال الحافظ ابن حجر في ترجمته من " تهذيب التهذيب " :

 

" وعنه سماك بن حرب ، وفيه عن سماك اختلاف ، قال البخاري لا يعلم له سماع من الأحنف ، وذكره ابن حبان في " الثقات " ، وحسن الترمذي حديثه ( يعني هذا ) ، وقال أبو نعيم في " معرفة الصحابة " : أدرك الجاهلية ، وكان قائد الأعشى لا تصح له صحبة ولا رؤية ، وقال مسلم في " الوحدان " : تفرد سماك بالرواية عنه ، وقال إبراهيم الحربي : لا أعرفه " .

 

أما العلة الأولى فقد بينها بعض العلماء تعليقاً على التهذيب ، فقال:

 

" قال شريك مرة : عن سماك عن عبد الله بن عمارة ، وهو وهم ، وقال أبو نعيم : عن إسرائيل عن سماك عن عبد الله بن عميرة أو عمير. والأول أصح . وقال أبو أحمد الزبيري : عن إسرائيل عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن زوج درة بنت أبي لهب " .

 

وأما العلة الثانية فتتلخص بأن عبد الله بن عميرة مجهول لايعرف ، وقد صرح بهذا الحافظ الذهبي فقال في " كتاب العلو " (ص 109 الطبعة الهندية) :

 

" تفرد به سماك بن حرب عن عبد الله ، وعبد الله فيه جهالة " .

وكذا قال في " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " .

 

ثم نسي الذهبي هذا كله فوافق الحاكم على تصحيحه كما سبق ، فسبحان من لا ينسى !

 

وأما تحسين الترمذي للحديث فمما لا يعتمد عليه لا سيما بعد ظهور علة الحديث ، ذلك لأن الترمذي معدود في جملة المتساهلين في تصحيح الأحاديث كالحاكم وابن خزيمة وابن حبان ونحوهم ، ولهذا قال الذهبي في " الميزان " (ص 33) :

" لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي " .

 

قلت : وكذلك لا يعتمد المحققون من العلماء على توثيق ابن حبان لتساهله في ذلك كما بينه الحافظ ابن حجر في مقدمة " لسان الميزان " وزدته بياناً في ردي على الشيخ عبد الله الحبشي (ص 18-21) وخلاصة ذلك أنه يوثق المجهولين حتى الذين يعترف هو بأنه لا يعرفهم فيقول مثلاً في ترجمة سهل :

" يروي عن شداد بن الهاد ، روى عنه أبو يعقوب ، ولست أعرفه ، ولا أدري من أبوه " !!

 

وهذا موضوع هام يجب على كل مشتغل بعلم السنة وتراجم الرواة أن يكون على بينة منه ، كي لا يخطيء بتصحيح الأحاديث الضعيفة اغتراراً بتوثيق ابن حبان ، كما فعل أحد أفاضل العلماء في تعليقه على المسند ، والشيخ الحبشي في " التعقب الحثيث " وغيرهما .

 

وأما طلب السائل شرح هذا الحديث ، فلا داعي عندي للإجابة عنه بعد أن بينا ضعفه ، بل أعتبر الاشتغال بشرحه مضيعة للوقت ، إذ كل ما فيه من بيان المسافة بين كل سماء والتي فوقها ، وكذا البحر فوقها والثمانية أوعال كل ذلك لم يرد فيه شيء صالح للاحتجاج به ، نعم هناك أحاديث أخرى في تحديد المسافة المذكورة ، وهي مع ضعف أسانيدها مختلفة متناقضة ، ولا داعي للتوفيق بينها كما فعل ابن خزيمة في " التوحيد " والبيهقي في " الأسماء " إذ التوفيق فرع التصحيح ، وهو مفقود .

 

وأما قوله في آخر الحديث : " ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك " فحق يجب الإيمان به لثبوته في آيات كثيرة وأحاديث متواترة شهيرة ، وقد ساقها وتكلم على أسانيدها الحافظ الذهبي في " كتاب العلو " فليراجعها من شاء الوقوف عليها .

 

وبهذه المناسبة أرى لزاماً علي أن أقول : إن الإيمان بعلو الله -تبارك وتعالى- على خلقه متفق عليه بين أئمة المسلمين قاطبة وفيهم الأئمة الأربعة ، ومن ينكر ذلك من المتأخرين بحجة أن في ذلك تشبيهاً لله تعالى أو إثبات مكان له غفلة منه عن الحقيقة المتفق عليها ، وهي أن صفات الله تبارك كذاته من حيث جهلنا بحقيقة ذلك كلها ، فإذا كان لا يلزم من إثبات الذات تشبيه ، فكذلك لا يلزم من إثبات الصفات تشبيه ومن غاير بين الأمرين فقد كابر أو تناقض ، وللحافظ الخطيب كلمة نافعة جداً في هذا الصدد أرى من الضروري نشرها ، ولو طال بها الكلام إذا اتسع لذلك صدر المجلة الزاهرة .

 

قال الخطيب -رحمه الله تعالى-:

" أما الكلام في الصفات ، فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ، ونفي الكيفية والتشبيه عنها ، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه ، وحققها من المثبتين قوم فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف ، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين ، ودين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه .

 

والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله ، فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات صفاته إنما هو لبيان إثبات وجود ، لا إثبات تحديد وتكييف .

 

فإذا قلنا : لله تعالى يد وسمع وبصر ، فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ، ولا نقول : إن معنى اليد القدرة ، ولا إن معنى السمع والبصر العلم ، ولا نقول : إنها جوارح ، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل ، ونقول : إنما وجب إثباتها ، لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) وقوله عز وجل : ( ولم يكن له كفوا أحد ).

 

ولما تعلق أهل البدع على عيب أهل النقل برواياتهم هذه الأحاديث ، ولبسوا على من ضعف علمه بأنهم يروون ما لا يليق بالتوحيد ولا يصح في الدين ، ورموهم بكفر أهل التشبيه وغفلة أهل التعطيل ، أجيبوا بأن في كتاب الله تعالى آيات محكمات يفهم منها المراد بظاهرها ، وآيات متشابهات لا يوقف على معناها إلا بردها إلى المحكم ، ويجب تصديق الكل والإيمان بالجميع ، فكذلك أخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- جارية هذا المجرى ومنزلة على هذا التنزيل برد المتشابه منها إلى المحكم ويقبل الجميع .

 

فتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام :

 

القسم الأول : أخبار ثابتة أجمع أئمة النقل على صحتها لاستفاضة نقلها فيجب قبولها ، والإيمان بها ، مع حفظ القلب أن يسبق إليه ما يقتضي تشبيه الله بخلقه ، ووصفه بما لا يليق من الجوارح والتغير والحركات .

 

والقسم الثاني : أخبار ساقطة بأسانيد واهية ، وألفاظ شهد أهل العلم بالنقل على بطلانها ، فهذه لا يجوز الاشتغال بها والاعتماد عليها .

 

والقسم الثالث : أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها البعض دون الكل ، فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها ليلحق بأصحها أو يجعل في حيز الفساد والبطول " .

 

قلت : وهذا الحديث الذي نحن في صدد الكلام عليه من هذا القسم ، وقد نظرنا فيه على ضوء قواعد الحديث فتبين أنه من الفساد والبطول .

 

محمد ناصر الدين

أبوعبد الرحمن

 

*** *** ***

القسم الرابع : مقالات حول العلامة الألباني :

 

1- من مناقب العلامة الألباني

بقلم: محمد عيد العباسي

 

وأخيراً توفي أستاذنا الإمام العلامة محمد ناصر الدين الألباني ، بعدما أمضى نحو سنتين يعاني من المرض ، بل عدة أمراض وأسلم روحه إلى بارئها ، وانتقل إلى جوار ربه الكريم الرحيم .

 

لقد ذاع اسم الشيخ ، وانتشر ذكره بين طلبة العلم في مختلف الأقطار والأمصار ، ووضع له القبول بين الناس ، وما ذلك إلا لصفات اتصف بها وخصال اختص بها ، مما جعله أحد العلماء الربانيين والمجددين المصلحين في هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس .

 

وحيث إني أحد تلامذته المقربين وقد لازمته منذ خمسة وأربعين عاماً فقد عرفت منه هذه الصفات بجلاء تام ، ولذلك كان يزداد حبي له وتقديري وإجلالي يوماً بعد يوم رغم الحملات الشديدة التي كان يشنها عليه خصومه وشانئوه ، ورغم الإشاعات الكثيرة التي كان يذيعها مخالفوه وحاسدوه.

 

والحديث عنه وعن صفاته طويل وشيق ، ولا تتسع له هذه المقالة ، فأكتفي بذكر بعضها راجياً الله -تعالى- أن ييسر لي كتابة كتاب في ذلك أسرد فيه ذكرياتي عنه وتحليلاً لأخباره ، ليفيد من ذلك طلبة العلم والناس ، فمن صفاته الجميلة الحميدة -رحمه الله تعالى-:

 

1- إخلاصه لله -تبارك وتعالى- وقصده وجهه الكريم في عمله وعلمه :

 

وقد يقول قائل : إن الإخلاص سر من أسرار الله -تعالى- لا يطلع عليه إلا الله ، فكيف يعرف ؟

 

والجواب : إن الأمر كما قلت ، ولكن الإخلاص له علامات وأحوال تدل عليه . ويستطيع الدارس والملاحظ تبينها إذا أوتي فراسة وذكاء وخبرة وتجربة . أرأيت أمر الساعة ؟ فقد اختص الله -تعالى- نفسه بمعرفتها ، ولكنه جعل لها علامات وأشراطاً ، يحكم المتأمل والناظر بقرب وقوعها الوشيك جداً .

 

وهكذا ، فكان الشيخ في سلوكه العام والخاص وابتعاده عن المحرمات والمكروهات ، ومسارعته إلى الطاعات ، وصبره على البليات مثالاً يحتذى ، واستمر على ذلك طول عمره ، لم تفتنه المناصب ، ولم يغره المال ، ولم تجتذبه الدنيا ، وليس لذلك تفسير عند العقلاء إلا في الإخلاص والصدق مع الله وابتغاء وجهه .

 

كنا نرافقه في أسفاره إلى بعض المدن السعودية ، وإلى الأردن في سيارته للدعوة والتدريس وزيارة الإخوة ، فكان كلما احتاجت السيارة لملئها من البنزين يبادر بدفع ثمنه ، ونحاول جهدنا أن نسبقه فما كان يسمح لنا ، بل يعزم علينا ألا نفعل رغم حرصنا ، ويقول : دعوا تكاليف السيارة علي لتكون خالصة لله -تبارك وتعالى- وفي خدمة دينه .

 

2- جده ودأبه وصبره على المطالعة والدراسة والتعليم والدعوة والكتابة والتأليف :

 

فقد كان ينفق الساعات الطوال التي تنوف على العشر ساعات يومياً في مطالعة الكتب والرسائل المطبوعة والمخطوطة في المكتبة الظاهرية وغيرها ، ونسخ ما يحتاجه منها ، وكان يأتي إلى ظاهرية دمشق منذ أن تفتح أبوابها ، ويستمر حتى نهاية الدوام المسائي ، وكان يطلب موظفوها منه إذا حان وقت انصرافهم ، وأراد أن يكمل بحثه أن يغلق أبوابها إذا أراد الانصراف ، وكان كثيرون من روادها يظنونه موظفاً من موظفيها لطلول مكثه فيها .

 

وقد بلغ الذروة في الصبر والتحمل حينما صام أربعين يوماً متواليات ليلاً ونهاراً عن كل شيء إلا الماء تطبباً ، وطلباً للشفاء من بعض الأمراض التي كان يعاني منها ، بعد أن قرأ كتاباً لأحد الأطباء يشرح فيه أن كثيراً من الأمراض يشفى منها بالصوم ، فكان -رحمه الله تعالى- يواظب خلال هذه المدة على عمله ودروسه وتأليفه ، ويمارس كل النشاط الذي كان يقوم به في الأيام العادية ، بما في ذلك الأسفار وإلقاء الدروس والمحاضرات ، وإن هذا -لعمر الله- قمة في مضاء العزيمة ، والصبر على المكاره ، وعجيبة من عجائب الدهر .

 

3- زهده وميله للبساطة وعدم التكلف :

 

وهذا خلق من أخلاق النبوة ، فقد آثر الآخرة على الأولى ، ولذلك كان يقنع بالقليل من الرزق ، ويكتفي بالميسور من الطعام والمتاع ، ولا يعتاد التنعم والرفاه ، كما زهد في المناصب ، وترفع عن التزلف لأصحاب الجاه والغنى والسلطان ، بل كان عزيز النفس لا يطلب من أحد شيئاً ولو كانت به حاجة ، كما كان يؤثر الابتعاد عن المناسبات الرسمية والأضواء ، ويؤثر البساطة والعيش مع كتبه وطلابه ودروسه ، ولا يتركها  إلا مكرهاً ، كما أنه تجنب الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية مع أنه دعي للظهور فيها ، وذلك لما يرى فيها من التكلف والتصنع الذي يمجه بفطرته ، ولما يوجد في كثير من وسائل الإعلام من تحريف وبتر للكلام وتشويه ومخالفة للأمانة في النقل .

 

4- أمانته العلمية وإنصافه :

 

وهذه صفة عزيزة تقتضي من العالم الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه ، والتخلي عن الهوى والغرض ، وهي أمور صعبة وشديدة على النفس ، كما تقتضي منه إذا سئل عن مسألة لا يعرفها أن يعترف بعدم معرفته لها وكل ذلك من الأمور التى أمر بها الإسلام ، ويكفى فيها قوله -تعالى- : ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك ان عه مسئولا ) ( الإسراء : 36 ).

 

كان أستاذنا إذا سئل عن بعض المسائل -وخاصة تلك التي تتعلق بالفرائض والمواريث- لا يجيب ، ويقول : لا أدري ، وليس لي فيها دراسة ، كما كان يطلب ممن يطلع على خطأ أو وهم في كتبه أن يبين له ذلك ، ويدل عليه ، وقد ذكر بعض هؤلاء في بعض كتبه ، وشكرهم على صنيعهم ، وأخذ برأيهم ، وكان يعلن ترحيبه بذلك بشرط أن يكون المنتقد مخلصاً ويعرض ذلك بأدب الإسلام والحجة والبينة .

 

وكان دائم المطالعة والمراجعة للجديد من الكتب يستفيد منها ، ولذلك كان دائم التعديل والإضافة للطبعات الجديدة من كتبه ، ويعلن ذلك في الدروس والكتب ، ولا تحمله العزة بالإثم والكبر على الإصرار على الخطأ وكتمان الحق ، بل كان يتراجع عن خطئه بكل سهولة وسماحة ، وترى ذلك -مثلاً- في مقدمة كتابه : " مختصر الشمائل المحمدية " ومقدمة كتابه : " سلسلة الأحاديث الضعيفة " .

 

 

وبالإضافة إلى ذلك كان في حكمه على الأشخاص -قدماء ومعاصرين- يميل إلى الانصاف والعدل كما أمر الله -تعالى- ويجنح إلى التوسط والاعتدال ، فلا يبالغ في الثناء ، كما لا يفرط في الذم ، وأكبر مثال على ذلك رأيه في الكاتب الإسلامي الذي كثر فيه القيل والقال بين المغالين فيه والجافين عنه ، أعني الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- ، وله شريط قال رأيه فيه بإنصاف ودون تحامل أو حقد ، أو مجافاة للحقيقة ، أو محاباة لأحد على حسابها .

 

5- سعة الصدر والسماحة وخاصة في المناظرة والمناقشة :

 

كان شيخنا -رحمه الله تعالى- نادرة زمانه في المناظرات العلمية والمناقشات الفكرية ، فكان يبدأ نقاشه بتحرير موضع الخلاف بينه وبين مناقشه ، لأن كثيراً ممن يتناقشرن يكون بينهم خلاف لعدم مراعاتهم بيان ذلك أو لاختلافهم في المصطلحات ، فيضيع جهدهم سدى ، ويكتشفون فيما بعد أنهم على وفاق ، ثم يطلب من محاوره الكلام وعرض رأيه مع بيان الدليل والبرهان ، ويستمع بكل أدب وإصغاء وانتباه إلى حديثه ودون أن يتدخل أو يقاطع ، وما أكثر من رأينا من المتناقشين يكثر المقاطعة والتدخل ! ويكون فكره مهتماً بالرد ، فيصرفه ذلك عن الانتباه والوعي لكلام محاوره ، فيحدث الشجار والخصام ، فإذا انتهى محاوره من عرض رأيه وبيان دليله ، أخذ الشيخ بتلخيص كلام محاوره ، ثم رد عليه نقطة نقطة بكل وضوح وجلاء ، وإذا أورد الآخر شبهة جديدة ، أو جواباً على كلامه عاد فاستمع إليه ئم أجابه ، وهكذا ، وقد حضرت بعض مناظراته ، فكان محاوره كثيراً ما يحيد عن الجواب حينما يجد الحجة القوية ، فيعيده الشيخ إلى الموضوع والنقطة التي وصل الكلام إليها بكل لطف وأدب .

 

وقد تعلمنا منه أدب الحوار ، وطريقة النقاش ، وإن كنت أعترف أنني وغيري لم نبلغ معشار ما كان عليه من الهدوء والسماحة والانضباط.

 

6- نشاطه وحماسه فى الدعوة ونشر العلم :

 

كانت الدعوة السلفية في بلاد الشام قبله ينقصها الفهم الواضح الشامل السديد ، كما كانت تفتقد إلى الحيوية والنشاط والاندفاع اللائق بها ، فقد كان هناك بعض المشايخ والدعاة المؤمنين بعقيدة السلف ومنهجهم في الجملة ، ولكن كان ينقصهم الوضوح والصراحة والجرأة ، فكانوا يبثون الدعوة بين محبيهم وتلامذتهم في نطاق ضيق ومحدود وعلى تخوف واستحياء ، كما كانوا غير متمكنين في علم الحديث ، فكانت الدعوة محصورة بين القليل من طلاب العلم ، وفيها بعض الغبش .

 

ولما جاء أستاذنا الألباني جهر بها بين ظهراني الناس جميعاً ، وأعلن بكل قوة وجرأة ، ولم يخشى في الله لومة لائم ، وتحمل في سبيل ذلك أنواعاً من الايذاء والاستنكار والإشاعات الباطلة والحملات الظالمة ، والسعي للوشاية به إلى الحكام ، وكثيراً ما منع من الفتوى والتدريس ، والاجتماعات ، واستدعي للجهات الأمنية ، كما أنه قد سجن مدة طويلة أكثر من مرة ، وأخرج من أكثر من بلد ، ومع ذلك فقد ظل ثابتاً كالطود ، لا يضعف ، ولا تلين له قناة ، ولا تنثني له عزيمة حتى لقي ربه -تبارك وتعالى- .

 

كان يجول في المدن والبلدان داعياً إلى منهج السلف واتباع الدليل ، يجادل ويناظر ، ويكتب ويدرس ، دون خور أو ضعف ، ودون كلل أو ملل .

 

وبمثل ذلك تنتصر الدعوات وتنتشر ، وهكذا فقد انتشر ما كان يحمله من الدعوة إلى التوحيد واتباع السنة وإيثار الدليل ، ومحاربة البدع والمحدثات ، ونشر الأحاديث الصحيحة ، ومحاربة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، وتقريب السنة إلى الأمة ، كما انتشر تلاميذه ومحبوه في كل مكان ، وصارت الدعوة إلى منهج السلف حديث الناس ، وموضع اهتمامهم ودراستهم .

 

هذه جوانب قليلة من صفات الشيخ الجليل ، وهي غيض من فيض : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) (الجمعة : 4) .

 

رحم الله أستاذنا الألباني وإخوانه الذين سبقوه ، وخاصة سماحة الإمام العلامة صديقه الوفي المخلص الحميم عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، وأسكنهم جميعاً فسيح جناته ، وخلفنا من بعده على خير ، وآجرنا في مصابنا ، وعوض المسلمين عما فقدوه خير العوض ، إنه أكرم مسؤول .

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين .

 

*** *** ***

2- المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني

بقلم الدكتور محمد بن لطفي الصباغ

 

توفي العلامة المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بعد عصر يوم السبت الواقع في 22 جمادى الآخرة سنة 1420 هـ الموافق لـ 2 من أكتوبر سنة 1999م في عمان ، فهز نبأ وفاته الأوساط العلمية الإسلامية ، وحزن طلبة العلم عامة وطلبة علم الحديث خاصة لهذا المصاب الجلل ، ذلك لأنه -رحمه الله وغفر له- أعظم محدث في هذا العصر.

 

لقد وقف حياته على خدمة السنة المطهرة تعليماً وتأليفاً وتخريجاً وتحقيقاً ، وكان يدرس لك يوم دراسة الطالب الجد الذي سيدخل الامتحان في اليوم الآتي . . أجل ، لقد كان يعمل بدأب مستمر ، وجد لا يعرف الكلل ، ولم يكن يجد الملل إلى نفسه سبيلاً ، بل كان يجد راحته الكبرى في الدراسة والمطالعة والكتابة ، وكان يستفيد من وقته أعظم الاستفادة ، فلا تراه إلا قارئاً أو كاتباً أو محدثاً أو مناقشاً ، هذه الدراسة الممتدة نحواً من ستين سنة ، كانت موصولة بذكاء ممتاز وذاكرة جيدة ، وشخصية قوية ، وكان من ثمرة ذلك أن أضحى-كما قلنا- أكبر محدث في عصره .

 

شهد له بذلك العلماء المنصفون ، فقد سمعت العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- يقول فيه : " لا أعلم تحت قبة الفلك أعلم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الشيخ ناصر " .

 

 

ولد الفقيد في مدينة " أشقودرة " سنة 1333 هـ (1914م) وكانت هذه المدينة عاصمة ألبانيا . . ولد من أسرة فقيرة متدينة يغلب عليها الطابع العلمي . . وكان والده فقيهاً حنفياً من أهل العلم ، ولما رأى أن الفساد الفكري والانسياق وراء الغرب بدأ يغزو بلده بتشجيع الحكومة ، قرر الهجرة إلى بلاد الشام ، فراراً بدينه ، وحفاظاً على عقيدة أولاده وأخلاقهم .

 

درج الفتى وهو دون التاسعة في مدينة دمشق ، وهو لا يعرف كلمة عربية ، وسحنته سحنة غريبة عن أهل البلد ، وكاذ من أسرة مهاجرة غريبة فقيرة ، ولم تتح له ظروفه الخاصة أن يتابع دراسته ، وأراد له أبوه أن يكوذ فقيهاً حنفياً ويدرس بعد أن ينتهي من عمله الذي يكسب منه ما يسد نفقات العيش .

 

فاشتغل في أول أمره نجاراً ، ثم اختار له أبوه أن يعمل ساعاتياً ، ولكن ذاك الفتى الذكي الطموح لم يقنع بما اختار له أبوه ، بل شرع يقرأ ويدرس في الأوقات التى يستطيع انتزاعها من عمله وراحته .

 

وجذبه علم الحديث ، فبدأ يشتغل بدراسة كتب التخريج وكتب الأحاديث الشائعة ، فاستفاد من تخريج الحافظ العراقي لأحاديث الإحياء الذي سماه مؤلفه " المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في كتاب إحياء علوم الدين من الأحاديث والآثار " . وكذلك كتاب " الموضوعات الكبرى " لملا علي القاري وغيرهما ومازال يواصل دراساته حتى وجد في نفسه القدرة على التأليف ، فبدأ يؤلف الرسائل الصغيرة ، واستمر في البحث والتنقيب في كتب الحديث المطبوعة والمخطوطة ، وأتيح له أن يتعاون مع دار نشر احتضنت مؤلفاته ، وطبعتها ونشرتها في الآفاق .

 

فعرف الناس فضله ، وانتفعوا من علمه ، وطبق ذكره كل بلاد المسلمين ، وليس من شك في أن أثره على طلاب العلم في عصره كان كبيراً ، وكان الرائد في مجال البحث عن صحة الحديث في هذا العصر ، واتجه إلى الأخذ بالحديث الصحيح والحسن ، والاستغناء بهما عن الحديث الضعيف فضلاً عن الموضوع ، لقد كان طلبة العلم يدرسون علم المصطلح في كتب النووي وابن كثير وابن الصلاح والسخاوي وابن حجر وغيرهم ، ولكنهم كانوا يتوقفون عند حفظ القواعد ، أما أن يعمد واحد منهم على الحكم على الحديث ، فهذا أمر لم يكن يدور لهم ببال .

 

إن خطته هذه واستحسان الناس لها ، جعل كثيراً ممن درس على المشايخ ينهجون هذا المنهج ، ويدعون ما كان عليه أشياخهم .

 

ثم ظهر في كل قطر من يسير على طريقة الألباني ، وكان بعضهم أهلاً لسلوك هذا الطريق ، وكثير منهم لم يكن كذلك ، بل تسرع وتعجل قبل أن يستكمل الآلة .

 

وقد ضاق الشيخ الألباني -رحمه الله- بهؤلاء الأخيرين ، وكان يشكو منهم مر الشكوى ، وقد رد على بعضهم في بعض كتاباته .

 

ومهما يكن من أمر فإن إساءة بعض طلبة العلم استخدام المنهج الصحيح لا تدخل الضيم على المنهج ، بل يكون النقد موجهاً لهؤلاء المسيئين .

 

وسنرى في عرض أحداث حياته فضله في هذه الريادة وصبره على ما لاقاه في سبيل ذلك .

 

لقد دفح الحسد والقصور والجهل كثيراً من الذين يتزيون بزي العلماء إلى محاربته والتشكيك بعلمه وفضله ، ولكن الزبد يذهب جفاء ، والنافع يفرض نفسه على الناس .

 

والحق أن الشيخ الألباني -رحمه الله-  كان يتصف بحدة شديدة ، كان يواجه بها المخالفين له من علماء قدماء ومحدثين ، ولا شك في أن هذه الحدة زادت من خصومه .

 

ولكن هذه الحدة لم تكن وقفاً على الشيخ ، بل كنت تلمسها في أكثر العلماء الذين يقل اختلاطهم بالناس ، ويعيشون بين الكتب والمثل العليا ، فإذا رأوا من الناس ما لا يعجبهم انفعلت نفوسهم بالغضب الشديد ، وقابلوا الانحراف بشدة وحدة .

 

لقد كان منهج الشيخ الألباني رحمه الله العمل بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيح والحسن الذي عمل به بعض الأئمة ولو خالف أئمة آخرين .

 

وهذا منهج جديد على الناس ، وله فيه -دون شك- فضل الريادة ، ولقي في سبيل ذلك ما لقي ، ولكنه مضى في طريقه لا يبالي بالهجمة الشرسة التي كان يقابله بها المتعصبون المذهبيون ، والصوفيون المخرفون ، والعلمانيون.

 

ولكن كان هناك فئة من العلماء السلفيين الدمشقيين الذين يكبرونه في السن ، وهم على طريقة السلف ، كانوا يشجعونه ويحضونه على الثبات على موقفه ، ومنهم أستاذنا العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ، والشيخ عبد الفتاح الإمام ، والشيخ حامد التقي ، والشيخ توفيق البزرة -رحمهم الله- .

 

وكانت للشيخ الألباني دروس يعقدها في دمشق ، ثم عمل أستاذاً لمادة الحديث في الجامعة الإسلامية ثلاث سنوات ، وقد ترك أثراً طيباً محموداً ، ولما رجع إلى الشام تفرغ للتأليف والدراسة ، وكان مع ذلك يقوم برحلات إلى المحافظات السورية ، يلقي في كل منها دروساً ينشر فيها عقيدة السلف الصافي ، ويقرر فيها الحكم الشرعي في العبادات ، والمعاملات على ضوء السنة ، ثم كانت هجرته إلى عمان وكان له نشاط علمي وتأليفي ودعوي ، وقد ترك من المؤلفات عدداً كبيراً يجاوز المائة ، رحمه الله رحمة واسعة ، وغفر لنا وله .

 

*** *** ***

 

 

3- نقاط يسيرة من سيرة عطرة للشيخ الألباني مع الحديث النبوي الشريف

بقلم : زهيرالشاويش

 

أكثر من ستين سنة أمضاها بجد واجتهاد شيخنا محمد ناصر الدين الألباني ، مع السنة المطهرة وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باحثاً في المتون ، ومخرجاً الفروع على الأصول ، ومحدداً الرواة الصادقين ، ومفرقاً بين الساهين والمدلسين ، ومقارناً الروايات المتعددة وجامعاً ما تفرق منها حتى غدت تحقيقاته المرجع الأول في عصرنا لكل مطلع وباحث ودارس .

 

بدأ من مجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- عندما اطلع فيها على أن الأحاديث حتى تقبل ويعمل بها وتصلح للوعظ والإرشاد ، يجب أن تكون نسبتها صحيحة واصلة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالسند المتصل . . . بعيدة عن العلل والشذوذ .

 

ومنذ ذلك اليوم حتى ساعة وفاته لم يقف ساعة عن العمل الذي اختص به من تصحيح وتصنيف كل حديث يمر به ، وما أجله أو توقف عنده ، كان يعود إليه مرات ومرات ، وكان من نتيجة ذلك هذا الكم الهائل من صحاح الأحاديث ، وضعافها ، وتنقية السنة من كل دخيل ، أو مكذوب .

 

والحق يقال : إن الشيخ ناصر الدين كان أبرز علماء الدعوة إلى السلفية في كل معانيها ببلاد الشام ، وبعد أن انتشرت كتبه بالطباعة ، وتلاميذه في الأوساط العلمية ، أصبح المرجع الأول لكثير من المسلمين ، وكل طلاب العلم والمتعبدين . . . وبجهده وإخوانه وعدد من أهل العلم انتشرت السلفية في أوساط أكثر وأوسع حتى غدت سمة العصر ، ودخلها وعمل معها العدد الكبير من دعاة الإسلام ، حتى لم نعد نسمع خطبة جمعة إلا ويحاول الخطيب إحالة الأحاديث فيها إلى مصدر موثق . . . وهذا الأمر لم يكن معروفاً من قبل مطلقاً منذ عصور .

 

وأصبح للسلفيين وجود في المجتمع ، وحضور في لقاءات العلماء ، ودخول في الانتخابات العامة ، والمشاركة في المظاهرات والاحتجاجات ، وفي التدريس الرسمي في المعاهد والكليات ، وفي كل يوم توجد شهادات للماجستير ، أو الدكتوراه في فروع الحديث النبوي ، وأما الكتب المؤلفة في ذلك فلا سبيل لحصرها ، وأغلبها اعتمد في تخريجه على الشيخ الألباني ، وحتى في الإعداد للجهاد في فلسطين ، وقد أعد الشيخ ناصر نفسه لمقاومة الاستيطان الصهيوني ، وكاد أن يصل إلى فلسطين لولا المنع الحكومي للمجاهدين .

 

واستمر مجداً مجتهداً في عمله الذي أمضاه في المكتبة الظاهرية بدمشق ، والمكتب الإسلامي ، ثم في داره بعمان على نفس الوتيرة ، وبارك الله في عمله طوال حياته التي قاربت التسعين عاماً .

وإننا نحتسبه عندك يا الله ، وأنت أرحم الراحمين .

 

*** *** ***

4- ناصر الحديث ومجدد السنة الألباني .. عاش وحيد العصر ، وأصبح فقيد العصر

بقلم : علي خشان

 

إن من رحمة الله -تعالى- بهذه الأمة أن يجدد لها أمر دينها ، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " صحيح الجامع والصحيحة 599.

 

قال الشيخ الألباني في الصحيحة (2/148) :

 

فائدة : أشار الإمام أحمد إلى صحة الحديث ، فقد ذكر الذهبي في " سير الأعلام " (1/46) ( نقلاً عن الإمام أحمد رأي ): كل مائة سنة من يعلمهم السنن وينفي عن رسول االله الكذب ، قال : فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي .

 

قلت : وقد عاش الألباني نحو تسعين سنة ، قضى منها نحو سبعين سنة يعلم الناس السنن وينفي عن رسول الله الكذب ، وكتبه تشهد بذلك .

 

وأخرج الذهبي في السير (10/47) عن الإمام أحمد قوله : ( ما أحد مس محبرة ولا قلماً إلا وللشافعي في عنقه منة ) .

 

قلت : وهذا يصدق في الألباني فما من أحد في العصر الحاضر فمن جاء بعده وله اشتغال في علم الحديث أو الثقة فيه إلا وللألباني في عنقه منة ، اعترف بذلك من اعترف وجحد من جحد .

 

 

وقال إبراهيم الحربي : سألت أبا عبد الله " يعني أحد بن حنبل " عن الشافعي فقال : " حديث صحيح ، ورأي صحيح " وهذا ما نقوله في الألباني بعد مصاحبة نحو ربع قرن ، سمعنا منه وحضرنا مجالسه مع غيره من العلماء وجالسنا غيره على انفراد ، وصحبناه في سفره وترحاله وفي بيته وبيوتنا فما رأينا -والحمد لله- إلا خيراً ، ولا عصمة لغير الأنبياء .

 

وقال إسحاق بن راهويه : " ما تكلم أحد بالرأي -وذكر جماعة من أئمة الاجتهاد- إلا والشافعي أكثر اتباعاً منه ، وأقل خطأ منه ، والشافعى إمام " .

 

قلت : وبالله التوفيق ، وهذا يصدق فى الألباني ومعاصريه ، ولا يعرف الفضل لأهله إلا ذووه ، وكتب الألباني وكتبهم شاهدة بذلك ومن تتبع عرف .

 

قال الإمام الذهبى : " وقد صنف الحافظ أبو بكر الخطيب كتاباً في ثبوت الاحتجاج بالإمام الشافعى ، وما تكلم فيه إلا حاسد أو جاهل بحاله ، فكان ذلك الكلام الباطل منهم موجباً لارتفاع شأنه وعلو قدره وتلك سنة الله فى عباده : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا ) (الأحزاب : 69-70).

 

قلت: وهذا يصدق فى الألباني أيضاً فما يطعن فيه إلا شانىء مبغض لأهل السنة والأثر ، أو حاسد حاقد ونعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد .

 

وقال الربيع بن سليمان : وكان الشافعي -والله- لسانه أكبر من كتبه لو رأيتموه لقلتم : إن هذه ليست كتبه ، " السير " : (10/47).

 

قلت : ومن رأى الألباني في مجالسه وهو يناظر العلماء ويناظرونه علم أن في صدره علماً لم يسطر في الكتب ؟

 

وذكر الذهبي في السير (10/47). قال حرملة : سمعت الشافعي يقول : " سميت ببغداد ناصر الحديث " .

 

قلت : لقد أفنى الألباني عمره في نصرة الحديث ليقرب السنة بين يدي الأمة ، حتى وهو على فراش الموت كان إذا صحا لحظات يضن بها أن تضيع في غير نصرة السنة والذب عنها ، فيقول : ناولوني الجرح الأول ، أعطوني الجرح الثاني " يعني كتاب الجرح والتعديل " هكذا كان يغالب المرض . وينصر السنة ، والله ما أبصرت عيناي فيما أعلم أحداً أحرص على السنة ، وأشد انتصاراً لها ، وأتبع لها من الألباني .

 

لقد انقلبت به السيارة ما بين جدة والمدينة المنورة وهرع الناس وهم يقولون : يا ستار ، يا ستار ، فيقول لهم ناصر الحايث وهو تحت السيارة المنقلبة : " قولوا يا ستير ، ولا تقولوا يا ستار ، فليس من أسمائه تعالى الستار " وفي الحديث : " إن الله حيي ستير يحب الستر " أرأيتم من ينصر السنة والحديث في مثل هذا الموطن في عصرنا هذا .؟ اللهم لا إلا ما سمعنا عن عمر بن الخطاب ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما ، من سلف هذه الأمة .

 

وإذا كان الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم من أعلام السنة ونجوم الهدى قد ولدوا وعاشوا في عصر السلف الصالح وعصر تدوين الحديث وازدهاره في عصر أتباع التابعين ، وراية الإسلام خفاقة ، وبغداد حاضرة الإسلام وأهله تعج بالعلماء ، وكذلك بقية أمصار الإسلام ، وخلفاء المسلمين لهم دولتهم ، ويخشى بأسهم ملوك دول الكفر كلها ، إذا عاش أولئك الأعلام في ذلك العصر الذهبي ، فإن وحيد العصر الألباني لم يتوفر له شيء من ذلك ، بل عاش في عصر يوصف فيه من يشتغلون بالفقه ، وعلم الحديث بصفة المفاليس ، بهذه العبارة كان والده -رحمهما الله تعالى- يواجهه حينما يراه منكباً على كتب الرجال وكتب الحديث مقبلاً عليها إقبال الصائغ على ذهبه أو إقبال الصيرفي على دراهمه يقلبها ، يبين الزيف من الصحيح ، في عصر كثر فيه الكذب ، وأقبل الناس على الدنيا وكنوزها ، ولكن الشيخ زهد في الدنيا وما فيها وأقبل على كنوز من نوع آخر ، فكانت كنوزه -والله- أعظم وأنفع للناس من معادن الذهب والفضة ومن اللؤلؤ والمرجان ، إنها كنوز السنة ونفائسها ، لقد من الله على الأمة بهذا الفذ فنصر السنة ونفض عنها غبار القرون ، وأخرجها لآليء تنير للعيون ، وسطرها درراً ، وحارب بها بدعاً ، ورد بها عن الأمة شراً ، ودرأ بها شرراً وذب عنها ما ليس منها ، وذاد عن حماها الدخيل والموضوع فأرسى للسنة أعلامها ، ووطأ للناس أكنافها ، وماز صحيحها من سقيمها ، ومعلولها من سليمها ، وشاذها من محفوظها ، ومنكرها من مقبولها ، وعاد بها إلى فهم السلف الصالح خير القرون وحارب بها المؤولين ، والمشبهين ، والمقلدين الجامدين ، والمستبدين الظالمين ، والعلمانيين الوقحين ، والمبتدعين الهدامين ، فهو يبني ويهدم ، يبني السنن ، ويهدم البدع ، رفع السنة فرفعته ، وأعلى شأنها فأعلت شأنه ، بعد قرون عجاف تكالبت فيها الأمم على الإسلام وأهله ، وتقاعست فيها الهمم فلا ناصر ولا معين إلا رب العالمين ، عاش الألباني للسنة فعاش بها ، وأراد أن تكون للسنة هيبتها فعلته هيبة السنة ، ولم يقدم عليها قول أحد كائناً من كان ، فلم يتقدم عليه أحد كائناً من كان ، فلولا السنة ما عرفنا الألباني ، ولولا الألباني ما عرفنا السنة مما ليس من السنة ، عرفها فعرفنا بها ، فعرفتنا به -رحم الله الألباني- ، لقد كان جهبذاً حقاً ، لقد كان من الجهابذة الذين أشار إليهم الإمام الجليل عبد الله بن المبارك لما قيل له : " هذه الأحاديث المصنوعة ؟ " قال : " يعيش لها الجهابذة ، ولكن الجهابذة قليلون " .

 

قال ابن الجوزي -رحمه الله- : لما لم يمكن لأحد أن يدخل في القرآن ما ليس منه أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول الله ، ويضعون عليه ما لم يقل ، فأنشأ الله علماء يذبون عن النقل ، ويوضحون الصحيح ، ويفضحون القبيح ، وما يخلي الله منهم عصراً من الأعصار غير أن هذا الضرب قل في هذا الزمان فصار أعز من عنقاء مغرب :

 

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً   ***   فقد صاروا أعز من القليل

 

فإذا كان هذا في عهد ابن الجوزي فكيف في عهدنا ؟؟

 

فانظر -رحمك الله- كم من المحدثين نصب نفسه لبيان الضعيف والموضوع وكان بحق جهبذاً ، ولا تحسبن أن الجهبذ لا يخطيء ، فلا يسلم من الخطأ أحد إلا الأنبياء الذين يتنزل عليهم الوحي -عليهم الصلاة والسلام- .

 

كم عدد الجهابذة بعد ابن الجوزي ؟؟ إنهم قليلون جداً بالنسبة للمشتغلين بالعلم فضلاً عن الأمة كلها ! كم أخرجت الأمة أمثال ابن تيمية ، وابن القيم ، والذهبي ، وابن كثير ، وابن حجر العسقلاني ، والعراقي وأمثال هؤلاء ؟؟

 

وفي الأعصر الأخيرة أقفرت الأرض حتى أصبح بعض من يشتغل بالحديث كحاطب ليل ، فضلاً عن زيغ في العقيدة وتأويل في الصفات ، وتقليد في الفقه ، وتصوف في السلوك يسوغ كل بدعة ؟ ولكن الله الحكيم الخبير الرؤوف الرحيم الذي يحيي الأرض بعد موتها بوابل صيب ، كذلك يحي القلوب والنفوس بسنة خاتم الأنبياء والمرسلين ، فيهيء للسنة ، من شاء من الجهابذة يذبون عنها ويرفعون شأنها ، ولا شك أن الألباني -رحمه الله- جهبذ هذا العصر بلا منازع ، ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ( الحديد : 21 ).

 

لقد استحق الألباني بحق أن يسمى ناصر الحديث ، ومن عجب أن اسمه الذي يدعوه به الناس " ناصر الدين " ورحم الله القائل الذي ذب بعض الشيء عن الشيخ الألباني فقال :

 

فما عسى أن يقول الشعر في رجل   ***   يدعوه حتى عداه ناصر الدين

 

وغفر الله لمن أخطأ في حق الشيخ الألباني ، ولن يضر الألباني كلام شانئيه ومبغضيه وحاسديه :

 

كناطح صخرة يوماً ليوهنها   ***   فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

 

ورحم الله أبا تمام إذ قال :

 

وإذا أراد الله نشر فضيلة   ***   طويت أتاح لها لسان حسود

لولااشتعال النار فيما جاورت    ***   ما كان يعرف طيب عرف العود

 

فهل ضر آدم حسد إبليس ؟! وهل ضر نوحاً أذى قومه ؟؟ وهل ضر إبراهيم نار الآخرين ؟؟! وهل ضر موسى ما قالوا عنه ؟؟ وهل ضر عيسى افتراء المفترين وغلو المغالين ؟؟ وهل ضر محمداً -صلى الله عليه وسلم- شنآن الشانئين ، لقد نصر الله أنبياءه ورسله (أجمعين ) : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) (المجادلة : 21) .

 

إن أصحاب السنن يدعون إلى تحكيم الكتاب ، فالسنة تفصيل للكتاب ولذلك يعاديها أهل الأهواء .

 

فأهل الأهواء متهوكون ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) وأهل السنة والحديث هم الهداة المهتدون وهم مصابيح الدجى يدعون إلى سنة المصطفى التي تلقتها الأمة بالقبول فهم على يقين من ربهم ، وأهل الاهواء حيارى يخبطون خبط عشواء يميناً ويساراً ، ومهما يكن من أمر فإن محمد ناصر الدين بن نوح الألباني قد اقترن اسمه بأسماء أعظم أعلام السنة وعلمائها وناصريها وفقهائها ، كمالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن والدارمي والدارقطني ، كما اقترن اسمه بكل مجددي السنة عبر العصور كابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير وابن حجر والعراقي ، ولا أدل على ذلك من النظر في مؤلفات الشيخ الألباني وتحقيقاته التي ملأت الدنيا وما خلف من مخطوطات .

 

وإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للأعرابي الذي سأله : " متى الساعة ؟؟ . فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " ما أعددت لها " . قال : حب الله ورسوله . قال : " أنت مع من أحببت " . متفق عليه .

 

فكيف بمن أحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصر سنته وذب عنها وكيف بمن أحب أصحاب رسوله وأخرج أقوالهم إلى الناس ؟؟ .

 

لقد كان الشيخ الألباني فذاً في كل شيء في التخريج والتحقيق والاتباع والمناظرة في نصرة السنة والذب عنها .

 

أخرج الذهبي في السير : (10/49) : وقال ابن عبد الحكم : ما رأيت الشافعي يناظر أحداً إلا رحمته ، ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك ، وهو الذي علم الناس الحجج .

 

وروي عن هارون بن سعيد الأيلي قال : لو أن الشافعي ناظر على أن هذا العمود الحجر خشب لغلب لاقتداره على المناظرة .

 

قلت : هكذا كان الألباني -والله- ، ما رأت عيناي مناظراً مثله -ومعاذ الله- أن يناظر على باطل ؟؟ والله لقد رحمت الكثيرين وهو يناظرهم ولقد أشفقت كثيراً وأنا أناظره ، وكنت أتفق مع أخينا محمد عيد العباسي على بعض المسائل ، نرتب كيف نبحث مع الشيخ فيما كنا نخالفه فيه ، فما هي إلا لحظات حتى يقوض لنا ما بنينا ، فنصير إلى قوله ، ونرى الحق معه ، ومعاذ الله أن نقلد تقليداً أعمى ، إنما هو الاتباع على بصيرة.

 

لقد كان الشيخ -رحمه الله- يقتحم خصمه في المناظرة ولايستطيع أحد أن يقتحمه لهيبته وسعة علمه وتبحره في معرفة السنن والآثار وما صح مما لم يصح . بالإضافة إلى حصافة فكر وثاقب نظر ورجاحة عقل ، وثبات قلب ، وقد كثر أعداؤه بسبب غلبته في المناظرة ولا يتسع المقام لبسط شيء من ذلك الآن ، ولقد تعامى كثيرون من أهل العلم عن فضل الألباني لغلبته في المناظرة ، وزعم بعضهم أنه ذو حدة وقسوة وطنطوا بذلك وأجلبوا ، ولكن لو سلمنا لهم جدلاً بما يقولون فهل ينصفون الألباني ؟؟ ولو عددنا معهم سيئات الألباني حسب زعمهم ؟؟ فهل يستغفرون ويسترون سيئته وينشرون حسنته ؟؟ فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوصى معاذاً -رضي الله عنه- حينما بعثه إلى اليمن " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " . فهل اتقى الله هؤلاء في الألباني ، وهل اتبعوا السيئة الحسنة وهل خالقوا الألباني وأحبابه بالخلق الحسن ؟؟

 

وإذا كان الميزان عند الله -تعالى- : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ثم قال معقباً : ( ذلك ذكرى للذاكرين ) يريد منا أن ننهج هذا المنهج في معاملة الناس ، ولكن الكثيرين ميزانهم مع الشيخ الألباني خاصة : إن السيئات يذهبن الحسنات ، ومن قرأ كتب خصومه عرف هذه الحقيقة المرة ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

 

ونعوذ بالله من شر من رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها ، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا .

 

وفي السير : (10/41) : قال الشافعي -رحمه الله- : " بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد ".

 

قال يونس الصدفي : قال لي الشافعي : ليس إلى السلامة من الناس من سبيل ، فانظر الذي فيه صلاحك فالزمه.

 

بهذا كان يعمل الألباني -رحمه الله- فلا يهتم بمن مدحه ولا بمن قدحه ، وإن همه مرضاة الله -تعالى- وما كان يرد إلا من أجل إثبات حق أو إبطال باطل ، فلا تهمه نفسه وإنما يقسو إذا قسا من أجل إيضاح الحق حيث يعتقد أنه يجب ذلك .

 

*** *** ***

5- الألباني رافع لواء التصفية والتربية !

بقلم : محمد صفوت نور الدين

 

منيت الأمة الإسلامية بفقد عالم من علمائها أظهر في الناس علم الحديث والفقه فيه . . وعى السنة ، وقمع البدعة ، وأفنى حياته في مشروعاته العلمية من تقريب السنة النبوية ، واعتنى بمنهج رفع لواءه باسم التصفية والتربية ، ألا وهو الشيخ العالم العلم / محدث العصر وفقيهه ، داعية السنة وناصرها ، وقامع البدعة وداحضها وحازمها : الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح بن آدم نجاتي الألباني .

 

ولد في أشقودرة بشمال ألبانيا سنة 1333 هـ الموانق سنة 1914 م ومات -رحمه الله تعالى- في عمان عاصمة الأردن سنة 1420 هـ بعد عصر السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة الموافق الثاني من أكتوبر ( تشرين ) سنة 1999م .

 

والشيخ الألباني هو مقدم الحكماء وناصر الفقهاء وعمدة المحدثين في عصره وهو صاحب السيرة الحميدة ، والمناقب العديدة ، والمؤلفات المفيدة ، والتعليقات الرشيدة ، والردود السديدة ، والمآثر المجيدة ، وهو طويل الباع ، واسع الاطلاع ، قوي الإقناع ، إلى الحق إن وجده رجاع .

 

وهو عالم السنة ، وعلم على السنة ، من طعن فيه وقع في الطعن في السنة بعده ، لأن الله أزاغ بهذا الطعن قلبه .

 

 

تقاربت وفاته -رحمه الله تعالى- مع وفاة جملة من العلماء الربانيين الذين هم شمس الدنيا ، ومصابيح الأمة ، بهم يستضاء في الظلمة ، ويستأنس في الوحشة ، غيابهم نكبة ، وموتهم مصيبة عظمى ، يخشى على الأحياء بعدهم من الفتنة ، فوجب على الأحياء بعدهم أن يضرعوا إلى الله سبحانه ضراعة الدجل الخائف ليلطف بنا ، فلا يفتنا بعدهم في ديننا ، وأن يحبب إلينا لزوم شرع ربنا ، والاستمساك بسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- والسير على هدي العلماء الربانيين ، وإن رحلوا ، والاستمساك بمنهج أهل السنة والجماعة .

 

والألباني -رحمه الله تعالى- علم الأعلام ، صاحب الكتب الكثيرة ، والحسنات العديدة ، أخطاؤه في بحر حسناته مغمورة ، وأقوال القادحين له بين أقوال المخلصين المادحين مقهورة ، العارفون لفضله والمقتبسون من كتبه أخبارهم مشهورة ، ونقل العلماء والكتاب المحققين واستفادتهم منه في مصنفاتهم منشورة ، تعمر المنابر من العلم الذي بثه ، وتذخر الكتب بالخير الذي صنفه ، وتزين المجالس بعباراته المفيدة .

 

استخرج الكنوز المدفونة ، ووضع علومه في مصنفات دقيقة مأمونة ، يستنصح العلماء ويعمل بالنصيحة إذا وصلته ، ولو من ناقد أو حاقد ، ويرجع عن قوله في تواضع جم للحق إذا وجده ، يجالس الطلاب الراغبين ، ويبسط الحبل للمستفهمين المستفيدين ، ويناظر كثيراً من المبتدعين ، يتكلم بالحق الذي عرفه ، فيتكلم في الوضع اللائق ، ويسكت السكوت الحكيم ، ويجيب الجواب المستقيم .

 

وصفه أعلم أهل عصره الذي كان يقترن ذكرهما معاً عند طلبة العلم الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- ، وهو سابقه إلى ربه قال عنه : هو من إخواننا الطيييين ومن أنصار السنة وله جهود مباركة في السنة . وقال أيضاً - : لكنه معروف من أنصار السنة ومن دعاة السنة ومن المجاهدين في حفظ السنة.

 

فاللهم ارحم الألباني رحمة واسعة وألحقه بالنبيين والصديقين الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً . . واللهم أجرنا في مصيبتنا بفقده وأخلف لنا خيراً منه علماء عاملين يأخذون بأيدينا إلى الطريق المستقيم . . . اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر اللهم لنا وله .

 

*** *** ***

6- شذرات من ترجمة الألباني

بقلم : عاصم بن عبد الله القريوتي

 

" إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا " .

 

وتزداد المصيبة عندما يكون فقدان العالم مصيبة لكافة طبقات الناس محدثين وفقهاء وعلماء ودعاة ، مربين وموجهين ، أساتذة وطلاباً ، وهذا ما ألم بالمسلمين حقاً على اختلاف طبقاتهم عندما تلقوا خبر وفاة شيخنا أستاذ العلماء ، عمدة المحققين ، مجدد هذا القرن ، الشيخ العلامة محدث العصر محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني ، - غفر الله له وأسكنه فسيح جناته ورفع درجاته آمين .

 

وتأتي هذه الفاجعة بعد قرابة خمسة أشهر من فجيعة العالم الإسلامي بشيخ الإسلام والمسلمين سماحة العلامة المجدد الشيخ عبد العزيز بن باز ، - غفر الله له وأسكنه فسيح جناته ورفع درجاته وجمعنا معهما بالجنة - .

 

مولده ونشأته :

 

ولقد كان مولد شيخنا العلامة الألباني سنة 1914 م في مدينة " أشقودرة " التي كانت حينئذ عاصمة " ألبانيا " .

 

نشأ الشيخ في أسرة فقيرة متدينة يغلب عليها الطابع العلمي ، إذ تخرج والده الحاج نوح -رحمه الله- في المعاهد الشرعية في العاصمة العثمانية " الآستانة " ورجع إلى بلاده حيث صار مرجعاً للناس يعلمهم ويرشدهم .

 

وبعد أن تولى حكم ألبانيا الملك " أحمد زاغو " سار في البلاد في طريق تحويلها إلى بلاد علمانية تقلد الغرب في جميع أنماط حياته ، قرر والده الهجرة إلى بلاد الشام فراراً بدينه ، وخوفاً على أولاده من الفتن ، ونظراً لسوء المدارس النظامية من الناحية الدينية ، قرر والده عدم إكمال الدراسة ووضع له برنامجاً علمياً مركزاً ، قام من خلاله بتعليمه القرآن والتجويد والصرف وفقه المذهب الحنفي .

 

ولقد درس شيخنا على والده بعض علوم اللغة ، كعلم الصرف ، ودرس عليه أيضاً من كتب المذهب الحنفي فدرس عليه " مختصر القدوري " وتلقى منه قراءة القرآن الكريم وختمه عليه بقراءة حفص تجويداً ، وكما درس على الشيخ سعيد البرهاني -رحمه الله- " مراقي الفلاح " في الفقه الحنفي ، و " شذور الذهب " في النحو ، وبعض كتب البلاغة المعاصرة .

 

وقدرغب العلامة المسند الشيخ محمد راغب الطباخ -رحمه الله- مؤرخ حلب الشهباء بلقاء شيخنا ، وكان ذلك بواسطة الأستاذ محمد مبارك -رحمه الله- وكان الألباني يومئذ شاباً في مقتبل العمر ، وقد أظهر الشيخ راغب إعجابه بالشيخ الألباني لما سمعه عن نشاطه في الدعوة إلى الكتاب والسنة واشتغاله في علوم الحديث ، ورغب في إجازته بمروياته وقدم إليه ثبته " الأنوار الجلية في مختصر الأثبات الحلبية " ، فلذا يعتبر الشيخ راغب شيخاً له في الإجازة .

 

طلبه لعلم الحديث :

 

لقد توجه الشيخ لعلم الحديث و هو في قرابة العشرين من عمره متأثراً بأبحاث مجلة " المنار " التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- وكان أول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب " المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار " للحافظ العراقي -رحمه الله- والذي ينظر إلى جهد الشيخ في هذا العمل يعجب لنباهته وحسن اطلاعه في مثل ذلك السن ، ويزداد عجبه من شدة إتقانه لترتيب الكتاب وتنسيقه وحسن خطه ، وهو موجود في مكتبته العامرة .

 

ولقد وفقه الله في الانطلاق بالدعوة في دمشق ، وحمل الشيخ راية التوحيد والسنة ووافقه على دعوته بعض أفاضل العلماء المعروفين في دمشق ، وحضوه على الاستمرار قدماً ، منهم العلامة محمد بهجت البيطار والشيخ عبد الفتاح الإمام رئيس جمعية الشبان المسلمين ، والشيخ توفيق البزرة -رحمهم الله- وغيرهم من أهل الفضل .

 

مجالسه ودروسه :

 

ولقد كانت دروس الشيخ ومجالسه عامرة بالعلم والفوائد ، غزيرة النفع في سائر العلوم ، ولقد قرأ الشيخ كتبا كثيرة في دمشق ، إذ كان يعقد درسين كل أسبوع يحضرهما طلبة العلم .

 

ولقد زار دمشق قديماً الأستاذ الأديب عبد الله بن خميس ، ووصف زيارته لدمشق وسفرته ، وكتب كتاباً بعنوان " شهر في دمشق " طبع عام 1374 هـ - 1955 م ، ذكر فيه انطباعاته عن شيخنا في ذلك الوقت ، وكان مما ذكر عن زيارته تلك : " ولم أزل طيلة مقامي بدمشق محافظاً على درس الشيخ وقد انتهوا في علم التوحيد من كتاب " فتح المجيد (وبدؤوا) في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وفي كل حين يزداد عددهم ، وتتجدد رغبتهم ، ويكتبون وينشرون ، ومن تتبع مجلة التمدن الإسلامي وقف على ما لهذا الشيخ وتلامذته من نشاط وجهود ، ولقد لمست بنفسي لهم تأثيراً كبيراً على كثير من الأوساط ذات التأثير في الرأي العام مما يبشر بمستقبل جد كبير لهذه الدعوة المباركة . . . وقد أجابني أحد الشباب المواظبين على دروس الشيخ آنذاك عند سؤاله عن بداية تلك المجالس العلمية قائلاً : لا أعرف على وجه التحديد الوقت الذي بدأ فيه الشيخ اجتماعاته ، وكان أول اتصالي معه عام 1945م ، وكان يقرأ مع ما يقرب من ثلاثين أخاً كتاب " زاد المعاد " ، وخرج من هذه الدراسة بكتابه القيم " التعليقات الجياد على كتاب زاد المعاد " وهو مخطوط ، وقد طلب مني الشيخ حامد الفقي عام 1953م أن أطلبه من الشيخ ، وأنه على استعداد لطبعه بجميع الشروط التي يضعها الشيخ ، ولا أعرف السبب الذي منع الشيخ من إرسال كتابه للشيخ حامد ، ثم انقطعت عن الشيخ حتى عام 1949م ، حيث قام الشيخ مع إخوانه بإحياء سنة صلاة العيد خارج المدينة ، وقرأ (معه) بعض إخوانه في 1949م – 1950م " نخبة الفكر " ، ثم بدأ مع إخوانه بقراءة كتاب " الروضة الندية " بدار الأستاذ عبد الرحمن الباني ، وقد اتسعت هذه الحلقة حتى أصبح الذين يحضرونها يتراوح عددهم بين 40-60 وأكثرهم من أهل الرأي والعلم ، ويقرأ في جلسة ثانية كتاب فتح المجيد بناء على اقتراح الأستاذ عبد الحليم محمد أحمد ، وهو مدرس مصري درس في الشام ثم في عمان ، وقد قدم له بقراءة رسالة " تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد " ، وكان يحضر هذه الجلسة عدد مماثل لعدد الجلسة الأولى .

 

وهناك جلسة شبه خاصة يدرس فيها كتاب " الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث " ، وكتاب " طبقات فحول الشعراء " ، بعد أن انتهى الإخوان من قراءة كتاب " أصول الفقه " ، وكانت تنعقد هذه الجلسة بدار الأستاذ علي الطنطاوي ، وبعد سفره إلى باكستان عقدت بدار الدكتور أحمد حمدي الخياط ، وهناك درس مع بعض علماء الشام في التفسير ، ودرس في كتاب " الترغيب والترهيب " ، من بين الإخوان الذين يحضرون جميع أو بعض الدروس : الأستاذ أحمد راتب النفاخ المدرس في الجامعة السورية ، والأستاذ عبد الرحمن الباني مفتش دروس الدين في وزارة المعارف ، وعبد الرحمن نحلاوي مدرس الفلسفة في ثانويات دمشق ، ورشاد رفيق سالم الذي كان يحضر دكتوراه في الجامعة المصرية عن ابن تيمية وعضو لجنة الشباب المسلم المصرية ، والأستاذ عصام عطار المدرس في المعهد العربي الإسلامي وعضو الهيثة التشريعية للإخوان المسلمين في سوريا ، ومحمد مريدن " محامي " وموظف في ديوان المحاسبات ، وخالد صائمة " محامي " ، والدكتور نبيه غبرة " طبيب " ، والأستاذ محمد الصباغ مدرس الأدب العربي في ثانوية درعا .

 

توليه التدريس بالجامعة

 

ولقد عرف قدر شيخنا العلماء الكبار والمشرفون على المراكز العلمية وهذا مما شجع المشرفين على الجامعة الإسلامية بالمدينة حين تأسيسها وعلى رأسهم سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- رئيس الجامعة الإسلامية آنذاك والمفتي العام للمملكة العريية السعودية ، أن يقع اختيارهم على الشيخ ليتولى تدريس الحديث وعلومه وفقهه بالجامعة .

 

وبقي شيخنا في الجامعة الإسلامية ثلاث سنوات من عام 1381 هـ حتى آخر عام 1383 هـ يدرس الحديث وعلومه ، وكان خلالها مثالاً يقتدى به في الجد والإخلاص والتواضع ، وكان ذلك يتجلى في جلوسه مع الطلاب خلال أوقات الراحة بين الدروس ، وفي الرحلات التي تنظمها الجامعة ، كما كان عضواً في مجلس الجامعة آنذاك .

 

كما كان يتمتع شيخنا -رحمه الله- بصفات حميدة عظيمة ، منها غيرته على السنة النبوية ، وحبه العظيم لها ، وتمسكه الشديد بها ومحبته لأهلها ، وحرصه على توحيد الله عز وجل ، وتحذيره من الشرك والبدع في كل المناسبات ، إضافة لتقواه وورعه ، وصدعه بالحق ، ولا يخشى في ذلك لومة لائم ، وقبوله للنصح وللحق إذا ظهر له ذلك ، ويعلن رجوعه عما بدا له من خطأ إن ظهر له ، كما في مقدمة صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- .

 

وقوفه ضد فكر التكفير

 

ولقد كان للشيخ الدور العظيم في صد الدعوة إلى فكر التكفير ولست مبالغاً إن قلت : إن أعظم ما قام به الشيخ من جهود بعد نشره للتوحيد وإحياء السنة النبوية ، هو الوقوف أمام فكر التكفير العصري ، الذي فاق فكر الخوارج في هذه البلية .

 

ولقد كانت بداية هذا الفكر المنحرف زحفت إلى الأردن من مصر بعد ظهور شكري مصطفى قبل قرابة ثلاثين عاماً ، ولقد وقف شيخنا -رحمه الله- آنذاك وقفة يشكر عليها ، ونسأل الله له الأجر العظيم في تصديه لهذا الفكر وقدرته على دحضه آنذاك .

 

وماكان ذلك لولا ما من به الله عز وجل على شيخنا من العلم الغزير وسعة الصدر مع هؤلاء ، مع طول نفسه في النقاش بالحجة والبرهان ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، كما كانت بعض الجلسات مع هؤلاء تدوم إلى الفجر أثناء البرد الشديد ، ولقد سجلت كثيراً من هذه الجلسات ، ونفع الله بها كثيراً من طلبة العلم .

 

ولقد كتب شيخنا في مسألة تكفير الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ، والتفصيل في هذه المسألة ، وأيده في ذلك العلماء الفحول أمثال الشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله- والشيخ ابن عثيمين .

 

برع شيخنا -رحمه الله- في الفتوى ، وفي إحكام إجابات عن الأسئلة العلمية في فنون عدة ، لا سيما في المسائل العقدية والحديثية والدعوية ، وهي تمتاز بأنها مدعمة بالأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة والحجة الدامغة .

 

ولقد سجلت للشيخ دروس وفتاوى وإجابات عديدة جداً من خلال إقامته بدمشق ثم بعمان ، وخلال أسفاره إلى الدول التي سافر إليها ، بلغت بضعة آلاف ، وهي الآن قيد التفريغ للطبع ، وقد بدأ فيما يخص العقيدة يسر الله إتمامها ، وما لم يسجل كثير من خلال اللقاءات والزيارات وعبر الهاتف وغير ذلك .

 

ولقد كان الشيخ مرجعاً للعلماء الكبار ، ومن ذلك أن سماحة العلامة شيخ الإسلام والمسلمين -رحمه الله- أرسل إليه مرة رسالة تتعلق بمقالة عن المسند للإمام أحمد ، ذهب فيها صاحبها إلى التشكيك بالمسند ، يطلب ابن باز فيها من الألباني الاطلاع عليها والإفادة بما لديه في الموضوع .

 

وعلى كل حال ، فالرجل طويل الباع ، واسع الاطلاع ، قوي الإقناع ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك سوى قول الله ورسوله . . . ونسأل الله تعالى أن يكثر من أمثاله في الأمة الإسلامية ، وأن يجعلنا وإياه من الهداة المهتدين والقادة المصلحين ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ، وينفعنا بما علمنا إنه جواد كريم.

 

*** *** ***

7- مع شيخنا ناصر السنة والدين في شهور حياته الأخيرة

بقلم : علي بن حسن الحلبي الأثري

 

قبل أن أبدأ كلامي حول شيخنا ووالدنا ، الأستاذ ، العلامة ، أسد السنة ، وفخر الأئمة ، أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- أذكر مفارقتين مهمتين :

 

هما بدء الخير في مولده ، ومسك الختام في وفاته :

 

أما أولاهما : فإن سنة (1333 هـ) - وهي سنة مولده -رحمه الله- كانت السنة نفسها التي توفي فيها شيخ الشام العلامة المتفنن الإمام جمال الدين القاسمي -رحمه الله- فتلك سنة شهدت أفول نجم ، ليعلن به بزوغ آخر ، وذلك في سماء الشام لتضاء به - من بعد -أقطار العالم- هداية و إصلاحاً.

 

أما الثانية : فإن سنة (1420 هـ) وهي سنة وفاته -رحمه الله- كانت السنة نفسها التي توفي فيها سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز -رحمه الله- .

 

نعم ، في شهور قليلة افتتدنا –معاً- أبا عبد الله ، ثم أبا عبدالرحمن ، فرقدين نيرين امتلأت بأنوارهما الدنيا بأسرها ، سماؤها وأرضها .

 

وكان هذا تأويل لتلك الرؤيا الصالحة التي تواطأ عليها غير واحد من أهل الخير في أوقات متباينة ، وأماكن متباعدة -قبل عدة أشهر- في رؤياهم كوكبين عظيمين في السماء امتلأت الآفات بهما نوراً . فإذا بأحدهما يسقط من عل ، ثم إذا بالآخر -بعد- يتبعه !!

 

نعم ، تكاد الدنيا تظلم بفقد هذين الإمامين العلمين ، اللذين جمع الله -سبحانه- إليهما الخير من أطرافه ، علماً ، ودعوة ، وعقيدة ، ومنهجاً براً وإصلاحاً .

 

ولكن ، في الله خلف ، وهو المستعان .

 

~ لثد امتن الله -وله الفضل- على كاتب هذه السطور بصحبة ميمونة مباركة لشيخنا أبي عبد الرحمن -رحمة الله عليه- امتدت اثنين وعشرين عاماً من الزمن ، تعلماً ، واستفادة ، ومحبة ، وتعاوناً ، وإصلاحاً ، كللت -في آخرها- برفقة قريبة منه -رحمه الله- في بيته ، وبين كتبه ، بجوار مكتبه ، طيلة ثمانية شهور هي آخر ما عاشه الشيخ -تأليفاً وتخريجاً- في حياته العلمية المباركة ، التي ختمت بالخير والسعادة -إن شاء الله- .

 

مواقف وخواطر :

 

ولقد رأيت منه -تغمده الله برحمته- مواقف علمية عالية ، تدل على عظم إمامته ، وكبر مكانته ، أذكر منها -لإخواني في الله- أموراً يَفيدون منها ، ويُفيدون :

 

أولاً : عندما أخبرته بوفاة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- لم يتمالك نفسه من البكاء ، فدمعت عيناه دمعات حارة ، وتكلم عنه -رحمهما الله- بكلمات بارة .

 

ثانياً : لم يفتر عن الجلوس وراء مكتبه -للتأليف والتخريج- حيث كان يأتي بالكتب إليه بعض أبنائه وحفدته -إلى آخر خمسين يوماً في عمره الميمون- ، وذلك لما وهن بدنه ، ونحل جسمه ، وضعفت قوته . ومع ذلك ، فقد كان -بحمد الله- سليم الذهن ، نظيف العقل ، قوي التذكر ، معلقاً قلبه بالقرآن والسنة .

 

ولست أنسى إن نسيت -كما يقال- اتصاله الهاتفي بي قبل نحو ثلاثين يوماً من وفاته ليسألني عن كتاب في التفسير له ما يميزه ، تذكره بوصفه ، وطريقته ، ولون غلافه ، ولكني ضعفت -وللأسف- عن إعانته في معرفته ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

 

ومثل هذا : ما أخبرني به أخونا الفاضل أبو عبادة عبد اللطيف ابن شيخنا محمد ناصر الألباني : أن شيخنا -رحمه الله- طلب منه قبل ثمانية وأربعين ساعة من وفاته إحضار كتابه ، صحيح سنن أبي داود لينظر فيه شيئاً وقع في قلبه ، وورد على خاطره .

 

ثالثأ : في الحين الذي ضعفت فيه يد شيخنا عن كتابة ما يطول كتبه : كان يملي على بعض أبنائه وحفدته ما يخرجه من أحاديث ، وبخاصة في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " ثم يكتبون عنه .

 

ولا يزال في عقلي وبين عيني إملاؤه -قبل شهور قليلة- ثماني عشرة صفحة في تخريج حديث ضعيف منكر ، جمع فيه بين يديه -وعلى طاولته- عشرات المراجع الحديثية مخطوطاً ومطبوعاً ، نظم المراد منها نظماً بديعاً بسلك رائع ، مليء فوائد وتنبيهات ، ولطائف وتعقبات .

 

وليس يخفى على أحد تعاطى الكتابة والتصنيف صعوبة الجمع بين النظائر من كتب كثيرة هو ينقل منها بنفسه ، ويكتبها بيده ، فكيف الحال بمن يملي منها إملاءً ؟!!

 

رابعاً : رأيت اهتماماً خاصاً من شيخنا -يرحمه الله- بكتاب " المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي " تصنيف أحمد بن الصديق الغماري -يراجع منه ما كتبه مؤلفه- حول ما يقع لشيخنا من أحاديث في " السلسلة الضعيفة " هي موجودة في " الجامع الصغير " فكان ينظر كلامه وينتقده ، ويرد عليه ، ويتعقبه ويطيل في مناقشته .

 

ولقد كتبت عنه بتاريخ 22 ذي القعدة 1419 هـ في منزله - قوله في هذا " المداوي " ما نصه : ( هذا كتاب غير جيد ، ولا أنصح بقراءته إلا لخواص طلبة العلم ) وحبذا لو قام بعض الطلبة الأقوياء بتتبعه والرد عليه بكتاب يسميه -مثلاً- " الكاوي للمداوي " يقتصر فيه على تعقبه على ما صححه -أو سكت عنه- وهو ضعيف ، أو ضعفه وهو صحيح ! ونحو ذلك من أوهام مهمة .

 

خامساً : كان آخر كتاب عمل به شيخنا في السنتين الأخيرتين : هو كتاب " تهذيب صحيح الجامع الصغير والاستدراك عليه " ولقد قال لي لما سألته عنه -أول اشتغاله به- " هذا مشروع اقترحه علي مرضي وعجزي " .

 

وخطته فيه : تخريج الأحاديث التي لم يكن قد وقف على أسانيدها -من قبل- اكتفاء بما رآه من أحكام العلماء والأئمة عليها كأحاديث " تاريخ دمشق " لابن عساكر ، و" معجمي " الطبراني : " الأوسط " و" الكبير " وما أشبه ذاك .

 

ثم ربط الأحاديث المختلفة المواضع من " الجامع الصغير " مما هي –أصلاً- ألفاظ لحديث واحد ، مع التنبيه على ما يكون قد وقع للسيوطي من أوهام -أو أغلاط- في العزو أو الحكم .

 

وهو -في هذا كله- يغذي سلسلتيه الذهبتين : " الصحيحة " و " الضعيفة " كلاً بما ينتظمه من تخريجاته وأحكامه.

 

سادساً : كان لقربي الأخير منه -رحمه الله- فوائد عظيمة جداً ، أعدها دورة علمية مكثفة ، عرفت فيها -أكثر وأكثر- طريقة الشيخ ، ودقته ، وبراعته ، وأفدت بها الكثير من فرائد الفوائد ، ولطائف المعارف ، ومن أجل ذلك وأهمه : وقوفي على ( جميع مؤلفاته وتخريجاتة المخطوطة ) ومعرفتي لها ودرايتي بها ، وفهرستها ، وتمييزها ، وتبويبها ، وقد بلغت -أعني : المخطوطة منها- نحواً من مئة وخمسين كتاباً ، بعضها في ورقات ، وبعض آخر في مجلدات ، بعضها كامل تام ، وبعضها مات شيخنا -رحمه الله- عنها دون التمام .

 

 

سابعاً : حرصت طيلة هذه الشهور -وبخاصة في النصف الأخير منها- على ألا يكون مني سفر أفارق به شيخنا ، وأغيب عنه فاعتذرت بسبب ذلك عن سفرات عدة لبلاد متعددة ، مثل : أمريكا ، وألمانيا ، وهولندا ، وإسبانيا ، وأندونيسيا ، ولكني تذكرت طارئاً لابد من إنفاذه حرصاً مني على استمرار تسيير إقامة رسمية في بلاد الحرمين ، لم يبق منها إلا يومان - فاستأذنت شيخنا يوم الأربعاء لاستئذانه بالسفر ووداعه ، ولم أكن لأعلم ما يخبيء لنا القدر !! فزرته بعد العشاء ، فكان مستلقياً على فراشه ، مسنداً ظهره إلى طرف السرير ، فرأيته -والله- كما لم أره منذ شهور ، صفاء وجه ، ولمعان عينين ، ونقاء صوت ، وراحة بال ، فقلت له : " والله يا شيخنا لا أحب مفارقتكم ، ولكن لا بد مما لا بد منه " ثم شرحت له ضرورة سفري ولزومها ، فتقبل ذلك بقبول حسن ، داعياً لي بالتوفيق ، قائلاً : " أستودعك الله . . . وأرجو الله أن تعود لأهلك سالماً " ثم استأذنته وودعته .

 

وصباح يوم الخميس سافرت ، ووصلت الرياض بعد صلاة الظهر .

 

وفي اليوم التالي ، وبعد صلاة الجمعة بنحو ساعتين اتصلت من الرياض ببيت شيخنا مطمئناً عليه ، فجاءني الخبر من حرمه الوالدة الكريمة أم الفضل -ألهمها الله الصبر وكتب لها الأجر- تخبرني أن الشيخ على ما هو عليه مما رأيته فيه قبل أقل من يومين !! .

 

وجاء اليوم الموعود " إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون " .

 

وصلينا المغرب في ( جامع الديرة ) في مدينة الرياض ، وأمنا في الصلاة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتي بلاد الحرمين ، والتقيت في المسجد عدداً من الأخوة الأفاضل ، منهم الشيخ عبد العزيز السدحان -بارك الله فيه- فعرفني بعد الصلاة بسماحة المفتي وسلمت عليه ، ورحب بي ، ثم سألني الأخ السدحان عن الشيخ ناصر -كعادة جل من يراني سفراً وحضراً- فأجبته بأن وضع شيخنا مستقر -على ما فيه من مرض- ونسأل الله له القوة .

 

ولم نكن لندري -هذه اللحظات- أن شيخنا الآن يموت . . أو مات . . .

 

وكان بين العشاءين -قريباً من المسجد- مجلس علمي جمع بعض الإخوة الأفاضل من طلاب العلم ، ومن حسن توفيق الله -سبحانه- أن هذا المجلس كان حول شيخنا وجهوده العلمية ، وكان السؤال الأول من صاحب المنزل متعلقاً بما يثيره البعض من اتهام شيخنا بالإرجاء ، ومخالفة أهل السنة في مسألة الإيمان ، فأجبت عن ذلك - بفضل الله- أجوبة قوية مستقاة من كبار أئمة العلم قديماً وحديثاً ، كشيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه الإمام ابن القيم ، ومن سار على مثل ما هما عليه من العلم والإيمان ، مبيناً أن منهج شيخنا مؤتلف معهم غير مختلف ، ومتفق غير مفترق .

 

وما أن أنهيت السؤال الأول . . . وقبل البداءة بالسؤال الثاني إذا بالخبر العاصف يأتي عبر الهاتف - وذلك بعد صلاة المغرب بنصف ساعة فقط - أن الشيخ الألباني قد توفاه الله .

 

لا إله إلا الله . . . إنا لله وإنا إليه راجعون .

لقد كانت -والله- صدمة ، ولكننا صبرنا وما جزعنا .

 

وفي أقل من ساعة من الزمن كانت -أو كادت- الرياض -كلها- تعلم بوفاة الشيخ ، ثم مكة والمدينة ، و . . . و . . . وكان العالم كله في سويعة واحدة عرف خبر وفاة الشيخ ، وحزن عليه ، وبكاه .

 

ولقد كان حزني -في قلبي- أشد ، وجرحي -في فؤادي- أنكى :

 

قد كان ما خفت أن يكونا   ***   إنا إلى الله راجعونا

 

ما حرصت عليه : وقع عكسه ، وما اجتنبته وتحاشيته : وقع بنفسه ( حكمة بالغة ) فلا حول و لا قوة إلا بالله .

 

ولئن توفي الشيخ - ودفن - وأنا بعيد عنه - وهذا شديد علي - فلقد كانت سلواي -والفضل لله- أنني كنت آخر من تكلم مع الشيخ ودعا له ، وصافحه ، والتقاه من إخواننا طلاب العلم -سوى أهل بيته- فالحمد لله على ما قدره ويسره .

 

وفي صبيحة يوم الأحد ، وقبل الظهر بقريب من ساعتين : وصلت طائرة الرياض إلى عمان ، وسارعت إلى قبر الشيخ ، مطبقاً لسنن كان يحرص الشيخ عليها -إذا فاتته الصلاة على جنازة حبيب أو قريب- فصليت عليه -عند قبره- تسع تكبيرات داعياً له بالرحمة ورفعة الدرجة ، وصحبة الأخيار من عباد الله الأبرار .

 

لقد سافرت من عمان يوم الخميس مسلماً على شيخنا -قبل ذلك بيوم- ورجعت إليها يوم الأحد ، وقد اختاره الله إلى جواره قبل ذلك بيوم ، ولم يكن هذان اليومان سوى يومين !!

 

ثامناً : كانت وصية شيخنا المكتوبة مؤرخة بتاريخ 27 جمادى الآخرة 1410 هـ أي قبل عشر سنوات كاملة .

 

فكان عمره كله سنة . . . حياته ومماته .

 

جمال ذوي الأرض كانوا في الحياة وهم بعد الممات جمال الكتب والسير

 

فهذه ثمانية مواقف في ثمانية أشهر ، أولها هو الأغلى في حياتي ، وآخرها هو الأصعب في نفسي .

 

رحم الله شيخنا رحمة واسعة ، وألحقنا به في الصالحين من عباده ، إنه -سبحانه- سميع قريب مجيب .

 

*** *** ***

8- مواقف وذكريات مع الشيخ العلامة ناصر الدين الألبانى

بقلم : باسم فيصل الجوابرة

 

عرفت شيخنا الإمام العلامة المحدث الفقيه مجدد هذا القرن ناصر السنة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- منذ سبع وعشرين سنة في أواخر ( عام 1973 م ) فقد كنت طالباً في المرحلة الثانوية ، وكنت في ذلك الوقت مع مجموعة من الشباب نكفر المسلمين ، ولا نصلي في مساجدهم -بحجة أنهم مجتمع جاهلي- .

 

وقد كان المخالفون لنا في الأردن يهددوننا دائماً بالشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، وبأنه هو الوحيد الذي يستطيع أن يناقشنا ، ويقنعنا ، ويرجعنا إلى الطريق المستقيم ، فعندما قدم الشيخ ناصر إلى الأردن من دمشق حدث أن مجموعة من الشبان تكفر المسلمين ، فرغب في لقائنا ، فأرسل صهره -نظام سكجها- إلينا ، فنقل إلينا رغبة الشيخ ناصر بلقائنا ، فأجبناه : من يريدنا فليأت إلينا ، ولن نذهب إليه ، ولكن شيخنا في التكفير أخبرنا أن الشيخ ناصر من علماء المسلمين وله فضل لعلمه ، وكبر سنه ، ويجب أن نذهب إليه ، فذهبنا إليه في بيت صهره -نظام- ، وكان قبيل العشاء ، فأذن أحدنا ، ثم أقمنا الصلاة ، فقال الشيخ ناصر الدين : نصلي بكم أم تصلون بنا ! فقال شيخنا التكفيري : نحن نعتقد كفرك ! فقال الشيخ ناصر الدين : أما أنا فأعتقد إيمانكم ، ثم صلى شيخنا بنا جميعاً ، ونحن معه ، ثم جلس الشيخ ناصر في نقاش معنا ، استمر حتى ساعة متأخرة من الليل ، فكان أكثر النقاش مع شيخنا ، أما نحن الشباب فكنا نقوم ونجلس ، ثم نمدد أرجلنا ، ثم نضطجع على جنوبنا ، وأما الشيخ ناصر فهو على جلسة واحدة من أول الجلسة إلى آخرها ، لم يغيرها أبداً ، في نقاش دائم مع هذا وهذا وذاك ، فكنت أستغرب من صبره وجلده !!!.

 

ثم تواعدنا أن نلتقي في اليوم التالي ، وقد رجعنا إلى بيوتنا نجمع الأدلة التي تدل على التكفير بزعمنا ، وجاء الشيخ ناصر في اليوم الثاني إلى بيت أحد إخواننا ، وقد جهزنا الكتب والردود على أدلة الشيخ ناصر ، واستمر النقاش والحوار من بعد العشاء إلى قبيل الفجر ، ثم تواعدنا بالذهاب إليه في محل إقامته ، فذهبنا إليه بعد العشاء في اليوم الثالث ، واستمر النقاش حتى أذن المؤذن لصلاة الفجر ، ونحن في نقاش وحوار دائم نذكر الآيات الكثيرة التي تدل على التكفير في ظاهرها ، وكذلك نذكر الأحاديث التي تنص ظاهراً على تكفير مرتكب الكبيرة ، والشيخ ناصر كالطود الشامخ يرد على هذا الدليل ، ويوجه الدليل الآخر ، ويجمع بين الأدلة المتعارضة في الظاهر ويستشهد بأقوال السلف وبالأئمة المعتبرين عند أهل السنة والجماعة ، وبعد أذان الفجر ذهبا جميعنا تقريباً مع الشيخ ناصر الدين إلى المسجد لأداء صلاة الفجر ، بعد أن أقنعنا الشيخ ناصر بخطأ وضلال المنهج الذي سرنا عليه ، ورجعنا عن أفكارنا التكفيرية -بحمد الله- إلا نفراً قليلأ آل أمرهم إلى الردة عن الإسلام بعد ذلك -نسأل الله العافية- .

 

فمنذ ذلك اليوم وأنا تلميذ للشيخ ناصر الدين الألباني ، فعندما كان يأتي من دمشق إلى الأردن أحرص على حضور دروسه في المساجد ، وفي بيوت الإخوة السلفيين .

 

وبعد أن أكملت الثانوية العامة توجهت إلى دمشق لإكمال الدراسة الجامعية : فذهبت إلى المكتبة الظاهرية ، ودخلت على الشيخ ناصر في الغرفة المخصصة له ، فوجدته منغمساً في القراءة والبحث ، فسلمت عليه ، ورحب بي وهو جالس على كرسيه ، وبعد سؤاله عني وعن الإخوة في الأردن سؤالاً سريعاً ، استمر في القراءة والبحث ، فجلست حوالي ربع ساعة دون أن ينطق الشيخ بكلمة ، فاستأذنت ، وانصرفت ، وأنا في نفسي شيء على الشيخ ، إذ لم يرحب بي ترحيباً كبيراً ، فكنت أتوقع أن يقوم الشيخ من مكانه ، ويترك القراءة ، ويجلس معي ، ويطلب لي الشاي أو القهوة ، أو يدعوني إلى بيته ، وكل ذلك لم يحصل !! ولكن حبي للشيخ جعلني أرجع إليه بعد أيام في غرفته -بالظاهرية- ، وكأنه أحس بالذي أحست به : فسأل عني ، ورحب بي ، وقال لي : لعلك وجدت في نفسك المرة الماضية ! ثم قال : يا باسم أنا في هذا المكان يدخل علي في اليوم أكثر من عشرين زائراً ، فلو جلست مع كل زائر ، وتبادلت معه الحديث ، لم أعمل شيئاً قط ، ولضاع وقتي كله ، فما أخبرني علماً ، وما أفاد طالباً .

 

وكانت معظم دروس الشيخ ، ومحاضراته هي الدعوة إلى العقيدة الصحيحة -عقيدة السلف الصالح- ، ومحاربة البدع ، والخرافات والتصوف ، ويدعو إلى التمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ، وكان كثيراً ما يردد أنه لا تكفي الدعوة إلى الكتاب والسنة فقط ، بل لا بد من فهم الكتاب والسنة ، كما فهم سلف الأمة ، وإلا فإن معظم الفرق والطوائف تقول : نحن على الكتاب والسنة .

 

وكانت حياته كلها دعوة إلى إحياء السنة وتطبيقها ، ومن الأمور التي كان يحث عليها في دروسه ، وفي مجالسه الخاصة والعامة : التصفية ، والتربية .

 

تصفية الإسلام مما علق به من الخرافات والمنكرات ، وتربية المسلمين على هذا الإسلام المصفى.

 

تصفية العقيدة مما علق بها من العقائد الباطلة كعقائد أهل الكلام من مؤولة ، أو معطلة ، أو محرفة لأسماء الله وصفاته .

 

وتصفية السنة مما فيها من الأحاديث الضعيفة ، والموضوعة ، وتمييزها عن الأحاديث الصحيحة ، والاحتجاج بالصحيحة دون الضعيفة .

 

تصفية كتب التفسير من الإسرائيليات . والأحاديث المنكرة ، والضعيفة ، والأقوال الباطلة .

 

تصفية السيرة النبوية ، وتمييز الروايات الصحيحة من الضعيفة ، والشيخ ناصر من أوائل من دعا إلى تصفية السيرة ، وقد ألف كتاباً في الدفاع عن السيرة ، رداً على من ألف في السيرة في هذا العصر ، جامعاً في مؤلفه الضعيف ، والمنكر ، وغيره .

 

إن من يعرف الشيخ ناصراً يعرف أنه قوي الحجة ، إذا ناقش مخالفاً ناقشه بعلم وصبر وأناة ، فما رأيت أحداً ناقش الشيخ ناصراً إلا والحجة مع الشيخ .

 

ومن الأمور التي يجب أن تعرف للشيخ أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- يعرف الشيخ ناصراً من زمن طويل ، فقد حدثنا سمو الأمير عبد الله بن فيصل الفرحان -شفاه الله وعافاه- بأنه أراد الذهاب إلى الشام ، قبل خمس وأربعين سنة -تقريباً- . فقال : فذهبت إلى سماحة الشيخ ابن باز ، وقلت له بأنني ذاهب إلى الشام ، وأنا لا أعرف أحداً هناك ، فهل تعرف أحداً أذهب إليه ؟ وهو على عقيدة سليمة وبعيد عن البدع والخرافات ، فقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: اذهب إلى الشيخ ناصر الدين الألباني ، فإنه على عقيدة سليمة ، فيقول سمو الأمير : فذهبت إلى الشيخ ناصر ، فعلمت أن له درساً أسبوعياً في بيته -أظنه من كل يوم خميس- بعد المغرب ، فكنت أذهب إليه طيلة مكثي في دمشق التي استمرت حوالي شهرين .

 

وعندما التحقت بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة -على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم- في أواخر عام 1974 م ، فكان الشيخ ناصر يأتي للعمرة أو للحج ، أو في رمضان ، فمنذ اللحظة التي يصل فيها إلى المدينة يجتمع عليه طلبة العلم ، ففي الشارع تجد العشرات يمشون خلفه ، وأمامه ، وعلى جانبيه ، وفي المسجد تجد الطلبة ملتفين حوله ، وأما دروسه التي يلقيها فكان يحضرها المئات ، أذكر أنه ألقى محاضرة في دار الحديث بالمدينة بعد العشاء ، حضرها المئات من طلبة العلم ، استمرت إلى ساعة متأخرة من الليل ، وكنت أصحبه طوال مكثه في المدينة ، وكنت أسافر معه إلى مكة ، وجدة ، وكان للشيخ سيارة قديمة صغيرة ، فكان إذا أراد أن يسافر إلى مكة أعطاه الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله- نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة آنذاك سيارة حديثة من الجامعة ، للسفر بها ، وكان الشيخ ناصر هو السائق لها ، وكنا في الطريق نطلب أن نريحه من قيادة السيارة ، فكان يرفض ! ويقول : لم أستأذن بأن أعطي السيارة لأحد غيري ، وكان طوال الطريق يجيب عن الأسئلة ، أو يوضح مسألة ، دون تعب أو كلل .

 

وأذكر أن الشيخ جلس ليلة ساهراً ، حتى أذن الفجر في المدينة ، وهو في نقاش مع الشباب ، وبعد أداء الصلاة في المسجد النبوي أراد الشيح أن يسافر إلى مكة لأداء العمرة ، فقلنا له : أنت لم تنم ، قال : أجد بي قوة ونشاطاً ، فركب السيارة ، وسافرنا معه إلى مكة ، وعند الساعة التاسعة صباحاً تقريباً أوقف السيارة عند ظل شجرة ، وقال : سأنام ربع ساعة فقط ، فإن لم أستيقظ أيقظوني ، فضمرنا في أنفسنا أن لا نوقظ الشيخ حتى يستريح ، وبعد ربع ساعة من الوقت استيقظ وحده ، فركب السيارة ، وتوجهنا إلى مكة ، فأدينا العمرة ، ثم ذهبنا إلى بيت صهره -الدكتور رضا نعسان- فإذا طلبة العلم ينتظرون الشيخ ، فجلس معهم ، كما هي عادة الشيخ في نقاش ومناظرة إلى ساعة متأخرة من الليل دون تعب .

 

وفي عام 1398 هـ أدى الشيخ ناصر فريضة الحج ، وسكن معنا -أنا وإخوتي- ومعه أخواه أبو أحمد -رحمه الله- وأبو جعفر وزوجتاهما ، وكان إخوتي قد جهزوا له مخيماً في منى وعرفات ، وكان طلبة العلم لا يفارقونه ليلاً أو نهاراً ، وكان يقضي الساعات الطوال في الإجابة عن الأسئلة ، والمناظرة ، والمناقشة ، وكنا نشفق على الشيخ من كثرة ما يسهر ، أو يجلس دون أن يستريح ، وكنا نطلب من طلبة العلم ، أن يخففوا عن الشيخ ، ولا يكثروا الأسئلة ، والجلوس معه ، وما رأيت عالماً حرص على الوقت مثل الشيخ ناصر الدين ، فهو لا يضيع لحظة من عمره دون أن يستفيد ، فوجدته كما وصفه الشيخ ابن باز ، في وضوح المنهج ، وسلامة العقيدة ، بعيداً عن البدع والخرافات ، محباً لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب على منهج السلف .

 

ولهذا عندما قام الشيخ ناصر إلى الرياض أصر سمو الأمير أن ينزل في بيته بالرياض ، ودعاه إلى مزرعته بالخرج .

 

وقد حدثني الشيخ الدكتور أحمد معبد -الأستاذ السابق بقسم السنة بكلية أصول الدين- أنه أول ما تعرف على كتابات الشيخ ناصر عندما كان يكتب في مجلة التمدن الإسلامي قبل أكثر من ثلاثين سنة ، فيقول : كنت أسأل نفسي كيف يعرف الشيخ ناصر الحديث الضعيف من الصحيح ، وما هي الطريقة لمعرفة ذلك ، فقد كنت أستغرب ، يقول الشيخ ناصر : رواه النسائي بإسناد ضعيف ، رواه أبو داود بإسناد صحيح ، فعندما أرجع إلى سنن النسائي أو إلى سنن أبي داود لا أجد هذا الكلام ، فأقول : كيف عرف ذلك هل هو ساحر !. ثم قال : كنت أستأجر المجلة لمدة يوم ، أو يومين -لأنني لا أملك ثمن النسخة- لأجل مقالة الشيخ ناصر ، وأذهب بها إلى البيت ، فأنسخ مقالة الشيخ ، أو أعطيها إلى أحد الطلبة ، أو الطالبات لنسخ مقالة الشيخ ناصر ، وقال لي ( سراً ) : إن إحدى الطالبات النصرانيات كانت من طالباته ، وكان خطها جميلاً ، فكان يعطيها مقالة الشيخ لنسخها ، ثم يقرؤها مرة ومرتين .

 

فهذه القصة تعطيك -أخي القارىء- مدى الجهل الذي كان عليه طلبة العلم في علم الحديث ، وكان الفضل له -سبحانه وتعالى- ثم للشيخ ناصر في نشر علم الحديث ، ودراسته ، ومعرفة الصحيح من الضعيف ، والموضوع ، وقد أخذ المدرس ، والواعظ ، والخطيب ، والكاتب ، والمتكلم لا ينسب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً إلا عزاه إلى مصدر ، أو تأكد من صحته .

 

ومما يدل على صبره وجلده في طلب العلم : ما حدثني به الدكتور محمود الميرة -حفظه الله- بأن الشيخ ناصر صعد على السلم في المكتبة الظاهرية ليأخذ كتاباً -مخطوطاً- ، فتناول الكتاب وفتحه ، فبقي واقفاً على السلم يقرأ في الكتاب لمدة تزيد على الست ساعات .

 

وكان الشيخ شديد التمسك بالسنة ، وكان يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع -رغم كبر سنه- شديد الورع ، شديد التأثر ، فإذا ذكرت الآخرة أمامه بكى ، وإذا مدح في وجهه بكى ، وقد زاره أحد الإخوة قبل سنتين أو أكثر ، وكنت معه في بيت الشيخ ، فقال له الأخ : ما سمعت عن عالم ثم رأيته إلا وجدته أقل مما سمعت عنه إلا أنت يا شيخنا ، فإننا سمعنا عنك ، فوجدناك أكثر وأعظم مما سمعنا عنك ، فبكى الشيخ ، ونهاه عن هذا المدح .

 

وكان الشيخ -رحمه الله- صريحاً ناصحاً ، إذا رأى المنكر أو مخالفاً للسنة نصحه مباشرة ، فلو رأى أحداً أكل أو شرب بشماله ، قال له : كل بيمينك ، وإذا رأى أحداً حالقاً لحيته نصحه ، وهكذا ، وعندما قرأت عليه كتابي " جواز الأخذ فيما زاد عن القبضة من اللحية " تبسم ، وقال لي : وهل عملت أنت بما في كتابك ؟؟

 

ولقد كنت أزوره في بيته ، فأقبل يده ، فينكر علي ، ويقول لي : ألم أنصحك في المرة الماضية أن لا تفعل ، فأقول له : أنت أولى الناس أن نقبل يده ، ومرة زرته ، فقبلت جبينه ، فأنكر علي ، وقال : هذه بدعة نجدية !

 

وهكذا عاش الشيخ ناصراً للسنة ، قامعاً للبدع وأهلها ، وكان بعد موته محيياً للسنة -أيضاً- كما في حياته ، فقد أوصى قبيل موته بوصيتين : الأولى : أن لا تؤخر جنازته ولا ينتظروا أحداً ، والثانية : أن يحمل على الأكتاف من بيته إلى المقبرة ، وفعلاً نفذت هاتان الوصيتان ، فقد دفن بعد موته وتغسيله مباشرة بعد صلاة العشاء ، وحمل على أكتاف الشباب من بيته إلى المقبرة ، فرحمة الله على شيخنا الإمام رحمة واسعة ، وأسكنه ومن أحبه الفردوس الأعلى -آمين- .

 

*** *** ***

9- رحيل ريحانة الشام ومفيد الأنام الشيخ الإمام محمد ناصر الدين الألباني

بقلم : سعد بن عبد الله البريك

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل أشرف المرسلين أما بعد :

 

إن المصائب وإن تساوت في الحزن والأسى ، واشتركت في الألم والكمد إلا أن من أعظمها وقعاً ، وأشدها خطباًً ، وأكثرها ألماً ، موت العلماء وفقد الفقهاء ، فإن فقدهم ثلمة في الإسلام لا تسد ، وجرح في النفوس لا يضمد ، روي عن ابن مسعود أنه قال : " موت العالم ثلمة في الإسلام ، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار " .

 

فكيف يكون الأمر إذا أصيبت الأمة الإسلامية في كبار علمائها وأعظم أئمتها وأبرز دعاتها ؟! لا شك أنها فاجعة عظيمة ، ومصيبة أليمة ، ومحنة كبيرة .

 

لم يمض على مصاب الأمة الإسلامية في فقدها إمام أهل السنة والجماعة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- أربعة أشهر حتى فجعت مرة أخرى ، وأصيبت بخسارة كبرى ، ونزل عليها الخبر كالصاعقة . . . إنه رحيل الإمام ، ريحانة بلاد الشام ، ومفيد الأنام ، أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين والسنة الألباني تغمده الله برحمته ، وطيب ثراه وقدس روحه ، علم السنة ومحدث الأمة ، ونادرة العصر ، وذو التصانيف الباهرة والذكاء المفرط ، أمير المؤمنين في الحديث في هذا العصر ، شيخ الإسلام ، مجدد السنة في هذه الأمة ، كرس حياته وسخر نفسه في خدمة هذا الدين ، فقضى أكثر من نصف قرن في خدمة الحديث النبوي تصحيحاً وتضعيفاً وتعليلاً وجرحاً وتعديلاً ، وتخرج عليه كثير من الباحثين من المحققين وغيرهم عن طريق مؤلفاته وتصانيفه ، فما من طالب علم وحديث إلا وللشيخ الألباني -رحمه الله- عليه منة في هذا العصر ، بحيث لا يستطيع أن يستغني عن تحقيقاته وكتبه أحد من طلاب العلم ، وصارت كتب الشيخ وتحقيقاته في مدرسة قائمة بذاتها يستفاد منها ويربى عليها الطلاب ، إن الإمام الألباني أحد العلماء والأئمة الذين سخرهم الله تعالى لهذه الأمة في هذا العصر لتجديد ما اندرس من معالم دينها وإحياء ما أميت من سنن رسولها -صلى الله عليه وسلم- ، فكم من سنة أحياها ، وكم من بدعة أماتها ، فهو بحق مجدد هذا الدين .

 

لقد حمل هم الدعوة إلى الله منذ طلبه للعلم والحديث ، فلم يزل يدعو إلى السنة والعقيدة السلفية ، ويرد على المبتدعة وأهل الأهواء من أعداء السنة والعقيدة السلفية ، سواء بدروسه ومحاضراته وأجوبته عن طريق الهاتف أو عن طريق مؤلفاته وتحقيقاته حتى نفع الله به الإسلام والمسلمين في العالم كله ، وقد قامت بسببه -بعد توفيق الله له- نهضة علمية حديثية آتت ثمارها ، وفوائدها وانتشرت السنة والدعوة السلفية بجهوده الكبيرة -بعد تسديد الله له- في جميع أنحاء المعمورة بين شباب الأمة ودعاتها وعلمائها ولله الحمد والمنة ، وقد شهد له غير واحد من كبار علماء عصره بالتفوق العلمي ، والجهاد الدعوي في سبيل السنة ، والدفاع عنها ، ونصرة العقيدة السلفية ، ونقض ما خالفها من العقائد الباطلة المخالفة لمنهج الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ، فهذا المفتي الأكبر للمملكة العربية السعودية -سابقاً- محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى قال في الألباني : " صاحب سنة ونصرة للحق ومصادمة لأهل الباطل " .

 

 

وقال فيه العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله- " الألباني الآن علم على السنة ، الطعن فيه إعانة على الطعن في السنة " .

 

وقال الإمام ابن باز -رحمه الله تعالى- فيه : " ما رأيت تحت أديم السماء عالماً بالحديث في العصر الحديث مثل العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني " .

 

وغير ذلك من الأقوال والشهادات لهذا الإمام الجبل الألباني -رحمه الله تعالى- حتى مخالفيه من أهل الأهواء شهدوا له يالعلم وبأنه محدث العصر ، فكان ذلك كلمة إجماع بلا نزاع ، وإن ما يجب ذكره هنا في حق هذا الإمام للتاريخ وللعلم وللأجيال أن جهاد هذا الإمام في الدعوة إلى الله وإلى السنة الصحيحة وييان العقيدة السلفية ، وكسر ما عليه أهل الياطل من أهل الأهواء والبدع وغير ذلك مما عاش من أجله وسخر حياته وكل ما يملك في سبيله ، كل ذلك كان في عصر سنواته التي كانت مرتع الأهواء ومأوى البدع والضلالات من الصوفية والطرقية والقبورية وغيرهم من الخارجين عن منهاج السلف الصالح -رضي الله عنهم- ، فكان -رحمه الله تعالى- شوكاً في حلوقهم ، وقذى في أعينهم ، مع قلة المعاون والناصر من العلماء الذين هم على الطريقة السلفية علماً وعملاً ، فحصل له من جراء ذلك محن وفتن ، ووشي أهل الأهواء به إلى الحكام فسجن مرتين -رحمه الله تعالى- صابراً محتسباً الأجر عند الله تعالى ومما يجب ذكره هنا أيضاً فى هذا المقام أن هذا الإمام مع ما كان يحمله من المآثر العظيمة ، والمناقب الجليلة ، في العلم والعمل والدعوة إلى الله عزوجل بقي فترات من حياته مشرداً لا بلاد تؤويه ، ولا عصبة أو قبيلة تحميه ، حتى أكرمه الله تعالى في آخر مرحلة من عمره بالاستيطان في دولة الأردن عن طريق بعض أهل العلم والفضل -جزاه الله خيراً- وأعظم له المثوبة والأجر ، فشرع في إكمال مشروعه العظيم الذي عاش من أجله وهو تقريب السنة بين يدي الأمة ، فنفع الله به المسلمين ، وانتفع به طلاب العلم والعلماء ، فما يخرج له كتاب جديد إلى عالم المطبوعات حتى يتطاير بين أيديهم في كل الأمصار ، بلهج شديد .

 

وأخيراً فإن الكلام عن هذا الإمام وعن جهاده وعلمه ودعوته وخلقه وتواضعه كثير جداً لا يسع له هذا المقام ، ولا يسعنا في هذا المكان إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى فندعوه : اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها ، اللهم اغفر لشيخنا وارحمه وطيب ثراه وقدس روحه وأعل درجته في عليين ، واجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأئمة العلم والحديث مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة وابن باز وجماعتهم في جنات النعيم ، آمين آمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين .

 

*** *** ***

10- ذهاب العلم بذهاب العلماء

بقلم : عبد الرزاق العباد

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام المرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :

 

فلا يخفى على كل مسلم مكانة العلماء ورفعة شأنهم وعلو منزلتهم وسمو قدرهم ، إذ هم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ، ويقتدى بأفعالهم ، وينتهى إلى رأيهم ، تضع الملائكة أجنحتها خضعانا لقولهم ، ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى الحيتان في الماء ، بلغ بهم علمهم منازل الأخيار ، ودرجات المتقين الأبرار ، فسمت به منزلتهم ، وعلت مكانتهم ، وعظم شأنهم وقدرهم ، كما قال الله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ) (المجادلة:11) وقال تعالى : (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) (الزمر:9) .

 

ولهذا فإن فقدهم خسارة فادحة ، وموتهم مصيبة عظيمة ، لأنهم نور البلاد ، وهداة العباد ، ومنار السبيل ، فقبضهم قبض للعلم ، إذ أن ذهاب العلم يكون بذهاب رجاله وحملته وحفاظه ، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء " .

 

ولهذا لما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : " من سره أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه " أي : أن ذهابه إنما يكون بذهاب أهله وحملته .

 

وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- : " عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه ذهاب أهله " .

 

ولهذا كان موت العالم يعد خسارة فادحة ، ونقصاً كبيراً ، وثلمة في الإسلام لا تسد ، كما قال الحسن البصري -رحمه الله- : " موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اطرد الليل والنهار " .

 

ولقد بليت أمة الإسلام في الأشهر الأخيرة بفقد عدد من علمائها الأخيار ، ومصلحيها الأبرار ، ممن لهم في العلم قدم راسخة ، ومكانة عالية ، وجد واجتهاد ، وبذل وعطاء ، عبر عمر مديد ، وحياة حافلة بالجود والسخاء .

 

وآخر ما وقع من ذلك ما كان في عصر يوم السبت الموافق للثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة وألف للهجرة ، حيث فقدت الأمة عالمها الجليل ، ومحدثها الشهير العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- .

 

ذلكم العالم الجليل ، الذي نذر حياته ، وبذل أوقاته في سبيل خدمة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، والنصح لسنته ، وتأتي هذه الفاجعة الكبيرة بفقده بعد قرابة خمسة أشهر من فجيعة العالم الإسلامي بفقد شيخ الإسلام والمسلمين سماحة العلامة المجدد الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته- .

 

ولقد قال العلامة الألباني -رحمه الله- عندما بلغه نبأ وفاة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز : " إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، ونسأل الله عز وجل أن يجعله في العليين مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، ونسأله عز وجل أن يخلف من بعده من هو خير منه في خدمة الإسلام والمسلمين ، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها " وتألم كثيراً لفقده وحزن لفراقه ودمعت من ذلك عيناه .

 

وكانت تجمعه به -رحمهما الله- محبة عميقة ، وصلة وثيقة ، ورحم مبارك ألا وهو رحم العلم إذ روي عن السلف " أن العلم رحم بين أهله " وكان كل واحد منهم كثير الثناء على الآخر والإشادة بمناقبه وفضائله ، قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- : " إن الشيخ -أي الألباني- معروف لدينا بحسن العقيدة والسيرة ومواصلة الدعوة إلى الله سبحانه ، مع ما يبذله من الجهود المشكورة في العناية بالحديث الشريف وبيان الحديث الصحيح من الضعيف والموضوع ، وماكتبه في ذلك من الكتابات الواسعة ، كله عمل مشكور ونافع للمسلمين ، نسأل الله أن يضاعف مثوبته ، ويعينه على مواصلة السير في هذا السبيل الطيب ، وأن يكلل جهوده بالتوفيق والنجاح " ا.هـ .

 

وقد كان -رحمه الله- يتمتع بصفات جليلة وخصال كريمة ، منها غيرته على السنة النبوية ، وحرصه على نشرها ، وتمسكه الشديد بها ، وعنايته بالتوحيد وتعليمه ونشره ، وتحذيره من الشرك والبدع ، في همة عالية ، ونشاط متواصل ، وعطاء مستمر .

 

وقد كان له -رحمه الله- مؤلفات عظيمة وتحقيقات نافعة ، تربو على المائة كانت ولاتزال محل اهتمام طلاب العلم وموضع عنايتهم ، يكثرون من الرجوع إليها والإفادة منها ، وكانت جهوده -رحمه الله- محل تقدير الجميع ، ولذا قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية منحه الجائزة عام 1419 هـ وموضوعها " الجهود العلمية التي عنيت بالحديث النبوي تحقيقاً وتخريجاً ودراسة " وتقديراً لجهوده القيمة في خدمة الحديث النبوي الشريف .

 

ثم إن من محبته -رحمه الله- للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ووفائه لها وتقديره للجهود التي تبذل فيها في سبيل نشر العقيدة وبيان السنة فقد أوصى -رحمه الله- بأن تودع مكتبته بما فيها من مخطوطات ومطبوعات في مكتبة الجامعة الإسلامية ، فنسأل الله أن يتقبل منه ذلك وأن يجزيه خير الجزاء .

 

هذا ولقد كان لنبأ فقده -رحمه الله- وقع كبير على قلوب العلماء وطلاب العلم وعلى المسلمين بعامة في أنحاء المعمورة ، وما من ريب أن فقده -رحمه الله- يعد مصيبة عظيمة وحادثاً جللاً تحزن له القلوب وتتألم منه النفوس ، والحمد لله على قضائه وقدره و ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) .

 

ونسأل الله الكريم أن يتغمد الفقيد برحمته ، ويسكنه فسيح جناته ، ويجزيه عن المسلمين خير الجزاء ، كما نسأله سبحانه أن يأجر المسلمين في مصيبتهم هذه وأن يخلفهم خيراً ، إنه جواد كريم رؤوف رحيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

*** *** ***

11- محدث الشام ناصر الدين الألباني ... أي عالم افتقدناه ؟

بقلم : إبراهيم باجس عبد المجيد

 

لم يكد قلمي يجف من الكتابة عن عالم الأمة وفقيدها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- حتى جاءني الخبر المفجع بوفاة شيخنا محدث الشام ، بل محدث الأمة في العصر الحديث ، العلامة محمد ناصر الدين الألباني ، الذي وافاه أجله المحتوم قبيل المغرب من يوم السبت الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة لسنة عشرين وأربعمائة وألف للهجرة ، الموافق لليوم الثاني من شهر تشرين الأول لسنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف للميلاد .

 

وكان حقاً خبراً مفجعاً ، نقله لي أخي عبر الهاتف من الأردن . . . قد دفنا الآن الشيخ الألباني -رحمه الله- وما درى أنهم دفنوا علماً كثيراً وقلباً كبيراً ، حمل هموم الأمة ما يزيد على نصف قرن من الزمان .

 

وإن كان المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قد تأثروا لموت هذا العالم الفذ ، لأنهم فقدوا علماً كثيراً بموته ، فأنا أشاطرهم مصابهم هذا ، وأزيد عليهم أنني فقدت أيضاً جاراً عزيزاً على قلبي عرفته منذ ما يقارب العشرين عاماً ، عندما حل ضيفاً على الأردن عند هجرته من بلاده في بداية الثمانينات من القرن الميلادي الحالي ، وسكن بجوارنا منذ ذلك الحين ، فعرفت فيه العالم العامل بعلمه ، المطبق لما يدعو إليه ، لا يخشى في الله أحداً ، يقول الحق ولو أغضب الكثيرين ، صغاراً كانوا أو كباراً . . . عرفت فيه الجار الودود .. المسالم لجيرانه . . . عرفته عن قرب بعد أن سمعت عنه الكثير ، وكنت وإياه -رحمه الله- كما قال الأول :

كانت مساءلة الركبان تخبرني   ***   عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر

لما التقينا فلا والله ما سمعت   ***   أذني بأحسن مما قد رأى بصري

 

وكانت هجرة الشيخ -رحمه الله- إلى الأردن هي هجرته الثانية في حياته ، أما الأولى فكانت في طفولته المبكرة ، حيث هاجر مع أسرته من بلده ألبانيا ، التي ولد في عاصمتها شقودرة سنة 1333 هـ الموافق لسنة 1914م هاجر -رحمه الله- من تلك البلاد مع أسرته فراراً بدينهم من بطش الحكم الشيوعي الغاشم الذي اجتاح أوروبا الشرقية قادماً من روسيا البلشفية ، فحل به مع أسرته المطاف في دمشق الشام ، وهناك نشأ و ترعرع .

 

وحبب إليه العلم ، فدرس المرحلة الابتدائية في مدارس دمشق النظامية ، ثم رأى والده الشيخ نوح نجاتي ، وهو من كبار علماء الأحناف في بلاده ، أن يخرجه من تلك المدارس ، ويضع له برنامجاً لتلقي العلوم الشرعية واللغوية على مشايخ الشام البارزين في عصره ، وهكذا كان .

 

ثم حبب للشيخ علم الحديث ، وشجعه على ذلك مقالة قرأها للشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار التي كان يصدرها في مصر ، وكان موضوع المقالة حول محاسن كتاب إحياء علوم الدين للغزالي والمآخذ عليه وتخريج الحافظ زين الدين العراقي لأحاديث هذا الكتاب ، وكانت هذه المقالة بداية الطريق الطويل في مشوار الشيخ مع علم الحديث ، والذي انتهى منذ أيام قلائل .

 

ومنذ ذلك الحين انكب الشيخ -رحمه الله- على دراسة علم الحديث ومصطلحه وهو لم يتجاوز العشرين من عمره ، وقضى في دراسة هذا العلم الماتع ساعات طويلة من يومه ، إما في محل تصليح الساعات الذي كان يعمل فيه مع والده الشيخ نوح نجاتي ، وإما في أروقة المكتبة الظاهرية التي قضى فيها الوقت الأكبر إبان طلبه للعلم ، فكان يمكث فيها من الوقت أكثر مما يمكث في محله الذي هو مصدر رزقه ، حتى إنه كان يداوم فيها أكثر من موظفيها الرسميين ، مما استدعاهم أن يخصصوا له غرفة للمطالعة والقراءة فيها .

 

كان -رحمه الله- شغوفاً بطلب العلم ، لا يريح جسده البتة من عناء القراءة والسهر وتقليب أوراق الكتب والمخطوطات ، حتى أعياه التعب ، ودب في جسمه المرض ، وهو لم يزل شاباً ، فنصحه الأطباء بالخلود إلى الراحة ، وعدم ممارسة الأعمال الكتابية ، فامتثل لأمرهم -كما يظن رحمه الله- فترك العمل في تلك الكتب والمخطوطات الموجودة في المكتبة الظاهرية ، وأخذ يسلي نفسه (!) بالبحث عن ورقة ضائعة من مخطوط ما ، واستغرق هذا البحث شهوراً عدة ، كانت أصعب من عمله الأول في القراءة والتحقيق ، وأسفر البحث عن هذه الورقة الضائعة عن تأليف كتاب فهرس مخطوطات الحديث الموجودة في المكتبة الظاهرية .

 

فانظر -أخي القاريء الكريم- إلى علو همة هذا الشيخ ، وعدم تضييعه للأوقات حتى في حال مرضه ، ولقد ذكرني حاله في مرضه الأول الذي ألم به أيام شبابه بمرضه الأخير الذي توفي فيه ، حيث زرته في بيته الزيارة الأخيرة منذ قرابة الثلاثة شهور ، وقد أخذ المرض منه مأخذه ، فوجدته منكباً على كومة من الكتب ، يطالع ويعلق ، ويملي على تلاميذه وأحفاده بعض الفوائد الحديثية والفقهية لتدوينها في كتاب يعمل على تأليفه .

 

وحدثني -رحمه الله- في تلك الزيارة عن مشاريع لمؤلفات ينوي العمل فيها ، تحتاج إلى مثل عمره المبارك لإنجازها . . . أشفقت عليه حينها ، وقلت له : يا شيخنا ، أما آن لك أن تستريح ! ولكن أنى له ذلك وقد أشرب حب العلم قلبه ، فلا يصحو إلا عليه ولا ينام إلا عليه ، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول : " منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال " ولقد والله كان الألباني من طلاب العلم الذين لا يشبعون .

 

ومن حبه للعلم وأهله فقد كان يعامل طلابه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، أثناء تدريسه فيها ، كأبنائه وأصدقائه ، حيث ربطته بهم روابط وثيقة ، فلم يكن يكتفي بما يلقيه عليهم من دروس ومحاضرات في قاعات الدرس ، بل يسعى لإفادتهم أينما كانوا ، في ساحات الجامعة واستراحاتها ، وفي الطريق ماشياً أو راكباً في سيارته ، حيث يقوم بإيصال بعض الطلبة في طريقه ، تطبيقاً لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : " من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ".

 

ووفاء منه لهذه الجامعة التي أحبها ، وأفنى فيها شطراً من عمره ، فقد أوصى بأن تودع مكتبته العامرة ضمن مكتبة هذه الجامعة العريقة ، حتى تعم الفائدة ، وينتفع بها قطاع كبير من الطلبة الذين يؤمونها من شتى أصقاع المعمورة ، فما أكرمك حياً وما أكرمك ميتاً يا شيخنا المبجل !

 

كان الشيخ الألباني -رحمه الله- يتحلى بصفات قل أن توجد في كثير من العلماء أمثاله ، ومن أهمها التمسك بما يراه صواباً وحقاً ، وإن خالف رأي الكثيرين ، ولذا فقد عاداه كثير من المخالفين من المذهبيين والمتصوفة والمبتدعة ، وكان يقارعهم الحجة بالحجة والدليل بالدليل ، هذا إن كان عندهم دليل .

 

ولم تكن مخالفته للآخرين لهوى عنده أو انتصاراً لنفسه ، إنما هو انتصار للحق وأهله ، وقد زرته في بيته سنة 1407 هـ/ 1987 م في محاولة مني للتوفيق بينه وبين أحد أقرانه من كبار المشايخ المحققين لعلم الحديث ، والذي كان يخالفه الرأي في كثير من المسائل ، ومن جملة ما قلت له يومها : يا شيخنا ، لم يزل الأقران يخالف بعضهم بعضاً ، ولكن دون هذه القطيعة التي نراها بينكما منذ سنين عديدة ، وذكرته بما لذلك من تأثير سلبي كبير علينا نحن طلبة العلم ، فقال : يا بني ، إن خلافي مع الشيخ فلان ليس خلافاً شخصياً ، إنما هو خلاف منهج ومبدأ ، ومنهجي لا يلتقي مع منهجه ، ولكنه -رحمه الله- رأى أن من الخير الالتقاء بهذا الشيخ ، واغتنمتها فرصة عظيمة بأن جمعتهما في بيتي ولم يكونا قد التقيا منذ اثنتي عشرة سنة ، ثم لم يلتقيا بعدها أيضاً منذ ذلك التاريخ ، وقد مضت من السنين مثلها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

 

إلا أنه -رحمه الله- كان وقافاً عند الحق إذا تبين له الخطأ ، وأن الصواب مع الغير ، ولا أذكر أنني راجعته في مسألة علمية وهم فيها في كتاب من كتبه ، إلا ويمسك القلم مصححاً للخطأ وشاكراً لي تنبيهه عليه ، ومن يقرأ في كتب الشيخ -رحمه الله- يجد رجوعه عن كثير من المسائل الفقهية أو الحديثية التي كان كتبها في طبعات سابقة لكتبه تلك .

 

وبعد ، فماذا عساي أن أكتب عن رجل نذر نفسه وعمره وحياته للعلم وأهله ، ونشر العقيدة الصحيحة بين المسلمين ، وخدمة سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وقد رفع شعار " تقريب السنة بين يدي الأمة " ، وعمل على تقريبها من خلال شعار آخر هو التصفية والتربية ، أي تصفية السنة والأحاديث النبوية من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي شابتها ، وتقديمها لعامة الأمة صافية نقية ، ثم تربية النشء والعامة والخاصة على هذه السنة المطهرة .

 

ماذا عساي أن أكتب عن عالم فذ ، وعن محدث ملهم ، وعن رجل عصامي ، وعن جار ودود ، وعن شيخ فاضل ، فالقلم والقرطاس لا يوفيانه حقه ، ولا نملك له الآن إلا الدعاء ، فنسأل الله أن يجزيه كفاء ما قدم ، وأن يخلف على المسلمين مثله أو خيراً منه .

 

*** *** ***

12- المشهد الأخير من رحيل الألباني -رحمه الله-

بقلم : د. محمد محمود أبو رحيم

 

لقد ذكرني المشهد الأخير من جنازة الشيخ أبي عبد الرحمن بأول لقاء معه -رحمه الله- قبل ثلاثين عاماً ، حيث كنت يومها متدثراً بلباس التصوف ، أمرغ الخد على أعتاب أشياخه .

 

يومها كان الجهل قد غرر بي بكسب كان للأشياخ نصيباً مفروضاً في صناعته ، لم يكن جهلاً بالحلق والذكر والخلوات البدعية ، فقد أتقنتها حتى غاليت في بعضها ، فوجدتني قد نذرت للرحمن صوماً إلا عن شيخي في الطريقة الذي ولد في نفسي قدرته المزعومة على فتح المغاليق إلى ملك لا يبلى .

 

ويومها كنت جاهلاً بما يدور حولي ، وحول من تدور عليهم دعاوي التجهيل والتضليل ، فكان ماكان مني نحو الشيخ أبي عبد الرحمن ومنهجه من كوامن ضدية دفعتني لسؤاله -وأنا تحت تأثير خلفيات التحدي- : لماذا تحارب الأئمة الأربعة ؟ هكذا كان يشيع من لم يرقهم طريقته السلفية .

 

لم يكد يخرج السؤال من بين شفتي ، وأنا شاب في السنة الأولى في كلية الشريعة ، حتى وجدت برد كفه الناعم يأخذ بكفي نحو مقعد جانبي يحاورني بكل هدوء .

 

خرجت من عنده وقد علتني دهشة دفعني فضولها إلى مواصلة لقائه والتعرف على ما عنده -رحمه الله- فإذا بي أقف على عالم متخصص ، ومحاول عنيد ، يحيي السنة ، ويميت البدع ، داعية إلى التوحيد الخالص ، حرب على الشرك بأنواعه ، تعلوه نضرة الحديث .

 

صحبت الرجل صحبة تخللها مواقف مشهودة كان أهمها :

 

شهوده زواجي من فتاة سورية اختارتها لي زوجته خديجة قادري ، وشهد لي بمتابعة الدراسة العالية في جامعة أم القرى شهادة مكتوبة حفظت في ملفي الشخصي .

 

انقطعت لطلب العلم ، ولم أنقطع عن الشيخ -رحمه الله- وفي أثناء ذلك وجدت الشيخ قد اصطدم بثلاث فئات من الناس :

 

الفئة الأولى : فئة العلماء الذين يقرون له بالفضل والسبق في العلم ، حيث ناقشوه مناقشة العالم للعالم ، لم يخرجهم خلافهم معه عن حسن الأدب للتقدير للشيخ -رحمه الله- كان منهم : الشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله- والشيخ حماد الأنصاري ، والشيخ عمر فلاتة ، وغيرهم كثر .

 

الفئة الثانية : فئة المتسلقين من الأصاغر الذين وجدوا في كنف الشيخ -رحمه الله- ورعايته وتوجيهه مخرجاً مقنعاً لهم ، وفجوة يعبرون من خلالها لتحقيق أحلامهم ، وتعويض إخفاقهم على مقاعد الدراسة .

 

الفئة الثالثة : فرق الضلال وأهل الانحراف فقد أوجعوه تجديعاً ، يحدوهم التعصب والهوى والتقليد الأعمى ، فصال عليهم -رحمه الله- بحجته : قال الله ، قال رسوله ، فبدد شمل أدلتهم ، وبين قصر فهمهم ، وأعاد الراحلة إلى جادة الطريق .

 

استغل هؤلاء والحاسدون بعض كبوات الشيخ -رحمه الله- ظناً منهم أن الفارس قد هوى ، وغاب عنهم أن اجتهاد العالم مأجور عليه غير مأزور ، لكنه العمى أطفأ نور الحق من الصدور فغابت عنهم أشياء وأشياء .

 

وقبل انسدال المشهد الأخير من حياة الشيخ دفعني الشوق إلى عيادته في مرض موته مع جمع من أهل العلم والفضل ، فرأيت جسداً قد علته صفرة الرحيل ، وغلبه النحول ، وتمكن داء الهرم ، قبلت يده ورأسه فرد بصوت خافت هادىء ينبيء عن ذهن حاضر لم يختلط ، حمل بعضنا أمانة إبلاغ سلامه إلى أحبابه ، وما هي إلا أيام معدودة حتى فاضت روحه فأدركته يوم الدفن ، وانسدل الستار على جسد إمام من أئمة المسلمين ، ليلحق بمن سبقه من علماء الأمة العاملين .

 

اللهم ارحم عبدك الألباني ، وأكرم نزله ووسع قبره مد بصره ، وتجاوز عما بدر منه اجتهاداً أخطأ فيه ، إنك سميع مجيب الدعاء .

 

*** *** ***

13- وقفة أمام عام الحزن

 

دمعة شعرية على بوابة وداع " نجم الحديث النبوي " الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -يرحمه الله-

شعر : عبد الرحمن بن صالح العشماوي

 

لمن يتدفق التغم   وماذا يكتب القلم ؟!

ومن ترثي قصائدنا  وكيف يصور الألم ؟

إذا كان الأسى لهباً    فقل لي : كيف أبتسم ؟

وقل لي : كيف يحملني إلى آفاقه الحلم ؟

إذا كانت مواجعنا كمثل النار تضطرم

فقل لي : كيف أطفئها    وموج الحزن يلتطم ؟

أعام الحزن ، قد كثرت   علينا هذه الثلم

كأنك قد وعدت المو  ت وعداً ليس ينفصم

فأنت تفي بوعدك ، وهـ   ـو يمضي - مسرعاً - بهم

ألست ترى ركاب المو ت بالأحباب تنصرم ؟!

ألست ترى حصون العلـ   ـم رأي العين تنهدم

نودع ها هنا علماً   ويرحل من هنا علم

جهابذة العلوم مضوا   فدمع العين ينسجم

مضوا وجميع من وردوا   مناهل علمهم وجموا

تكاد الآلة الحدبا   ء والأقدام تزدحم

تطير بهم إلى الأعلى    وبالجوزاء تلتحم

أكاد أقول إن الشعـ   ـر لم يسلم له نغم

وإن عقارب الساعا    ت لم يحسب لها رقم

تشابهت البداية والنها   ية واختفت " إرم "

ونفذ سد مأرب كل  ما نادى به " العرم "

هوى نجم الحديث كما هوت من قبله قمم

وكم رجل تموت بمو ته الأجيال والأمم

أناصر سنة المختا    ر دربك قصده أمم

رفعت لواء سنتنا   ولم تقصر بك الهمم

قضيت العمر في عمل  به الأوقات تغتنم

خدمت حديث خير النا   س لم تسأم كمن سئموا

حديث المصطفى شرحت  به الآيات والحكم

فنحن بنور سنته   إلى القرآن نحتكم

خدمت حديث خير النا   س لم تنصت لمن وهموا

ولم تشغل بما نثروا  من الأهواء أو نظموا

سلمت بعلمك الصافي   من " الهوى " وما سلموا

غنمت بما اتجهت له   ومن نشروا الهدى غنموا

ومن جعل العلا هدفاً فلن ينتابه السأم

أناصر سنة الهادي سقاك الهاطل العمم

بكتك الشام - ويح الشا    م أخفت بدرها الظلم

وخيم فوق " أردنها "  سحاب ، غيثه الألم

بكت " ألبانيا " لعبت  بها أحقاد من ظلموا

وعشش في مرابعها    بغاث الطير والرخم

بكاك المسجد القدسي  والمدني ، والحرم

بكتك سلاسل الكتب الـ ـتي كالدر ، تنتظم

فسلسلة الأحاديث الـ  ـتي صحت لمن فهموا

وسلسلة الأحاديث الـ  ـتي ضعفت لمن وهموا

وتحقيق الأسانيد الـ    ـتي ثبتت لمن علموا

علوم كلها شرف  تعز بعزها القيم

أناصر سنة الهادي لنا من ديننا رحم

لقيتك دون أن ألقا    ك تورق بيننا الشيم

لقيتك في ظلال العلـ  ـم والأزهار تبتسم

تجمعنا محبة خير من سارت به قدم

خدمت جلال سنته   فيا طوبى لمن خدموا

رحلت رحيل من أخذوا  من الأمجاد واقتسموا

كأنك لم تدر قلماً   ولم يجر الحديث فم

حزناً ؟ كيف لم نحزن وشريان القلوب دم

ولكنا برغم الحزن   لم يشطح بنا الكلم

ولولا أن أنفسنا    برب الكون تعتصم

لماجت بالأسى وغدت أمام الحزن تنهزم

 

*** *** ***

14- يا عام عشرين

 

مرثية الإمام المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله رحمة واسعة-

شعر : عبد الرزاق الحمد

 

ما لي أراك تباري الشمس إمعاناً الموت يخفي وتزهو اليوم إعلاناً

سواك يطمسه موت وأنت به  ولدت مرتقباً عرساً وتيجانا

كأنك الشمس أخفاها السحاب فما   ينفك إشعاعها ينداح ألوانا

كأنك النبع دفق الماء يفضحه حتى وإن حجبته الغاب أغصانا

كأنك الصبح مهما الليل غالبه إلا وأيقظ أبصاراً وآذاناً

سواك ذكراه في مال وفي نسب    وصرت للسنة الغراء عنوانا

وعيت منها جبالاً من مراجعها   فكنت بحراً وكانت فيك حيتانا

حررت رأيك من أغلال مذهبها   وللأئمة تعلي قدرهم شانا

محصت كل صحيح من شوائبها كما تنقي من الشطآن ذهبانا

نخلتها فاستبانت في مواطنها حسناً وسقماً وتصحيحاً ونكرانا

فرقت للحق شمساً في مطالعها   حتى غدا كل شرق منك مزدانا

جددت للناس في نهل الحديث هوى أودى القلوب فهل أحصيت قتلانا !

أشهدتنا مثلاً للعبقري طوى   في كل عصر من الإبداع ميدانا

وجئت صدقاً بما لم يستطع علم من سابقيك وما آليت إتقانا

ونلت في حومة الأعلام مفتئداً   قد جاوز الدهر أفاقاً وشطآنا

قالوا وقالوا وما أعيت مقالتهم  فما عليك إذا وفيت إحسانا

وما على السيل إن طفت جوانبه  لكنه غادر المرباع ريانا

أهل الحديث على الأعصار جنتها  وكنت في عصرنا عدناً ورضوانا

هذا هو الدين يعلي شأن حامله    كانوا من الروم أو فرساً وألبانا

يا ناصر الدين قد صدقت نصرته   فما عليك إذا خلفت دنيانا

في واسع الأمل الفواح تنشدها   في الخلد متشحاً روحاً وريحانا

يا عام عشرين كم أبليت في كبدي    فجائعاً تتوالى منك أحزاناً

غدوت بالباز تفري في حسرته ورحت تذكي بالألباني أشجانا

يا عام عشرين أي الفخر تكتبه    فقد صدعت لعز الدين أركانا

يا عام عشرين أين الفخر تكتبه    أما كفاك فكم قرحت أجفانا

أما كفاك طويت العقد جوهرة   من بعد أخرى فهل أغنيت أكفانا

لولا الرجاء على الآلام يصحبني   لاغتالني اليأس من دهري بما كانا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب تحفة المودود

  كتاب تحفة المودود   بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله العلي العظيم الحليم الكريم الغفور الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن ال...