اللهم آمين

دعـــــاء ((سبحان الذي تعطف العزّ وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام)). دعـــــاء ((سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عددَ ما خلق في الأرض، وسبحان الله عددَ ما بين ذلك، وسبحان الله عددَ ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده، لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً...)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) دعـــــاء ((سبحان الله ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة)) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديعُ السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام...)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما خلق الله، والحمد لله ملء ما خلق الله، والحمد لله عدد ما في السموات والأرض، والحمد لله ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، وسبحان الله مثلهن)) دعـــــاء ((ربَّنا لك الحمد، مِلْءَ السموات والأرض ومِلْءَ ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناءِ والمجد، أحقُّ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)) دعـــــاء ((الحمد لله الذي يطعم ولا يُطعم، منّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكلِّ بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مُوَدّع ولا مكافئ ولا مكفور ولا مستغنىً عنه. الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العُرْي، وهدى من الضلالة، وبَصّر من العماية، وفضّل على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما أحصى كتابُه، والحمد لله عدد ما في كتابه، والحمد عدد ما أحصى خلقه، والحمد لله مِلْءَ ما في خلقه، والحمد لله مَلْءَ سماواته وأرضه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله على كل شيء)) دعـــــاء ((اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهَك. لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتُعصى فتغفر. أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال. القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم...)) دعـــــاء ((تمَّ نورك فهديت فلك الحمد، عظم حلمك فعفوت فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد. ربَّنا: وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهناها. تطاع ربَّنا فتشكر، وتُعصى ربَّنا فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضر، وتَشفي السُقم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد، ولا يبلغ مدحتَك قولُ قائل) دعـــــاء ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدّ) دعـــــاء ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، و النبيون حق، ومحمد حق. ) دعـــــاء اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت...) .(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم...) (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) دعـــــاء ((لا إله إلا الله قبل كل شيء، ولا إله إلا الله بعد كل شيء، ولا إله إلا الله، يبقى ويفنى كل شيء) دعـــــاء ((اللهم ربَّ السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كل شيء، فالقَ الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء اقض عنا الدين و أغننا من الفقر) دعـــــاء ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) دعـــــاء ((يا مَن أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا كريم الصَفح، يا عظيم المنّ، يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها، يا ربنا ويا سيدنا، ويا مولانا، ويا غاية رغبتنا أسألك يا الله أن لا تَشوي خلقي بالنار) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا مانع لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت...) دعـــــاء ((اللهم بك أصاول، وبك أحاول، وبك أقاتل)) دعـــــاء ((اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي...) دعـــــاء ((اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى، ونَحْفِد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك؛ إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلْحِق) دعـــــاء ((اللهم رب السموات ورب الأرضين، وربَّنا وربَّ كل شيء، فالق الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن... أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، والظاهر فليس فوقك شيء، والباطن فليس دونك شيء...) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك باسمك الطاهر الطيب المباركِ الأحب إليك الذي إذا دُعيت به أجبتَ، وإذا سُئلت به أعطيتَ، وإذا استُرحمت به رحمت، وإذا استُفرجت به فَرّجت...) دعـــــاء ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطَر السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون...) دعـــــاء ((اللهـم أنت المـلك لا إلـه إلا أنــت، أنـت ربـي وأنـا عبـدك... لبيـك وسعديـك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت... اللهم ربنا لك الحمد مِلْءَ السماء ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ مابينهما ومِلْءَ ما شئت من شي بعد... أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله ألا أنت) دعـــــاء ((اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم لك أنفه...) دعـــــاء ((اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 25 يناير 2024

ج3. صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب أبو مالك كمال بن السيد سالم

 

ج3. صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب أبو 

مالك كمال بن السيد سالم
مع تعليقات فقهية معاصرة:
فضيلة الشيخ/ ناصر الدين الألباني
فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن باز
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين

• ومعنى يحرز: أي يحفظ ويصان (1).
• ومعنى يحزر: أي يوزن أو يخرص (2).
• وفائدة ذلك: معرفة كمية حقوق الفقراء قبل أن يتصرف فيه المالك (3).
• عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وعن بيع الثمر بالثمر" (4).
• عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة (قال أحدهما (5): بيع السنين هى المعاومة) وعن الثُّنْيَا (6) ورخص في العرايا (7) " (8).
• عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كراء الأرض (9)، وعن بيعها السنين، وعن بيع الثمر حتى يطيب" (10).
• عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمزابنة" (11).
• عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، فقيل له: وما تُزْهَى؟ قال حتى تحمر. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ ".
• وفي رواية: "إن لم يثمرها الله، فبم يستحل أحدكم مال أخيه" (12).
• عن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع ثَمَر التمر حتى يزهو، فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمر بم تستحل مال أخيك" (13).
__________
(1)، (2)، (3) راجع فتح البارى (4/ 504).
(4) أخرجه مسلم (1538) وغيره.
(5) المقصود أحد الرواة وهما أبو الزبير أو سعيد بن ميناء.
(6) الثنيا: أن يثتثنى من البيع شيئًا مجهولًا فيفسد البيع.
(7) العرايا: هي بيع الرطب على النخل بالتمر خرصا أي تخمينًا.
(8) رواه مسلم (1543) (85).
(9) كراء الأرض: هو إجارتها على تحديد ما يأخذ مثل ما ينبت على حافتى مسيل الماء مثلًا.
(10) أخرجه مسلم (1543) (86).
(11) أخرجه البخاري (2207).
(12) أخرجه البخاري (2198) ومسلم (1555) (17).
(13) أخرجه البخاري (2208) ومسلم (1555) (15) وغيرهما.

(4/298)


• معنى المخاضرة: هى بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها (1).
• ومعنى المعاومة: هى بيع الثمار سنين، وهي ما يسميه الزراع فلان يشترى حديقة فلان سنوات وهي خشب.
• وفي ذلك يقول الإمام النووى -رحمه الله-:
وأما النهى عن بيع المعاومة وهو بيع السنين، فمعناه أن يبيع ثمر الشجرة عامين أو ثلاثة أو أكثر فيسمى بيع المعاومة، وبيع السنين، وهو باطل بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره، لهذه الأحاديث، ولأنه بيع غرر، لأنه بيع معدوم من مجهول غير مقدور على تسليمه وغير مملوك للعاقد. والله أعلم (2).
• وقال المازرى: المعاومة: هى في العرف بيع الثمر سنين.
وعلة المنع أنه من بيع الثمار قبل بدو صلاحها. ولأنه إذا باع سنين فمعلوم أن ما في السنة الثانية لم يوجد. وإذا منع بيعها بعد الوجود وقبل بدو الصلاح، فكيف إذا لم توجد؟ (3).
• وقال أبو عمر ابن عبد البر:
قوله في الحديث "حتى تحمر" يدل على أن الثمار إذا بدا فيها الاحمرار وكانت مما تطيب إذا احمرت مثل ثمر النخل وشبهها حل بيعها، وقبل ذلك لا يجوز بيعها، إلا على القطع في الحين.
وقوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة" أي إذا بعتم الثمرة قبل بدو طيبها ومنعها الله كنتم قد ركبتم الغرر وأخذتم مال المبتاع بالباطل، لأن الأغلب في الثمار أن تلحقها الجوائح قبل ظهور الطيب فيها، فإذا طابت أو طاب أولها أمنت عليها العاهة في الأغلب وجاز بيعها، لأنّ الأغلب من هذا كله السلامة (4).
• وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
فيه بيان أن في ذلك أكلًا للمال بالباطل، حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هى كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل
__________
(1) راجع فتح البارى (4/ 472) والروضة الندية (2/ 204).
(2) شرح صحيح مسلم (5/ 207) د. قلعجى.
(3) إكمال إكمال المعلم للأُبيّ (5/ 383).
(4) التمهيد بترتيب الشيخ المغراوى (12/ 223 - 236).

(4/299)


الأموال بالباطل: فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها (1).
• وقال ابن قدامة:
لا تخلو الثمرة المباعة من أن يكون قد بدا صلاحها أو لم يبد فإن بدا صلاحها جاز البيع مطلقًا بدون خلاف.
أما إذا لم يبد صلاحها فلا تخلو حالة الشراء من ثلاثة أوجه:
الأول: أن يشترط المشترى بقاءها إلى الحصاد والجز. فهذا لا يجوز ودليله الإجماع المنعقد على ذلك، وسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع" (2).
وحكى ابن المنذر إجماع العلماء على هذا.
الثاني: أن يشترط البائع على المشترى القطع في الحال، وحكمه الجواز لأن المنع إنما كان خوفًا من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها.
وقد روى أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، قال: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه" (3).
وليس فيها غرر، فهو يدخل على بصيرة، وإن كان البيع قبل بدو الصلاح مع شرط القطع لا فائدة فيه غالبًا, ولهذا فحصول مثل هذا نادر أَوْ لا يكاد يقع لأن الإنسان إنما يشترى ما ينفعه والثمرة قبل بدو صلاحها لا نفع فيها في الغالب.
الثالث: أن يبيع الثمرة قبل بدو صلاحها مطلقًا من غير شرط، وقد اختلف الفقهاء في صحة هذا البيع على قولين:
القول الأول: هذا البيع باطل.
وهذا مذهب مالك والشافعى وأحمد.
وحجتهم ما سبق من حديث أنس - رضي الله عنه -.
القول الثاني: يجوز مثل هذا البيع، ويقطع في الحال. وهذا مذهب أبى حنيفة.
وحجته: أن إطلاق العقد يقتضى القطع فهو كما لو اشترطه، وفسر عن البيع بأنه بيعها مدركة قبل إدراكها بدلالة قوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه" (4).
__________
(1) مجموع الفتاوى (29/ 48).
(2)، (3)، (4) سبق تخريجها قريبًا.

(4/300)


وحاصل قوله يرجع إلى النتيجة التي ذهب إليها الجمهور وهي المنع من البيع بشرط البقاء، لأنه أجاز البيع بشرط القطع.
• واختار ابن قدامة - رحمه الله - القول الأول وهو عدم الجواز (1).
جمهور الفقهاء -بوجه عام- على أن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، غير جائز ولا صحيح (2).
9 - بيع المجهول:
• عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا صوف على ظهر، ولا سمن في لبن، ولا لبن في ضرع" (3).
10 - بيع الثنيا (أو استثناء المجهول في البيع):
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وعن الثنيا ورخص في العرايا" (4).
ومعنى الثنيا: الاستثناء، وهي في البيع: أن يبيع شيئًا ويستثنى بعضه، فإن كان المستثنى معلومًا، كشجرة معلومة من أشجار بيعت صح البيع. وإن كان مجهولًا كبعض الأشجار، لم يصح. لما فيه من الجهالة والغرر وأكل مال الناس بالباطل.
11 - بيع ما ليس عندك والرخصة في بيع السلم أو السلف:
• عن حكيم بن حزام قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يأتينى الرجل يسألنى من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: "لا تبع ما ليس عندك" (5).
• عن حكيم بن حزام قال: "نهانى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبيع ما ليس عندي" (6).
__________
(1) راجع (اختيارات ابن قدامة الفقهية 2/ 45 - 47).
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 189).
(3) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 11935) وفي الأوسط (4/ 3720) والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 10857) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 102) رجاله ثقات.
(4) سبق تخريجه قريبًا.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3503) والترمذى (1232) والنسائي (4627) وابن ماجة (2187) وغيرهم.
(6) صحيح: أخرجه الترمذي (1233) وغيره.

(4/301)


قوله: "أبتاع له من السوق ثم أبيعه".
مقصود السائل أنه هل يبيع ما ليس عنده ثم يشتريه من السوق ثم يسلمه للمشترى الذي اشترى له منه. "قال لا تبع ما ليس عندك" أي شيئًا ليس في ملكك حال العقد (1).
• قال الخطابى: قوله: "لا تبع ما ليس عندك" يريد بيع العين دون بيع الصفة ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق، أو جَمَلُه الشارد، ويدخل في ذلك كل شىء ليس بمضمون عليه مثل أن يشترى سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها، ويدخل في ذلك بيع الرجل مال غيره موقوفًا على إجازة المالك لأنه يبيع ما ليس عنده ولا في ملكه يجيزه وهو غرر لأنه لا يدرى هل يجيزه صاحبه أم لا؟ والله أعلم (2).
• أما بيع السلم أو السلف فهو بمعنى واحد وسمى السلم سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسمى سلفًا لتقديمه قبل أوان استلام المبيع.
• ومعنى بيع السلم أو السلف: هو بيع آجل بعاجل، أو بيع شىء موصوف في الذمة أي أنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المثمن لأجل، وبعبارة أخرى: هو أن يسلم عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل.
مثاله: كأن يقول صاحب السلم: اشتريت منك طِنًّا من الأرز صفته كذا إلى أجل كذا بسعر خمسمائة جنيهًا ويعطيه الثمن حالًا.
وقبل المسلم إليه (صاحب الأرز).
وهذا النوع جائز بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (3).
قال ابن عباس: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه، وأذن فيه" (4).
__________
(1) تحفة الأحوذى (4/ 360).
(2) معالم السنن على حاشية سنن أبى داود (3/ 769).
(3) سورة البقرة: 282.
(4) حسن: أخرجه الشافعى في مسنده (598) والحاكم (2/ 286) والبيهقى (6/ 18).

(4/302)


• عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، قال: من أسلف في شىء ففى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" (1).
أما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز، ولأن بالناس حاجة إليه، لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم أو على الزرع ونحوها حتى تنضج، فجوز لهم السلم دفعًا للحاجة.
• وقد استثنى عقد السلم من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم، لما فيه من تحقيق مصلحة اقتصادية، ترخيصًا للناس، وتيسيرًا عليهم، وصرح في المدونة بأن السلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه.
• وقال زكريا الأنصارى: السلم عقد غرر جُوِّز للحاجة (2).
• قال القرافى: السلف رخَّص فيه صاحب الشرع لمصلحة المعروف بين العباد فاستثناه لذلك (3).
ظن بعض العلماء خروجه عن القياس وعده من "باب بيع ما ليس عندك" المنهى عنه في حديث حكيم بن حزام.
ولكن هذا الظن بعيد عن الصواب وليس بشىء، فإن حديث حكيم بن حزام يراد به بيع عين معينة ليست في ملك البائع حينما أجرى عليها العقد، وإنما يشتريها من صاحبها فيسلمها للمشترى الذي اشتراها منه قبل دخولها في ملكه، وهذا هو صريح الحديث وقصته.
فأما السلم فهو متعلق بالذمة لا العين، فهو بيع موصوف في الذمة، لذا فهو على وفق القياس، والحاجة داعية إليه (4).
• وقال ابن القيم - رحمه الله -:
وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور
__________
(1) أخرجه البخاري (2240) ومسلم (1604).
(2) راجع الفقه الإِسلامى (د. وهبة الزحيلى) (4/ 598) والموسوعة الفقهية الكويتية (25/ 194
(3) الذخيرة (5/ 255).
(4) توضيح الأحكام من بلوغ المرام (4/ 62).

(4/303)


له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه. فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى والربا والبيع" (1).

ثانيًا: البيوع المحرمة بسبب الربا:
• وقد سبق تعريف الربا: لغة وشرعًا.
• وهي زيادة في شىء مخصوص.
بمعنى (2): ليس كل زيادة ربا في الشرع، وليس كل زيادة في بيع ربا، فإذا كان المبيعات مما تجوز فيه الزيادة فلا بأس، فلو بعت سيارة بسيارتين فلا بأس، وكتابًا بكتابين فلا بأس، لأنه ليس كل زيادة تكون ربا.
بل الزيادة التي تكون ربا هى: ما إذا وقع العقد بين شيئين يحرم بينهما التفاضل كالذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، ويقاس عليها ما يماثلها في العلة.
• وقد اختلف العلماء في العلة:
• فمذهب الحنفية والحنابلة: أن العلة في الأصناف الأربعة: الكيل، وفي الذهب والفضة: الوزن.
• وعند المالكية: العلة في الأصناف الأربعة: الاقتيات والادخار، وفي الذهب والفضة: العلة فيهما غلبة الثمنية، أو جوهر الثمنية، فالعلة قاصرة على الذهب والفضة.
• وعند شيخ الإِسلام في الاختيارات: العلة في الأصناف الأربعة: الطعم مع الكيل أو الوزن، وفي الذهب والفضة، مطلق الثمنية، وعليه فإن العلة متعدية إلى غيرهما كالفلوس والأوراق النقدية.
• وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -:
وأقرب شىء أن يقال: إن العلة في الذهب والفضة كونهما ذهبًا وفضة، سواءً كانا نقدين أو غير نقدين، والدليل على أن الربا يجرى في الذهب والفضة، وإن كانا غير نقدين: حديث القلادة الذي رواه فضالة بن عبيد "أنه اشترى قلادة فيها
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 492).
(2) راجع الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن العثيمين رحمه الله (8/ 387 - 391).

(4/304)


ذهب وخرز باثنى عشر دينارًا ففصلها فوجد فيها أكثر، فنهى النبى - صلى الله عليه وسلم - أن تباع حتى تفصل" (1).
• ومعلوم أن القلادة خرجت عن كونها نقدًا، وعلى هذا فيجرى الربا في الذهب والفضة مطلقًا سواء كانتا نقدًا، أم تبرا (2) أم حليًّا على أي حال كانت، ولا يجرى الربا في الحديد والرصاص والصفر (النحاس) والماس وغيرها من أنواع المعادن.
• أما العلة في الأربعة: كونها مكيلة مطعومة، يعني أن العلة مركبة من شيئين الكيل والطعم، إذ هذا هو الواقع فهي مكيلة مطعومة ويظهر أثر الخلاف في الأمثلة: فإذا باع صاعًا من دقيق بصاعين منه فإذا قلنا: إن العلة الكيل فلا يجوز، وإن قلنا: إن العلة الطعم جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز أيضًا.
• وإذا باع فاكهة بجنسها متفاضلة فإن قلت: العلة الطعم فلا يجوز، وإن قلنا: العلة الكيل جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز، فالأمثلة تبنى على الخلاف في تحديد العلة.
• فإن قال قائل: سلمنا أنها مطعومة في البر والشعير والتمر، لكن ما القول في الملح؟ أجاب عنه شيخ الإِسلام: بأن الملح يصلح به الطعام فهو تابع له، ولهذا يقال: "النحو في الكلام كالملح في الطعام" فالملح من توابع الطعام، وبناءً على هذا التعليل يجرى الربا في التوابل التي يصلح بها الطعام، لأنها تابعة له. انتهى.
• وليس القصد هنا ذكر أحكام الربا وشروطه ومسائله، بل القصد هنا التعرف على أحكام بعض البيوع الربوية، وهي التي ورد النهى عنها في السنة.
• ومن هذه البيوع ما يلي:
1 - بيع العينة:
العينة لغة: السلف.
وشرعًا: هو أن يبيع البائع شيئًا من غيره بثمن مؤجل، ويسلم إلى المشترى ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل مما باع به وينقده الثمن.
ومثاله: قول القائل أنا بعت على زيد سيارة بعشرين ألفًا إلى سنة، فهذا بيع نسيئة، ثم إنى اشتريتها من هذا الرجل بثمانية عشر ألفًا.
__________
(1) أخرجه مسلم (1591).
(2) التِّبر: هو الذهب والفضة قبل أن يضربا دنانير ودراهم، فإذا ضربا كانا عينًا.

(4/305)


فهذا حرام لا يجوز، لأنه حيلة واضحة، لأن الرجل أعطى عينًا وأخذ عينًا، والعين النقد.
وهي محرمة لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (1).
إذًا هو محرم، بل من كبائر الذنوب (2).
• من مسائل العينة في زماننا:
• قال الشيخ ابن العثيمين - رحمه الله تعالى -:
ومن مسائل العينة أو من التحيل على الربا ما يفعله بعض الناس اليوم، يحتاج إلى سيارة، ويذهب إلى تاجر، ويقول أنا أحتاج السيارة الفلانية في المعرض الفلانى، فيذهب التاجر ويشتريها من المعرض بثمن، ثم يبيعها بأكثر من الثمن على هذا الذي احتاج السيارة إلى أجل، فهذا حيلة ظاهرة على الربا, لأن حقيقة الأمر أنه أقرضه ثمن السيارة الحاضرة بزيادة، لأنه لولا طلب هذا الرجل ما اشتراها ولا قرب إليها، وهذه حيلة واضحة، وإن كان مع الأسف كثير من الناس انغمس فيها, ولكن لا عبرة بعمل الناس، العبرة بتطبيق الأحكام على النصوص الشرعية.
وكذلك أيضًا انتشرت حيلة سابقة: يأتى الفقير إلى شخص فيقول أنا أحتاج ألف ريال، فيذهب التاجر إلى صاحب دكان عنده أكياس رز أو أي شىء فيشترى التاجر الأكياس من صاحب الدكان مثلًا بألف ريال، ثم يبيعها على المحتاج بألف ومائتين، ونحن نعلم أنه لا يجوز أن يباع قبل قبضه، فكيفية القبض عندهم أن يمسح على الأكياس بيده، مع أن النبى - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوذها التجار إلى رحالهم" (3) فهل هذا قبض؟ هذا يسمى عَدًّا ولا يسمى قبضًا، لكن كانوا يفعلون هذا، بعد ذلك يأتى الفقير إلى صاحب الدكان الذي عنده هذه الأكياس، ويبيعها عليه بأقل مما اشتراها من التاجر، لأن الفقير يريد دراهم ولا يريد أكياس طعام، فمثلًا يبيعها على صاحب الدكان بألف إلا مائة ريال، فيؤكل
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3462) وغيره من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وانظر الصحيحة (11).
(2) راجع الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله تعالى (8/ 223).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (3499) وغيره.

(4/306)


المسكين الفقير من الجانبين، من جانب التاجر الأول ومن صاحب الدكان، فصاحب الدكان أخذ منه مائة ريال، والتاجر أخذ مائتين زائدًا على الألف، وهذه سماها شيخ الإسلام - رحمه الله - الحيلة الثلاثية، لأنها مكونة من ثلاثة أشخاص، ومسائل الربا لا تحل بالحيل (1). انتهى.
قلت (فؤاد): ومن مسائل العينة في عصرنا أيضًا ما يسميه بعض التجار "الحرق" أي حرق السلعة بمعنى أنه يبيع مثلًا الثلاجة للمشترى بمبلغ 1500 جنيه مؤجلًا على أقساط، ويشتريها منه نقدًا بمبلغ 1000 جنيه.
• ومنهم من يقوم ببناء البيت لشخص ما فيتكلف عليه عشرون ألفًا، ويبدأ يقبض من صاحب البيت مؤجلًا ثلاثين ألفًا، أو يعمل له عمرة للسيارة وغير ذلك من الحيل الربوبية، فانتهوا أيها المرابون حتى لا تصيبكم حرب الله تعالى، واعلم أن رزقك الذي كتب لك سوف يأتيك فاطلبه بالحلال ولا تستعجل فتطلبه بالحرام، ولو صبرت لجاءك بالحلال.
• قال الشيخ ابن العثيمين - رحمه الله -:
واعلم: أنه كلما احتال الإنسان على محرم لم يزدد إلا خبثًا، فالمحرم خبيث، فإذا احتلت عليه صار أخبث، لأنك جمعت بين حقيقة المحرم وبين خداع الرب عَزَّ وَجَلَّ، والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية "وإنما الأعمال بالنيات" (2) ولولا الزيادة الربوية ما عرفت هذا الرجل، والعجيب أن الشيطان يغر ابن آدم فيقول: نحن نفعل هذا رحمة بالفقير من أجل أن تتيسر أحواله، ولولا هذا ما تيسرت، لكن أقول لكم كلما كان أفقر صارت الزيادة عليه أكثر، فهذه نقمة وليست رحمة، فمثلًا: يأتى إنسان متوسط الحال يستدين من هذا الرجل فيبيع عليه ما يساوى ألفًا بألف ومائتين، ويأتى إنسان آخر يستدين من أجل أن يأكل هو وأهله فيبيع عليه ما يساوى ألفًا بألف وخمسمائة، فيقول: لأن هذا لا يفى، ومتى يفى؟ فأين الرحمة؟ ولو كان غرضه الرحمة بالفقير لكان هذا الثاني أولى بالرحمة من الأول المتوسط الحال، لكن الشيطان يلعب على ابن آدم (3). انتهى.
__________
(1) الشرح الممتع (8/ 224 - 225).
(2) أخرجه البخاري، ومسلم وغيرهما.
(3) الشرح الممتع (8/ 226).

(4/307)


• وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
فيا سبحان الله! أيعود الربا الذي عظَّم الله شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحله، ولعن آكله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجىء في غيره إلى أن يستحل نوعاه بأدنى حيلة لا كلفة فيها أصلًا إلا بصورة عقد هى عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها؟ (1).
2 - بيع المزابنة والرخصة في العرايا:
المزابنة: مأخوذة من الزَبْن.
وهو في اللغة: الدفع لأنها تؤدى إلى النزاع والمدافعة.
وفي الاصطلاح الفقهى: المزابنة: هى كل شىء من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده، ابتيع بشىء مسمى من الكيل، والوزن، والعدد ظنًا وتقديرًا، وذلك بأن يقدر مثلًا الرطب على النخل بمقدار مائة صاع، فيبيع بقدره من التمر.
• عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطة، إن كانت نخلًا، بتمر كيلًا، وإن كان كرمًا، أن يبيعه بزبيب كيلًا، وإن كان زرعًا، أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله" (2).
• عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة والمحاقلة" (3).
• عن سهل بن أبي حثمة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر (بالتمر) وقال: "ذلك الربا، تلك المزابنة" إلا أنه رخص في بيع العريَّة النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت يخرصها تمرًا، يأكلونها رطبًا" (4).
• والعريَّة: مفرد العرايا.
• وهي بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض.
• اتفق العلماء على تحريم بيع المزابنة لأنها ربا، لأنه بيع مكيل بمكيل من جنس مع عدم المساواة بينهما بالكيل أو لعدم العلم بالمماثلة فيهما.
• قال صديق حسن خان - رحمه الله -:
__________
(1) إعلام الموقعين (3/ 295).
(2) أخرجه البخاري (2205) ومسلم (1542) وغيرهما.
(3) أخرجه البخاري (2381) ومسلم (1543) وغيرهما.
(4) أخرجه البخاري (2383) ومسلم (1540) وغيرهما.

(4/308)


والذي أخبرنا بتحريم الربا، ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا، والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة ومن منع ذلك فقد تعرض لرد الخاص بالعام ولرد الرخصة بالعزيمة ولرد السنة بمجرد الرأى، وهكذا من منع من البيع وجوز الهبة: كما روى عن أبي حنيفة - رحمه الله - ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة كما وقع في حديث جابر (1). فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك (2).
• قال ابن المنذر: ادعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه - صلى الله عليه وسلم - من بيع الثمر بالتمر وهذا مردود لأن الذي روى النهى عن بيع الثمر بالتمر هو الذي روى الرخصة في العرايا فأثبت النهى والرخصة معًا (3).
• وعند الحنابلة: (لا تجوز العريَّة إلا لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو لحاجة المشترى إلى الرطب. والله أعلم) (4).
3 - بيع المحاقلة:
المحاقلة في اللغة:
مأخوذة من الحقل: وهو الحرث، وموضع الزرع.
• وفي الاصطلاح: بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية بالظن والتقدير. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة" (5).
• قال النووى - رحمه الله -:
اتفق العلماء على تحريم بيع الرطب بالتمر في غير العرايا، وأنه ربا، وأجمعوا أيضًا على تحريم بيع العنب بالزبيب، وأجمعوا أيضًا على تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية، وهي المحاقلة (6).
__________
(1) عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أذن للعرايا أن يبيعوها يخرصها يقول: "الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة" وهو حديث صحيح: أخرجه أحمد (3/ 360) وابن حبان (5008) وغيرهما.
(2) الروضة الندية (2/ 239).
(3) فتح البارى (4/ 453).
(4) فتح البارى (4/ 459).
(5) أخرجه البخاري (2381) ومسلم (1543).
(6) شرح صحيح مسلم (5/ 197).

(4/309)


• ولا يختلف الفقهاء في أن بيع المحاقلة غير جائز، وهو فاسد عند الحنفية، باطل عند غيرهم، وذلك لحديث جابر السابق ذكره، ولأنه بيع مكيل بمكيل من جنسه، فلا يجوز خرصا (ظنًّا وتقديرًا) لأن فيه شبهة الربا الملحقة بالحقيقة في التحريم.
ولعدم العلم بالمماثل، والجهل بالتساوى كالعلم بالتفاضل وأيضًا تزيد المحاقلة -كما قال الشافعية على المزابنة- فإن المقصود من المبيع فيها مستور بما ليس من صلاحه فانتفت الرؤيا أيضًا (1).
4 - بيع اللحم بالحيوان:
عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان" (2).
• قال أبو عمر ابن عبد البر:
وقد اختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث وفي معناه، فكان مالك يقول: المراد من هذا الحديث تحريم التفاضل في الجنس الواحد، وهو عنده من باب المزابنة والغرر, لأنه لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر.
• وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلًا، فكذلك بيع الحيوان باللحم إذا كانا من جنس واحد، والجنس الواحد عنده. الإبل والبقر والغنم وسائر الوحش وذوات الأربع المأكولات، هذا كله عنده جنس واحد؛ لا يجوز بيع لحمه بلحمه إلا مثلًا بمثل.
• ولحوم الطير كلها صنف واحد: الإوز، والبط، والدجاج، والحمام واليمام، ولا يجوز لحم شىء منه بشىء من الجنس المذكور، إلا مثلًا بمثل، ويجوز على التحرى. قال ابن عبد الحكم: لا يجوز التحرى إلا فيما قل مما يدرك ويلحقه التحرى، وأما ما كثر، فلا يجوز فيه التحرى، لأنه لا يحاط بعلمه انتهى باختصار (3).
__________
(1) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 138).
(2) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 655)، قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث يتصل من وجه ثابت من الوجوه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب هذا. التمهيد (12/ 135) وقال الإمام البغوي: حديث ابن المسيب وإن كان مرسلًا، لكنه يتقوى بعمل الصحابة، واستحسن الشافعي مرسل ابن المسيب. شرح السنة (8/ 77).
(3) التمهيد بترتيب الشيخ المغراوى (12/ 136، 140).

(4/310)


5 - بيع الأشياء بجنسها وبينهما فضل، أو بغير جنسها نسيئة كان ربا:
عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البُرَّ بالبُرِّ، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر يدًا بيد كيف شئتم، وأما نسيئة فلا" (1).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما" (2).
عن أبي سعيد الخدرى - رضي الله عنه - قال: جاء بلال إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - بتمر بَرْنىٍّ، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم -: "من أين هذا؟ " قال بلال: كان عندي تمر ردىء، فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبى - صلى الله عليه وسلم -. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "أوّه، أوّه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشترى فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به" (3).
• قال ابن عبد البر: الربا عند جماعة العلماء في المصنف الواحد يدخله من جهتين، وهما: النساء والتفاضل، فلا يجوز شىء من الأنواع الستة بمثله إلا يدًا بيد مثلًا بمثل على ما نص عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا اختلف الجنس جاز فيه التفاضل، ولم يجيز فيه النساء. وقاسوا عليها ما أشبهها وما كان في معناها (4).
• قال الإِمام البغوي - عن حديث "لا تبيعوا الذهب بالذهب" الحديث.
- في الحديث بيان تحريم الفضل والنساء في الصرف عند اتفاق الجنس.
- وفي الحديث دليل على أنه لو باع حُليًّا من ذهب بذهب لا يجوز إلا متساويين في الوزن، ولا يجوز طلب الفضل للصنعة، لأنه يكون بيع ذهب بذهب مع الفضل.
وفيه دليل على أنه لو باع مال الربا بجنسه ومعهما، أو مع أحدهما شىء آخر، مثل أن باع درهمًا ودينارًا بدينارين أو بدرهمين، أو باع درهمًا وثوبًا بدرهمين، أو بدرهم وثوب، لا يجوز، لأن اختلاف الجنس في أحد شقى الصفقة
__________
(1) أخرجه مسلم (1587) وأبو داود (3349) والبغوي في شرح السنة (8/ 2056) وغيرهم.
(2) أخرجه مسلم (1588) وغيره.
(3) أخرجه البخاري (2312) ومسلم (1594) وغيرهما.
(4) راجع التمهيد بترتيب الشيخ المغراوى (12/ 51).

(4/311)


يوجب توزيع ما في مقابلتهما عليهما باعتبار القيمة وعند التوزيع يظهر الفضل، أو يوجب الجهل بالتماثل حالة العقد، والجهل بالتماثل في بيع مال الربا بجنسه بمنزلة يقين التفاضل في إفساد البيع، وإلى هذا ذهب بعض أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قول شريح، وابن سيرين، وإبراهيم النخعى، وإليه ذهب ابن المبارك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق (1).
• ومن ذلك لا يجوز إبدال الذهب القديم بالجديد مع إعطاء الفرق بمعنى أن المرأة تعطى الصائغ 100 جم من الذهب القديم وتستبدله بوزن 200 جم وتدفع الفرق من الجنيهات مثلًا. وهذه صورة من صور الربا المحرم.
• وقد سئل الشيخ ابن العثيمين - رحمه الله تعالى - عن ذلك فقال: لا يجوز أن تبدل ذهبًا رديئًا بذهب طيب وتعطى الفرق. هذا محرم ولا يجوز ويدل لذلك ما يثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة بلال - رضي الله عنه -: جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - بتمر جيد فقال له: "من أين هذا" قال بلال: كان عندنا تمر ردىء فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبى - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوه لا تفعل عين الربا عين الربا" (2).
فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن زيادة ما يجب فيه التساوى من أجل اختلاف الوصف أنها هى عين الربا وأنه لا يجوز للمرء إن يفعله ولكن سول الله - صلى الله عليه وسلم - كعادته أرشده إلى الطريق المباح فأرشده النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يبيع الردىء بدراهم ثم يشترى بالدراهم تمرًا جيدًا وعلى هذا فنقول إذا كان لدى المرأة ذهب ردىء أو ذهب ترك الناس لبسه فإنها تبيعه بالسوق ثم تأخذ الدراهم وتشترى بها ذهبًا طيبًا تختار هذه الطريقة التي أرشد إليها نبينا - صلى الله عليه وسلم - (3).
ومن الأخطاء أيضًا بيع الذهب بالأجل، فلابد أن يكون يدًا بيد أي خذ وهات بمعنى ادفع الثمن حالًا وخذ ذهبك وزنًا أما إذا أخذ الذهب ودفع نصف المبلغ أو تبقى من المبلغ شىء لو يسيرًا أعطاه بعد يوم أو أكثر فهذا لا يجوز لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: "بيعوا الذهب بالذهب ... يدًا بيد كيف شئتم، وأما نسيئة فلا".
__________
(1) شرح السنة (8/ 65، 66).
(2) سبق تخريجه قريبًا.
(3) فقه وفتاوى البيوع (ص: 386، 387) جمعها: أشرف عبد المقصود.

(4/312)


والنسيئة هى التأخير عن الدفع حالًا.
وكذلك لا يجوز بيع الذهب بالشيكات، وذلك لأن الشيكات ليست قبضًا، وإنما هى وثيقة حوالة فقط (1).
وكذلك لا يجوز بيع العملة بأجل، فتأخير أحدهما من ربا النسأ، وهو حرام مطلقًا (2).
ولا يجوز بيع العملات من الجنس الواحد متفاضلة فمثلًا نجد بعض الناس يشترى فئة عشرة جنيهات القديمة بفئة عشرين جنيهًا، بزعم قد أصبحت عُملة أثرية. فهذا لا يجوز للحديث السابق ذكره.
"الدينار بالدينار لا فضل بينها ... ".
إذ الجنس الواحد لابد فيه من التقابض والتساوى في بيع بعضه ببعض، وهذا المعنى لا يقتصر على العملات الورقية فقط، بل كل الأجناس الربوية تأخذ نفس الحكم لعموم الأدلة السابقة.
6 - بيع الكالئ بالكالئ (الدَّين بالدين):
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبى - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، يعني الدَّين بالدَّين" (3).
على ضعف هذا الحديث. أجمعت الأمة على عدم جواز بيع الدين بالدين.
• وفي ذلك يقول الإِمام أحمد - رحمه الله -:
ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين (4).
• وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز (5).
__________
(1) المصدر السابق (ص 389، 391).
(2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (13/ 441 - 443).
(3) إسناده ضعيف: أخرجه الحاكم (2/ 57) والدارقطنى (3/ 71، 72) والبيهقي (5/ 290 - 291) والطبرانى في الكبير (4/ 267) وغيرهم وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف. وانظر تلخيص الحبير (3/ 62) رقم (1209)، وإرواء الغليل (5/ 1382).
(4) تلخيص الحبير (3/ 62).
(5) الإجماع لابن المنذر (ص 56) والمغنى (6/ 106).

(4/313)


• ومعنى الكالئ بالكالئ: أي النسيئة بالنسيئة، وذلك أن يشترى الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضى به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شىء، فيبيعه منه ولا يجرى بينهما تقابض (1).
- وهذه الصورة محرمة بإجماع الأمة، لما فيها من الربا الحرام تطبيقًا لقاعدة "زدنى في الأجل وأزيدك في القدر".
ولكن لبيع الدين صور أخرى منها ما هو جائز ومنها ما هو حرام.
فمثلًا: بيع الدين على الغير: فلا يجوز أن يباع بالدين بل ولا بالعين.
مثال ذلك: إنسان في ذمته لشخص مائة صاع بُر فجعل هذا الرجل يطلبه يقول أعطنى يا فلان وهو يماطل به، فقيل للرجل الذي له الحق نعطيك عنها مائة درهم، ونحن نأخذها من المطلوب فلا يجوز، حتى وإن كان بعين فإنه لا يجوز، فلو قيل: لهذا الرجل الذي له مائة صاع في ذمة فلان سوف نعطيك عنها مائة ريال تأخذها نقدًا فإنه لا يجوز، لأنه يشبه أن يكون غير مقدور على تسليمه، وإذا كان كذلك فإنه يكون فيه غرر إذ إن المطلوب قد يوفى كاملًا وقد لا يوفى فلا يصح. لكن لو كان الذي اشترى دين فلان قادرًا على أخذه منه كرجل له سلطة يستطيع أن يأخذ هذا المال الذي في ذمة الرجل في ساعة فالصحيح: أنه يجوز، لأن العلة عن نهى بيع ما في الذمم إنما هى الخوف من الغرر، وعدم الاستلام فإذا زالت العلة زال المعلول وزال الحكم.
ولكن إذا قلنا يجوز إذا كان قادرًا على أخذه لابد أن يكون المدين قد أقر بالدين، أما إذا كان منكرًا، وجاء إنسان وقال أنا أريد أن أشترى دين فلان الذي هو لك وهو منكر ولم يقر، ولكن قال أخاطر فأشتريه وأطالبه عند القاضى فلا يجوز، لأنه مخاطرة، لكن كلامنا فيما إذا باع دينًا في ذمة مقر على شخص قادر على استخراجه، فالصواب أنه جائز.
ومن صوره بيع الدين على من هو في ذمته.
مثاله: أنا أطلب شخصًا مائة صاع بُر فجاء إلىَّ وقال: أنا ليس عندي بُر، ولكن أنا أعطيك عن المائة صاع مائتى ريال، فهنا بيع دين بدين ففيه تفصيل.
إن كان باعه بسعر وقته فلا بأس وإن باعه بأكثر فإنه لا يجوز.
__________
(1) النهاية لابن الأثير (4/ 194).

(4/314)


والدليل: حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كنا نبيع الإبل بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير ونبيع بالدنانير فنأخذ عنها الدراهم" فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شىء" (1) فاشترط النبى - صلى الله عليه وسلم - شرطين:
الشرط الأول: أن تأخذها بسعر يومها.
الشرط الثاني: أن لا يتفرقا وبينهما شىء.
فالعلة في الشرط الأول: إذ إنه إذا أخذها بأكثر فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه.
وقد نهى النبى - صلى الله عليه وسلم -: "عن ربح ما لم يضمن" (2).
مثاله: الدينار يساوى عشرة فقال: أنا آخذ منك: بأحد عشر فهذا لا يجوز، لأن الذي أخذ بأحد عشر بدل الدينار ربح درهمًا فربح في شىء لم يدخل في ضمانه، لأن الدنانير في ضمان من هو في ذمته، ولم يدخل عليه إلى الآن.
والمعنى: أن ربح ما لم يضمن: هو أن يبيعه سلعة قد اشتراها ولم يكن قبضها نهى من ضمان البائع الأول ليس من ضمانه فهذا لا يجوز بيعه حتى يقبضه فيكون في ضمانه.
أما العلة في الشرط الثاني: لأنه سيأخذ عن الدنانير دراهم وبيع الدنانير بالدراهم لابد فيها من القبض في مجلس العقد، وحينئذ لو لم يقبض لبطل العقد، كما لو باع دنانير بدراهم ولم يقبض فإنه يبطل العقد (3).
والخلاصة: أن الأصل عدم جواز بيع الدين في الصرف، لأنه يؤدى إلى الربا.
وأما في غير الصرف والسلم فبيع الدين إذا كان من المدين نفسه فجائز في أكثر صوره لحصول القبض من قبل، وإذا كان لغير المدين فإن كان بثمن عين فيجوز في أكثر صوره، بشرط كون الدين مستقرًا، وكون المدين مليا ومقرا، لإمكان التسليم والقبض، وعدم الغرر والضرر، وأما بيع الدين لغير المدين بالدين
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد (2/ 83) وأبو داود (3354) وغيرهما.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (2/ 174) وأبو داود (3504) وغيرهما.
(3) راجع الشرح الممتع (8/ 432 - 436).

(4/315)


فإنه لا يجوز في أكثر صوره، لما فيه من الغرر والجهالة والنهى الوارد في ذلك من عدم جواز بيع الكالئ بالكالئ (1).
7 - بيعتين في بيعة وهل يلحق بهذا النوع البيع بالتقسيط؟
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة" (2).
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" (3).
• واختلف العلماء في معنى بيعتين في بيعة:
قال الترمذى - رحمه الله -:
والعمل على هذا عند أهل العلم.
وقد فسَّر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة، أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما، فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما.
قال الشافعي: ومن معنى نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، أن يقول: أبيعك دارى هذه بكذا. على أن تبيعنى غلامك بكذا.
فإذا وجب لي غلامك وجب لك دارى، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدرى كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته (4).
• قال الخطابى - رحمه الله - في معالم السنن تعليقًا على حديث "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا":
لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحح البيع بأوكس الثمنين، إلا شىء يحكى عن الأوزاعى وهو مذهب فاسد، وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل. انتهى.
• وتعقبه الشوكانى - رحمه الله - في نيل الأوطار فقال: ولا يخفى أن ما قاله هو ظاهر الحديث، لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع به. انتهى.
__________
(1) مجلة الشريعة والدراسات الإِسلامية الكويتية العدد (35) (ص 329).
(2) حسن: أخرجه الترمذى (1231) وغيره. وراجع إرواء الغليل (5/ 149).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (3461) وغيره. وراجع إرواء الغليل (5/ 149 - 150).
(4) سنن الترمذى (3/ 533)، بعد الحديث رقم (1231).

(4/316)


• وقال أيضًا الخطابى في معالم السنن باختصار:
وإنما المشهور عن أبي هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن بيعتين في بيعة" فأما على الوجه الذي ذكره أبو داود، (المقصود حديث ... فله أوكسهما أو الربا) فيشبه أن يكون ذلك في حكومة في شىء بعينه، كأنه أسلفه دينارًا في قفيزين إلى شهر، فهذا بيع ثانٍ قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا المبيع الثاني قبل أن يتقابضا الأول كانا مُرْبيين.
ثم قال: وتفسير ما نهى عنه من بيعتين في بيعة على وجهين:
أحدهما: أن يقونا بعتك هذا الثوب نقدًا بعشرة ونسيئة بخمسة عشر، فهذا لا يجوز لأنه لا يدرى أيهما الثمن الذي يختاره منهما فيقع به العقد، وإذا جهل الثمن بطل البيع.
والوجه الآخر: أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرين دينارًا على أن تبيعنى جاريتك بعشرة دنانير، فهذا أيضًا فاسد لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارًا وشرط عليه أن يبيعه جاريته بعشرة دنانير، وذلك لا يلزمه، وإذا ألزمه سقط بعض ثمنه، وإذا سقط بعضه صار الباقي مجهولًا.
- ومن هذا الباب أن يقول: بعتك هذا الثوب بدينارين على أن تعطينى بهما دراهم صرف عشرين أو ثلاثين بدينار، فأما إذا باعه شيئين بثمن واحد، كدار وثوب، أو عبد وثوب فهذا جائز وليس من باب البيعتين بالبيعة الواحدة، وإنما هى صفقة واحدة جمعت شيئين بثمن معلوم وعقد البيعتين في بيعة واحدة على الوجهين اللذين ذكرناهما عند أكثر الفقهاء فاسد. انتهى.
- وقوله: "فله أوكسهما" قال الشوكانى - رحمه الله -: يدل على أنه باع الشىء الواحد بيعتين، بيعة بأقل وبيعة بأكثر. وقيل في تفسير ذلك هو أن يسلفه دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعنى القفيز الذي لك علىَّ إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة، لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول. كذا في شرح السنن لابن رسلان (1).
__________
(1) راجع معالم السنن للخطابى على هامش سنن أبى داود (3/ 739، 740) ونيل الأوطار للشوكانى (6/ 287) وعون المعبود شرح سنن أبى داود (9/ 238) وعارضة الأحوذى لابن العربى (5/ 191، 192).

(4/317)


- وفسره الحنابلة بأن يشترط أحد المتبايعين على الآخر عقدًا آخر، كسلف وقرض، وبيع وإجارة وشركة ونحو ذلك، كقول البائع للمشترى:
بعتك كذا بكذا على أن تؤجرنى دارك بكذا ونحو ذلك، فهذا الشرط يبطل العقد عندهم من أصله.
وحكمه البطلان، لأنه إذا فسد الشرط وجب رد ما يقابله من الثمن، وهو مجهول فيصير الثمن مجهولًا.
وفسره بعضهم بأن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بألفين نسيئة، وبألف نقدًا، فأيهما شئت أخذت به.
• أما ابن القيم فيقول: (البيعتان في بيعة) أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم يشتريها منه بثمانين حالة، فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا.
وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الثمنين فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا, ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى.
أما أخذه بمائة مؤجلة أو بثمانين حالة، فليس في هذا ربا ولا جهالة، وإنما خيره بأى الثمنين شاء.
• قال الشيخ عبد الرحمن السعدى: الذي يدخل في النهى عن بيعتين في بيعة مسألة العينة وعكسها، لأن فيه محذور الربا وحيلة الربا.
- وأما تفسير الحديث بأن يقول: بعتك هذا البعير بمائة على أن تبيعنى الشاة بعشرة، فلا تدخل لأنه لا محذور في ذلك (1).
__________
(1) توضيح الأحكام من بلوغ المرام للشيخ/ عبد الله البسام (7/ 449، 450).

(4/318)


باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة (1)؟
وفيه مباحث:
المبحث الأول: معنى بيع التقسيط لغةً وشرعًا:
أولًا: في اللغة:
يطلق التقسيط في اللغة على معانٍ منها:
1 - التفريق وحمل الشىء أجزاء، يقال: قسط الشىء أي فرّقه وجعله أجزاء، والدّين جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة (2).
2 - الاقتسام بالسّويّة: يقول الليث: تقسطوا الشىء بينهم أي اقتسموه بالسوية. وفي العباب على القسط والعدل. وفي اللسان على العدل والسواء (3).
فهو بهذا المعنى تجزئة الشىء إلى أجزاء متماثلة، كتأجيل دين بخمسمائة دينار إلى خمسة أسابيع على أن يدفع منه مائة دينار كل أسبوع (4).
3 - التقتير، يقال: قسط على عياله النفقة تقسيطًا إذا قترها عليهم. وقال الطرماح:
كفاه كف لا يرى سبيها ... مقسطًا رهبة إعدامها (5)
__________
(1) بحث في حكم البيع بالتقسيط للدكتور محمد عقلة الإبراهيم نشرته مجلة الشريعة العدد السابع (ص 135 - 219) (تصدر عن جامعة الكويت).
(2) لسان العرب، المجلد السابع، فصل القاف، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، (1388 هـ -1968 م).
المعجم الوسيط، المكتبة العلمية، طهران، فعل قسط.
المصباح المنير، مطبعة مصطفى الحلبى، معجم متن اللغة، لأحمد رضا -باب القاف- فعل قسط.
المعجم العربى الحديث، خليل الحر، باب القاف، فعل قسط.
(3) تاج العروس، المجلد الخامس، فصل القاف من باب الطاء، قسط: دار ليبيا للنشر، بنغازى، القاموس المحيط: الفيروزابادى، فصل القاف، باب الطاء.
(4) درر الحكام شرح مجلة الأحكام: مكتبة النهضة، بيروت، بغداد.
(5) تاج العروس، لسان العرب، المعجم الوسيط.

(4/319)


4 - والقسط الحصة والنصيب: يقال: تقسطنا الشىء بيننا أي أخذ كل حصته ونصيبه. ويقال: وفاه قسطه أي نصيبه وحصته (1).
ومن خلال استعراضنا لهذه المعانى يظهر أن المعنيين الأول والثانى هما أقربها إلى المعنى الشرعى الاصطلاحى لبيع التقسيط. فهما يفيد أن تفريق الشىء إلى أجزاء على وجه من العدل والمساوة، وإذا كان الشىء المقسط هو الدّين فالمراد جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة.
ثانيًا: في الاصطلاح الشرعى:
من المعانى التي يمكن اعتبارها بيانًا للمراد ببيع التقسيط في المفهوم الشرعى: "أن يبيع التاجر السلعة مدفوعة الثمن فورًا بسعر، ومؤجلة أو مقسطة الثمن بسعر أعلى" (2).
"التقسيط: تأجيل أداء الدّين مفرقًا إلى أوقات معينة" (3).
"الثمن المقسط هو ما اشترط أداؤه أجزاء معلومة في أوقات معينة" (4).
ويبدو للناظر في هذه المعانى أن بيع التقسيط من المنظور الشرعى هو بيع السلعة بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحال، على أن يكون دفع ذلك الثمن مفوقًا إلى أجزاء معينة، وتؤدى في أزمنة محددة معلومة.
• بين التأجيل والتقسيط:
لما وضح لنا في ضوء المعنى الشرعى لبيع التقسيط أن عامل الأجل عنصر أساسى فيه ناسب المقام أن نبين العلاقة بين التأجيل والتقسيط.
فالتأجيل هو تأخير دفع ثمن السلعة إلى زمن مستقبل سواء كان ذلك الزمن شهرًا أم عامًا، وسواء أكان البائع يقبض الثمن جملة واحدة أم على دفعات. أما التقسيط فهو تأجيل دفع الثمن على أن يقبضه المشتري على دفعات.
__________
(1) "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية"، إسماعيل بن حماد الجوهرى -تحقيق: أحمد عطا عبد الغفور -المجلد الثالث- الطبعة الأولى: دار العلم للملايين، القاهرة، 1979.
(2) "مقومات الاقتصاد الإسلامى"، د. عبد السميع المصري: مكتبة وهبة -الطبعة الأولى 1975، ص 107 نقلًا عن كتاب "التجارة في الإِسلام" للدكتور عبد الغنى الراجحى.
(3) "درر الحكام شرح مجلة الأحكام"، المادة (157)، (3/ 110).
(4) "شرح المجلة"، منير القاضى، الجزء الأول، ص 280، الطبعة الأولى، مطبعة العانى 1949، وزارة المعارف.

(4/320)


وعليه، يمكن القول بأنه يوجد بين التأجيل والتقسيط علاقة عموم وخصوص مطلق، ففى كل تقسيط تأجيل، فالتأجيل هو العموم المطلق، وقد يكون في التأجيل تقسيط وقد لا يكون. فالتقسيط أخص من التأجيل (1).
المبحث الثاني: صورة المسألة:
أن بيع التقسيط يحقق مصلحة تعود على كل من البائع والمشترى، إذ تتمثل مصلحة البائع في تيسير السبل وفتح الأبواب لنفاق (*) سلعته وواجبها، أما المشترى فتظهر مصلحته في حصوله على السلعة التي تمس حاجته إليها, ولا يملك ثمنها في الحال، بأن يدفع ذلك الثمن مؤجلًا على دفعات تتناسب وقدراته المالية، علاوة على ما يعطيه الأجل من فرصة لإنماء المال أو كسبه فيدفع الثمن دون عنت أو إرهاق.
وعلى هذا، فصورة بيع التقسيط -والذي أخذ طابعًا من الشيوع والانتشار في عصرنا -تتم بأن يقصد المستهلك- لاسيما صاحب الدخل المحدود، والذي يحتاج إلى سلعة تسد حاجة من حاجاته أو توفر له أسباب العيش الكريم، أو تجلب له الكسب والنماء أحيانًا من غسالة أو ثلاجة أو سيارة وغير ذلك من الأدوات والآلات الكهربائية والميكانيكية والأثاث -يقصد- التاجر الذي يبيع هذه المواد بالتقسيط فيخبره بثمنها إذا أراد أن يدفع حالًا وثمنها إذا أراد أن يدفع مقسطًا، وهو طبيعة الحال أعلى من الثمن الحال، فإذا ما اختار المشترى الثمن المؤجل المقسط وتم الاتفاق على ذلك كانت تلك صورة بيع التقسيط الذي نحن بصدد الحديث عنه.
المبحث الثالث: مظان مسألة البيع بالتقسيط وأصولها:
لم يكن اصطلاح البيع بالتقسيط معروفًا عند علماء الشريعة والفقه الإسلامى قبل القرن الحالى، حيث عرف وشاع هذا النوع من البيع، ومن البديهى والأمر كذلك أن لا يكون للمصطلح وجود في كتب الحديث النبوى وهي إحدى المصادر الرئيسية التى يستقى منها الفقه أحكامه.
ولما كان الأمر كذلك، اقتضى أن نبين المواطن وأن نشير إلى المظان التي فيها جذور هذه المسألة وأصولها في مصادر الحديث والفقه.
__________
(1) "درر الحكام" (2/ 111).
(*) "المجلة: نَفَق البيع ينفق بالضم نفقًا، راج".

(4/321)


ففى كتب الحديث نجد أصل هذا النوع من البيع قد ورد في المواطن التالية:
أولًا: حديث نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة.
ثانيًا: حديث نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة بألفاظه المختلفة.
ثالثًا: الأحاديث التي تتضمن نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شرطين في بيع، أو بيع وشرط، أو بيع وسلف.
فقد ورد في شروح هذه الأحاديث ما يفيد أن من الصور التي تعنيها هذه الأحاديث: أن يبيع الرجل السلعة نقدًا بكذا، ونسيئة بكذا ... وهذا المعنى يعتبر أصل مسألة بيع التقسيط.
أما في كتب الفقه الإسلامى فنجد أصل مسألة بيع التقسيط يرد تحت عنوان "البيوع الفاسدة" أو "البيوع المنهي عنها" في كتب البيوع. أو في باب بيوع الآجال. فقد تناولت تلك الكتب في عداد حديثها عن البيوع المنهى عنها، البيوع التى ذكرت آنفًا في كتب الحديث وبيان الفقهاء لمعانى تلك الأحاديث، والتي تتضمن الصورة التي أسلفت وهي أن يقول البائع للمشترى: هذه السلعة حالًا بكذا، ومؤجلًا بكذا، ومن ثم، فإن إعطاء المسألة حقها من الوضوح والجلاء يستوجب الخطوات التالية:
1 - ذكر الأحاديث النبوية الشريفة التي تعتبر أهم مظان مسألة بيع التقسيط مع تخريجها بألفاظها المختلفة، وبيان درجتها من الصحة.
2 - إثبات عبارات أمهات كتب الحديث التي تناولت هذه الأحاديث بالبيان والشرح.
3 - إيراد عبارات الفقهاء في شرحهم لهذه الأحاديث عند كلامهم على البيوع المنهى عنها.
4 - استخلاص علة تحريم هذه البيوع كما وردت صريحة في عبارات علماء الفقه والحديث، مما يعني أن وجود العلة يقتضى المعلول وهو الحرمة، وانتفاءها يقتضى انتفاءه فتكون جائزة.
5 - الانتهاء إلى نتيجة مفادها أن بيع التقسيط جائز على ضوء تلك المقدمات أم غير جائز.
وبيان الأمور السالفة الذكر بصورة وافية يحتاج إلى بلورتها على النحو التالى:

(4/322)


المطلب الأول: نص الأحاديث النبوية وتخريجها:
الحديث الأول: ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (1).
الحديث الثاني: ما روى عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة (2).
الحديث الثالث: ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل سلف وبيع" ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما لم يضمن "ولا بيع ما ليس عندك" (3).
المطلب الثاني: معنى الأحاديث النبوية:
لما كنت بصدد التماس أصول مسألة البيع بالتقسيط والوقوف على مظانها، ألفيت ذلك مسوغًا لبيان ما تحمله عبارات العلماء -سواء شراح الحديث النبوى، أم مبينو معانيه من الفقهاء- من معان، حتى أتمكن في ضوئها من التعرف على تلك الأصول والمظان.
ومما هو جدير بالتنبيه عليه في هذا المجال أن لتلك الأحاديث الشريفة معانٍ
__________
(1) حسن: رواه مالك في "الموطأ" بلاغًا / 460، وأحمد في "مسنده" (2/ 432، 475)، والترمذي في "سننه"، وقال: حديث حسن صحيح (3/ 524)، والنسائي في "سننه" (2/ 226)، والبيهقي في "سننه" (5/ 343)، والبغوي في "شرح السنة" (8/ 142)، وابن حبان كما في موارد الظمآن رقم (1109)، وابن الجارود رقم (600)، والحديث أخرجه كذلك أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد صحيح (2/ 175).
كما أخرجه من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بلفظ "مطل الغنى ظلم، وإذا أحلت على ملىء فاتبعه، ولا بيعتين في بيعة" (2/ 71)، وبهذا اللفظ أخرجه الترمذى (3/ 52)، وابن ماجة رقم (2404)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/ 8 - 9) دون الجملة الأخيرة، والبزار في كشف الأستار بلفظ نهى عن بيعتين في بيعة (2/ 91)، والحديث أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه بلفظ "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" (7/ 192/ 2)، وعنه أبو داود في "سننه" (2/ 246)، وابن حبان كما فى موارد الظمآن (1110).
والحاكم في المستدرك: وقال: صحيح على شرط مسلم (2/ 45)، والبيهقي في "سننه" (5/ 343)، وصححه ابن حزم في المحلى (9/ 16)، وراجع "إرواء الغليل" (5/ 149).
(2) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (1/ 398)، والطبرانى في "الأوسط" (1633) وغيرهما. راجع: "مجمع الزوائد" (4/ 84 - 85)، و"إرواء الغليل" (5/ 148 - 149).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (4615)، وابن ماجة (2188) وغيرهم. وانظر: "إرواء الغليل" (5/ 146 - 148).

(4/323)


عديدة، بسطتها كتب الحديث والفقه، ولما كان ميدان هذا البحث هو بيع التقسيط فسوف أقتصر على المعنى الوثيق الصلة به منها، تحاشيًا للإطالة والإطناب، ونظرًا لكون تلك المعانى بعيدة أو عديمة الارتباط بموضوع البحث، هذا، مع العلم بأن تلك المعانى قد أشارت إليها المصادر التى سأعتمد عليه في القضية موضع البحث في نفس المكان لمن رغب في الوقوف عليها.
أولًا: معنى هذه الأحاديث عند علماء الحديث:
1 - حديث نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة.
قال الترمذى في بيان معناه: وقد فسر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، ونسيئة بعشرين, ولا يفارقه على أحد البيعتين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما. قال الشافعى: ومن معنى نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك دارى هذه بكذا على أن تبعنى غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجب لك دارى، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدرى كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته (1).
وبهذا المعنى فسره صاحب معالم السنن (2)، وصاحب بذل المجهود (3) وصاحب عون المعبود (4) وصاحب نصب الراية (5) وصاحب سبُل السلام (6)، وصاحب نيل الأوطار (7) وصاحب فتح العلام (8).
__________
(1) "الجامع الصحيح وهو سنن الترمذى"، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (3/ 524).
(2) "معالم السنن"، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابى ت 388 هـ، (3/ 123): المكتبة العلمية، ط 2، 1401 هـ، 1981 م.
(3) "بذل المجهود في حل ألفاظ أبى داود"، للشيخ أحمد السهارنغورى، (15/ 135): دار الكتب العلمية، الطبعة والتاريخ: بدون.
(4) "عون المعبود شرح سنن أبى داود"، للشيخ أبى الطيب محمد شمس الحق آبادى، (9/ 332): المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط 2، 1388 هـ، 1969 م.
(5) "نصب الراية لأحاديث الهداية"، لجمال الدين أبى محمد بن عبد الله بن يوسف الزيلعى ت 762 هـ: من مطبوعات المجلس العلمى -الهند، وطبع بمصر 1357 هـ، 1938 م، الطبعة الأولى.
(6) "سبل السلام شرح بلوغ المرام"، للإمام محمد بن إسماعيل الكحلانى ثم الصنعانى ت 1189 هـ (3/ 16) ط 4: مطبعة عيسى الحلبى.
(7) "نيل الأوطار منتقى الأخبار" للشيخ محمد بن علي الشوكانى (5/ 172): مكتبة ومطبعة الحلبى بمصر، الطبعة الأخيرة.
(8) "فتح العلام لشرح بلوغ المرام" (2/ 13): دار صادر -بيروت.

(4/324)


وجاء في الموطأ وشرح الزرقانى عليه: قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعة بدينار نقدًا أو بشاة موصوفة إلى أجل، حال كونه قد وجبت عليه -أى لزمه- بأحد الثمنين: أن ذلك مكروه لا ينبغى لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة، وهذا من بيعتين في بيعة فيمنع لذلك (1).
وقال النسائي: باب بيعتين في بيعة، هو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة دينار نقدًا، وبمائتى دينار نسيئة (2) وبمثله فسره البيهقى (3) والمناوى (4).
ما تقدم يتبين لنا بجلاء أن أكثر المعانى شيوعًا لهذا الحديث هو أن يذكر البائع للمشترى ثمنين أحدهما عاجل وآخر أكثر منه مقدارًا، وهذه الصورة هى الأساس لبيع التقسيط، وسيتضح ذلك ببيان علتاه.
2 - حديث نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة.
إن المتتبع لعبارات شراح الحديث لمعنى صفقتين في صفقة يجد أنها قد اقتصرت على تفسير سماك له، فقد روى أسود عن شريك عن سماك أنه قال: الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنساء (*) بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا.
وهذا المعنى هو الذي أورده أحمد في مسنده مع الفتح الربانى (5) كما نقله صاحب عون المعبود (6)، وصاحب منتقى الأخبار (7)، وصاحب نصب الراية (8).
__________
(1) "شرح موطأ مالك"، تأليف أبى عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقانى ت 1122 هـ، (4/ 271)، تحقيق ومراجعة: إبراهيم عطوة عوض: مكتبة مصطفى الحلبى، ط1، 1382 هـ -1962 م.
(2) "سنن النسائي" للحافظ أبى عبد الرحمن النسائي ت 303 هـ (7/ 60): مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبى، ط1، 1283 هـ -1964 م.
(3) "السنن الكبرى"، للإمام أبى بكر أحمد بن الحسين البيهقى (5/ 343)، ط1، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
(4) "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمحدث محمد المدعو عبد الرؤوف المناوى (6/ 308)، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، ط1، 1470 هـ.
(*) المجلة: النسيئة كالتفعيلة: التأخير، وكذا: النسا بفتح ومد.
(5) "الفتح الربانى لترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيبانى"، لأحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتى، (15/ 45) ط1، 1370 هـ.
(6) "عون المعبود" (9/ 332).
(7) "منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار"، لمجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحرانى المعروف بابن تيمية، ت 621 هـ وعليه "شرح نيل الأوطار" للشوكانى (5/ 172).
(8) "نصب الراية" لأحاديث الهداية (4/ 20).

(4/325)


وقال ابن أبي شيبة: أن يقول الرجل إن كان نقدًا فبكذا، وإن كان نسيئة فبكذا (1).
3 - حديث "شرطان في بيع"، "سلف وبيع"، "بيع وشرط":
أما "شرطان في بيع" فقد قال صاحب المنتقى شرح الموطأ في بيان معناه: أن يقول: بعت هذه السلعة نقدًا بكذا، وبكذا نسيئة (2)، وبمثله فسره النسائي (3)، كما نقل كل من صاحب عون المعبود (4) ونيل الأوطار (5) تفسير البغوي له بهذا المعنى، وبه فسره الإمام زيد (6) وصاحب فيض القدير (7).
أما صاحب سبل السلام (8) وصاحب فتح العلام (9) فقد أورد كل منهما تفسيرين أحدهما المتقدم، والثانى أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعنى السلعة الفلانية بكذا.
أما "سلف وبيع" فقد فسره صاحب فتح العلام: بأن يريد الشخص أن يشترى سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النساء، وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليعجله إليه حيلة (10). وبمثله فسره صاحب سبل السلام (11) وصاحب نيل الأوطار إلا أنه علق على هذا المعنى بقوله: والأولى تفسير الحديث بما تقتضيه الحقيقة الشرعية أو اللغوية أو العرفية أو المجاز عند تعذر الحمل على الحقيقة، لا بما هو معروف في بعض المذاهب غير معروف في غيره (12).
__________
(1) "مصنف ابن أبي شيبة" (8/ 2/192).
(2) "المنتقى شرح الموطأ"، للقاضى أبى الوليد سليمان بن سعد الباجى، (5/ 36)، الناشر: دار الكتاب العربى، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1403 هـ -1983 م.
(3) "سنن النسائي" (7/ 258).
(4) "عون المعبود" (9/ 403).
(5) "نيل الأوطار" (5/ 203).
(6) "مسند الإمام زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب - رضي الله عنهم -"، ص 260: منشورات مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، طبعة 1966.
(7) "فيض القدير" (6/ 332).
(8) "سبل السلام" (3/ 17).
(9) "فتح العلام" (2/ 13).
(10) نفس الكان.
(11) "سبل السلام" (3/ 17).
(12) "نيل الأوطار" (5/ 202).

(4/326)


مما تقدم من معانٍ أوردتها كتب الحديث لمعنى "بيعتين في بيعة"، "صفقتين في صفقة"، "شرطين في بيع"، يظهر لنا أن نتفق في معنى واحد وهو أن يبيع التاجر سلعته بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحاضر.
ثانيًا: معنى الأحاديث النبوية عند علماء الفقه:
وردت عن فقهاء مختلف المذاهب الإسلامية معانٍ للأحاديث الثلاثة المتقدمة، سأحاول فيما يأتى بيانها بالقدر الذي يسمح به المقام.
1 - في الفقه الحنفى:
قال صاحب المبسوط: وصفة الشرطين في بيع أن يقول: بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا (1). وبمثل هذا المعنى فسره صاحب تحفة الفقهاء (2)، وصاحب بدائع الصنائع (3)، وصاحب الفتاوى البزازية (4)، وصاحب حاشية الشلبى على الكنز (5) وصاحب فتح القدير (6) كما أن صاحب كتاب "اختلاف الفقهاء" قد أورد هذا المعنى عن أبي حنيفة وأصحابه (7).
2 - في الفقه المالكى:
جاء في الموطأ: قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعته بدينار نقدًا أو
__________
(1) "المبسوط" لشمس الدين السرخسى (7/ 8، 28): دار المعرفة، بيروت، ط 3 بالأوفست، 1398 هـ -1978 م.
(2) "تحفة الفقهاء" لعلاء الدين السمرقندى ت 529 هـ، (2/ 46): دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405 هـ، 1984 م.
(3) "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" لعلاء الدين الكاسانى ت 587 هـ، (6/ 3041)، الناشر: زكريا على يوسف.
(4) "الفتاوى البزازية، بهامش الفتاوى الهندية"، لحافظ الدين محمد بن شهاب المعروف بابن البزازات 827 هـ، (4/ 431)، الناشر: المكتبة الإسلامية، تركيا، ط 2: المطبعة الأميرية ببولاق، 1310 هـ.
(5) حاشية الشيخ شهاب الدين الشلبى على كنز الدقائق: دار المعرفة، بيروت، ط1 المطبعة الأميرية ببولاق 1314 هـ.
(6) "شرح فتح القدير على الهداية" للإمام كمال الدين بن الهمام، ت 681 هـ (6/ 446): مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبى، ط 1، 1398، 1979 م.
(7) "اختلاف الفقهاء" لأبي جعفر محمد بن جرير الطبرى (33): دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 2.

(4/327)


بشاة موصوفة إلى أجل، وقد وجبت عليه بأمر الثمنين أن ذلك مكروه لا ينبغى لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن بيعتان في بيعة، وهذا بيعتين في بيعة (1).
وبمثل هذا المعنى ورد تفسير الحديث في بداية المجتهد (2) والقوانين الفقهية (3) والكافى (4).
وجاء في مختصر خليل في ذكر البيوع المنهى عنها: وكبيعتين في بيعة يبيعها بإلزام بعشرة نقدًا أو أكثر لأجل.
وقد بينه صاحب "جواهر الإكليل" بقوله: (وكبيعتين فى بيعة) أي عقد واحد، في الموطأ نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، ومحمله عند مالك على صورتين أشار المصنف لإحداهما بقوله (يبيعها) أي مالك السلعة المعينة، (بشرط إلزام) للمشترى أو للبائع بالشراء، وأنه ليس له تركه على وجه يتردد فيه، ويحصل به الغرر كبيعها (بعشرة) من الدراهم مثلًا (نقدًا) أى حالة (أو) بـ (أكثر) منها كعشرين (لأجل) كشهر، ومفهوم بإلزام أنه لو كان بالخيار في الأخذ والترك جاز له ذلك (5).
وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الدردير في الشرح الكبير والدسوقى في حاشيته عليه (6) وصاحب التاج والإكليل (7)، وصاحب مواهب الجليل (8)، كما أورد صاحب كتاب اختلاف الفقهاء هذا المعنى عن الإمام مالك (9).
__________
(1) "الموطأ" (460).
(2) "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد القرطبى (2/ 133، 134): المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
(3) "القوانين الفقهية" لابن جزى المالكي ت 1346 هـ، ص 629، ط1: دار الفكر.
(4) "الكافي في فقه أهل المدينة المالكي" لأبى عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبى، (2/ 740) ط 2، (1400 هـ، 1980 م) مكتبة الرياض الحديثة.
(5) "جواهر الإكليل" للشيخ صالح عبد السميع الأبى الأزهرى وشرح مختصر خليل عليه (2/ 22): مطبعة عيسى الحلبى.
(6) "الشرح الكبير" لأبى البركات الشيخ أحمد الدردير بهامش حاشية الدسوقى عليه للشيخ شمس الدين محمد عرفة الدسوقى (2/ 58)، مطبعة عيسى الحلبى.
(7)، (8) "التاج والإكليل لمختصر خليل" لأبى عبد الله العبدري المشهور بالمواق ت 897 هـ بهامش مواهب الجليل لأبى عبد الله محمد المغربى المعروف بالخطاب ت 954 هـ (4/ 364، 365)، ط 2، 1398 هـ -1978 م.
(9) "اختلاف الفقهاء" (33).

(4/328)


3 - في الفقه الشافعى:
قال الإمام الشافعى فيما رواه المزنى في المختصر عنه في معنى بيعتين في بيعة، وهما وجهان، أحدهما: أن يقول بعت هذا العبد بألف نقدًا أو بألفين نسيئة، قد وجب لك بأيهما شئت أنا، أو شئت أنت، فهذا بيع الثمن فيه مجهول، وثانيهما: أن يقول: قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعنى دارك بألف (1)، والحديث بهذا المعنى ذكره صاحب المهذب (2) والتنبيه (3)، والنووى في المجموع (4)، والروضة (5) وشارحو المنهاج، كصاحب مغنى المحتاج (6) وصاحب نهاية المحتاج (7) وصاحب تحفة المحتاج (8) وشارحو المنهج، كصاحب فتح الوهاب (9) وحاشية البجيرمى (10) وحاشية سليمان الجمل (11). وقال الغزالى: أن يقول: بعتك بألفين نسيئة، وبألف نقدًا فخذ بأيهما شئت (12).
__________
(1) "مختصر المزنى" للإمام إبراهيم المزنى الشافعى بهامش كتاب الأم للشافعى (2/ 204): طبعة دار الشعب.
(2) "المهذب في فقه الإمام الشافعى" لأبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازى الفيروزآبادى ت 476 هـ (1/ 267)، الناشر: مكتبة عيسى البابى الحلبى بمصر.
(3) "التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعى" لأبى إسحاق الشيرازى (63)، الطبعة الأخيرة 1370 هـ: مطبعة مصطفى الحلبى.
(4) "المجموع شرح المهذب" لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى ت 676 هـ (9/ 372، 377)، الناشر: زكريا على يوسف.
(5) "روضة الطالبين" للإمام أبى زكريا محيى الدين النووى (3/ 397)، الناشر: المكتب الإسلامى للطباعة والنشر.
(6) "مغنى المحتاج إلى معرفة معانى ألفاظ المنهاج" للشيخ محمد الخطيب الشربينى ت 997 هـ (2/ 30): المطبعة التجارية الكبرى بمصر.
(7) "نهاية المحتاج شرح المنهاج" لمحمد أبى العباس أحمد بن حمزة الرملى ت 1004 هـ، (3/ 57)، مطبعة مصطفى الحلبى، الطبعة الأخيرة 1376 هـ -1967 م.
(8) "تحفة المحتاج وبهامشها حاشية الشروانى" لأبى حجر الهيثمى (4/ 294): المطبعة الوهبية - القاهرة.
(9) , (10) "فتح الوهاب بشرح الطلاب" للشيخ أبى زكريا الأنصارى بهامش حاشية البجيرمى على المنهج (2/ 209)، المطبعة التجارية الكبرى بمصر.
(11) "حاشية الشيخ سليمان الجمل على المنهج" (3/ 73)، المطبعة التجارية الكبرى بمصر.
(12) "الوجيز في الفقه الشافعى" للإمام محمد بن محمد الغزالى ت 505 هـ (1/ 38): مطبعة الآداب والمؤيد بمصر، 1317 هـ.

(4/329)


4 - في الفقه الحنبلى:
يقول صاحب "المغنى" وقد روى أبو هريرة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة".
... مثل أن يقول: بعتك دارى هذه على أن أبيعك دارى الأخرى بكذا، أو على أن تبيعنى دارك، أو على أن أؤجرك ... فهذا كله لا يصح " .. وقد روى في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر نسيئة .. وهو أيضًا باطل" (1).
وبمثل هذا المعنى فسره صاحب الفروع (2) وصاحب حب الإنصاف (3) وصاحب المقنع (4)، وصاحب التنقيح المشبع (5).
5 - تفسير علماء السلف وأصحاب المذاهب الأخرى للأحاديث:
لقد ورد عن علماء السلف الصالح من الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- ما يفيد أن هذه الأحاديث تعنى أن يقول: هو بنقدٍ كذا، وبنسيئةٍ كذا، فقد ورد هذا المعنى عن علي - رضي الله عنه - (6) وابن عباس - رضي الله عنهما - (7) وابن مسعود - رضي الله عنه - (8)، كما نقل مثله عن الأوزاعى وعطاء والثورى (9) والقاسم بن محمد (10) والشعبى وابن سيرين - رضي الله عنهم - أجمعين (11).
__________
(1) "المغنى لابن قدامة" أبى محمد عبد الله بن أحمد المقدسى، المتوفى 620 هـ (4/ 259): مكتبة الجمهورية العربية بمصر.
(2) "الفروع" لأبى عبد الله محمد بن مفلح المقدسى، ت 793 هـ (4/ 30): دار الطباعة بمصر، الطبعة الثانية، 1962 م.
(3) "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد"، لعلاء الدين أبى الحسن المرداوى (4)، ط1، 1378 هـ: مطبعة السنة المحمدية، القاهرة.
(4) "المقنع في فقه الإمام أحمد" لأبى محمد بن عبد الله بن قدامة المقدسى، (2/ 17)، الطبعة الثالثة، 1393 هـ.
(5) "التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع"، لعلاء الدين أبى الحسن المرداوى، ت 885 هـ (125): الطبعة السلفية بمصر.
(6) "الإسلام وثقافة الإنسان"، د. سميح عاطف الزين (378).
(7) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 193).
(8) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 138).
(9) "اختلاف الفقهاء" (31 - 33).
(10) "الموطأ" (460)، الزرقانى على الموطأ (271)، تنوير الحوالك شرح الموطأ (2/ 75).
(11) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 138).

(4/330)


وبهذا المعنى أيضًا فسره الظاهرية (1) والأباضية (2) والشيعة الزيدية (3).
مما تقدم من أقوال العلماء في معنى الأحاديث النبوية الشريفة الثلاثة يظهر أن هذه الأحاديث تفيد معنيين:
الأول: وهو أرجحهما، وأكثرهما ورودًا عند العلماء هو أن يقول البائع للمشترى بعتك هذه السلعة بسعر معجل بكذا، وبمؤجل كذا -وهو أصل مسألة بيع التقسيط.
الثاني: أن يقول للمشترى أبيعك كذا على أن تبيعنى أو تؤجرنى أو تقرضنى كذا.
المطلب الثالث: علة التحريم في البيوع المذكورة:
من خلال الحديث عن معنى "بيعتين في بيعة" و"صفقتين في صفقة" و"شرطين في بيع" و"بيع وسلف" تبين أن هذه الأنواع بمعانيها التي ذكرت منهى عنها بصريح وصحيح السنة النبوية، ولما كانت هذه البيوع تقع في إطار المعاملات المالية، فإن البحث عن علة التحريم يعتبر أمرًا مقبولًا شرعًا, ولما كانت القاعدة الشرعية تذهب إلى أن العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، فإن وقوفنا على تلك العلة يوضح لنا في أي الأحوال تكون تلك البيوع في دائرة الحظر -حال وجود العلة- وفي أي الأحوال تكون في إطار الإباحة -حال انتفاء العلة- وهذا ما سنحاوله فيما يأتى:
أولًا: علة النهى عند علماء الحديث:
أن المتتبع لعبارات كتب الحديث النبوى وشروحها العديدة يجد أن تحريم البيعتين في بيعة وما إليها من البيوع موضوع البحث مرده إلى جهالة الثمن الذي تم به البيع.
__________
(1) "المحلى" لأبى محمد بن محمد بن حزم الظاهرى ت 456 هـ (9/ 627): مكتبة الجمهورية العربية بمصر.
(2) "شرح النيل وشفاء الغليل"، لمحمد بن يوسف أطفيش، ت 1332 هـ، (4/ 74)، طبعة القاهرة، 1343 هـ. "الإيضاح" للشيخ عماد بن علي الشماخى، (3/ 70 - 72)، ط1: دار الفتح 1390 هـ - 1971 م.
(3) "البحر الزخار الجامع لمذاهب الأمصار"، لأحمد بن يحيى المرتضى بن مفضل الحسنى، ت 840 هـ (4/ 294)، ط 1، 1948: مؤسسة الرسالة، بيروت، شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار لأبى الحسن بن مفتاح (3/ 83، 84): دار إحياء التراث العربى، بيروت.

(4/331)


يقول الترمذى في سننه تعقيبًا على حديث النهى عن بيعتين في بيعة: وفسره بعضى أهل العلم، أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدًا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحدهما (1).
فهذا القول يفيد أن علة النهى هى جهالة المتعاقدين بالثمن، إذ يقبض المشترى السلعة ويفارق البائع دون أن يعين ما إذا كان الثمن المعجل أو المؤجل هو الذي تم به البيع، أما إذا انتفت العلة بأن حدد المشترى أي الثمنين يختار لإتمام العقد به فإن العقد يصح لانتفاء الجهالة المفضية إلى المنازعة.
وهذه العلة هى التي نص عليها الخطابى (2) والصنعانى (3) والشوكانى (4) وصاحب بذل المجهود (5) وفتح العلام (6).
ثانيًا: علة النهى عند الفقهاء:
قال السرخسى في شأن علة النهى "وإذا اشترى شيئًا إلى أجلين وتفرق على ذلك لم تجز ... وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما وأمضى البيع عليه جاز" (7) وقال في موضع آخر بعد بيان معنى بيعتين في بيعة .. فهو فاسد لأنه لم يقاطعه على ثمن معلوم .. فإن كانا يتراضيان بينهما ولم يفترقا حتى قاطعه على ثمن معلوم، وأتما العقد عليه فهو جائز، لأنهما ما افترقا إلا بعد تمام شروط الصحة" (8).
وهذا ظاهر في أن علة النهى عن بيعتين في بيعة وفي معناها هى عدم العلم بالثمن الذي تم عليه العقد، مما يعني أنه إذا انتفت العلة المذكورة وعلم الثمن يصح البيع.
وما ذهب إليه السرخسى هو ما ذهب إليه غيره من فقهاء الحنفية كعلاء الدين
__________
(1) "سنن الترمذى" (3/ 533).
(2) "معالم السنن" (3/ 123).
(3) "سبل السلام" (3/ 16).
(4) "نيل الأوطار" (5/ 172).
(5) "بذل المجهود" (15/ 136).
(6) "فتح العلام" (2/ 13).
(7)، (8) "المبسوط" (13/ 28، 13/ 8).

(4/332)


السمرقندى (1) وعلاء الدين الكاسانى (2) والسلبى في حاشيته على الكنز (3) والكمال بن الهمام (4).
2 - في الفقه المالكى:
ويبين علة النهى عندهم ما قاله الدسوقى في هذا الصدد: وهي أن يبيع السلعة بتًّا بعشرة أو أكثر لأجل معين، ويأخذها المشترى على السكوت، ولم يعين أحد الأمرين، ويختار بعد أخذها أحد الثمنين المعجل أو المؤجل، وإنما منع للجهل بالثمن حال البيع" (5).
وفي مواهب الجليل على مختصر خليل يقول في بيان العلة: (وكبيعها بالإلزام) أي بالإلزام للمتبايعين أو لأحدهما، فلا يجوز إلا إذا كان لهما الخيار معًا ... ويقول تعقيبًا على قول الدردير: وإنما قال بالإلزام احترازًا مما إذا باع ذلك على خيار لهما أو إحداهما فإن ذلك يجوز ويقول: شرط الجواز أن ينتفى الأمران أعنى اللزوم لهما أو لأحدهما" (6).
ومن خلال هذه العبارات يظهر لنا أن علة النهى عند المالكية تتراوح بين الجهل بالثمن وبين سد ذريعة الربا, ولذا اشترطوا أن لا يكون هناك إلزام للبائع أو المشترى وذلك لاحتمال أن يكون من له الخيار قد وقع في نفسه أن يختار الشراء بالثمن المعجل وعندها يلزمه ما اختاره، ولما كان شأن الإنسان أن يقع في التردد إذا كان أمامه فرصته للتأمل والاختيار فربما يخطر له أن يختار المؤجل بعد ذلك، فكأنه قد باع ما هو معجل بالمؤجل وبينهما فارق في الثمن، وهو ما يمكن أن يكون ذريعة إلى الربا، وهو ما عناه الإمام مالك بتعليله منع هذا البيع حين قال: لأنه إن أخر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل، وإن قصد العشرة كان إنما اشترى بها الخمسة عشر إلى أجل" (7).
__________
(1) "تحفة الفقهاء" (2/ 46).
(2) "بدائع الصنائع" (6/ 3083).
(3) "حاشية الشلبى على الكنز" (4/ 54).
(4) "فتح القدير" (6/ 262).
(5) "حاشية الدسوقى على الشرح الكبير" (2/ 58).
(6) "مواهب الجليل".
(7) "الموطأ" (460).

(4/333)


وهذه العلل أوردها غير من ذكرنا من فقهاء المالكية كالزرقانى (1) وابن جزى (2) والموّاق (3).
3 - في الفقه الشافعى:
المتتبع لعبارات فقهاء المذهب الشافعى يجد أنها تكاد تطبق على اعتبار الجهل بالثمن وإبهامه وعدم استقراره هى علة تحريم الأنواع التي نحن بصددها من البيوع سواء بطريق الصراحة أو الدلالة.
فأبو إسحاق الشيرازى يقول بعد بيان معنى بيعتين في بيعة .. فالبيع باطل لأنه لم يعقد على ثمن بعينه (4).
ويقول النووى: .. وهو باطل، أما لو قال: بعتك بألف نقدًا وبألفين نسيئة فيصح العقد (5) وإلى مثل هذا ذهب الشافعى (6) وابن الرفعة (7) والشيخ زكريا الأنصارى (8) والبجيرمى (9) وسليمان الجمل (10) والخطيب الشربينى (11) والرملى (12) وجلال الدين المحلى (13) وغيرهم.
4 - في الفقه الحنبلى:
إن علة النهى عن بيعتين في بيعة وغيرها من البيوع التي اعتبرناها أصولًا لمسألة البيع بالتقسيط تتمثل عند علماء الحنابلة بالجهل في الثمن وما يصاحبه من غرر أو مقامرة وما إليها .. يقول العبدري في شأن تلك العلة " .. لم يصح ما لم
__________
(1) "شرح الزرقانى على الموطأ" (4/ 270).
(2) "القوانين الفقهية" (269).
(3) "التاج والإكليل" (4/ 364).
(4) "المهذب" (1/ 267).
(5) "الروضة" (3/ 397).
(6) "مختصر المزنى" (2/ 204).
(7) "نيل الأوطار" (5/ 172).
(8) "فتح الوهاب" (2/ 209).
(9) "حاشية البجيرمى" (2/ 209).
(10) "حاشية الجمل" (3/ 73).
(11) "مغنى المحتاج" (2/ 30).
(12) "نهاية المحتاج" (3/ 57).
(13) "شرح الجلال المحلى على المنهاج" (2/ 177).

(4/334)


يتفرقا على أحدهما -الثمن المعجل والمؤجل- وهو المذهب نص عليه -يعني الإمام أحمد- وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم" (1).
ويقول ابن القيم "وليس هاهنا ربًا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار ولا شىء من المفاسد .. " (2).
وإلى هذه العلة ذهب ابن قدامة في المغنى (3) والمقنع (4) وابن مفلح المقدسى (5) والبهوتى (6) وغيرهم.
5 - العلة عند السلف من الصحابة والتابعين، والمذاهب الأخرى، وبعض المعاصرين:
لقد ذهب كثير من علماء السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم- إلى أن علة النهى عن بيعتين في بيعة وما إليها من البيوع المنهى عنها هى الجهل بالثمن الذي تم عليه العقد -صراحة أو دلالة- يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لا بأس أن يقول للسلعة هى بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا, ولكن لا يفترقان إلا عن رضى" (7)، أى بأحد الثمنين.
ويقول الأوزاعى: "لا بأس بذلك -بيعتين في بيعة- ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد الثمنين" (8) وإلى مثل هذا ذهب أبو عبيد والثورى (9) والزهرى وطاوس وقتادة وسعيد بن المسيب (10) والحكم وحماد (11).
__________
(1) "الإنصاف" (4/ 350).
(2) "إعلام الموقعين" لأبى عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية ت 751 هـ (3/ 150)، ط 8: مكتبة ومطبعة عبد السلام شقرون.
(3) "المغنى" (4/ 295).
(4) "المقنع" (2/ 17).
(5) "الفروع" (4/ 30).
(6) "كشاف القناع عن متن الإقناع" للشيخ منصور بن يونس البهوتى، (3/ 174): مكتبة الرياض الحديثة.
(7) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 20).
(8) "معالم السنن" (3/ 12)، "اختلاف الفقهاء" (32).
(9) "نيل الأوطار" (5/ 172).
(10) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 136 - 138)، للحافظ أبى بكر عبد الرزاق الصنعانى ت 211 هـ ط1: منشورات المجلس العلمى.
(11) "أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك" للشيخ محمد زكريا الكاندهلوى (11/ 291): المكتبة الإعدادية -مكة- دار الفكر، بيروت.

(4/335)


وبهذا المعنى علله فقهاء الشيعة (1) والأباضية (2) وصاحب الروضة الندية (3) وصاحب كتاب "المعاملات في الإسلام" (4)، و"منهاج المسلم" (5).
وفي ضوء ما ذكرنا من أقوال علماء المذاهب الفقهية المختلفة في تقصى علة عدم جواز البيعتين وما إليها، ظهر لنا بكل جلاء أن العلة عندهم -على تفاوت عباراتهم- لا تخرج عن جهل الثمن الذي تم العقد عليه، أو سد ذريعة الربا كما عند المالكية.
وعليه، فإذا ارتفعت هذه العلة من بيع التقسيط بحيث يذكر البائع للمشترى ثمنين: أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه، فيختار المشترى واحدًا منهما بعينه قبل التفرق من مجلس العقد فإن هذا البيع يكون جائزًا شرعًا.
المطلب الرابع: حكم البيعتين فى بيعة:
لقد ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى أن بيعتين في بيعة باطل أو فاسد (6) ولم يشذ عن القول ببطلانه إلا نفر من الفقهاء كطاوس والحكم وحماد، وقد نقلنا عن غير واحد من العلماء قوله أن كلامهم
__________
(1) "شرائع الإسلام فى مسائل الحلال والحرام"، لأبى بكر القاسم نجم الدين الشيعى الجعفرى ت 676 هـ/ 26، القسم الثاني، في العقود، الفصل الرابع، شرح الأزهار (3/ 83، 84).
(2) "الإيضاح" (3/ 70 - 72)، "البيان الشافى في البرهان الكافي" (1/ 387).
(3) "الروضة الندية شرح الدرر البهية" لأبى الطيب صديق بن حسن بن علي الحسينى التنوجى (2/ 105): دار المعرفة، بيروت.
(4) "إن الدين عند الله الإسلام"، المعاملات في الإسلام، أحمد عبد الجواد (3/ 41)، مطبعة محمد هاشم الكتبى، دمشق.
(5) "منهاج المسلم" لأبى بكر الجزائرى (320)، الطبعة الثامنة، 1396 هـ، 1976 م: دار الفكر، بيروت.
(6) البيع الباطل هو ما كان غير مشروع لا بأصله ولا بوصفه، والفاسد ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه. ويكون البيع باطلًا إذا أورث خللًا في ركن البيع، ويكون فاسدًا إذا أورثه في غيره كالتسليم والتسلم الواجبين به، والانتفاع المقصود منه، وعدم الإطلاق عن شرط لا يقتضيه وغير ذلك، والباطل لا يفيد ملك الرقبة ولا ملك التصرف، ولا ينقلب صحيحًا بحال، أما الفاسد فلا يفيد ملك الرقبة ولكنه يفيد ملك التصوف قبل فسخ العقد، فهو وإن أفاد الملك وهو مقصود في الجملة، لكنه لا يفيد تمامه، إذ لم ينقطع به حق البائع من البيع، ولا المشتري من الثمن، فلكل منهما حق الفسخ، ولكنه ينقلب صحيحًا بالقبض وبتعيين المدة أو الثمن، فالفاسد إذن تلحقه الإجازة بحذف المفسد قبل اتصاله بالعقد.
انظر: فتح القدير، والعناية على الهداية (6/ 401، 402).

(4/336)


محمول على ما إذا جرى بين المتعاقدين بعد العقد ما يدل على الاتفاق على أحد الثمنين، فكأن المشترى قال للبائع بعد ذكر الثمنين: اخترت المعجل أو المؤجل، فقال البائع: أجزت أو رضيت، وحينئذ فلا خلاف بين الجمهور وبين هذه الطائفة من العلماء في القول بصحة العقد.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية تحت عنوان: الاعتياض عن الأجل بالمال؛ الصورة الأولى: صدور إيجاب مشتمل على صفقتين إحداهما بالنقد والأخرى بالنسيئة مثل أن يقول: بعتك هذا نقدًا بعشرة، وبالنسيئة بخمسة عشر.
يرى جمهور الفقهاء أن هذا البيع إذا صدر بهذه الصيغة لا يصح لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة، وجاء في الشرح الكبير (كذا فسره مالك والثورى وإسحاق وهذا قول أكثر أهل العلم, لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين، ولأن الثمن مجهول فليس يصح كالبيع بالرقم المجهول) وقد روى عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا فيذهب إلى أحدهما فيحتمل أنه جرى بينهما بعد ما يجرى في العقد فكأن المشترى قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال: خذه أو قال: قد رضيت ونحو ذلك فيكون عقدًا كافيًا، فيكون قولهم كقول الجمهور " ... فعلى هذا إن لم يوجد ما يدل على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصح, لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابًا" (1).
ما تقدم هو حكم البيعتين في بيعة من حيث الحل والحرمة والصحة والبطلان، ولما كان هذا البيع حرامًا باطلًا كان واجب الفسخ، ولا يترتب عليه أثره، ولكن لو تفرق البائع والمشترى وقد قبض المشترى السلعة، فما هو الأثر المرتب على ذلك فيما لو هلكت العين البيعية أو استهلكت أو تغيرت؟
والجواب على هذا السؤال نجده في ثنايا حديث نبوى شريف أخرجه أبو داود في سننه -وقد مر بنا نصه وتخريجه عند التعرض للأحاديث النبوية التي تصلح مناطا لبيع التقسيط- فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكَسُهما أو الرِّبا".
__________
(1) "الموسوعة الفقهية"، وزارة الأوقاف، الكويت (2/ 38)، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م، مطبعة الموسوعة الفقهية.

(4/337)


فمن العلماء من أخذ بظاهر الحديث ورتب على هذه الصورة من البيع أثرًا:
فقد روى عن الأوزاعى أنه قال وقد سئل عن معنى بيعتين في بيعة -وهو أن يقول هو نقدًا بكذا ونسيئة بكذا-: لا بأس بذلك ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد المعنيين. فقيل له: فإن ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين فقال: هى بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين (1).
وروى عن محمد بن سيرين أنه قال: شرطين في بيع، أبيعك إلى شهر بعشرة، فإن حبسته شهرًا فتأخذ بعشرة قال شريح: أقل الثمنين وأبعد الأجلين أو الربا (2).
وبه قال طاوس: فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرنا معمر وابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه: إذا قال بكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا فوقع البيع على هذا فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين (3).
ومن جهة أخرى، فقد قال الإمام الذهبي إن محمد بن عمرو -راوى الحديث- شيخ مشهور، أخرج له الشيخان متابعة، وقد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس (4).
وقد أجاب جمهور العلماء عن الحديث الذي استدل به القائلون بأنه إذا تم البيع بصورة بيعتين في بيعة أن للبائع أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين بأجوبة منها:
1 - أن في صحة الحديث مقالًا، قال المنذرى: في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، والمشهور من رواية الدراوردى ومحمد بن عبد الله الأنصارى "أن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة" (5).
2 - أن الحديث على فرض صحته فعنه أجوبة منها:
(أ) يجاب عما قاله الأوزاعى بما قاله الخطابى وغيره: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحيح البيع بأوكس الثمنين إلا شىء يحكى
__________
(1) "معالم السنن" (3/ 123)، "بذل المجهود" (15/ 135)، "اختلاف الفقهاء" (32)، "سنن أبى داود" (3/ 533).
(2) "المحلى" (9/ 628).
(3) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 137 - 138).
(4) "معالم السنن" (3/ 123).
(5) "نيل الأوطار" (5/ 174).

(4/338)


عن الأوزاعى. وهو مذهب فاسد، وذلك لما يتضمنه هذا العقد من الغرر والجهل" (1).
وأما قول شريح فيجاب عنه بأنه محمول على معنى آخر ذكره ابن حزم فقال: فإن حبسته شهرًا آخر فتأخذ عشرة أخرى (2).
(ب) ما ذكره الخطابى وغيره: أن ما رواه يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود يشبه -يحتمل- أن يكون ذلك في حكومة في شىء بعينه: كأنه أسلفه دينارًا في قفيزين إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له: بعنى القفيز الذي لك على بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيردان إلى أوكسهما -أقلهما- وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل أن يتقابضا -قبل فسخ البيع الأول- كانا مربيين (3).
فهذا القول يفيد أن الربا هو من باب بيع الدين بالدين، لأن البائع باع المشترى الدَّين الذي له عليه بثمن أكثر وهو منهى عنه، لأنه من باب بيع "الكالئ بالكالئ" وقد نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من الربا.
(جـ) أن الحديث من باب بيع الدين بالدين كما يفهم من قول ابن الأثير في النهاية حيث فسر الحديث بقوله: أن يستلف الرجل من الرجل مالًا فيعطيه سلعة إلى أجل، فإذا حل الأجل وطالب بالوفاء قال: بعنى تلك السلعة إلى أجل آخر وأزيدك، ولا يجرى بينهما تقابض، فصار بذلك بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا، وهذا هو بيع الدَّين بالدَّين، كأنه أسلفه دينارًا في صاع بر مثلًا إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له بعنى الصاع بصاعين إلى شهرين فهذا بيع ثان ودخل في الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أقلهما وهو الصاع، وإلا كان الثاني ربا للتفاضل، أو كأنه باعه دينًا بدين وهو الكالئ بالكالئ المنهى عنه (4).
(د) أن الحديث محمول على ما إذا استهلك المشترى للبيع كله أو بعضه:
ففى بذل المجهود: وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه -
__________
(1) "معالم السنن" (3/ 122)، "بذل المجهود" (15/ 134)، "عون المعبود" (9/ 322).
(2) "المحلى" (9/ 629).
(3) "معالم السنن" (3/ 122)، "بذل المجهود" (15/ 135)، "المجموع" (9/ 372).
(4) "التاج الجامع للأصول" (2/ 206)، "المعاملات في الإسلام" (3/ 45)، النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ت 606 هـ (5/ 219)، تحقيق: محمد محمد طناجى، الناشر: المكتبة الإسلامية.

(4/339)


الخطابى - رضي الله عنه - قوله: من باع بيعتين ... ظاهره مخالف للمذاهب كلها إلا أن يقال فى معناه: أن من باع شيئًا على أنه بخمسة إن كان ناجزًا، أو بعشرة إن كان نسيئة ثم افترقا من غير أن يتعين أحدهما فهذا البيع فاسد لكونهما افترقا قبل تعيين الثمن، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة، وكان الحكم فيه الفسخ، إلا أن المشترى استهلك المبيع أو أكله فلا يجب فيه إلا المثل أو القيمة؛ وهو أوكس عادة من الثمن المتعين بينهما في البيعتين معًا، فصار المعنى أنه من باع بيعتين كذلك ثم لم يبق المبيع حتى يفسخ البيع فله أن يأخذ القيمة أو المثل ويأخذ الثمن لأنه أخذ الثمن كان إبقاء للبيع وهو مأمور بفسخه، وأما إذا أخذ الثمن ولم يفسخ فقد أربى لكونه عقد عقدًا فاسدًا، والعقود الفاسدة كلها داخلة في حكم الربا (1).
ويؤيد حمل الحديث على هذا المعنى ما نقله ابن جرير الطبرى عن الثورى أنه قال: إن بعت بيعًا فقلت: هذا بالنقد بكذا. وبالنسيئة بكذا فذهب المشترى فهو بالخيار في البيعتين، وإن لم يكن وقع بيعك على أحدهما فهو مكروه وهو بيعتان إلى بيعة، وهو مردود وهو الذي ينهى عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته وإن قد استهلك ذلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين (2).
وروى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر بعد أن ذكر قول طاوس الذي تقدم قبل قليل أنه قال: وهذا إذا كان المبتاه قد استهلكه (3).
(هـ) ما قاله صاحب نيل الأوطار في معرض رده على المبطلين للبيع مؤجلًا مع زيادة الثمن لأجل التأجيل: لأن ذلك التمسك هو الرواية الأولى من حديث أبى هريرة: "من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا" وقد عرفت ما في راويها من المقال، ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهى عن بيعتين في بيعة ولا نتيجة فيه على المطلوب. ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوى صالحة للاحتجاج لكن احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان -أبيعك كذا شريطة أن تبيعنى كذا- قادحًا في الاستدلال بها على التنازع فيه على أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة -وهي أن يقول نقدًا بكذا ونسيئة بكذا- إلا إذا قال من أول الأمر نسيئة
__________
(1) "بذل المجهود" (15/ 135).
(2) "اختلاف الفقهاء" (32).
(3) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 137، 138).

(4/340)


بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى (1).
(و) ما قاله ابن حزم الظاهرى: هذا الخبر صحيح إلا أنه موافق لمعهود الأصل، وقد كان الربا وبيعتان في بيعة والشروط في البيع كل ذلك مطلقًا غير حرام إلى أن حرم كل ذلك، فإذا حرم كل ما ذكرنا فقد نسخت الإباحة بلا شك، فهذا خبر منسوخ بلا شك بالنهى عن البيعتين في بيعة، فموجب إبطالهما معًا لأنهما عمل منهى عنه (2).
(ز) ما قاله ابن القيم أن الحديث لا يحمل على الصورة المعروفة وهي أن تكون السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا حيث يقول: "أنه - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن بيعتين في بيعة، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر، وهو الذي لعاقده أوكس البيعتين أو الربا في الحديث الربا. وذلك سدًا لذريعة الربا، فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة ثم اشتراها بمائتين حالة فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ الثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهو من أعظم الذرائع عن الربا، وأبعد كل البعد عن حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة" (3).
ويبدو أن المالكية لهم رأى آخر في المسألة وهو أن المشترى إذا قبض المبيع في صورة البيعتين في بيعة، فإن البائع يعطى قيمة المبيع نقدًا, ولا يعطى أقل الثمنين إلى أقصى الأجلين.
فقد نقل عن مالك قوله: من باع سلعة بدينار نقدًا أو بدينارين إلى شهر فسخ ذلك، وردت إلى قيمتها نقدًا, ولا يعطى أقل الثمنين إلى أقصى الأجلين (4).
وقال صاحب الكافى: "وإن قبضت السلعة وفاتت، رد قابضها قيمتها يوم قبضها بالغة ما بلغت واتبع ذلك بقوله: وهذا كله قول مالك وأصحابه" (5).
ووجه ما قاله المالكية: أن السلعة لم يقع شراؤها على شىء بعينه بقطع أو بخيار، وإنما إذا وقع على مالًا يدرى أى السلعتين يختار، وقد وجبت إحداهما، فحيث قبضها وتعذر ردها وجبت قيمتها.
__________
(1) "نيل الأوطار" (5/ 173).
(2) "المحلى" (9/ 629).
(3) "إعلام الموقعين" (3/ 150)، "الوجه" (62).
(4) "اختلاف الفقهاء" (32).
(5) "الكافى"، المجلد الثاني (740).

(4/341)


وخلاصة الأمر في حكم بيعتين أنها من البيوع المنهى عنها المحكوم ببطلانها واستحقاقها الفسخ إذا وقعت بالصورة التي لا يعلم فيها الثمن، وهذا رأى عامة الفقهاء.
أما من حيث حكمها إذا حدث قبض بموجبها فجمهور الفقهاء يرون أن البيع الباطل لا ينتج أثرًا، وأنه لا يصح الأخذ بظاهر حديث أبى داود, لأن العمل بظاهره يفيد أن البيع صحيح إذ هو الذي ينتج آثارًا ويرتب حقوقًا, ولذلك وجهوا إلى الحديث المطاعن التي ذكرنا في صحته من جهة، وفي صلاحيته للاحتجاج به على المطلوب، والتمسوا له التأويلات التي تقدمت على فرض صحته انسجامًا مع الحقيقة الشرعية التي تأبى أن ترتب على العقد الباطل آثارًا، وتمكينًا للبائع من الوصول إلى حقه الذي ذهب بتعذر استرداد العين التي باعها بموجب عقد البيعتين في بيعة المنهى عنه شرعًا.
وقد نازع بعض الفقهاء في هذه الحقيقة بناء على ثبوت الحديث عندهم، وعملهم بظاهر معناه.
وبعد النظر في أدلة الفريقين، وما صوّبه الجمهور إلى أدلة مخالفيهم من طعون عملت على إيهانها، وعجزها عن الانتهاض للاحتجاج بها على مدعاهم، أرى أن الحق فيما قال الجمهور، والله تعالى أعلم.
المبحث الرابع: حكم البيع بالتقسيط:
تمهيد: بعد أن تتبعنا أقوال العلماء في بيان معنى الأحاديث الثلاثة وعلتها انتهينا إلى النتائج التالية:
1 - أن تلك الأحاديث تصلح أن تكون موطنًا مناسبًا ومظان ملائمة للبحث في مشروعية البيع بالتقسيط. وذلك لأنها تشترك من حيث معناها في صورة هى أصل ذلك البيع والمتمثلة بقول البائع للمشترى أبيعك هذه السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا.
2 - أن تحريم هذه البيوع يستند إلى علة تتمثل في جهل المتعاقدين بالثمن، وسد ذريعة أن يكون هذا البيع طريقًا إلى الربا المحرم.
فالقول بعدم صحة هذه البيوع مجردة إلى أن الصيغة الصادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد، فلم يجزم البائع ببيع واحد، وأن الثمن مجهول، هل هو

(4/342)


المعجل أم المؤجل؟ وإذا كان الإيجاب غير جازم لا يصلح، ويكون عرضًا، فإذا قبل الموجه إليه العرض إحدى الصفقتين كان إيجابًا موجهًا إلى الطرف الأول فإن قبل تم العقد، وإلا لم يتم العقد (1).
في ضوء ما تقدم كنا نتوقع أن يكون البت في الحكم الشرعى لبيع التقسيط أمرًا ميسورًا يكفى فيه التثبت من وجود العلة المذكورة، فيحكم بالجواز في الحالة الأولى وبالبطلان في الحالة الثانية.
ولكن حكمة الله ورحمته بعباده التي كان اختلاف عقول البشر عامة وعلماء الفقه خاصة مظهرًا من مظاهرها اقتضتا أن تعمل تلك العقول -التي تحررت من قيود الخوف والرهبة، فانطلقت تلتمس الحقيقة في هدى نور الله- فيما بين يديها من النصوص تأملًا وترديد فكر، فيكون نتاج ذلك ثمرات خيرة من الأفكار والآراء والأحكام المتباينة في خط سيرها المتفقة في هدفها ألا وهو نشدان مرضاة الله عز وجل، والتمكين لشريعته في الأرض .. وإذا بنا نتيجة لذلك أمام آراء لا رأى، وبصدد أحكام لا حكم واحد في هذه المسألة، وأبرز تلك الأحكام:
1 - أن بيع التقسيط غير جائز شرعًا.
2 - أن بيع التقسيط جائز شرعًا.
3 - رأى وسط يذهب إلى عدم القول بجوازه أو عدم جوازه مطلقًا بل يرى أنه مكروه، وشبهة الأولى اتقاؤها.
وممن قال بعدم الجواز، وأنه لا يصح زيادة الثمن في مقابل تأجيل قبض الثمن: زين العابدين، علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى، وأبو بكر الرازى الجصاص الحنفى (2).
أما القول بجواز بيع التقسيط، وبأن أخذ زيادة في السعر مقابل التأجيل أمر
__________
(1) "مجلة المسلم المعاصر"، ص 89 ع 308، ربيع الثاني 1404 هـ، الموسوعة الفقهية، الكويت (2/ 38).
(2) "نيل الأوطار" (5/ 173)، "شرح الأزهار" (3/ 84)، "تفسير أحكام القرآن" لأبى بكر الجصاص (2/ 187)، تحقيق: محمد الصادق قمحاوى، الناشر: دار الصحف بالقاهرة، الإمام زيد للشيخ محمد أبو زهرة (293) وما بعدها: المكتبة الإسلامية، بيروت، الروضة الندية (106).

(4/343)


يقره الشارع فهو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وبه قال زيد بن علي والمؤيد بالله والمهدى والمفتى من شيعة آل البيت (1).
أما القول الثالث الذي اتخذ موقفًا وسطًا بين القولين السابقين فهو ما ذهب إليه د. رفيق المصري في كتابه "مصرف التنمية الإسلامى" (2).
وقد لخص الشيخ أبو زهرة سبب الخلاف بين المجيزين والمانعين بقوله "ويعود سبب الخلاف لأجل الزيادة، أتعد الزيادة في مقابل الأجل كالزيادة في الدين في نظير الأجل أم لا تعد؟ فالذين قاسوا الزيادة في مقابل الأجل على الزيادة في الدين في نظير الأجل وجعلوهما صورة واحدة قالوا بالحرمة، وأما الذين فرقوا بينهما فقالوا بالحل" (3).
المطلب الأول: أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط:
استدل القائلون بأن بيع التقسيط لا يصح شرعًا بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والمعقول، فمن القرآن الكريم استدلوا بقوله سبحانه وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4) فهي تفيد تحريم البيوع التي يؤخذ فيها زيادة مقابل الأجل لدخولها في عموم كلمة الربا (5).
كما استدلوا بقوله عز شأنه: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (6).
__________
(1) "الأم" (3/ 15)، "نيل الأوطار" (5/ 173)، "فقه السنة" السيد سابق (3/ 141)، دار الفكر، الطبعة الثالثة، "الروضة الندية" (2/ 106)، "شرح الأزهار وهوامشه" (3/ 84)، "البهجة شرح التحفة" (2/ 7)، "الموسوعة الفقهية الكويتية" (2/ 39)، "التاج الجامع للأصول" (206)، "الإمام زيد" (293، 294)، "الحلال والحرام"، د. القرضاوى، (259) ط13: المكتب الإسلامى 1400 هـ -1980 م، "المبسوط" (3/ 8)، "حاشية الطحاوي على الدر المختار" (3/ 97)، "تبيين الحقائق" (4/ 79)، "المدونة" (4/ 151)، "مجموعة فتاوى ابن تيمية" (29/ 502)، "الدسوقى على الشرح الكبير" (3/ 65).
(2) "مصرف التنمية الإسلامى"، د. رفيق المصري، (189، 190): مؤسسة الرسالة 1397 هـ، 1977 م.
(3) "الإمام زيد" أبو زهرة، (293).
(4) سورة البقرة: 275.
(5) "الإمام زيد" (293)، بحوث في الربا، محمد أبو زهرة (48): دار الفكر العربى.
(6) سورة النساء: 29.

(4/344)


فقد جعلت الآية الرضا شرطًا لحل الكسب والربح في المبادلات التجارية، وإلا كان ذلك الكسب حرامًا وأكلًا لأموال الناس بالباطل، وعامل الرضا غير متوفر في البيع بالتقسيط, لأن البائع مضطر للإقدام عليه ترويجًا للسلعة، والمشترى مضطر له رغبة في الحصول على السلعة التي تمس حاجته إليها ولا يملك ثمنها حالًا، فيرغم على دفع الزيادة مقابل الأجل (1).
أما من السنة النبوية فاستدلوا بأحاديث منها:
نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - عن صفقتين في صفقة وقد مر معنا ما رواه أحمد عن سماك في تفسير الحديث بقوله: هو الرجل يبيع الرجل فيقول: هو بنساء كذا، وهو بنقد بكذا وكذا.
وقد علق الشوكانى على ذلك بقوله: وفي هذا التفسير متمسك لمن قال "يحرم بيع الشىء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء" (2).
كما استدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا، وهذا يعني أن من باع يأخذ زيادة مقابل الأجل يكون قد دخل في الربا المحرم إذا لم يأخذ الثمن الأقل.
وهذا يفيد أنه لا يجوز للبائع أن يبيع سلعته بأكثر من سعر يومها تجنبًا للوقوع في ربا النسيئة (3).
قال صاحب الروضة الندية: فالحديثان -حديث ابن مسعود وحديث أبى هريرة- قد دلا على أن الزيادة لأجل النساء ممنوعة، ولهذا قال: فله أوكسهما أو الربا "والأعيان التي هى غير ربوية داخلة في عموم الحديثين" (4).
واستدلوا كذلك بما أخرجه أبو داود في سننه عن محمد بن عيسى بن هشيم عن صالح بن عامر -كذا قال محمد- قال: حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا على أو قال: قال على: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك (5).
__________
(1) "الإمام زيد" محمد أبو زهرة، (294)، دار الفكر العربى: أبرز صور البيوع الفاسدة، د. محمد وفاء (48): مطبعة السعادة، 1404 هـ، 1984 م.
(2) "نيل الأوطار" (5/ 173).
(3) أبرز صور البيوع الفاسدة (37).
(4) "الروضة الندية" (2/ 106).
(5) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3382).

(4/345)


قالوا: وبيع التقسيط من بيع المضطر، لأنه لا يقبل بالزيادة لأجل المدة إلا المضطر في الغالب. ويؤيد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض" (1) وهو يفيد أن البيع الجائز شرعًا ما توفر فيه عنصر الرضا من التعاقدين بإجراء العقد، ولا رضا مع الاضطرار والإكراه فيكون البيع باطلًا. وعليه، فالبائع بأجل والمشترى إلى أجل كلاهما مضطر للبيع ولا يصدق عليهما قوله سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض".
أما من المعقول فاستدلوا بأمور منها:
أن الزيادة في الثمن المؤجل هى من باب الربا واستدلوا لقولهم هذا بما يأتى:
1 - أن الزيادة في الثمن هى في نظير الأجل والتأخير، إذ لم يقابلها إلا المدة والتنفيس بالأجل فقط، ومتى كانت الزيادة كذلك فهي زيادة من غير عوض، فتنطبق عليها كلمة (الربا)، وتتناولها أدلة تحريم الربا وتندرج تحتها (2).
2 - أن القول ببطلان البيع بأكثر من الثمن إلى أجله خشية أن يكون ذريعة إلى الربا، فيكون بمنزلة جارية نقدًا وعشرة دنانير إلى شهرين بعشرين دينار إلى شهرين (3).
3 - أن الزيادة مقابل الأجل هى من باب الشرطين في بيع وسلف وبيع: وصفة الشرطين في بيع كما تقدمت: أن يقول المبيع بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا وذلك غير جائز. والبيع مع السلف أن يبيع منه شيئًا ليقرضه أو يؤجله أو الثمن ليعطيه على ذلك ربحًا.
يقول د. عبد السميع المصرى بعد أن نقل التفسيرين المتقدمين عن المبسوط "وظاهر مما تقدم عن صاحب المبسوط أن العلة في عدم الجواز في الصورتين عند الأحناف -الحنفية- هى الربا، لأنه في الصورة الأولى جعل الأجل في الثمن مقابلًا بالزيادة فيه صراحة فهي زيادة في الدَّين بغير عوض، وهي معنى الربا. وفي الصورة الثانية يحتال على الربا في القرض ببيع شيئًا مع المحاباة في ثمنه بمقابل القرض" (4).
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجة في سننه (2185)، وسنن البيهقى (6/ 17).
(2) "شرح الأزهار" (3/ 74)، "بحوث في الربا" (48)، "الإمام زيد" (293، 294).
(3) الحجة.
(4) "مقدمات الاقتصاد الإسلامى" (108)، عن كتاب "نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية"، لإبراهيم زكى الدين بدوى (214).

(4/346)


ويتابع قائلًا: "ولا شك عندي في أن هذا هو روح الشريعة الإسلامية، وهو الغاية من تحريم الربا في الإسلام، لأن الزيادة في الثمن هى مقابل الأجل في التقسيط أى مقابل استغلال حاجة المشترى الضعيف بينما الإسلام دين الرحمة والإخاء والتعاون، يقول سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1).
وإذا لم يتعادل سعر النقد والتقسيط فقد ذهبت عدالة التوزيع ... ولم يستطع ذو الدخل الصغير أن ينال حظه من الرفاهية ... " (2).
4 - القياس على إنقاص الدين عن المدين مقابل تعجيل الدفع، إذ لا فرق بين إنقاص الثمن مقابل إنقاص المدة، وبين زيادة الثمن مقابل زيادة المدة، أولًا فرق بين أن نقول سدد الدين أو نزد في نظير الأجل، وأن تبيع بزيادة في الثمن لأجل التأجيل، فالمعنى فيهما أن الأجل له عوض وهو بمعنى الربا (3).
وبيان ذلك كما قاله أبو بكر الجصاص "أنه لو كان لرجل على آخر ألف درهم دين مؤجلة فصالحه منها على خمسمائة حالة فلا يجوز، لما روى عن ابن عمر أنه سئل عن الرجل يكون له على الرجل الدَّين إلى أجل فيقول له: عجل لي وأضع عنك فقال: هو ربا. وروى عن زيد بن ثابت أيضًا النهى عن ذلك، وهو قول سعيد بن جبير والشعبى والحكم، وقول أصحابنا وعامة الفقهاء. ومما يدل على بطلانه تسمية ابن عمر إياه ربا، وأسماء الشرع توقيف. ولأنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلًا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلًا من الأجل فأبطله الله وحرمه وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (4).
وقال: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (5)، حظر أن يؤخذ للأجل عوض، فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله، فإنما جعل الحط مقابل الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله على تحريمه.
ولا خلاف أنه لو كان له عليه ألف درهم حالة فقال له: أجلنى وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز، لأن المائة عوض عن الأجل، كذلك الحط في معنى الزيادة،
__________
(1) سورة البقرة: 280.
(2) "مقدمات الاقتصاد" (108، 109).
(3) "بحوث في الربا" (48)، "الإمام زيد" (293).
(4) سورة البقرة: 279.
(5) سورة البقرة: 278.

(4/347)


إذ جعله عوضًا من الأجل. وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الإبدال عن الآجال" (1).
وجاء في حاشية ابن عابدين "أنه إذا بيع الشىء بثمن مؤجل ثم وجب الأداء معجلًا فإنه ينقص من الثمن بمقدار التعجيل" وبذلك يتبين أن الفقهاء أباحوا الزيادة في نظير الأجل، وأى فرق بينها وبين الربا" (2).
5 - أن أبا حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبًا فقال: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غدًا فلك نصف درهم، إن الشرط الثاني باطل, فإن خاطه غدًا فله أجر مثله، لأنه جعل الحط مقابل الأجل، والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم لأنه بمنزلة بيع الأجل" (3).
مما تقدم يتبين لنا أن عمدة أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط هو أن ذلك ضرب من الربا المحرم، ومستندهم الرئيسى في ذلك أن الزيادة في الثمن هى في مقابل الأجل، والأجل ليس بالشىء الذي يستحق عوضا فتكون زيادة بلا عوض وهو عين الربا الذي نهى الشرع عنه وحرمه.
المطلب الثانى: أدلة القائلين بجواز بيع التقسيط:
استدل القائلون بجواز بيع التقسيط بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والإجماع والعرف والمعقول.
فمن القرآن الكريم استدلوا بما يأتى:
عموم الأدلة القاضية بالجواز كقوله سبحانه وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4).
وهو نص عام يشمل جميع أنواع البيع، ويدل على أنها حلال، إلا الأنواع التي ورد نص بتحريمها، فإنها تصبح حرامًا بالنص مستثناة من العموم، ولم يرد نص يقضى بتحريم جعل ثمنين للسلعة ثمن معجل وثمن مؤجل، فيكون حلالًا أخذًا من عموم الآية (5).
__________
(1) "تفسير آيات الحكام"، لأبى بكر الرازى الجصاص (2/ 1985).
(2) "بحوث في الربا"، أبو زهرة (48)، "حاشية ابن عابدين" (5/ 160، 6/ 757).
(3) "تفسير الجصاص" (2/ 187).
(4) سورة البقرة: 275.
(5) "نيل الأوطار" (5/ 173)، "شرح الأزهار" (3/ 84)، مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد النجدى الحنبلى وولده محمد، المجلد 29 ص 499، تصوير ط1، 1398 هـ.

(4/348)


وقوله عَزَّ وَجَلَّ {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فالزيادة في الثمن مقابل الأجل داخله في عموم النص، إذ إن أعمال التجارة تنبنى على البيع نسيئة، ولابد أن تكون لهم ثمرة، وتلك الثمرة داخلة في باب التجارة وليست داخلة في باب الربا. فالثمن في البيع الآجل هو للسلعة مراعى فيه الأجل، وهو من التجارة المشروعة المعرضة للربح والخسارة (1).
ومن جهة أخرى، فالرضا ثابت في هذا البيع، لأن من يفعل ذلك من التجار إنما يجعله طريقًا إلى ترويج تجارته. فهو إجابة لرغبته.
كما أن الذي تسلم العين دون دفع ثمن حاله قد تسلم العين منتفعًا بها مغلة، موضع إتجار، وهذا لا ينافى رضاه (2).
واستدلوا كذلك بقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (3).
وبيع السلعة بثمن مؤجل مع الزيادة مما تنتظمه هذه الآية، لأنها من المداينات الجائزة فتكون مشروعة بنص الآية (4).
أما من السنة النبوية والآثار:
فقد ورد فيها ما يدل على أن الشارع قد سوغ جعل المدة عوضًا عن المال، وأنه يجوز أن يختلف الثمن المؤجل عن الثمن المعجل بزيادة في المؤجل، وأن هذه الزيادة مباحة ومن ذلك:
ما روى "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشًا، فكان يشترى البعير بالبعيرين إلى أجل" (5)، وهو دليل واضح على جواز أخذ زيادة على الثمن نظير الأجل.
__________
(1)، (2) "الإمام زيد" (294)، "أبرز صور البيوع الفاسدة" (50، 51)، النشرة الإعلامية للبنك الإسلامى الأردنى رقم (3/ 26).
(3) سورة البقرة: 282.
(4) "فتوى في مجلة البحوث الإسلامية" (ص 270 ع 6) 1403 هـ وفي مجلة الاقتصاد الإسلامى للشيخ عبد العزيز بن باز ص 42، العدد 11، شوال 1402 هـ، وفي كلمات مختارة (عقائد، أحكام، مواعظ) للشيخ عبد العزيز بن باز، جمعها عبد الله بن جار الله ص 137 رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
(5) حسن: أخرجه أبو داود (3357)، وأحمد (2/ 171 و 216)، والدارقطنى (3/ 69، 70)، وقال الحافظ في "الفتح" (4/ 489) إسناده قوى. وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط في المسند، طبعة الرسالة.

(4/349)


وما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا, ولنا على الناس ديون لم تحل؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ضعوا وتعجلوا" (1).
والحديث دليل على أنه لو بيع شىء ما بالنسيئة، واضطر المشترى للسداد قبل الاستحقاق يجوز تخفيض الثمن بمقدار يتكافأ مع المدة التي تفصل تاريخ السداد الفعلى عن تاريخ الاستحقاق، فإذا جاز التخفيض لقاء التعجيل فلابد عقلًا من جواز الزيادة لقاء التأجيل وهو ما قال به ابن عابدين (2).
ومن الآثار الدالة على جواز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من المعجل، وجواز زيادة الثمن في الشراء بالأجل. ما نقله الشيخ أبو زهرة عن كتاب المجموع والروض النضير في الفقه الزيدى الشيعي عن أبي خالد قال: سألت زيد بن علي عن رجل اشترى سلعة إلى أجل ثم باعها مرابحة والمشترى لا يعلم أنه اشتراها إلى أجل ثم علم بعد ذلك؟ فقال: هو بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء رد. وقد عقب على هذا القول بأنه يفيد حكمًا بالنص وآخر بالالتزام: أما الحكم الذي استفيد بالنص فهو أن عدم ذكر الأجل في المرابحة إذا كان البائع قد اشترى إلى أجل يعد خيانة في المرابحة، وهي خيانة لا يمكن تقديرها كالخيانة في الزيادة بالثمن، وأن الحكم في هذه الحالة هو أن المشترى بالخيار بين إمضاء العقد وبين فسخه. والحكم الالتزامي هو أنه يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن المعجل، ويتبين ذلك من خلال أن ترك ذكر البائع للأجل في المرابحة خيانة، لأن شأن التجارة أن يكون الثمن العاجل أقل من الثمن الآجل، وترك ذكر الأجل والبيع بثمن عاجل غش، لأنَّه لم يتبين ما استفاده بالتأجيل، والربح مع هذا التأجيل يكون على غير أساس سليم .. " (3).
قال صاحب الروض النضير: "واعلم أنه يؤخذ من كلام الإِمام -زيد بن علي- أن بيع الشىء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء جائز، ولهذا ثبت للمشترى الآخر الخيار، إذ لولا زيادة الثمن في شراء الأجل لم يظهر لإثبات الخيار وجه" (4).
__________
(1) إسناده ضعيف: أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 52)، والدارقطني في "سننه" (3/ 46) وغيرهما.
(2) "مصرف التنمية الإِسلامى" (186)، "حاشية ابن عابدين" (5/ 160)، (6/ 757).
(3) "الإِمام زيد" نقلًا عن المجموع والروض النضير (292).
(4) "الروض النضير" (3/ 168)، نقلًا عن "الإِمام زيد" (293).

(4/350)


والإجماع يدل على أن البيع بالتقسيط لا بأس به، فالمسلمون لا يزالون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها (1).
كما أن العرف قد جرى على أن النقد الحال أعلى قيمة من النقد المؤجل، وطالما أن العقد ابتداء لم ينص على سعرين فهو حلال (2).
أما عن القياس والمعقول فاستدلوا بما يأتي:
• أن البيع إلى أجل مع زيادة الثمن هو بيع بثمن معلوم من المتبايعين بتراضيهما فوجب الحكم بصحة البيع كالبيع بثمن حال (3).
• القياس على السلم: فالبيع إلى أجل من جنس بيع السلم، وذلك أن البائع في السلم يبيع في ذمته حبوبًا أو غيرها مما يصح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به في وقت السلم فيكون المسلم فيه مؤجلًا والثمن معجلًا، فهو عكس مسألة البيع بالتقسيط، وهو جائز بالإجماع، والحاجة إليه ماسة كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم، وتأخير تسليم الثمن في البيع إلى أجل (4).
• القياس على بيع المرابحة: فإذا كان الأجل معلومًا في البيع بأجل صح البيع ولا شىء فيه لأنه من قبيل المرابحة، وهي نوع من أنواع البيوع الجائزة شرعا التي يجوز فيها إشتراط الزيادة في السعر في مقابلة الأجل، لأن الأجل وإن لم يكن مالًا حقيقة إلا أنه في باب المرابحة احتراز عن شبهة الخيانة، بشرط أن لا تكون الزيادة فاحشة، وإلا كانت أكلًا لأموال الناس بالباطل (5).
• لأن للأجل حصة من الثمن: ولهذا تزاد قيمة ما يباع بثمن مؤجل على ما يباع بثمن حال. فما دام البائع قد حدد الثمن وعينه لمن يشترى بثمن حال، وحدد الثمن وعينه لمن يشترى بثمن مؤجل، وقد اختار المشترى الشراء بأحد الثمنين، فالبيع صحيح شرعًا, ولا شبهة للربا فيه.
__________
(1) "مجموع الفتاوى" ابن تيمية (29/ 499)، "مجلة الاقتصاد الإِسلامى" ع 11، شوال 1402 هـ، بحوث في الربا، 48.
(2) علي الخفيف نقلًا عن مقومات الاقتصاد الإِسلامى (107).
(3) "هوامش شرح الأزهار" (4/ 83).
(4) "مجلة الاقتصاد الإِسلامي"، فتوى الشيخ ابن باز (43).
(5) "يسألونك في الدين والحياة" أحمد الشرباصى، المجلد الخامس ص 147، الطبعة 11، دار الجيل، بيروت.

(4/351)


فالزيادة التي تضاف على الأقساط هى حصة الأجل من الثمن وهي الفرق بين ثمن السلعة إذا بيعت بثمن حال وقيمتها إذا بيعت بثمن مؤجل، والشريعة الإِسلامية شريعة معان وحقائق لا شريعة ألفاظ وأسماء، تحرم الشر إذا سمى باسم، وتبيحه إذا سمى بآخر (1).
• أن الأصل في الأشياء والعقود والشروط عند الفقهاء الإباحة متى كانت برضا المتعاقدين الجائزى الأمر فيما تبايعا, ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه أو نسخه أو تقييده أو تخصيصه بنص أو قياس. ولما لم يرد دليل قطعي الثبوت والدلالة على تحريم البيع بالتقسيط، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل، بل قد ورد في الكتاب والسنة الأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهى عن الغرر ونقض العهود والخيانة، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العقود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة (2).
المطلب الثالث: في دليل الرأى الوسط
خلاصة هذا الرأي -الذي ذهب إليه د. رفيق المصري- أن البيع إلى أجل مع زيادة الثمن مقابل ذلك ليس حرامًا على الإطلاق ولا حلالًا على الإطلاق بل هو مكروه، وما كان كذلك فيخضع لحكم الشبهة التي نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على موقف الشرع منها في حديثه المشهور "أن الحلال بين، وأن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه .. " (3).
ويرى أن تأمين قروض مجانية للمستهلكين يخفف من ظاهرة اللجوء إلى البيع بثمن أجل مقسط، كما يؤدى إلى الحد من زيادة الثمن (4).
__________
(1) "مجلة لواء الإِسلام" (ص 822) عدد 11 من السنة الرابعة، رجب 1370 هـ، أبريل 1951، ص 903 من عدد 12 من نفس السنة شعبان 1370 هـ، مايو 1951 م.
(2) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (29/ 126)، نشرة البنك الإِسلامي الأردني رقم (3) ص 27 - 30 ونقلًا عن "الأم" للشافعى و"شرح أصول البزروى".
(3) صحيح البخاري (52)، ومسلم (1599).
(4) "مصرف التنمية الإِسلامي" (188/ 190).

(4/352)


المطلب الرابع: مناقشة الأدلة والترجيح
أولًا: مناقشة أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط:
ناقش جمهور الفقهاء أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط على النحو التالى: أجابوا عن استدلالهم بقوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، بأن الآية نص عام، يشمل جميع أنواع البيع، ويدل على أنها حلال إلا ما خصه الدليل، ولم يقم نص يدل على حرمة جعل ثمنين للسلعة مؤجل ومعجل فيبقى حلالًا عملًا بعموم الآية (1).
ومن جهة أخرى، فإن آية الربا لا تتناول محل النزاع، لأن الحديث في البيع بثمن مؤجل إنما يقع على السعر (الثمن)، وليس للسعر استقرار لما فيه من التفاوت بحسب الغلاء والرخص، والرغبة في البيع وعدمها، فلم يكن أصلًا يرجع إليه في تعليق الحكم به، وحيث خرجت آية الربا عن أن تكون داخلة في محل النزاع، انتفت الحاجة إلى النظر فيما يعارضها، وما يترتب عليه (2).
وأما استدلالهم بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وأن عنصر الرضا مفقود في البيع بالتقسيط فيكون باطلًا فيجاب عنه:
بأن الرضا ثابت, لأن من يبيع بثمن مؤجل له سلطة تامة، ويتمتع بكامل الحق في تحديد السعر الذي يريد بحسب حالة البيع من تعجيل أو تأجيل، وهو إذ يطلب ثمنًا مؤجلًا فإنما يفعل ذلك وسيلة من وسائل ترويج بضاعته، فهو يلبي لديه رغبة في الحصول على الثمن الأعلى نظير تأخير الدفع، وما كان كذلك فلا اضطرار فيه. وأما المشترى فإنه كذلك بالخيار في الامتناع عن الشراء أو البحث عن تاجر آخر أو سلعة بديلة، أو أن يقترض قرضًا حسنًا ليدفع بالثمن المعجل، ومع ذلك فقد حصل على السلعة التي يريد دون أن يدفع ثمنًا في الحال وهي للسلعة محل انتفاع وله فيها مصلحة (3).
__________
(1) "نيل الأوطار" (5/ 172)، "الإِسلام وثقافة الإنسان" (378).
(2) "الإِمام زيد" (294).
(3) "الإِمام زيد" (294)، "مصرف التنمية الإسلامى" (187)، "الإِسلام وثقافة الإنسان" (378)، المجلة العلمية لتجارة الأزهر، ص 90، 92، العدد السادس، 1983.

(4/353)


وأما استدلالهم بحديث النهى عن صفقتين في صفقة وتفسير سماك له بما يفيد منعه فيجاب عنه:
أن هذا الحديث يحتمل أكثر من تفسير، فكما يحتمل أن يكون المراد به أبيعك هذه السلعة بألف نقدًا أو بألفين نسيئة، يحتمل أن يراد به بعتك هذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا. أو أن يسلف دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علىّ إلى شهرين بقفيزين فصار بيعتين في بيعة واحتمال الحديث لتفسير خارج عن محل النزاع يقدح في الاستدلال به على المتنازع فيه.
على أن غاية ما في الحديث من دلالة هو المنع من البيع إذا رفع على صورة أبيعك نقدًا بكذا ونسيئة بكذا لا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة، ولا يدل الحديث على ذلك، فالدليل أخص من الدعوى.
ومن جهة أخرى، فالنهى في الحديث محله فيما إذا قبل المشترى على الإبهام ولم يعين أي الثمنين، أما لو قال قبلت بألف نقدًا أو بألفين نسيئة صح ذلك (1).
أما استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا". وأنه يفيد أن من باع بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحال فعليه أن يأخذ بالأقل منهما وإلا دخل في الربا المحرّم فجوابه:
أن في إسناده محمَّد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، والمشهور عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة (2).
وعلى فرض صحته، فهو لا يقيد تحريم البيع بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحال، بل يفيد أن المتبايعين إذا تفرقا دون تحديد وتعيين أحد الثمنين، فما يستحقه البائع هو أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين كى لا يقعا في الربا المحرم بصورة قطعية (3).
كما يجاب عنه بما قاله الشوكاني في حديث الصفقتين في صفقة المتقدم.
__________
(1) "نيل الأوطار" (5/ 172).
(2) "نيل الأوطار" (5/ 171).
(3) "فقه الإِمام الأوزاعى"، د. عبد الله محمَّد الجبورى (2/ 189)، وزارة الأوقاف العراقية، إحياء التراث الإِسلامى: مطبعة الإرشاد، بغداد 1397، 1977 م.

(4/354)


ومن جهة أخرى، فإن ابن القيم قد فسر الحديث بأن يبيع الرجل السلعة بمائة مؤجلة ثم يشتريها منه بمائتين حالة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهو من أعظم الذرائع إلى الربا.
وأنه لا يعني النهى عن البيع بخمسين حالة أو بمائة مؤجلة فهي ليست قمارًا ولا جهالة ولا غررًا ولا شيئًا من المفاسد، فإن البائع خير المشترى بين أي الثمنين شاء وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والأمضاء ثلاثة أيام (1).
أما حديث النهى عن بيع المضطر وقولهم بأنه لا يقدم على دفع ثمن أعلى مع تأخير الدفع إلا المضطر فيجاب عنه بالآتي:
أنه جاء في سند الحديث: رواه أبو داود عن محمَّد بن عيسى عن هشيم عن صالح بن عامر كذا قال محمَّد قال: حدثنا شيخ من تميم .. قال في عون المعبود: قال الشيخ في إسناد الحديث رجل مجهول لا ندرى من هو وقال ابن مفلح: صالح لا يعرف، تفرد عنه هشيم، والشيخ لا يعرف أيضًا, ولأبي يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول، قد بلغني عن حذيفة أنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم - .. فذكر الحديث وفيه: "ألا إن بيع المضطرين حرام"، الكوثر ضعيف بإجماع، قال أحمد: أحاديثه بواطيل ليس بشىء (2).
أما قولهم بأن الزيادة في الثمن المؤجل من باب الربا، واستدلالهم على ذلك بأنها زيادة في نظير الأجل، ولا يقابلها عِوض فتكون محرمة فالجواب عنه:
بأن القول بتحريمها لكون الزيادة في مقابل التنفيس بالأجل فقط، فلا يخفى أن تحريم مثل ذلك مفتقر إلى دليل والمسألة محتملة للبحث والمناقشة (3).
وأما القول بأن الزيادة لا يقابلها عوض فمردود، وذلك لأن البائع حين رضى بتسليم السلعة إلى المشترى بثمن مؤجل إنما فعل ذلك من أجل انتفاعه بالزيادة، والمشترى إنما رضي بدفع الزيادة من أجل المهلة، وعجزه عن تسليم الثمن نقدًا. فكلاهما منتفع بهذه المعاملة, فلا يصدق القول بأن الزيادة بغير مقابل (4).
__________
(1) "إعلام الموقعين" (2/ 149، 150).
(2) "عون المعبود" (9/ 235).
(3) "الروضة الندية" (2/ 106).
(4) "مجلة الاقتصاد الإِسلامي"، فتوى الشيخ ابن باز (43).

(4/355)


وأما قولهم ببطلان البيع بثمن مؤجل يزيد على الحال خشية أن يكون ذريعة إلى الربا، فيكون بمنزلة جارية نقدًا وعشرة دنانير إلى شهر، بعشرين دينارًا إلى شهرين فيجاب عنه: بأنه لو رأى رجل جارية ثيِّبًا عند رجل فأعجبته، فسأله أن يزوجها إياه، فاشتراها منه بمائة دينار إلى سنة، فقبضها فوطئها فلم ينتقصها ذلك شيئًا ثم باعها منه بخمسين دينارًا إلى ذلك الأجل، فتكون قد رجعت له جاريته وبقى له خمسون دينارًا إلى ذلك الأجل، إنما ينبغي أن تبطل هذه الصورة ويجعل كأنه استأجرها بخمسين الدينار الزيادة ليطأها، وقد قال المخالفون بجوازها، فأجازوا ما ينبغي أن يبطل، وأبطلوا ما هو جائز من الزيادة مقابل الأجل (1).
وأما قولهم بأن الزيادة مقابل الأجل هى من باب الشرطين في بيع وسلف وبيع وقد نص صاحب المبسوط على عدم جوازهما لأنهما من باب الربا, لأن الزيادة مقابل الأجل فالجواب عنه:
أن قول صاحب المبسوط محمول على ما إذا ذكر ثمنين عاجلًا وآجلًا ولم يجدد أحدهما، والقول بالبطلان في هذه الحالة قول عامة الفقهاء بسبب الجهالة، وسدًا لذريعة الربا. ولقد جاء في كتاب المبسوط ما يدل صراحة على جواز زيادة الثمن مقابل الأجل إذا كان ذلك معلومًا للمتعاقدين حيث يقول: "وإذا اشترى شيئًا إلى أجلين وتفرقا عن ذلك لم يجز لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الشرطين في بيع، وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما، وأمض البيع عليه جاز .. " (2).
وأما القول بأن زيادة الثمن المؤجل من الحال في البيع بالتقسيط هى مقابل استغلال حاجة المشترى فتنتفي الرحمة والعدالة، فيرد عليه بأن العلماء حين قالوا بجواز بيع التقسيط قد قيدوا ذلك بشروط سنأتي على ذكرها، ومنها أن لا تتضمن الزيادة غبنًا فاحشًا للمشترى، علمًا بأن هذا الغبن ليس مقصورًا على البيع بالتقسيط بل قد يكون بالنقد، ولكن عند ضعف الوازع الديني، وغياب الحس الإيماني.
وبالإضافة إلى ما تقدم فهناك فروق جوهرية بين الربا والبيع بالنسيئة أبرزها ما يأتي:
1 - أن الربا زيادة أحد المتساويين على الآخر، ولا تساوى بين الشىء وثمنه مع اختلاف جنسهما، فلا يصح تحريم الزيادة في البيع بثمن مؤجل لكونها ربا (3).
__________
(1) كتاب الحجة.
(2) "المبسوط" (13/ 28).
(3) "الروضة" (2/ 106).

(4/356)


2 - أن البيع في حالة البيع سلعة لها منافع ولها غلات، وإن كانت مما ينتفع به باستهلاكه فإن أسعارها تختلف باختلاف الأزمان، وإن كانت مما ينتفع به بسعر، فإذا احتاط البائع لنفسه فباعها بثمن مؤجل مرتفع ومعجل غير مرتفع فلأن موضوع المعاملة يقبل الارتفاع والانخفاض في الأزمان، وله غلات بنفسه، أما النقود في حالة الربا فهي وحدة التقدير، فالمفروض أن لا يؤثر فيها الزمان، وينبغي أن تكون كذلك دائمًا، لأنها ليست سلعًا ترتفع وتنخفض (1).
وعليه، فما يأخذه البائع بثمن مؤجل فرقًا بين العاجل والآجل إنما يأخذه ثمن غلة، بخلاف الديون التي تجرى في النقدين، فإن من يتسلمها يتسلم عينًا لا تختلف فيها الأسعار باختلاف الأزمنة، لأنها مقوِّمة الأسعار، وهي لا تغل بنفسها، بل تغل بالاتجار وتنقلها من الأيدى ببضائع تعلو وتنخفض، فالبضائع هى التي تغل وليست هى موضع الدين (2).
3 - أن هناك فرقًا بين أن يكون الأجل مراعى عند تقدير ثمن السلعة في البيع بثمن مؤجل، وبين أن يكون الأجل قد خصص له جزء معين من المال بالإضافة إلى المقدار الذي جعل بدلًا في المعاوضة.
إن فرقًا بين أن يبيع شخص سلعة تساوى في السوق الحاضرة مائة بمائة وخمسة مؤجلة، وبين أن يقترض شخص من آخر إلى أجل معين على أن يردها إليه عند حلول الأجل مائة وخمسة، فإن الأول جائز ولا شىء فيه من الربا، فإن المقدار كله المائة والخمسة قد جعل ثمنًا للسلعة، والسلعة التي كان سعرها في السوق الحاضرة مائة يمكن أن تباع مع تأجيل الثمن وعدم تأجيله بمائة وبمائة وخمسة وبمائة إلا خمسة، على حسب الظروف والأحوال واختلاف الرغبات. وأما الثاني فغير جائز لأنه من ربا النساء الذي جعل فيه الزمن مقصودًا قصدًا أصليًا في العقد مفروضًا له قدر معين من الثمن يتزايد هذا المقدار عادة إذا حل الأجل ولم يوف المدين بأداء الدين.
والخلاصة أن المائة والخمسة في صورة البيع بها إلى أجل وقعت كلها ثمنًا للسلع التي كان يمكن أن تباع بذلك الثمن حالًا، وأما المائة والخمسة في صورة
__________
(1) "بحوث في الربا" (48).
(2) "الإِمام زيد" (294).

(4/357)


اقتراض المائة بمائة وخمسة فإنها وقعت بدلا لشيئين: المائة بدل المائة، والخمسة بدل الزمن وثمن له خاصة، وهذا لا شك أنه الربا الممنوع (1).
4 - أن البيع بالتقسيط فيه تخيير للمشترى بين الشراء نقدًا بثمن أقل أو بثمن أكثر مؤجلًا، بخلاف الربا فإنه لا تخيير فيه.
كما أن الربا استغلال للناس ومص للدماء، وخيانة للمجتمع، وظلم للطبقة الكادحة من قبل أخذ الطمع والجشع. أما البيع بالتقسيط فهو تيسير لمعاملات الناس وتخفيف عنهم (2).
5 - أن البيع بثمن مؤجل لا تحدث فيه زيادة في الثمن حتى ولو ماطل المشترى في الدفع عند حلول أجل الوفاء، فليس للبائع إلا ما اتفق عليه، وذلك بخلاف عقد الربا حيث يستمر المقترض في دفع الفوائد في حالة عدم تسديد القرض حتى يتضاعف بشكل كبير إذ في الغالب قد تكون الفائدة بسعر أعلى من السعر العادى عند التأخير في الدفع (3).
6 - أن البيع بالتقسيط يترتب على من يتعامل به مختلف آثار ومقتضيات البيع بالطرق الشرعية ولاسيما ما يتعلق بالخيارات، وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بالقرض بفائدةٍ ربويةٍ (4).
7 - أن الثمن في البيع بالأجل هو للسلعة مراعى فيه الأجل وهو من التجارة المشروعة المعرض للربح والخسارة. وأما الزيادة في الربا فهي بلا مقابل وهو الذي حرَّمه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لأخطاره وأضراره (5).
8 - أنه في حالة البيع بثمن مؤجل يفترض أن تكون العلاقة بين البائع والمشترى علاقة تكافؤ -في الأعم الأغلب، ولا عِبرة للحالات الشاذة- لأن القدرة على المساومة والتفاوض مفتوحة لكلا الطرفين على قدم المساواة. أما في حالة القرض الربوى فيفترض عدم التكافؤ إذ إن طرفًا فيها يعاني من حالة صعبة بالنسبة للطرف الآخر (6).
__________
(1) "مجلة الاقتصاد الإِسلامى"، فتوى الشيخ عبد الرحمن تاج ص 43، المجلد الأول، العدد 11 شوال 1402 هـ.
(2)، (3) "المجلة العلمية لتجارة الأزهر" ص 90 - 92، العدد السادس، أبريل، 1983 م.
(4) من محاضرة عامة ألقاها د. أنس مصطفى الزرقا حول "مفهوم الاقتصاد الإِسلامى" بالجامعة الأردنية الساعة 12 ظهرًا 4/ 11/ 85.
(5) "النشرة الإعلامية رقم (3) " للبنك الإِسلامى الأردني (26).
(6) "مصرف التنمية الإسلامى" (187).

(4/358)


9 - أن التبادل في حالة الربا يتم على أشياء مثلية، في حين أن التبادل في حالة البيع يتم على أشياء مختلفة؛ سلعة مقابل نقد، وهذا الاختلاف في الأشياء المتبادلة هو الذي ينشىء النشاط التجارى المفيد المنتج في البيع بالمقارنة مع النشاط الربوى (1).
أما القول المانعين من بيع التقسيط بأن الزيادة في البيع بالنسيئة هى مقابل الزمان فقد ناقشه جمهور الفقهاء على النحو التالي:
1 - أن الزيادة في الثمن المؤجل لا تتعين عِوضًا عن الزمان، بدليل أن بعض الناس يبيع آجلًا بأقل مما اشترى لحاجته إلى البيع وتصريف السلع أو لتوقعه انخفاض الأسعار في المستقبل، ومن التجار من يبيع بأقل من القيمة الحقيقية بثمن حال أو مؤجل، فلا تتعين الزيادة للزمان، بل الزيادة في أكثر الأحيان غير متعينة (2).
2 - أننا لو سلّمنا بجعل الزيادة مقابل التأخير والزمن كما دلت على ذلك بعض الأحاديث والآثار, فإنما منع الشارع منها إذا كانت ابتداءً كما كان عليه أمر الجاهلية في قولهم: "أما أن تقضي وأما أن تُربي" (3).
وأما استدلالهم يكون الزيادة في مقابل الأجل بالقياس على إنقاص الدَّين عن المدين مقابل تعجيل الدفع، وهو غير جائز بدليل تسمية ابن عمر - رضي الله عنهما - له ربا ونهى زيد بن ثابت وغيره عنه، وبدليل إبطال أبي حنيفة لشرط التعجيل في خياطة الثوب مقابل زيادة الأجرة، وبدليل عدم جواز زيادة الدين الحال مقابل تأجيل صاحبه مدة. فالجواب عنه:
1 - أن ابن أبي شيبة قد أخرج من مصنفه أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجل فيقول له: عجِّل لي وأضع عنك كذا فقال: "لا بأس في ذلك، إنما الربا أن يقول المدين أخر لي وأنا أزيدك، وليس عجّل وأنا أضع عنك" وفي رواة أخرجها البزار عن عبد الله بن عمرو، وأخرجها الطبراني بنحوها: "إنما الذي فيه نهى أن يقول المدين أعجّل لك كذا، وتضع عنه البقية" (4).
__________
(1) نفس المرجع، (189).
(2) "الإِمام زيد" (295)، أبرز صور البيوع الفاسدة (50).
(3) "الإِمام زيد" (294).
(4) "تفسير الجصاص" (2/ 186).

(4/359)


وليس قول ابن عمر وغيره بأولى من قول ابن عباس، لاسيما أن لقوله سندًا من الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ضعوا وتعجلوا".
2 - وأما قول أبي حنيفة فيقع في إطار اشتراط منفعة محددة في المعقود عليه لمصلحة العاقد، وهذا النوع من الشروط مما أبطله الحنفية والشافعية في المعتمد من مذهبهم والظاهرية بعدم جوازه وقال المالكية والحنابلة في الراجح من مذهبهم والزيدية والأباضية والإمامية بجوازه.
وقد استدل القائلون بعدم الجواز بحديث نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط، وهو حديث ضعيف، أنكره أحمد، وقال لا نعرفه مرويًا في مسنده وقال النووى عنه، أما الحديث فغريب، وضعفه ابن تيمية، وقال ابن حجر في إسناده مقال. وقال ابن القيم لا يعلم له إسناد يصح (1).
3 - وأما القياس على زيادة الدين الحال مقابل زيادة الأجل فمع الفارق وهو أن المقيس عليه منصوص على عدم جوازه فهو بيع الدين بالدين، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الكالئ بالكالئ.
ومن جهة أخرى، فإن إنقاص الثمن مقابل تقصير المدة غرضه التيسير على المدين وتسهيل الدفع وقضاء الدين عليه، أما الزيادة مقابل زيادة الأجل فغرضها التضييق على المدين فلا وجه للقياس.
4 - أن القول بإنقاص الثمن إذا أدى المدين الثمن المؤجل معجلًا بمقدار ما يعادل الأجل يرتكز على مبدأ سبق بيانه وهو أن الأساس هو السلعة لا النقد المجرد. لأن السلعة هى التي يتغير سعرها تبعًا للظروف والأحوال والرغبة فيها، أما النقد فهو مقوِّم السلع وهو ثابت لا يتغير، لأنها ليست سلعًا ترتفع وتنخفض (2).
5 - أن العقود في الشريعة الإِسلامية ينظر إليها غير موازنة ببعضها، فالعقد مع تأجيل الثمن عقد قائم بذاته ينظر إليه من حيث سلامة العقد، وكونه غير شامل للربا بأنواعه من نظر إلى غيره. وهذه النظرة تجعل العقد صحيحًا في ذاته، وكون المبيع معجلًا بعقد آخر بثمن أقل لا يؤثر في العقد الأول، لأنهما عقدان متغايران يتميز كل واحد منهما عن صاحبه (3).
__________
(1) "الملكية في الشريعة الإِسلامية" العبادى (2/ 209).
(2) "بحوث في الربا" (48، 49).
(3) "الإِمام زيد" (294).

(4/360)


ثانيًا: مناقشة أدلة القائلين بالجواز:
لقد تناول القائلون بعدم جواز البيع بثمن مؤجل يفوق الثمن الحال بعض أدلة القائلين بالجواز بالمناقشة، وذلك على خلاف ما قام به الجمهور من تفنيد جميع أدلة المانعين بصورة شاملة وافية، مما يعد مؤشرًا على قوة حجّتهم (1).
فقد ناقش المانعون قول الجمهور في استدلالهم بالآية الكريمة {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} على حل البيع عملًا بعموم النص حيث لم يرد صحيح يخصصه بقولهم:
إن الآية تفيد تحريم البيع بزيادة الثمن مقابل الأجل، لأنها داخلة في عمومِ كلمة الربا التي تعنى الزيادة، كما أنها تفيد الإباحة في قوله سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فإن العقود الربوية مقيدة لهذه الإباحة. وإذا قيل بأن البيوع بأثمان مؤجلة داخلة في معنى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إذ هى بيع، يقال إنها تحتمل أن تكون داخلة في عموم البيع أو الربا، وعند الاحتمال من غير ترجيح يقدم احتمال الحظر على احتمال الإباحة وخصوصًا أن إحلال البيع ليس على عمومه بل خرجت منه البيوع وهذا منها (2).
ومن جهة أخرى، فإن قوله تعالى {وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وليس مجملًا بدليل أن الله عَزَّ وَجَلَّ وضحه بأنه كل زيادة على رأس المال مقابل الأجل {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} وقد أجمع العلماء على تفسير الربا في هذه الآية بأنه الربا الذي كان معروفًا في الجاهلية وهو ما كان يحصل عليه الدائن من زيادة لرأس ماله عندما يعجز بدينه عند حلول الأجل فيقول له: "إما أن تقضي ديني وأما أن تربي" أي تزيدني في الدين نظير الأجل فدل على أن كل زيادة في مقابل الأجل ربا، والأجل لا يعد مالًا لعدم إمكان حيازته والاستئثار به وادخاره لوقت الحاجة، فلم يكن جائزًا أن يأخذ مالا عوضًا عنه، ومن ثم كانت زيادة ثمن السلعة المؤجل عن الثمن المال زيادة خالية عن العوض، وهذا هو الربا (3).
أما استدلال الجمهور بحديث: "ضعوا وتعجلوا" فالجواب عنه:
__________
(1) أبرز صور البيوع الفاسدة (51).
(2) "الإِمام زيد" (294).
(3) "نظرية الأجل في الالتزام في الشريعة الإِسلامية والقوانين العربية"، د. عبد الناصر العطار (221): مطبعة السعادة، القاهرة، ط 1978.

(4/361)


أن في إسناده مسلم بن خالد وهو سيئ الحفظ ضعف، وهو كما قال الدارقطني؛ ثقة إلا أنه سيئ الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث (1).
ومن جهة أخرى، فإن الزمن في الحديث كان للحط من الدَّين لا للزيادة، بخلاف البيع المؤجل فإنه للزيادة في الثمن لا للنقص منه، وفرق ما بين الزيادة والنقص كفرق من يداين ويزيد لأجل الزمن، ومن يعفو عن بعض الدين ليسهل على المدين الدفع، ولذلك لا يصلح الحديث دليلًا في الموضوع (2).
ويضاف إلى ذلك أن القول بجواز إنقاص الثمن مقابل تعجيل دفع الثمن المؤجل لم يرد إلا في الدر المختار حيث نسبه ابن عابدين لبعض المتأخرين، وقال: أن أبا السعود ارتضاه، ولعل أبا السعود العمادى ارتضاه لأنه كان يسهل على سليمان القانوني ما يريد من إدخال الأفكار الأوروبية في بلاده، ولذلك لم يعتبر علماء الأتراك فتاويه، بل قد نص بعضهم كأبي بكر الرازى على أن ذلك من الربا الذي نص عليه تحريمه (3).
وأخيرًا قالوا: أن من يقول بجواز السلف إذا قال عجل لي وأضع عنك من الجائز أنهم أجازوه إذا لم يجعل ذلك شرطًا في العقد، وذلك بأن يقوم البائع بحط بعض الثمن عن المشترى بغير شرط، فيقوم المشترى بحط بتعجيل الدين المتبقي بغير شرط (4).
أما عن استدلال الجمهور بأن المشترى قد رضي بالزيادة مقابل الأجل، والرضا هو شرط صحة التجارة وتوفر كان العقد صحيحًا أجابوا:
بأن رضا المشترى بزيادة السعر المؤجل عن السعر الحال، لا عبرة به إذا اعتبرنا هذه الزيادة ربا، لأن تراضي البائع والمشترى على الربا لا يجعله حلالًا (5).
أما عن القول بأن الأسعار تتفاوت ارتفاعًا وانخفاضًا لأن السلعة لها سعر نقدى معين بخلاف النقود فالجواب عنه:
أنه إذا كان للبائع أن يبيع ابتداء بثمن مؤجل أكثر من سعر السوق، فذلك
__________
(1) سنن الدارقطني (2/ 46).
(2) "الإِمام زيد" (294)، مصرف التنمية، (186)، "نظرية الأجل" (222).
(3) "بحوث في الربا" (49).
(4) "تفسير أبى بكر الرازى الجصاص" (2/ 187).
(5) "نظرية الأجل" (222، 223).

(4/362)


يختلف عن تخيير المشترى بين الشراء بثمن حال أو ثمن مؤجل أكثر من ذلك الثمن الحال. فالبيع الأول يمكن أن يقال فيه بأن الأسعار تتفاوت كما أن للمشترى مطلق الحرية في قبوله، وإذا كانت الشريعة الإِسلامية تنهى عن الربح غير المعقول في التجارة. أما البيع الثاني وهو موضوع البحث فإنه يتميز بأن للسلعة ثمن حال معروف، وزاد هذا الثمن بسبب التأجيل. وهنا لا يمكن القول بأن الأسعار تتفاوت وتزيد وتنخفض لأن السلعة تحدد لها سعر نقدى معين ولم يقصد البائع إلى زيادة الثمن المؤجل إلا بسبب الأجل (1).
وأخيرًا يقترح د. عبد الناصر العطار -وهو من القائلين بأن الثمن المؤجل عن السعر الحال أمر لا يتفق مع قواعد الشرع، ويعتبره ربا أو شبهة ربا- يقترح علاجًا بديلا لبيع التقسيط يتمثل فيما عرفته بعض النظم الاقتصادية من وسائل مشروعة يتم فيها تأجيل ثمن المبيع دون زيادة بعض السلع بسعرها اليومي وتأجيل ثمنها مع دفعه أقساطًا تخصم من الراتب. وفي إمكان غير الموظفين تطبيق هذا النظام عن طريق النقابات والجمعيات التعاونية، ولا شك أن هذا النظام لا غبار عليه في الإِسلام، كما أن بعض التجار يعلن عن بيع سلعة بالتقسيط وبدون فوائد أي بذات السعر الفوري (2).
ثالثًا: مناقشة الرأى الثالث:
لقد رأينا أن خلاصة هذا الرأى تتمثل في القول بأن البيع بالتقسيط ليس مباحًا على الإطلاق ولا محرَّمًا على الإطلاق وذلك اتقاء للشبهات واستبراء للدّين والعرض والجواب على ذلك:
1 - أن صاحب هذا الرأى قد قال صراحة "ومع ذلك فإننا نعتقد أن البيع بالنسيئة بزيادة الثمن لقاء التأجيل إنما هو مشروع .. " وفي هذا تناقض مع القول بأنه ليس مباحًا ولا حرامًا، فأبسط درجات المشروعية هى الإباحة.
2 - أن الشبهة هى ما اجتمع فيها جانب يؤيد الحل وآخر يؤيد الحرمة، ولقد ورد في حديث صاحب هذا الرأى ما يقطع بمشروعية البيع بالتأجيل مع زيادة الثمن، وصال وجال في بيان فروق أساسية بينه وبين الربا المحرم، فأى وجه للاشتباه بعدئذ؟
وهذا كانت هذه الشبهة والحرص على الاستبراء للدِّين تغيب عمن كانوا
__________
(1)، (2) "نظرية الأجل" (222، 223).

(4/363)


يدعون سبعين بابًا من الحلال مخافة أن يقعوا في باب الحرام، ومع ذلك لم نجد في عباراتهم أدنى تحفظ عند صدور عباراتهم بجواز هذا البيع، مراعيًا للشروط الشرعية.
3 - أما دعوة صاحب هذا الرأى من يتعاملون ببيع التقسيط إلى الاقتراض الحسن تقليلًا لتداول هذا البيع، واتهامه لهم بالهجوم على هذا النوع من البيع مع عدم مسيس حاجتهم إليه، دون محاولة الحصول على القرض الحسن، فأظنه كلامًا مبالغًا فيه، وهل أبواب القروض الحسنة مشرعة لمن يلجها ونحن في عصر أصبح الفرد فيه يضن بالدرهم والدينار على أمه وأبيه وصديقه وأخيه؟ ثم إذا توفر هذا القرض الحسن ليغطى شراء سلعة يسيرة الثمن، فأنى له أن يتوفر لشراء عربة يكتسب منها صاحبها قوته وقوت من يعول؟ أو شراء شقة يسكنها؟ فما أرتأه من تبنى هذه الفكرة ليس إلا حلمًا جميلًا صدر عن حسن ظن ونية -إن شاء الله-.
وعليه ففى ظني، أن هذا الرأى يعوزه الدليل المقنع، ويفتقر إلى الموضوية، وينقصه عامل الانسجام، بين ما طرحه صاحبه من أفكار، وبالتالي لا يقوى على النهوض مذهبا ثالثًا إلى جانب المذهبين الرئيسيين المتقدمين من الناحية الحقيقية -اللهم إلا من باب عرضه باعتباره وجهة نظر تمثل رأى صاحبها فحسب- فاقتضى التنويه إليها.
• الترجيح:
بعد أن عرضنا لأقوال من أجاز بيع التقسيط من الفقهاء، ومن قالوا بعدم جوازه ووقفنا على المناقشات والردود التي وجهها جمهور الفقهاء إلى كافة أدلة القائلين بمنع البيع بثمن مؤجل مع الزيادة على الثمن الحال، ورأينا أنه لم يسلم دليل منها من الطعن الذي يضعف من حجيته وصلاحيته للاستدلال به، وفي حين أن أدلة الجمهور قد سلمت لهم في غالبيتها وما وجه إلى بعضها من نقاش لا يقلل من أهميتها, ولا يلغي فاعليتها فقولهم مثلًا بأن آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} تتضمن النهى عن كل زيادة وتعتبرها ربا، ففيها إباحة البيع وتحريم الربا، وعند اجتماع الحظر والإباحة يقدم الحظر، فهذا القول يصدق لو لم يوجد ما يرجِّح كفة الحكم بالإباحة وقد اتضح ذلك الرجحان من خلال الفروق الهامة التي تقدمت بين البيع والربا.
ونقول للمعترضين -كما قال الشيخ أبو زهرة- مقالة الله لمن اعترض مثل اعتراضهم، إذ قالوا بأن البيع مثل الربا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.

(4/364)


وأما الأحاديث والآثار في جواز إنقاص الثمن مقابل تعجيل الوفاء بالدين. فعل ما فيها من مقال في سندها، إلا أن مفهومها، وما يسندها من أدلة تقدمت في موضعها يجعل من معانيها ودلالتها أمرًا مستساغًا شرعًا.
مما يجعلنا نخلص إلى القول بأن صحة بيع التقسيط وجواز التعامل به هو الأولى بالأخذ به والمصير إليه، والله تعالى أعلم.
رابعًا: فتاوى العلماء القائلين بجواز البيع بالتقسيط:
بعد أن وصلنا إلى نتيجة مفادها أن القول بجواز بيع التقسيط هو الأولى بالأخذ به نظرًا لقوة أدلته، ولأنه يتفق مع روح الشريعة في تحقيق مصلحة المتعاقدين، وتيسير معاملات الناس وحل مشكلاتهم.
وزيادة في التأكيد، والتماسًا لترسيخ هذه الحقيقة نسوق طائفة من فتاوى علماء المسلمين القدامى والمعاصرين والتي جاءت مصرحة بجواز البيع بالتقسيط:
1 - فتوى شيخ الإِسلام ابن تيمية:
سئل عن رجل عنده فرس شراه بمائة وثمانين درهمًا، فطلبه منه إنسان بثلاثمائة درهم إلى مدة ثلاثة شهور، فهل يحل ذلك؟
فأجاب: الحمد لله، إن كان الذي يشتريه لينتفع به، أو يتجر به، فلا بأس ببيعه إلى أجل، لكن المحتاج لا يربح عليه الربح المعتاد، لا يزيد عليه لأجل الضرورة.
وأما إذا كان محتاجًا إلى دراهم، فاشتراه ليبيعه في الحال، ويأخذ ثمنه، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء (1).
2 - فتوى في كتاب "جواهر الفتاوى"
السؤال: هل يجوز لأصحاب الأموال بيعها حالًا بثمن، ومؤجلًا بأجل معلوم بثمن أعلى منه أو لا يجوز كما يقول البعض بحجة أي قرض جر نفعًا فهو ربا، ولما في المنهاج من نهى عن بيعتين في بيعة، كأن يقول البائع بعتك نقدًا بكذا أو مؤجلًا بكذا فخذ بأيهما شئت؟ .. أجيبونا مأجورين:
الجواب: أن كل الكتب المعتمدة متفقة على جواز البيع المذكور بالوجهين، وأن المال الذي قيمته مائة فلس نقدًا يجوز بيعه مؤجلًا إلى شهر بمائة وعشرة أفلس.
__________
(1) "مجموعة فتاوى ابن تيمية" (29/ 501).

(4/365)


ولا ربا في ذلك، فإنما هو -الربا- بيع النقود بالنقود، والمطعوم بالمطعوم إذا اتفق النوعان. ففى التحفة دلالة واضحة على أن الأجل يقابله قسط من الثمن وعبارتها في البيع بشرط الأجل وشرطه أن يحدَّد بمعلوم. وأن لا يبتعد بقاء الدين إليه، وإلا بطل البيع للعلم حال البيع بسقوط بعضه، وهو يؤدى إلى الجهالة المستلزم للجهل بالثمن لأن الأجل يقابله قسط منه.
وأن استدلال المانع للبيع المذكور بالأجل "كل قرض جر نفعًا فهو حرام" بالأصل المقرر، لا تقريب له، لأن ذلك إنما هو في القرض وهو عقد مستقل غير البيع، وعبارة عن إعطاء شىء شخصًا على اعتبار رد مثله إليه كأن يعطيه عشرة دراهم قرضًا أو قفيزًا من الحنطة مثلًا على الاعتبار المار. فإنه لا يجوز للمقرض أخذ عشرة دراهم وفلس واحد، ولا قفيز حنطة ومُدٍّ بدل ما أقرضه لكون ذلك ربا، وكلامنا في البيع بغير الجنس نقدًا أو عرضًا حالًا أو مؤجلًا وأين هذا من ذلك؟
وأما ما جاء في المنهاج من النهى عن بيعتين في بيعة، فمنشؤه اشتمال الصيغة على كلمة أو للترديد والتشقيق المستلزمة للجهالة والإبهام، وإلا فلو أن البائع بصفقتين كأن باع كيلو من السكر بدرهم حالًا، وكيلو آخر بستين فلسًا إلى شهر وقَبِل المشترى مع ذلك بلا شبهة (1).
3 - فتوى الشيخ محمَّد رشيد رضا:
حول شراء السلعة بأكثر من ثمن المثل إلى أجل فيجيب: أن هذا الشراء جائز وليس من الربا المحرم -والله أعلم- (2).
4 - فتوى الشيخ عبد الوهاب خلّاف وفيها:
سألني تاجر هل يحل شرعًا بيع الشيء بسعر أعلى لمن يدفع الثمن مؤجلًا؟
فأجبته: نعم، يحل هذا شرعًا, وليس فيه شىء من الربا المحرم. فيحل شرعًا بيع الإردب من القمح بأربعة جنيهات لمن يدفع الثمن حالًا، وبيعه بخمسة جنيهات لمن يدفع الثمن مؤجلًا (3).
__________
(1) "جواهر الفتاوي أو خير الزاد في الإرشاد"، جمعها ورتبها الشيخ عبد الكريم (2/ 23 - 25)، طبعة سنة 1390 هـ، 1970 م.
(2) "فتاوى الإمام محمَّد رشيد رضا"، جمع وتحقيق: صلاح الدين المنجد، الجزء الخامس ص 1882 فتوى رقم 690: دار الكتب الجديد بيروت ط 1، 1971.
(3) "مجلة لواء الإِسلام" ص 822 العدد 11 السنة الرابعة، رجب 1370 هـ، أبريل 1951 م.

(4/366)


5 - فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز:
يقول ... فقد سئلت عن حكم بيع كيس السكر ونحوه إلى أجل بثمن أكبر من الثمن النقدي: والجواب عن ذلك أن هذه المعاملة لا بأس بها، لأن البيع النقد غير بيع التأجيل ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، فكان كالإجماع منهم على جوازها (1).
6 - فتوى الشيخ بدر متولي عبد الباسط:
سئل عن جواز قيام بيت التمويل الكويتي بشراء السلع والبضائع وبيعها لهم بالأجل وبأسعار أعلى من أسعارها النقدية .. فأجاب بقوله:
إن ما صدر عن طالب الشراء يعتبر وعدًا، ونظرًا لأن الأئمة اختلفوا هل الوعد ملزم -يعني قضاءً- أو لا، فإني أميل إلى الأخذ برأى ابن شبرمة - رضي الله عنه - الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، يكون وعدًا ملزمًا قضاء وديانةً وهذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والأخذ بهذا المذهب أيسر على الناس والعمل به يضبط المعاملات لهذا ليس هناك من تنفيذ هذا الشرط مانع (2).
7 - فتوى "مؤتمر المصرف الإِسلامى الأول بدبي": والذي اجتمع فيه تسعة وخمسون عالمًا من شتى أنحاء العالم الإِسلامي، وقد عرضت على المؤتمر الصورة التالية:
يتطلب المتعامل من الصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها، ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به الصرف، وكذلك الثمن الذي سيشتريها به المتعامل من البنك بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما.
فجاءت توصية المؤتمر:
يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدًا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقًا لذات الشروط.
__________
(1) "مجلة الاقتصاد الإِسلامى" ص 42، المجلد الأول، العدد 11 شوال 1402 هـ، كلمات مختارة ص 137، 138.
(2) "مجلة الاقتصاد الإِسلامي" ص 34 المجلد الأول، العدد الثالث، صفر 1402 هـ، والفتوى صدرت في جمادى الآخرة 1399 هـ.

(4/367)


إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه (1).
8 - فتوى د. أحمد الشرباصى:
السؤال: هل يعتبر البيع بالتقسيط حرامًا، إذا كان مجموع الثمن المقسط يزيد عن ثمن السلعة إذا بيعت فورًا؟
الجواب: البيع يكون إما بثمن معجل، وإما بثمن مؤجل إلى أجل معين، وقد نص الفقهاء على جواز النوعين، ومن الواضح أن البيع بالتقسيط من قبيل البيع بثمن مؤجل ... وبهذا يعلم أنه يجوز شرعًا بيع السلعة بثمن مؤجل زائد على ثمنها الحالي إذا كان الأجل معلومًا .. فإذا كان الإنسان مثلًا يشترى جوال السماد بمائتين وخمسين قرشًا بثمن معجّل فإنه يصح أن يشتريه بأربعمائة قرش بثمن مؤجل يدفعه بعد أربعة أشهر من تاريخ الشراء ويكون هذا البيع صحيحًا ولا شىء فيه (2).
9 - فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: السعودية:
السؤال: أراد رجل الزواج مثلًا، وليس عنده ما يكفى من مبلغ الصداق، فذهب إلى صاحب دكان فقال له أبيعك سيارة بسبعة آلاف ريال سعودى ديْنًا، تدفعها كاملة عند نهاية السنة فهل هذا ربا، مع أن العلم قيمة السيارة نقدًا عشرة آلاف وخمسمائة ريال سعودى فقط، وهذه السيارة هى التي اشترط عليها وهي محور الاشتراط ما بين البائع ومن يريد الزواج.
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من شراء شخص من آخر سيارة لأجلٍ بثمن أكثر مما تباع به نقدًا عاجلًا ليبيعها المشتري إلى من شاء سوى من باعها عليه ومن في الحكمة فليس ربا بل هو عقد بين صحيح وجائز .. (3).
__________
(1) "فتاوى مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي" المنعقد في المدة من 23 - 25 جمادى الثاني 1399، مجلة الاقتصاد الإسلامي، المجلد الأول، العدد الثالث، صفر 1402 هـ، ص 35.
(2) "يسألونك في الدين والحياة"، أحمد الشرباصي، المجلد الخامس (147)، الطبعة الأولى: دار الجيل، بيروت.
(3) "فتوى رقم (1638، 7/ 8/ 1397 هـ).

(4/368)


10 - فتوى صادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء: ردًّا على السؤال التالي:
لدى السائل من يبيع السيارات بأقساط وعلى المبلغ المؤجل فوائد محددة لكنها تزيد بتأخير دفع القسط عن موعد تسديده فهل هذا التعامل جائز أم لا؟
وأجابت بما يلي: إذا كان من يبيع السيارة ونحوها إلى أجل يبيعها بثمن معلوم إلى أجل أو آجال معلومة زمنًا وقسطًا لا يزيد المؤجل من ثمنها حدًّا يتجاوزه فلا شىء، وإن كان المؤجل كما هو مفهوم من السؤال يزيد بتأخر دفع القسط عن موعده المحدد بنسبة معينة فذلك لا يجوز بإجماع المسلمين لأنه ينطبق عليه ربا الجاهلية (1).
11 - فتوى صادرة عن الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف والشئون الإِسلامية بالكويت:
السؤال: ما هو رأى الشرع في البيع بالأجل، هل يسمح الشرع بأن يكون هناك سعر للسلعة في حالة بيعها بالنقد، وسعر آخر لنفس السلعة في حالة بيعها بالأقساط؟
الجواب: أنه لا مانع من أن يكون سعر البيع بالتقسيط أعلى من سعر البيع بالنقد الفورى، وللبائع أن يحتسب الأرباح التي يريدها بأي أسلوب حسابي .. (2).
12 - فتوى الدكتور عبد الحليم محمود وقد جاء فيها:
لقد أباح جمهور الفقهاء أن يكون الثمن المؤجل أعلى من الثمن المدفوع فورًا، وذلك لأن الثمن المدفوع فورًا يمكن الانتفاع به في معاملات تجارية أخرى. أما الثمن المؤجل فإنه لا يتأتى فيه ذلك. وهذا النوع من المعاملات ليس داخلًا في نطاق الربا ... (3).
13 - فتوى مجلة "منار الإسلام":
أجاب الشيخ موسى صالح شرف على سؤال ورد إلى زاوية "منكم وإليكم"
__________
(1) "مجلة البحوث الإِسلامية"، العدد السادس، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ص 270، ربيع ثاني، جمادى 1، 2 - 1403 هـ.
(2) "مجلة الشريعة والدراسات الإِسلامية" ص 264، السنة الأولى، العدد الأول، رجب 1404 هـ، تصدر عن جامعة الكويت.
(3) "فتاوى الشيخ عبد الحليم محمود" (2/ 300، 301): دار المعارف.

(4/369)


بالمجلة بتوقيع -مسلم، المغرب- يقول فيه: أعمل بإحدى الشركات، وتقوم بتوزيع المنازل على من يرغب في شرائها بطريقتين: الأولى أن يدفع الثمن فورًا، والثاني على أقساط تخصم من الراتب، والثمن بهذه الطريقة يفوق الثمن المؤدى فورًا، فهل الزيادة مشروعة أم لا؟
الجواب: يجوز للمسلم أن يشترى ويدفع الثمن فورًا، كما يجوز أن يؤخر دفع الثمن كله أو جزء منه إلى أجل بالتراضي مع الشركة أو صاحب الشىء المباع. وللبائع أن يزيد في الثمن الحالي. بشرط أن لا يستغل المشترى أو يظلمه، والأصل في ذلك الإباحة. لم يرد نص في تحريمه على أن يحدد المشترى إن كان يريد نقدًا أو بالتقسيط منذ البداية وأن لا تكون الشركة تحسب الأقساط على أساس الربا. وأن لا يكون الثمن قابلًا للزيادة فيما لو عجز المشترى عن دفع الأقساط في حينه (1).
خامسًا: مزايا البيع بالتقسيط وسلبياته:
بعد أن استعرضنا أدلة الفقهاء القائلين بجواز بيع التقسيط، والقائلين بعدم جوازه وترجح لدينا أن القول بجوازه هو القول الأقوى دليلًا، والأولى بالترجيح، والأجدر بالعمل به -بعد هذا- أرى إتمامًا للفائدة أن نذكر فوائد هذه المعاملة وإيجابيتها، ومضارها وسلبياتها، فذلك يزيد إلى قناعتنا دليلًا، وإلى يقيننا يقينًا، بصحة القول المختار.
أولًا: مزايا بيع التقسيط:
1 - تقديم الشركات والمؤسسات التجارية والمحلات التجارية التسهيلات لذوى الدخل المحدود، ممن لا تسمح لهم مكاناتهم المادية بدفع أثمان السلع التي يحتاجون بثمن حال، وهذا من شأنه أن يرغبهم في الإقبال على التعامل معها، كما يعمل على ترويج السلع والبضائع كيلا تبقى مكدسة في مخازنهم (2).
__________
(1) مجلة "منار الإِسلام"، تصدرها وزارة الأوقاف بدولة الإمارات، العدد الرابع، السنة الحادية عشرة، ربيع الآخر، 1406 هـ، يناير 1986 م، ص 47.
(2) "العقود المسمّاة"، د. أنور سلطان، 28، شرح عقد البيع في القانون المدني الكويتي، د. عباس الضراف: 76 دار البحوث العلمية بالكويت 1395 هـ، 1975 م، شرح القانون التجارى د. على العريف: 208 مطبعة أحمد مخيمر ط2، 1959.
العقود التجارية: على حسن يونس (55) دار الفكر العربي، البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية (6)، العقود الشائعة أو المسماة وعقد البيع (214)، د. جاك حكيم، مطبعة محمَّد نهاد الكتبى، دمشق.

(4/370)


2 - التغلب على المشكلة التي تواجه كثيرًا من الناس -لاسيما الفئات ذات المرتبات المتدنية- والمتمثلة في القدرة على التوفير والادخار، لأن ضيق ذات اليد وكثرة المطالب من جهة، وعدم توافر الإرادة التي لا غنى للإنسان عنها للادخار قد تحول دون هذه الغاية (1).
3 - إرضاء رغبة لدى الإنسان في الحصول على الشىء الذي يريد دون انتظار، فالتعامل بالتقسيط يشجع المشترى على الإقدام على الشراء (2).
ثانيًا: سلبيات البيع فأبرزها:
1 - ما يقع من مشكلات بين البائع والمشترى تنشأ في حالة عجز المشترى عن سداد الأقساط كليًا أو جزئيًا، وذلك بسبب تعذر استرداد البائع للسلعة، أو حصوله على حقه فالبائع يحوِّل معظم أمواله إلى ديون على الغير لا تتوفر فيها ضمانة جدية فإذا عجز معظم المشترين عن الوفاء بسبب أزمة اقتصادية ضيع أمواله وعجز عن الوفاء لدائنه وانعكس ذلك على الوضع الاقتصادى برمته.
ويجاب عن هذه السلبية: بأن الأحكام التي شرعت بقصد ضبط علاقة البائع بالمشترى في حالة البيع بالأجل، والتي تبين بدورها كل منهما والتزاماته إزاء الآخر من شأنها أن تتغلب على هذه المشكلات. على أن هذه المشكلات ليست قاصرة على البيع بالتقسيط بل قد توجد في البيع المطلق والإجارة وغيرها من العقود.
2 - أن سهولة الحصول على السلعة والدفع قد تغري المشتري بالشراء لاسيما لسلع قد لا تكون ضرورية مما يثقل كاهله بالدين ويربك ميزانية أصحاب الدخول المحدودة إذا تنوعت الأقساط التي يلتزمون بها، ويكرس روح الاستهلاك في المجتمع، وهذا يتنافى مع توجيهات الإِسلام إلى عدم التوسع في الاستهلاك، والمبالغة في الإنفاق لاسيما في الأمور التحسينية (3).
ويجاب عن ذلك بأن المسلم في تصرفاته عمومًا ومعاملاته المالية على وجه الخصوص لا يطلق لنفسه العنان كى يسترسل على هواها، بل هو محكوم فيما يأتي ويدع بتوجيهات الشرع وأحكامه التي تدعوه إلى أن يكون معتدلًا في إنفاقه حتى في حالة اليسار {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}
__________
(1)، (2) "شرح القانون التجارى" (1/ 208).
(3) "هامش الوسيط" للدكتور السنهورى (4/ 173)، العقود التجارية (55)، العقود الشائعة (15/ 2).

(4/371)


فأنى للمسلم وهو الذي يتمتع بالأفق الواسع، والعقل الراجح، فلا تستخفه شهوة، ولا يمد عينيه إلى متاع الدنيا وزهرتها إلى حدود المباح المعقول أن يغرق نفسه في الديون التي يعلم أنه سيؤديها ولو بعد حين، وأن يقع تحت وهم سهولة الحصول على السلعة عاجلًا.
3 - أن هذا النوع من البيع يدفع التاجر إلى رفع سعر السلع حتى يواجه احتمال إعسار المشترى وبخاصة في أوقات الانكماش الاقتصادى (1).
ويجاب عن هذا، بأن التاجر الذي يرتضي لنفسه هذا النوع من التعامل لابد أن يكون على علم بطبيعته ومقتضاه، ويدرك أن سيقتضي إثمان السلع التي يبيع مؤجلة، ولأجل هذه الاعتبارات رخَّص له الشرع بأن يزيد من ثمن السلعة عن الثمن المعجل تعويضًا له عن حرمانه من استثمار ثمنها بسبب التأجيل، ولكن على أن تكون الزيادة في الحدود المقبولة شرعًا وإلا انقلب إلى الربح الفاحش الذي يحرمه الشرع.
علاوة على أن إغلاء السعر لا يختص بالبيع بالتقسيط، فقد يربح التاجر ربحًا فاحشًا وإن كان يبيع بثمن حال، متى غابت من ضميره رقابة الله سبحانه وتعالى، وفقدت من قلبه الرحمة بعباده.
4 - أن البيع بالتقسيط يتضمن خطرًا بالنسبة للبائع، لأن المبيع تنقل ملكيته إلى المشترى ويصبح البائع دائنًا بالثمن في حين يكون للمشترى التصرف في المبيع.
ولذلك أجاز القانون المدني للبائع أن يتطلب فسخ البيع واسترداد المبيع في حالة امتناع المشترى عن الوفاء بباقي الأقساط (2) ويقال جوابًا عن هذه السلبية: إن الضمانات التي منحها الشرع للبائع في حالة حدوث مثل هذا الخطر المتوقع تكفل التغلب على المشكلة وعلاجها.
5 - أنه في حالة إفلاس المشترى لا يحق للبائع وفق القانون التجارى طلب الفسخ والاسترداد لسلعته ويقتصر أمره على أن يكون دائنًا عاديًا يدخل بالباقي من الثمن في التفليسة، ويخضع لقسمة الغرماء تحقيقًا للمساواة بينهم (3).
ويجاب عن ذلك: بأن ما للبائع بالتقسيط من مال في ذمة المشترى لا يختلف
__________
(1) "هامش الوسيط" (43/ 173).
(2) "بيع التقسيط والبيوع الائتمانية" (24).
(3) "العقود التجارية" (57)، العقود المسماة (215).

(4/372)


عن سائر الديون التي يتحملها لغيره من الغرماء، فلا معنى لتمييزه، لاسيما وأنه أقدم على هذا الضرب من التعامل بمحض اختياره فهو بالتالى مهيئًا لتحمل نتائجه والتعامل معها بصورة إيجابية.
من هنا نرى أن سلبيات البيع بالتقسيط -إن وجدت أو وجد شىء منها- فهي طفيفة ضئيلة إزاء المزايا والإيجابيات التي ذكرناها له، كما أنها في أكثرها مبالغ فيها، مما يعزز ما ذهبنا إليه من القول بمشروعية البيع بالتقسيط وحِلِّ التعامل به -إن شاء الله تعالى-.
سادسًا: رأى القانون في جواز البيع بالتقسيط:
علمنا مما تقدم أن القول بجواز البيع بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحال مقسطًا كان أو غير مقسط هو ما ذهبت الجمهرة العظمى من الفقهاء إليه (1).
والقانون الوضعي يتفق مع الحكم الشرعى في هذا الاتجاه:
جاء في الوسيط "يقع كثيرًا أن يبيع شخص عينًا بثمن مقسط ... وأكثر ما يقع ذلك في بيع السيارات والآلات الميكانيكية .. وفي بيع المحلات التجارية والأراضي والدور .. فيجمع إلى أصل الثمن فوائده، ويقسم المجموع أقساطًا على عدد المشهور أو السنين، إذا وفاها المشترى جميعها خلصت له ملكية المبيع" (2).
فقد ذكر أنه مضاف إلى الثمن الحال فوائده ... وإذا كانت الفوائد هى ما تستعمله القوانين الوضعية من اصطلاح للتعبير عن الفرق بين الثمن المعجل والمؤجل لأنها تقر مبدأ الفائدة الربوية ... فإن ما يقابل ذلك في اصطلاح الشرع هو زيادة الثمن بالنسيئة عنه في النقد مقابل الأجل.
فإذا كان الشرع لا يوافق القانون في التسمية والحكم، فلا ريب أن القانون يوافق الشرع على أصل الفكرة وهي زيادة الثمن نظير الأجل.
على أننا ينبغي أن نلاحظ أنه إن كان المراد بالفائدة -الزيادة- مع اختلاف الجنسين, كأن يبيع شخص لآخر شقة مثلًا بعشرين ألف دينار يدفع عشرة آلاف حالًا ويدفع العشرة المتبقية مع زيادة مقدار (كذا) على كل قسط لقاء الأجل فإن من العلماء من يرى جواز ذلك:
__________
(1) انظر ص 52 هامش2.
(2) "الوسيط" للسنهوري (4/ 172).

(4/373)


يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف جواب عن سؤال نصّه: إذا اشترى إنسان ألف متر من الأرض للبناء مثلًا بألفي جنيه على أن يدفع في الحال ربع ثمنها والباقي يدفعه أقساطًا سنوية لمدة خمس عشرة سنة كل قسط مائة جنيه على أن يدفع المائة مائة وخمسة أو ستة فأجاب:
بعض المسلمين قالوا هذا حرام لأن هذه الخمسة فائدة وهي ربا محرم، وأنا أخالف في هذا وأقرر أن هذه الخمسة أو الستة ليست ربا الفضل الوارد بالسُّنة وإنما هى حصة الأجل من الثمن وهي الفرق بين سعر المبيع إذا بيع بثمن حال وسعره إذا بيع بثمن مؤجل.
ويقول "وزارة الأوقاف تبيع الأرض في مدينة الأوقاف على هذه الصورة: يدفع المشترى في الحال خُمس الثمن ويدفع الباقي على خمسة عشر قسطًا، منها عشرة أقساط يدفع المشترى فوق كل قسط ثلاثة أو أربعة في المائة منه، وسمتها فائدة ولهذا اعترض عليها بعض المسلمين فسمتها بدل بيع، وأخيرًا صرحت بالحقيقة وجعلت في وقت للمزايدة سعرين: سعرًا للمتر لمن يدفع الثمن كله في الحال، وسعرًا أعلى للمتر لمن يدفع بعض الثمن في الحال وباقيه على آجال. والفرق يساوى مجموع ما كان يضاف على الأقساط" (1).
ويبدو لي أن ما ذهب إليه الشيخ خلاف -رحمه الله- من جواز إفراد الزيادة على القسط الشهرى بالذكر أو غير مستساغ شرعًا، بخلاف ما لو أُدمجت الزيادة التي تقابل الأجل مع المبلغ الإجمالي للسلعة ولم تتميز، كما لو قال البائع للمشترى: أبيعك هذه الشقة بعشرين ألفًا، تدفع نصفها فورًا ويقسط الباقي على أشهر معلومة، وكان قد أضاف الزيادة التي تقابل التأجيل إلى العشرين ألفًا فإن البيع يجوز. في حين لو قال له: رأس مالها خمسة عشر ألفًا وتدفع كذا فورًا والباقي على أقساط، ويضاف إلى كل قسط زيادة مقدارها كذا -وهي الصورة التي أفردها الشيخ- فإن ذلك لا يجوز، لأن هذه الزيادة لا معنى لها حينئذ إلا الربا المحرم. والله تعالى أعلم.
المبحث الرابع: أحكام بيع التقسيط:
المطلب الأول: شروط البيع بالتقسيط: من المعلوم أن لعقد البيع المطلق شروطًا
__________
(1) مجلة "لواء الإِسلام" (ص 903)، عدد مايو 1951، فتوى الشيخ عبد الوهاب خلاف.

(4/374)


فصلتها كتب الفقه الإسلامي، غير أن البيع بالتقسيط يختص ببعض الشروط المرتبطة بطبيعته أهمها ما يأتي:
أولًا: أن يكون الأجل أو الآجال فيه معلومة: فلما كان الأجل عنصرًا أساسيًا في بيع التقسط لأنه قسيم البيع المطلق أو الحال الذي يدفع الثمن فيه فورًا، فسنتكلم عن العلم بالأجل من حيث الاعتبارات التالية:
1 - معناه: من اللازم أن يكون أجل دفع كل قسط في هذا البيع معلوم الوقت عند كلا العاقدين, لأن جهالته تفضى إلى النزاع فيفسد البيع. والظاهر من عبارة جمهور الفقهاء أن أجل الدفع إذا كان مجهولًا فإن البيع يفسد سواء أكان الجهالة يسيرة أم فاحشة، فإذا حدد دفع كل حصة بآخر الشهر مثلًا صح فاتفاق نظرًا للعلم النافي للجهالة، أما إن كان وقت الدفع مجهولًا جهالة فاحشة كما لو حدده بنزول المطر مثلًا فهذا باطل باتفاق. أما إن كانت الجهالة يسيرة كالتحديد بالحصاد فالبيع باطل عند الجمهور أيضًا, لأن الفاحشة فيها غرر الوجود والعدم، واليسيرة مما يتقدم الأجل قيس ويتأخر؛ فيؤدى إلى المنازعة فيوجب فساد البيع. وقال بعض الحنفية بالجواز إن كانت الجهالة ليست فاحشة نظرًا وإن الحصاد لا يكون في كل وقت بل في مدة من الزمن محدودة يتردد وقوعها بين أولها وآخرها (1).
وقد ذهب المالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح في المذهب إلى أن تأجيل الثمن إلى أجل مجهول يبطل العقد (2) وذهب الحنفية إلى أن البيع لا يبطل بالجهالة اليسيرة كقدوم الحاج والحصاد (3).
وذهب أحمد في رواية عنه، وهو قول ابن شبرمة إلى أن العقد صحيح ويبطل التأجيل (4).
__________
(1) "بدائع الصنائع" (7/ 3093)، "المبسوط" (13/ 26، 27)، "الفتاوى البزازية" (4/ 404)، "المجموع" (9/ 373)، "كشاف القناع" (3/ 194، 203)، "الفروع" (4/ 85)، "حاشية قليوبي وعميرة" (2/ 177)، "شرح النيل" (4/ 4)، "حاشية الدسوقي" (2/ 67).
(2) "الدسوقى على الشرح الكبير" (2/ 123)، "حاشية قليوبي وعميرة" (2/ 178)، "المغني" (3/ 589).
(3) "الهداية" (2/ 33)، "فتح القدير" (6/ 455).
(4) "المغني" (3/ 589).

(4/375)


دليل الجمهور: إن هذا شرط فاسد، والبيع يبطل بالشروط الفاسدة، وأنها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة (1).
دليل الحنفية: أن الجهالة مانعة من لزوم العقد، وليست في صُلبه، بل في أمر خارج هو الأجل، فإذا زال المانع قبل وجود ما يقتضي الفساد وهو المنازعة عند المطالبة الحاصلة عند مجىء الوقت ظهر محل المقتضى وهو انقلابه صحيحًا (2).
دليلُ رواية الحنابلة الثانية قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون على شروطهم"، ولأن الأجل مجرد وصف للعقد لا ركن فيه فيلغى ويصح العقد، ولأن الفساد للمنازعة وقد ارتفع قبل تقرره (3) والراجح ما ذهب إليه الجمهور من القول ببطلان هذا العقد، لأن المفسد هو الشرط وهو مقترن بالعقد، ولأن العقد لا يخلو عن أن يكون صحيحًا أو فاسدًا، فإذا كان صحيحًا مع وجود الأجل لم يفسد باشتراطه، وإن كان فاسدًا لم ينقلب صحيحًا كما لو باع درهمًا بدرهمين ثم حذف أحدهما.
جاء في المادة (246) من مجلة الأحكام العدلية: يلزم أن تكون المدة معلومة في البيع بالتقسيط والتأجيل، وفي المادة (247): إذا عقد البيع على تأجيل الثمن إلى كذا يومًا أو شهرًا أو سنة أو إلى وقت معلوم عند العاقدين كيوم قاسم ويوم النيروز صح البيع إذا كان قاسم أو النيروز معلومًا عند المتبايعين، أما لو كان مجهولًا عندهما أو عند أحدهما فقط فلا يصح.
وفي المادة (248): تأجيل الثمن إلى مدة غير معينة كأمطار السماء يفسد البيع (4) أما القانون الوضعى ففى المادة (483) من القانون الأردني: الثمن في البيع المطلق يستحق معجلًا ما لم يتفق على أو يتعارف على أن يكون مؤجلًا أو مقسطًا لأجل معلوم وفي المادة (574) مدنى عراقى "يصح البيع بثمن حال إلى أجل معلوم".
وهاتان المادتان وإن ذكرتا الأجل في ظاهر النص، وأوجبنا أن يكون أجل ثمن
__________
(1) المراجع في هامش (2).
(2) "فتح القدير" (6/ 455).
(3) "كشاف القناع" (3/ 190) "المغني" (3/ 590).
(4) "شرح مجلة الأحكام العدلية"، منير القاضى (1/ 280 - 282)، درر الحكّام شرح مجلة الأحكام، حيد مجلد 1ج (2/ 473)، "النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإِسلامية"، صبحى محمصانى، (473): دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1972 م.

(4/376)


المبيع معلومًا، إلا أنه ليس فيهما ما يدل على أن عدم ذكره يبطل العقد. فلم يقصد بهما مخالفة القواعد القانونية العامة، ومن ثم يفسر النص على أنه ذكر حكم البيع بثمن مؤجل إلى أجل معلوم، وسكت عن حكم البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول، فيرجع إلى القواعد القانونية العامة وهي تجيز البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول.
ومن هنا نرى أن الاتجاه القانوني يخالف الاتجاه الفقهي الإسلامي من حيث تحديد أجل معلوم للثمن، ففى حين يشترط الفقه ذلك، ويتشدد فيه، ويبطل العقد عند انعدامه، فإن القوانين المدنية تسمح بقدر من الغرر لا تسمح به الشريعة الإِسلامية. ولا ريب أن نظرة الفقه الأكثر سدادًا وهي الأحق بالعمل بها (1).
وهذا هو قول أبى حنيفة. وقال الصاحبان: الحالان سواء، ولا يعطى المشترى أجلًا في الحالة الثانية لأن السنة المطلقة تنصرف إلى سنة تعقب العقد بلا فصل، فإذا مضت انتهى الأجل، كما لو عين الأجل نصًّا (2).
وإلى هذا ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة حيث اعتبروا ابتداء الأجل من وقت العقد (3).
وقد أخذت مجلة الأحكام العدلية برأى أبي حنيفة. ففى المادة (250) يعتبر ابتداء مدة الأجل والقسط المذكورين من وقت تسليم المبيع (4).
كما نصت المادة (484) من القانون الأردني على أنه إذا كان الثمن مؤجلًا أو مقسطًا فإن الأجل يبدأ من تاريخ تسليم المبيع، وفي المادة (574) من القانون العراقي يعتبر ابتداء الأجل والقسط المذكورين فيعقد البيع وقت تسليم المبيع ما لم يتفق على غير ذلك" (5).
وما قلناه من ابتداء الأجل من وقت التسليم عند أبي حنيفة مشروط بما إذا لم يكن للمشترى خيار فإن كان في البيع خيار الشرط لهما أو لأحدهما فابتداء الأجل من حين وجوب العقد وهو وقت سقوط الخيار لا حين وجوده لأن تأجيل الثمن
__________
(1) "نظرية الأجل" (187)، "أحكام عقد البيع" (287).
(2) "بدائع الصنائع" (7/ 3093، 3261)، "الفتاوى البزازية" (4/ 511).
(3) "المجموع" (9/ 214)، "كشاف القناع" (3/ 203).
(4) "مجلة الأحكام العدلية"، منير القاضى (1/ 284).
(5) "أحكام عند البيع" (286).

(4/377)


هو تأخيره عن وقت وجوبه ووقت وجوبه هو وقت العقد وانبرامه لا قبله. وهذا قول أبي حنيفة. وبه قال إمام الحرمين من الشافعية، لأن الخيار يمنع من المطالبة بالثمن كالأجل فكان قريبًا والخيار تأجيل لإلزام الملك أو نقله والأجل تأخير المطالبة، فكان في معناه ولا سبيل إلى جمع المثلين (1).
وقال الشافعية والحنابلة ابتداء الأجل ومن وقت العقد -على الراجح من مذهبهم (2).
وإلى هذا المعنى ذهبت المادة (250) من المجلة.
3 - انتهاء الأجل؛ إذا باع رجل لآخر سلعة بثمن مؤجل أو مقسط، فإن الأجل يحل في الحالات التالية:
(أ) حلول الأجل: فإذا باع السلعة على أن يدفع المشترى مقدارًا معينًا من الثمن في نهاية كل شهر مثلًا، فإن الأجل ينتهى لكل قسط بانقضاء الشهر. وقبل ذلك لا يحق للبائع أن يطلب المشترى بالثمن لأن رضاه بالتأجيل رضي بتأخير حقه إلى الموعد المضروب.
(ب) موت المشتري وإفلاسه: فإذا توفي المشترى حل الثمن المؤجل، ولا يحل بموت البائع، لأن الأجل يبطل بموت المدين دون الدائن، ووجه ذلك: أن فائدة التأجيل تظهر في أن يتجر المشترى فيؤدى الثمن من نماء المال، فإذا مات تعين المال الذي تركه لقضاء الدين فلا يجدى التأجيل (3).
وإذا أفلس المشتري في البيع المؤجل وعجز عن أداء الثمن فلا يفسخ العقد، لأنه يجوز للشخص أن يشترى سلعة بقرض حالًا وإن لم يكن في ملكه، نعرف أن وجوب تسليم الثمن ليس من حكم العقد، والعجز عن تسليم الثمن إذا طرأ بالإفلاس لا يكون أقوى من العجز عن تسليم الثمن إذا اقترن بالعقد (4).
3 - شروط التأجيل: يشترط لصحة التأجيل والتقسيط ما يأتي:
(أ) أن يكون الثمن من نوع الديون، فإذا أجل تسليم المبيع المثلى إلى الثمن
__________
(1) "بدائع الصنائع" (7/ 3662).
(2) "المجموع" (9/ 215)، "كشاف القناع" (3/ 204).
(3) "الفتاوى البزازية" (4/ 511، 512)، "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (2/ 212)، "الأم" (3/ 88)، "المغنى" (4/ 485).
(4) "المبسوط" (13/ 198).

(4/378)


المعين بأن قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا فالبيع باطل. لأن التأجيل إنما جاز لضرورة عدم وجود الثمن لدى المشترى وتمكينًا له من اكتسابه في مدة الأجل، ولا ضرورة في الأعيان، فكان التأجيل فيها تغييرًا لمقتضى العقد فأوجب فساده (1).
(ب) أن لا يكون الثمن بدل صرف، ولا ثمن مسلم فيه في بيع السلم، لأنه يشترط فيهما قبض الثمن في المجلس، فلا يمكن التأجيل سدًّا لذريعة الربا (2).
(جـ) أن لا يكون في السعر غبن فاحش: فعلى البائع أن يقتصر على الربح الذي جرت به العادة وأن لا يستغل ظروف المشترى الحرجة ليبيعه بأضعاف مضاعفة, لأن هذا من الجشع والطمع والإضرار بالناس وأكل أموالهم بالباطل (3).
(د) العلم بالثمن الأول إذا كان البيع بالتقسيط يقع في نطاق بيوع الأمانة كبيع المرابحة والتولية أو المواضعة، فإذا لم يكن معلومًا فالبيع فاسد لجهالة الثمن (4).
(هـ) أن لا يشترط في عقد البيع بالتقسيط أنه إذا عجل المشتري الثمن فإن البائع يسقط من المطلوب قدرًا معينًا. ويحق للبائع إسقاط بعض الثمن دون اتفاق مسبق ويكون ذلك من قبيل تمليك الدين ممن هو عليه، ومن باب حسن الاقتضاء (5).
(و) لا يجوز في عقد البيع بالتقسيط أن يشترى البائع على المشترى -سواء عند العقد أم بعده- أن يزيد في الثمن أو الربح عندما يتأخر المدين عن الوفاء بالدين (6).
__________
(1) "بدائع الصنائع" (7/ 4083 - 84)، "المجموع" (9/ 373).
(2) "الفتاوى البزازية" (4/ 398).
(3) "مجموعة فتاوى ابن تيمية" (29/ 496)، "الإِسلام وثقافة الإنسان" (397)، "الحلال والحرام"، القرضاوى (147)، "مجلة لواء الإِسلام" (822) عدد 11 السنة الرابعة، رجب 1370 هـ، 1951 م، "مجلة الاقتصاد الإسلامي"، المجلد الأول، العدد 11 شوال 1402 هـ، "مجلة البحوث الإِسلامية" العدد السابع 1403 هـ، فتوى رقم 71.
(4) الفتوى الصادرة عن الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية رقم (61/ 81)، نشرتها مجلة الشريعة (ص 264) العدد الأول، السنة الأولى.
(5) "فتوى الهيئة العامة بوزارة الأوقاف الكويتية"، نظرية الأجل، د. عبد الناصر العطار (271).
(6) "فتوى الهيئة العامة بوزارة الأوقاف الكويتية" رقم (61/ 81).

(4/379)


(ز) أن يكون غرض المشتري من شراء السلعة بثمن مؤجل أعلى من المعجل سد حاجته إليها، أو الاتجار بها، أما إذا كان يقصد من ذلك بيعها لحاجته الماسة إلى مبلغ من المال لقضاء بعض مصالحه، وهي ما تعرف بمسألة عدم الجواز، لما روى أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - سئل عن التورق فقال: هو أخية الربا (1).
وهناك بعض الشروط التي انفرد القانون الوضعى بذكرها لبيع التقسيط:
1 - أن يكون البائع تاجرًا، ومعتادًا على بيع السلعة بالتقسيط، أو يشكل البيع بالتقسيط أحد أعماله الأساسية (2).
2 - أن لا يقل رأس ماله عن خمسة آلاف جنيه مصرى أو ما يعادلها لغرض إكسابه مركزًا ماليًا يمنعه من التعسف (3).
3 - أن يتوفر لديه سجل خاص لقيد العمليات المتعلقة بهذا البيع، وفق النموذج الذي تقره وزارة التجارة (4).
4 - أن يكون عقد البيع محررًا على نسختين، وذلك حسمًا لمادة النزاع الذي ربما ثار بين المتعاقدين (5).
5 - أن يستوفى البائع ما لا يقل عن 25% من ثمن السلعة نقدًا عند التسليم بقصد حماية المشترى (6).
6 - أن لا يقل القسط عن جنيه شهريًا، وأن لا تزيد مدة التقسيط المتبقى من ثمن البيع عن سنتين من تاريخ العقد (7).
7 - أن تكون أقساط الثمن متساوية في المقدار، وأن تكون منتظمة وتؤدى خلال فترة معقولة (8).
وهذه الشروط لا تأباها نصوص الشريعة وقواعدها العامة كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون على
__________
(1) "مجموعة فتاوى ابن تيمية" (29/ 486).
(2) "العقود التجارية" (60 - 63)، القانون التجارى، رضا عبيد (68 - 70)، "شرح القانون التجاري"، د. على الصريف (1/ 212، 213)، النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإِسلامية (2/ 473).
(3 - 7) المراجع السابقة.
(8) بيع التقسيط (16).

(4/380)


شروطهم .. " وقاعدة: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. وقاعدة: لا ضرر ولا ضرار: الضرر يزال، كما أشار ابن عابدين في حاشيته إلى بعض هذه الشروط (1).
المطلب الثاني: مقتضى البيع بالتقسيط وتبعاته: مقتصى عقد البيع انتقال ملكية المبيع للمشترى، وملكية الثمن للبائع. ولما كان الثمن في البيع بالتقسيط مؤجلًا، فعليه لا يتم قبضه عند التعاقد، غير أن ذلك لا يعطى البائع حق الامتناع من تسليم البيع.
جاء في المجموع شرح المهذب (قال أصحابنا: للمشترى الاستقلال بقبض المبيع بغير إذن البائع إذا كان دفع الثمن، أو كان مؤجلًا. ..) (2).
وقال في موضع آخر "ولو باع بشرط أن لا يسلم المبيع حتى يستوفى الثمن، فإن كان الثمن مؤجلًا بطل العقد، لأنه يجب تسليم المبيع في الحال، فهو شرط مناف لمقتضاه" (3).
ومعلوم أن مقتضى العقد هو تملك المبيع بمجرد تمامه.
وقال الكاساني في عداد حديثه عن الشروط الفاسدة في عقد البيع .. ومنها شرط الأجل في المبيع العين والثمن العين، وهو أن يضرب لتسليمها أجل، لأن القياس يأبى التأجيل أصلًا، لأنه تغيير مقتضى العقد، لأنه عقد معاوضة تمليك وتسليم بتسليم. والتأجيل ينفى وجوب التسليم المال فكان مغيرًا لمقتضى العقد. وإنما جاز التأجيل لصاحب الأجل لضرورة العدة ترفيهًا وتمكينًا له عن اكتساب الثمن في المدة المضروبة، ولا ضرورة في الأعيان فيبقى الأجل فيها تغييرًا محضًا لمقتضى العقد فيوجب فساد العقد (4).
وقال في موضع آخر ومن آثار عقد البيع: ثبوت حق الحبس للمبيع لاستيفاء الثمن في الثمن الحال، فإن كان مؤجلًا لا يثبت حق الحبس، لأن ولاية الحبس تثبت حقًّا للبائع لطلبه المساواة عادة، ولما باع بثمن مؤجل نقدًا سقط حق نفسه فبطلت الولاية، وكذا الحكم لو كان الثمن حالًا فأجله البائع بعد العقد (5). ويقول
__________
(1) "حاشية ابن عابدين" (4/ 533).
(2) "المجموع" (9/ 295).
(3) "المجموع" (9/ 412).
(4) "بدائع الصنائع" (7/ 3083، 3084).
(5) "بدائع الصنائع" (7/ 3261).

(4/381)


"إذا أخر -البائع- الثمن بعد العقد بطل حق الحبس، لأنه أخر حق نفسه في قبض الثمن فلا يتأخر حق المشترى في قبض المبيع وكذا لو قبض المشترى المبيع بإذن البائع بطل حق الحبس حتى لا يملك الاسترداد لأنه أبطل حقه بالإذن بالقبض" (1).
وجاء في المبسوط "إذا لم يصل إلى البائع جميع الثمن يبقى له الحق في حبس المبيع إلا أن يكون الثمن مؤجلًا، فحينئذ ليس له أن يحبس المبيع قبل حلول الأجل، ولا بعد حلول الأجل, لأنه قبل حلول الأجل ليس له أن يطالب بالثمن، وإنما بحبس المبيع بما له أن يطالبه من الثمن، وأما بعد حلول الأجل فلأن حق الحبس لم يثبت له بأصل العقد فلا يثبت بعد ذلك تبعًا بهذا الحق ما كان له من استحقاق إليه قبل البيع، فإذا لم يبق ذلك بعد العقد، لا يثبت ابتداء بحلول الأجل (2).
وجاء في المدونة: (قلت) أرأيت لو أني اشتريت من رجل ثوبًا بعينه بعشرة دراهم إلى أجل، فافترقنا قبل أن أقبض الثوب منه، أيجوز هذا في قول مالك؟ (قال): نعم والبيع جائز، وللمشترى أن يأخذ ثوبه، ولا يفسد البيع افتراقهما، لأنه لم يمنع من أخذه منه، لأن الثمن إلى أجل، وليس للبائع أن يحبس الثوب ويقول لا أدفعه حتى آخذ الثمن (3).
وفيها أيضًا: (قلت) أرأيت لو اشتريت منه سلعة بعينها بدين إلى أجل فافترقنا قبل أن أقبض، أيجوز هذا في قول مالك أم لا؟ (قال) لا بأس بذلك في قوله وليقبض سلعته، لأن مالكًا كره أن يشترى الرجل الطعام كيلًا بدين إلى أجل والطعام بعينه، ثم يؤخر كيل الطعام إلى الأجل البعيد (4).
وفي المغني: ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده، باختيار البائع وبغير اختياره، لأنه ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن .. (5) وهذا في حال كون الثمن معجلًا، ففى المؤجل أولى.
وفيه أيضًا: "وإن اختلفا في التسليم فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض
__________
(1) "بدائع الصنائع" (7/ 3265).
(2) "المبسوط" (13/ 192، 193).
(3) "المدونة الكبرى" للإمام مالك بن أنس (4/ 153)، دار صادر، بيروت.
(4) "المدونة الكبرى" (4/ 154).
(5) "المغني" (4/ 126).

(4/382)


الثمن. وقال المشترى: لا أسلم حتى أقبض المبيع، والثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع .. " ويقول: وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على تسليم المبيع على الإطلاق (1) يعني سواء اكان في الذمة أم عينًا، مؤجلًا أم معجلًا.
وفي الدر المختار: وفي بيع سلعة بمثلها أو ثمن بمثله سلما معًا ما لم يكن أحدهما دينًا كسلم وعن مؤجل، وقال صاحب رد المختار: للبائع حبس المبيع إلى قبض الثمن ... ويسقط بتأجيل ثمن (2).
ويقول ابن أمين الحجاج "المبيع المؤجل فيه الثمن سبب في الحال، لأن الأجل دخوله على الثمن ليقيد تأخير المطالبة قبل الأجل لا على البيع، فلا معنى لمنعه من الانعقاد ولا لحكمه الذي هو ثبوت الملك في البيع وثبوت الثمن في الذمة إذ لا وجه لتأثير الشىء فيما لا يدخل عليه. ومعنى هذا أن البيع المؤجل فيه الثمن ينعقد صحيحًا نافذًا لازمًا إلا فيما دخل عليه الأجل (3).
ومن هذه العبارات يظهر بجلاء أن الملكية تنتقل بمجرد العقد وأنه ليس لأجل الإضافة في الفقه الإسلامي أثر على وجود الالتزام وأن البائع لا يجوز أن يمتنع من تسليم السلعة إذا قبضها المشترى بإذنه، أو كان الثمن مؤجلًا قبض شيئًا من الثمن أو لم يقبضه كله، لأنه أسقط حق نفسه باختياره، فلا يثبت له ما ينافى مقصود الشرع من العقد.
وكما أن المبيع ينتقل إلى المشترى كمقتضى للعقد، فإن ينتقل إلى البائع بمقتضاه أيضًا، ويكون هذا الانتقال فوريًا إن كان الثمن حالًا، وعند حلول الأجل إن كان الثمن مؤجلًا.
وفي القانور الوضعي من المقرر كذلك أنه لا ارتباط من انتقال الملكية وبين أداء الثمن، فالملكية تنتقل إذا كان المبيع منقولًا معينًا بالذات فعقد البيع ينشىء التزامًا بنقل الملكية وإذا جرى الاتفاق على تأجيل الثمن أو على أقساط تستحق بعد فترة من إبرام العقد فيتوجب على البائع أن يسلم المبيع فور الانتهاء من إبرام البيع، ولكن انتقال الملكية كما نصت على ذلك المادة (286) و (269) و (374) من مجلة
__________
(1) "المغني" (4/ 218).
(2) "حاشية رد المحتار على الدرر المختار" (4/ 561).
(3) "التقرير والتجبير شرح التحرير" لابن أمين الحاج (132)، ط 1316 بمصر.

(4/383)


الأحكام وإلى هذا أشارت المادة (346) من القانون المدني المصري و (356) مدني عراقي و (397) مدني كويتي (1).
ولكن انتقال الملكية يتم تلقائيًا في المبيع المعين بالذات الذي يملكه البائع، والإفراز في المبيع المنقول المعين بالنوع، وبالتسجيل في العقار ويتم انتقال الملكية مقابل التزام المشترى بالثمن سواء دفعه المشترى حين العقد، أم بقى دينًا في ذمته مستحق الأداء أم كان مؤجلًا أم مقسطًا.
وهذا ما نصت عليه المواد (204، 205) مدني مصرى، (393، 394) مدني لبناني، (231) مدني عراقي، (205، 206) مدني سوري و (494) مدني أردني (2).
ومما تقدم يظهر أنه فيما يتعلق بالمنقول المعين بالذات أن ملكيته تنتقل إلى المشترى فور إبرام العقد، ويستوى في ذلك حكم الشرع ومجلة الأحكام والقوانين الوضعية (3).
ونظرًا لطبيعة بيع التقسيط التي تيسر للمشترى الحصول على السلعة بشروط سهلة تغريه بالشراء فيثقل بذلك كاهلة ويعجزه عن الوفاء بدينه، مما ينعكس أثره على البائع إضاعة لحقوقه، وإضعافًا لمركزه المالي مع من يحصل على بضائعه منهم، لذا اقتضى الأمر أن يقوم المشرع القانوني ببعض الترتيبات بغرض الحفاظ على حقوق كل من البائع والمشترى في هذه المعاملة وكان أبرز هذه الإجراءات ما يأتي:
أولًا: فيما يتعلق بالمحافظة على حقوق البائع: وتحقيقًا لهذا الغرض منح الضمانات التالية:
1 - حق حبس المبيع والامتناع من تسليمه للمشترى في حالة إفلاس المشترى أو إعساره أو ضعف التأمينات التي قدمها لكفالة الثمن.
2 - حق استرداد المبيع فيما إذا أحل المشترى بتنفيذ التزامه بسداد ثمن المبيع بعد مضى الأجل المحدد في بيع التقسيط.
__________
(1) "شرح عقد البيع" د. الصراف (353، 526 - 529).
(2) "نظرية الأجل" (112)، "بيع التقسيط" في هامشه (101, 102)، "شرح أحكام عقد البيع" د. الونداوى، (108)، "شرح أحكام عقد البيع في القانون المدني الليبي" (165)، "العقود المسماة"، أنور سلطان، 22 - 24.
(3) "شرح عقد البيع" د. الصراف (357).

(4/384)


3 - الاحتفاظ بالملكية: فيجوز للبائع أن يشترط في العقد تعليق انتقال الملكية على شرط واقف يتمثل بدفع الثمن المقسط كله.
4 - الرهن والكفالة.
5 - إيقاع بعض الجزاءات على المشتري إذا امتنع عن تسلم المبيع كالغرامة التهديدية، أو إيداع المبيع عند ثالث، أو المطالبة بالفسخ.
وتطبق على هذه الضمانات أحكامها العامة كما أوردتها كتب الفقه والقانون في مظانها.
ولقد رتب قانون التجارة على المشترى عقوبات شديدة في هذه الحالة منها بيع السلعة بالمزاد العلني بعد مضى مدة معقولة يحددها البائع ويخطر بها المشترى بسرعة، أو أن يبيعها في السوق إن كان لها سعر معلوم على يد سمسار، ومن ثم يودع حصيلة البيع خزانة المحكمة مع الاحتفاظ بحقه في خصم الثمن ومصروفات البيع (1).
ثانيًا: في جانب المشتري:
قلنا أن البيع إذا تم صحيحًا مستوفيًا لأركانه وشروطه لزم البائع أن يقوم بتسليم المبيع للمشترى سواء كان الثمن حالًا أم مؤجلًا برضا البائع، ويلتزم البائع في مقابل ذلك بتسليم الثمن للبائع إذا كان حالًا، أو عند حلول أجل الأقساط إذا كان مقسطًا.
وتحدثنا فيما تقدم عن الضمانات الشرعية والقانونية التي تحفظ من البائع في مواجهة المشترى سواء من حيث الامتناع من تسليم المبيع، أو فسخ العقد واسترداد السلعة، أو الاحتفاظ بملكية المبيع، أو الإيجاز السائر للبيع، أو أخذ رهن أو كفيل.
وسنتكلم الآن عن الضمانات التي منحها الشرع والقانون للمشترى من أجل المحافظة على حقوقه وأهمها:
1 - تسليم العين المبيعة: وينطبق على التسليم من حيث كيفيته وطرقه، والحالة التي يسلم عليها المبيع، وجزاء الإخلال به من التنفيذ العيني جدًّا، وفسخ العقد، وضمان عدم التعرض والاستحقاق والعيوب الخفية أحكام تسليم المبيع والثمن -بوجه عام- على البيع بالتقسيط.
__________
(1) "شرح عقد البيع في القانون الكويتي" (673).

(4/385)


2 - حق حبس الثمن: فإذا كان تنفيذ البائع لالتزامه بتسليم المبيع مؤجلًا إلى وقت لاحق محدد ومتفق عليه بين الطرفين، وكما دفع الثمن مقسطًا كذلك، فلم يقم البائع بتسليم المبيع في الزمن المحدد، فإن للمشترى الحق في التوقف عن دفع الأقساط اللاحقة، لأنه لا يمكنه المطالبة بإبطال البيع في هذه الحالة، ولا ممارسة دعوى الضمان فيكون له الامتناع عن الوفاء بالثمن (1).
ويملك المشترى هذا الحق سواء كان لم يتسلم المبيع بعد، أم تسلمه لكنه عاد إلى البائع لسبب فاحتفظ به (2)، ومن جهة أخرى يملك المشترى حبس الثمن عن البائع إذا تهدد حق المشترى في ملكية المبيع الذي تسلمه فعلًا كما لو تعرض أحد للمشترى مطالبًا بالمبيع إلى حق سابق على البيع، أو إذا حكم على المبيع أن ينزع من المشترى لظهوره مستحقًا بدين أو رهن، أو كان به عيب خفي يبرر رده، وقد جاء في المادة (392) من المجلة أنه لا يجوز بأى وجه كان للمشترى أن يحبس الثمن الحال بعد قبض في المبيع إلا إذا استحق المبيع -وقد نص القانون على جواز المبيع كما في المواد (457) مصرى، (446) ليبي، (425) سوري، (430) لبناني، (576) عراقي. ويثبت حق المشترى في التعرض ولو لم ينص عليه في البيع كما في (445) مصري، (434) ليبي، (413) سوري، (576) عراقي (3).
وكذلك يملك نزع المبيع من يد المشتري لأسباب جدية كما لو طالب الشفيع بالمبيع بحق الشفعة، ودفع الثمن للبائع، أو كما لو كان البائع قد اشترى المبيع ولم يدفع ثمنه، الأمر الذي يهدد بفسخ عقد البيع واسترداد المالك الأصلي للمبيع.
ولو ظهر في المبيع عيب خفي يستوجب ضمان البائع كان للمشترى أن يحبس الثمن (4).
وفي الحالات السابقة يتوقف حق حبس الثمن على ما إذا كان لم يدفع الثمن. أما إذا كان قد دفعه فليس أمامه إلا دعوى الفسخ أو دعوى الضمان (5).
__________
(1) "بيع التقسيط والعقود الائتمانية" (328).
(2) المرجع نفسه (329).
(3) "شرح عقد البيع في القانون الكويتي" (664)، "بيع التقسيط" (330 - 338).
(4) "العقود المسماة" (285 - 288)، "أحكام عقد البيع" الوانداوى (170، 214)، "شرح عقد البيع في القانون الليبي" (296) وما بعدها، "شرح عقد البيع في القانون الكويتي" (418، 419).
(5) "بيع التقسيط" (340)، "عقد البيع" الوانداوي، (287)، "شرح عقد البيع في القانون الليبي" (266)، "العقود المسماة" (178).

(4/386)


ويسقط حقه في الحبس في تلك الحالات إذا زال سبب الحبس أو تنازل المشتري له عن حق الحبس أو قدم البائع للمشتري كفيلًا بالثمن (1).
3 - حماية المشتري بالتطبيق للقواعد العامة: فيستطيع المشتري بموجب القواعد العامة المنظمة لإبرام العقود اللجوء إلى القواعد المتعلقة بعيوب الإرادة بصفة خاصة، كالغلط والتدليس والإكراه والاستغلال، كما يستطيع اللجوء إلى نظرية الظروف الطارئة التي تسمح للقاضي إذا ظهرت حوادث استثنائية لم يكن بالإمكان توقعها على حدوثها إرهاق المدين وتهديده، بخسارة فادحة بأن يتدخل لتعديل آثار العقد لصالح المشتري وخفض الجزء المؤجل دفعه من الثمن (2).
4 - حماية المشتري بنصوص تشريعية خاصة:
فنظرًا لعدم كفاية القواعد العامة على توفير الحماية اللازمة للمشتري، فقد وضع الشرع عددًا من الأنظمة التشريعية الخاصة بهدف الوقوف إلى جانب المشتري ومنها:
حماية سابقة على التعاقد: وذلك بإلزام كل من يقوم بالنشر أو الإعلان عن سلعة لإغراء المستهلك بشرائها بالتقسيط ببعض البيانات سواء الشخصية المتعلقة بشخصية البائع وطبيعة المبيع ومدة الدفع، أو المتعلقة ببيان ثمن السلعة الحقيقي، وبذا يكون المشتري على بينة من الأمر، فلا يتعرض للغش أو الخداع من قبل البائع (3).
حماية في مرحلة التعاقد: وذلك عن طريق إصدار الأنظمة التي تلزم بأن يتم عقد البيع الآجل كتابة، وإعلام المشتري بشروط التعاقد، وتحديد شروط التعاقد من حيث بيان الحد الأدنى الذي يدفع مقدمًا، ومدة الأجل والحد الأقصى للزيادة في الثمن مقابل الأجل، وعدم إعطاء البائع الحق في استحقاق الأقساط المتبينة إذا عجز المشتري عن أداء بعض الأقساط (4).
__________
(1) "عقد البيع" (292 - 294)، "شرح أحكام عقد البيع الليبي" (354)، "الوسيط" (4/ 794)، "العقود المسماة" (288) "بيع التقسيط" (341) وما بعدها.
(2) "أحكام عقد البيع"، الوانداوي (167)، "بيع التقسيط" (352 - 358).
(3)، (4) "بيع التقسيط" (358 - 363).

(4/387)


خلاصة البحث
تتمثل أهم النتائج التي توصلت إليها بعد إعداد البحث بما يأتي:
1 - أن البيع بالتقسيط يعني أن يعرض البائع على المشتري سلعة بثمن يدفعه في وقت لاحق لإتمام العقد، وبصورة دفعات متفرقة تدفع في أزمان يتفق المتعاقدان عليها، مع ملاحظة وجود زيادة في ثمن السلعة عن ذاك الذي تباع به لو كان الدفع للثمن حاضرًا عند العقد.
2 - أن مظان مسألة البيع بالتقسيط تكمن في ثنايا البيوع الفاسدة أو البيوع المنهي عنها في كتب الحديث النبوى والفقه الإسلامي لاسيما "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة" و"نهيه عن صفقتين في صفقة" و"نهيه عن شرطين في بيع أو سلف وبيع"، وذلك لأن من أبرز معاني هذه الأحاديث كما ذكرتها عبارات شراح الحديث والفقهاء: أن يقول البائع للمشتري أبيعك هذه السلعة بكذا حالًا أو بكذا مؤجلًا. وهي أقرب الصورة إلى معنى بيع التقسيط والبيع بأجل.
3 - أن البيوع المذكورة باطلة أو فاسدة عند جمهور العلماء وعلة بطلانها أو فسادها كون الثمن مجهولًا، ولكونها ذريعة إلى الربا المحرم وعليه، بينت عبارات العلماء بصورة صريحة أو عن طريق الدلالة أنه إذا انتفت هذه العلة بأن اختار المشتري أحد الثمنين وعينه قبل التفرق من المجلس، ولم يكن البائع قد ألزمه بالبيع قبل الاختيار فإن العقد يكون صحيحًا، بل إن الفساد يزول عند الحنفية لو عين الثمن المراد بعد العقد من منطلق قولهم بأن الفساد يرتفع بزوال المفسد.
4 - بناء على ما تقدم، ولما كان بيع التقسيط يتضمن اختيار المشتري برضاه وإرادته للثمن الآجل مع الزيادة قبل التفرق من المجلس، وبناء على ما أقامه جمهور الفقهاء من أدلة تنفى التشابه بين الزيادة في الثمن عند البيع بالتقسيط وبين الزيادة في الربا وهو المستند الرئيسي للمانعين من القول بصحة بيع التقسيط، بالإضافة إلى أدلتهم القوية الأخرى، ومناقشتهم الدقيقة لأدلة القائلين بالبطلان مما جعلها لا تنتهض بها حجة، كل ذلك كان مرجحًا ومعزرًا للقول بصحة التعامل ببيع التقسيط، وأنه لا أثم ولا حرمة فيه ولا شبهة.
5 - أن فتاوى وأقوال جل العلماء القدامى والمعاصرين جاءت تعلن القول بصحة بيع التقسيط.

(4/388)


6 - أن علماء القانون المدني الوضعي قد وافقوا علماء الشريعة في القول بصحة البيع بالتقسيط.
7 - أن علماء الشريعة ورجال القانون قد أحاطوا عقد البيع بالتقسيط؛ بسياج من الشروط التي تضمن تحقيق هدفه في تيسير معاملات الناس، وتسهيل حصولهم على حاجاتهم من خلال الدفع الميسر المريح، مع ملاحظة ترويج بضائع التجار وتنشيط الحركة التجارية دون أن يكتنف ذلك شىء من الاستغلال أو الغبن أو التغرير أو الخداع وإضاعة الحقوق أو المماطلة والتسويف أو اتخاذ الحلال ذريعة إلى الحرام.
8 - أن الأحكام الفقهية والنصوص القانونية قد أوضحت بصورة جلية حدود العلاقة بين البائع والمشترى، وما يترتب لكل واحد منهما أزاء الآخر من حقوق والتزامات، ووضعت القيود، ومنحت كلًا منهما الضمانات التي تكفل له حقه وتصونه من العبث والإهدار، فيبقى التعامل بين المسلمين نقيًّا لا يشوبه لبس، ولا يفضي إلى خصومة، بل يكون سبيلًا إلى تحقيق مقصود الشارع الحكيم في المحبة والتعاون والتراحم بين العباد.

(4/389)


ثالثًا: البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع
1 - بيع الرجل على بيع أخيه:
• عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له" (1).
• عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" (2).
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يسم المسلم على سوم أخيه" (3).
• عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر" (4).
• قال النووى -رحمه الله-:
أما البيع على بيع أخيه: فمثاله أن يقول لمن اشترى شيئًا في مدة الخيار: أفسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه، أو أجود منه بثمنه، ونحو ذلك، وهذا حرام، يحرم أيضًا الشراء على شراء أخيه، وهو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن، ونحو هذا.
• وأما السوم على سوم أخيه: فهو أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول الآخر للبائع أنا أشتريه، وهذا حرام بعد استقرار الثمن. وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد ليس بحرام (5).
• قال الحافظ ابن حجر:
قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء. وهو مجمع عليه (6).
__________
(1) أخرجه البخاري (2140) ومسلم (1514) وغيرهما.
(2) أخرجه البخاري (2139) ومسلم (1514) وغيرهما.
(3) أخرجه البخاري (2727) ومسلم (1515).
(4) صحيح أخرجه النسائي (7/ 258) رقم (4516).
(5) شرح صحيح مسلم (5/ 149. 150).
(6) فتح البارى (4/ 414، 415).

(4/390)


والحرمة لما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه، والنهي يقتضي الفساد (1). وهذا بالإضافة إلى التدابر والتقاطع والتحاسد والبغضاء.
2 - بيع النَّجْشُ:
النجش لغة: الإثارة. يقال: نجش الطائر: إذا أثاره من مكانه.
ومعناه اصطلاحًا: أن يزيد الرجل في ثمن السلعة، وليس قصده أن يشتريها، بل ليرغب غيره، فيوقعه فيه، أو يمدح البيع بما ليس فيه ليروجه.
وسمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختص بذلك الناجش، وقد يختص به البائع كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك. وقال ابن قتيبة: النجش: الختل والخديعة (2).
• عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجش" (3).
• قال الإِمام البخاري: قال ابن أبي أوفى "الناجش آكل ربا خائن" وهو صراع باطل لا يحل (4).
• قال الحافظ ابن حجر: أطلق ابن أبي أوفى على من أخبر بأكثر مما اشترى به أنه ناجش لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في غرور الغير فاشتركا في الحكم لذلك وكونه آكل ربا بهذا التفسير (5).
• ومذهب جمهور الفقهاء: أن بيع النجش حرام، وذلك لثبوت النهي عنه، ولما فيه من خديعة المسلم، وهي حرام (6).
3 - بيع تلقي الجَلَب أو الركبان أو السلع:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُتلقى الجَلَبُ" (7).
__________
(1) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 214 - 218).
(2) المصدر السابق (9/ 220) وفتح البارى (4/ 416).
(3) أخرجه البخاري (2142) ومسلم (1516).
(4) انظر صحيح البخاري كتاب البيوع -باب النجش، والحديث رقم (2675).
(5) فتح البارى (4/ 417).
(6) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 221).
(7) أخرجه مسلم (1519).

(4/391)


• عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى يُبلغ به سوق الطعام" (1).
• وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تُتلقى السلع حتى تبلغ الأسواق" (2).
• عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن تلقى البيوع" (3).
• التلقى: هو الخروج من البلد التي يجلب إليها القوت ونحوه.
• والجلب: بمعنى الجالب، أو هو بمعنى المجلوب، وهو ما يجلب من بلد لبلد.
• والركبان: جمع راكب والتعبير به جرى على الغالب، والمراد القادم ولو واحدًا أو ماشيًا.
• ومعنى ذلك أن يقوم بعض الناس أو التجار بتلقى السلع الواردة إليهم وذلك قبل ورودها السوق، وقبل أن يقدموا البلد ويعرفوا سعر السوق فيخبروهم أن السعر ساقطة والسوق كاسدة والرغبة قليلة حتى يخدعوهم عما في أيديهم ويبتاعوه منهم بالوكس من الثمن، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لما فيه من الضرر.
• ذهب جمهور الفقهاء إلى أن بيع التلقي محرم لثبوت النهي عنه ولما فيه من تغرير وخداع أصحاب السلع، والإضرار بالعامة.
• وقال الإِمام البخاري: باب النهي عن تلقي الركبان وأن بيعه مردود. لأن صاحبه عاص آثم إذا كان به عالمًا، وهو خداع في البيع، والخِّداع لا يجوز (4).
4 - بيع الحاضر للباد:
معناه: أن يخرج الحضري وهو السمسار إلى جالب السلعة سواء كان من أهل البادية أم من الحاضرة. وهو غريب عن البلد ويريد بيع سلعته بسعر الوقت في الحال، فيقول له هذا السمسار: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلَقُّوا الركبان، ولا يبع
__________
(1) أخرجه البخاري (2166).
(2) أخرجه البخاري (2165) ومسلم (1517).
(3) البخاري (2149) ومسلم (1518).
(4) فتح البارى (4/ 436).

(4/392)


حاضر لباد" قال طاوس: فقلت لابن عباس: ما قوله لا يبع حاضر لباد؟ قال: "لا يكون له سمسارًا" (1).
• السمسار: هو متولى البيع والشراء لغيره.
• عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبع حاضر لبادٍ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" (2).
وهذا من البيوع المحرمة للنهي عنه، والنهي يقتضي الفساد وكذلك للإضرار بالمسلمين فالبادي يقدم على البلد ويبيع سلعته بما يعود عليه بالكسب الحلال ويقضي الناس حوائجهم، لكن إذا تولى التسعير له سمسار يعرف حاجة الناس وفاقتهم زاد في السعر بربح قد يصل أضعافًا مضاعفة وهذا مخالف لسماحة الإِسلام ويسر الشارع الكريم، ولهذا جاء في الحديث: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" (3).
• قال ابن المنذر: اختلفوا في هذا النهي فالجمهور أنه على التحريم بشرط العلم بالنهي وأن يكون المتاع المجلوب مما يحتاج إليه وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع؛ وتعقب الحافظ ابن حجر الفقرة الأخيرة فقال: فأما اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك فلا يقوم لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه، فإن الضرر الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلدي وعدمه (4).
5 - بيع فضل الماء:
• عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء" (5).
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" (6).
__________
(1) أخرجه البخاري (2158) ومسلم (1521).
(2) أخرجه مسلم (1522) وأبو داود (3442).
(3) راجع اختيارات ابن قدامة الفقهية (2/ 26 - 27).
(4) فتح البارى (4/ 434، 435).
(5) أخرجه مسلم (1565) وغيره.
(6) أخرجه البخاري (2353) ومسلم (1566) وغيرهما.

(4/393)


• قال الإِمام النووى - رحمه الله -:
أما النهي عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ فمعناه أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه، فلا يمكن أصحاب المواشى رعيه إلا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله لها بلا عوض، لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعى ذلك الكلأ، خوفًا على مواشيهم من العطش، ويكون بمنعه الماء مانعًا من رعى الكلأ (1).
إذًا في منع الماء الزائد عن حاجة الإنسان فيه الضرر على الحرث والنسل والمواشي، وقد نهينا عن الضرر. ولذلك توعد الله من فعل ذلك بأنه يمنع من فضل الله يوم القيامة ولا يكلمه.
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل مائه فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك".
وفي رواية: "رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل" (2).
6 - بيع المحتكر:
عن معمر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحتكر إلا خاطئ" (3).
• قال النووى - رحمه الله -:
قال أهل اللغة: الخاطئ: هو العاصي الآثم.
وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار.
قال أصحابنا: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة، ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه، فأما إذا جاء من قريته، أو اشتراه في وقت الرخص وادخره أو ابتاعه في
__________
(1) شرح صحيح مسلم (5/ 261،260).
(2) أخرجه البخاري (2358 - 2369) ومسلم (108).
(3) أخرجه مسلم (1605).

(4/394)


وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته، فليس باحتكار ولا تحريم فيه، وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال.
• قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره، أُجبر على بيعه دفعًا للضرر عن الناس (1).
• أما ما ذكر عن سعيد بن المسيب ومعمر راوى الحديث أنهما كانا يحتكران: فهذا محمول على احتكار ما لا يضر بالناس كالزيت والأدم، أما احتكار ما يضر بالناس فلا. إذ لا يظن بالصحابي أن يروى الحديث ثم يخالفه، وكذلك سعيد بن المسيب لا يظن به في فضله وعلمه أن يروى الحديث ثم يخالفه إلا أن يحمل الحديث على بعض الأشياء التي لا تعتبر من القوت كالزيت (2).
7 - البيع الذي فيه غش ومكر وخديعة:
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كى يراه الناس؟ من غش فليس مني" (3).
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر برجل يبيع طعامًا فقال: "كيف تبيع؟ ".
فأخبره، فأُوحى إليه أن أدخل يدك فيها فأدخل، فإذا هو مبلول، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من غشنا" (4).
• عن قيس بن سعد قال: لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المكر والخديعة في النار" لكنت من أمكر الناس (5).
__________
(1) شرح صحيح مسلم (5/ 346).
(2) راجع شرح صحيح مسلم (5/ 346) وشرح السنة (8/ 179) والزواجر للهيتمي (1/ 454).
(3) أخرجه مسلم (102).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3452) والبغوي في شرح السنة (8/ 2121).
(5) حسن: أخرجه ابن عدي في الكامل وغيره. انظر الصحيحة (1057).

(4/395)


• عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار" (1).
• قال ابن العربي: الغش حرام بإجماع الأمة, لأنه نقيض النصح، وهو من الغشش وهو الماء الكدر، فلما خلط السالم بالمعيب وكتم ما لو أظهره لما أقدم عليه المبتاع (2).
• وقال البغوي: والتدليس في البيع حرام مثل أن يخفى العيب (3).
• وقال ابن حجر الهيتمي: كل من علم بسلعته عيبًا وجب عليه وجوبًا متأكدًا بيانه للمشتري، وكذلك لو علم العيب غير البائع كجاره وصاحبه ورأى إنسانًا يريد أن يشترى ولا يعرف ذلك العيب وجب عليه أن يبينه له كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا بيَّن ما فيه ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه" (4).
وكثير من الناس لا يهتدون لذلك أو لا يعلمون (5).
• فاعلم يرحمك الله تعالى أن التدليس والغش والخداع منهي عنه شرعًا باتفاق العلماء.
وقد يكون هذا التدليس والغش والخداع بالفعل والقول وكتمان الحقيقة.
• بالفعل: كإحداث فعل في المعقود عليه ليظهر بصورة غير ما هو عليه في الواقع، أي أنه تزوير الوصف المعقود عليه أو تغييره بقصد الإيهام كتوجيه البضاعة المعروضة للبيع، بوضع الجيد في الأعلى، وطلاء الأثاث والمفروشات القديمة والسيارات، لتظهر أنها حديثة، والتلاعب بعداد السيارة، لتظهر بأنها قليلة الاستعمال.
• ومن أشهر أمثلته الشاه المصراة: وهي التي يحبس اللبن في ضرعها بربط الثدى، مرة يومين أو ثلاثة ليجتمع لبنها ويمتلئ إيهامًا للمشتري بكبر ضرعها وغزارة لبنها.
__________
(1) حسن: أخرجه ابن حبان (567)، وانظر الصحيحة (1058).
(2) عارضة الأحوذي (6/ 45).
(3) شرح السنة (8/ 167).
(4) صحيح: أخرجه الحاكم (2/ 10) وغيره. وانظر غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للشيخ الألباني - رحمه الله - (339).
(5) الزواجر (1/ 467).

(4/396)


• وبالقول: كالكذب الصادر من أحد العاقدين أو ممن يعمل لحسابه حتى يحمل العاقد الآخر على التعاقد ولو بغبن، كأن يقول البائع أو المؤجر للمشتري أو للمستأجر: هذا الشىء يساوى أكثر، ولا مثيل له في السوق، أو دفع لي فيه سعر كذا فلم أقبل، ونحو ذلك من المغريات الكاذبة.
• أما كتمان الحقيقة: كأن يكتم البائع عيبًا في المبيع، كتصدع في جدران الدار وطلائها بالدهان أو الجص، وكسر في محرك السيارة، ومرض في الدابة المبيعة، أو يكتم المشتري عيبًا في النقود ككون الورقة النقدية باطلة التعامل (مزورة) أو زائلة الرقم النقدى المسجل عليها.
وحكم هذا أنه جزم شرعًا باتفاق الفقهاء (1).
8 - بيع التلجئة:
التلجئة في اللغة: الإكراه والاضطرار.
وهي من الإلجاء، كأنه قد ألجأك إلى أن تأتي أمرًا باطنه خلاف ظاهره، وأحوجك إلى أن تفعل فعلًا تكرهه (2).
وفي الاصطلاح: فيرجع معناها إلى معنى الإلجاء وهو الإكراه التام أو الملجى، كتهديد شخص لغيره بإتلاف نفس أو عضو أو ضرب مبرح إذا لم يفعل ما يطلبه منه.
أو: هو المضطر إلى البيع لتهريب أمواله من وجه ظالم.
أو: هو كتابه عقد، والتظاهر بالبيع من غير نية أو صيغة.
وبيعه فاسد عند الحنفية، باطل عند الحنابلة (3).
ففي هذا النوع ضرر للبائع حيث يكره على البيع وهو لا يريد وقد نهانا الله عن ذلك.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4).
__________
(1) راجع الفقه الإسلامي (د. وهبة الزحيلي) (4/ 218 - 220).
(2) راجع القاموس المحيط ومختار الصحاح والنهاية لابن الأثير (لفظ: لجأ).
(3) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 62) والفقه الإسلامي (4/ 501) وأصول المنهج الإسلامي (عبد الرحمن العبيد) (ص 467).
(4) سورة النساء: 29.

(4/397)


• عن أبي سعيد الخدرى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض" (1).
• قال الشيخ ابن العثيمين - رحمه الله تعالى-:
يشترط التراخي من البائع والمشتري, لأننا لو لم نشترط التراضي لأصبح الناس يأكل بعضهم بعضًا فكل إنسان يرغب في سلعة عند شخص يذهب إليه ويقول له اشتريتها منك بكذا، وهذا يؤدى إلى الفوضى والشغب والعداوة والبغضاء. فلا يصح البيع من مكره للاحق.
• والمكره هو الملجأ إلى البيع: أي المغصوب على البيع، فلا يصح من المكره إلا بحق، فلو أن سلطانًا جائرًا أرغم شخصًا على أن يبيع هذه السلعة لفلان فباعها فإن البيع لا يصح، لأنها صدرت عن غير تراض، ومثل ذلك ما لو علمت أن هذا البائع باع عليك حياءً وخجلًا فإنه لا يجوز لك أن تشتري منه ما دمت تعلم أنه لولا الحياء والخجل لم يبع عليك، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله-: يحرم قبول هدية إذا علم أن الرجل أهداها له على سبيل الحياء والخجل، لأن هذا وإن لم يصرح بأنه غير راضي، لكن دلالة الخال على أنه غير راض.
أما إذا كان الإنسان مكرهًا على البيع بحق فإن هذا إثبات للحق وليس ظلمًا وعدوانًا.
• مثال ذلك: شخص رهن بيته لإنسان في دين عليه وحل الدين فطالب الدائن بدينه، ولكن الراهن الذي عليه الدين أبي، ففى هذا الحال يجبر الراهن على بيع بيته، لأجل أن يستوفى صاحب الحق حقه فيرغم على ذلك (2).

رابعًا: البيوع المحرمة لذاتها
• وهذا النوع من البيوع يشمل كل ما لم تكن له قيمة في الشرع وقد حرمها الله تعالى وحرمها رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن أمثلة ذلك:
• (1) و (2)، و (3) و (4): بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام:
• قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ...} الآية (3).
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجة (2185) وغيره.
(2) الشرح الممتع على زاد المستقنع (8/ 120 - 122).
(3) سورة المائدة: 3.

(4/398)


• وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1).
• عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى إذا حرم شيئًا حرم ثمنه" (2).
• عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو بمكة عام الفتح: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: "لا، هو حرام". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" (3).
• قال الإِمام البغوي -رحمه الله تعالى-:
في تحريم بيع الخمر (4) والميتة دليل على تحريم بيوع الأعيان النجسة وإن كان منتفعًا بها في أحوال الضرورة.
وفيه دليل أن بيع جلد الميتة قبل الدباغ لا يجوز لنجاسة عينه، وأما بعد الدباغ فيجوز عند أكثر أهل العلم، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أيما أهاب دبغ فقد طهر" وقال مالك: لا يجوز.
واختلفوا في عظم ما لا يؤكل لحمه، وفي عظام الميتة، فذهب قوم إلى نجاستها، وتحريم التصرف فيها، وهو قول الشافعي، وذهب قوم إلى أنها لا حياة فيها, ولا يحلُّها الموت، وهي طاهرة بعد زوال الزهومة عنها، وقالوا بطهارة العاج (ناب الفيل) وهو قول أصحاب الرأى.
وتحريم بيع الخنزير دليل على هذا أيضًا، وعلى أن ما لا ينتفع به من الحيوانات لا يجوز بيعها مثل الأسد والقرد والدب والحية والعقرب والفأرة والحدأة والرخمة والنسر، وحشرات الأرض ونحوها.
__________
(1) سورة المائدة: 90.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 322)، وأبو داود (3488)، والدارقطني واللفظ له (3/ 7) وغيرهم.
(3) أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581) وغيرهما.
(4) والخمر هو كل ما خامر العقل: فيلحق بها الحشيش والأفيون والهيروين والكوكايين والبانجو والبيرة وغير ذلك من الأسماء الحديثة.

(4/399)


وفيه دليل على أن من أراق خمرًا لنصراني، أو قتل خنزيرًا له أنه لا غرامة عليه, لأنه لا ثمن لهما في حق الدين.
وفي تحريم بيع الأصنام دليل على تحريم بيع الصور المتخذة من الخشب والحديد والذهب والفضة وغيرها، وعلى تحريم بيع جميع آلات اللهو والباطل مثل الطنبور والمزمار والمعازف كلها، فإذا طمست الصور، وغيرت آلات اللهو عن حالتها، فيجوز بيع جواهرها، وأصولها، فضة كانت أو حديدًا أو خشبًا أو غيرها. انتهى باختصار (1).
• فقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:
قال جمهور العلماء: العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النجاسة فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة، ولكن المشهور عند مالك طهارة الخنزير. والعلة في منع بيع الأصنام عدم المنفعة المباحة، فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برضاضها جاز بيعها عند بعض العلماء من الشافعية وغيرهم، والأكثر على المنع حملًا للنهي على ظاهره، والظاهر أن النهي عن بيعها للمبالغة في التنفير عنها، ويلتحق بها في الحكم الصلبان التي تعظمها النصارى ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته (2).
(5) و (6) بيع الكلب والدم والسِّنَّور (القط):
• عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي، وحلوان الكاهن" (3).
• عن أبي جحيفة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأمة ولعن الواشمة والمستوشمة، وأكل الربا وموكله، ولعن المصور" (4).
• قال الحافظ ابن حجر: ظاهر النهي تحريم بيع الكلب، وهو عام في كل كلب معلمًا كان أو غيره مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز ومن لازم ذلك أن لا قيمة على متلفه وبذلك قال الجمهور.
والعلة في تحريم بيعه عند الشافعي نجاسته مطلقًا وهي قائمة في المعلم وغيره (5).
__________
(1) "شرح السنة" (8/ 27، 28).
(2) "فتح البارى" (4/ 497).
(3) أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1567).
(4) أخرجه البخاري (2238).
(5) "فتح الباري" (4/ 499).

(4/400)


• وقوله "نهى عن ثمن الدم": قال الحافظ ابن حجر: المراد تحريم بيع الدم كما حرم بيع الميتة والخنزير، وهو حرام إجماعًا أعنى بيع الدم وأخذ ثمنه" (1).
• وقال الإِمام أحمد - رحمه الله -: بيع الدم لا يجوز, لأنه نجس (2).
• وقال ابن حزم - رحمه الله -: وقد حرم الله تعالى الخنزير والخمر، والميتة، والدم فحرم ملك كل ذلك وشربه والانتفاع به وبيعه، ولا يحل بيع كلب أصلًا لا كلب صيد ولا كلب ماشية ولا غيرهما فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه وهو حلال للمشتري حرام على البائع ينتزع منه الثمن متى قدر عليه كالرشوة في دفع الظلم (3).
• أما بالنسبة للسنور أو الهر أو القط فقد جاء النهي عن بيعه أيضًا.
• عن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسِّنَّور؟ قال: زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (4).
• عن جابر - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب والسَنَّور" (5).
قوله (زجر): قال ابن حزم - رحمه الله -:
الزجر: أشد النهي.
ولا يحل بيع الهر فمن اضطر إليه لأذى الفأر فواجب على من عنده منها فضل عن حاجته أن يعطيه منها ما يدفع به الله تعالى عنه الضرر (6).
7 - بيع الصُّوَر:
• عن سعيد بن أبي الحسن قال: "كنت عند ابن عباس - رضي الله عنهما - إذ أتاه رجل فقال: يا أبا عباس إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعته يقول: "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها
__________
(1) "فتح البارى" (4/ 499).
(2) شرح السنة (8/ 25).
(3) "المحلى" (9/ 8 , 9).
(4) أخرجه مسلم (1569).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3479)، والترمذي (1279)، وابن ماجة (2161).
(6) "المحلى" (9/ 13).

(4/401)


أبدًا" فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهُهُ. فقال: "ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر، كل شىء ليس فيه روح" (1).
• عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الذين يصنعون هذه الصُّوَر يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" (2).
• عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون" (3).
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه تماثيل أو تصاوير" (4) وفي رواية: "كلب ولا صورة" (5).
• قال الإِمام النووي: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان (أو ذى الروح) حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر, لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير غير ذى الروح كالشجر فليس بحرام. هذا حكم نفس التصور، وأما اتخاذ المصور وفيه صورة ذى روح فإن كان معلقًا في حائط أو ثوب مما لا يمتهن فهو حرام، وإن كان في بساط يداس أو مخدة ونحوهما مما يمتهن فليس بحرام ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له. ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة هذا البيت؟ والأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث. والله أعلم. انتهى باختصار (6).
• وقال ابن حزم - رحمه الله -: لا يحل بيع الصور إلا للعب الصبايا فقط. وحرام علينا تنفير الملائكة عن بيوتنا وهم رسل الله عَزَّ وَجَلَّ والمتقرب إليه عز وجل بقربهم (7). انتهى باختصار.
__________
(1) أخرجه البخاري (2225)، ومسلم (2110) وغيرهما.
(2) أخرجه البخاري (5951)، ومسلم (2108) وغيرهما.
(3) أخرجه البخاري (5950)، ومسلم (2109) وغيرهما.
(4) أخرجه مسلم (2112).
(5) أخرجه البخاري (3322).
(6) راجع شرح صحيح مسلم للنووى (6/ 745) د. قلعجي، وشرح صحيح مسلم للأُبّي (7/ 252، 253)
(7) "المحلى" (9/ 25، 26).

(4/402)


8 - بيع آلات اللهو والمعازف والطرب:
• من المعلوم لكل من اطلع على كتب الأئمة، اتفاقهم على تحريم الغناء الذي تصحبه آلات الطرب والمعازف، ولا عبرة بقول من شذ وخالف. وإليك بعض الأدلة في ذلك.
• قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1).
• قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -وهو أحد السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة والمفتين فسر هذه الآية بالغناء، كما روى ذلك عنه أبو الصهباء البكرى أنه سمع عبد الله بن مسعودِ وهو يُسأل عن هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فقال عبد الله: "الغناء، والذي لا إله إلا هو" يرددها ثلاث مرات (2).
• عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعرى أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخَمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم -جبل- يروح عليهم بسَارحة لهم -أي ماشية- يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة" (3).
• في هذا الحديث يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيكون أقوام من أمته "يستحلون الحِرَ" وهو الفرج، وهو كناية عن الزنا، والحرير والخمر والمعازف، وقوله "يستحلون" صريحة في أن المذكورات ومنها "المعازف" هى في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك القوم.
ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن المعازف مع المقطوع بحرمته وهو "الزنا والخمر" ولو لم تكن محرمة ما قرنها معها، ثم أخبر عن أقوام من هؤلاء المستحلين لهذه المحرمات أنهم ينزلون إلى "جنب علم" وهو: الجبل العالي، وعندهم الراعي يسرح
__________
(1) سورة لقمان: 6، 7.
(2) حسن: أخرجه ابن جرير الطبرى في تفسيره، وابن أبي شيبة في المصنف (4/ 373)، والحاكم (2/ 411)، والبيهقي في السنن (10/ 223).
(3) أخرجه البخاري (5590).

(4/403)


بمواشيهم، فيأتيهم الفقير ذو الحاجة فيقولون له: ارجع إلينا غدًا ليعطوه "فيبيتهم الله" أي يهلكهم ليلًا، ويوقع الجبل ويدكه عليهم، ويمسخ أقوامًا منهم قردة وخنازير، أعاذنا الله من ذلك والمسلمين.
• عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف"، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذاك؟ قال: "إذا ظهرت القينات (المغنيات) والمعازف وشربت الخمور" (1).
• عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا القينات (المُغَنِّيات) ولا تستروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام". في مثل هذا أنزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2) (3).
• ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع آلات اللهو المحرمة والمعازف إلا ما جاز استعماله منها وصرحوا بعدم صحة بيعها (4).

خامسًا: البيوع المحرمة لغيرها
1 - البيع عند أذان الجمعة:
• أمر الله تعالى بترك البيع عند النداء (الأذان) يوم الجمعة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5).
• والأمر بترك البيع نهى عنه.
• ولم يختلف الفقهاء في أن هذا البيع محرم لهذا النص.
• قال صديق حسن خان:
والمراد بالآية ترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل لهم: بادروا تجارة
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي (2212) وغيره. انظر: "الصحيحة" (1604).
(2) سورة لقمان: 6.
(3) حسن: أخرجه الترمذي (1282 - 3195) وغيره. انظر: "الصحيحة" (2922).
(4) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 157).
(5) سورة الجمعة: 9.

(4/404)


الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شىء أنفع منه وأربح وذروا البيع الذي نفعه يسير. قال في الكشاف: عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب الفساد، لأن البيع لم يحرم لعينه بل لما فيه من التشاغل عن الصلاة فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة (1).
• قيود تحريم هذا البيع:
1 - أن كون المشتغل بالبيع ممن تلزمه الجمعة، فلا يحرم البيع على المرأة والصغير والمريض.
2 - أن يكون المشتغل بالبيع عالمًا بالنهى.
3 - انتفاء الضرورة للبيع، كبيع المضطر ما يأكله، وبيع كفن من خيف تغيره بالتأخير.
4 - أن يكون البيع بعد الشروع في أذان الخطبة (2).
2 - البيع في المسجد:
• عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيع والاشتراء في المسجد (وفي رواية) عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة، وعن الحِلق يوم الجمعة قبل الصلاة" (3).
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك" (4).
• قال الشوكاني: الحديثان يدلان على تحريم البيع والشراء، وإنشاد الضالة، وإنشاد الأشعار والتحلق يوم الجمعة قبل الصلاة (5).
• عن عطاء بن يسار: "كان إذا مر عليه من يبيع في المسجد دعاه فسأله ما معك؟ وما تريد؟ فإن أخبره أنه يريد أن يبيعه، قال: عليك بسوق الدنيا، وإنما هذا سوق الآخرة" (6).
__________
(1) "فتح البيان في مقاصد القرآن" (14/ 139، 140).
(2) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 225).
(3) حسن: أخرجه أحمد (2/ 179 - 212)، وأبو داود (1079)، والترمذي (322) وغيرهم.
(4) صحيح: أخرجه الترمذي (1321) وغيره. انظر: "الإرواء" (1495).
(5) "نيل الأوطار" (2/ 271).
(6) "موطأ مالك" (1/ 174) بلاغًا.

(4/405)


• قال الشيخ عبد الله البسام حول الحديث الثاني: حديث أبى هريرة ما يؤخذ من الحديث:
1 - إنه يجب على من سمع من يبيع أو يشترى في المسجد أن يقول له جهرًا: لا أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تبن للبيع والشراء.
2 - تحريم البيع والشراء في المسجد.
3 - المساجد إنما بنيت لطاعة الله وعبادته، فيجب أن تجتنب أحوال الدنيا (1). انتهى باختصار.
وقال الخطابي: ويدخل في هذا كل أمر لم يبن له المسجد: من أمور معاملات الناس، واقتضاء حقوقهم، وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد (2).
3 - بيع المصحف للكافر:
• اتفق الفقهاء على أن اليبع ممنوع وصرح جمهورهم بالحرمة، لأن فيه امتهان حرمة الإِسلام بملك المصحف. وقد قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (3).
وأصل هذا التعليل يرجع إلى ما روى في الصحيح عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو" (4).
• ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم، فلا يجوز تمكينهم منه. ولأنه يمنع الكافر من استدامة الملك عليه، فمنع من ابتدائه كسائر ما لا يجوز بيعه، ولما في ملك الكافر للمصحف ونحوه من الإهانة (5).
• قال النووى: قوله "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو"
__________
(1) "توضيح الأحكام" (1/ 529).
(2) "شرح السنة" (2/ 375).
(3) سورة النساء: 141.
(4) أخرجه البخاري (2990)، ومسلم (1869) (92).
(5) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 230 - 231).

(4/406)


وفي الرواية الأخرى "مخافة أن يناله العدو" (1)، وفي الرواية الأخرى: "فإني لا آمن أن يناله العدو" (2).
فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا منع منه حينئذ لعدم العلة، هذا هو الصحيح (3).
4 - بيع السلاح في الفتنة:
• ولقد بوب الإِمام البخاري في صحيحه (باب: بيع السلاح في الفتنة وغيرها) وذكر تحته حديثًا.
• عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين فبعت الدرع فابتعت به مَخْرَفًا (4) في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته (5) في الإِسلام" (6).
• قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - تعليقًا على باب بيع السلاح في الفتن المراد بالفتنة: ما يقع في الحروب بين المسلمين لأن في بيعه إذ ذاك إعانة لمن اشتراه، وهذا محله إذا اشتبه الحال، فأما إذا تحقق الباغى فالبيع للطائفة التي في جانبها الحق لا بأس به، قال ابن بطال: إنما كره بيع السلاح في الفتنة لأنه من باب التعاون على الإثم.
• وقال الحافظ أيضًا: ويحتمل أن المراد بإيراد هذا الحديث جواز بيع السلاح في الفتنة لمن لا يخشى منه الضرر لأن أبا قتادة باع درعه في الوقت الذي كان القتال فيه قائمًا بين المسلمين والمشركين وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، والظن به أنه لم يبعه ممن يعين على قتال المسلمين، فيستفاد منه جواز بيعه في زمن القتال لمن لا يخشى منه (7).
__________
(1) أخرجه مسلم (1869) (93).
(2) أخرجه مسلم (1869) (94).
(3) "شرح صحيح مسلم" (6/ 310).
(4) مخرفًا: المخرف هو البستان.
(5) تأثلته: أي جعلته أصل مالى.
(6) أخرجه البخاري (2100).
(7) "فتح البارى" (4/ 378، 379).

(4/407)


• وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
لا يصح بيع سلاح في فتنة بين المسلمين، فلو حصل فتنة، وقتال بين المسلمين، وجاء رجل يشترى منك سلاحًا، وغلب على ظنك أنه اشترى منك السلاح ليقاتل المسلمين فإنه يحرم عليك أن تبيعه إياه. فإن قال صاحب السلاح: لعله اشتراه لأجل أن يصطاد به صيدا مباحًا فما الجواب؟
نقول: لا نمنع إلا إذا غلب على ظنك أنه اشتراه من أجل أن يقاتل المسلمين.
وكذلك لو اشترى رجل سلاحًا ليصطاد به صيدًا في الحرم بأن تعرف أن هذا الرجل من أهل الصيد، وهو الآن في الحرم واشترى منك السلاح لأجل أن يصطاد به صيدًا في الحرم، فهذا حرام ولا يصح البيِع لأنه من باب التعاون علي الإثم والعدوان، وتأمل القرآن الكريم في قوله {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1).
يدخل فيها آلاف المسائل لأنها كلمة عامة تشمل التعاون على الإثم والعدوان في العقود والتبرعات والمعاوضات والأنكحة وغير ذلك، فكل ما فيه التعاون على الإثم والعدوان فإنه حرام (2).
5 - تحريم بيع العصير ممن يتخذه خمرًا وكل بيع أعان على معصية:
• عن بريدة الأسلمى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرًا فقد تقحم النار على بصيرة" (3).
• قال الصنعانى - رحمه الله -:
والحديث دليل على تحريم بيع العنب ممن يتخذه خمرًا لوعيد البائع بالنار وهو مع القصد محرم إجماعًا وأما مع عدم القصد فقال الهادوية يجوز البيع مع الكراهة ويؤول بأن ذلك مع الشك في جعله خمرًا وأما إذا علمه فهو محرم ويقاس على ذلك ما كان يستعان به في معصية وأما ما لا يفعل إلا لمعصية كالمزامير والطنابير
__________
(1) سورة المائدة: 2.
(2) "الشرح الممتع" (8/ 206 - 207).
(3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5352)، وقال ابن حجر في "بلوغ المرام" (770) إسناده حسن.

(4/408)


ونحوها فلا يجوز بيعها ولا شراؤها إجماعًا وكذلك بيع السلاح والكراع من الكفار والبغاة إذا كانوا يستعينون بها على ضرب المسلمين فإنه لا يجوز (1).
• قال موسى بن أحمد الحجاوي القدسي صاحب "زاد المستقنع": "ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمرًا".
• وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - شرحًا لهذه الفقرة فقال: قوله "ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمرًا" (ممن) أي على من، فلا يصح بيع العصير على إنسان يريد أن يتخذه خمرًا، والعصير معروف كعصير عنب أو تين أو برتقال أو غيره اشتراه إنسان وهو عصير طازج، لأجل أن يخمره، ويتخذه خمرًا فإن البيع لا يصح.
والدليل قول الله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2).
فإن قال قائل: ما الذي يدريني أن هذا الرجل اشترى العصير ليتخذه خمرًا أو ليشربه في الوقت الحاضر؟
نقول: إذا غلب على ظنك أن هذا من القوم الذين يشترون العصير ليتخذوه خمرًا كفى ذلك وصار هذا حرامًا، لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، والله سبحانه وتعالى قد نهى عن ذلك. وإلا فالأصل الصحة، وعدم المنع.
وكذلك لا يصح بيع أواني لمن يستقي بها الخمر: بأن أعرف أن صاحب هذا المطعم يأتيه الناس يشربون الخمر عنده، وأتى إليَّ ليشتري أواني يسقي بها الخمر، فهذا غير جائز، لأن هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان (3).
• قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
ولا يصح بيع ما قصد به الحرام، كعصير يتخذه خمرًا إذا علم ذلك، كمذهب أحمد وغيره، أو ظن، وهو أحد القولين، ويؤيده أن الأصحاب قالوا: لو ظن المؤجر أن المستأجر يستأجر الدار لمعصية، كبيع الخمر ونحوه، لم يجز له أن يؤجره تلك الدار ولم تصح الإجارة، والبيع والإجارة سواء (4).
__________
(1) "سبل السلام" (3/ 55).
(2) سورة المائدة: 2.
(3) "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (8/ 205 - 207).
(4) الاختيارات الفقهية (ص 180) طبعة دار العاصمة.

(4/409)


سادسًا: بيوع مختلف في حرمتها
1 - بيع التورق:
• وصورته: أن يقوم المشتري بشراء السلعة مؤجلة بمبلغ مائة جنيهٍ مثلًا من البائع ثم يبيعها بأقل من غير بائعها الأول وليكن بمبلغ ثمانين جنيهًا ويقبض ثمنها.
• قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
مسألة التورق فيها خلاف بين العلماء، وفيها روايتان عن الإِمام أحمد.
• فمن العلماء من قال: هى جائزة، لأن هذه السلعة قد يشتريها الإنسان لغرض مقصود بعين السلعة، كرجل اشترى سيارة من أجل أن يستعملها، أو يكون الغرض قيمة السيارة، فاشتراها لأجل أن يبيعها ويتوسع بالثمن فهذا الغرض كالغرض الأول، لكن الغرض الأول أراد الانتفاع بعينها وهذا أراد الانتفاع بقيمتها فلا فرق. ولهذا قالوا إنها جائزة.
• القول الثاني: إنها حرام وهي رواية عن الإِمام أحمد، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (1)، وهو المروى عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - (2).
• ووجه ذلك: أن مقصود الذي اشترى السيارة هو الدراهم، فكأنه أخذ دراهم قدرها ثمانون بدراهم قدرها مائة إلى أجل، فيكون حيلة، وقد نص الإِمام أحمد أن (مسألة التورق) من مسائل العينة.
ولكن على القول بأنها حلال لابد أن يكون الباعث لها الحاجة، فلو كان الباعث لها الزيادة والتكاثر فإن ذلك حرام لا يجوز، لأنه إذا لم يكن حاجة فلا وجه لجوازها، إذ إنها حيلة قريبة على الربا.
• قال ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (إعلام الموقعين) (3):
إن شيخنا - رحمه الله - كان يراجع فيها كثيرًا لعله يحللها, ولكنه -رحمه الله- يأبى ويقوم هل حرام، والحيل لا تزد المحرمات إلا خبثًا.
• ثم قال الشيخ ابن عثيمين: لكن أنا أرى أنها حلال بشروط هي:
الشرط الأول: أن يتعذر القرض أو السلم أي: أن يتعذر الحصول على المال
__________
(1) قال في "الاختبارات" (ص 190): وتحرم مسألة التورق وهو رواية عن أحمد.
(2) راجع "مجموع الفتاوى" (29/ 30 - 434 - 442 - 446).
(3) "إعلام الموقعين" (3/ 223).

(4/410)


بطريق مباح، والقرض في وقتنا الحاضر الغالب أنه متعذر، ولاسيما عند التجار إلا من شاء الله، والسلم أيضًا قليل، ولا يعرفه الناس كثيرًا، والسلم هو: تعجيل الثمن وتأخير المبيع أي: آتي للشخص وأقول أنا محتاج عشرين ألف ريال، وأعطني عشرة آلاف ريال أعطيك بدلها بعد سنة سيارة صفتها كذا، وكذا أو أعطيك بدلها بُرًّا أو أرزًا، ويصفه فهذا يسمى السلم، ويسمى السلف، وهو جائز فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يفعلون ذلك السنة والسنتين في الثمار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أسلف في شىء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" (1).
الشرط الثاني: أن يكون محتاجًا لذلك حاجة بيِّنة.
الشرط الثالث: أن تكون السلعة عند البائع، فإن لم تكن عند البائع فقد باع ما لم يدخل في ضمانه، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع السلع في مكان شرائها حتى ينقلها التاجر إلى رحله" (2).
فهذا من باب أولى، لأنها ليست عنده، فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة، فأرجو ألا يكون بها بأس، لأن الإنسان قد يضطر أحيانًا إلى هذه المعاملات (3).
2 - بيع العربون:
• صفته: أن يشترى السلعة، ويدفع إلى البائع درهمًا أو أكثر، على أنه إن أخذ السلعة، احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع (4).
• والفقهاء مختلفون في حكم هذا البيع.
• فجمهورهم، من الحنفية والمالكية والشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، يرون أنه لا يصح، وهو المروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والحسن كما يقول ابن قدامة، وذلك: للنهي عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العربان" (5).
ولأنه من أكل أموال الناس بالباطل، وفيه غرر ولأن فيه شرطين مفسدين: شرط الهبة للعربون، وشرط رد المبيع بتقدير أن لا يرضى.
__________
(1) أخرجه البخاري (2239)، ومسلم (1604).
(2) أخرجه البخاري (2123)، ومسلم (1527) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.
(3) "الشرح الممتع" (8/ 231 - 233).
(4) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 93).
(5) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3502)، وابن ماجة (2192) وغيرهما.

(4/411)


• ومذهب الحنابلة جواز هذه الصورة من البيوع، وصرحوا بأن ما ذهب إليه الأئمة من عدم الجواز، هو القياس، لكن قالوا: وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى عن نافع بن الحارث: أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر، وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شىء أقول؟ هذا عمر - رضي الله عنه - (1).
• قال الخطابي - رحمه الله -:
وقد اختلف الناس في جواز هذا البيع، فأبطله مالك والشافعي للخبر، ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ويدخل ذلك في أكل المال بالباطل، وأبطله أصحاب الرأى. وقد روى عن ابن عمر أنه أجاز هذا البيع ويروى ذلك أيضًا عن عمر. ومال أحمد بن حنبل إلى القول بإجازته، وقال: أي شىء أقدر أن أقول وهذا عمر - رضي الله عنه - يعني أنه أجازه، وضعف الحديث فيه لأنه منقطع وكأن رواية مالك فيه عن بلاغ (2).
• قال الشوكاني - رحمه الله -: والأولى ما ذهب إليه الجمهور، لأن حديث عمرو بن شعيب قد ورد من طرق يقوى بعضها بعضًا. ولأنه يتضمن الحظر، وهو أرجح من الإباحة كما تقرر في الأصول. والعلة في النهي عنه: اشتماله على شرطين فاسدين: أحدهما: شرط كونه ما دفعه إليه يكون مجانًا إن اختار ترك السلعة.
والثاني: شرط الرد على البائع إذا لم يقع منه الرضا بالبيع (3).
• وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-:
ما حكم أخذ البائع للعربون إذا لم يتم البيع وصورته أن يتبايع شخصان، فإن تم البيع أكمل له القيمة وإن لم يتم البيع أخذ البائع العربون ولا يرده للمشتري.
• فأجاب: لا حرج في أخذ العربون في أصح قولى العلماء إذا اتفق البائع والمشترى على ذلك ولم يتم البيع (4).
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 94).
(2) "معالم السنن على حاشية سنن أبي داود" (3/ 768).
(3) "نيل الأوطار" (6/ 289).
(4) "فقه وفتاوى البيوع" (ص 291). جمع أشرف بن عبد المقصود.

(4/412)


3 - بيع الحيوان بالحيوان نسيئة:
• عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" (1).
• عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا بأس بالحيوان: واحدًا باثنين، يدًا بيد، وكرهه نسيئة".
وفي رواية: "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، اثنين بواحد، ولا بأس به يدًا بيد" (2).
• عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "جاء عبد فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد. فجاء سيده يريده، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعنيه" فاشتراه بعبدين أسودين ثم لم يبايع أحدًا بعد، حتى يسأله "أعبدٌ هو؟ " (3).
• عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشًا فنفذت الإبل فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن آخذ من قلائص (4) الصدقة فكنت آخذ البعير بالبعيرين" (5).
• عن أبي رافع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلف من رجل بكرًا (6)، فقدمت عليه إبل من الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا (7) , فقال: "أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً" (8).
• قال البغوي -رحمه الله تعالى-:
والعمل على هذا عند أهل العلم كلهم أنه يجوز بيع حيوان بحيوانين نقدًا،
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد (5/ 12)، وأبو داود (3356)، وابن ماجة (2270) وغيرهم وصححه الشيخ الألباني "الصحيحة" (5/ 540)، والمشكاة (2822) وصحيحي أبو داود وابن ماجة.
(2) حسن: أخرجه ابن ماجة (2271)، وأحمد (3/ 310) وغيرهما. وانظر: "الصحيحة" (2416).
(3) أخرجه مسلم (1602) وغيره.
(4) القلائص: جمع قلوص: وهي الناقة الشابة.
(5) حسن: أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/ 56 - 57)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 288)، وقال الحافظ في "بلوغ المرام" رجاله ثقات (794).
(6) البَكْر من الإبل: كالغلام من الآدميين.
(7) الرباع: من الإبل ما استكمل ست سنين ودخل في السابعة.
(8) أخرجه مسلم (1601).

(4/413)


سواء كان الجنس واحدًا أو مختلفًا واختلفوا في بيع الحيوان بالحيوان، أو بالحيوانين نسيئة، فمنعه جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يروى فيه عن ابن عباس، وهو قول عطاء بن أبي رباح، وإليه ذهب سفيان الثورى، وأصحاب الرأى وأحمد بن حنبل، واحتجوا بما روى عن الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" ورخص فيه بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - روى ذلك عن علي وابن عمر، وإليه ذهب سعيد بن المسيب، وابن سيرين، والزهرى، وهو قول الشافعي وإسحاق، سواء كان الجنس واحدًا أو مختلفًا مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم وسواء باع واحدًا بواحد أو باثنين فأكثر.
• وقال مالك - رحمه الله -: إن كان الجنس مختلفًا يجوز، وإن كان متفقًا فلا.
• واحتج من جوز ذلك بما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشًا فنفذت الإبل .. " الحديث وسبق ذكره.
• وروى أن علي بن أبي طالب باع جملًا يقال له: عُصيفير بعشرين بعيرًا إلى أجل (1).
• وعن ابن عمر أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة (2) (وهي قرية قرب المدينة).
• وأما حديث الحسن عن سمرة فاختلف أهل الحديث في اتصاله، وأوله بعضهم وحمله على بيع الحيوان بالحيوان نسيئة من الطرفين فيكون من باب الكالئ بالكالئ (أي الدَّين بالدَّين)، وحديث عبد الله بن عمرو دليل على جواز السلم في الحيوان، وهو قول أكثر أهل العلم، ولم يجوزه أصحاب الرأى. انتهى باختصار" (3).
• ورجح الشوكاني التحريم، وتقرر في الأصول أن دليل التحريم أرجح من دليل الإباحة (4).
__________
(1) إسناده منقطع: أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 652)، وعبد الرزاق في "المصنف" (14142)، وجاء في المصنف أيضًا ما يعارض هذا (14143) من طريق ابن المسيب عن على أنه كره بعيرًا ببعيرين نسيئة.
(2) إسناده صحيح: أخرجه مالك (2/ 652)، والشافعي في مسنده (557)، والبيهقي في السنن (5/ 288).
(3) "شرح السنن" (8/ 73 - 75).
(4) "نيل الأوطار" (6/ 361).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب تحفة المودود

  كتاب تحفة المودود   بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله العلي العظيم الحليم الكريم الغفور الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن ال...