اللهم آمين

دعـــــاء ((سبحان الذي تعطف العزّ وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام)). دعـــــاء ((سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عددَ ما خلق في الأرض، وسبحان الله عددَ ما بين ذلك، وسبحان الله عددَ ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده، لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً...)) دعـــــاء ((سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) دعـــــاء ((سبحان الله ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة)) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديعُ السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام...)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما خلق الله، والحمد لله ملء ما خلق الله، والحمد لله عدد ما في السموات والأرض، والحمد لله ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، وسبحان الله مثلهن)) دعـــــاء ((ربَّنا لك الحمد، مِلْءَ السموات والأرض ومِلْءَ ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناءِ والمجد، أحقُّ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)) دعـــــاء ((الحمد لله الذي يطعم ولا يُطعم، منّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكلِّ بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مُوَدّع ولا مكافئ ولا مكفور ولا مستغنىً عنه. الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العُرْي، وهدى من الضلالة، وبَصّر من العماية، وفضّل على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين)) دعـــــاء ((الحمد لله عدد ما أحصى كتابُه، والحمد لله عدد ما في كتابه، والحمد عدد ما أحصى خلقه، والحمد لله مِلْءَ ما في خلقه، والحمد لله مَلْءَ سماواته وأرضه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله على كل شيء)) دعـــــاء ((اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهَك. لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتُعصى فتغفر. أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال. القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم...)) دعـــــاء ((تمَّ نورك فهديت فلك الحمد، عظم حلمك فعفوت فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد. ربَّنا: وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهناها. تطاع ربَّنا فتشكر، وتُعصى ربَّنا فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضر، وتَشفي السُقم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد، ولا يبلغ مدحتَك قولُ قائل) دعـــــاء ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدّ) دعـــــاء ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، و النبيون حق، ومحمد حق. ) دعـــــاء اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت...) .(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم...) (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) دعـــــاء ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) دعـــــاء ((لا إله إلا الله قبل كل شيء، ولا إله إلا الله بعد كل شيء، ولا إله إلا الله، يبقى ويفنى كل شيء) دعـــــاء ((اللهم ربَّ السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كل شيء، فالقَ الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء اقض عنا الدين و أغننا من الفقر) دعـــــاء ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) دعـــــاء ((يا مَن أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا كريم الصَفح، يا عظيم المنّ، يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها، يا ربنا ويا سيدنا، ويا مولانا، ويا غاية رغبتنا أسألك يا الله أن لا تَشوي خلقي بالنار) دعـــــاء ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا مانع لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت...) دعـــــاء ((اللهم بك أصاول، وبك أحاول، وبك أقاتل)) دعـــــاء ((اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي...) دعـــــاء ((اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى، ونَحْفِد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك؛ إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلْحِق) دعـــــاء ((اللهم رب السموات ورب الأرضين، وربَّنا وربَّ كل شيء، فالق الحبِّ والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن... أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، والظاهر فليس فوقك شيء، والباطن فليس دونك شيء...) دعـــــاء ((اللهم إني أسألك باسمك الطاهر الطيب المباركِ الأحب إليك الذي إذا دُعيت به أجبتَ، وإذا سُئلت به أعطيتَ، وإذا استُرحمت به رحمت، وإذا استُفرجت به فَرّجت...) دعـــــاء ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطَر السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون...) دعـــــاء ((اللهـم أنت المـلك لا إلـه إلا أنــت، أنـت ربـي وأنـا عبـدك... لبيـك وسعديـك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت... اللهم ربنا لك الحمد مِلْءَ السماء ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ مابينهما ومِلْءَ ما شئت من شي بعد... أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله ألا أنت) دعـــــاء ((اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم لك أنفه...) دعـــــاء ((اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 25 يناير 2024

صحيح فقه السنة {ج2.} وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة المؤلف: أبو مالك كمال بن السيد سالم مع تعليقات فقهية معاصرة: فضيلة الشيخ/ ناصر الدين الألباني فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن باز فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين

 

: صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة
المؤلف: أبو مالك كمال بن السيد سالم
مع تعليقات فقهية معاصرة:
فضيلة الشيخ/ ناصر الدين الألباني
فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن باز
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين

(أ) أما الكتاب: فقال تعالى {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (1).
وقد ثبت أنها نزلت تأمر الناس بالوقوف بعرفة: فعن عروة عن أبيه عن عائشة أن هذه الآية نزلت في الخمس (2)، قال: كانوا يفيضون من جمع فدُفعوا إلى عرفات» (3).
(ب) وأما السنة فعدة أحاديث أشهرها: حديث عبد الرحمن بن يعمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديًا ينادي: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج» (4).
(جـ) وقد نقل عدد من العلماء الإجماع «على أنه ركن من أركان الحج، وأنه من فاته فعليه حج قابل» (5).
وقته:
1 - يبدأ وقت الوقوف بعرفة بعد الزوال (الظهر) يوم عرفة عند الجمهور (6)، لفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يقف بعرفة إلا بعد الزوال -كما في حديث جابر الطويل- وقد قال: «خذوا عني مناسككم».
وذهب الإمام أحمد -رحمه الله- إلى أن وقت الوقوف يبدأ من فجر يوم عرفة، وحُجَّته حديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى يدفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا -فقد تم حجُّه وقضة تفثه» (7) لكن قوله «أو نهارًا» مطلق، فيقيَّد بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المراد من بعد الزوال، وهذا هو الأحوط والله أعلم.
2 - ومن وقف بالنهار بعرفات فعليه أن يمدَّ وقوفه إلى ما بعد الغروب، فإن
_________
(1) سورة البقرة: 199.
(2) الحُمس هم قريش وما ولدت، وقد كانوا في الجاهلية يفيضون من جمع ويفيض الناس من عرفات، فأمروا أن يفيضوا من عرفات.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1665)، ومسلم (1219).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1933)، والترمذي (590)، والنسائي (5/ 264)، وابن ماجه (3015).
(5) «بداية المجتهد» (1/ 335).
(6) «البدائع» (2/ 125)، و «المغنى» (3/ 414).
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (5/ 263)، وابن ماجه (3016)، وانظر «الإرواء» (1066).

(2/242)


دفع منه قبل الغروب: فذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد (1) إلى أن حجَّه صحيح وعليه دم يجبر ما نقص من جمع جزء من الليل إلى النهار في الوقوف.
وفي رواية عن الشافعي: لا يجب عليه دم، وبه قال أهل الظاهر (2)، وهو الراجح مع قولنا بالوجوب وذهب مالك إلى أن حجه لا يصح حتى يجمع بين الليل والنهار في وقوقه (3)، وحجته حديث ابن عمر قال: «من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج، فليتحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل» (4).
وقد أجيب عن الحديث بأنه إنما خص الليل لأن الفوات يتعلق به، وغاية ما يدلُّ عليه أن:
3 - القدر المجزئ للوقوف أن يقف جزءًا من الليل قبل الفجر -ولو لحظة- فإن طلع الفجر قبل وقوفه فاته الحج، وقد دلَّ على هذا أيضًا حديث عروة بن مضرس المتقدم، والله أعلم.
سنن وآداب الوقوف بعرفة والإفاضة منها:
1 - الوقوف عند الصخرات: يجوز للحاج أن يقف في أي مكان من عرفة، ويستحب أن يقف عند الصخرات المفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، لما في حديث جابر: «.. حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه ..» قال النووي: فهذا هو الموقف المستحب، وأما ما اشتهر بين العوام من الأغنياء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط.
2، 3 - استقبال القبلة ورفع اليدين بالدعاء: لما في حديث جابر: «واستقبل القبلة ...»، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء عرفة، وخير ما قلت أن والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (5) وقد رود عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء عرفة عدَّة صيغ لكن في أسانيدها لين (6).
_________
(1) «البدائع» (3/ 1098)، و «المجموع» (8/ 123)، و «المغنى» (3/ 370).
(2) «المحلى» (7/ 118).
(3) «المدونة» (1/ 413)، و «بداية المجتهد» (1/ 375).
(4) صحيح مرفوعًا: أخرجه مالك في «الموطأ» (886 موقوفًا)، والدارقطني (2/ 241) مرفوعًا.
(5) حسن: أخرجه الترمذي (3585)، وابن أبي شيبة (1/ 369)، وانظر «الصحيحة» (1503).
(6) انظر «زاد المعاد» (2/ 237).

(2/243)


4 - التلبية: لحديث سعيد بن جبير قال: كنا مع ابن عباس، فقال لي: يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبُّون؟ فقلت: يخافون من معاوية، قال: فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال: لبيك اللهم لبيك، فإنهم قد تركوا السنة من بغض علي رضي الله عنه (1).
قلت: وإن كان قد ذكر ابن تيمية (26/ 136) أن التلبية بعرفة لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقلت عن الخلفاء الراشدين وغيرهم، لكن حديث ابن عباس -إن صح- فهو حجة عليه، والله أعلم.
تنبيه: هكذا ينبغي أن يكون حال الحاج على عرفة، ذكر ودعاء وحضور قلب وقراءة وتضرُّع وسؤال وابتهال وخضوع لله سبحانه، فليت شعري أين هذا ممن يفضي يوم عرفة في لهوه ولعبه معرضًا عن ربه مُنشغلاً بمحادثة رفاقه فيما لا ينفع، بل ربما يلعب الورق «الكوتشينة» والتدخين وسماع الأغاني وغير ذلك من المحرمات، نعوذ بالله من الخذلان!!
5 - أن يكون مفطرًا لا صائمًا: لحديث ميمونة: «أن الناس شكُّوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب -وهو واقف في الموقف- فشرب منه والناس ينظرون» (2).
6 - الإفاضة من عرفة (النزول) بعد الغروب بسكينة: أي برفق وطمأنينة لقول النبي صلى الله عليه وسلم -لما دفع من عرفة بعد غروب الشمس-: «أيها الناس عليكم السكينة، فإن البرَّ ليس بالإيضاع» (3) أي: الإسراع.
لكن إذا وجد أمامه فجوة فإنه يسرع قليلاً، لحديث .... : «كان صلى الله عليه وسلم يسير العَنَق، فإذا وجد فجوة نصَّ» (4).
7 - السير إلى المزدلفة مع التلبية: وقد تقدم الحديث في هذا عند «مواطن التلبية».
المبيت بمزدلفة ليلة النحر:
حكمه: اختلف أهل العلم في حكم الوقوف بالمزدلفة (5) والمبيت بها على ثلاثة أقوال:
_________
(1) صححه الألباني: أخرجه الحاكم (1/ 464 - 465)، والبيهقي (5/ 103)، وانظر «حجة النبي» (ص: 74).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (1989)، ومسلم (1124).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1671)، ومسلم (1218)، والنسائي (5/ 257).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1666)، ومسلم (1286).
(5) وتسمى أيضًا (جمعًا).

(2/244)


الأول: أنه ركن ومن فاته فقد فاته الحج: وهو مذهب ابن عباس وابن الزبير من الصحابة، وإليه ذهب النخعي والشعبي وعلقمة وأهل الظاهر، وفي مذهب مالك ما يدلَّ عليه، وهو اختيار ابن القيم -رحمهم الله تعالى- (1) وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (2).
والمشعر الحرام: قيل جبل بالمزدلفة معروف بـ «قزح»، وقيل: جميع المزدلفة.
2 - حديث عروة بن المضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا فقد أتم حجَّه وقضى تفثه» (3) ففُهم منه أن من لم يقف بالمزدلفة لم يتم حجُّه.
3 - فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج مخرج البيان للذكر المأمور به في الآية الكريمة.
القول الثاني: أنه واجب، ومن تركه عليه دم وحجُّه صحيح، وهذا مذهب جمهور العلماء (4) واستدلوا بما يأتي:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من جاء قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك» (5).
وهذا يقتضي أن من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان، صح حجُّه، ولو كان الوقوف بمزدلفة رُكنًا لم يصحَّ حجُّه.
2 - أنه لو كان ركنًا لاشترك فيه الرجال والنساء، فلما قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالليل عُلم أنه ليس بركن.
وأجابوا عن الآية وحديث عروة بن مضرس، بأن المنطوق فيهما ليس بركن إجماعًا، فإنه لو بات بالمزدلفة، ولم يذكر الله تعالى ولم يشهد الصلاة فيها صح حجُّه، فما هو من ضرورة ذلك أولى، ثم إن المبيت ليس من ضرورة ذكر الله تعالى بها، وكذلك شهود صلاة الفجر، فإنه لو أفاض من عرفة في آخر ليلة النحر
_________
(1) «المغنى» (3/ 376)، و «المحلى» (7/ 118)، و «بداية المجتهد» (1/ 376)، و «زاد المعاد» (2/ 253).
(2) سورة البقرة: 198.
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) «المغنى» (3/ 417)، و «الزاد» (2/ 253).
(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(2/245)


أمكنه ذلك، فتعيَّن حمل ذلك على مجرد الإيجاب أو الفضيلة أو الاستحباب (1) قلت: فيكون المراد بإتمام الحج في الحديث الإتمام الذي يصح الشيء بدونه مع التحريم، ويؤيد هذا أن من أدرك عرفة والمزدلفة ولم يطف طواف الإفاضة فلم يتم حجُّه بالإجماع، والله أعلم.
والقول بوجوب الوقوف بالمزدلفة والمبيت بها هو أعدل الأقوال وأرجحها، إلا أنني أتحفظ على إلزامه بدم الجبران، لأن الأصل حرمة مال المسلم إلا بحق، والحق يعرف بالدليل، ولا يصح القياس في الكفارات على الأصح، وإن كان هذا خلاف الجماهير.
القول الثالث: أنه سنة، وهو قول ضعيف، وهو رواية عن أحمد، رحمه الله.
فائدة: حد المبيت الواجب (2):
ذهب الحنفية إلى أن من حصَّل قدر لحظة من طلوع الفجر -يوم النحر- إلى طلوع الشمس بمزدلفة فقد أدرك الوقوف سواء بات أو لا، وإلا لزمه دم إلا إن تركه لعذر كالزحام فلا شيء عليه.
وذهب المالكية إلى أنه زمن حط الرحل في أي جزء من الليل ما بين وصوله إلى طلوع الفجر وعند الشافعية والحنابلة: يجب الوقوف قدر لحظة من وصوله إلى منتصف الليل -إن وصلها قبل منتصفه- فإن وصلها بعد منتصف الليل أجزأه قدر لحظة قبل طلوع الفجر.
قلت: الذي يظهر أن الواجب أن يبيت بمزدلفة حتى الفجر، سواء وصلها قبل منتصف الليل أو بعده، لأن اسم المبيت لا يتناوله إلا إذا بقي بها حتى الفجر، وإنما رخَّص للضعفة من النساء وغيرهن في النفر بعد منتصف الليل، وهذا تشعر به ألفاظ الأحاديث في المسألة، كحديث عائشة قالت: «نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة فأذن لها، فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا ....» (3).
وهو ظاهر في أن من لم يرخَّص له لزمه أن يبقى بالمزدلفة حتى الصبح، لأنه فعل في مقابل الرخصة فأشبه العزيمة.
_________
(1) «اختيارات ابن قدامة الفقهية» للغامدي (1/ 675).
(2) «رد المحتار» (2/ 241)، و «حاشية العدوي» (1/ 475)، و «مغنى المحتاج» (1/ 498)، و «المغنى» (3/ 417)، و «الفروع» (3/ 510).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1681)، ومسلم (1290).

(2/246)


وكحديث أسماء «أنها نزلت عند المزدلفة فقامت تصلي ساعة ثم قالت: يا بُنيَّ هل غاب القمر؟ قلت: «لا، فصلَّت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا. ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح من منزلها، فقلت لها: يا هنتاه، ما أرانا إلا قد غلَّسنا، قالت: يا بنيَّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظُّعُنِ» (1). تعني: النساء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أنا ممن قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله» (2).
فهذه الأحاديث وغيرها تفيد أن الواجب المبيت حتى الفجر إلا للضَّعفة فيجوز لهم النزول منها قبل الفجر بعد غياب القمر.
فائدة: الرخصة في عدم المبيت بمزدلفة خاصة بالضعفة من الأهل والصبيان، فهل يدخل فيها جملة النساء أم تخصُّ بالضعفة منهم؟ هذا محل نظر والأظهر أنه خاص بالضعفة من النساء خاصة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّم ضعفة أهله وبقيت معه عائشة رضي الله عنها، وإنما استأذنت سودة لأنها كانت ثقيلة ثبطة، والله أعلم.
السنن في المزدلفة والدفع منها (3):
1 - صلاة المغرب والعشاء: جمع تأخير بمزدلفة.
2 - الأذان لهما بأذان واحد وإقامتين.
3 - ترك النافلة بين الصلاتين.
4 - النوم حتى طلوع الفجر، وعدم إحياء الليل بالصلاة.
5 - صلاة الفجر في أول وقتها بأذان وإقامة.
6 - الوقوف على المشعر الحرام من المزدلفة مستقبل القبلة داعيًا حامدًا مكبِّرًا مهللاً حتى إسفار الصبح جدًّا.
7 - الدفع بسكينة من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1679)، ومسلم (1291).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (1678)، ومسلم (1293).
(3) هذه السنن كلها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الطويل، وحديث أسامة بن زيد في الصحيحين.

(2/247)


8 - الإسراع قليلاً في بطن مُحَسِّر (1)، إلا أن يكون راكبًا سيارة لا يقودها فإنه يعجز عن ذلك وإن كان الأولى أن ينوي بقلبه أنه لو تيسر له أن يسرع أسرع.
9 - الذهاب إلى الجمرة من طريق أخرى غير طريق الذهاب إلى عرفات.
رمي الجمرات بمنى:
تعريفه: الرمي لغةً: القذف، والجمرات أو الجمار: الأحجار الصغيرة، جمع جمرة: وهي الحصاة.
حكمه: ذهب جمهور العلماء إلى أن رمي الجمرات واجب، لا يجوز تركه، فمن تركه لزمه دم عندهم.
ودليل إيجابه:
1 - حديث جابر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» (2).
2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» (3).
3 - ولأنه عمل يترتب عليه الحِلُّ فكان واجبًا، ليكون فاصلاً بين الحل والإحرام.
موضع الجمار التي ترمى وعددها:
الجمار التي ترمى بمنى، وهي ثلاث:
1 - جمرة العقبة الكبرى: وهي الأولى جهة مكة وتكون على يسار الداخل إلى منى.
2 - الجمرة الوسطى: وهي التي تلي جمرة العقبة جهة مزدلفة.
3 - الجمرة الصغرى: وهي التي تلي مسجد الخيف بمنى.
_________
(1) مكان بين منى والمزدلفة -وهو من منى على الأصح- وسمي كذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه، أي: أعيي وكل، ولعله لأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يسرع فيه كعادته في مواضع المعذبين.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1297)، والنسائي (3062)، وأبو داود (1970).
(3) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1888)، والترمذي (902)، وأحمد (4/ 64).

(2/248)


صفة الحصيات:
يستحب أن تكون الحصيات التي يرمى بها مثل حصى الخذف، والمراد أنها قدر حب الباقلاء (الفول) وقيل: تكون أكبر من الحمص ودون البندق:
ففي حديث جابر: «... ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف ...» وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ان يلتقط له حصى الجمار فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف، فجعل ينفضهنَّ في كفه وقال: «بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (1) فماذا يقال فيما يفعله بعض الجهال من رميهم الجمرات بالنعال؟! أصلح الله شأن المسلمين وعرفهم بسنة نبيهم الكريم، هذه هي السنة.
من أين تُلتقط الحصيات؟
يجوز للحاج أن يلتقط الحصى من حيث شاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد لذلك مكانًا كما في حديث ابن عباس السابق، وبه قال أحمد وعطاء واختاره ابن المنذر وابن تيمية رحمهم الله.
واستحب الشافعي (2) أن يأخذها من مزدلفة، وهو مروي عن ابن عمر وسعيد ابن جبير، قلت: لكن لا يخفى ما فيه من التكلف والمشقة، وفي الأمر سعة.
هل يجوز الرمي بحصى رمى به قبل؟
ذهب الجمهور إلى جواز الرمي بحصى رمى به من قبل مع الكراهة، وذهب ابن حزم إلى الجواز من غير كراهة، وقال (3) -رحمه الله-: أما رميه بحصى قد رمى به فلأنه لم ينه عن ذلك قرآن ولا سنة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، فإن قيل: قد رُوى عن ابن عباس «أن حصى الجمار ما تقبل منه رفع، وما لم يتقبل منه ترك، ولولا ذلك لكان هضابًا تسدُّ الطريق» قلنا: نعم، فكان ماذا؟ وإن لم يتقبل رمي هذه الحصا من عمرو فسيُقبل من زيد، وقد يتصدق المرء بصدقة فلا يقبلها الله تعالى منه، ثم يملك تلك العين آخر فيتصدق بها فتقبل منه. اهـ.
_________
(1) صحيح: أخرجه النسائي (5/ 268)، وابن ماجه (3029)، وأحمد (1/ 215، 347).
(2) «المجموع» (8/ 155).
(3) «المحلى» (7/ 188).

(2/249)


لا يغسل حصى الرمي:
استحب الشافعي -رحمه الله- غسل حصى الجمار، ولا دليل على هذا الغسل، قال ابن المنذر: لا يعلم في شيء من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غسلها أو أمر بغسلها، ولا معنى لغسلها، وكان عطاء والثوري ومالك وكثير من أهل العلم لا يرون غسلها، وقال: وروينا عن طاوس أنه كان يغسلها (1)، قلت: الأظهر أن غسلها لا يشرع والله أعلم.
رمي الجمار راكبًا:
ويجوز أن يرمي الجمار راكبًا لحديث قدامة بن عبد الله قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة يوم النحر على ناقة له صهباء، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك» (2).
توقيت الرمي وعدده:
أيام الرمي أربعة: يوم النحر (العاشر من ذي الحجة)، وثلاثة أيام بعد وتسمى أيام التشريق (الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة).
ويرمي -يوم النحر- جمرة العقبة الكبرى وحدها بسبع حصيات.
ويرمي في أيام التشريق الجمار الثلاث -كل يوم منها- على الترتيب: الجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، يرمي كل جمرة منها بسبع حصيات.
فيصير مجموع الحصيات المرمية سبعين: سبع يوم النحر وإحدى وعشرون في كل يوم من أيام التشريق.
فإن تعجَّل الحاج، فلم ينتظر إلى الثالث عشر -وهذا جائز له- فيكون عدد الحصى المرمية تسعًا وأربعين.
1 - الرمي يوم النحر:
تقدم أنه يجب رمي جمرة العقبة وحدها يوم النحر بسبع حصيات، ولكن ...
من أين يرمي جمرة العقبة؟
يستحب أن يرمي من (بطن الوادي) بحيث تكون مكة عن يساره ومنى عن
_________
(1) «المجموع» (8/ 156، 164).
(2) حسن: أخرجه النسائي (5/ 270)، والترمذي (903)، وابن ماجه (3035).
وقوله (لا ضرب ...) تعريض للأمراء بأنهم أحدثوا هذه الأمور، وقوله (إليك إليك) معناه ابتعد وتنح.

(2/250)


يمينه إن تيسَّر له ذلك، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر، ولحديث ابن مسعود «أنه حين رمى جمرة العقبة استبطن الوادي حتى إذا حاذى بالشجرة، اعترضها فرمى بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ثم قال: من ها هنا -والذي لا إله غيره- قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم» (1).
فإن لم يتيسر هذا -لا سيما في الوقت الحاضر- فلا بأس أن يرميها من أي مكان تيسر.
وقت الرمي:
عن جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد الزوال» (2) فالسنة أن لا يرمي جمرة العقبة يوم النحر إلا بعد طلوع الشمس، ولا يجب هذا عند الجمهور، وأما رُوى عن ابن عباس: قدَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: «أُبَنِي لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» (3) فحديث ضعيف فإن أخَّر الرمي إلى ما قبل الغروب جاز وإن لم يكن مستحبًّا بالإجماع (4).
فإن شق عليه الرمي قبل الغروب فإنه يرخَّص أن يرمي ولو بالليل لحديث ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل يوم النحر بمنى فسأله رجل: ... قال: رميت بعد ما أمسيت، قال: لا حرج» (5).
ويبتدئ وقت الرمي عند الحنفية والمالكية من طلوع الفجر يوم النحر، وعند الشافعية والحنابلة من منتصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبله.
وآخر وقت رمي جمرة العقبة عند الحنفية إلى فجر اليوم التالي (الحادي عشر)، وعند المالكية إلى المغرب، ويجب في المذهبين الدم بتأخير الرمي عن ذلك.
وأما الشافعية والحنابلة فآخر وقت الرمي عندهم آخر أيام التشريق.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1750)، ومسلم (1296).
(2) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا (3/ 677 - فتح)، ومسلم (1299).
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1940)، والنسائي (5/ 271)، وابن ماجه (3025)، وله طرق لا تخلو من مقال وقد صححه الحافظ في «الفتح» (3/ 528) بطرقه وكذا الألباني في «حجة النبي» (ص 80).
(4) «التمهيد» لابن عبد البر (17/ 255).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (1735) وغيره.

(2/251)


متى يرمي الضعفة الذين دفعوا من مزدلفة قبل الفجر؟
لا خلاف في أن المستحب للضعفة من النساء وغيرهن الرمي بعد طلوع الشمس اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما ما قبل طلوع الشمس، فأجازه الشافعي -رحمه الله- ولو قبل الفجر، وأجازه الجمهور بعد الفجر إلى طلوع الشمس.
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- (1): «والذي يظهر لي في شأن النساء خاصة أن لهن الرمي إذا وصلن إلى منى، فقد أذن لهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدفع بليل (2)، ورمت أسماء رضي الله عنها قبل صلاة الصبح (3)، وتقدم في حديث سالم: «فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم» (4).
هذا، وإن صح حديث ابن عباس رضي الله عنهما فالنهي فيه للغلمان ليس للنساء، أو يحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بين الأدلة كما قال ابن حجر في «الفتح» والله أعلم اهـ.
سنن الرمي يوم النحر:
1 - قطع التلبية قبل الشروع في الرمي: لحديث الفضل بن عباس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة» (5) وبه قال الجمهور (6).
2 - التكبير مع كل حصاة يرميها: لما في حديث جابر: «... حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة منها ...»
3 - أن يرميها من أسفلها من بطن الوادي: وقد تقدم هذا قريبًا.
4 - أن يرمي بعد طلوع الشمس: وقد تقدم كذلك.
5 - الانصراف بعد الرمي وعدم الوقوف: لما في حديث جابر: «.. رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر» فلا يقف عند جمرة العقبة عن الجمرتين
_________
(1) «جامع أحكام النساء» لشيخنا مصطفى بن العدوي -حفظه الله- (2/ 563) بتصرف يسير.
(2) تقدمت هذه الأحاديث في «المبيت بالمزدلفة» وهي صحيحة.
(3) تقدمت هذه الأحاديث في «المبيت بالمزدلفة» وهي صحيحة.
(4) تقدمت هذه الأحاديث في «المبيت بالمزدلفة» وهي صحيحة.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (1670)، ومسلم (1281).
(6) «فتح الباري» (3/ 623)، و «المجموع» (8/ 177)، و «نهاية المحتاج» (3/ 303)، و «المبدع» (3/ 340)، عند ابن حزم في «المحلى» (7/ 180): يقطع التلبية إذا أتم الرمي.

(2/252)


الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمى ضحى، ومن أسفلها استحبابًا» اهـ.
الأعمال في يوم النحر وترتيبها:
الأعمال المشروعة للحاج يوم النحر بعد وصوله منى أربعة، وهي: رمي جمرة العقبة، ثم ذبح الهدي، ثم الحلق، ثم طواف الإفاضة، وترتيب هذه الأربعة هكذا سنة، وليس بواجب، فلو طاف قبل أن يرمي أو ذبح في وقت الذبح قبل أن يرمي أو حلق قبل الرمي والطواف جاز، ولا فدية عليه، لكن فاته الأفضل (1)، وهذا مذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث (2).
ويدلَّ له حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: لا حرج» (3) وهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معًا، لأن اسم الحرج والضيق يشملها.
وقال بعض العلماء كالإمام أحمد وغيره إن الرخصة في عدم الترتيب تختص بمن نسى أو جهل لا بمن تعمد (4)، لما في حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: «اذبح ولا حرج» فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: «ارم ولا حرج» فما سئل يومئذ عن شيء قدِّم ولا أُخِّر إلا قال: «افعل ولا حرج» (5).
قال ابن دقيق العيد في «شرح عمدة الأحكام» (3/ 79): ما قاله أحمد قوى من جهة أن الدليل دلَّ على وجوب اتباع الرسول في الحج بقوله: «خذوا عني مناسككم» وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل: «لم أشعر» فيختصُّ الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج، وأيضًا فالحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرًا، لم يجز اطِّراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة،
_________
(1) «المجموع» (8/ 168).
(2) «فتح الباري» (3/ 668).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1734) وغيره.
(4) «المغنى» (3/ 447)، و «فتح الباري» (3/ 668).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (1736، 1737)، ومسلم (1306).

(2/253)


وقد علق به الحكم، فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمد به، إذ لا يساويه، وأما التمسك بقول الراوي «فما سئل عن شيء .. إلخ» فإنه يشعر بأن الترتيب مطلقًا غير مراعى، فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي يتعلق بما وقع السؤال عنه، وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه، فلا يبقى حجة في حال العمد. اهـ.
قلت: هذا الكلام يكون في غاية السداد لو اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على قوله: «لا حرج» في جواب للسائل، فلما قال: «افعل ولا حرج» وكان هذا دالاًّ على عدم الحرج في المستقبل، عُلم أنه لا فرق بين الناسي والجاهل والذاكر والعالم، وهذا كما أنه ظاهر الأدلة فهو الموافق لمقاصد الشريعة لا سيما في هذه الأيام (1) والله أعلم.
يبقى إشكال في تقديم الحلق على الهدي لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2). وقد أُجيب بأن المراد ببلوغ الهدي محله: وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه فيه وقد حصل، وإنما يقع الإشكال لو قال: ولا تحلقوا حتى تنحروا، فصح أنه لا يجب الترتيب وإن كان هو الأولى، والله أعلم.
التحلل الأول والثاني:
للحج تحللان: أول وثان، يتعلقان برمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة، وقد اختلف العلماء: هل يحصل التحلل الأول بالرمي وإن لم يحلق، أو بالرمي مع الحلق؟
والأصل في هذا حديث عائشة قالت: «طيَّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديَّ هاتين حين أحرم، ولحلِّه حين أحلَّ قبل أن يطوف» (3).
وعائشة رضي الله عنها لم تكن مسايرته لما أفاض صلى الله عليه وسلم من مزدلفة، وقد ثبت أنه استمر راكبًا إلى أن رمى جمرة العقبة، فدلَّ على أن تطييبها له وقع بعد الرمي، لكن هل كان هذا التطييب قبل الحلق أو بعده؟
فقال بعض العلماء (4): لو كان يحل بالرمي فقط لقالت: (ولحله قبل أن
_________
(1) أشار إلى نحو هذا العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- كما في «الممتع» (7/ 367).
(2) سورة البقرة: 196.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1754)، ومسلم (1189).
(4) «الشرح الممتع» (7/ 365).

(2/254)


يحلق) فهي رضي الله عنها جعلت الحل ما بين الطواف والذي قبله، والذي قبله هو الرمي والنحر والحلق، لا سيما وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر» (1).
وقد ورد حديث: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» (2) لكنه لا يصح.
وقال آخرون: إن المحرم إذا رمى جمرة العقبة، حلَّ له كل شيء إلا النساء، ولو لم يحلق، واستدلوا برواية لحديث عائشة المتقدم بلفظ: «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة لحجة الوداع للحل والإحرام، حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت» (3).
وبحديث: «إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» (4) بدون زيادة «وحلقتم» وهذا مذهب عطاء ومالك وأبي ثور وأبي يوسف وهو رواية عن أحمد واختاره ابن قدامة وإليه ذهب ابن حزم بل إنه قال: يحل له ذلك بمجرد دخول وقت الرمي ولو لم يرم (5).
وذهب الشافعية إلى أن التحلل الأول يقع بأمرين من ثلاثة: الرمي والحلق والطواف، ويقع التحلل الثاني بالثالث (6).
وأما التحلل الثاني فيحصل بعد طواف الإفاضة، ففي حديث ابن عمر: «... ثم لم يحلل [أي النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجَّه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت، ثم حلَّ من كل شيء حرم منه ...» (7).
2 - الرمي في أول وثاني أيام التشريق:
يجب في هذه اليومين (الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة) رمي الجمار الثلاث على الترتيب: الجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، يرمي كل جمرة منها بسبع حصيات.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1566)، ومسلم (1229).
(2) ضعيف: أخرجه الطحاوي (1/ 419)، والبيهقي (5/ 136)، وأحمد (6/ 143)، وانظر «الإرواء» (1046).
(3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (6/ 200).
(4) صححه الألباني: وانظر «الإرواء» (4/ 236)، و «الصحيحة» (239).
(5) «المغنى» (3/ 439)، و «المحلى» (7/ 139)، و «حجة النبي» (ص: 81).
(6) «المجموع» (8/ 203)، و «فتح الباري» (3/ 684).
(7) صحيح: أخرجه مسلم (1227) وغيره.

(2/255)


وقت الرمي:
يبدأ وقت الرمي في هذين اليومين بعد الزوال، ولا يجوز قبله عند جمهور العلماء (1)، والدليل:
1 - لحديث جابر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد الزوال» (2) وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (3).
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترقب زوال الشمس حتى يرمي، فعن وبرة قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما «متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه، فأعدت عليه المسألة، قال: كنا نتحيَّن فإذا زالت الشمس رمينا» (4) ولو جاز قبل الزوال لفعله صلى الله عليه وسلم ولو مرة لبيان الجواز.
3 - أنه لو كان الرمي قبل الزوال جائزًا لفعله صلى الله عليه وسلم، لما فيه من فعل العبادة في أول وقتها، ولما فيه من التيسير على العباد ولما فيه من تطويل الوقت (5).
يمتد الوقت المسنون من زوال الشمس إلى غروبها، فإن شق الرمي قبل المغرب، فلا حرج -على الأصح- أن يرمي بالليل كما سبق تحريره عند الرمي يوم النحر.
وأنه نهاية وقت الرمي، فمذاهب العلماء فيه مثل الذي تقدم في الرمي يوم النحر.
صفة الرمي في اليومين:
عن سالم أن ابن عمر رضي الله عنهما: «كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله» (6).
النَّفر الأول: إذا رمى الحاج الجمار أول وثاني أيام التشريق، فإنه يجوز له أن ينفر -أي يرحل- إلى مكة، إن أحب التعجل في الانصراف من منى، ويُمس
_________
(1) «المبسوط» (4/ 23)، و «الموطأ» (1/ 409)، و «الفروع» (3/ 518)، و «المجموع» (8/ 211).
(2) «المبسوط» (4/ 23)، و «الموطأ» (1/ 409)، و «الفروع» (3/ 518)، و «المجموع» (8/ 211).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1746).
(5) «الشرح الممتع» (7/ 384).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (1751).

(2/256)


هذا اليوم يوم النفر الأول، وبه يسقط رمي اليوم الثالث من أيام التشريق اتفاقًا، لقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (1).
وله أن ينفر -النفر الأول- قبل غروب الشمس ثاني أيام التشريق في مذهب الجمهور، وعند الحنفية: له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من ثالث أيام التشريق.
3 - الرمي ثالث أيام التشريق:
ويجب رمي الجمار الثلاث في هذا اليوم على من تأخر ولم ينفر من منى «النفر الأول» بعد الزوال عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجوز الرمي قبل الزوال بعد الفجر، وحديث جابر يردُّه.
واتفقوا على أن آخر وقت الرمي في هذا اليوم غروب الشمس، وأن وقت الرمي لقضاء الأيام السابقة ينتهي أيضًا بغروب شمس ثالث أيام التشريق، لخروج وقت المناسك بغروب الشمس.
النَّفر الثاني:
إذا رمى الحاج الجمار الثلاث في اليوم الثالث من أيام التشريق -وهو رابع أيام النحر- انصرف من منى إلى مكة، ولا يسن له أن يقيم بمنى بعد الرمي ويسمى «يوم النفر الثاني» وبه تنتهي مناسك منى.
النيابة في الرمي (الرمي عن الغير):
من عجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس ونحوهما، فإنه يستنيب من يرمي عنه، لأن وقته مضيق، وينبغي أن يكون النائب قد رمى عن نفسه أولاً.
ولا يصح الرمي عن النساء -غير العاجزات عن الرمي- وكذلك عن الصبيان، وأما حديث جابر: «حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان ورمينا عنهم» (2) فهو حديث ضعيف لا يصح.
المبيت بمنى أيام التشريق واجب:
يجب المبيت بمنى في ليالي أيام التشريق الثلاث (أو: ليلتي حادي عشر وثاني عشر لمن تعجَّل) عند جمهور العلماء، يلزم على من تركه بغير عذر دم عندهم، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
(1) سورة البقرة: 203.
(2) ضعيف: أخرجه أحمد (3/ 314) ونحوه عند الترمذي (927)، وابن ماجه (3038)، والبيهقي (5/ 256).

(2/257)


قال: «رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته» (1) وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة (2).
وذهب الحنفية -وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد- إلى أنه سنة (3)، والأول أصح، والله أعلم.

الهَدْي
الهَدْي: ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره، والمراد هنا ما يهدى من الأنعام -خاصة- إلى الحرم تقرُّبًا إلى الله تعالى، قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ... وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (4).
جنس الهدي:
اتفق العلماء على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نصَّ الله سبحانه عليها، وأن الأفضل في الهدايا: الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، ثم المعز (5).
فكلما كان أغلى ثمنًا كان أفضل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرِّقاب: أيها أفضل، قال: «أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها» (6).
ما يشترط في الهدي:
1 - أن يكون من بهيمة الأنعام -كما تقدم- وهذا مجمع عليه.
2 - أن يكون جذع ضأن أو ثنيَّ سواه، لا يجزئ دون ذلك، فلا يجزئ من الإبل ما له أقل من خمس سنين، ولا من البقر ما له أقل من سنتين، ولا من المعز أقل من سنة، ولا من الضأن أقل من ستة أشهر.
فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مسنَّة، إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (7) والمسنة: الثنية.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1745)، ومسلم (1315).
(2) «المغنى» (3/ 449)، و «الفروع» (3/ 518)، و «الشرح الممتع» (7/ 391).
(3) «الهداية» (2/ 186)، و «الإنصاف» (3/ 47).
(4) سورة الحج: 36، 37.
(5) «بداية المجتهد» (2/ 559) ط. الكتب العلمية، و «المجموع» (8/ 368).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (136) وغيرهما.
(7) صحيح: أخرجه مسلم (1963)، وأبو داود (2797)، والنسائي (7/ 218)، وابن ماجه (3141).

(2/258)


وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في شأن جذعة المعز -وهي ما له ستة أشهر-: «تجزئ عنك، ولا تجزئ عن أحد بعدك» (1).
3 - أن يكون سليمًا من العيوب: لقوله صلى الله عليه وسلم: «أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ضلعها، والكسيرة التي لا تُنقى» (2) أي: من هُزالها لا مخ لها.
والعيوب في الأنعام يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام (3):
(أ) أن تكون العيوب الأربعة المنصوصة في الحديث السابق، فلا تجزئ.
(ب) أن يكون ورد النهي عنها دون عدم الإجزاء، وهي ما كان العيب في أذنها وقرنها، ونحو ذلك، كحديث علي بن أبي طالب قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء، ولا خرفاء» (4). فهذه يكره إهداؤها مع إجزائها.
(جـ) أن تكون عيوبها لم يرد النهي عنها، ولكنها تنافي كمال السلامة، فهذه لا أثر لها، وتكره ولا تحرم، كمكسورة السن في غير الثنايا ونحو ذلك. والله أعلم.
الهدي نوعان:
أجمع العلماء على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب، ومنه تطوع.
1 - الهدي الواجب: وهو أقسام:
(أ) هدي التمتع والقران: وهو الذي يجب على الحاج الذي لبى بعمرة متمتعًا بها إلى الحج، أو لبى بحج وعمرة قارنًا بينهما، لقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (5). وهذا الهدي يجب على المتمتع بالإجماع، وعلى القارن عند الجمهور.
(ب) هدي الفدية: وهو الذي يجب على الحاج إذا حلق شعره لمرض أو شيء
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5556)، ومسلم (1961).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2785)، والترمذي (1530)، والنسائي (7/ 214)، وابن ماجه (3144).
(3) «الشرح الممتع على زاد المستنقع» (7/ 476 - 477) باختصار.
(4) حسن: أخرجه أبو داود (2804)، والترمذي (1543)، والنسائي (7/ 217)، وابن ماجه (3142).
(5) سورة البقرة: 196.

(2/259)


مؤذ لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (1). ويكون مخيَّرًا بين الهدي وبين الإطعام والصيام كما تقدم.
وقد ألحق الجمهور بهذا النوع إيجاب الهدي على من ترك واجبًا من واجبات الحج، وعلى من ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام.
(جـ) هدي الجزاء: وهو الذي يجب على المحرم الذي يقتل صيد البر، وقد تقدم، وقاسوا على هذا دمًا على من ارتكب محظورًا من المحظورات في الحرمين كقطع شجره ونحوه.
(د) هدي الإحصار: وهو ما يجب على من حُبس عن إتمام المناسك لمرض أو عدو أو نحوه، ولم يكن قد اشترط عند إحرامه -كما تقدم- لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2).
(هـ) هدي الوطء: وهو الذي يجب على الحاج إذا جامع أثناء الحج، وقد تقدم.
(و) هدي النذر: وهو واجب على من نذره.
2 - هدي التطوع: وهو ما يتطوع الحاج المفرد -أو المعتمر المفرد- بإهدائه، وما يتطوع به غيرهما فوق ما يجب عليه.
بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه:
من كان في بلده ولم يذهب إلى الحرم، فيستحب له أن يبعث هدي تطوع مع غيره، ويستحب أن يقَلِّده ويشعره -كما سيأتي- فإذا بعثه فلا يصير بذلك محرمًا ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم وهو قول الجمهور.
فعن عائشة قالت: «فتلت قلائد بُدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديَّ، ثم أشعرها ولَّدها، ثم بعث بها إلى البيت، وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان له حلاًّ» (3).
كم يجزئ من الهدي:
ليس في أكثر الهدي حدُّ معلوم، وقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم مائة، فعن علي قال: «أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة ...» (4).
_________
(1) سورة البقرة: 196.
(2) سورة البقرة: 196.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1696)، ومسلم (1321).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1718).

(2/260)


وأقل ما يجزئ عن الواحد شاة، فعن أبي أيوب الأنصاري قال: «كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحِّي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، ثم تباهى الناس فصاروا كما ترى» (1).
وفي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «.. أخذ الكبش فأضجعه ثم قال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد ...» الحديث (2) وهذا في الأضحية.
وقد أجمعوا على أن الكبش لا يجزئ إلا عن واحد -في الهدايا- إلا ما روى عن مالك من أنه يجزئ أن يذبحه الرجل على نفسه وعن أهل بيته لا على جهة الشركة بل إذا اشتراه مفردًا (3).
ويجزئ أن يشترك سبعة في بعير أو بقرة، وهو قول الشافعي المشهور عن أحمد لحديث جابر أنه قال: «نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (4). وعنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهلِّين بالحج ... وأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كلُّ سبعة منا في بدنة» (5).
وقد نقل ابن رشد الإجماع على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة (6).
قلت: بل ذهب إسحاق إلى أن البدنة والبقرة تجزئ عن عشرة، وفي حديث عائشة: «... فلما كنا بمنى أُتيت بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ قالوا: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر» (7) وأزواجه تسع وقد جاء في بعض الروايات أنها كانت بقرة واحدة بينهن (8).
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم المغانم، فَعَدَل الجزور بعشرة شياه (9)، وعن ابن
_________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي (1541)، وابن ماجه (3147) وصححه الألباني.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1967).
(3) «بداية المجتهد» (1/ 655).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1318).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1318).
(6) «بداية المجتهد» (1/ 656).
(7) صحيح: أخرجه البخاري (1623)، ومسلم (1211).
(8) مرسل: أخرجه مالك (2/ 486 - 487) مرسلاً.
(9) صحيح: أخرجه البخاري (2507)، ومسلم (1968) وغيرهما.

(2/261)


عباس قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى، فاشتركنا في الجزور عشرة، والبقرة عن سبعة» (1).
وهذه الأحاديث تُخرَّج على أحد وجوه ثلاثة (2):
1 - إما أن يقال: أحاديث السبعة أكثر وأحصُّ.
2 - وإما أن يقال: عدل البعير بعشرة من الغنم، تقويم في الغنائم لأجل تعديل القسمة، وأما كونه عن سبعة في الهدايا، فهو تقدير شرعي.
3 - وإما أن يقال: إن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والإبل، ففي بعضها كان البعير يعدل عشر شياه فجعله عن عشرة، وفي بعضها يعدل سبعة فجعله عن سبعة، والله أعلم. اهـ.
وقت الذبح أو النحر:
يستحب الذبح يوم النحر (العاشر من ذي الحجة) بعد رمي جمرة العقبة وقبل الحلق والطواف -كما تقدم- وأما وقت الجواز فقد اختلف أهل العلم فيه على أقوال (3).
1 - أنه يجوز الذبح يوم النحر وثلاثة أيام بعده: وبه قال علي بن أبي طالب وهو مذهب الحسن البصري وعطاء الأوزاعي والشافعي واختاره ابن المنذر وابن تيمية وابن القيم، وحجتهم حديث: «كل أيام التشريق ذبح» (4) ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى، وأيام الرمي، وأيام التشريق، ويحرم صيامها، فهي إخوة في هذه الأحكام، فلا تفرق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع.
2 - أن وقتهم النحر ويومان بعده: وهو مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وغير واحد من الصحابة، وحُجتهم أنه قد نُهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، قالوا: فهو دليل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط، وفيه نظر (5) لأن النهي عن الادخار فوق ثلاث لا يلزم منه النهي عن التضحية بعد ثلاث!!
_________
(1) صححه الألباني: أخرجه الترمذي (907)، والنسائي (7/ 222)، وابن ماجه (3131).
(2) «زاد المعاد» لابن القيم (2/ 266 - 267).
(3) «المبسوط» (12/ 9)، و «الأم» (2/ 217)، و «الإنصاف» (4/ 87)، و «المجموع» (8/ 390)، و «الزاد» (2/ 318).
(4) ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 82)، وابن حبان (1008) بسند منقطع.
(5) «زاد المعاد» (2/ 318).

(2/262)


3 - أن وقت النحر يوم واحد، وهو قول ابن سيرين، لأنه اختص بهذه التسمية فدلَّ على اختصاص حكمها به.
4 - أنه يوم واحد في الأمصار وثلاثة أيام في منى: وهو قول سعيد بن جبير وجابر بن زيد، لأنها هناك أيام أعمال المناسك من الرمي والطواف والحلق فكانت أيامًا للذبح بخلاف أهل الأمصار.
5 - أنه من يوم النحر إلى آخر ذي الحجة: وهو محكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والنخعي.
6 - أنه لا يختص بوقت معين: وهو وجه عند الشافعية، وضعَّفه النووي (1).
قلت: الأظهر أن أيام الذبح أربعة: يوم النحر وثلاثة بعده، وقد قرر هذا مجلس هيئة كبار العلماء بالسعودية (قرار رقم (43) بتاريخ 13/ 4/ 1396) بالأكثرية (2).
مكان الذبح والنحر: قال الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3). وقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنحره بمنى، وقال: «نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم ...» (4). وفي لفظ: «وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة وطريق ومنحر» (5).
فالهدي لا يذبح إلا في الحرم، ومن ذبح أي مكان من الحرم -في مكة أو غيرها- أجزأه عند الجمهور، وقال مالك: لا يجزئ في الحرم إلا بمكة تمسُّكًا بظاهر قوله تعالى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (6) وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه والله أعلم.
هل يجوز نقل لحوم الهدايا خارج الحرم؟
قال مجلس هيئة العلماء بالسعودية في قراره (77) بتاريخ 21/ 10/ 1400:
«فإن ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع:
1 - هدي التمتع أو القران، فهذا يجوز النقل منه إلى خارج الحرم، وقد نقل الصحابة -رضوان الله عليهم-من لحوم هداياهم إلى المدينة، ففي صحيح البخاري
_________
(1) «المجموع» (8/ 348 - 349).
(2) «توضيح الأحكام» للبسام (3/ 374).
(3) سورة الحج: 33.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1218) عن جابر.
(5) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (1937)، وابن ماجه (3048)، وأحمد (3/ 326).
(6) سورة المائدة: 95.

(2/263)


عن جابر بن عبد الله قال: كنا لا نأكل من لحوم بُدْننا فوق ثلاث بمنى، فرخصَّ لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلوا وتزوَّدوا، فأكلنا وتزوَّدنا» (1).
2 - ما يذبحه الحاج داخل الحرم جزاء لصيد أو فدية لإزالة أذى أوارتكاب محظور أو ترك واجب، فهذا النوع لا يجوز نقل شيء منه، لأنه كله لفقراء الحرم.
3 - ما ذبح خارج الحرم من فدية الجزاء أو هدي الإحصار -أو غيرهما مما يسوغ ذبحه خارج الحرم، فهذا يوزَّع حيث ذبح ولا يمنع نقله من مكان ذبحه إلى مكان آخر» (2).
سَوْقُ الهَدْي (الإشعار والتقليد):
يجوز للحاج أن يشتري هَدْيه من الحرم، كما يجوز له أن يسوقه من خارج الحرم. فإن ساقه استُحب أن يقلده ويُشعره -إن كان من الإبل أو البقر- بلا خلاف والتقليد: هو أن يجعل في عنق الهدي نعلاً أو نعلين (أو قطعة جلد) ليعرف أنه هدي، والإشعار: هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة أو البقرة -ويستحب الأيمن عند الشافعي وأحمد- حتى يسيل دمها فيكون علامة على أنها من الهدي.
فعن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة، فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن، ثم سلت الدم عنها، وقلَّدها بنعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت على البيداء أهل بالحج» (3).
هل تُقلَّد الغنم؟
قال مالك وأبو حنيفة: لا تقلَّد الغنم، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: تُقلَّد، لحديث عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أَهْدى إلى البيت مرةً غنمًا، فقلَّدها» (4).
توقيف الهدي بعرفة (التعريف) (5):
ذهب مالك إلى أنه لا يجزئ من الهدي الذي يبتاع في الحرم إلا أن يوقف بعرفة، فإن ابتيع في الحل ثم أدخل الحرم أجزأ وإن لم يوقف بعرفة!! وقال
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1719)، ومسلم (1972).
(2) «توضيح الأحكام» (3/ 311، 312).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1243)، وأبو داود (1752)، والنسائي (5/ 170، 171).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1701)، ومسلم (1331).
(5) «المحلى» (7/ 166، 167)، و «بداية المجتهد» (1/ 561 - 562).

(2/264)


الليث: لا يكون هديًا إلا ما قلِّد وأشعر ووقف بعرفة!! وحجته حديث طاوس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرَّف بالبدن» (1). ولا يصح.
وقال الشافعي والثوري وأبو ثور: وقوف الهدي بعرفة سنة، ولا حرج في تركه سواء كان داخلاً من الحل أو لم يكن.
وقال أبو حنيفة: التعريف ليس بسنة، قلت: والصواب أنه إن وقف بالهدي فهو حسن وإلا فلا حرج في تركه، قال ابن حزم: «لم يأت أمر بتعريف شيء من ذلك في قرآن ولا سنة، ولا يجب إلا ما أوجب الله تعالى في أحدهما، ولا قياس يوجب ذلك أيضًا، لأن مناسك الحج إنما تلزم الناس لا الإبل» اهـ.
وعلى كل حال فتعريف الهدي -في هذه الأيام- فيه حرج شديد، فلا يُتَكَلف والله أعلم.
النحر والذبح (2) في الأنعام:
اتفق أهل العلم على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحو وذبح، وأن من سنة الغنم الذبح، وأن من سنة الإبل النحر، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر (3).
من سنة النحر:
من سنة نحر الهدي أن تنحر وهي قائمة ومقيَّدة، قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (4). قال ابن عباس: أي قيامًا على ثلاث.
وعن زياد بن جبير: أن ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل، وهو ينحر بدنته باركة، فقال: «ابعثها قيامًا مقيدة، سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم» (5).
وعن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي منها» (6).
وأما البقر والغنم فيستحب ذبحها مضطجعة على جنبها الأيسر وتترك رجلها اليمنى وتشد قوائمها الثلاث على النحو الذي يأتي في «الذبائح» إن شاء الله.
_________
(1) ضعيف: وانظر «المحلى» (7/ 166).
(2) يأتي الفرق بين الذبح والنحر في «الذبائح» إن شاء الله تعالى.
(3) «بداية المجتهد» (1/ 670) ط. العلمية.
(4) سورة الحج: 36.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (1713)، ومسلم (1320)، وأبو داود (1768).
(6) أخرجه أبو داود (1767).

(2/265)


انتفاع صاحب الهدي به:
1 - الأكل من الهدي إذا بلغ محله:
قال الله سبحانه {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (1).
وقد اختلف أهل العلم في الأكل من الهدي الواجب: فقال أبو حنيفة: لا يؤكل من الهدي الواجب إلا هدي المتعة وهدي القرآن (2)، وهو قول أكثر الحنابلة (3) وقال مالك: يؤكل من كل الهدي الواجب إلا جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى (4).
وقال الشافعي: لا يؤكل من الهدي الواجب كله، ولحمه كله للمساكين (5).
قلت: ما كان من الهدي أشبه بالكفارة فلا يأكل منه، لاتفاقهم على أنه لا يأكل صاحب الكفارة منها، وهذا ظاهر في هدي جزاء الصيد وفدية الأذى وسائر دماء الجبران، وأماما كان دم نسك، فهوعبادة مبتدأة وليس دم جبران، فهذا يأكل منه، وهدي التمتع والقران هو هدي نسك -على الراجح- شرع شكرًا لله تعالى على ما أنعم به على الحاج من تيسير الحج والعمرة له في سفرة واحدة، ويؤيد هذا أن سبب الجبران محظور في الأصل، والتمتع جائز مطلقًا ولو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقًا، فعلم أنه دم نسك وهدي، وهذا مذهب الحنفية وأكثر الحنابلة واختاره ابن تيمية (6)، وعند الشافعية والمالكية أنه دم جبران (7) إلا أن المالكية أجازوا الأكل، والأول أظهر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هديه، وقد كان قارنًا ففي حديث جابر: «... ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا مرقها ...» (8) والله أعلم.
وأما هدي التطوع: فأجمعوا أنه يأكل منه -إذا بلغ محلَّه- كسائر الناس.
وإذا عطب قبل أن يبلغ محله: خلَّى بينه وبين الناس ولم يأكل منه، فعن ابن
_________
(1) سورة الحج: 28.
(2) «الهداية» (1/ 186).
(3) «المبدع» (3/ 124)، و «الإنصاف» (3/ 439)، و «الفروع» (3/ 310).
(4) «بداية المجتهد» (1/ 565)، و «الخرشي» (2/ 378).
(5) «روضة الطالبين» (3/ 191).
(6) «مجموع الفتاوى» (26/ 82).
(7) «مجموع الفتاوى» (26/ 82).
(8) «المجموع» (7/ 176)، و «الروضة» (3/ 47)، و «الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي» (2/ 84).

(2/266)


عباس أن أبا قبيصة حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه البدن ثم يقول: «إن عطب منها شيء، فخشيت عليه موتًا فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب به صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» (1).
والسبب في نهيه ورفقته من الأكل منه خوف تعطيبهم الهدي لأجل نحره قبل أوانه.
2 - ركوب الهدي لمن احتاج إليه:
يجوز أن يركب الهدي إذا احتاج، بالمعروف من غير إضرار بها وهو مذهب الشافعي، لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2). ومن المنافع فيها الركوب، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: «اركبها»، قال: يا رسول الله إنها بدنة، فقال: «اركبها ويلك» في الثانية أو في الثالثة (3).
وعن جابر بن عبد الله -وسئل عن ركوب الهدي- فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اركبها بالمعروف إذا أُلجئت إليها، حتى تجد ظهرًا» (4).
وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق والظاهرية إلى أنه يركب ولو من غير حاجة، وحديث جابر حجة عليهم (5) والله أعلم.
لا يُعطى الجزار أجرته من الهدي:
لا يجوز أن يعطى الجزار أجرة نحره أو ذبحه من الهدي، وإنما يجوز أن يتصدق عليه منه بعد إعطائه أجرته، لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنة، وأقسم جلودها وجلالها، وأمرني ألا أعطي الجزار منها شيئًا، قوال: «نحن نعطيه من عندنا» (6).
الصيام لمن لم يستطع الهدي:
من كان قارنًا أو متمتعًا فإنه يجب عليه هدي -كما تقدم-، فإن لم يملك
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1326)، وابن ماجه (1036)، وأبو داود (1763).
(2) سورة الحج: 33.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1689)، ومسلم (1322) وغيرهما.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1324)، وأبو داود (1761)، والنسائي (2/ 147).
(5) «شرح مسلم» للنووي (4/ 806) ط. قلعجي.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (1717)، ومسلم (1317) وغيرهما.

(2/267)


ثمن الهدي ولم يستطعه، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده، كما قال تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (1). وفي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ...» (2).
متى يصوم الأيام الثلاثة؟
اختلف العلماء في الأيام الثلاثة التي تصام في الحج على أقوال، أشهرها قولان:
1 - أنه يشرع صيامها من حين الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، واختاره ابن تيمية. ويستحب أن يجعلها السابع من ذي الحجة ويوم التروية ويوم عرفة، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وعن أحمد أن الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية (3) فإن قيل إن الله تعالى قال: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (4). فيقال: نعم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دخلت العمرة في الحج» (5).
2 - أنه لا يجوز الصيام إلا بعد الإحرام بالحج: وهو مذهب المالكية والشافعية (6).
لقوله تعالى {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وهو مروي عن ابن عمر.
قلت: كلا القولين متجه يحتمله معنى الآية الكريمة، والأول لا مانع منه، على أن يلاحظ الآتي (7):
(أ) لا ينبغي تقديم الإحرام بالحج قبل يوم التروية لأجل الصيام، فإنه خلاف السنة كما تقدم، والغالب على الظن أن من الصحابة الذين أحرموا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم التروية من كان فقيرًا لم يسق الهدي ولم يقدم الإحرام بالحج.
(ب) أنه لا ينبغي أن يصوم الحاج يوم عرفة لأنه خلاف السنة كما تقدم، فإن شاء صام السادس والسابع والتروية كما قال أحمد واختاره ابن باز، رحمه الله.
_________
(1) سورة البقرة: 196.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (1691)، ومسلم (1227).
(3) «فتح القدير» (2/ 529)، و «الإنصاف» (3/ 512)، و «المبدع» (3/ 175).
(4) سورة البقرة: 196.
(5) صحيح: تقدم تخريجه.
(6) «الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي» (2/ 84)، و «المجموع» (7/ 186).
(7) مستفاد من «الشرح الممتع» (7/ 208) بتصرف.

(2/268)


(جـ) الذي يظهر أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق، كما يفهم من حديث ابن عمر وعائشة: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي» (1). وهذا هو الأحوط، وبه يخرج من الخلاف السابق.
(د) لا يجوز أن يؤخر صيام الثلاثة عن أيام التشريق، لأن ما بعد أيام التشريق ليست من أيام الحج.
(هـ) إذا صام قبل أيام التشريق فلا يشترط أن يصومها متتابعة، لأن الآية لم تقيِّد الصيام بالتتابع، والأصل إطلاق ما أطلقه الله ورسوله، فإن ابتدأ صيامه في أول أيام التشريق لزمه التتابع لإيقاع الصيام في أيام الحج، والله أعلم.
المُحصَر إذا لم يستطع الهدي:
تقدم أن من أُحصر -ولم يكن اشترط في إحرامه- يجب عليه هدي، لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2). ويذبحه في مكان الإحصار ثم يحلق رأسه، فعن ابن عمر قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفَّار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه وحلق رأسه» (3).
فإن لم يستطع أو لم يجده، فالصواب أنه يحل ولا شيء عليه لا صيام ولا غيره، وأما من قاسه على هدي التمتع (4)، ففيه نظر من أوجه (5):
1 - أنه كان معه النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية وغيرها عدد كبير من أصحابه وفيهم الفقراء، ولم يرد أنه أمر من لم يجد الهدي بالصوم عشرة أيام، والأصل البراءة.
2 - أن حكم التمتع والإحصار آية واحدة، فذكر البدل عن الهدي في التمتع ولم يذكره في الإحصار ثم انتقل إلى حكم آخر، فقال: {... وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ ..} فدل على أن لا شيء على المحصر الذي لا يجد هديًا، فكان القياس مخالفًا للنص.
3 - أن هذا القياس قياس مع الفارق، فإن بين التمتع والإحصار فرقًا عظيمًا،
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1997).
(2) سورة البقرة: 196.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1812).
(4) كما هو مذهب الحنابلة كما في «الإنصاف» (4/ 69)، والشافعية كما في «المجموع» (7/ 186).
(5) مستفاد من «الشرح الممتع» (7/ 212، 448).

(2/269)


فالتمتع ترفه بالتحلل من العمرة وحصل له مقصوده بالحج، والمحصر لم يحصل له مقصوده. والله أعلم.

الحلق والتقصير
حكمهما: اتفق جمهور العلماء على أن حلق شعر الراس أو تقصيره واجب من واجبات الحج، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة (1).
وذهب الشافعي في المشهور عنه -والراجح في مذهبه- أنه ركن (2).
وسبب اختلافهم عدم الدليل على هذا أو ذاك، وقد ثبت الحلق والتقصير بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} (3). وقد عبَّر عن الحج بالحلق فعلم أنه واجب فيه.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ارحم المحلِّقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «اللهم ارحم المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «اللهم ارحم المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين» (4).
والحلق أفضل من التقصير: لحديث ابن عمر السابق، ولا يجب الحلق إلا إذا نذره، فإذا قصَّر فإنه يجمع شعره فيقص من جميعه بقدر الأنملة أو أقل أو أكثر.
ليس على النساء حلق بل يُقصِّرن:
عن ابن عباس قال: قال لنا ر: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير» (5).
وقد حكى غير واحد الإجماع على أن النساء لا يحلقن وإنما يقصرن.
قدر كم تأخذ المحرمة من شعرها؟
لم يرد في هذا نص من كتاب أو سنة، وقد قال بعض أهل العلم: تأخذ قدر
_________
(1) «فتح القدير» (2/ 178، 252)، و «شرح الرسالة بحاشية العدوي» (1/ 478)، و «المغنى» (3/ 435)، و «الفروع» (3/ 513).
(2) «المجموع» (8/ 189).
(3) سورة الفتح: 27.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1727)، ومسلم (1301).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1985)، والدارمي (1905) وغيرهما.

(2/270)


أنملة من كل قرن (ضفيرة) وهو قول ابن عمر والشافعي وأحمد وأبي ثور، وقال بعضهم: تأخذ من جوانبها شيئًا، وقال بعضهم: لا تكثر الشابة، وأما الكبيرة فتأخذ من شعرها ولا تزيد عن الربع (1).
قلت: الظاهر أن لها أن تقصر ما شاءت بحيث لا تشابه الرجال وإلا لم يجز والله أعلم.
وقت الحلق والتقصير:
السنة أن يحلق -أو يقصِّر- يوم النحر، بعد رمي جمرة العقبة ونحر الهدي، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والجمهور على أن الحلق أو التقصير لا يختص بزمان ولا مكان، لكن السنة فعله في الحرم أيام النحر.
وذهب الحنفية إلى أن الحلق يختص بأيام النحر وبمنطقة الحرم، فلو أخل بأي من هذين حصل له التحلل ولزمه الدم (2).
من آداب الحلق:
1 - ألا يحلقه بنفسه: بل يحلق له غيره.
2 - أن يبدأ الحالق بشق رأسه الأيمن: والدليل عليهما حديث أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى، ونحر، ثم قال للحلاَّق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس» (3).
3 - أن يأخذ من ظفره وشاربه بعد الحلق: فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كان إذا حلق في حج أو عمرة، أخذ من لحيته وشاربه».
وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه قلَّم أظفاره (4).
ما يفعل الأصلع؟
الأصلع الذي لا شعر له، ليس عليه حلق ولا فدية، ويستحب إمرار الموسى
_________
(1) انظر الآثار بهذا في «مصنف ابن أبي شيبة» (1/ 4/ 115 - 117)، عن «جامع أحكام النساء» لشيخنا أمتع الله بحياته (2/ 566).
(2) انظر المراجع السابقة في حكم الحلق.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1305).
(4) انظر «المجموع» (8/ 186، 195).

(2/271)


على رأسه ولا يجب عند الجمهور -خلافًا للحنفية- وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على أن الأصلع يمر الموس على رأسه (1).

الفوات والإحصار
1 - الفوات: ما يفوت به الحج، ومن فاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج، وقد تقدم الدليل عليه في «ركن الوقوف».
من فاته الحج، ماذا يفعل؟
من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، ويتحلل بعمرة من طواف وسعي وحلق أو تقصير، ولزمه أن يقضيه من قابل، ولزمه الهدي في وقت القضاء، ويسقط عنه ما بقي من المناسك كالنزول بالمزدلفة والرمي ومني ونحوها، وهذا قول الجمهور، خلافًا للحنفية فإنهم لا يوجبون عليه الهدي (2).
وإن اختار من فاته الحج، البقاء على إحرامه ليحج من قابل، فله ذلك، لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه، كالعمرة والمحرم بالحج في غير أشهره.
إذا أخطأ في الوقوف بعرفة:
إذا أخطأ الناس، فوقفوا في اليوم الثامن أو العاشر، فإنه يجزئهم، ولا يجب عليهم القضاء (3)، لأنهم فعلوا ما أُمروا به.
فإن اختلفوا فأصاب بعضهم وأخطأ بعضهم لم يجزئهم، لأنهم غير معذورين في ترك ما عليه الجماعة.
2 - الإحصار: منع المحرم من إتمام النسك. والأصل فيه قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (4).
الإحصار المعتبر (5):
اختلف أهل العلم في السبب المعتبر به الإحصار، لاختلافهم في فهم الآية
_________
(1) «المجموع» (8/ 192، 193).
(2) «البدائع» (2/ 220)، و «الهداية» (2/ 136)، و «القوانين الفقهية» (ص 95)، و «التاج والإكليل» (3/ 200)، و «روضة الطالبين» (3/ 182)، و «الكافي» (360).
(3) «المجموع» (8/ 281).
(4) سورة البقرة: 196.
(5) «المجموع» (8/ 283) وما بعدها، و «بداية المجتهد» (1/ 528)، و «الإنصاف» (4/ 71).

(2/272)


السابقة، فقال قوم: المحصر هو المحصر بالعدوِّ فقط، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
قالوا: لأن الآية نزلت في إحصار المشركين وصدهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عمرة الحديبية واحتجوا كذلك بقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} بعد قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وبقوله تعالى بعده: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ..} قالوا: فلو كان المحصر هو المحصر بمرض لما كان لذكر المرض بعد ذلك فائدة، وهذامذهب ابن عمر وابن عباس.
وقال آخرون: بل المحصر هو المحصر بمرض وبعدو وبكل ما يمنع من إتمام النسك وبه قال مالك وهو رواية عن أحمد واختاره شيخ الإسلام وهو الراجح (1) لعموم قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وأما كون سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم أحصره العدو، فهذا قصر للدليل على سببه ولا يصح، وأما الاستدلال بقوله تعالى {فَإِذَا أَمِنتُمْ} فهو من باب ذكر حكم بعض أفراد العام، وهذا لا يقتضي التخصيص كما هو مقرر في الأصول، هذا على أنه قوله تعالى {فَإِذَا أَمِنتُمْ ...} الأظهر أنه في غير المحصر، بل في المتمتع الحقيقي، فكأن المعنى: فإذا لم تكونوا خائفين لكن تمتعتم بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي، ويدل على هذا التأويل قوله سبحانه: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره بإجماع!!
قلت: «أبو مالك»: وأصرح من هذا كله حديث عائشة رضي الله عنها في قول النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير: «أردت الحج؟» قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: «حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» (2) وهو صريح في اعتبار النبي صلى الله عليه وسلم الوجع والمرض سببًا للإحصار، والله أعلم.
من أحصر ماذا يصنع؟
من أحصر عن إتمام نسكه، فإن كان اشترط أن محله حيث حُبس، فإنه يحلُّ ولا شيء عليه، لحديث عائشة المتقدم.
وإن لم يكن قد اشترط، فإنه يتحلل بعمرة ويجب عليه هدي عند الجمهور لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (3).
_________
(1) «بداية المجتهد» (1/ 529)، و «الإنصاف» (4/ 71)، و «الاختيارات» (ص 120).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207).
(3) سورة البقرة: 196.

(2/273)


هل يجب على المحصر القضاء؟
ذهب الجمهور إلى أن المحصر لا يجب عليه قضاء نسكه إن تحلل -خلافًا للحنفية- إلا أن كيون واجبًا في الأصل كحجة الإسلام فيطالب به بالوجوب السابق. والله أعلم.

ثانيًا: العمرة
تعريفها: العمرة لغةً: الزيارة، وقيل القصد إلى مكان عامر، وسميت بذلك لأنها تفعل في العمر كله.
وشرعًا: قصد الكعبة للنسك وهو الطواف والسعي (1).
حكمها:
اختلف أهل العلم في حكم العمرة على من وجب عليه الحج، على قولين:
الأول: تجب العمرة في العمر مرة: وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو مروي عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وجماعة من السلف، وبه قال أهل الظاهر (2) وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (3). ومقتضى الأمر الوجوب ثم عطفها على الحج.
2 - حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: «نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» (4) وظاهر قوله (عليهن) الوجوب.
3 - حديث الصبي بن معبد قال: أتيت عمر رضي الله عنه فقلت يا أمير المؤمنين، إني
_________
(1) «مغنى المحتاج» (1/ 460)، و «كشاف القناع» (2/ 436) وما بعدها.
(2) «الأم» (2/ 132)، و «المجموع» (7/ 3، 7)، و «المغنى» (3/ 218)، و «الإنصاف» (3/ 387)، و «المحلى» (7/ 360).
(3) سورة البقرة: 196.
(4) صححه الألباني: أخرجه أحمد (6/ 71)، وابن ماجه (2901)، وقال في «الإرواء» (981): «وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين»، قلت: الحديث عند البخاري (1520)، والنسائي (5/ 86) بدون ذكر العمرة، ومخرج الحديث واحد، فيبحث في ثبوت هذه اللفظة، والله أعلم.

(2/274)


أسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ فأهللت بهما، فقال: «هَديت لسنة نبيك» (1).
4 - أن العمرة هي الحج الأصغر عند الجمهور (2).
الثاني: العمرة مستحبة وليست واجبة: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك (3)، والقول القديم للشافعي والرواية الأخرى عن أحمد وهو مروي عن ابن مسعود، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، واحتجوا بما يلي:
1 - ما رُوى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمروا فهو أفضل» (4).
2 - ما رُوى عن طلحة مرفوعًا: «الحج جهاد، والعمرة تطوع» (5).
3 - أن العمرة والحج عبادتان من جنس واحد، فإذا فعلت الكبرى لم تجب الصغرى كالوضوء مع الغسل، وإن كان الوضوء مع الغسل أفضل وأكمل (6)، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم لكن أمرهم بالتمتع، وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» (7).
4 - أن العمرة ليس فيها عمل غير أعمال الحج -وأعمال الحج إنما فرضها الله مرة واحدة لا مرتين -فعلم أن الله لم يفرض العمرة (8).
قلت: أما الأحاديث التي استدل بها الفريق الثاني فلا يصح منها شيء، ومع هذا فأدلة الموجبين كذلك ليست صريحة في الإيجاب، فقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} إنما هو في وجوب الإتمام لمن شرع فيهما، وأما في الابتداء فقد أوجب الحج فقط، حيث قال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (9). ولم يوجب
_________
(1) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 13 - 14)، وأبو داود (1799)، وابن ماجه (2970)، وانظر «الإرواء» (2970).
(2) انظر «الفتح» (6/ 322، 8/ 172)، و «تفسير الطبري» (10/ 75).
(3) «المدونة» (1/ 370)، و «فتح القدير» (2/ 306)، و «البدائع» (3/ 1320).
(4) ضعيف: أخرجه الترمذي (939).
(5) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (2989) ,
(6) «مجموع الفتاوى» (26/ 9).
(7) صحيح: تقدم تخريجه.
(8) «مجموع الفتاوى» (26/ 8).
(9) سورة آل عمران: 97.

(2/275)


العمرة، وأما كون العمرة: الحج الأصغر، فقد جعله ابن تيمية حجة على الموجبين لا لهم، لأنه يلزم منه إيجاب حجَّين وهو ممتنع. وعلى كلٍّ فالأحوط فعلها وعدم التفريط لاحتمال ثبوت زيادة «العمرة» في حديث عائشة، ولاحتمال أن يكون المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «دخلت العمرة في الحج كهاتين ..» وجوبها كالحج، ولأن العمل بأدلة الوجوب تبرأ بها المة بالإجماع. والله أعلم.

فضل العمرة (1):
العمرة من أجلِّ العبادات، وأفضل القربات التي يرفع الله بها لعباده الدرجات، ويحط عنهم بها الخطيئات، وقد حضَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً:
1 - فقال صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» (2).
2 - وقال: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة» (3).
3 - واعتمر -عليه الصلاة والسلام- واعتمر معه أصحابه في حياته وبعد مماته.

وقت العمرة:
يجوز إيقاع العمرة في جميع أيام السنة -عند جمهور العلماء- إلا أنها في رمضان أفضل منها في غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة معي» (4).

تجوز العمرة قبل الحج:
فعن عكرمة بن خالد «أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن العمرة قبل الحج، فقال: لا بأس بها، قال عكرمة: قال ابن عمر: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج» (5).

هل يشرع تكرار العمرة؟
تكرار العمرة يكون على حالتين:
1 - تكرار العمرة في السنة الواحدة بأسفار متعددة: فهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين (6):
_________
(1) «إرشاد الساري» عن «الوجيز» (ص: 266).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
(3) صحيح: أخرجه الترمذي (807)، والنسائي (5/ 115)، وانظر «صحيح الجامع» (2899).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1782)، ومسلم (1256).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (1774).
(6) «مجموع الفتاوى» (26/ 267) وما بعدها، (26/ 290)، و «المجموع» للنووي (7/ 140).

(2/276)


(أ) أنه يكره، وبه قال الحسن وابن سيرين والنخعي، وهو مذهب مالك، واختاره شيخ الإسلام، وحجتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يعتمروا في عام مرتين، فتكره الزيادة على فعلهم، ولأن العمرة هي الحج الأصغر، والحج لا يشرع في العام إلا مرة واحدة، فكذلك العمرة.
(ب) أنه جائز ومستحب، وهو مذهب الجمهور، منهم عطاء وطاوس وعكرمة والشافعي وأحمد، وهو المروي عن عليٍّ وابن عمر وابن عباس وعائشة، وحجتهم أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: عمرتها التي كانت مع الحجة، والعمرة التي اعتمرتها من التنعيم، وهذا على القول بأنها لم ترفض عمرتها وأنها كانت قارنة كما ذهب إليه الجمهور.
وكذلك استدلوا بحديث «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ...» (1)، وبحديث عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال» (2).
قلت: والظاهر لي أن مذهب الجمهور أرجح، والعمرة عمل خير لم يأت ما ينهي عن تكراره، وقياسها على الحج -في كونه مرة- لا يصح؛ لأن العمرة ليس لها وقت تفوت به بخلاف الحج، ثم إن الحج لا يتصور تكراره في عام واحدة، فبطل القياس عليه، والله أعلم.
2 - تكرار العمرة في سفرة واحدة:
الخلاف في هذه المسألة مثل الخلاف في التي قبلها، لكن الراجح هنا أنه لا يُشرع تعدد العُمر في السفرة الواحدة كما يفعله كثير من الناس اليوم من الخروج إلى التنعيم -بعد الحج مثلاً- ثم الاعتمار، فهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم «وإنما كانت عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم كلها داخلاً مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجًا من مكة تلك المدة أصلاً، فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها: عمرة الداخل إلى مكة لا عمرة من كان بها فخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها من بين سائر من كان
_________
(1) صحيح: تقدم قريبًا.
(2) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (1991)، والبيهقي (5/ 11).
وقال ابن القيم في «تهذيب السنن» (5/ 325 - العون): وهو وهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في شوال قط ... اهـ. فليراجع.

(2/277)


معه، لأنها كانت أحرمت بالعمرة فحاضت، فأمرها فأدخلت الحج على العمرة، فصارت قارنة، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وبعمرة مستقلة، وترجع هي بعمرة ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم» (1).
ثم إن الطواف بالبيت أفضل من السعي يقينًا، وهو أولى من الاشتغال بالخروج إلى التنعيم للإهلال بعمرة جديدة، ومعلوم أن الوقت الذي يصرفه في الخروج إلى التنعيم ليهل بعمرة جديد يستطيع أن يطوف فيه بالبيت مئات الأشواط.
قلت: هذا فيمن كان اعتمر قبل الحج فأراد -بعد الحج- أن يكرر عمرته، أو كان اعتمر وأراد التكرار، أما من كان في مثل حال عائشة رضي الله عنها، فلم يعتمر قبل الحج، فلا بأس أن يعتمر بعد فراغه من الحج، عملاً بالأدلة كلها (2)، وهذا أعدل الأقوال في المسألة، والله تعالى أعلم.

أركان العمرة:
1 - الإحرام
2 - الطواف
3 - السعي
فمن ترك ركنًا من هذه الأركان، لم يتم نسكه.

واجبات العمرة:
1 - الإحرام من الميقات: يجب على من أراد العمرة أن يُحرم بها من الميقات إن كان مقيمًا قبل الميقات (خارجه) فإن كان مقيًا دون الميقات فيُحرم من منزله، وأما المقيم بمكة فيخرج إلى الحل (التنعيم أو غيره) فيحرم منه كما فعلت عائشة رضي الله عنها.
2 - الحلق أو التقصير.

زيارة المدينة المنورة (3):
فضل المدينة:
عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى سمى المدينة طابة» (4).
_________
(1) «زاد المعاد».
(2) وبهذا قال العلامة ابن باز -رحمه الله تعالى- كما في «توضيح الأحكام» للبسام (3/ 247).
(3) إرشاد الساري عن «الوجيز» (269 - 273).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1385).

(2/278)


وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المدينة كالكير، تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد» (1).

فضل مسجدها وفضل الصلاة فيه:
عن أبي هريرة، يبلغ به عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى» (2).
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام» (3).
وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» (4).

آداب زيارة المسجد والقبر الشريفين:
إن الأفضلية التي اختص بها المسجد النبوي الشريف، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، هي تكريم من الله سبحانه لهذه المساجد الثلاثة، وتفضيل للصلاة فيها على الصلاة في غيرها، فمن جاءها فإنما يجيئها رغبة في تحصيل الثواب وتلبية لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على شد الراحل إليها وزيارتها.
وليست لهذه المساجد الثلاثة آداب تختص بها من بين سائر المساجد، غير أن لبسًا قد يخالط بعض الناس، فيجعلون للمسجد النبوي آدابًا خاصة به، وما كان هذا اللَّبس ليكون لولا وجود القبر الشريف داخل المسجد.
وحتى يكون المسلم على بينة من أمره إذا قدم المدينة، وأراد أن يزور المسجد النبوي نورد آداب زيارته:
1 - إذا دخل فليدخل برجله اليمنى، ثم ليقل: «اللهم صلِّ على محمد وسلِّم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك» (5). أو «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم» (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1381).
(2) متفق عليه. أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397).
(3) متفق عليه. أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394).
(4) متفق عليه. أخرجه البخاري (1195)، ومسلم (1390).
(5) سبقا.
(6) سبقا.

(2/279)


2 - ثم يصلي ركعتي تحية المسجد قبل أن يجلس.
3 - وليحذر الصلاة إلى جهة القبر الشريف، والتوجه إليه حيثما يدعو.
4 - ثم يذهب إلى القبر الشريف ليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليحذر وضع يديه على صدره، وطأطأة الرأس، والتذلل -الذي لا ينبغي إلا الله وحده- والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بالكلمات والألفاظ التي كان يسلم بها على أهل البقيع، وقد صحت عنه صلى الله عليه وسلم صيغ عدة، منها: «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون» (1) ويسلِّم على صاحبيه: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالسلام نفسه.
5 - وليس من الأدب أن يرفع صوته في المسجد، أو عند القبر الشريف، فليكن صوته خفيفًا، إذ الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ميتًا كالأدب معه حيًّا.
6 - وليحرص على الصلاة في جماعة في الصفوف الأولى، لما في ذلك من الفضل الجم والثواب العظيم.
7 - ولا يحمله الحرص على الصلاة في الروضة أن يتأخر عن الصفوف الأولى، فليس للصلاة في الروضة فضل يميزها عن الصلاة في سائر أجزاء المسجد.
8 - وليس من السنة أن يحرص على الصلاة في المسجد أربعين صلاة متوالية بناء على الحديث الذي اشتهر على ألسنة الناس تداوله: «من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا يفوته صلاة كتبت له براءة من النار، ونجا من العذاب، وبرئ من النفاق» (2). فهذا حديث ضعيف لا يصح.
9 - وليس مشروعًا أن يكثر التردد على القبر الشريف للسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالسلام عليه يبلغ حيثما كان، ولو كان في أقصى الأرض فهو ومَنْ أمام القبر سواء في الحصول على ثواب الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
10 - وإذا خرج من المسجد لا يمشي القهقري، وليخرج برجله اليسرى قائلاً:
«اللهم صل على محمد، اللهم إني أسألك من فضلك» (3).

مسجد قباء:
يسن لمن أتى المدينة أن يؤم مسجد قباء فيصلي فيه، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم،
_________
(1) سبق.
(2) انظر «الضعيفة» (364).
(3) سبق.

(2/280)


حيث «كان -عليه الصلاة والسلام- يتعاهده بالزيارة ماشيًا وراكبًا، ويأتيه يوم السبت فيصلي فيه ركعتين» (1). وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه، كان له كأجر عمرة» (2).

البقيع وأُحد:
البقيع مقبرة المسلمين بالمدينة، وفيه دفن خلق كثير من الصحابة، وما زال يدفن فيه المسلمون إلى أيام الناس هذه، وكثيرٌ هم أولئك الذين يأتون المدينة طمعًا في الموت بها ليدفنوا في البقيع.
و «أُحد جبل يحبنا ونحبه» (3)، وفي حضنه دفن بضعة وسبعون شهيدًا، من شهداء الغزوة التي دارت رحاها في أحضانه، ونسبت إليه فسميت غزوة أحد.
فإذا أراد أحد قدم المدينة أن يزور البقيع أو شهداء أُحد فلا مانع، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم أذن بها، لتذكر الآخرة والاتعاظ بمصائر من فيها. ولكن يجب الحذر من التبرك بالقبور، والاستغاثة بأهلها، والاستشفاع بهم لدى الأحياء، والتوسل بهم إلى رب العباد.
ولا يشرع لمن يأتي أُحدًا أن يقصد ما يقال بأنه مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في سفح الجبل ليصلي فيه، أو أن يصعد أُحدًا تبركًا، أو يصعد جبل الرماة تتبعًا لآثار الصحابة، فذلك وغيره مما يكون من غير السلام والدعاء للشهداء ليس مشروعًا ولا مستحبًا شَرْعًا، بل هو من الأمور المحدثة المنهي عنها، وفي ذلك يقول عمر رضي الله عنه: «إنما هلك من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم». فليكن لنا في كلام عمر رضي الله عنه مقنع ومقطع.

المزارات:
هناك أماكن أخرى في المدينة المنورة تعرف بالمزارات، كالمساجد السبعة القريبة من موقع غزوة الخندق، ومسجد القبلتين، وبعض الآبار، ومسجد الغمامة، والمساجد التي تنسب لأبي بكر، وعمر، وعائشة، رضي الله عنهم جميعًا، فكل هذه الأماكن لا يشرع تخصيصها بالزيارة، ولا يحسبن الزائر لها أنه بزيارتها يحصل على زيادة ثواب، فإن تتبع آثار الأنبياء والصالحين كانت سببًا في هلاك الأمم من قبلنا، ولا
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1193)، ومسلم (1399).
(2) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجه (1412).
(3) متفق عليه. أخرجه البخاري (4083)، ومسلم (1393).

(2/281)


يحسن بالمسلمين أن يخالفوا هدي نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه -رضوان الله عليهم- فإن الخير كل الخير في هديه وهديهم، والشر كل الشر في المخالفة عن هديه وهديهم.
تنبيهان مهمان جدًّا:
الأول: يحرص كثير من الحجاج على المكث في المدينة المنورة أيامًا أكثر من الأيام التي يمكثونها في مكة، مع أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مئة ألف في غيره من المساجد، أما الصلاة في المسجد النبوي فهي كألف صلاة فيما سواه.
وهذا الفرق الكبير في الفضل بين الصلاة في مكة وبين الصلاة في المدينة ينبغي أن يكون فيه مقنع لأولئك الحجاج أن يكون مكثهم في مكة أكثر منه في المدينة.
الثاني: كثير من الحجاج يظنون أن زيارة المسجد النبوي هي من مناسك الحج، ولذا فإنهم يحرصون عليها كحرصهم على مناسك الحج، حتى لو أن رجلاً حج ولم يأت المدينة فعندهم أن حجه ناقص!!
ويروون على غير ما يظن هؤلاء، فزيارة المسجد النبوي سنة شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، لكن لا علاقة بين الزيارة وبين الحج، ولا يترتب على زيارة المسجد صحة للحج، بل ولا كمال له، لأن زيارة المسجد النبوي ليست من مناسك الحج، بل هي مشروعة لذاتها وحدها.

محظورات الحرمين (1):
جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة».
فتحريمهما إنما كان بوحي من الله سبحانه لنبييه ورسوليه الكريمين -صلوات الله وسلامه عليهما-. وإذا قيل الحرمان، فهما مكة والمدينة، ولا يجوز إطلاق لفظ الحرم شرعًا إلا عليهما وحدهما، ولا يجوز إطلاق لفظ الحرم شرعًا على المسجد الأقصى، ولا على مسجد إبراهيم الخليل، إذ لم يسم الوحي حرمًا إلا مكة والمدينة، وهو تشريع لا مكان لعقل البشر فيه.
_________
(1) نقلاً من «إرشاد الساري» لفضيلة الوالد الشيخ محمد إبراهيم شقرة -حفظه الله- عن «الوجيز» (ص 260 - 261).

(2/282)


ويحظر في أرض الحرمين أمور لا يجوز فعلها لمن كان يحيا فيهما، أو أتاهما زائرًا لحج أولعمرة أو لغير ذلك، وهذه الأمور هي:
1 - صيد الحيوان والطير، وتنفيره، والإعانة عليه.
2 - قطع النبات والشوك إلا ما دعت الحاجة والضرورة إليه.
3 - حمل السلاح.
4 - التقاط اللقطة في حرم مكة للحاج، أما من كان مقيمًا في مكة التقطها وعرفها، والفرق بين الحاج والمقيم ظاهر في ذلك. اهـ.
قلت: والدليل على هذه المحظورات قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:
«إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكه، ولا يُنفِّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يُختلى خلاها». فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه لقِينهم ولبيوتهم، فقال: «إلا الإذخر» (1).
وعن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح» (2).
وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال [يعني في المدينة]: «لا يُخْتَلَى خلاها، ولا يُنَفَّرُ صيدها، ولا تُلتقط لُقَطَتُهَا إلا لمن أشاد بها [أنشدها] ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يُقْطَعَ منها شجرة إلا أن يَعلفَ رجل بعيره» (3).
قال الشيخ شقرة:
فمن أتى شيئًا من هذه المحظورات فقد أثم، ويلزمه التوبة والاستغفار، إلا الصيد فإن على المحرم فيه دم الجزاء زيادة على التوبة والاستغفار. اهـ.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1353).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1356).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2018).

(2/283)


7 - كتاب الأيمان والنذور

(2/284)


أولًا: الأيْمَانُ (*)
تعريف الأيمان:
الأيمان لغةً: جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة: اليد، وأطلقت على الحَلِف، لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل امرئ منهم بيمينه على يمين صاحبه (1).
واليمين شرعًا: «توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله» (2).
مشروعية اليمين:
ثبتت مشروعية اليمين بالكتاب والسنة والإجماع:
1 - فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (3)، وقوله سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (4)، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالقسم في ثلاثة مواضع من كتابه، فقال: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (5)، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ} (6) {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (7).
2 - ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ...» (8).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «... [فوالذي لا إله غيره] إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ...» (9) الحديث.
_________
(*) لأخينا الفاضل: عصام جاد -حفظه الله- كتاب نافع في «فقه الإيمان» وقد استفدت منه.
(1) «لسان العرب» و «النهاية» لابن الأثير.
(2) «فتح الباري» (11/ 516).
(3) سورة النحل، 91.
(4) سورة التحريم، 2.
(5) سورة يونس: 53.
(6) سورة سبأ: 3.
(7) سورة التغابن: 7.
(8) صحيح: أخرجه البخاري (6528)، ومسلم (221).
(9) صحيح أخرجه بهذا اللفظ مسلم (2643)، والترمذي (2137)، وهو عند البخاري (3208) بدون لفظ القسم.

(2/285)


وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم خشية» (1).
وعن ابن عمر قال: «كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ومُقلِّبِ القلوب» (2) وغيرها كثير وسيأتي طرف من ذلك في أثناء الباب، إن شاء الله.
3 - وقد أجمعت الأمة على مشروعية الأيمان، وثبوت أحكامها (3).
أيمان المسلمين:
الأيمان التي يحلف بها المسلمون، مما قد يلزم بها حكم، يمكن إجمالها في نوعين (4):
1 - القسم: وهو ما يقصد به تعظيم المُقسم به، وهذا النوع لا يكون إلا بالله تعالى، فهو المستحق للتعظيم بذاته على وجه لا يجوز هتك حرمة اسمه بحال.
2 - الشرط والجزاء: وهي يمين عند الفقهاء لما فيها من معنى اليمين، وهو المنع أو الإيجاب، وإن كان هذا النوع لا يعرفه أهل اللغة، ومن هذا النوع: اليمين بالنذر، واليمين بالطلاق، واليمين بالحرام، واليمين بالظهار، ونحو ذلك.
وسنهتم في هذا البحث بالنوع الأول وبعض الصور من النوع الثاني، وباقي صوره مفرَّقة في مواضعها من أبوب الفقه.
لا ينبغي الإكثار من الحلف (5):
قال الله تعالى {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} (6)، والحلاَّف -على ما ذكره بعض المفسِّرين-: كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف، وقال عز وجل {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (7) والمراد: الامتناع من الحلف -على أحد الأقوال- فإن بَعْدَ الحلف إنما يتصوَّر حفظ البرِّ، وحفظ اليمين يذكر لمعنى الامتناع.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6101)، ومسلم (2356).
(2) «المغنى» (11/ 160 - مع الشرح الكبير).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6628)، والنسائي (7/ 2)، وأبو داود (3263)، والترمذي (1540)، وابن ماجه (2092).
(4) «المبسوط» (8/ 126)، وانظر «مجموع الفتاوى» (35/ 241).
(5) «التفسير الكبير» للرازي (6/ 75، 30/ 83)، و «المبسوط» (8/ 127).
(6) سورة القلم: 10.
(7) سورة المائدة: 89.

(2/286)


وقد كان العرب يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف، كما قال كثير:
قليل الألايا (1) حافظ ليمينه وإن سبقت منه الأَلِيَّةُ بُرَّتِ
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان: أن من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وَقْعٌ، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة فيختل ما هو الغرض الأصلي من اليمين، ولذا كُره الحلف في البيع والشراء، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحلف مَنْفَقَةٌ للسلعة، محققة للبركة» (2).
الحلف لا يكون إلا بالله: عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (3).
فدلَّ على أمرين (4):
الأول: الزجر عن الحلف بغير الله، وإنما خُصَّ في حديث عمر بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو خص لكونه غالبًا عليه لقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: «وكانت قريش تحلف بآبائها» (5) ويدل على التعميم قوله: «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله».
الثاني: أن من حلف بغير الله مطلقًا لم تنعقد يمينه، سواء كان المحلوف به يستحق التعظيم لمعنى غير العبادة كالأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء والآباء والكعبة، أو كان لا يستحق التعظيم كالآحاد، أو يستحق التحقير والإذلال كالشياطين وسائر من عُبد من دون الله .. ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف بالله، ولا بما يقوم مقام ذلك. اهـ.
فائدة: إذا حَلَف المسلم لأخيه بالله فينبغي أن يصدقه: وإن علم منه ضِدَّه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأى عيسى ابن مريم عليه السلام رجلاً سرق، فقال عيسى: أسرقت؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنتُ بالله، وكذبتُ عيني» (6).
_________
(1) جمع أليَّة: وهي الحلف والقسم.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2087)، ومسلم (1606).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6646)، ومسلم (1646).
(4) «فتح الباري» (11/ 533).
(5) البخاري (3836)، ومسلم (1646).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (3444)، ومسلم (2368).

(2/287)


الحلف بأسماء الله وصفاته:
1 - الحلف بأسماء الله تعالى (1): لا خلاف بين أهل العلم في أن من قال: (والله) أو (بالله) أو (تالله) فحنث -أن عليه الكفارة لانعقاد يمينه، وكذلك الحلف بأي اسم من أسمائه سبحانه التي لا يسمى بها غيره، كالرحمن، والأول الذي ليس قبله شيء، ورب العالمين، والحي الذي لا يموت ونحو ذلك.
وأما ما يسمى به غير الله تعالى مجازًا، وينصرف إطلاقه إلى الله تعالى، مثل الخالق والرازق والرب والرحيم والقاهر ونحوه، فهذا يسمى به غير الله مجازًا بدليل قوله تعالى {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} (2)، وقوله {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (3)، وقوله {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} (4)، و {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} (5) فهذا إن نوى به اسم الله تعالى أو أطلق، كان يمينًا لأنه بإطلاقه ينصرف إليه، وإن نوى به غير الله تعالى لم يكن يمينًا، لأنه يُستعمل في غيره فينصرف إليه بالنية.
وأما ما يسمى به الله تعالى وغيره ولا ينصرف إليه بإطلاقه، كالحي والعالم والكريم ونحو ذلك، فهذا إن قصد به اليمين باسم الله تعالى كان يمينًا، وإن أطلق أو قصد غير الله تعالى لم يكن يمينًا.
2 - الحلف بصفات الله تعالى:
(أ) يجوز -عند جمهور العلماء- القسم بصفة من صفات ذات الله سبحانه التي لا يراد بها غيره، مثل: جلاله وكبريائه وعظمته وعزته، وتنعقد بها اليمين:
فعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط، وعزَّتك، ويُزوى بعضها إلى بعض» (6).
وفي حديث أبي هريرة -في ذكر آخر من يخرج من النار-: «.. فلا يزال يدعو الله، فيقول لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره، فيقول: لا، وعزَّتك لا أسألك غيره ..» (7).
_________
(1) «المغنى» (11/ 182)، و «المجموع» (18/ 22)
(2) سورة العنكبوت: 17.
(3) سورة الصافات: 125.
(4) سورة يوسف: 50.
(5) سورة يوسف: 42.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (6661)، ومسلم (2848).
(7) صحيح: أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (183) وليس عنده موضع الشاهد.

(2/288)


وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أيوب يغتسل عريانًا، فخرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزَّتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك» (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون» (2).
ووجه الدلالة منه أنه جازت الاستعاذة بصفة من صفات الله، فكذلك الحلف، لأن كليهما لا يكون إلا بالله.
(ب) وأما صفات أفعال الله تعالى، فقد تقدم في حديث ابن عمر: «كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا، ومقلب القلوب» (3).
قال ابن العربي -رحمه الله-: «في الحديث جواز الحلف بأفعال الله إذا وُصف بها ولم يذكر اسمه، وإن حلف بصفة من صفاته أو بفعل من أفعاله مطلقًا لم تكن يمينًا لما تقدم من قوله: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت، وإن حلف بصفة من صفاته كانت يمينًا ووجبت عليه الكفارة بالحنث ... كذلك قال العلماء من المالكية والشافعية من لدن مالك والشافعي إلى زماننا» اهـ (4).
الحلف بالقرآن:
القرآن كلام الله وهو غير مخلوق، وكلامه سبحانه صفة من صفاته، ولذا ذهب جمهور العلماء -خلافًا لأبي حنيفة- إلى جواز الحلف بالقرآن وأنه تنعقد به اليمين، ويؤيد هذا أن الحلف كالاستعاذة لا تكون إلا بالله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة ببعض صفات الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك ...» (5) وقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات ...» (6) وقوله: «أعوذ برضاك من سخطك ...» (7) ومثل هذا كثير (8).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (279)، ومسلم (2806).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (7383)، ومسلم (2717).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) «عارضة الأحوذي» (7/ 23)
(5) صحيح: أخرجه البخاري (4628) وغيره من حديث جابر.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (2708) وغيره من حديث خولة بنت حكيم.
(7) صحيح: أخرجه مسلم (486) وغيره من حديث عائشة.
(8) «المغنى» (11/ 193)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 237) وقد ذهب متأخروُ الحنفية كابن الهمام والعيني إلى ترجيح مذهب الجمهور من انعقاد اليمين بالقرآن، وانظر «الفقه الإسلامي وأدلته» (3/ 379).

(2/289)


تنبيه: من حلف بالمصحف: فإن كان يقصد به القرآن المسطور فيه الذي هو كلام الله جاز، وإن قصد الورق المكتوب فيه لم يجز والله أعلم.
قول الحالف: «لَعَمْرُ الله»:
جاء في حديث عائشة رضي الله عنها لما قال أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبيٍّ، فقام أسيد بن حضير، فقال لسعد بن عبادة: «لعمر الله لنقتله» (1).
والعمر: الحياة، فمن قال: (لعمر الله) كأنه حلف ببقاء الله، وهو جائز عند عامة أهل العلم (2) وتنعقد به اليمين مطلقًا، للحديث المتقدم، وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لأسيد رضي الله عنه قوله «لعمر الله» وعدم إنكاره عليه.
وقد قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (3) فثبت له عرف الشرع، ثم لأن معناه: وبقاء الله أو: وحياة الله، فهو قسم بصفة ذات الله فكان جائزًا.
من قال: «وَعهْدِ الله»:
اختلف أهل العلم فيمن قال: (وعهد الله أو عليَّ العهد) هل تنعقد يمينه بذلك على ثلاثة أقوال (4):
الأول: الحلف بعهد الله ينعقد يمينًا مطلقًا: وهو قول الحسن وطاووس والشعبي والأوزاعي ومالك وأحمد، وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (5) فقوله تعالى {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} لم يتقدمه غير ذكر العهد فعُلم أنه يمين، وأجيب: بأنه لا يلزم من عطف الأيمان على العهد أن يكون يمينًا.
2 - وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6662).
(2) «المبسوط» (8/ 132)، و «المدونة» (2/ 29)، و «الأم» (7/ 87)، و «المغنى» (11)، و «الفتاوى» (35/ 273).
(3) سورة الحجر: 72.
(4) سبق تخريجه.
(5) سورة النحل: 91.

(2/290)


بها مال رجل مسلم -أو قال: أخيه- لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديقه {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} (1) (2).
فخصَّ العهد بالتقدمة على سائر الأيمان، فدلَّ على تأكد الحلف به، لأن عهد الله ما أخذه على عباده، وما أعطاه عباده كما قال تعالى {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ} لأنه قدم على ترك الوفاء به.
3 - أن العهد يطلق على اليمين، فصار كأنه قال: ويمين الله، وذلك يمين، فكذا هنا.
4 - أنه يحتمل أن يكون معناه: كلام الله، وهو صفة له.
5 - أنه قد ثبت له عرف الاستعمال، فيجب أن يكون يمينًا بإطلاقه.
الثاني: أنه تنعقد به اليمين إذا نواها: وهو قول الشافعي، وحجته أنه يستعمل في غير معنى اليمين -كوصية الله لعباده باتباع أوامره وغير ذلك- فلا ينصرف إلى اليمين إلا بنيَّة.
الثالث: الحلف بعهد الله ليس يمينًا: وهو قول أبي حنيفة وابن حزم، وحجتهما:
1 - أن الحلف بعهد الله ليس من الحلف بصفات الله التي يجوز الحلف بها.
2 - أن اليمين لا تكون إلا بالله.
الراجح:
من قال: «أقسمتُ» أو «أقسم»:
1 - من قال: «أقسم بالله» أو «أقسمت بالله» فهذا يمين بلا خلاف سواء نوى اليمين أو أطلق، لأنه لو قال: «بالله» ولم يقل أقسم، كان يمينًا، وإنما كان يمينًا بتقدير الفعل قبله، ثم قد ثبت له عرف الاستعمال، قال تعالى {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} (3) وقال سبحانه {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (4).
2 - وإذا قال: «أقسمُ» أو «أقسمت» فهل يُعدُّ يمينًا؟ فيه ثلاثة أقوال (5):
_________
(1) سورة آل عمران: 77.
(2) «البدائع» (3/ 8)، و «المدونة» (2/ 30)، و «الأم» (7/ 88)، و «المغنى» (11/ 196)، و «المحلى» (8/ 32).
(3) سورة المائدة: 107.
(4) سورة الأنعام: 109.
(5) «البدائع» (3/ 7)، و «المدونة» (2/ 30)، و «الأم» (7/ 87)، و «المغنى» (11/ 205)، و «المحلى» (8/ 32).

(2/291)


الأول: أنه يمين مطلقًا: وهو مذهب الحنفية وأحمد في رواية واستظهرها ابن قدامة واستدلوا بما يلي:
1 - حديث ابن عباس عن أبي هريرة -في قصة الرجل الذي قصَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه وأن أبا بكر أوَّلها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا» قال: أقسمتُ -بأبي أنت وأمي- لتخبرني ما الذي أخطأتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقسم» (1) فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي بكر «أقسمتُ» يمينًا، فثبت له عرف الشرع والاستعمال.
2 - وفي حديث الإفك، قال أبو بكر رضي الله عنه لعائشة: «أقسمتُ عليكِ أي بنية، إلا رجعت إلى بيتك» (2).
3 - وفي قصة عبد الرحمن بن أبي بكر مع ضيف أبي بكر لما امتنعوا عن تناول الطعام فجاء أبو بكر، وقد اختبأ عبد الرحمن خوفًا منه، فقال أبو بكر: «يا غنثر، أقسمت عليك إن كنت تسمعني ...» (3).
4 - قوله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ} (4) ولم يقل (أقسموا بالله) فاعتبره يمينًا والاستثناء في اليمين.
5 - أن القسم لم يجز إلا بالله عز وجل، فكان الإخبار عنه عما لا يجوز بدونه كما في قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (5) ولأن العرب تعارفت الحلف على هذا الوجه.
الثاني: أنه يمين إذا نوى اليمين بالله وإلا فلا: وهو مذهب زفر -من الحنفية- وإسحاق ومالك وابن المنذر، لأنه يحتمل القسم بالله وبغيره فلم يكن يمينًا حتى يصرفه بنيَّة إلى ما يجب به الكفارة.
الثالث: أنه ليس بيمين، نوى أو لم ينو: وهو قول الشافعي وابن حزم والحسن والزهري وقتادة وأبي عبيد، لأن اليمين لا تنعقد إلا باسم معظم أو صفة معظمة ليتحقق له المحلوف عليه، وذلك لم يوجد.
_________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي (2293)، وأبو داود (3268)، وابن ماجه (3918) بهذا اللفظ وهو في الصحيحين بلفظ «والله لتخبرني».
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4757).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2057).
(4) سورة القلم: 17، 18.
(5) سورة يوسف: 82.

(2/292)


واستدلَّ الخطابي لهذا المذهب بحديث تأويل أبي بكر المتقدم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإبرار القسم [وسيأتي قريبًا] فلو كان قوله (أقسمتُ) يمينًا لأشبه أن يبره.
وتُعقِّب بأنه قد جاء في رواية الصحيحين أن أبا بكر صرح باليمين فقال: «والله لتخبرني» فقال له: «لا تقسم» فدلَّ على أن إبرار المقسم ليس بواجب.
الراجح: الذي يظهر أن قول القائل (أقسمت أو حلفت) يعتبر يمينًا منعقدة لكن ينبغي أن يقيد بأن يكون مختارًا وقاصدًا للحلف لا حاكيًا له ونحو ذلك، والله أعلم.
من قال: «أشهد بالله» أو «أشهد»:
1 - إذا قال القائل: (أشهد بالله) فإنه يُعدَّ يمينًا عند عامة الفقهاء، إلا أن الشافعي قيده بما إذا نوى، لأن قوله (بالله) وحده يمين، فقوله (أشهد بالله) في معنى: أقسم بالله، وقد تقدم أن قوله تعالى -في اللعان- {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ...} (1) أن اللعان عند أكثر أهل العلم أيمان مؤكدة بالشهادة.
2 - أما إذا قال (أشهد) فاختلف العلماء في اعتباره يمينًا على ثلاثة أقوال كالتي في المسألة السابقة تمامًا، ومستند من جعل قول (أشهد) يمينًا، قوله تعالى {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ...} ثم قال بعدها {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (2) قالوا: فسمى الله شهادتهم يمينًا.
وأجاب الآخرون بأن الآيات ليست صريحة في الدلالة على المطلوب، لاحتمال أن يكون قوله سبحانه {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} ليس راجعًا إلى قوله {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وإنما يرجع إلى سبب نزول الآيات وهي أن عبد الله بن أبيٍّ حلف ما قال، قاله القرطبي.
قلت: وربما يتأيد هذا بحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الناس خير؟ فقال: «قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته» (3).
قال الحافظ: «وهو ظاهر في المغايرة بين اليمين والشهادة» اهـ (4).
_________
(1) سورة النور: 8.
(2) سورة المنافقون: 1، 2.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6658)، ومسلم (2533).
(4) «فتح الباري» (11/ 544).

(2/293)


من قال: «وايْم الله»:
في انعقاد اليمين بذلك المذاهب المشهورة المتقدمة، والصحيح أنها تنعقد بذلك لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. وايْم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها» (1).
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -في قصة سليمان عليه السلام وقسمه ليطوفن على تسعين امرأة- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «.. وايْم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون» (2).
ولأن «وايْم الله» أصلها: وايْمُنُ الله، وهو اسم وضع للقسم، بمعنى: يمين الله.
الحلف بغير الله شرك:
عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة: فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (3).
ويؤيده حديث قتيلة -امرأة من جهينة-: «أن يهوديًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثم شئت» (4).
وقد جاء النهي عن الحلف بغير الله تعالى في غير ما حديث، منها:
1 - حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون» (5).
2 - وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم» (6).
3 - وعن ابن الزبير: أن عمر لما كان بالمحمص من عسفان استبق الناس،
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6788)، ومسلم (1688).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6639)، ومسلم (1654).
(3) حسن بما بعده: أخرجه الترمذي (1535)، وأبو داود (3251).
(4) صحيح: أخرجه النسائي (7/ 6)، وأحمد (6/ 371).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3248)، والنسائي (7/ 5).
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1648)، والنسائي (7/ 7)، وابن ماجه (2095).

(2/294)


فسبقهم عمر فقال ابن الزبير: فانتهزت فسبقتُه، فقلتُ: سبقتُه والكعبة، ثم انتهز فسبقني فقال: سبقتُه والله ... ثم أناخ فقال: «أرأيت حلفك بالكعبة، والله لو أعلم أنك فكرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك، احلف بالله فأثم أو أبرر» (1).
4 - وعن ابن مسعود قال: «لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا» (2).
شُبْهتان، والردُّ عليهما:
1 - حديث: «أفلح وأبيه إن صدق» ونحوه:
جاء في بعض طرق حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه -في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فأخبره بفرائضه، وفيه: «.. فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح [وأبيه] إن صدق، أو: دخل الجنة [وأبيه] إن صدق» (3).
وقد ورد نحوه من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيُّ الصدقة أعظم أجرًا؟ فقال: «أما [وأبيك] لتُنبأنه ....» الحديث (4).
ونحوه من حديث أبي هريرة -أيضًا- قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي، فقال: «نعم [وأبيك] لتُنبأنَّ، أمُّك ..» الحديث (5).
وقد استدل بعض أهل العلم -منهم مالك والشافعي- بهذه الروايات على أن الحلف بغير الله مكروه وليس محرمًا (!!) لكن أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، منها (6):
1 - عدم ثبوت زيادة «أفلح [وأبيه]» وقد أشار ابن عبد البر إلى أنها غير
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (15927)، والبيهقي (10/ 29).
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (15929) وغيره، وانظر «الإرواء» (8/ 192).
(3) أخرجه بهذه الزيادة: مسلم (11)، وأبو داود (392) ولم يخرجها البخاري (46).
(4) أخرجه بهذه الزيادة: مسلم (1032) وأخرجه بدونها: البخاري (1419)، وأبو داود (2865)، والنسائي (3611).
(5) أخرجه مسلم (2548)، وابن ماجه (2706)، وأحمد (2/ 327) وفي سنده شريك بن عبد الله القاضي.
(6) «فتح الباري» (11/ 534)، و «طرح التثريب» (7/ 145).

(2/295)


محفوظة، وهو كما قال: وكذلك تكلم بعض العلماء في ثبوت قوله «وأبيك لتنبأنه» لكن قال شيخنا المبارك مصطفى بن العدوي -رفع الله قدره- في شأن الزيادة الأخيرة: «إن في النفس شيئًا من القول بشذوذ: أما وأبيك لتنبأنه» (1) قلت (أبو مالك): وعلى فرض ثبوت جميع هذه الزيادات، فإن لأهل العلم توجيهات لهذه المرويات -على ندرتها- يجب المصير إلى بعضها لأجل مخالفتها للأحاديث الظاهرة المشتهرة التي تقدمت، فمن ذلك:
2 - أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير قصد حقيقة القسم، وإلى هذا جنح البيهقي، وقال النووي، إنه الجواب المُرضي.
3 - أنه كان يقع في كلامهم على وجهين: أحدهما للتعظيم والآخر للتأكيد، والنهي إنما ورد عن الأول.
4 - أن هذا كان جائزًا ثم نسخ، ورُدَّ بأنه لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير الله ولا يقسم بكافر، ثم إن دعوى النسخ ضعيفة لإمكان الجمع ولعدم تحقيق التاريخ.
5 - أن في الجواب حذفًا تقديره (أفلح ورب أبيه).
6 - أنه للتعجب، ويدل عليه أنه لم يرد بلفظ (وأبي) وإنما ورد بلفظ «وأبيه» أو «وأبيك» بالإضافة إلى ضمير المخاطب حاضرًا وغائبًا.
7 - أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من أمته، وتُعقِّب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال.
قلت: فالأظهر أن الحلف بغير الله حرام للأدلة الصريحة في ذلك، ومثلُ قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» لا يمكن أن يقال فيه: إنه مصروف إلى الكراهة، فهذا مما يستثنى من قاعدة «الجمع أولى من الترجيح» والله أعلم.
2 - قسم الله تعالى بمخلوقاته:
ومما استدل به القائلون بكراهة الحلف بغير الله -دون تحريمه- أن الله تعالى قد أقسم في كتابه بمخلوقاته فقال: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (2)، و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (3)، و {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (4) ونحو هذا.
_________
(1) نقله عنه أخونا في الله عصام جاد في كتابه «فقه الأيمان» ص (69).
(2) سورة الطارق: 1.
(3) سورة الشمس: 1.
(4) سورة الفجر: 1، 2.

(2/296)


وأجيب عن ذلك بجوابين:
الأول: أن هذه الأقسام فيها إضمار القسم برب هذه المخلوقات، كأنه قال: (ورب السماء)، (ورب الشمس) وهكذا.
الثاني: إنما أقسم الله بمخلوقاته دلالة على قدرته وعظمته، والله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، ولا وجه للقياس على أقسامه.
قلت: فعُلم أنه لا متعلق للقائلين بعدم تحريم الحلف بغير الله بشيء مما استدلوا به.
من حلف بغير الله، ماذا يفعل؟
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال في حلفه: واللات والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعالى أقامرك فليتصدق» (1).
وسعد بن أبي وقاص قال: حلفتُ بالات والعُزَّى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل: لا إله إلا الله، ثم انفث عن يسارك ثلاثًا، وتعوَّذ، ولا تَعُدْ» (2).
وهل هذا مختصُّ بمن قال: واللات والعُزَّى؟ أم يلحق به كل من حلف بغير الله؟ الأظهر الثاني، ولذا قال شيخ الإسلام (3): «... الحلف بالمخلوقات كالحلف بالكعبة والملوك والآباء والسيف وغير ذلك ... فهذه الأيمان لا حرمة لها، بل هي غير منعقدة ولا كفارة على من حنث فيها باتفاق المسلمين، بل من حلف بها فينبغي أن يوحِّد الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ...» ثم ذكر حديث أبي هريرة المتقدم.
الحلف بالأمانة:
لا يجوز الحلف بالأمانة، لحديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بالأمانة، فليس منا» (4) أي: ممن اقتدى بطريقتنا، وقيل: أي من ذوي أسوتنا، بل هو من المتشبهين بغيرنا، فإنه من ديدن أهل الكتاب، ولعله أراد به الوعيد عليه (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6650)، ومسلم (1647).
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2097)، وأحمد (1/ 183) وغيرهما وهو عند النسائي (7/ 7) بزيادة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثلاث مرات ...» الحديث. وهي ضعيفة كما في «الإرواء» (8/ 192).
(3) «مجموع الفتاوى» (33/ 122).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3253)، وابن حبان (1318)، والبيهقي (10/ 30).
(5) «عون المعبود» (9/ 79، 80).

(2/297)


فإن أضاف لفظ الأمانة إلى لفظ الجلالة فقال: «وأمانة الله» فمن العلماء من اعتبرها يمينًا موجبة للكفارة، لأن أمانة الله صفة من صفاته، فجاز الحلف بها (!!).
وفيه نظر: لعدم الدليل على أن الأمانة صفة من صفات الله، وإنما هي أمر من أوامره، وفرض من فروضه، فنهوا عنه لما في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله تعالى وصفاته (1)، ثم لثبوت النهي عن الحلف بالأمانة، فالصحيح أنه لا يجوز ذلك مطلقًا وهو قول الحنفية، ونسبه ابن عبد البر وغيره إلى الشافعي (2).
الحلف بملة غير الإسلام:
إذا أخبر الإنسان عن نفسه أنه إن فعل كذا، أو إن لم يفعل كذا، أو إن حصل كذا، أو إن لم يحصل، فهو يهودي أو نصراني أو كافر ونحو ذلك- فهذا حرام يقع فاعلهُ في الإثم سواء صدق أو كذب، لحديث ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بحديدة عُذِّب به في نار جهنم» (3).
وحديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» (4).
ثم اختلف أهل العلم: هل هذه يمين شرعية أم لا؟ (5) فقال مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين والليث وأبو ثور وابن المنذر: ليست يمينًا، ويستدل لهم بأنه ليس حلفًا باسم الله ولا بصفته، فلا يكون يمينًا، ولا كفارة فيها.
وقال الحنفية وأحمد -في الرواية الأخرى- والحسن والثوري والأوزاعي
_________
(1) «معالم السنن» للخطابي.
(2) «البدائع» (3/ 6)، و «المغنى» (11/ 207)، و «التمهيد» (14/ 372).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1363)، ومسلم (110).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3258)، والنسائي (3772)، وابن ماجه (2100)، وأحمد (5/ 356).
(5) «البدائع» (3/ 8، 21)، و «ابن عابدين» (3/ 55)، و «الشرح الصغير» (1/ 330)، و «نهاية المحتاج» (8/ 169)، و «المغنى» (11/ 198 - 201)، و «الإنصاف» (11/ 31)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 274).

(2/298)


وإسحاق، وهو اختيار شيخ الإسلام: هي يمين بمنزلة قوله: وإلا لأفعلن، لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله، وهذا هو حقيقة الحلف بالله، فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدنى حالاً من ربطه بالله، وعلى هذا إذا حنث تجب الكفارة.
ثم يبقى الحكم على الحالف نفسه: فإن كان كاذبًا وكان يقصد بحلفه تبعيد نفسه عن الشيء أو حضها عليه لم يكفر، لكنه داخل تحت الوعيد الشديد، وإن كان قصد بذلك الرِّضا بالكفر إذا فعله فهو كافر في الحال.
وأما إن كان صادقًا (بَرَّ في يمينه) فلا يكون سالمًا لأن فيه نوع استخفاف بالإسلام فيكون بنفس هذا الحلف آثمًا، والله أعلم.

أنواع اليمين القَسَمِيَّة
تقدم أن أيمان المسلمين إما أن تكون قسمية، وإما أن تكون تعليقية (بالشرط والجزاء) والأيمان القسمية تكون على ثلاثة أنواع من جهة انعقادها ووجوب الكفارة بالحنث فيها، وإليك هذه الأنواع مع طرف من الأحكام المتعلقة بكل نوع:
أولاً: اليمين اللغو:
1 - تعريفها: قال الله تعالى {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (1).
وقد اختلف العلماء في تفسير معنى «اليمين اللغو» على أقوال، أشهرها قولان كلاهما يحتمله معنى «اللغو» (2).
الأول: اللغو ما جرى على اللسان من غير قصد معنى اليمين، كقولهم «لا والله»، «بلى والله» في نحو صلة كلام أو غضب سواء أكان ذلك في الماضي أم الحال أم في المستقبل، وهو قول الشافعية والحنابلة، ووجهه: قول عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} قالت: «أنزلت في قوله: لا والله، وبلى والله» (3).
_________
(1) سورة البقرة: 225.
(2) «البدائع» (3/ 4)، و «الصاوي» (1/ 331)، و «الأم» (7/ 89)، و «المغنى» (11/ 180).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6663)، وعبد الرزاق (15952).

(2/299)


وعنها قالت: «أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب» (1).
ولأن الله تعالى قابل اليمين اللغو في الآية الكريمة باليمين المكسوبة بالقلب، والمكسوبة هي: المقصودة، فكانت غير المقصودة داخلة في قسم اللغو بلا فصل بين ماضيه وحاله ومستقبله تحقيقًا للمقابلة.
الثاني: اللغو: أن يحلف على شيء يعتقده على سبيل الجزم أو الظن القوي، فيظهر خلافه: وهو قول الحنفية والمالكية، ووجهه ما ثبت عن زرارة بن أوفى رضي الله عنه قال: «هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف» (2).
قلت: والقولان متقاربان، واللغو يشملهما، لأنه في الأول: لم يقصد عقد اليمين أصلاً، وفي الثاني: لم يعمد الحنث ولم يقصد إلا الحق، والله أعلم (3).
2 - حكم يمين اللغو:
قال الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (4) فدلَّ على عدم المؤاخذة بيمين اللغو، وهذا يعم الإثم والكفارة، فلا يجب الإثم ولا الكفارة.
ثانيًا: اليمين الغموس:
1 - تعريفها: أن يحلف على أمر ماضٍ (5) متعمدًا الكذب، ليهضم بها حقَّ غيره، وتسمى: الزور، والفاجرة، وسميت في الأحاديث: يمين صبر (أي: التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين الكاذبة) ويمينًا مصبورة.
قال في النهاية: غموسًا، لأنها تغمس صاحبها في النار.
2 - حكمها: هي كبيرة من الكبائر، وفاعلها آثم باتفاق المسلمين.
(أ) فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه الطبري (2/ 245)، والبيهقي (10/ 49).
(2) صحيح: أخرجه الطبري (2/ 245).
(3) «المحلى» (8/ 34)، و «المغنى» (11/ 181)، و «أضواء البيان» (2/ 108).
(4) سورة البقرة: 225.
(5) تقييدها بالحلف على الأمر الماضي هو مذهب الشافعية والحنابلة، خلافًا للحنفية والمالكية.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (6675)، والنسائي في «الكبرى» (6/ 322)، والترمذي (3021).

(2/300)


(ب) وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة» فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وإن كان قضيبًا من أراك» (1).
(جـ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر، يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» (2).
(د) وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم» -ثلاثًا- قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: «المُسْبِل، والمنَّان، والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب» (3).
3 - هل يُرخَّص في اليمين الغموس للضرورة؟ (4)
لا شك أن الأصل في اليمين الغموس أنها حرام، لكن قد يعرض ما يخرجها عن الحرمة ما لم يكن حرامًا، كأن يختفي مسلمٌ من ظالم، فيُسأل عنه، فإنه يجب الكذب بإخفائه، ولو استحلفه عليه لزمه أن يحلف، ويورِّى في يمينه، فإن حلف ولم يُوَرِّ، فقيل: يحنث على الأصلن وقيل: لا يحنث.
ومستند الترخيص للضرورة، قوله تعالى {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (5) فإذا كان الإكراه يبيح كلمة الكفر، فإباحته لليمين الغموس أولى.
وعن سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حُجْر، فأخذه عدوٌّ له، فتحرَّج القوم أن يحلفوا، فحلفتُ أنا أنه أخي، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت، المسلم أخو المسلم» (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (137)، وابن ماجه (2324).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6676)، ومسلم (138).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (106)، وأبو داود (4087)، والنسائي (2563)، والترمذي (1121)، وابن ماجه (2208).
(4) «حاشية الصاوي» (1/ 450)، و «الأذكار» للنووي (336)، و «المغنى» (11/ 166).
(5) سورة النحل: 106.
(6) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3070)، وابن ماجه (2119)، والحاكم (4/ 333) وغيرهم.

(2/301)


4 - هل تلزم الكفارة في اليمين الغموس؟ للعلماء في هذه المسألة قولان (1):
الأول: لا كفارة فيها، وإنما تجب التوبة منها وردُّ الحقوق إلى أهلها: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة، واستدلوا بما يلي:
1 - الأحاديث المتقدمة في الترهيب من اليمين الغموس.
2 - قول الأشعث بن قيس -في حديث ابن مسعود المتقدم-: فيَّ أنزلت هذه الآيات وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} (2).
قالوا: هذه النصوص أثبتت أن حكم الغموس العذاب في الآخرة، فمن أوجب الكفارة فقد زاد على المنصوص.
3 - حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس ليس فيهن كفارة: الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير الحق، وبهتُ المؤمن، والفرار من الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق» (3) وهو ضعيف.
_________
(1) هذا على القول بأن اليمين الغموس مختصة بالحلف على الأمر الماضي، وإلا ففي المسألة قول ثالث بالتفريق بين الحنث على الأمر الماضي -فلا كفارة فيه- وبين الأمر المستقبل ففيه الكفارة وبه قال المالكية والحنابلة، وانظر: «فتح القدير» (4/ 3)، و «الصاوي» (1/ 330)، و «أسنى المطالب» (4/ 240)، و «المغنى» (11/ 177)، و «المحلى» (8/ 36)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 128 - 35/ 324)، و «فتح الباري» (11/ 557).
(2) سورة آل عمران: 77.
(3) ضعيف: أخرجه أحمد (2/ 362)، والطبراني في «مسند الشاميين» (1183)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (278)، وفي «الديات» (1/ 16) من طرق عن بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن أبي المتوكل (وفي بعضها: المتوكل) عن أبي هريرة به، وهذا إسناد فيه علتان: الأولى: عنعنة بقية، وهو مدلس تدليس التسوية، نعم في طريق ابن أبي عاصم المذكورة تصريحه بتحديث بحير دون من فوقه فلم يكف، إلا أن يصرح في بقية السند، لكن تابعه إسماعيل بن عياش عن بحير به فزالت العلة الأولى، لكن بقي أن أبا المتوكل المذكور ليس هو الناجي (الثقة) كما توهَّم ابن الجوزي فاحتج به في التحقيق (2028)، وإنما قال فيه أبو حاتم «شامي عن أبي هريرة» وقال ابن حبان في الثقات: لا أدري من هو ولا ابن من هو؟ قلت فهو مجهول، كما أشار الحافظ في «الفتح» (11/ 557 - المعرفة)، وانظر: «تعجيل المنفعة» (1004)، و «الإكمال» للحسيني (819).

(2/302)


4 - وعن ابن مسعود قال: «كنا نعدُّ من الذنب الذي لا كفارة له: اليمين الغموس» فقيل: ما اليمين الغموس؟ قال: اقتطاع الرجل مال أخيه باليمين الكاذبة» (1).
قالوا: ولا يعلم لابن مسعود مخالف من الصحابة بل نقل غير واحد من أهل العلم اتفاق الصحابة على ذلك.
5 - أن هذه اليمين أعظم من أن تُكفَّر، فالكبائر لا كفارة فيها، كما لا كفارة في السرقة والزنا وشرب الخمر.
الثاني: أن فيها الكفارة: وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد، وابن حزم، وحجتهم:
1 - أن الغموس يمين مكسوبة معقودة (!!) إذ الكسب فعل القلب، والعقد: العزم، ومن أقدم على الحلف كاذبًا متعمدًا فهو فاعل بقلبه ومصمم، فهو مؤاخذ، لقوله تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (2).
2 - وقال تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ... ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (3).
فهذا عموم يدخل فيه كل يمين يحنث فيه صاحبه، ولا تسقط الكفارة إلا بنص.
3 - قوله صلى الله عليه وسلم: «... فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه» (4) قالوا: فأمره صلى الله عليه وسلم بتعمد الحنث وأوجب عليه الكفارة.
4 - أن اليمين الغموس أحق بالتكفير من سائر الأيمان المعقودة، لأن ظاهر الآيتين السابقتين ينطبق عليها من غير تقدير، لأنها حانثة من حين إرادتها والنطق بها، فالمؤاخذة مقارنة لها، بخلاف سائر الأيمان المعقودة، فإنه لا مواخذة عليها إلا عند الحنث فيها، فهي محاجة في تطبيق الآيتين عليها إلى تقدير بأن يقال: ولكن يؤاخذكم بالحنث فيما كسبت قلوبكم، وفي قوله {إِذَا حَلَفْتُمْ} أي: حلفتم وحنثتم.
الراجح:
الذي يظهر أن عدم إيجاب التكفير أقوى، ويُردُّ على أدلة المخالفين (5) بأن
_________
(1) إسناده حسن: أخرجه البيهقي (10/ 38).
(2) سورة البقرة: 225.
(3) سورة المائدة: 89.
(4) صحيح: تقدم في أول الباب.
(5) مستفاد من «فقه الأيمان» لأخي في الله عصام جاد -حفظه الله- باختصار، وهناك بعض الردود الأخرى.

(2/303)


اليمين الغموس ليست بيمين حقيقة، لأن اليمين عقد مشروع، وهذه كبيرة محضة، والكبيرة ضد المشروع، وإنما سميت يمينًا مجازًا، لوقوعها في صورة اليمين، ثم إن اليمين تكون غموسًا لأن فيها تعمُّد الكذب لا تعمد الحنث، فلا يسلم الاستدلال بالحديث.
ويؤيد أن اليمين الغموس ليس فيها إلا التوبة، ما تقدم في «باب اللعان» من قول النبي صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب» (1) فلو كانت الكفارة واجبة على أحدهما بتعمد الكذب لكانت الحاجة إلى بيانها أشد من الحاجة إلى بيان التوبة كما لا يخفى، والله أعلم بالصواب.
ثالثًا: اليمين المنعقدة:
1 - تعريفها: هي اليمين على أمرٍ في المستقبل غير مستحل عقلاً، سواء أكان نفيًا أو إثباتًا، نحو: والله لا أفعل كذا، أو: والله لأفعلن كذا.
ويكون الحالف قد عزم بقلبه أن يفعل أو لا يفعل ثم يخبر لسانه عن ذلك باليمين.
وقيل: ما لم تكن غموسًا أو لغوًا.
2 - شروط اليمين المنعقدة (2): يشترط لتكون اليمين منعقدة، شروط بعضها يرجع إلى الحالف، وبعضها إلى المحلوف عليه، وبعضها إلى الصيغة، فهذه الثلاثة أركان اليمين:
(أ) الشروط في الحالف: يشترط في الحالف لتنعقد يمينه ما يلي:
1 - البلوغ.
2 - العقل.
3 - الإسلام (عند الحنفية والمالكية): فلا تنعقد اليمين بالله تعالى من الكافر ولو ذميًّا -عندهم- وقال الشافعية والحنابلة: لا يشترط الإسلام لانعقاد اليمين أو بقائها، فلو حلف الذمي بالله ثم حنث -وهو كافر- لزمته الكفارة، لكن إن عجز عن الكفارة بالإطعام لم يكفِّر بالصوم حتى يسلم.
4 - التلفظ باليمين: فلا يكفي كلام النفس عند الجمهور خلافًا لبعض المالكية.
_________
(1) صحيح: تقدم في «اللعان».
(2) «البدائع» (3/ 10)، و «الدسوقي» (4/ 307)، و «نهاية المحتاج» (8/ 164)، و «المغنى» (11/ 161).

(2/304)


5 - القصد: لأنه لا مؤاخذة إلا بقصد ونية، ولذلك أسقط الله تعالى الكفارة في يمين اللغو.
6 - الاختيار: فلو أخطأ أو أُكره لم ينعقد ولم يؤاخذ على الراجح وهو قول الجمهور خلافًا للحنفية -لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1).
(ب) الشروط في المحلوف عليه:
1 - أن يكون أمرًا مستقبلاً، لأن اليمين على الأمر الماضي ليس فيها كفارة على الأرجح -كما تقدم- ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فيكفِّر، وليأت الذي هو خير» (2).
2 - أن يكون المحلوف عليه أمرًا متصوَّر الوجود حقيقة عند الحلف (غير مستحيل).
(جـ) شروط في صيغة الحلف:
1 - أن لا يكون القسم بمخلوق، وقد تقدمت أدلة هذا الشرط في أول الباب.
2 - أن لا يفصل بين المحلوف به والمحلوف عليه بسكوت ونحوه.
3 - خلوها من الاستثناء، أي: التعليق على مشيئة الله تعالى ونحو ذلك مما لا يتصور معه الحنث، وسيأتي بيانه، إن شاء الله.
3 - حكم البَرِّ والحنث فيها:
اليمين المنعقدة إما أن تكون:
(أ) على فعل واجب أو ترك معصية، كقوله (والله لأصليَّن الظهر) أو (والله لا أسرق الليلة) فيجب البرُّ فيها، ويحرم الحنث بلا خلاف.
(ب) وإما أن تكون على فعل معصية أو ترك واجب، فيحرم البرُّ فيها ويجب الحنث.
ومن هذا الباب أن يحلف يمينًا تتعلق بأهله ويتضررون بعدم حنثه، ويكون الحنث ليس بمعصية، فينبغي له أن يحنث، فيفعل ذلك الشيء، ويكفر عن يمينه، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله، لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يُعطى كفارته التي افترض الله عليه» (3).
_________
(1) حسن: تقدم تخريجه.
(2) صحيح: وسيأتي بتمامه وتخريجه.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6624)، ومسلم (1655).

(2/305)


(جـ) وإما أن تكون على فعل مستحب أو ترك مكروه، كـ «والله لأصلين سُنة الصبح، أو: لا ألتفتُ في صلاتي» فيكون البرُّ مستحبًّا والحنث مكروهًا، وقيل: بل يجب البر ولا يجوز الحنث لقوله تعالى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1).
(د) وإما أن تكون على فعل مكروه أو ترك مستحب: فيستحب الحنث والتكفير ويُكره البرَّ فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا نها، فليكفِّر عن يمينه ويفعل» (2).
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «وإذا حَلفتَ على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك وائت الذي هو خير» (3).
ومن هذا الباب: حلفَ أبي بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسْطَح -الذي قذف ابنته عائشة رضي الله عنها ظلمًا وزورًا- فنزل قوله تعالى {وَلا يَاتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى ...} (4) (5).
(هـ) وإما أن تكون على فعل مباح، فالبرُّ أفضل، ما لم يكن فيه أذيَّة، وما لم يكن في الحنث خيرًا، للأحاديث المتقدمة، والله أعلم.
الحلف على الغير، وإبرار المُقسم:
قد يحلف الإنسان على فعل أو ترك منسوبَين إلى غيره، فيقول: والله لتفعلنَّ أو لا تفعل كذا، فإن كان حلف عليه أن يفعل واجبًا أو أن يترك محرَّمًا وجب إبراره، وإن حلف عليه أن يفعل محرَّمًا أو يترك واجبًا، لم يجز إبراره، ولو حلف على مكروه كُره إبراره، أما إذا حلف عليه أن يفعل مندوبًا أو مباحًا أو يترك مكروهًا أو مباحًا، فإنه يستحب إبرار قسمه لحديث البراء رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المُقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام» (6).
_________
(1) سورة المائدة: 89.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1650)، والترمذي (1530).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6622)، ومسلم (1652).
(4) سورة النور: 22.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (4750)، ومسلم (2770) من حديث عائشة الطويل في قصة الإفك.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (6654)، ومسلم (2066).

(2/306)


وظاهر الأمر بإبرار المقسم للوجوب إلا أنه مصروف إلى الاستحباب بحديث ابن عباس في قصة تأويل أبي بكر لرؤيا رآها رجلٌ -في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم- وفيه قال أبو بكر: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأتُ في الرؤيا، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقسم» (1).
يعني: لا تكرر القسم، لأنني لن أجيبك، ولعل هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل خلاف المستحسن إلا بقصد بيان الجواز، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم يبرُّ بقسم الناس، ففي حديث المغيرة بن شعبة: «... قلت: يا رسول الله، أقسمتُ عليك لما أعطيتني يدك، فناولني يده، فأدخلتُها في كمي حتى انتهيت إلى صدري فوجده معصوبًا، فقال: «إن لك عذرًا» (2).
إذا لم يبرَّ قسم أخيه، فهل يلزم الحالف كفارة؟
1 - إذا قال لأخيه: بالله افعل كذا، أو أسألك بالله لتفعلن، فهذا طلب محض وسؤال وليس بيمين، فلا كفارة فيه، وفي الحديث: «من سألكم بالله فأعطوه» ولا كفارة على هذا إذا لم يجب سؤاله.
2 - إذا قال: والله لتفعلن كذا، فأحنثه، فقيل: يلزم الحالف كفارة، وهو منقول عن عمر وأهل المدينة وعطاء وقتادة والأوزاعي والشافعي (3)، وقال ابن حزم: لا كفارة عليه لأنه لم يقصد الحنث، ويؤيده حديث أبي بكر المتقدم، والله أعلم.
4 - ما يترتَّبُ على البرِّ والحنث:
اليمين المنعقدة إذا برَّ فيها الحالف -أي: فعل ما أقسم عليه- فلا شيء عليه ولا تلزمه كفارة.
أما إذا حنث -أي خالف المحلوف عليه، بثبوت ما حلف على عدمه، أو عدم ما حلف على ثبوته- لزمته الكفارة.
هل يمنع الحنثَ: النسيانُ والخطأ والإكراه؟
من حلف أن لا يفعل أمرًا ففعله ناسيًا أو مخطئًا -أي: معتقدًا فعل غيره- أو مكرهًا- فالصحيح أنه لا يحنث بشيء من ذلك، لحديث: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (4).
_________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي (2293)، وأبو داود (3268)، وابن ماجه (3918).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3826)، وأحمد (4/ 249)، والبيهقي (3/ 77).
(3) «المغنى» (11/ 247)، وانظر «المحلى» (8/ 35).
(4) حسن: تقدم تخريجه.

(2/307)


ولقوله تعالى {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} (1) وفي الحديث أن الله تعالى قال: «قد فعلت» وفي رواية: «نعم» (2).
ولقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (3).
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة -في الجملة- وبه قوال ابن حزم (4).
الاستثناء في اليمين:
المراد بالاستثناء هنا: التعليق بمشيئة الله تعالى أو نحو ذلك من كل لفظ لا يتصوَّر معه الحنث في اليمين، كما لو قال الحالف عقب حلفه: إن شاء الله، أو: إلا أن يشاء الله، أو: إن أعانني الله، أو: إن يسَّر الله، ونحو ذلك.
والاستثناء إذا كان متصلاً باليمين أبطله، فلا يحنث فيه، عند أكثر أهل العلم، بل نقل غير واحد الإجماع على ذلك (5).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء اله، لم يحنث» (6) وقد أُعلَّ، لكن يشهد له حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سليمان عليه السلام إذ قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كل تلد غلامًا يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه: «قل إن شاء الله ... الحديث» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركًا لحاجته» (7).
فائدة (8):
جوَّز بعض العلماء الاستثناء بعد انفصال اليمين بزمن يسير، لهذا الحديث، وأجيب عن ذلك: بأن يمين سليمان طالت كلماتها فيجوز أن يكون قول صاحبه له: «قل: إن شاء الله» وقع في أثنائه، فلا يبقى فيه حجة.
_________
(1) سورة البقرة: 286.
(2) صحيح: تقدم كثيرًا.
(3) سورة البقرة: 225.
(4) «الوجيز» للغزالي (2/ 229)، و «مطالب أولي النهى» (6/ 369)، و «المحلى» (8/ 35).
(5) «التمهيد» (14/ 372)، و «المغنى» (11/ 226)، و «فتح الباري» (11/ 602).
(6) إسناده صحيح وأعلَّه البخاري: أخرجه الترمذي (1532)، والنسائي (7/ 30)، وابن ماجه (2104)، وقد أعلَّه البخاري بأن عبد الرزاق اختصره من حديث معمر في قصة سليمان -وهو الآتي بعده- قلت: ويحتمل أن يكونا حديثين، وانظر «الإرواء» (8/ 197).
(7) صحيح: أخرجه البخاري (6720)، ومسلم (1654).
(8) «الفتح» (11/ 605)، و «سبل السلام» (4).

(2/308)


فالصحيح ما ذهبت إليه الجماهير من أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً، ولو جاز منفصلاً -كما قال بعض السلف- لم يحنث أحد في يمين، ولم يحتج إلى كفارة، واختلفوا في زمن الاتصال، فقال الجمهور: هو أن يقول: إن شاء الله، متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما، ولا يضره التنفس، والله أعلم.
والحاصل (1): أن من استثنى في يمينه لم يحنث، ويشترط في هذا الاستثناء ما يلي:
1 - أن يكون متصلاً باليمين، فلا يفصل بسكوت يمكن الكلام فيه، ولا يفصل بكلام أجنبي.
2 - ويستثنى بلسانه، ولا ينفعه بقلبه.
3 - أن يقصد الاستثناء، ولا يشترط أن يقصده من أول الكلام.
4 - لا فرق بين تقديم الاستثناء على اليمين أو تأخيره.
اليمين على نية الحالف أم المستحلف؟ (2)
المتحصل من كلام أهل العلم في المسألة، أن الحالف له حالتان:
1 - أن لا يكون هناك مستحلفٌ له أصلاً: بل هو حلف على الشيء ابتداءً، فالمرجح إلى نيَّته، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»، فإذا نوي بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء كان ما نواه موافقًا لظاهر اللفظ أو مخالفًا له.
2 - أن يكون قد استحلفه القاضي أو غيره فيما يتعلق بالحقوق: فإن اليمين تنعقد على ما نواه المستحلف -لا الحالف- ولا تنفع الحالفَ التورية في هذه الحالة، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك» وفي رواية: «اليمين على نية المستحلف» (3) وإلا لم تكن لليمين عند القاضي معنى، ولضاعت الحقوق.
_________
(1) «فقه الأيمان» لعصام جاد (ص: 188 - 189) بتصرف يسير.
(2) «المغنى» (11/ 242، 283)، و «البدائع» (3/ 99)، و «الدسوقي» (2/ 138)، و «شرح مسلم» للنووي.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1653)، وأبو داود (3255)، والترمذي (1354)، وابن ماجه (2120 - 2121) وغيرهم.

(2/309)


ويستثنى من هذا: إذا كان المستحلف ظالمًا للحالف أو غيره، فحينئذٍ يجوز للحالف التورية لحفظ حقٍّ أو نصرة مظلوم:
كما في حديث سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل ابن حجر، فأخذه عدو له فتحرَّج القوم أن يحلفوا، وحلفتُ أنه أخي فخلىَّ سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنَّ القم تحرَّجوا أن يحلفوا وحلفتُ أنه أخي، قال: «صدقتَ، المسلم أخو المسلم» (1).
ولأن الظالم ليس له حقُّ التحليف، فجازت التورية.

كفَّارة اليمين
تعريفها ومشروعيتها:
الكفَّارة مشتقة من الكفر وهو الستر والتغطية، وكفارة اليمين ما يجب بالحنث فيها، وسميت بذلك لأنها تكفِّر أي تغطي إثم الحنث، فلا يؤاخذ به يوم القيامة.
وكفارة اليمين بالله تعالى إذا حنث فيها -وهي منعقدة- ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه، حيث قال:
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2).
فبيَّنت الآية الكريمة أن كفارة اليمين المعقودة واجبة على التخيير -ابتداءً- في:
1 - الإطعام 2 - الكسوة 3 - تحرير الرقبة (العتق).
فغن عجز عن الثلاث وحب صيام ثلاثة أيام، ولا يجوز التكفير بالصيام إلا بعد العجز عن الثلاث الأولى، وعلى هذا إجماع العلماء.
وإليك أهم ما يتعلق بهذه الخصال من مسائل:
1 - الإطعام:
(أ) عدد المساكين الواجب إطعامهم (3): جاء في الآية الكريمة أن الكفارة
_________
(1) صححه الألباني: وقد تقدم.
(2) سورة المائدة: 89.
(3) «المبسوط» (8/ 150)، و «الأم» (7/ 91)، و «المغنى» (11/ 258)، و «المحلى» (8/ 72)، و «فقه الأيمان» (ص 214 - 216).

(2/310)


تكون بإطعام عشرة مساكين، فهل يجزئ أن يطعم مسكينًا واحدًا عشر مرات أو مسكينين خمس مرات وهكذا؟ قولان للعلماء، والأظهر أنه يلزم إطعام عشرة لظاهر الآية الكريمة، وهو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور- وابن حزم، وقال أبو حنيفة- وهو الرواية الأخرى عن أحمد- يجزئ إطعام مسكين عشر مرات بشرط أن تدفع إليه جملة واحد (!!).
(ب) نوع الطعام ومقداره (1): اختلفت مذاهب الأئمة في تقدير الإطعام في الكفارة، فذهب الجمهور -خلافًا لمالك- إلى أن الكفارة بالإطعام مقدرة بالشرع، فمذهب أبي حنيفة: أنه يطعم كل مسكين صاعًا (أي من قمح أو تمر أو شعير أو دقيق)، ومذهب الشافعي: يجزئ المُدُّ، وهو قول الحنابلة، وحجتهم في التقدير بالمد، حديث نافع قال: «كان ابن عمر يعطى زكاة رمضان بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم المدِّ الأول، وفي كفارة اليمين بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم» (2) وحجة من قدر بالصاع أثر عمر بن الخطاب أنه كان: «يطعم عشرة مساكين -كل مسكين- صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو نصف صاع من قمح» (3).
بينما ذهب الإمام مالك وابن حزم -واختاره شيخ الإسلام- إلى أن الإطعام مقدَّر بالعرف لا بالشرع فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرًا ونوعًا، لقوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (4) قال شيخ الإسلام (35/ 349): «.. والمنقول عن الصحابة والتابعين هذا القول، ولهذا كانوا يقولون: الأوسط خبز ولبن، خبز وسمن، خبز وتمر، والأعلى خبز ولحم، وقد بسطنا الآثار عليهم (5) في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار ....» اهـ.
وقال (35/ 353): «.. والمختار أن يرجع في ذلك إلى عرف الناس
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 478)، و «روضة الطالبين» (8/ 304)، و «المدونة» (2/ 39)، و «المحلى» (8/ 72)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 349).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6713).
(3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10675)، والطبري (5/ 13).
(4) سورة المائدة: 89.
(5) انظر هذه الآثار في «تفسير الطبري» (5/ 12 - 13)، و «مصنف عبد الرزاق» (8/ 507) وما بعدها، و «سنن البيهقي» (10/ 55)، وقد أورد أخونا عصام ما صحَّ عنده منها في «فقه الأيمان» (ص 217 - 219).

(2/311)


وعادتهم، فقد يجزئ في بلد ما أوجبه أبو حنيفة، وفي بلد ما أوجبه أحمد، وبلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته عملاً بقوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (1).
قلت: وهذا هو الصواب لما تقدم، ولا يعارضه ما كفَّر به بعض الصحابة فإن هذا كان عرف بلدهم، ولذا قال مالك: أما عندنا ههنا فليكفر بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم في اليمين، وأما أهل البلدان فإن لهم عيشًا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم.
(جـ) هل يجزئ إطعام المساكين أو لابد من تمليكهم الطعام؟ (2)
1 - ذهب جمهور العلماء (مالك والشافعي وأحمد) أنه لابد من تمليك المساكين الطعام، ولو غداهم أو عشَّاهم لم يجزئه -عندهم- لأن المنقول عن الصحابة إعطاؤهم كلَّ مسكين مدًّا، ولأنه مال وجب للفقراء شرعًا فوجب تمليكهم إياه كالزكاة، ولأن التمليك يسمى إطعامًا كما في الحديث: «أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدَّ السدس» (3).
2 - بينما ذهب أبو حنيفة -ورواية عن مالك- والثوري والأوزاعي والحسن وغيرهم أنه يجزئ أن يُغدِّيهم أو يعشيِّهم، وهو اختيار شيخ الإسلام، لأن المقصود حقيقة الإطعام لا التمليك، وهو المنصوص عليه، ولأن التمكين من الطعام إطعام، قال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (4) فبأي وجه أطعمه دخل في الآية، نعم في التمليك تمام الإطعام، فيتأدَّى الواجب بكل منهما.
قلت: وهذا أصحُّ، فلو غدَّى عشرة المساكين أو عشَّاهم من الطعام الذي يعتادون طبخه في المتوسط، فقد أدَّى الكفارة وأجزأت عنه، والله أعلم.
2 - الكسوة:
ويجزئ منها ما يصدق عليه مسمَّى الكسوة (اللباس) مما يلبسه المساكين عادة، وقدرها مالك وأحمد بأن تكون ساترة لعورته في الصلاة رجلاً كان أو امرأة (5).
_________
(1) سورة المائدة: 89.
(2) «المبسوط» (7/ 15)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 651)، و «روضة الطالبين» (8/ 307)، و «الفتاوى» (33/ 350).
(3) حديث ضعيف: انظر «الإرواء» (6/ 121).
(4) سورة الإنسان: 8.
(5) «المدونة» (2/ 44)، و «الأم» (8/ 92)، و «المغنى» (11/ 260)، و «المحلى» (8/ 75) وفيه كلام نفيس.

(2/312)


فائدة: لا يجزئ إخراج القيمة بدلاً من الإطعام والكسوة: وبهذا قال الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (1).
3 - تحرير الرقبة: أي إعتاق العبد وتحريره، وقد اشترط الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- أن تكون رقبة مسلمة، حملاً للمطلق في آية كفارة اليمين على المقيد في كفارة القتل والظهار، إذ قال تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} (2).
قلت: حمل المطلق على المقيد عند اتفاق الحكم واختلاف السبب فيه نزاع أصولي (3)، والصحيح أنه لا يحمل عليهن فيترجَّح مذهب أبي حنيفة، فلا يشترط في الرقبة المعتقة في كفارة اليمين أن تكون مسلمة، والله أعلم.
4 - الصيام (بعد العجز عن واحدة مما تقدم):
فإن عجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق، فإنه يصوم ثلاثة أيام.
وهل يلزم صيامها متتابعة؟ (4)
ذهب أبو حنيفة والثوري وأحمد -في ظاهر المذهب- إلى وجوب تتابع الأيام الثلاثة، واحتجوا بقراءة ابن مسعود وأُبيٍّ أنهما قرآ قوله تعالى «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» قالوا: إن هذا قرآنًا فهو حجة، وإن لم يكن قرآنًا فهو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ يحتمل أنهما سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرًا فظناه قرآنًا، وعلى كلا التقديرين فهو حجة (!!).
قالوا: ولأنه صيام في كفارة فوجب فيه التتابع ككفارة القتل والظهار (!!).
بينما ذهب مالك والشافعي -في الأظهر- وأحمد في رواية وابن حزم إلى عدم وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين، وحجتهم: أن الصوم غير مشروط بالتتابع في المصاحف التي بين أيدينا، وقراءة ابن مسعود وأُبيٍّ شاذه لا حجة فيها، فمن صام ثلاثة أيام على أي صفة أجزأه.
_________
(1) «الأم» (7/ 91)، و «المدونة» (2/ 40)، و «المحلى» (8/ 69)، و «المغنى» (11/ 256)، و «المبسوط» (8/ 154).
(2) سورة النساء: 92.
(3) راجع المسألة أصوليًّا في «البحر المحيط» للزركشي (5/ 15 - 22) ط. دار الكتبي.
(4) «المبسوط» (3/ 75)، و «المدونة» (2/ 43)، و «الأم» (7/ 94)، و «المغنى» (11/ 273)، و «المحلى» (8/ 75).

(2/313)


ولأن حمل المطلق على المقيد مع اختلاف السبب لا يصح كما تقدم الإشارة إليه، قلت: وهذا هو الراجح أنه لا يلزم التتابع في صيام كفارة اليمين، وقد كان يلزم مالكًا والشافعي -رحمهما الله- يقولا بمثل هذا في تحرير الرقبة فلا يشترطا أن تكون مسلمة، وقوفًا مع النص لا سيما مع اختلاف السبب.
الكفارة تجزئ قبل الحنث وبعده:
لا خلاف بين أهل العلم في أن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث، ثم اختلفوا فيما لو قدَّم الكفارة على الحنث هل تجزئه؟ فالجمهور على أنها تجزئ، وإن كان الأولى تأخيرها لبعد الحنث، وهذا القول منسوب لأربعة عشر صحابيًّا وعدد كبير من التابعين.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجزئ قبل الحنث، وقال الشافعي: لا تجزئ بالصوم، وتجزئ فيما عداه (1).
قلت: والصواب -هنا- قول الجمهور فلو كفَّر عن يمينه قبل الحنث -وبعد اليمين- أجزأه وألفاظ الأحاديث تؤيد هذا المذهب، ففي حديث عبد الرحمن بن سمرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين فكفِّر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير» (2).
وهو صريح في تقديم الكفارة على الحنث بل في وجوب ذلك، لولا الإجماع على خلافه، وإن كان الأولى تأخيرها خروجًا من الخلاف، والله أعلم.
هل تتعدد الكفارة بتعدد اليمين؟ (3)
1 - لا خلاف في أن من حلف يمينًا فحنث فيها، وأدَّى ما وجب عليه من الكفارة، أنه لو حلف يمينًا أخرى وحنث فيها تجب عليه كفارة أخرى.
2 - إذا حلف أيمانًا على أمور مختلفة، فالصواب أنه إذا حنث في واحدة منها فعليه كفارتها، وإذا حنث في أخرى لزمه كفارة أخرى وهكذا، ولا تتداخل الكفارات، لأنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفَّر إحداها بكفارة الأخرى.
_________
(1) «المدونة» (2/ 38)، و «المغنى» (11/ 222)، و «المحلى» (8/ 67)، و «المبسوط» (8/ 148)، و «شرح مسلم» للنووي.
(2) صحيح: أخرجه النسائي (7/ 10)، وأبو داود (3278).
(3) «ابن عابدين» (3/ 417)، و «بداية المجتهد» (1/ 578)، و «المغنى» (11/ 212)، و «المحلى» (8/ 53)، و «الإنصاف» (11/ 180)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 319).

(2/314)


3 - إذا حلف أيمانًا متعددة على شيء واحد في مجلس واحد أو مجالس متفرقة، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يلزمه بكل يمين كفارة، وقال الشافعي: إذا نوى باليمين الثانية تأكيد الأولى لزمه كفارة واحدة، وقال أحمد -في الرواية الأخرى- واختاره شيخ الإسلام وابن حزم: يلزمه كفارة واحدة مطلقًا. قلت: وهو الأقرب، والله أعلم.

ثانيًا: النُّذُور
التعريف:
النذور: جمع نذر، وهو لغةً: النحب (أي: العهد) وهو ما يجعله الإنسان نحبًا واجبًا على نفسه.
والنذر شرعًا: إلزام الإنسان نفسه بشيء من القُرَب (الطاعات) التي لم تكن واجبة عليه، فيجعله واجبًا عليه، بلفظ يُشعر بذلك.
حكم الإقدام على النذر:
الأحاديث الصحيحة الواردة في النذر تدل على أن النذر لا ينبغي وأنه منهي عنه، ولذا قال أكثر أهل العلم بكراهته (1)، لكن إذا وقع وجب الوفاء به.
1 - فعن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: «إنه لا يردُّ شيئًا، ولكنه يستخرج به من البخيل» (2).
2 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنذروا، فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل» (3).
3 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدَّره له، ولكن النذر يوافق القدر فيُخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يُخرج» (4).
وقد دلَّ الكتاب والسنة على وجوب الوفاء بالنذر -في الطاعة- والثناء على الموفين بنذورهم:
_________
(1) «المحلى» (8/ 2)، و «سبل السلام» (4/ 1446)، و «نيل الأوطار» (8/ 277).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6693)، ومسلم (1639).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1640)، والترمذي (1538)، والنسائي (7/ 16)، وأحمد (2/ 412).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (6694)، ومسلم (1640) واللفظ له.

(2/315)


1 - قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (1).
2 - وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليُطعْهُ، ومن نذر أن يعصيه فلا يَعْصِه» (2).
3 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم» -قال عمران: لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثًا بعد قرنه - «ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يُستشهدون، ويظهر فيهم السِّمن» (3) وهو ظاهر في إثم من لا يوفون بنذرهم.
4 - وقال سبحانه -في الثناء على الموفين بالنذر-: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَاسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (4).
5 - وقال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (5). ولأجل هذه النصوص ذهب أكثر المالكية وبعض الشافعية -كالنووي والغزالي- إلى استحباب النذر.
إشكالٌ وحَلُّهُ (6):
القول بكراهة النذر والقول باستحبابه كلاهما مُشكل بأدلة الآخر، وقول الجمهور -بكراهة النذر- فيه إشكال كذلك على القواعد، فإن القاعدة تقتضي أن وسيلة الطاعة طاعة، ووسيلة المعصية معصية، ولما كان النذر وسيلة إلى التزام قربة لزم على هذا أن يكون قربة!! لكن النصوص الأولى تدل على خلافه!! فكيف توجَّه هذه النصوص؟
وأحسن طريق لإزالة هذا الإشكال أن يقال: إن نذر القُربة على نوعين:
_________
(1) سورة الحج: 29.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6696)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (7/ 17)، وابن ماجه (2126).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535).
(4) سورة الإنسان: 5 - 7.
(5) سورة البقرة: 270.
(6) «تفسير القرطبي»، و «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (2/ 266)، و «نيل الأوطار» (8/ 277)، للشنقيطي (5/ 677) وفيه بحث مستفيض في أحكام النذر (5/ 659) وما بعدها.

(2/316)


1 - مُعلَّق على حصول نفع: كقوله (إن شفى الله مريضي فعليَّ لله نذر كذا) ونحوه.
2 - نذر مطلق، غير معلَّق على نفع للناذر: كأن يتقرب إلى الله تَقرُّبًا خالصًا بنذر، فيقول ابتداءً: (لله عليَّ أن أتصدق بكذا) ونحوه.
ويقال: إن النهي في الأحاديث متوجِّه إلى النوع الأول، لأن النذر فيه لم يقع خالصًا للتقرب إلى الله، بل بشرط حصول نفع للناذر، وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أم القدر فيه غالب على النذر.
ويوضِّحه أنه لو لم يُشفَ مريضهُ، لم يتصدَّق بما علَّقه على شفائه، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبًا، وهذا المعنى هو المشار إليه بقوله: «وإنما يُستخرج به من البخيل».
وقد ينضمُّ إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة في الحديث بقوله: «فإنه لا يردُّ شيئًا»، قلت: وهذا التفصيل متجه وقوي، وهو جمعٌ فيُقدَّم على الترجيح، والله أعلم.
أقسام النذر، وأحكامها:
ينقسم النذر الذي يفعله المسلمون -من جهة الأمر المنذور- إلى قسمين:
الأول: أن يكون فيه طاعة لله (نذر الطاعة): فيلزم الإنسان نفسه إما بفعل أمر ندب الشرع إلى فعله، كصلاة (النافلة) والصيام والحج والصدقة والاعتكاف وسائر الطاعات، أو يُلزم نفسه بفعل واجب إذا تعلَّق النذر بوصف، كأن ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها، ونحوه.
وأما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس وصوم رمضان ونحو ذلك من الفرائض، فلا أثر لنذره، لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر.
وقد تقدم قريبًا أن نذر الطاعة له صورتان: نذر ابتداء غير معلَّق على منفعة للناذر، (نذر مطلق)، وهذا يشرع للإنسان الإقدام عليه.
ونذر معلَّق على منفعة للناذر، ويكون خارجًا مخرج طلب العوض وتوقيف العبادة على تحصيل الغرض، وهذا منهي عن الإقدام على فعله.

(2/317)


حكم الوفاء بنذر الطاعة:
ونذر الطاعة بنوعيه: المطلق والمعلَّق، يجب على الناذر الوفاء به، بالكتاب والسنة والإجماع (1)، وقد تقدم بعض الأدلة على ذلك، ومنها:
1 - قوله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (2) وهذا أمر بالوفاء بالنذر، وهو يقتضي الوجوب.
2 - وذم الله سبحانه الذين ينذرون ولا يوفون، فقال عز وجل: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (3).
3 - وقال صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ...» (4).
4 - وعن عمر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أوفِ بنذرك» (5).
5 - وتقدم حديث عمران بن حصين -في ذم أقوام يأتون بعد القرون المفضلَّة- وفيه: «... ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ...» (6).
إذا نذر ما لا يطيقه، أو عجز عن الوفاء:
من نذر قُربةً لزمه الوفاء بنذره -كما تقدم- إن قدر عليه، فإن عجز عن الوفاء أو كان المنذرَ مما لا يطيقه، فلا يجب عليه الوفاء به:
1 - فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُهادى بين اثنين، فقال: «ما هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي إلى البيت، فقال: «إن الله عز وجل لغنيٌ عن تعذيب هذا نفسه» ثم أمره فركب (7).
2 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن أُخته نذرت أن تمشي إلى البيت الحرام حافية
_________
(1) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (32/ 87 - 33/ 36).
(2) سورة الحج: 29.
(3) سورة التوبة: 75 - 77.
(4) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2042)، ومسلم (1656).
(6) صحيح: تقدم قريبًا.
(7) صحيح: أخرجه البخاري (1865)، ومسلم (1642).

(2/318)


غير مختمرة، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «مُرْ أُختَك فلتركبْ، ولتختمر، ولتصُمْ ثلاثة أيام» (1).
وفي رواية من حديث ابن عباس -في هذه القصة-: «فمرها فلتركب ولتُكفِّر» (2).
وفي رواية: «فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديًا» (3).
وفي أخرى: «فلتركب، ولتُهد بَدَنة» (4).
وفي رواية: لم يذكر هديًا ولا كفارة (5).
3 - وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفارة النذر كفارة اليمين» (6).
فلهذه الأحاديث وغيرها اختلف أهل العلم فيما يلزم من نذر ما لا يطيق إن عجز عن الوفاء، كمن نذر أن يحجَّ ماشيًا -وعجز عنه- على أقوال (7):
الأول: لا شيء عليه: لظاهر قوله {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (8) وقوله
_________
(1) إسناده ليِّن: أخرجه الترمذي (1544)، والنسائي (3815)، وابن ماجه (2134)، والدارمي (2334)، وأحمد (16668 - 16709 - 16735) من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر به وفي سنده عبيد الله بن زحر فيه ضعف، وأخرجه الطبراني (17/ 324) عن أبي تميم الجيشاني عن عقبة به وسنده ضعيف.
(2) إسناده ليِّن: أخرجه أبو داود (3295)، وأحمد (2685)، وابن خزيمة (3046 - 3047)، وابن حبان (4384) من طريق شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن كريب عن ابن عباس، وفي بعضها: (تكفر عن يمينها).
(3) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (3296 - 3303)، والدارمي (2335)، وأحمد (2027 - 2032 - 2165 - 2691 - 17125)، وابن خزيمة (3045)، والبيهقي (10/ 79)، والطبراني (11/ 308) من طرق يشد بعضها بعضًا عن عكرمة عن ابن عباس، لكن ذكر الحافظ في «الفتح» (11/ 589) عن البخاري أنه قال: لا يصح فيه الهدي!!.
(4) أخرجه أبو داود (3304)، والبيهقي (10/ 79)، والطبراني في «الأوسط» (9380)، وأحمد (6653) وغيرهم من بعض الطرق المتقدمة لكنها مرجوحة.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1645)، والترمذي (1528)، والنسائي (3832).
(6) «فتح القدير» (3/ 173)، و «المجموع» (8/ 494)، و «جامع العلوم والحكم» (ص: 309 - 310) ط. المعرفة، و «مجموع الفتاوى» (35/ 327).
(7) سورة البقرة: 286.
(8) سورة التغابن: 16.

(2/319)


سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقوله عز وجل {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (3) وهو قول للشافعية ورواية عن أحمد والأوزاعي.
الثاني: عليه كفارة يمين: لحديث عقبة بن عامر المتقدم، ولقول النبي لعقبة -في شأن أخته: «فمرها فلتركب، ولتكفِّر» وهو مذهب أحمد والثوري وهو اختيار شيخ الإسلام.
الثالث: عليه صيام ثلاثة أيام: وهو رواية عن أحمد.
الرابع: عليه بدنة وهو قول للشافعية.
الخامس: عليه هدي وهو الأصح عند الشافعية، وهو رواية عن أحمد وهو قول الحنفية والليث وقد استند القائلون بالأقوال الثلاثة الأخيرة كلٌّ إلى رواية من روايات قصة أخت عقبة بن عامر المتقدمة.
والسادس: أنه لا يجزيه الركوب بل يحج من قابل فيمشي ما ركب ويركب ما مشى وعليه بدنة وهو قول مالك.
الراجح: الذي يظهر لي بعد دراسة أسانيد هذا الحديث، أن أقوى الروايات -من جهة السند- رواية التكفير بالهدي (أو البدنة) ثم تليها رواية (صيام ثلاثة أيام) ثم بدا لي أن الأرجح من جهة الدراية أنه يلزم كفارة يمين، وذلك لأمور:
1 - أن رواية البدنة أو الهدي -التي هي الأقوى سندًا- قد تُعلُّ بما ذكره الحافظ في «الفتح» (11/ 589) من أن الترمذي نقل عن البخاري أنه قال: لا يصح ذكر الهدي في حديث عقبة بن عامر. اهـ. وكذا نقله البيهقي (10/ 80).
2 - أن رواية الصيام لا تعارض رواية (ولتكفِّر)، (ولتكفِّر عن يمينها) إذا صيام ثلاثة أيام هو أحد أوجه كفارة اليمين كما تقدم.
3 - أن هذا هو الموافق لحديث عقبة بن عامر نفسه -وهو المستفتى لأخته- في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفارة النذر كفارة يمين» (4) فلعله اختصره من فتوى النبي صلى الله عليه وسلم في حال أخته.
_________
(1) سورة البقرة: 286.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).
(3)
(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(2/320)


4 - أن المشي مما لا يوجبه الإحرام، فلم يجب الذم بتركه.
والحاصل: أن من نذر طاعة ثم عجز عن الوفاء، فلا يلزمه الوفاء، وعليه كفارة يمين.
5 - أن القول بأنه يلزمه كفارة يمين هو المتعيِّن إذا كان النذر في غير الحج للحديث السابق ولا يتصوَّر أن يقال في كل من نذر ثم عجز أنه يهدي بدنة!! والله تعالى أعلم.
والحاصل: أن من نذر طاعة ثم عجز عن الوفاء، فلا يلزمه الوفاء وعليه كفارة يمين.
لا نَذْرَ لشخص في التقرب بما لا يملك:
ففي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة المرأة الأنصارية التي أُسرت: «ونذرت لله إن نجَّاها الله لتنحرنَّها [أي: العَضْباء] فلما قدمت المدينة، رآها الناس فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: «سبحان الله، بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنَّها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد» (1).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ...» (2) الحديث، وهل يلزمه كفارة؟ قولان، الأظهر: لا يلزمه، والله أعلم.
من نذر التصدُّق بجميع ماله:
من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله، فللعلماء في الوفاء بهذا النذر عشرة مذاهب، أكثرها لا يعتضد بالدليل، والذي يعتضد بدليل -منها- ثلاثة أقوال (3):
الأول: يلزمه التصدق بالمال كلِّه: وهو مروي عن الشافعي والنخعي، وأبي حنيفة [إذا كان مالاً زكويًّا] وحجة هذا القول الأدلة المتقدمة على إيجاب الوفاء بنذر الطاعة كقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله، فليطعه» (4).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1641)، وأبو داود (3316)، والنسائي (7/ 19)، وابن ماجه (2124) وغيرهم.
(2) حسن: أخرجه الترمذي (1181)، وأبو داود (2190)، وابن ماجه (2047) وغيرهم.
(3) «المغنى» (10/ 72)، و «كشاف القناع» (6/ 279).
(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(2/321)


بضميمة ما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه تصدق بكل ماله، وقبله النبي صلى الله عليه وسلم منه (1).
الثاني: يجزئ عنه التصدُّق بثلث ماله: وهو مذهب مالك وأحمد -في الرواية المشهورة- والليث والزهري، وحجتهم:
حديث كعب بن مالك رضي الله عنه -في قصة توبة الله على الثلاثة الذي خلفوا- قال في آخره: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمْسِك عليك بعض مالك فهو خير لك» (2).
وفي رواية: إن من توبتي أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة، قال: «لا» قلت: فنصفه؟ قال: «لا» قلت: فثلثه؟ قال: «نعم»، قلت: «فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر» (3).
قالوا: وظاهر الحديث أن كعبًا جاء مريدًا التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة، لم يكن مستشيرًا، فأمره صلى الله عليه وسلم بإمساك بعض ماله وصرَّح بأن ذلك خير.
واعترض على هذا الاستدلال (4): بأن اللفظ الذي أتى به كعب بن مالك ليس بتنجيز صدقة، حتى يقع في محل الخلاف، وإنما هو لفظ عن نية قصد فعل متعلقها، ولم يقع بعد، فأشار صلى الله عليه وسلم بأن لا يفعل ذلك، وأن يمسك بعض ماله، وذلك قبل إيقاع ما عزم عليه، هذا هو ظاهر اللفظ أو هو محتمل له، وكيفما كان فتضعف الدلالة منه على مسألة الخلاف. اهـ.
وأجيب (5): بأن ظاهر أنه جازم غير مستشير، لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد، الذي هو «إن» المكسورة في قوله (إن من توبتي ...) واللفظ الذي هذه صفته لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة.
قالوا: ويؤيد هذا أن أبا لبابة لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، يجزئ عنك الثلث» (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، والدارمي (1660).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2758)، ومسلم (2769).
(3) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (3331).
(4) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (2)، ح (372).
(5) «أضواء البيان» للشنقيطي (5/ 685).
(6) في سنده اختلاف: أخرجه أبو داود (3319)، وأحمد (3/ 452 - 502)، ومالك (1039)، والطبراني (5/ 33)، والدارمي (1658)، والبيهقي (10/ 68)، والحاكم (3/ 7333) وفي سنده اختلاف شديد على الزهري، فليحرر.

(2/322)


الثالث: لا يلزمه شيء، وهو رواية عن أبي حنيفة (في غير المال الزكوي) وهو مذهب أبي محمد بن حزم (إذا خرج مخرج اليمين) مستندًا إلى أن التصدق بكل المال ليس مشروعًا، واستدل بما يأتي:
1 - قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} (1).
2 - قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (2) قال: فلام الله سبحانه وتعالى ولم يحب من تصدق بكل ما يملك. اهـ.
3 - حديث جابر بن عبد الله قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله، أصبتُ هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه مرارًا، وهو يردد كلامه هذا، ثم أخذها عليه السلام فحذفه بها، فلو أنها أصابته لأوجعته أو لعقرته، وقال عليه السلام: «يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد فيتكفف الناس!! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» (3).
قال: وإن احتجوا بقوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (4).
فليس فيه أنهم لم يُبقوا لأنفسهم معاشًا إنما فيه أنهم كانوا مقلين ويؤثرون من بعض قوتهم. اهـ.
الراجح:
الذي يظهر لي أن إطلاق القول الأخير ضعيف، والتصدق بكل المال مشروع، فقد ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه أتى بكل ماله فدفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله منه، وأثنى عليه خيرًا، وكذلك تصدق عمر بنصف ماله -وهو فوق الثلث!! - فقبله منه صلى الله عليه وسلم (5) فالظاهر أن من نذر كلَّ ماله -وكان لا يتضرر ولا رعيته بذلك- يلزمه التصدق بالمال كله.
فإن كان في هذا ضرر عليه أو على رعيته، فحينئذ يلزمه التصدُّق بما لا يُضر
_________
(1) سورة الإسراء: 26.
(2) سورة الأنعام: 141.
(3) إسناده لين: أخرجه أبو داود (1673)، والدارمي (1659)، وعبد بن حميد (1121)، وأبو يعلى (2084)، وابن حبان (3372) وفيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس.
(4) سورة الحشر: 9.
(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(2/323)


به سواء كان الثلث أو أقل أو أكثر، لقوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (2) وعلى هذه الحالة تحمل النصوص التي استدل بها أصحاب المذهبين الأخيرين، وهذا قول سحنون من المالكية، والله أعلم.
من نذر الصلاة في بيت المقدس أجزأه الصلاة في المسجد الحرام:
فعن جابر بن عبد الله: أن رجلاً قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرتُ إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال صلى الله عليه وسلم: «صلِّ هاهنا» ثم أعاد عليه، فقال: «صلِّ هاهنا» ثم أعاد عليك، فقال: «شأنك إذًا» (3).
تنبيه: لو نذر شد الرحال إلى غير المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى، فلا يجوز الوفاء به لأنه نذر معصية وتلزمه كفارة يمين كما تقدم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس» (4).
نذر اللِّجاج (نذر الغضب):
والمراد به: النذر الذي يراد به الامتناع من أمر أو الحث على فعله، لا التقرب إلى الله، كأن يقول: (إن فعلتُ كذا، فلله عليَّ الحج أو صدقة أو صوم) ونحو ذلك.
وهذا يخرج مخرج اليمين، لأن الناذر هنا لم يرد القُربة، والاعتبار في الكلام بمعناه لا بلفظه، وهذا مقصوده الحضُّ على فعل أو المنع منه، وعلى هذا فإنه لا يلزمه الوفاء به، وعليه كفارة يمين إذا حنث، وهذا مذهب أحمد -في المشهور- والشافعي -في قول- وهو الذي رجع إليه أبو حنيفة، وبه قال إسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر، وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قول عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة (5).
_________
(1) سورة: 219.
(2) صحيح بمجموع الطرق: وانظر «الإرواء» (896).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (3305)، وأحمد (3/ 363)، والدارمي (2339) وغيرهم.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397).
(5) «فتح القدير» (5/ 93)، و «المجموع» (8/ 459)، و «المغنى» (11/ 194 - مع الشرح)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 253).

(2/324)


وقد رُوى عن عمران بن حصين مرفوعًا: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» (1) لكنه ضعيف لا يصح.
وسُئل ابن عباس: ما تقول في امرأة جعلت بردها عليها هديًا إن لبسته؟ فقال ابن عباس: «في غضب أم في رضا؟» قالوا: في غضب، قال: «إن الله -تعالى- لا يُتقرب إليه بالغضب، لتكفِّر عن يمينها» (2).
وذهب مالك، وأبو حنيفة -في قوله القديم- إلى أنه يلزمه الوفاء بالنذر.
إذا نذر قُربةً وهو كافر ثم أسلم: فاختلف أهل العلم في وجوب الوفاء بنذره بعد إسلامه على قولين (3):
الأول: يجب عليه الوفاء بالنذر إذا أسلم: وهو مذهب الشافعي وداود الظاهري وابن حزم، واستدلوا بما يلي:
1 - حديث ابن عمر: أن عمر قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرتُ أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأوف بنذرك» (4).
2 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال: «أوفي بنذرك» قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا -مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية- قال: «لصنم؟» قالت: لا، قال: «لوثن؟» قالت: لا، قال: «أوفي بنذرك» (5).
الثاني: لا ينعقد نذر الكافر، لا يلزمه الوفاء إذا أسلم: وهو مذهب الجمهور، واحتجوا:
1 - بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (6).
2 - وقوله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} (7).
_________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 433) وغيره، وانظر «الإرواء» (2587).
(2) إسناده ليِّن: عزاه شيخ الإسلام (35/ 256) إلى الأثرم قال: ثنا عبد الله بن رجاء أنا عمران عن قتادة عن رزارة بن أبي أوفى به.
(3) «المحلى» (8/ 25)، و «نيل الأوطار» (8/ 286).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (2032)، ومسلم (1656).
(5) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (3312)، وانظر «الإرواء».
(6) سورة الزمر: 65.
(7) سورة الفرقان: 23.

(2/325)


وأجاب عن هذا ابن حزم بأنه لا حجة فيه، لأن هذا كله إنما نزل فيمن مات كافرًا بنص كل آية منهما، وقال تعالى {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ...} (1) ثم إنهم مع هذا يجيزون بيع الكافر ونكاحه وهبته وصدقته وعتقه!!.
وفي حديث أبي هريرة -في قصة إسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه -أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ... وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر» (2).
فهذا كافر خرج يريد العمرة فأسلم فأمره عليه السلام بإتمام نيَّته.
قلت: فالراجح أنه يلزمه إذا أسلم أن يفي بنذر الطاعة الذي نذره في كفره، والله أعلم.
قضاء نذر الطاعة عن الميت:
إذا نذر الإنسان طاعة مما يلزمه الوفاء به، ثم مات قبل أن يوفى، فإن وليَّه يقضي عنه نذره، فإن كان النذر مالاً، فإنه يؤدَّى عن الميت من رأس ماله قبل ديون الناس، لقوله تعالى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (3) فعمَّ الله تعالى الدين ولم يخص وقال صلى الله عليه وسلم: «دين الله أحق أن يقضى» (4).
وإن كان النذر عبادة كالحج والصيام (5) والاعتكاف ونحو ذلك، فإن وليَّه يؤديه عنه:
1 - فعن ابن عباس «أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أُمِّه، فتُوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنةً بعدُ» (6) وفي لفظ أنه قال: «اقضه عنها».
2 - وعن ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أُمِّي ماتت وعليها صوم من نذر أفأصوم عنها؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو كان على
_________
(1) سورة البقرة: 217.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (1764).
(3) سورة النساء: 11.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148).
(5) وقد تقدم حكم الصيام عن الميت في «كتاب الصيام» فليراجع.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (2761)، ومسلم (1638).

(2/326)


أمك دين فقضيته أكان يؤدى ذلك عنها» قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك» (1).
3 - وعن عائشة رضي الله عنه: «أنها اعتكفت عن أخيها بعد ما مات» (2).
وهل يقضي الصلاة المنذورة عن الميت؟
ذهب جماهير العلم إلى أنه لا يصلي أحد عن أحد، بل حكى ابن بطال الإجماع على ذلك!! لكنه منقوض بأن ابن عمر أمر امرأة جعلتْ أُّمها على نفسها صلاة بقباء فقال: «صلي عنها» (3) وقد أوجب داود وابن حزم (4) قضاء الصلاة المنذورة عن الميت.
القسم الثاني (من أقسام النذور): أن لا يكون فيه طاعة لله تعالى، وهذا على نوعين:
1 - ليس فيه معصية في ذاته (المباح):
إذا نذر ما ليس بمعصية، لكنه ليس من جنس الطاعة، كالمباح، فلا يجب الوفاء به، والجمهور على أن هذا ليس بنذر، لحديث ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مره فليتكلَّم، وليستظلَّ، وليقعد، وليتمَّ صومه» (5) وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة كالصوم أمره صلى الله عليه وسلم بإتمامه وفاءً بنذره، وما كان من نذره مباحًا لا طاعة كترك الكلام، وترك القعود، وترك الاستظلال، أمره بعدم الوفاء.
وذهب أحمد إلى أن النذر بالمباح ينعقد، لكن يخيَّر في الوفاء وعدمه، وحينئذٍ يلزمه كفارة.
واختار المحقِّق صديق خان أن النذر بالمباح يصدق عليه مسمَّى النذر، فيدخل تحت العمومات المتضمنة للأمر بالوفاء به، قال:
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) واللفظ له.
(2) إسناده ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور (424)، وابن أبي شيبة (2/ 339).
(3) علَّقه البخاري (11/ 584 - فتح) بصيغة الجزم ولم يصله الحافظ في «التغليق» (5/ 203).
(4) «المحلى» (8/ 28).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (6704)، وأبو داود (3300)، وابن ماجه (2136) وغيرهم.

(2/327)


«ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني نذرتُ إذا انصرفت من غزوتك سالمًا أن أضرب على رأسك بالدُّف، فقال لها: «أوفي بنذرك» (1).
وضرب الدف إذا لم يكن مباحًا فهو إما مكروه أو أشد من المكروه، ولا يكون قربة أبدًا، فإن كان مباحًا فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح، وإن كان مكروهًا فالإذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالأَوْلى، وكذلك إيجاب الكفارة على من نذر نذرًا لم يسمِّه (2) يدلُّ على وجوب الكفارة بالأَوْلى في المباح، فالحاصل أن النذر بالمباح لا يخرج عن أحد القسمين: إما وجوب الوفاء به، أو وجوب الكفارة مع عدم الوفاء ...» اهـ (3).
وقال البيهقي -رحمه الله- (10/ 77): «يشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما أذن لها في الضرب لأنه أمر مباح، وفيه إظهار الفرح بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعه سالمًا، لا أنه يجب النذر، والله أعلم» اهـ.
قلت: لكن يشكل على ما ذكره البيهقي -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إن نذرت فافعلي، وإلا فلا» (4) فدل على أنه إنما أمرها بذلك إيفاء لنذرها، لكن يبقى أن ضَرب المرأة بالدفِّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمحضر الرجال من الصحابة غير مشروع، فالظاهر أن هذا الحديث واقعة عين فلا عموم لها، ولا ينبغي الاستدلال به والأصل أن النذر إنما يكون بما فيه قربة، وهو عبادة فلا يكون إلا بما شرعه الله تعالى، فالذي يظهر أن المباح يُنظر فيه: فإذا كان وسيلة لواجب أو مستحب (طاعة) فينعقد النذر به، لأن للوسائل حكم المقاصد، وإن لم يكن كذلك فالصواب أنه لا ينعقد به النذر كما قال الجمهور، والله أعلم.
2 - أن يكون المنذور معصية في ذاته (نذر المعصية):
إذا نذر الإنسان معصية كشرب خمر أو قتل نفس مُحرمَّة أو ذبح على قبر أو شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، أو مخالفة للتسوية بين الأولاد، أو تفضيل
_________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي (3690)، وأبو داود (3312)، وأحمد (5/ 356)، وابن حبان (4386).
(2) سيأتي الحديث بهذا قريبًا.
(3) «الروضة الندية» (ص: 177 - 178).
(4) هذا لفظ أحمد (5/ 353)، وابن حبان (4386).

(2/328)


بعضهم أو حرمانهم من ميراثه، ونحو ذلك من سائر المعاصي، فهذا لا يجب -بل يحرم- عليه الوفاء به.
1 - فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (1).
2 - وعن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا وفاء لنذرٍ في معصية، ولا وفاء لنذرٍ في ما لا يملك العبد، أو: ابن آدم» (2).
3 - وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟» قال: لا، قال: «هل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوفِ بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» (3).
وفيه دلالة ظاهرة على أن النحر بوضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية، معصية لله تعالى، وأنه لذلك لا يجوز الوفاء به.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة:
وهل تلزم الكفارة في نذر المعصية؟ للعلماء في هذا قولان (4):
الأول: ليس على الناذر للمعصية كفارة: وهو مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وحجتهم:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية ....» (5) فلا ينعقد النذر بمعصية.
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (6) ولم يأمر بكفارة.
3 - الأحاديث المتقدمة: في المرأة التي نذرت أن تنحر العضباء، والرجل الذي نذر ألا يستظل أو يتكلم، ونحوها وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بعدم الوفاء، وليس فيها أنه ألزمهم بكفارة.
_________
(1) صحيح: تقدم قريبًا في أول الباب.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1641)، وأبو داود (3316)، والنسائي (7/ 19)، وابن ماجه (2124).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (3313).
(4) «المغنى» (10/ 69 - الفكر)، و «المحلى» (8/ 4 - 6)، و «نيل الأوطار» (8/ 281).
(5) صحيح تقدم قريبًا.
(6) صحيح: تقدم قريبًا في أول الباب.

(2/329)


الثاني: تجب عليه الكفارة: وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والرواية الأخرى عن أحمد، وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، وحجة هذا القول:
1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النذر نذران، فما كان لله كفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين» (1).
2 - حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» (2).
الراجح: لا شك أن دلالة هذين الحديثين -إذا صحَّا وهو الأقرب- أقوى من دلالة الأحاديث التي استدل بها الفريق الأول، فإن الكفارة فيها مسكوت عنها، فيقدَّم المثبت لها، والله أعلم.
إذا نَذَرَ نَذْرًا لم يُسَمِّه:
إذا نذر الإنسان نذرًا مطلقًا لم يعيِّنه أو يسمِّه، كأن يقول (لله عليَّ نذر)، فعليه كفارة يمين، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «من نذر نذرًا لم يسمِّه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين» (3).
وقد رُوى نحوه مرفوعًا من حديث عقبة بن عامر بلفظ: «كفارة النذر [إذا لم يُسمَّ] كفارة يمين» (4) لكنه ضعيف، وقد صحَّ بدون موضع الشاهد كما تقدم.
النذر لغير الله شرك:
النذر عبادة، فلا يجوز صرفه لغير الله تعالى، من صرفه لغيره من ملك مقرَّب أو نبي مرسل، أو وليٍّ من الأولياء -حيًّا أو ميتًا- أو لشمس أو قمر ونحو
_________
(1) حسن: أخرجه ابن الجارود (935) ومن طريقه البيهقي (10/ 72) وأخرج نحوه أبو داود (3322) من طريق آخر عن ابن عباس وصرَّب وقفه، وقد صححه الألباني في «الصحيحة» (47).
(2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3290)، والترمذي (1524)، والنسائي (2/ 145)، وابن ماجه (2125)، وانظر «الإرواء» (2590).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 173) موقوفًا، وأخرجه أبو داود (3322) ورجَّح الوقف.
(4) ضعيف بهذه الزيادة: أخرجه أبو داود (2324)، والترمذي (1528)، والنسائي (7/ 26)، وانظر «الإرواء» (2586).

(2/330)


ذلك، مما يفعله عبَّاد الأوثان والقبور وأشباههم، لمن يعتقدون فيهم ضرًا أو نفعًا، أو قضاء حاجة أو تفريج كُربة -فقد ارتكب أعظم الذنوب، وهو الشرك بالله تعالى، وهو نظير ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1).
قال شيخ الإسلام: «وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا شرك لا يوفى به» (2).
وقال -رحمه الله-: «وأما نذره (أي العبد) لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور، ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات» اهـ.
وقال الأمير الصنعاني -رحمه الله تعالى-: «وأما النذر المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام (3) في تحريمها، لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر، ويجلب الخير، ويدفع الشر، ويُعافى الأليم ويشفى السقيم وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه، فيحرم كما يحرم النذر على الوثن ويحرم قبضه لأنه تقرير على الشرك ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات وأنه الذي كان يفعله عباد الأصنام، لكن طال الأمد حتى صار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات وينحر في بابه النحائر من الأنعام وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقرأ شعبنا الكلام في هذا في رسالة تطهير الاعتقاد من درن الإلحاد» اهـ (4).
_________
(1) سورة الأنعام: 136.
(2) «مجموع الفتاوى» (1/ 286).
(3) أي: لا خلاف.
(4) «سبل السلام» (4/ 1448).

(2/331)


8 - كتاب الأطعمة والأشربة وما يتعلق بهما

(2/332)


الأَطْعِمَة
تعريف الأطعمة (1):
الأطعمة: جمع طعام، وهو في اللغة: كل ما يؤكل مطلقًا، وكذا كل ما يتخذ من القوت كالحنطة والشعير والتمر، ويدخل في هذا التعريف كل ما تخرجه الأرض من زروع وثمار، وكل الحيوانات التي تؤكل سواء البرية والبحرية.
ويُقال: طعم الشيء يطعمه طُعْمًا، إذا أكله أو ذاقه، وقد يطلق الفقهاء لفظ «الأطعمة» على: «كل ما يؤكل وما يُشرب، سوى الماء والمسكرات».
وموضوع الأطعمة عنوان يدل على ما يباح وما يكره وما يحرم منها.
الأصل في الأطعمة الحلُّ: حتى يدل دليل على تحريمها:
1 - قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (2).
2 - وقال سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} (3).
3 - وقال سبحانه {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (4).
ولا يحرم من الأطعمة إلا ما حرَّمه الله في كتابه أو على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم:
4 - قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (5).
قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (6).
6 - وقال عز وجل: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (7).
_________
(1) «لسان العرب» مادة (طعم)، و «الموسوعة الفقهية» (5/ 123)، و «المفصل» (3/ 43).
(2) سورة البقرة: 29.
(3) سورة البقرة: 168.
(4) سورة الأعراف: 31، 32.
(5) سورة الأنعام: 119.
(6) سورة يونس: 59، 60.
(7) سورة النحل: 116.

(2/333)


7 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرِّم من أجل مسألته» (1).
8 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (2).
9 - وعن أبي الدرداء مرفوعًا: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسيًّا» ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (3) (4).
هل يعتبر استخباث العرب لما لم يرد فيه نص؟ (5)
إذا لم يكن في الكتاب أو السنة نصٌّ يدلُّ على حلِّ أو حُرْمة حيوان ما، فقال بعض العلماء: نرجع إلى العرب، فإن استطابت هذا الحيوان فهو حلال، وإن استخبثته فهو حرام، لقوله تعالى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (6) قال ابن قدامة -رحمه الله- في معنى الآية: «يعني: ما استطابته العرب فهو حلال، وما استخبثته فهو حرام ... والذي تعتبر استطابتهم واستخباثهم هم أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنهم هم الذين نزل عليهم القرآن الكريم وخوطبوا به وبالسنة النبوية، فيرجع في مطلق ألفاظها إلى عرفهم دون غيرهم» اهـ.
أسباب تحريم الأطعمة والأشربة (7):
يظهر بالاستقراء وتتبُّع تعليلات الفقهاء فيما يحكمون بحرمة أكله أنه يحرم أكل الشيء مهما كان نوعه لأحد أسباب خمسة:
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2358).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).
(3) سورة مريم: 64.
(4) حسن: أخرجه الحاكم (2/ 406)، والدارقطني (2/ 137) وله شواهد انظر «جامع العلوم والحكم» (1/ 276).
(5) «المغنى» (8/ 585)، و «ابن عابدين» (5/ 194)، و «مطالب أولي النهى» (6/ 311).
(6) سورة الأعراف: 157.
(7) «الموسوعة الفقهية» (5/ 125 - 127) باختصار.

(2/334)


1 - الضرر اللاحق بالبدن أو العقل، قال تعالى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (1).
2 - الإسكار أو التخدير أو الترقيد: فيحرم تناول ما يغيب العقل من المسكرات كالخمر وكل أنواع المواد المخدرة كالحشيش والأفيون ونحوها.
3 - النجاسة: فيحرم كل نجس ومتنجِّس بما لا يعفى عنه.
4 - الاستقذار عند ذوي الطباع السليمة: كالروث والبول والقمل والبرغوث.
5 - عدم الإذن شرعًا لحق الغير: فيحرم أكل الطعام غير المملوك لمن يريد أكله ولم يأذن له مالكه ولا الشارع، كالمغصوب والمسروق والمأخوذ بالقمار أو البغاء ونحو ذلك.
الأطعمة المحرَّمة شرعًا:
(أ) المحرمات في كتاب الله:
قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (2).
فانتظمت هذه الآية بعض المحرمات، وهي:
1 - الأطعمة بأنواعها: وهي كل حيوان مات حتف أنفه، بدون قتل أو ذبح شرعي:
(أ) المنخنقة: الحيوان الذي يُخنق فيموت.
(ب) الموقوذة: الحيوان الذي يُضرب بعصًا أو نحوها فيموت.
(جـ) المتردية: الحيوان الذي تردَّى (سقط) من مكان عالٍ فمات.
(د) النطيحة: الحيوان الذي نطحه آخر فمات نتيجة ذلك.
(هـ) ما أكل السبع: الحيوان الذي مات نتيجة جرح حيوان مفترس له وأكله منه.
فإذا أُدرك أحد هذه الأشياء حيًّا فذُبح صار حلالاً، لقوله تعالى: {... إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (3).
_________
(1) سورة النساء: 29.
(2) سورة المائدة: 3.
(3) سورة المائدة: 3.

(2/335)


ويلحق بالميتة: ما قطع من البهيمة وهي حية:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حيَّة فهو ميتة» (1) وعليه لا يجوز أكل ما قطع من أعضاء البهيمة وهي حية.
ما يستثنى من الميتة:
تقدم أنه يحرم أكل الميتة بجميع أنواعها، إلا أنه دلَّت السنة على استثناء نوعين من الميتة يحلُّ أكلهما، وهما: السمك والجراد، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» (2) وله حكم الرفع.
فائدتان:
1 - حكم أكل ما طفا على سطح الماء من الأسماك وغيرها من حيوان البحر:
لأهل العلم في هذا قولان (3):
الأول: أنه يحلُّ أكله: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والظاهرية، وعطاء ومكحول والنخعي وأبي ثور، وهو مروي عن أبي بكر وأبي أيوب رضي الله عنهما، واستدلوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} (4).
2 - وقوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (5) قال ابن عباس وغيره: «صيده ما صدتموه، وطعامه ما قذف».
فدلَّت هاتان الآيتان بعمومهما على حلِّ جميع صيد البحر، ولم يخصَّ الله تعالى شيئًا من شيء {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2841)، وابن ماجه (3216).
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3314)، وأحمد (5690) وغيرهما، وانظر «الصحيحة» (1118).
(3) «البدائع» (5/ 35)، و «المحلى» (7/ 393)، و «المغنى» (9/ 35)، و «نيل الأوطار» (8/ 170).
(4) سورة فاطر: 12.
(5) سورة المائدة: 96.
(6) سورة مريم: 64.

(2/336)


3 - ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم -لما سئل عن ماء البحر-: «هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته» (1) فشمل ذلك ميتة البحر على اختلاف أنواعها.
4 - ويقول ابن عمر فيما استثنى من الميتة: «أُحلت لنا ميتتان ... الحوت والجراد» (2).
5 - ويؤيده حديث جابر وفيه: «أن البحر قذف إلى الساحل بدابة ضخمة تُدعى العنبر، فأكلوا منها، ولما قدموا إلى المدينة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيئًا فتطعمونا؟» قال جابر: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله» (3).
الثاني: لا يحل أكل السمك الطافي: وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واستدلوا بما يلي:
1 - ما يُروى عن جابر مرفوعًا: «ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه» (4) وأجيب: بأنه ضعيف باتفاق الحفاظ فلا يجوز الاحتجاج به ولو لم يعارضه شيء، فكيف وهو معارض بما تقدم من الأدلة؟!.
2 - بعض الآثار عن جابر، وعليٍّ، وابن عباس رضي الله عنهم، في النهي عن أكل الطافي، وكلها ضعيفة (5).
الراجح: لا شك أن أدلة الجمهور أقوى، لكن .. لو ثبت طبيًّا أن السمك الطافي يكون فاسدًا مُضِرًّا بالبدن -لا سيما إن مضى على موته زمن- فحينئذ يكون التحرُّز عنه أليق بقواعد الشريعة التي حرَّمت الخبائث، والله أعلم.
2 - واختلف العلماء في أكل الجراد (6):
فذهب جماهير العلماء من السلف والخلف -خلافًا لمالك- إلى أنه حلال سواء مات باصطياده أو مات حتف أنفه، لما يلي:
1 - ما تقدم من قول ابن عمر: «أحلت لنا ميتتان ... الحوت والجراد».
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 176).
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4362)، ومسلم (1935)، وابن ماجه (386).
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3815)، وابن ماجه (3247).
(5) انظر «المحلى» لابن حزم (7/ 394).
(6) «المجموع» (9/ 24)، و «المغنى» (9/ 315)، و «سبل السلام» (4/ 1390).

(2/337)


2 - حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، نأكل الجراد» (1).
واشترط مالك -رحمه الله- لأكله أن يموت بسبب، بأن يقطع منه شيء أو يُسلق أو يُلقى حيًّا أو يشوى، وأما إذا مات حتف أنفه لم يؤكل!! والأول أرجح، والله أعلم.
2 - الدم المسفوح:
فلا يحلُّ أكل الدم الذي يُهراق، لقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ ...} (2) وأما الدم اليسير كالذي يكون في عروق الذبيحة مما لا يمكن الاحتراز منه، فمعفو عنه، فعن عائشة رضي الله عنها أنها «كانت لا ترى السباع بأسًا (!!) والحمرة والدم يكونان على القدر» (3).
ما يستثنى من الدم المحرَّم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان .... وأما الدمان: فالكبد والطحال» (4).
3 - لحم الخنزير:
قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (5)، وقال عز وجل: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ...} (6).
ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم الخنزير: لحمه وشحمه وجميع أجزائه (7)، لكن خصَّ اللحم بالذِّكر لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان، وسائر أجزائه كالتابع له، ولإظهار حرمة ما استطابوه وفضلوه على سائر اللحوم، واستعظموا وقوع تحريمه (8).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5495)، ومسلم (1952).
(2) سورة المائدة: 3.
(3) إسناده صحيح: أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (8/ 71).
(4) صحيح: تقدم قريبًا.
(5) سورة المائدة: 3.
(6) سورة الأنعام: 145.
(7) وأما ما نسبه بعضهم إلى داود الظاهري من حلِّ ما عدا اللحم من الخنزير ففيه نظر، فقد نقل ابن حزم في المحلى (7/ 390 - 430) حكاية الإجماع على تحريم كل أجزائه وهو من أعلم الناس بمذهب داود، ولو خالف في هذا لحكاه عنه، بل لردَّ الإجماع لأجله، فلينتبه!!.
(8) «روح المعاني» للألوسي (2/ 42)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 54).

(2/338)


والضمير في قوله تعالى {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (1) في لغة العرب التي نزل بها القرآن راجع إلى أقرب مذكور إليه، وهو الخنزير نفسه، فصحَّ بالقرآن أن الخنزير بعينه رجس، فهو كله رجس، والرجس حرام يجب اجتنابه، فالخنزير كله حرام، لا يخرج من ذلك شعره ولا غيره.
فائدة: قال صاحب «تفسير المنار» (2/ 98) في معرض بيانه لحكمة الشريعة في تحريم الخنزير:
«حرم الله لحم الخنزير فإنه قذر، لأن أشهى غذاء الخنزير إليه القاذورات والنجاسات، وهو ضار في جميع الأقاليم، كما ثبت بالتجربة، وأكل لحمه من أسباب الدودة القتالة، ويقال: إن له تأثيرًا سيِّئًا في العفة والغيرة» اهـ.
4 - ما ذُكر عليه غير اسم الله:
لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ...} (2) وقوله عز وجل: {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ولذلك لا يجوز الأكل من ذبيحة المشرك أو المجوسي أو المرتد، وأما ذبيحة النصراني واليهودي فإنه يجوز الأكل منها ما لم يُعلم أنه ذكر عليها غير اسم الله.
لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (3) قال ابن عباس: «طعامهم: ذبحائهم» (4).
فائدتان:
(أ) اللحوم المستوردة من البلاد غير الإسلامية:
إذا كانت المستوردة من البلاد غير الإسلامية لحوم حيوانات البحر كالسمك والحوت، فإنه يحلُّ أكلها، لأنه يباح أكلها بلا تذكية (ذبح شرعي) وسواء كان اصطادها مسلم أو غير مسلم.
_________
(1) سورة المائدة: 3.
(2) سورة الأنعام: 121.
(3) سورة المائدة: 5.
(4) أخرجه البخاري تعليقًا (9/ 636 - فتح)، ووصله الطبري (6/ 103)، والبيهقي (9/ 282) بسند منقطع.

(2/339)


وأما إذا كانت هذه اللحوم من حيوانات البر المباح أكلها كالإبل والبقر والغنم والطيور، فإن كانت مستوردة من بلاد أهلها مجوس أو وثنيون أو ملاحدة كالشيوعيين، فهذه اللحوم لا يحلُّ أكلها.
وإن كانت مستوردة من بلاد أهلها نصارى أو يهود (أهل كتاب) فإنه يحلُّ أكلها بشرطين:
1 - أن لا يُعلم أنهم ذكروا عليها غير اسم الله كالصليب أو المسيح وغير ذلك.
2 - أن تُذكَّى (تذبح) ذكاة شرعية على النحو الذي سيأتي بيانه.
وقد كان يكفينا -فيما مضى- أن تدَّعي هذه الدول المصدِّرة أنها تذبح على الطريقة الإسلامية، إلا أنه قد ثبت من طرق متعددة أن هذه الدول لا تقوم بعملية الذبح الشرعي، وأن ما تقوم به من ختم على هذه اللحوم بأنها «مذبوحة على الطريقة الإسلامية» ليس إلا مجرد خداع لابتزاز الأموال، وقد وصلت بعض الصفقات من الدجاج المستورد إلى بعض البلاد العربية، وقد وجد أن رقبة الدجاجة سليمة وكاملة ليس فيها أثر الذبح؟! رغم كتابة العبارة التقليدية عليها: أنها ذبحت على الطريقة الإسلامية!! بل وبلغ الاستخفاف بعقول المسلمين أن وُجد مكتوبًا على صناديق السمك المستورد: إنه ذبح حسب الشريعة الإسلامية!!» (1).
(ب) الجُبن المستورد من البلاد غير الإسلامية (2):
إذا كان الجبن يُستورد من بلاد أهل الكتاب ويصنعون هذا الجبن من أنفحة الحيوانات المباح لنا أكلها، فهذا الجبن حلال لنا.
وأما إذا كان يستورد من بلاد مجوس أو شيوعيين أو وثنيين، وكانوا يصنعون الجبن من أنفحة ذبائحهم، فإن ذبائح هؤلاء بالنسبة للمسلمين كالميتة، لكن هل يحلُّ أكل هذا الجبن المصنوع من أنفحة هذه الميتة؟ قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: في جبن المجوس المصنوع بأنفحة ذبائحهم، قولان للعلماء ... ثم قال: «والأظهر أن جبنهم حلال، وأن أنفحة الميتة ولبنها طاهر، وذلك لأن الصحابة لما فتحوا العراق أكلوا من جبن المجوس، وكان هذا ظاهرًا شائعًا بينهم» اهـ (3).
_________
(1) «الفقه الواضح» د. محمد بكر إسماعيل (2/ 390 - 395).
(2) «المفصل» لعبد الكريم زيدان (3/ 54 - 55).
(3) «مجموع الفتاوى» (21/ 102 - 103).

(2/340)


5 - ما ذُبح لغير الله: كصنم أو وثن أو قبر أو ميت كالسيد كالبدوي أو غير ذلك من الطواغيت لقوله تعالى {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (1).
(ب) المحرمات بالسُّنَّة النبوية:
1 - لحم الحُمُر الأهلية:
ذهب جماهير أهل العلم (2) إلى تحريم أكل لحم الحُمُر الأهلية لما ثبت بأسانيد كالشمس أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم الحمر الأهلية، ومن ذلك:
1 - حديث أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديًا فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس، فأكفئت القدور، وإنها لتفور باللحم» (3).
2 - حديث جابر بن عبد الله: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» (4).
وفي الباب عن عليٍّ وابن عمر والبراء بن عازب وابن أبي أوفى وأبي ثعلبة الخشني وغيرهم رضي الله عنهم.
وقد ذهب بعض المالكية -وهو القول الراجح عندهم- إلى أنه يؤكل مع الكراهة أي التنزيهية (!!).
وروى عن ابن عباس وعائشة أنهما كانا يقولان بظاهر قوله تعالى {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً ...} (5).
والذي صحَّ عن ابن عباس أنه توقف فيها فقال: «لا أدري أنهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنها كانت حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرَّم يوم خيبر لحم الحمر الأهلية» (6).
وعلى كل حال، قال ابن عبد البر: «لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها» اهـ. قلت: وقد ثبت تحريمها ثبوتًا يكاد يكون متواترًا، فهو حجة على كلِّ أحد، والله أعلم.
_________
(1) «البدائع» (5/ 37)، و «الدسوقي» (2/ 117)، و «المجموع» (9/ 11)، و «المغنى» (11/ 65)، و «المحلى» (7/ 406)، و «سبل السلام» (4/ 87)، و «نيل الأوطار» (8/ 128).
(2) سورة المائدة: 3.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5528)، ومسلم (1940).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4219)، ومسلم (1941).
(5) سورة الأنعام: 145.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (4227)، ومسلم (1939).

(2/341)


فائدتان:
(أ) لحم الحُمُر الوحشية حلال: وعلى هذا إجماع أهل العلم، وقد ثبت أكلها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: ففي حديث أبي قتادة أنه كان مع قوم محرمين -وهو حلال- فَسَنَحَ لهم حُمُر وحش، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانًا فأكلوا منها وقالوا: نأكل من لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملوا ما بقي من لحمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا ما بقي من لحمها» (1).
وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «هل معكم منه شيء؟» قالوا: معنا رجله، قال: فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها».
(ب) يجوز أكل لحم الخيل (2):
ذهب جمهور العلماء: الشافعية والحنابلة، وهو قول للمالكية، وجمهور الصحابة والتابعين إلى إباحة أكل الخيل سواء كانت عرابًا أو براذين (أي: خيولاً عربية أو غير عربية) وحجتهم:
1 - حديث جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» (3).
2 - حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا فأكلناه ونحن بالمدينة» (4).
وذهب الحنفية وهو قول ثانٍ لمالكية، وهو قول ابن عباس، إلى كراهة أو تحريم أكل الخيل واحتجوا بما يلي:
1 - قوله تعالى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (5) قالوا: فالاقتصار على الركوب والزينة يدل على أنها ليست مأكولة، إذ لو كانت مأكولة لقال: ومنها تأكلون.
وأجيب بأن الآية مكية بالاتفاق، والإذن في الأكل كان بعد الهجرة، ثم إن الآية ليست نصًّا في منع الأكل لا سيما وأن الأحاديث صريحة في الحِلِّ.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1824)، ومسلم (1196).
(2) «البدائع» (5/ 38)، و «الدسوقي» (2/ 117)، و «المجموع» (9/ 5)، و «المغنى» (11/ 66 - مع الشرح)، و «سبل السلام» (4/ 87)، و «نيل الأوطار» (8/ 125).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4219)، ومسلم (1941).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5510)، ومسلم (1942).
(5) سورة النحل: 8.

(2/342)


2 - ما يُروى عن خالد بن الوليد رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» (1) وهو ضعيف لا يحتج به.
فالصحيح قول الجمهور من إباحة أكل الخيل، والله أعلم.
2 - كل ذي ناب من السباع:
فكل حيوان له ناب يفترس به، سواء كان وحشيًّا كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحو ذلك أو كان أهليًّا كالكلب والسِّنَّوْر الأهلي (القِط)، فلا يحلُّ شيء منها عند الجمهور لما يلي:
1 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ ذي ناب من السباع، فأكله حرام» (2).
2 - حديث ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير» (3).
3 - وعن أبي الزبير قال: سألت جابرًا عن ثمن الكلب، السِّنَّور؟ قال: «زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك» (4).
وقد ثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا حرَّم على قوم أكل شيء حرَّم عليهم ثمنه» (5).
فائدة: الأرنب حلال: يحل أكل الأرنب عند الجمهور، لحديث أنس أنه قال: «أنفجنا (6) أرنبًا فسعى القوم فلغبوا فأخذتها وجئت بها أبا طلحة، فذبحها وبعث بوركها -أو قال: بفخذها- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبله» (7).
_________
(1) ضعيف: أخرجه النسائي (4332)، وأبو داود (3790)، وابن ماجه (3198)، وأحمد (16214).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1933).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1934)، وأبو داود (3785)، والنسائي (7/ 206).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1569).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3488) وغيره، وله شاهد في الصحيحين.
(6) أي: أثرناها.
(7) صحيح: أخرجه البخاري (2572)، ومسلم (1953).

(2/343)


ولأنها من الحيوان المستطاب، وليست ذات ناب تفترس به، ولم يرد نصٌّ بتحريمها (1).
3 - كل ذي مخلب من الطير (الطيور الجارحة) كالبازي والباشق والصقر ونحوها، لحديث ابن عباس المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن كل ذي مخلب من الطير» (2) والمراد: مخلب يصيد به، إذ من المعلوم أنه لا يسمى ذا مخلب عند العرب إلا الصائد بمخلبه وحده، وأما الديك والعصافير والحمام وسائر ما لا يصيد بمخلبه فلا تسمى ذوات مخالب في اللغة، لأن مخالبها للاستمساك والحفر بها وليست للصيد والافتراس.
وقد قال الجمهور -خلافًا للمالكية!! - بتحريم كل ذي مخلب من الطير (3).
4 - الجلاَّلة: وهي الحيوانات التي تتغذى بالنجاسات -أو أكثر علفها النجاسة- من الإبل والبقر والغنم والدجاج ونحوها، وهذه الحيوانات لا يحلُّ لحمها ولا لبنها، وبهذا قال أحمد -في إحدى الروايتين- وابن حزم (4)، لحديث ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها» (5).
وذهب الشافعي إلى أنها مكروهة غير محرمة، وهو الرواية الأخرى عن أحمد.
متى يحلُّ أكل الجلاَّلة؟
الجلالة إذا حُبست ثلاثة أيام وعُلفت بما هو طاهر، فإنه يحلُّ ذبحها وأكلها ويشرب لبنها، فعن ابن عمر أنه: «كان يحبس الدجاجة الجلال ثلاثًا» (6).
وقد رُوى عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنها تحبس ثلاثًا، سواء كانت طائرًا أو بهيمة، وفي رواية عنه: تحبس الدجاجة ثلاثًا، ويحبس البعير والبقرة ونحوهما أربعين يومًا.
_________
(1) «البدائع» (5/ 39)، و «الصاوي» (1/ 322)، و «نهاية المحتاج» (8/ 143)، و «المغنى» (11/ 81) مع الشرح الكبير، و «المحلى» (7/ 432).
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) «البدائع» (5/ 39)، و «نهاية المحتاج» (8/ 144)، و «المقنع» (3/ 527)، و «المحلى» (7/ 403).
(4) «المغنى» (8/ 594)، و «المحلى» (7/ 410 - 429).
(5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3767)، والترمذي (1884)، وابن ماجه (3189).
(6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4660 - 8847)، وانظر «الإرواء» (2504).

(2/344)


وعلى كلِّ حال فإن الجلالة تحلُّ بحبسها -على الطعام الطيب- بالاتفاق، واختلفوا في مدة حبسها.
6 - 10 - ما أمر الشارع بقتله لا يحل أكله: الفأرة والعقرب والغراب والحديا (1) والكلب العقور والوزغ (2) والحية.
1 - فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق، يُقتلن في الحرم: الفأرة، والعقرب، والحُديا، والغراب، والكلب العقور» (3).
2 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ، وسماه فُويسقًا» (4).
3 - وعن عبد الله بن مسعود: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أُنزلت عليه {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (5) فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: «اقتلوها» فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وقاها الله شركم كما وقاكم شرَّها» (6).
ولأن هذه الأشياء تعد من الخبائث لنفور الطبائع السليمة منها.
11 - 15 - ما نهى الشارع عن قتله لا يحل أكله: النملة والنحلة والهدهد والصرد (7) والضفدع:
1 - عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحل، والهدهد، والصرد» (8).
2 - عن عبد الرحمن بن عثمان قال: «ذكر طيبٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم دواءً، وذكر الضفدع يُجعل، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع» (9).
_________
(1) طائر يشبه الغراب.
(2) نوع من الزواحف والهوام، وهي ما يعرف في بلادنا بالبُرص.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (3314)، ومسلم (1198).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2238)، وله شاهد عن البخاري (3359) من حديث أم شريك.
(5) سورة المرسلات: 1.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (1830)، ومسلم (2234).
(7) الصرد: طائر ضخم الرأس، أبيض البطن أخضر الظهر، قيل: يصيد العصافير.
(8) صحيح: أخرجه النسائي (5/ 189)، وأحمد (6/ 83) وغيرهما.
(9) حسن: أخرجه أحمد (15197)، والدارمي (1998)، وابن ماجه (3223).

(2/345)


ووجه استفادة تحريم الأكل لِما نُهى عن قتله: أن النهي عن قتله يعني النهي عن تذكيته، فلا تحلُّه التذكية للنهي عنها، ولو كان أكله حلالاً لما نهى عن قتله.
واعترض الشوكاني على كون الأمر بقتل الشيء أو النهي عن قتله، من أسباب تحريم أكله، وقال: «ولم يأت الشارع بما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله أو نُهى عن قتله حتى يكون الأمر والنهي دليلين على ذلك، ولا ملازمة عقلية ولا عُرفية، فلا وجه لجعل ذلك أصلاً من أصول التحريم، بل إن كان المأمور بقتله أو المنهي عن قتله مما يدخل في الخبائث، كان تحريمه بالآية الكريمة، وإن لم يكن من ذلك، كان حلالاً عملاً بما أسلفنا من أصالة الحلِّ، وقيام الأدلة الكلية على ذلك» اهـ (1).
إباحة المحرَّمات عند الاضطرار:
أجمع المسلمون على إباحة أكل الميتة ونحوها للمضطر، وقد ذكر الله عز وجل الاضطرار إلى المحرمات في خمسة مواطن من القرآن الكريم:
1 - قال الله -بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها- {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (2).
2 - وقال تعالى -بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها-: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3).
3 - وقال سبحانه -بعد ذكرها- {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (4).
4 - وقال سبحانه {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (5).
5 - وقال عز وجل {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (6).
_________
(1) «نيل الأوطار» (8).
(2) سورة البقرة: 173.
(3) سورة المائدة: 3.
(4) سورة الأنعام: 145.
(5) سورة الأنعام: 119.
(6) سورة النحل: 115.

(2/346)


حد الاضطرار المُبيح للمحرَّم:
معنى الضرورة في الآيات الكريمة، وحدُّ الاضطرار المبيح لأكل الميتة وسائر المحرمات هو خوف الهلاك على الأصح (1).
المقصود بالإباحة للمحرَّم:
اختلف الفقهاء في المقصود بإباحة الميتة ونحوها على قولين (2).
الأول: جواز التناول وعدمه: وهو قول بعض المالكية والشافعية والحنابلة، لظاهر قوله تعالى: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}.
الثاني: وجوب تناولها لمن أشرف على الهلاك: وهو مذهب الجمهور: الحنفية، والراجح عند المالكية الشافعية والحنابلة، لقوله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (3)، وقوله عز وجل {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4).
قالوا: ولا شك أن الذي يترك تناول الميتة ونحوها حتى يموت، يُعتبر قاتلاً لنفسه، وملقيًا بنفسه إلى التهلكة، لأن الكف عن التناول فعل منسوب للإنسان.
وأما قوله تعالى {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} فلا يتنافى مع القول بالوجوب، لأن نفي الإثم في الأكل عام يشمل حالتي الجواز والوجوب، فإذا وجدت قرينة على تخصيصه بالوجوب عمل بها، والقرينة هنا: الآيتان المتقدمتان.
شروط إباحة الميتة ونحوها للمضطر:
اشترط الفقهاء لإباحة أكل الميتة ونحوها من المحرمات للمضطر شروطًا، اتفقوا على بعضها واختلفوا في بعضها، فمما اتفقوا عليه:
1 - أن لا يجد طعامًا حلالاً ولو لقمة، فإن وجدها وجب تقديمها، فغن لم تغنه حلَّ له المحرَّم.
2 - أن لا يكون قد أشرف على الموت بحيث لا ينفعه تناول الطعام، فإن انتهى إلى هذه الحالة لم يحلَّ له المحرَّم.
_________
(1) «أحكام القرآن للجصاص» (1/ 150)، و «أضواء البيان» (1/ 64 - 95) والمراجع الآتية بعده.
(2) «ابن عابدين» (5/ 215)، و «الصاوي» (1/ 323)، و «نهاية المحتاج» (8/ 150)، و «المقنع» (3/ 530).
(3) سورة النساء: 29.
(4) سورة البقرة: 195.

(2/347)


3 - أن لا يجد مال مسلم أو ذمي من الأطعمة الحلال، وفي هذا الشرط عندهم تفصيل.
تنبيهان:
1 - لا يجوز أن يتجاوز ما يسد به الرمق ويندفع به الضرر، وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}.
2 - ما حرِّم لكونه يقتل الإنسان (كالسموم) لا يحلُّ للاضطرار: لأن تناوله استعجال للموت وقتل للنفس، وهو من أكبر الكبائر، وهذا متفق عليه.

من آداب الأكل
هذه جملة من الآداب الشرعية في الطعام، ينبغي الأخذ بها، لما فيها من إحياء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما فيها من طرد وإبعاد وحرمان للشيطان، الذي يحرص على مشاركة المسلم في مأكله ومشربه وملبسه ومبيته، حتى يتمكن من إغوائه والسيطرة على قلبه وعقله وجوارحه، ولما فيها من تحقيق المصالح الدينية والاقتصادية والاجتماعية، ومن هذه الآداب:
1 - التسمية على الطعام:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم طعامًا فليقل: بسم الله، فإن نسي فليقل: بسم الله أوله وآخره» (1).
وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يُذكر اسم الله عليه ...» (2) وقال عليه الصلاة والسلام لعمرو بن أبي سلمة: «يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك ...» (3).
فإن نسى التسمية في أول الطعام:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من نسى أن يذكر الله عز وجل في أول طعامه، فليقل حين يذكر: بسم الله أوله وآخره، فإنه يستقبل طعامًا جديدًا، أو يمتنع الخبيث (4) مما كان يصيب منه» (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3767)، والترمذي (1858)، وأحمد (6/ 143).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2017)، وأحمد (5/ 383).
(3) صحيح: يأتي بتمامه وتخريجه قريبًا.
(4) أي: الشيطان.
(5) صحيح: أخرجه ابن السني في «عمل اليوم الليلة» (461) بسند صحيح وله شاهد عن عائشة وقد تقدم.

(2/348)


2، 3 - الأكل باليمين، وعدم الأكل مما أمام الغير -إذا كان في إناء واحد-:
فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» (1).
وعن عمرو بن أبي سلمة، قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكل مما يليك» فما زالت تلك طعمتي بعد (2).
4 - الأكل من حافة الطعام لا من وسطه:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه» (3).
5 - عدم الأكل وهو متكئ:
لحديث أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فلا آكل مُتَّكئًا» (4).
6 - أن لا يعيب الطعام إن كرهه:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه» (5).
7 - الاجتماع على الطعام وعدم الأكل منفردًا: لأن كثرة الأيدي على الطعام تزيد بركته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة ...» (6).
وقد ورد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع، فقال: «فلعلكم تفترقون؟» قالوا: نعم، قال: «فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله، يبارك لكم فيه» (7) وفيه ضعف.
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2020)، والترمذي (1800)، وأبو داود (3776).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (3772)، وابن ماجه (3277)، وأحمد (1/ 343 - 345).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5398)، والترمذي في «الشمائل» (64).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5409)، ومسلم (2064).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5392)، ومسلم (2058).
(7) ضعيف: أخرجه أبو داود (3764) وغيره.

(2/349)


8 - أكل اللقمة -إذا سقطت- بعد مسح الأذى عنها:
فعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، فليمط ما كان بها من الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان» (1).
9 - لعق الأصابع والقصعة قبل غسل اليد أو مسحها:
فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: «إنكم لا تدرون في أيِّه البركة» (2).
10، 11 - حمد الله، والدعاء بعد الفراغ من الطعام:
فعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة، فيحمده عليها» (3).
وقد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة صيغ للحمد والدعاء بعد الفراغ من الطعام، ومن ذلك:
(أ) «الحمد لله الذي كفانا وأروانا، غير مكفيٍّ ولا مكفور» (4).
(ب) «الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفي، ولا مُودَّعٍ، ولا مُستَغنىً عنه ربَّنا» (5).
(جـ) «الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوَّغه وجعل له مخرجًا» (6).
(د) «اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقْنَيْتَ وهديتَ وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت» (7).
12 - الدعاء لمن قدَّم الطعام: ومما ثبت في ذلك:
(أ) أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة» (8).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2033).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2033).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2724)، والترمذي (1816).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5459).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5458)، وأبو داود (3849)، وابن ماجه (3284)، وأحمد (5/ 256).
(6) صحيح: أخرجه أبو داود (3851)، وابن السني.
(7) حسن: أخرجه أحمد في «المسند» رقم (1600).
(8) صحيح لشواهده: أخرجه أبو داود (3854)، وابن ماجه (1747) وغيرهما.

(2/350)


(ب) «اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم» (1).
13 - غسل اليد لإزالة أثر الطعام:
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بات أحدكم وفي يده غَمر (2)، فأصابه شيء، فلا يلومنَّ إلا نفسه» (3).

الصَّيْد وأحكامه
تعريفه (4):
الصَّيْد: مصدر صاد يصيد صيدًا، وله إطلاقان في اللغة، فقد يراد به: الاصطياد ووضع اليد على الحيوان المصيد وقبضه وإمساكه، ومنه قوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (5).
وقد يراد به الحيوان المصيد نفسه، كما قال تعالى {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (6) وعلى الإطلاق الأول يكون تعريف الصيد اصطلاحًا: «اقتناص حيوان حلال متوحش طبعًا غير مملوك ولا مقتدر عليه».
وعلى الإطلاق الثاني يُعرَّف الصيد اصطلاحًا على أنه: «حيوان مقتنَص حلال متوحِّش طبعًا غير مملوك، ولا مقدور عليه».
حكم الصيد:
أجمع أهل العلم على إباحة الاصطياد والأكل من الصيد، ودلَّ على ذلك الكتاب والسنة:
(أ) فمن الكتاب:
1 - قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (7).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (3805)، والترمذي (3500)، وأبو داود (3241).
(2) الغَمَر: الدسومة التي تصيب اليد من أثر الطعام.
(3) صحيح: أخرجه الترمذي (1860)، وأبو داود (3852)، وابن ماجه (3297)، وأحمد (8175).
(4) «النهاية» لابن الأثير (3/ 65)، و «كشاف القناع» (4/ 126)، و «ابن عابدين» (6/ 461)، و «المفصل» (3/ 10).
(5) سورة المائدة: 2.
(6) سورة المائة: 95.
(7) سورة المائدة: 96.

(2/351)


2 - وقوله سبحانه {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (1).
3 - وقوله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2).
(ب) ومن السنة:
حديث عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أُرسل الكلاب المعلَّمة فيمسكن عليَّ وأذكر اسم الله عليه، فقال: «إذا أرسلت كلبك المُعلَّم وذكرت اسم الله عليه فَكُلْ» قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها» قلت له: فإني أرمى بالمعراض (3) الصيد فأصيب، فقال: «إذا رميت بالمعراض فخزق فكلْه، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله» (4).
متى يكون الصيد محظورًا؟
الأصل في الصيد أنه حلال، لكنه يُحظر في الحالات الآتية:
1 - إذا قُصد به اللهو والعبث: لا التذكية والانتفاع بلحم الحيوان، فحينئذ يكون حرامًا، فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا شيئًا فيه روح غرضًا» (5).
وعن سعيد بن جبير قال: مرَّ ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها، فقال ابن عمر: «من فعل هذا؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا» (6).
2 - إذا كان الصائد مُحرمًا بحج أو عمرة فيحرم عليه صيد البر: لقوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (7) وقد تقدم هذا في «كتاب الحج».
_________
(1) سورة المائدة: 2.
(2) سورة المائدة: 4.
(3) المعراض: عود محدَّد، وربما جعل في رأسه حديدة، يحذف به الصيد كالسهم.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (2054)، ومسلم (1929).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1957)، والنسائي (4443)، وابن ماجه (3187).
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1958).
(7) سورة المائدة: 96.

(2/352)


3 - يحرم صيد الحرمين -مكة والمدينة- ولو الغير لمُحرم: وقد تقدم في «الحج».
4 - يحرم صيد المملوك للغير: لما فيه من الظلم والعدوان عليهم.
وسائل الصيد:
إباحة الصيد تعني تمكين الصائد من اقتناص الحيوان، ووضع يده عليه حيًّا إن أمكن، أو مقتولاً بفعل آلة الصيد، حيث يعتبر القتل بآلة الصيد بمنزلة تذكية الحيوان أو ذبحه بصورة مشروعة، ولكل وسيلة أو أداة للصيد شروط معينة حتى يعتبر قتل الحيوان بها بمنزلة التذكية الشرعية.
1 - الصيد باستخدام الجوارح:
المقصود بالجوارح: السباع ذوات الأنياب، كالكلب والفهد، وجوارح الطير ذوات المخالب كالصقر والبازي، قال الله تعالى {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} (1).
ما يشترط في الصيد بالجوارح (2)، ليحلَّ صيدها:
1 - أن يكون مُعَلَّمًا: قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3).
ويعتبر في تعليم الجارحة ثلاثة شروط هي:
(أ) إذا أرسله الصائد استرسل.
(ب) إذا زجره انزجر.
(جـ) إذا أمسك الجارح صيدًا لم يأكل منه، ويتكرر هذا منه حتى يصير معلَّمًا في حكم العرف، وأقل ذلك ثلاث مرات، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
فإن أكل الجارح من الصيد لم يحلَّ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك، وإن قتلت، إلا أن يأكل الكلب، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» (4).
_________
(1) سورة المائدة: 4.
(2) سورة المائدة: 4.
(3) «المغنى» (9/ 292 - الفكر)، و «مغنى المحتاج» (4/ 275)، و «المفصل» (3/ 13).
(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(2/353)


تنبيه: إذا صاد الكلب غير المعلَّم فأدركه الصائد حيًّا فذبحه ذبحًا شرعيًّا حلَّ أكله كذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة الخشني: «... وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكُلْ» (1).
2 - أن يسمى الصائد عند إرساله: لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) وقوله عز وجل {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3).
وفي حديث عدي بن حاتم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ...» (4).
وفي حديث أبي ثعلبة قال صلى الله عليه وسلم: «.. وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل ...» (5).
3 - أن لا يشارك كلبه كلب آخر:
فعن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، أرسل كلبي وأسمِّي، فأجد معه على الصيد كلبًا آخر لم أُسمِّ عليه، ولا أدري أيهما أخذ، قال: «لا تأكل، إنما سَمَّيت على كلبك ولم تُسمِّ على الآخر» (6).
4 - أن يجرح الكلب الصَّيْدَ: فإن خنقه أو قتله بصدمته لم يحلَّ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله فَكُلْ» (7).
فائدتان:
1 - يجوز اقتناء الكلب للصيد والماشية والحراسة فقط:
فعن عبد الله بن مغفل قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال: «ما بالهم وبال الكلاب» رخَّص في كلب الصيد وكلب الغنم» (8).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5478)، ومسلم (1532).
(2) سورة الأنعام: 121.
(3) سورة المائدة: 4.
(4) صحيح: تقدم قبله.
(5) صحيح: تقدم قبله.
(6) صحيح: تقدم قريبًا.
(7) صحيح: أخرجه البخاري (5503)، ومسلم (1986).
(8) صحيح: أخرجه مسلم (280)، والنسائي (67)، وأبو داود (74)، وابن ماجه (3200).

(2/354)


وأما اقتناء الكلاب لغير ذلك فلا يجوز، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم» (1) ونحوه من حديث ابن عمر.
2 - هل يجوز الصيد بالكلب الأسود البهيم؟ (2)
الكلب الأسود البهيم الذي ليس فيه بياض، قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فعن جابر بن عبد الله قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان» (3) ولذا لم يُجِزْ الإمام أحمد وابن حزم وسائر أهل الظاهر صيد الكلب الأسود، لأن ما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه، فلم يبح صيده، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّاه شيطانًا، ولأن إباحة الصيد المقتول رخصة فلا تستباح بمحرم كسائر الرخص. وقد كره ذلك طائفة من السلف منهم: الحسن والنخعي وقتادة وإسحاق.
وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى إباحة صيد الكلب الأسود البهيم، لعموم الأدلة المتقدمة في إباحة الصيد بالكلاب المعلَّمة من غير أن تخصَّ كلبًا دون آخر. قلت: الأظهر أنه لا يجوز والله أعلم.
2 - الصيد بآلة الصيد كالقوس والسهم ونحوهما (4):
لا خلاف بين العلماء في إباحة أكل ما صيد بالقوس أو السهم إذا ذكر عليه اسم الله، ففي حديث عدي بن حاتمٍ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «... وما رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يومًا فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل ما شئت ..» (5).
وفي حديث أبي ثعلبة قال صلى الله عليه وسلم: «.. فما أصبتَ بقوسك فاذكر اسم الله، ثم كُلْ ..» (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5480)، ومسلم (1574).
(2) «المحلى» (7/ 477)، و «المغنى» (9/ 297).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1572)، وأبو داود (2846).
(4) «المغنى» (9/ 301 - الفكر)، و «المفصَّل» (3/ 14).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5484)، ومسلم (1929) واللفظ له.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5478)، ومسلم (1930).

(2/355)


الصيد بالمِعْراض:
المعراض: عود محدَّد وربما كان في رأسه حديدة، يحذف به الصيد، فإن أصاب الصيد بحدِّه فخزق (أي: جرح) وقتل فيباح الصيد، وإن أصاب المعراض بعرضه -لا بحدِّه- فقتل بثقله فيكون موقوذًا فلا يباح أكله، وبهذا قال الجمهور من الأئمة الأربعة وغيرهم، لحديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض، فقال: «إذا أصاب بحدِّه فَكُلْ، وإذا أصاب بعرضه فقتل فلا تأكل، فإنه وقيذ ...» (1).
وسائر آلات الصيد كالمعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد، كالسهم يصيب الطائر بعرضه فيقتله، وكالرمح والحربة والسيف، يضرب به صفحًا -لا بحدِّه- فكل ذلك حرام؛ وكذلك إذا أصاب بحدِّه فلم يجرح وقتل بثقله لم يبح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رميت بالمعراض فخزق فكُلْه ..» (2) فجعل نفوذه في الصيد وجرحه شرطًا، ولأنه إذا لم يجرحه فإنما يقتله بثقله فأشبه ما إذا أصاب بعرضه (3).
3 - الصيد بالندقية:
بنادق الصيد الحديثة يستعمل فيها الرصاص، ومنه المدوَّر، ومنه المدبَّب، وكلاهما ينفذ في جسم الحيوان ويجرحه، فيباح الصيد بها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن جمهور العلماء يشترطون في الآلة أن تكون محددة (!!) فقد يشكل هذا على إباحة الصيد بالبندقية ذات الرصاص المدوَّر، إلا أن الذي يظهر أن مرادهم بالمحدَّد هو ما ينفذ في جسم الحيوان ويجرحه، فهذا هو المناط كما يظهر من الأدلة في المسألة، فيزول الإشكال، والله أعلم.
هل يجوز الصيد بالحجر والحصى ونحوه؟ (4)
الحجر الذي لا حدَّ له بحيث لو رمى به الصيد لم يخزقه ولم يجرح، إذا قتل الحيوان لم يُبح أكله لأنه موقوذ، وبهذا قال عامة الفقهاء، وقد تقدمت الأدلة على اشتراط تفوذ الآلة في جسم الصيد وجرحه حتى يحلَّ.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (2054)، ومسلم (1929).
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) «المغنى» (9/ 305) بنحوه مع شيء من الإضافة.
(4) «المغنى» (9/ 313)، و «المحلى» (7/ 460)، و «نيل الأوطار» (8/ 156).

(2/356)


وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: «إنها لا تصيد صيدًا، ولا تنكأ عدوًّا، ولكنها تكسر السنَّ وتفقأ العين» (1).
إذا وجد الصيد بعد أيام:
إذا رمى الصائدُ الحيوان ووقعت فيه الرمية وغاب، ثم وجده الصائد ولو بعد أيام -في غير ماء- كان حلالاً إذا لم ينتن أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه: فعن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أرسلت كلبك وسميت فأمسك وقتل فكُلْ، وإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا خالط كلابًا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن فقتلن فلا تأكل، فإنك لا تدري أيها قتل، وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكُلْ، وإن وقع في الماء فلا تأكل» (2).

التذكية الشرعية
تعريفها (3):
التذكية في اللغة: مصدر ذكيت الحيوان، والاسم هو الذكاة، وهي الذبح والنحر.
وفي الاصطلاح: هي السبب الموصل لحل أكل الحيوان البري اختيارًا.
وعرفها الحنفية بأنها: «السبيل الشرعية لبقاء طهارة الحيوان وحل أكله إن كان مأكولاً وحل الانتفاع بجلده وشعره إن كان غير مأكول».
وعرفها الحنابلة بأنها: «ذبح أو نحر حيوان مقدور عليه مباح أكله، يعيش في البر، لا جراد ولا نحوه - بقطع حلقوم ومريء، أو عقر حيوان ممتنع إذا تعذر قطع الحلقوم والمريء».
وهي نوعان (الذبح والنحر).
تعريف الذبح: أطلق الذبح في اللغة على الشَّقِ وهو المعنى الأصلي ثم استعمل في قطع الحلقوم من باطن عند النَّصيِل، و «النَّصِيل» بفتح النون وكسر الصاد مفصل ما بين العنق والرأس تحت اللحيين.
وأطلق في الاصطلاح على معانٍ كثيرة، ومنها: (ما يتوصل به إلى حل الحيوان سواء أكان قطعًا في الحلق أم في اللبة من حيوان مقدور عليه أم إزهاقًا
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5479)، ومسلم (1954).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5484)، ومسلم (1929).
(3) «الموسوعة الفقهية» (21/ 173)، و «المفصل» (3/ 20).

(2/357)


لروح الحيوان غير المقدور عليه بإصابته في أي موضع كان من جسده بمحدد أو بجارحة معلمة) والذبح يكون فيما عدا الإبل من الحيوانات.
تعريف النحر: يطلق النحر في اللغة على أعلى الصدر وموضع القلادة منه والصدر كله ويطلق على الطعن في لبة الحيوان لأنها مسامتة لأعلى صدره.
وفي الاصطلاح: هو الطعن في اللبة، ويكون النحر في الإبل خاصة.
فائدة (1):
تخصيص الإبل بالنحر وما عداها بالذبح مستحب عند الجمهور -خلافًا للمالكية- لا واجب، ووجه استحبابه أن الله تعالى ذكر في الإبل النحر، قال تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) وذكر في البقر والغنم الذبح، فقال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (3) وقال عز وجل {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (4).
ولأن الأصل في الذكاة إنما هو الأسهل على الحيوان، وما فيه نوع راحة له فهو أفضل، والأسهل في الإبل النحر لخلو لبتها عن اللحم واجتماع اللحم فيما سواها، والبقر والغنم ونحوها جميع عنقها لا يختلف.
حكم التذكية وحكمة اشتراطها (5):
التذكية شرط لإباحة أكل الحيوان مأكول اللحم والانتفاع به من سائر الوجوه، قال الله تعالى: {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (6).
وعن رافع بن خديج قال: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غدًا وليست معنا مُدى، فقال صلى الله عليه وسلم: «أعجل -أو: أرني- ما أنهر الدم وذُكر اسم الله فكُلْ، ليس السن والظفر، وسأحدثك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدى الحبشة» (7).
_________
(1) «البدائع» (5/ 40)، و «الشرح الصغير» (1/ 314)، و «المقنع» (3/ 538)، و «مغنى المحتاج» (4/ 271)، و «الموسوعة» (21/ 176) وأما المالكية فأوجبوا النحر في الإبل، وأجازوا الذبح والنحر -مع تفضيل الذبح- في البقر، وأوجبوا الذبح فيما عدا ذلك.
(2) سورة الكوثر: 20.
(3) سورة البقرة: 67.
(4) سورة الصافات: 107.
(5) «البدائع» (5/ 40)، و «مغنى المحتاج» (4/ 267)، و «حجة الله البالغة» (2/ 812) ط. الكتب الحديثة.
(6) سورة الأنعام: 121.
(7) صحيح: أخرجه البخاري (5543)، ومسلم (1968).

(2/358)


وفيه أن إراقة الدم، وذكر اسم الله على الذبيحة شرط لإباحة أكل لحمها.
وأما الحكمة في اشتراط التذكية: فهي أن الحُرْمة في الحيوان المأكول لمكان الدم المسفوح، ولا يزول إلا بالذبح أو النحر، وأن الشرع إنما ورد بإحلال الطيبات خاصة، قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1)، وقال سبحانه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (2) ولا يطيب إلا بخروج الدم وذلك بالذبح أو النحر، ولهذا حرمت الميتة لأن المحرم -وهو الدم المسفوح- فيها قائم.
ومن الحكم كذلك: التنفير عن الشرك وأعمال المشركين، وتمييز مأكول الآدمي عن مأكول السباع، وأن يتذكر الإنسان إكرام الله له بإباحة إزهاق روح الحيوان لأكله والانتفاع به بعد موته.
شروط الذبح:
يشترط ليحل أكل الحيوان المذكَّى شروط، بعضها يتعلق بالمذبوح، وبعضها بالذابح، وبعضها بآلة الذبح.
(أ) شروط الحيوان المذبوح (3):
1 - أن يكون حيًّا وقت الذبح: فلا يُذبح الحيوان الميت.
2 - أن يكون زهوق روحه بمحض الذبح.
3 - أن لا يكون من صيد الحرم لما تقدم في «كتاب الحج» من تحريم صيد الحرم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مكة: «فلا ينفَّر صيدها» (4).
(ب) شروط الذابح:
1 - أن يكون عاقلاً (5): سواءً كان رجلاً أو امرأة، بالغًا أو غير بالغ إذا كان مميزًا، فلا تصح تذكية المجنون ولا الصبي الذي لا يعقل، ولا السكران، لأن غير العاقل لا يصح منه القصد إلى الذبح والتسمية، وبهذا قال الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة وهو قول عند الشافعية، والأظهر عندهم أنه يصح تذكيتهم جميعًا (!!).
_________
(1) سورة المائدة: 4.
(2) سورة الأعراف: 157.
(3) «الموسوعة الفقهية» (21/ 179).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1349)، ومسلم (1355).
(5) «ابن عابدين» (5/ 188)، و «الخرشي» (2/ 301)، و «مغنى المحتاج» (4/ 266)، و «المغنى» (8/ 581) و «المحلى» (7/ 456).

(2/359)


وقال ابن حزم: لا تصح تذكية غير البالغ كالمجنون والسكران لأنهم غير مخاطبين بخطاب الشرع في قوله تعالى {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) إذ هم غير مكلفين.
2 - أن يكون مسلمًا أو كتابيًا (يهوديًّا أو نصرانيًّا): فلا تحل ذبيحة الوثني والمجوسي، وهذا متفق عليه، لأن غير المسلم والكتابي لا يخلص ذكر اسم الله، وذلك أن المشرك يُهل لغير الله أو يذبح على النصب، وقد قال تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (2) والمجوسي لا يذكر اسم الله على الذبيحة (3).
وأما أهل الكتاب فإنما حلت ذبيحتهم لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (4) قال ابن عباس «طعامهم: ذبائحهم» (5).
ويؤيد هذا، أنه لو لم يكن المراد بطعامهم: ذبحائهم، لم يكن للتخصيص بأهل الكتاب معنى، لأن غير الذبائح من أطعمة سائر الكفرة حلال، ولو فرض أن الطعام غير مختص بالذبائح فهو اسم لما يُطعم، فيدخل فيه الذبائح، وتكون حلالاً (6).
تنبيه: إنما تحلُّ ذبيحة الكتابي إذا لم يُعلم أنه ذكر عليها غير اسم الله تعالى، فإن ذكر عليه اسم غير الله كأن قال: باسم المسيح أو العذراء أو الصنم، لم يؤكل، لقوله تعالى في بيان المحرَّمات: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (7).
3 - أن لا يكون مُحرمًا إذا ذبح صيد البر: فإن المحرم يحرم عليه التعرض للصيد البري سواء كان التعرض بالاصطياد أو الذبح أو القتل، ويحرم عليه كذلك أن يَدُلَّ الحلال على صيد البر أو يشير إليه، كما تقدم في «الحج»، فما ذبحه المحرم من صيد البر فهو ميتة وكذلك ما ذبحه الحلال بدلالة المحرم أو إشارته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (8) وقال سبحانه {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (9).
_________
(1) سورة المائدة: 3.
(2) سورة المائدة: 3.
(3) «الموسوعة الفقهية» (21/ 184).
(4) سورة المائدة: 4.
(5) أخرجه البخاري تعليقًا (9/ 636).
(6) «البدائع» (5/ 45)، و «الخرشي» (2/ 301)، و «نهاية المحتاج» (8/ 106)، و «المقنع» (3/ 535).
(7) سورة المائدة: 3.
(8) سورة المائدة: 95.
(9) سورة المائدة: 96.

(2/360)


تنبيه: المحرَّم على المُحرم ذبحُه إنما هو الصيد، فأما المستأنس كالدجاج والغنم والإبل، فللمحرم أن يذَكيها، لأن التحريم مخصوص بالصيد، أي: بما شأنه أن يصاد وهو الوحش فبقي غيره على عموم الإباحة، وهذا متفق عليه بين المذاهب (1).
4 - أن يسمى على الذبيحة إذا ذَكَر (2): فإن تعمَّد تركها -وهو قادر على النطق بها- لم تؤكل ذبيحته عند الجمهور ومن نسيها أو كان أخرس أُكلت ذبيحته، قال تعالى: {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (3).
ولحديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله فكُلْ ...» (4).
ولذا اشترط الجمهور التسمية على الذبيحة -عند التذكر والقدوة- وقال الشافعي -وهو رواية عن أحمد- أنها مستحبة وليست واجبة، لحديث عائشة: أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومنا يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سمُّوا عليه أنتم وكلوا» قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (5).
فلو كانت التسمية شرطًا لما حلت الذبيحة مع الشك في وجودها، لأن الشك في الشرط شك فيما شرطت له.
واستدلوا كذلك بأن الله أباح لنا ذبائح أهل الكتاب وهم لا يذكرونها، وأجابوا عن قوله تعالى {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (6) بأن المراد: ما ذكر عليه اسم غير الله، يعني: ما ذبح للأصنام بدليل قوله تعالى {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (7) وسياق الآية دالٌّ عليه، فإنه قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والحالة التي يكون فيها فسقًا هي الإهلال لغير الله، كما قال تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (8).
_________
(1) «البدائع» (5/ 50)، و «الشرح الصغير» (1/ 297)، و «نهاية المحتاج» (3/ 332)، و «كشاف القناع» (2/ 437).
(2) «البدائع» (5/ 46)، و «الشرح الصغير» (1/ 319)، و «البجيرمي» (4/ 251)، و «المغنى» (8/ 565).
(3) سورة الأنعام: 121.
(4) صحيح: تقدم قريبًا.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2057) وغيره.
(6) سورة الأنعام: 131.
(7) سورة المائدة: 3.
(8) سورة الأنعام: 145.

(2/361)


5 - أن لا يهلَّ بالذبح لغير الله:
والمقصود به: تعظيم غير الله سواء كان برفع صوت أم لا، فهذا لا تحلُّ ذبيحته بالاتفاق، لقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1).
والذبح لغير الله حرام لحديث أبي الطفيل قال: سئل عليٌّ رضي الله عنه: أخصَّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: «لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى مُحْدثًا» (2).
شروط آلة الذبح:
يُشترط في آلة الذبح شرطان:
1 - أن تكون قاطعة: سواء كانت حديدًا أم لا، وسواء كانت حادة أم كليلة ما دامت قاطعة، لأن المقصود بالذبح: قطع الودجين والمريء والحلقوم، وجريان الدم.
2 - أن لا تكون عظمًا أو ظفرًا: لحديث رافع بن خديج، قال: قلت يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غدًا وليست معنا مُدْى، قال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله فَكُلْ، ليس السنَّ والظُّفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» (3).
الذبح بالآلات الكهربائية:
تقدم أنه يشترط في آلة الذبح أن تكون قاطعة وأن لا تكون عظمًا أو ظفرًا، ولا شك أن الآلات الكهربائية حادة وسريعة في إتمام عملية الذبح، فشروط الآلة محققة فيها، فهي إذن صالحة للتذكية.
وهنا شبهة: أنه ربما كانت هذه الآلات -لحدتها وسرعتها- تقطع رأس الحيوان!! فنقول: هذا جائز، نصَّ عليه أحمد -رحمه الله- وبه قال أبو حنيفة والثوري (4)، لأنه اجتمع قطع ما تبقى الحياة معه، مع الذبح، فأبيح، وهذه الآلات حادة جدًّا فتأتي على قطع الرأس كله مرة واحدة فلا يتصور موت الحيوان وإزهاق روحه قبل قطع الأوداج حتى يقال: التذكية لا تجوز!! (5).
_________
(1) سورة المائدة: 3.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1978).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) «المغنى» (8/ 578).
(5) «المفصَّل» د. عبد الكريم زيدان (3/ 30) بنحوه.

(2/362)


آدابُ الذَّبح: يُستحب في الذبح أمور، منها (1):
1 - إحسان الذبح: وذلك يتحقق بإحداد السكين -ونحوها- وسرعة القطع، لما في ذلك من إراحة الذبيحة وعدم تعذيبها:
فعن شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليُرحْ ذبيحته» (2).
ويستحب أن يحدَّ الشفرة قبل إضجاع الشاة ونحوها، وقد كره الجمهور أن يُحدَّ الذابح شفرته بين يدي الذبيحة وهي مهيأة للذبح، لما جاء عن ابن عباس أن رجلاً أضجع شاة يريد أن يذبحها، وهو يحد شفرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتريد أن تميتها موتات؟ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها؟!» (3).
2 - إضجاع الذبيحة: لأنه أرفق بها، وعليه أجمع المسلمون، لحديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد، فأتى به ليضحى به، فقال لها: «يا عائشة، هلمي المدية» ثم قال: «اشحذيها بحجر» ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: «بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به» (4).
«ويكون هذا الإضجاع على جانبها الأيسر، لأنه أيسر للذابح في أخذ السكين باليمنى، وإمساك رأسها باليسرى» (5).
3 - وضع قدمه على صفحة عنقها:
فعن أنس قال: «ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما، يُسمِّي ويكبر، فذبحهما بيده» (6).
قال النووي: «وإنما فعل هذا ليكون أثبت له وأمكن، لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تؤذيه» اهـ.
_________
(1) انظر بعضها، وزيادة عليها في «بدائع الصنائع» (5/ 60)، و «ابن عابدين» (5/ 188).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1955).
(3) أخرجه الحاكم (4/ 257)، والبيهقي (9/ 280)، وعبد الرزاق (8608) واختلف في وصله وإرساله.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1967)، وغيره وسيأتي في «الأضحية».
(5) «سبل السلام» للصنعاني (4/ 162).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5558) وسيأتي.

(2/363)


4 - توجيه الذبيحة إلى القبلة: ويكون التوجيه بمذبحها لا بوجهها، فعن جابر ابن عبد الله قال: «ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجئين، فلما وجههما قال: «إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، على ملة إبراهيم حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله، والله أكبر «ثم ذبح» (1).
وعن نافع أن ابن عمر «.. كان هو ينحر هديه بيده يصفهن قيامًا (2) ويوجههن إلى القبلة، ثم يأكل ويُطعم» (3).
تنبيه: ليس هذا التوجيه بشرط في الذبح، إذ لو كان كذلك لما أغفل الله تعالى بيانه وإنما هو مستحب.
5، 6 - التسمية والتكبير:
وقد تقدم في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أضجع الكبش «قال: بسم الله ...» (4).
وفي حديث أنس: «.. فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما، يُسمِّي ويكبِّر، فذبحهما بيده» (5).
وفي حديث جابر المتقدم قريبًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بسم الله، والله أكبر» ثم ذبح (6).
وقد مرَّ في شروط الذبح جملة من الأدلة على اشتراط التسمية.
آداب النَّحْر:
يستحب في النحر كل ما يستحب في الذبح، إلا أن الإبل تُنحر قائمة على ثلاث، ومعقولة (مقيَّدة) اليد اليسرى (7):
_________
(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (2778) وغيره، وصححه الألباني، وقد يُنازع فيه، وانظر «العلل» لابن أبي حاتم (2/ 39، 44)، وللدارقطني (7/ 20).
(2) لأن السنة في نحر الإبل أن تكون قائمة كما سيأتي.
(3) إسناده صحيح: أخرجه مالك (854).
(4) صحيح: تقدم قريبًا.
(5) صحيح: تقدم قريبًا.
(6) تقدم قريبًا.
(7) «البدائع» (5/ 41)، و «نهاية المحتاج» (8/ 111)، و «المقنع» (1/ 474).

(2/364)


1 - قال الله تعالى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ...} (1) ومعنى صواف: قيامًا، كما قال ابن عباس.
2 - وفي حديث أنس بن مالك -في حجة النبي صلى الله عليه وسلم-: «.. ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبع بُدْنٍ قيامًا، وضحى بالمدينة كبشين أملحين أقرنين» (2).
3 - وعن زياد بن جبير قال: «رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قيامًا مقيَّدة، سنة محمد صلى الله عليه وسلم» (3).
إذا لم يتمكن من الحيوان ليذبحه (4):
إذا لم يتمكن من الحيوان، وتعذَّر ذبحه، لهربه ونحو ذلك، فيجوز طعنه ورميه بالسهم ونحوه في أي موضع من جسده بحيث يجرحه ويقتله، ويحلُّ أكله بذلك، وبهذا قال جمهور العلماء -خلافًا لمالك والليث!! - لحديث رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فَنَدَّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا، فافعلوا به هكذا» (5).
وفي لفظ: «فإذا غلبكم شيء فاصنعوا به هكذا».
ذكاة الجنين ذكاة أُمَّه (6):
إذا ذبحت الذبيحة ثم خرج من بطنها جنين ميِّتًا، فأصح قولي العلماء: أن الجنين يحل أكله لأنه مذكى بذكاة أمِّه، وهو قول الجمهور خلافًا لأبي حنيفة، ويؤيد هذا القول حديث أبي سعيد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين؟ فقال: «كلوه إن شئتم» وفي رواية: قلت يا رسول الله، ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ قال: «كلوه إن شئتم، فإن ذكاته، ذكاةُ أُمِّه» (7).
_________
(1) سورة الحج: 36.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (1714)، ومسلم (690).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1713)، ومسلم (1320).
(4) «المحلى» (7/ 446)، و «نيل الأوطار» (8/ 163)، و «السيل الجرار» (4/ 68).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5543)، ومسلم (1968).
(6) «المجموع» (9/ 147)، و «نيل الأوطار» (8/ 164)، و «سبل السلام» (4/ 1412).
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (2827)، والترمذي (1476)، وابن ماجه (3199).

(2/365)


أما إذا خرج الجنين حيًّا حياة مستقرة، لم يحلَّ أكله إلا بذبحه، والله أعلم.
ما قُطع من البهيمة وهي حية (1):
عن أبي واقد الليثي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما قُطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» (2).
قال ابن حزم، رحمه الله:
«وما قطع من البهيمة وهي حية، أو قبل تمام تذكيتها عنها، فهو ميتة لا يحل أكله، فغن تمت الذكاة بعد قطع ذلك الشيء أُكلت البهيمة، ولم تؤكل تلك القطعة، وهذا ما لا خلاف فيه، لأنها زايلت البهيمة وهي حرام أكلها فلا تقع عليها ذكاة كانت بعد مفارقتها لما قطعت منه» اهـ (3).

الأضحية (4)
تعريفها:
الأُضحية -بضم الهمزة ويجوز كسرها ويجوز حذف الهمزة، وفتح الضاد- هي ما يُذكى تقربًا إلى الله تعالى في أيام النحر بشرائط مخصوصة، وكأنها اشتقت من اسم الوقت الذي شرع ذبحها فيه، وبها سمى اليوم يوم الأضحى (5).
مشروعيتها:
الأصل في مشروعية الأضحية: الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب: فقول الله سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (6) قال بعض أهل العلم المراد به: الأضحية بعد صلاة العيد. وأما السنة، فعن أنس قال: «ضحَّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر، ووضع رجله على صفاحها» (7).
_________
(1) «المحلى» (7/ 449)، و «المغنى» (9/ 320 - الفكر)، و «نيل الأوطار» (8/ 166).
(2) حسن: أخرجه أبو داود (2858)، والترمذي (1480) وله شواهد.
(3) «المحلى» (7/ 449).
(4) لأخينا في الله محمد العلاوي -حفظه الله- كتاب نافع في «فقه الأضحية» وقد قدَّم له شيخنا بارك الله فيه، فليرجع إليه.
(5) «سبل السلام» (4/ 160)، و «ابن عابدين» (5/ 111).
(6) سورة الكوثر: 2.
(7) صحيح: أخرجه البخاري (5558)، ومسلم (1966).

(2/366)


وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية (1).
حكم الأضحية:
اختلف أهل العلم في حكم الأضحية، على قولين (2):
الأول: أنها واجبة على الموسر: وهو قول ربيعة والأوزاعي وأبي حنيفة والليث وبعض المالكية، واستدلوا بأدلة منها:
1 - قوله تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) وأجيب بأن للعلماء في تأويل الآية خمسة أقوال أظهرها أن المراد: صلِّ لله، وانحر لله.
2 - حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... من ذبح قبل أن يصلي فليُعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح» (4).
وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما قال لمن صلى راتبة الضحى مثلًا قبل طلوع الشمس: إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك، كذا في الفتح (10/ 6، 19).
3 - حديث البراء أن أبا بردة قال: يا رسول الله ذبحتُ قبل أن أصلي، وعندي جذعة خير من مُسنة، فقال صلى الله عليه وسلم: «اجعلها مكانها، ولن تجزئ عن أحد بعدك» (5).
وأجاب الخطابي عن الاستدلال به على الوجوب فقال: وهذا لا يدل على ما قاله لأن أحكام الأصول مراعاة في أبدالها فرضًا كانت أو نفلاً، إنما هو على الندب كما كان الأصل على الندب، ومعناه أنها تجزئ عنك إن أردت الأضحية ونويت الأجر فيها. اهـ (المعالم 2/ 199).
4 - حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة لا يجزين في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها و ...» (6) الحديث وسيأتي.
_________
(1) «المغنى» (9/ 345)، و «الحاوي» للماوردي (19/ 83)، و «المحلى» (7/ 355).
(2) «المبسوط» (12/ 8).
(3) سورة الكوثر: 2.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5562)، ومسلم (1960).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5560).
(6) صحيح: أخرجه أبو داود (2802)، والترمذي (1497)، والنسائي (7/ 215)، وابن ماجه (3144) وغيرهم.

(2/367)


قالوا: فقوله: «لا يجزين ..» دليل على وجوبها!! لأن التطوع لا يقال فيه: لا تجزئ، قالوا: والسلامة من العيوب إنما تُراعى في الرقاب الواجبة، وأما التطوع فجائر أن يتقرب إلى الله فيه بالأعور وغيره.
وأجيب: بأن الضحايا قربان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقرب به إلى الله عز وجل حسبما ورد به الشرع، وهو حكم ورد به التوقيت، فلا يتعدى به سنته صلى الله عليه وسلم لأنه محال أن يتقرب إليه بما قد نهى عنه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
5 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له سعة ولم يُضَحِّ فلا يقربنَّ مُصلاَّنا» (2) والصواب وقفه كما رجَّحه الأئمة (3).
القول الثاني: أن الأضحية سنة وليست واجبة: وهو مذهب الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور والمزني وابن المنذر وداود وابن حزم وغيرهم، واستدلوا بما يلي:
1 - حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يُضحى فلا يمسَّ من شعره وبشره شيئًا» (4).
قالوا: فقوله (وأراد أن يضحي) دليل على أن الأضحية ليست بواجبة.
2 - صحَّ عن الصحابة أن الأضحية ليست بواجبة، ولم يصح عن أحد منهم أنها واجبة، قال الماوردي: «ورُوى عن الصحابة رضي الله عنهم ما ينعقد به الإجماع على سقوط الوجوب» (5) اهـ. قلت: من ذلك:
(أ) عن أبي سريحة قال: «رأيت أبا بكر وعمر، وما يضحيان» (6).
(ب) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: «إني لأدع الأضحى، وإني لموسر، مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليَّ» (7).
_________
(1) «التمهيد» لابن عبد البر (20/ 167).
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3123)، وأحمد (2/ 321)، والحاكم (2/ 389)، والدراقطني (4/ 285)، والبيهقي (9/ 260) والصواب وقفه.
(3) كالدارقطني في «العلل» (10/ 34)، وابن عبد البر (23/ 191) والترمذي.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1977)، والنسائي (7/ 212)، وابن ماجه (3149)، وأحمد (6/ 289) وقد اختلف في رفعه ووقفه، والأظهر رفعه.
(5) «الحاوي» (19/ 85)، وانظر «المحلى» (7/ 358).
(6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8139)، والبيهقي (9/ 269).
(7) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8149)، والبيهقي (9/ 265)

(2/368)


قلت: الذي يظهر أن أدلة الموجبين ليست قوية في الدلالة على الوجوب، وعليه فالقول قول الصحابة رضي الله عنهم وجمهور أهل العلم.

ما يُضَحَّى به
1 - لا يجزئ في الأضحية إلا الأنعام: وهي الإبل، والبقر، والضأن، والمعز لقوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (1)، وقد نقل جماعة من أهل العلم الإجماع على أن الأضحية لا تصح إلا بها، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه يجوز أن يُضحى ببقر الوحش وبالضب، وبه قال داود في بقر الوحش، وأجازه ابن حزم بكل حيوان يؤكل لحمه من ذي أربع أو طائر (!!) واحتج بقول بلال رضي الله عنهم: «ما كنت أبالي لو ضحيت بديك ..» (2).
قلت: ومذهب الجماهير هو المتعيِّن للآية الكريمة، ولأنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بغير الإبل والبقر والغنم.
(أ، ب) أما الإبل والبقر: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ضحَّوا بها، والجمهور على أنه يجوز أن يشترك سبعة في بقرة أو بدنة، وأنها تجزئ عنهم، لما يأتي:
1 - حديث جابر بن عبد الله قال: «نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (3).
2 - وعنه قال: «كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة، فنذبح، البقرة عن سبعة نشترك فيها» (4).
فوائد:
1 - ذهب إسحاق وابن خزيمة وغيرهم إلى أن البدنة تجزئ عن عشرة، لحديث ابن عباس قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة وفي البعير عشرة» (5).
_________
(1) سورة الحج: 34.
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8156)، وابن حزم في «المحلى» (7/ 358).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1318)، وأبو داود (2809)، والترمذي (904)، وابن ماجه (3132).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1318)، وأبو داود (2807)، والنسائي (7/ 222).
(5) إسناده حسن: أخرجه الترمذي (1501)، والنسائي (7/ 222)، وابن ماجه (3131).

(2/369)


وقال الشوكاني تجزئ البدنة عن عشرة في الأضحية، وعن سبعة في الهدي، جمعًا بين الأدلة، والجمهور اقتصروا على السبعة قياسًا على الهدي، وقال شيخنا: «وإن صحَّ حديث ابن عباس فالقول عليه إذ هو صريح في بابه، ولكن في نفسي منه شيء، وذلك لتفرد حسين بن واقد به، وهو وإن كان ثقة -على الإجمال- لكن قال فيه أحمد: في أحاديث زيادة لا أدري أيش هي» اهـ (1).
قلت: قد يتأيد حديث ابن عباس، بحديث رافع بن خديج قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل في قسم الغنائم: عشرًا من الشاء ببعير ..» (2).
2 - اشترط الإمام مالك -رحمه الله- خلافًا للجمهور- فيمن يشترك في البدنة أو البقرة أن يكونوا من بيت واحد!!
وفيه نظر لأن في حديث جابر المتقدم: «نحرنا بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» وقد كانوا أشتاتًا من قبائل شتى، ولو اتفقت قبائلهم لم تتفق بيوتهم، ولو اتفقت لتعذر أن يستكمل عدد كل بيت سبعة حتى لا يزيدوا عليهم ولا ينقصوا عنهم (3).
3 - أجاز الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- أن يشترك بعض السبعة بنية القُربة وبعضهم بنيَّة إرادة اللحم، لأن كل ما جاز أن يشترك فيه السبعة إذا كانو متقربين جاز أن يشتركوا فيه وإن كان بعضهم غير متقرب كالسبعة من الغنم، ولأن سهم كل واحد معتبر بنيته لا بنية غيره، لأنهم لو اختلفت قربهم فجعل بعضهم سهمه عن قران وبعضهم عن تمتع وبعضهم عن حلق وبعضهم عن لباس جاز، كذلك إذا جعل بعضهم سهمه لحمًا، لأن نية غير المتقرب لا تؤثر في نية المتقرب (4).
4 - السِّنُّ المجزئة في الإبل والبقر:
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مُسِنَّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (5).
والمُسنة: هي الثني من كل شيء، من الإبل والبقر والغنم فما فوقها، والثنية
_________
(1) «فقه الأضحية» (ص: 85) الحاشية.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2488).
(3) «الحاوي» للماوردي (19/ 145 - 146)، و «فقه الأضحية» (ص: 89 - 90).
(4) «الحاوي» للماوردي (19/ 145 - 146)، و «فقه الأضحية» (ص: 89 - 90).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1963)، وأبو داود (2797)، والنسائي (7/ 218)، وابن ماجه (3141).

(2/370)


من البقر ما لها سنتان ودخلت في الثالثة، والثنية من الإبل ما لها خمس سنين ودخلت في السادسة، فلا يجزئ ما دون ذلك فيهما» (1).
(جـ) وأما الضأن: فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ضحى بكبشين أملحين ...» (2) وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد، فأتى به ليضحي به، فقال لها: «يا عائشة هلمِّي المُدْية» ثم قال: «اشحذيها بحجر» ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: «بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحَّى به» (3).
وعن عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويُطعمون، حتى تباهى الناس فصارت كما ترى» (4).
عن عبد الله بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبت به أمه زينبُ بنت حميد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله بايعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو صغير» فمسح رأسه ودعا له، وكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله (5).
وقد ذهب إلى أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا: مالك والشافعي وأحمد، وكرهه أبو حنيفة والثوري (!!).
السنُّ المجزئة في الضأن:
تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مُسنَّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (6).
فدل على أنه لا يجزئ في الأضحية ما دون المسنة -والمسنة هي الثنية، والثنية من الضأن: ما له سنة ودخل في الثانية- لكن إذا تعسَّر الثني من الضأن أجزأ الجذع -وهو ما له ستة أشهر- وعلى هذا جماهير أهل العلم لكنهم أجازوا الجذع
_________
(1) «المبسوط» (12/ 9)، و «المدونة» (2/ 2)، و «الحاوي» (19/ 89)، و «المغنى» (9/ 348).
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1967) بغيره.
(4) صحيح: صحيح: أخرجه الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147)، والبيهقي (9/ 268).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (7210)، وأبو داود (2942) مختصرًا، وأحمد (4/ 233).
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1963)، وغيره وقد تقدم.

(2/371)


من الضأن مطلقًا ولو لم يعجز عن المسنة!! وحملوا هذا الحديث على الاستحباب، واستدلوا بجملة أحاديث تفيد جواز الأضحية بجذع الضأن مطلقًا، وأسانيدها ضعيفة، والأظهر أنه لا يجزئ الجذع من الضأن إلا عند العجز عن المسنة لظاهر الحديث وضعف المخالف، والله أعلم (1).
(د) وأما المعز:
فيجزئ منه الثنى فما فوقه، للحديث المتقدم، وأما الجذع من المعز فلا يجزئ في الأضحية بإجماع أهل العلم (2).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاتك شاة لحم» فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنًا جذعة من المعز، قال: «اذبحها ولا تصلح لغيرك» ... الحديث (3).
وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنمًا يُقسِّمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود (4) فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ضَحِّ به أنت» (5) وهذا حمله العلماء على الخصوصية لعقبة بن عامر لقوله «ضحِّ به أنت»، ويؤيده أن في الحديث زيادة عند البيهقي، «.. ولا رخصة فيها لأحد بعدك» (6).
2 - العيوب التي تُردُّ بها الأضحية:
تنقسم العيوب التي تكون في الأضاحي إلى ثلاثة أقسام:
الأول: عيوب تردُّ بها الأضحية، ولا تجزئ معها: وهي أربعة، نصت السنة على عدم إجزائها:
1 - العوراء البيِّن عورها: فإن غطَّى البياض أكثر ناظرها، بحيث بقي أقله لم تجزئ. ولا تجزئ العمياء من باب أولى.
2 - المريضة البيِّن مرضها: فإن كان مرضها خفيفًا أجزأت.
_________
(1) انظر «المبسوط» (12/ 9)، و «المدونة» (2/ 2)، و «الحاوي» (19/ 89)، و «المغنى» (9/ 348).
(2) نقله الترمذي في «السنن» (4/ 194)، وابن عبد البر في «التمهيد» (23/ 185) لكن خالف عطاء والأوزاعي!!
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5556)، ومسلم (1961).
(4) هو الجذع من المعز.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5555)، ومسلم (1965).
(6) انظر: «فتح الباري» (10/ 17)، و «مشكل الآثار» (14/ 416)، و «سنن البيهقي» (9/ 70).

(2/372)


3 - العرجاء البيِّن عرجها: ومقطوعة ومكسورة الأرجل من باب أولى.
4 - الهزيلة التي لا تنقى: أي التي لا مخ لها لضعفها وهزالها.
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة لا يجزين في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقى» (1).
وهذه العيوب تُردُّ بها الأضحية ولا تجزئ باتفاق أهل العلم (2).
الثاني: عيوب تُكره في الأضحية، لكنها تجزئ:
1 - مقطوعة الأذن أو جزء منه: والجمهور على أنها لا تجزئ، وفيه نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حصر عدم الإجزاء في العيوب الأربعة المتقدمة، وإنما قال عليٌّ رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن» (3).
فدلَّ على أنه يُجتنب ما فيه ثقب أو شق أو قطع، وليس فيه عدم الإجزاء.
واختلفوا في السَّكَّاء، وهي التي خلقت بلا أذنين، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أنها إذا لم تكن لها أذن خلقة لم تجز، وإن كانت صغيرة الأذنين جازت (4).
2 - مكسورة القرن أو أكثره: وجمهور العلماء على جواز الأضحية بمكسورة القرن إن كان لا يدمي، فإن كان يدمي، فقد كرهه مالك، وكأنه جعله مرضًا بيِّنًا (5).
قلت: قد ورد في بعض روايات حديث عليٍّ المتقدم النهي عن مكسورة القرن، وهي ضعيفة.
الثالث: عيوب لا أثر لها: لم يصح النهي عنها، لكنها تنافي كمال السلامة، فتجزئ في التضحية ولا تحرم، وإن كان من أهل العلم من لم يجزها، كالهتماء (التي لا أسنان لها) والبتراء (مقطوعة الذنب أو الألية) والجدعاء (مقطوعة الأنف) والخصي وغير ذلك.
_________
(1) صحيح: أخرجه النسائي (7/ 215)، وابن ماجه (3144)، وأحمد (4/ 284).
(2) «التمهيد» (20/ 168)، و «المغنى» (9/ 349)، و «المجموع» (8/ 404).
(3) حسن بطرقه: أخرجه النسائي (7/ 217)، وأحمد (1/ 95) ومواضع، والترمذي (1498)، وأبو داود (284)، وابن ماجه (3142) وغيرهم.
(4) «الاستذكار» (15/ 128)، و «ابن عابدين» (9/ 467)، و «المجموع» (8/ 401).
(5) «الاستذكار» لابن عبد البر (15/ 132).

(2/373)


3 - ما يستحب في الأضحية (صفات الكمال في الأضحية) (1):
(أ) يستحب للتضحية الأسمن والأكمل: حتى إن التضحية بشاة سمينة أفضل من شاتين دونها، لأن المقصود اللحم، والسمين أكثر وأطيب، وكثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم، ومما قد يدل على استحباب الأسمن:
1 - قوله تعالى {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2) فقد استدل به الشافعي -رحمه الله- على استحباب تعظيم الهدى واستسمانه (3).
2 - وعن أبي أمامة بن سهل قال: «كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون» (4).
(ب) الأفضل في الأنعام:
ذهب الجمهور -خلافًا لمالك- إلى أن أفضل الضحايا: الإبل ثم البقر ثم الغنم، واستدلوا بجملة أدلة منها:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن ...» (5).
2 - وحديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها ...» (6).
وقال المالكية: أفضلها الضأن ثم البقر ثم الإبل نظرًا لطيب اللحم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: «ضحَّى بكبشين أملحين ...» (7)، واستدلوا بقوله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (8) قال: أي بكبش عظيم.
_________
(1) «روضة الطالبين» (2/ 465)، و «الحاوي» (19/ 92)، و «المغنى» (9/ 347)، و «المحلى» (7/ 370).
(2) سورة الحج: 32.
(3) «الحاوي» (19/ 94).
(4) إسناده حسن: علَّقه البخاري (10/ 12) بصيغة الجزم، ووصله أبو نعيم في «مستخرجه» كما في «التعليق» (5/ 6).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84).
(7) صحيح: تقدم قريبًا.
(8) سورة الصافات: 107.

(2/374)


قلت: والأول أظهر لكن قد يقال: إن التضحية بشاة أفضل من المشاركة في بدنة والله أعلم.
(جـ) أفضلها البيضاء ثم العفراء ثم السوداء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم «ضحَّى بكبشين أملحين» والأملح: الأبيض الخالص البياض.
قال شيخ الإسلام (26/ 308): «والعفراء أفضل من السوداء، وإذا كان السواد حول عينيها وفمها وفي رجليها أشبهت أضحية النبي صلى الله عليه وسلم» اهـ. قلت: يشير إلى حديث عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد فأتى به ليضحى به ...» الحديث (1).
قال النووي: معناه أن قوائمه وبطنه وحول عينيه أسود، والله أعلم. اهـ.
(د) التضحية بالذكر أفضل من الأنثى، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في أفضل الرقاب: «أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها ..» وقد تقدم.
تقليم الأظفار والأخذ من الشعر لمن أراد أن يضحي:
عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يُضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئًا» (2).
وقد اختلف العلماء فيمن دخلت عليه عشر ذي الحجة وهو يريد أن يضحي (3)، فقال ابن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي: يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يُضحي، لظاهر هذا الحديث.
وذهب مالك والشافعي وأصحابه إلى أن هذا مكروه -كراهة تنزيه- وليس مُحرَّمًا، لحديث عائشة رضي الله عنها: «كنتُ أفتل قلائد بُدن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقلده ويبعث به، ولا يحرم عليه شيء أحلَّه الله حتى ينحر هديه» (4).
قالوا: وأجمعوا على أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب كما يحرمان على المُحرِم، فدلَّ على الاستحباب والندب، دون الحتم والإيجاب.
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1967)، وغيره.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1977)، وغيره وقد تقدم.
(3) «شرح مسلم للنووي» (3/ 138)، و «المغنى» (9/ 346)، و «معالم السنن» (2/ 196) و «فقه الأضحية» (ص: 99).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1698)، ومسلم (1321).

(2/375)


وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك لا يُكره!!
قلت: هو دائر بين التحريم والكراهة، ووجه الأول: أن قص الشعر وما يُفعل نادرًا غير مراد في خبر عائشة وإنما أرادت ما يباشرها به وما يفعله دائمًا من اللباس والطيب ونحوه.
فائدتان (1):
1 - المراد بالنهي عن أخذ الظفر يشمل إزالته بالقلم والكسر ونحوه، والمنع من أخذ الشعر يشمل الحق والتقصير والنتف ونحوه، وسواء في ذلك شعر الإبط والشارب والعانة والرأس غير ذلك من شعور البدن.
2 - الحكمة في النهي: أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبُّه بالمُحرِم، وفيه نظر، لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المُحرِم.
وقت الأُضحية:
أجمع أهل العلم على أن الأضحية لا يجوز ذبحها قبل طلوع الفجر من يوم النحر، واختلفوا فيما بعد ذلك (2).
1 - فقال الشافعي وداود وابن المنذر وآخرون: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإن ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواءً صلى الإمام أم لا، وسواء صلَّى المضحي أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو القرى أو البوادي.
2 - وقال عطاء وأبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب، فإن ذبح قبل ذلك لم يجزه.
3 - وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه.
4 - وقال أحمد: لا يجوز قبل الصلاة، ويجوز بعدها، قبل ذبح الإمام.
_________
(1) «شرح مسلم» للنووي (3/ 138) ط. إحياء التراث العربي.
(2) «الإجماع لابن المنذر» (64)، و «التمهيد» (23/ 162)، و «شرح مسلم» (13/ 110)، و «المحلى» (7/ 374).

(2/376)


قلت: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذبح قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نُسكُه، وأصاب سنة المسلمين» (1).
وعن البراء بن عازب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: «إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل هذا فقد أصاب سنَّتنا، ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله، ليس من النسك في شيء» فقال أبو بريدة: يا رسول الله، ذبحتُ قبل أن أصلين وعندي جذعة خير من مسنة، فقال: «اجعلها مكانها، ولن تجزئ عن أحد بعدك» (2).
والحديثان يدُلاَّن على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة -لمن تقام فيهم صلاة العيد- ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام، فإن الإمام لو لم ينحر لم يكن ذلك مسقطًا على الناس مشروعية النحر، ولو أن الإمام نحو قبل أن يصلي لم يجزئه نحره، فدلَّ عن أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء (3).
وأما حديث جابر قال: «صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم» (4) فقد تأوَّله الجمهور على أن المراد: زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت، وبهذا جاء في باقي الأحاديث التقييد بالصلاة، وأن من ضحى بعدها أجزأه ومن لا فلا.
آخر وقت الأضحية:
اختلف العلماء في آخر وقت للأضحية على نحو الاختلاف الذي تقدم في «كتاب الحج» في أيام النحر، والذي يظهر أن التضحية تمتد إلى آخر أيام التشريق (الثالث عشر من ذي الحجة) وإن كان الأحوط أن تفعل في يوم النحر، للإجماع على إجزائها فيه، والله أعلم.
مكان الذبح والنحر:
يُشرع -بعد صلاة العيد- أن يذبح المضحي أو ينحر في أي مكان شاء، في منزله أو غيره، كما يُشرع أن يذبح في المصلى، كما في حديث جندب بن سفيان
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5546)، ومسلم (1962).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5560)، وقد تقدم.
(3) «الفتح» (10/ 24) بنحوه، وانظر «الأم» (2/ 332).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1964)، وأحمد (3/ 294)، و «المحلى» (7/ 374).

(2/377)


قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعد أن صلى وفرغ من صلاته سلَّم، فإذا هو يرى لحم أضاحي قد ذُبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقال: «من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح بسم الله» (1).
فظاهره أنهم ذبحوا في المصلى.
ويستحب للإمام أن يذبح بالمصلى ليعلموا أن الضحية قد حلَّت، وليتعلموا منه صفة الذبح، فعن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى» (2).
ما ينتفع به من الأضحية:
1 - الأكل منها.
2 - التصدق على الفقراء.
3 - الإدِّخار من لحمها.
قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (3).
وعن سلمة بن الأكوع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء» فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: «كلوا، وأطعموا، وادَّخروا، فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردتُ أن تعينوا فيها» (4).
والأمر بالأكل والإطعام والادخار هنا للندب لا للوجوب -عند الجمهور- فيستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته ويدَّخر ويُطعم، وذهب أكثرهم إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل الثلث هو وأهله، وقد ورد في هذا آثار ضعيفة، وعلى كلٍّ فله أن يقسِّمها كما شاء، ولو تصدَّق بها كلها جاز، فعن عليٍّ «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بُدنْه، وأن يقسم بُدنه كلها لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطى في جزارتها شيئًا» (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1960)، والنسائي (7/ 214).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5552)، وأبو داود (2811)، والنسائي (7/ 213)، وابن ماجه (3161).
(3) سورة الحج: 28.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5569)، ومسلم (1974).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (1717)، ومسلم (1317).

(2/378)


ما لا ينتفع من الأضحية (1):
1 - لا يجوز بيع بشيء منها: لا جلد ولا صوف ولا شعر ولا لحم ولا عظم ولا غير ذلك، وقد ورد من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي، فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها ...» (2) لكنه ضعيف.
لكن الأموال المستحقة في القُرَب لا يجوز للمتقرب بيعها كالزكوات والكفارات، ويدلُّ على هذا أيضًا أنه لا يجوز أن يعطى الجزار أجرته من لحم الأضحية، كما سيأتي.
وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه!! والأظهر عدمه، والله أعلم.
2 - لا يعطى الجزار أجرته من الأضحية: لأنه يصير معاوضًا به، وإنما يعطيه أجرته من ماله، وله أن يتصدق عليه من الأضحية -لا من أجرته- فعن عليٍّ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بُدْنِه، وأن يقسم بُدْنَهُ كلها: لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطى في جزارتها شيئًا» (3) وفي لفظ أنه قال: «نحن نعطيه من عندنا» (4).
وبهذا قال الجماهير من أهل العلم، ولمُ يرخِّص في إعطاء الجزار منها أجرته إلا الحسن البصري وعبد الله بن عبيد بن عمير في إعطائه الجلد.
فوائد (5):
1 - الأضحية أفضل من التصدق بثمنها: وعلى هذا جماهير أهل العلم، لأن الأضحية سنة مؤكدة واختلف في وجوبها -كما تقدم- بخلاف صدقة التطوع، ولأن التضحية شعار ظاهر (6).
_________
(1) «الحاوي» (19/ 119)، و «المغنى» (9/ 356)، و «المحلى» (7/ 385).
(2) ضعيف: أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 15).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1317).
(5) «فقه الأضحية» للأخ محمد العلاوي أثابه الله (ص: 144 - وما بعدها) بانتفاء وتصرُّف.
(6) «التمهيد» (23/ 192)، و «المجموع» (8/ 425)، و «مجموع الفتاوى» (36/ 304).

(2/379)


2 - إذا ضلَّت الأضحية قبل أن يضحي بها فلا يلزمه شيء:
فعن تميم بن حويص قال: اشتريت شاة بمنى أضحية، فضلَّت، فسألت ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال: «لا يضرُّك» (1).
وعن ابن عمر قال: «من أهدى بدنة، ثم ضلَّت أو ماتت، فإن كانت نذرًا أبدلها، وإن كان تطوُّعًا فإن شاء أبدلها وإن شاء تركها» (2).
قلت: ويلحق بهذا لو مرضت أو ماتت قبل التضحية، والله أعلم.
3 - هل تنقل الأضاحي إلى بلد آخر؟
الأصل أن محلَّ التضحية بلد المُضَحِّي، لأن أطماع الفقراء فيه تمتد إليها، ومع هذا فلا مانع من نقلها إلى غيره إذا دعت المصلحة إلى ذلك، ففي حديث جابر بن عبد الله -في لحوم الهدي-. قال: كنا لا نأكل من لحوم بُدْننا فوق ثلاثة بمنى، فرخَّص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلوا، وتزوَّدوا» فأكلنا وتزوَّدنا (3).

العقيقة
تعريف العقيقة (4):
أصل العقِّ: الشق والقطع، وقيل للذبيحة عقيقة لأنه يُشقُّ حلقُها.
ويقال للشعر الذي يخرج على رأس المولود من بطن أمه سواء من الناس أو البهائم.
والعقيقة اصطلاحًا: ما يُذكَّى عن المولود شكرًا لله تعالى بنيةٍ وشرائط مخصوصة.
مشروعيتها وحكمها الشرعي:
العقيقة مشروعية في قول عامة أهل العلم منهم ابن عباس وابن عمر وعائشة، وفقهاء التابعين وأئمة الأمصار، للأدلة الآتية:
1 - حديث سليمان بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى» (5).
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (9/ 289)، وابن حزم (7/ 358).
(2) إسناده صحيح: أخرجه مالك (866)، والبيهقي (9/ 289).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1719)، ومسلم (1972).
(4) «المغنى» (9/ 362)، و «سبل السلام» (4/ 1426)، و «الموسوعة الفقهية» (30/ 276).
(5) صحيح: أخرجه البخاري معلِّقًا مجزومًا به (5472)، وأحمد (4/ 18)، والنسائي (7/ 164)، وأبو داود (2839)، والترمذي (1515).

(2/380)


2 - وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى» (1).
3 - حديث سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهينة بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويُسمَّى» (2).
4 - وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» (3).
5 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا» (4).
وقد ذهب الحسن وداود إلى أن العقيقة واجبة، للأوامر المتقدمة، وذهب الجمهور إلى أنها مستحبة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك ...» فجعلوه صارفًا للأوامر السابقة.
بينما كرهها أبو حنيفة وأصحاب الرأي!! واستدلوا بنحو ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: «لا يحب الله العقوق» كأنه كره الاسم -وقال:- «من ولد له ولد فاحب أن ينسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» (5).
وهو ضعيف، وعلى فرض صحته، فقد قال الحافظ في «الفتح»: «ولا حجة فيه لنفي مشروعيتها، بل آخر الحديث يثبتها، إنما غايته أن يؤخذ أن الأولى أن تسمى نسيكة أو ذبيحة وأن لا تسمى عقيقة ...» اهـ. قلت: قد سمَّاها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث. واستدلوا -كذلك- بما يُروى عن أبي رافع أن الحسن بن علي لما عقيقة ولد أرادت أمُّه فاطمة أن تعقَّ عنه بكبشين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تعقي عنه، ولكن احلقي شعر رأسه ثم تصدَّقي بوزنه من الورق في سبيل الله» ثم ولد حسين بعد ذلك فصنعت مثل ذلك (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه البزار (1236 - زوائد)، والحاكم (4/ 238).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2838)، والنسائي (7/ 166)، والترمذي (1522)، وابن ماجه (3165) وغيرهم.
(3) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 31)، والترمذي (1513)، وابن ماجه (3163) وله شواهد.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (2841)، والنسائي (7/ 166)، وغيرهما وله شواهد كثيرة.
(5) حسن: أخرجه أبو داود (2842)، والنسائي (7/ 162)، وأحمد (2/ 194)، والبيهقي (9/ 300).
(6) ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 392)، والطبراني في «الكبير» (1/ 917)، والبيهقي (9/ 304).

(2/381)


وهو حديث ضعيف كذلك، فلم يبق لمن كرهها حجة، وقد استفاضت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على العقيقة والتحريض على فعلها، وفعلها صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين.
من الذي يُطالَبُ بالعقيقة؟ (1)
تُطلب العقيقة من الأب -أو من تلزمه نفقة المولود- فيؤديها من مال نفسه لا من مال المولود، ولا يفعلها غيره إلا بإذنه.
ولا يؤثر في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين، لاحتمال أن نفقتهما كانت عليه لا على والديهما، ولأنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقد رُوى مرفوعًا «كل بني أم ينتمون إلى عصبة، إلا ولد فاطمة رضي الله عنهما، فأنا وليُّهم، وأنا عصبتهم» وفي لفظ: «وأنا أبوهم» (2) وهو ضعيف.
وقد اشترط الشافعية فيمن يطالب بها أن يكون موسرًا، وذلك بأن يقدر عليها وتكون فاضلة عن مؤنته ومؤنة من تلزمه نفقته.
وصرَّح الحنابلة بأنها تُسنُّ في حق الأب وإن كان معسرًا، ويقترض إن كان يستطيع الوفاء، قال الإمام أحمد: «إذا لم يكن مالكًا ما يعق فاستقرض، أرجو أن يُخلف الله عليه، لأنه أحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» اهـ.
ما يجزئ في العقيقة:
تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة» (3) وهو قول أكثر أهل العلم منهم ابن عباس وعائشة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور (4).
وقال بعض أهل العلم: تجزئ شاة عن الغلام، وشاة عن الجارية، وبه قال ابن عمر.
ويستدل له بحديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا» (5).
_________
(1) «سبل السلام» (4/ 1429)، و «الموسوعة» (30/ 277).
(2) ضعيف: أخرجه أبو يعلى (6741)، والطبراني (3/ 44) وغيرهما وانظر «المجمع» (4/ 224 - 9/ 173).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) «المغنى» (9/ 363)، و «الموسوعة» (30/ 279).
(5) صحيح: تقدم قريبًا.

(2/382)


وهل تجزئ بغير الغنم؟
عن ابن أبي مليكة، قال: نفس لعبد الرحمن بن أبي بكر غلام، فقيل لعائشة: يا أم المؤمنين، عُقِّي عنه جزورًا، فقالت: «معاذ الله، ولكن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاتان مكافئتان» (1).
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن الإطلاق في قوله صلى الله عليه وسلم: «أهريقوا عنه دمًا» مُقيَّد بنحو قوله صلى الله عليه وسلم: «عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة» فقالوا: لا يجزئ غير الغنم، ولا يقوم مقامها الإبل والبقر.
ينبغي أن تكون خالية من العيوب: التي لا يصح بها القربان من الأضاحي وغيرها، وقال ابن حزم في «المحلى»: «ويجزئ فيها المعيب سواء كان مما يجوز في الأضاحي أو كان مما لا يجوز فيها والسالم أفضل» اهـ.
قلت: يكفي قوله تعالى {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا» (3).
من أحكام العقيقة (4):
1 - وقتها: السُّنة أن يُعقَّ عن المولود يوم السابع، لحديث سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الغلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى» (5) فإن فات يوم السابع، ففي أربع عشرة فإن فات ففي إحدى وعشرين، وبهذا قال الحنابلة -وهو قول ضعيف عند المالكية- وبه قال إسحاق، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها. وإن ذبح قبل ذلك أو بعد أجزأه، لأن المقصود يحصل به.
وقد نصَّ الشافعية على أن العقيقة لا تفوت بتأخيرها، لكن يستحب ألا تؤخر عن سنِّ البلوغ، فإن أُخرت حتى يبلغ سقط حكمها في حق غير المولود، وهو مخيَّر في العقيقة عن نفسه (6).
2 - العقيقة أفضل من التصدق بثمنها: لأن نفس الذبح وإراقة الدماء مقصود،
_________
(1) حسن: أخرجه الطحاوي في «المشكل» (1/ 457)، والبيهقي (9/ 301).
(2) سورة البقرة: 267.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1015)، وغيره.
(4) انظر «أحكام الطفل» لشيخي أحمد العيسوي -رفع الله قدره- (ص: 172 - وما بعدها) ط. الهجرة وما سأذكره من مراجع.
(5) صحيح: تقدم قريبًا.
(6) «المغنى» (9/ 364 - الفكر)، و «الموسوعة» (30/ 278).

(2/383)


فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1) ثم إن الذبح هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وسنته لا ينبغي أن نحيد عنها.
3 - لا يصح الاشتراك في العقيقة: فلا يجزئ الرأس إلا عن رأس، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دمًا ...» (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل غلام رهينة بعقيقته ...» (3) فجعل مع كل غلام عقيقة مستقلة به، ولم يشرع الاشتراك فيها كما شرع في الهدايا والأضاحي.
4 - لم يصحَّ في المنع من كسر عظام العقيقة، ولا في كراهة ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصحَّ كذلك الأمر بإرسال الرِّجل إلى القابلة.
5 - لا يُمسُّ المولود بشيء من دم العقيقة: فهذه عادة جاهلية نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم (4) واستبدل بها حلق رأسه والتصدق بوزن شعره فضة:
فعن بريدة رضي الله عنه قال: «كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران» (5) وعن عائشة - في حديث العقيقة- قالت: «وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة، ويجعلونه على رأس الصبي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكان الدم خلوقًا» (6).
6 - يستحب طبخها دون إخراج لحمها نيئًا: حتى يكفي المساكين والجيران مؤنة الطبخ وهو زيادة في الإحسان وفي شكر هذه النعمة، ودليل على مكارم الأخلاق والجود.

الأشربة
التعريف:
الأشربة جمع شراب، والشراب: اسم لما يُشرب من أي نوع كان، ماء أو غيره، وعلى أي حال كان، وكل شيء لا مضغ فيه فإنه يقال فيه: يُشرب (7).
_________
(1) سورة الكوثر: 2.
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) انظر كتابي «250 خطأ من أخطاء النساء» (ص: 11).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2843)، والطحاوي في «المشكل» (1/ 460)، والحاكم (4/ 238).
(6) صحيح: أخرجه ابن حبان (1057)، والبيهقي (9/ 303).
(7) «لسان العرب»، و «مختار الصحاح» مادة (شرب).

(2/384)


الأصل في الأشربة الحِلُّ، إلا ما ورد النص بتحريمه:
لعموم الأدلة المتقدمة -في الأطعمة- التي تثبت أصالة الحِلِّ، ولحديث أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: «لقد سقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القدح الشراب كلَّه: الماء، والنبيذ، والعسل واللبن» (1).
الخمر بأنواعها حرام: وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع:
1 - قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (2).
وقد أُكد تحريم الخمر -في الآيتين- بوجوه من التأكيد منها:
(أ) تصدير الجملة بـ «إنما».
(ب) أنه سبحانه وتعالى قرنها بعبادة الأصنام.
(جـ) أنه جعلها رجسًا.
(د) أنه جعلها من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت.
(هـ) أنه أمر باجتنابها.
(و) أنه جعل الاجتناب من الفلاح، فيكون الارتكاب خيبة وممحقة.
(ز) أنه ذكر ما ينتج منها من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر، وما تودي إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة.
(ح) وقوله تعالى {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} من أبلغ ما يُنهى به، كأنه قيل: قد تُلي عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون، أم أنتم على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟! (3).
2 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» (4).
كلُّ مسكر خمر:
ذهب جماهير العلماء، منهم: أهل المدينة وسائر الحجازيين، وأهل الحديث،
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2008)، والترمذي في «الشمائل» (1/ 294).
(2) سورة المائدة: 90، 91.
(3) «تفسير القرطبي» (6/ 285 - الكتب)، و «الطبري» (7/ 31)، و «الألوسي» (7/ 15).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3674)، والترمذي (1295)، وابن ماجه (3380).

(2/385)


والحنابلة، وبعض الشافعية إلى أن كل ما أسكر فهو خمر حقيقة، سواء اتخذ من العنب أو التمر أو الحنطة أو الشعير أو غيرها (1).
1 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قالوا: وما طينة الخبال؟ قال: «عصارة أهل النار» (2) وفي لفظ عند مسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام».
2 - وعن عمر قال: «أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل» (3).
3 - ولأن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة -وهم أهل اللسان- أن كل شيء يسمى خمرًا يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب، بل إن الخمر إنما حرمت بالمدينة، وما بها عنب (!!) وما كان شرابهم إلا البسر والتمر. على أن الخمر إنما سميت خمرًا لأنها تخمر العقل وتغيِّبه وتستره فعمت كلَّ مسكر.
وذهب أكثر الشافعية، وصاحبا أبي حنيفة وبعض المالكية إلى أن الخمر هي المسكر من عصير العنب إذا اشتد، سواء أقذف بالزبد أم لا.
فائدتان:
1 - إذا أسكر الكثير، فالقليل حرام: وعلى هذا جماهير أهل العلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل ما أسكر حرام، وما أسكر الفرق، فملء الكف منه حرام» (4).
تنبيه: جمهور الشافعية الذين ذهبوا إلى أن الخمر من عصير العنب لا يخالفون الجمهور في أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، والاختلاف في الإطلاق بين الجمهور وأكثر الشافعية، لم يغيِّر الأحكام من جوب الحد عند شرب قليله، والنجاسة، وغير ذلك مما يتعلق بالخمر، ما عدا مسألة تكفير مستحلِّ الخمر، فلا يكفر منكر حكمه للاختلاف فيه.
_________
(1) «ابن عابدين» (5/ 288)، و «المدونة» (6/ 261)، و «الدسوقي» (4/ 353)، و «الروضة» (10/ 168)، و «المغنى» (9/ 159).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2002)، والنسائي (8/ 327)، وأحمد (3/ 361).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5581)، ومسلم (3032).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3687)، والترمذي (1928).

(2/386)


وأما الحنفية، فالأنبذة من غير العنب عندهم لا يُحدُّ شاربها إلا إذا سكر منها!! والحديث حجة عليهم.
2 - كلُّ ما غيَّب العقل فهو خمر:
لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «.. والخمر ما خامر العقل» (1).
ويدخل في هذا الحشيشة والأفيون والهيروين والبانجو ونحوها من المخدرات وهي حرام بإجماع الفقهاء لحديث أم سلمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومُفتِّر» (2).
قال شيخ الإسلام: «هذه الحشيشة الصلبة حرام، وهي مسكرة يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمرة توجب الحركة والخصومة، وهذه الحشيشة توجب الفتور والذلة».
ثم قال -رحمه الله-: «.. ومن استحلها وزعم أنها حلال فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل مرتدًّا، فإن كل ما يصيب العقل فهو حرام بإجماع المسلمين» اهـ (3).
شرب الخمر للمضطر (4):
ما سبق من تحريم الخمر إنما هو في الأحوال العادية، أما عند الاضطرار فيرخَّص شرعًا تناول الخمر، لكن بمعياره الشرعي الذي تُباح به المحرمات، كضرورة العطش الذي يخشى معه الهلاك أو الغصص أو الإكراه، فيتناول المضطر بقدر ما تندفع به الضرورة، قال الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (5).
فأسقط الله تعالى تحريم ما فصل تحريمه عند الضرورة، فعمَّ ولم يخصَّ فلا يجوز تخصيص ذلك.
وقد منع المالكية -وهو الأصحُّ عن الشافعية- شربها لدفع العطش، قالوا:
_________
(1) صحيح: تقدم قريبًا.
(2) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3686)، وأحمد (6/ 254).
(3) «مجموع الفتاوى»، وانظر: «ابن عابدين» (6/ 457)، و «سبل السلام» (4/ 1322)، و «الزواجر» للهيثمي (1/ 172).
(4) «المحلى» (7/ 426)، و «فتح القدير» (9/ 28)، و «الدسوقي» (4/ 353)، و «مغنى المحتاج» (4/ 188)، و «كشاف القناع» (9/ 117).
(5) سورة الأنعام: 119.

(2/387)


لأنها لا تزيل العطش، بل تزيده حرارة لحرارتها ويبوستها، وأجيب: بأنه قد صحَّ أن كثيرًا من المدمنين عليها من الكفار والخلاع لا يشربون الماء أصلاً مع شربهم الخمر، وعلى كلٍّ فالآية عامة كما تقدم ولا يجوز تخصيص الخمر بالمنع عند خوف الهلاك، لكن هذا موقوف على دفع العطش بها، وإلا لم يجز كما قرره شيخ الإسلام (1).
لا يجوز تملُّك الخمر ولا تمليكها:
يحرم على المسلم تملُّك أو تمليك الخمر بأي سبب من أسباب الملك الاختيارية أو الإرادية، كالبيع والشراء والهبة ونحو ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها» (2).
وعن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» (3).
ضمان إتلاف الخمر (4):
اتفق الفقهاء على أن الخمر إن كانت لمسلم فلا يضمن متلفها، واختلفوا في ضمان من أتلف خمرًا لذمي، فقال الحنفية والمالكية: يضمنها!!، وقال الشافعية والحنابلة: لا يضمنها لانتفاء تقوُّمها كسائر النجاسات.
الخمر تصير خلاًّ:
1 - إذا تخللت الخمر بنفسها: بغير قصد التخليل، فإن هذا الخلَّ يحلُّ بلا خلاف بين الفقهاء (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: «نِعْم الإدام الخل» (6).
ويُعرف التخلل بالتغيُّر من المرارة إلى الحموضة.
_________
(1) انظر «مجموع الفتاوى» (14/ 471).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1579)، والنسائي (4664)، والدارمي (2103).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581).
(4) «ابن عابدين» (5/ 292)، و «مواهب الجليل» (5/ 280)، و «الشرح الكبير» (5/ 376 - مع المغنى)، و «نهاية المحتاج» (5/ 165).
(5) «المحلى» (1/ 117 - 7/ 433)، و «الموسوعة» (5/ 27).
(6) صحيح: أخرجه مسلم (2051)، والترمذي (1839)، والنسائي (3796)، وأبو داود (3820).

(2/388)


2 - إذا خُللَّت الخمر بوضع شيء فيها: كالخل والبصل والملح، أو إيقاد نار عندها، فاختلف أهل العلم في حكمها على قولين (1):
الأول: لا يجوز تخليلها، ولا يحل هذا الخل: وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مذهب الشافعية والحنابلة ورواية عن مالك، وحجتهم:
1 - أن التخليل يعتبر اقترابًا من الخمر على وجه التمول، وهو مخالف للأمر بالاجتناب في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2).
2 - حديث أنس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر تُتَّخذ خلاًّ، فقال: «لا» (3).
وفي لفظ: أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرًا؟ قال: «أهرقها» قال: أفلا نجعلها خلاًّ؟ قال: «لا» (4).
وهذا النهي يقتضي التحريم، ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز إراقتها، ولكان أرشدهم إليه خصوصًا وأنها لأيتام يحرم التفريط في أموالهم. فقال: أمرته أن يبيعها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي حرم شربها حرَّم بيعها» ففتح الرجل المزادتين حتى ذهب ما فيهما» (5).
3 - عن ابن عباس قال: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الله حرمها؟» فقال: لا. فساره رجل إلى جنبه، فقال: «بمَ ساررتَه؟».
4 - عن عمر رضي الله عنه أنه صعد المنبر فقال: «لا تأكل خلاًّ من خمرٍ أُفسدت، حتى يبدأ الله تعالى إفسادها، وذلك حين طاب الخل، ولا بأس على امرئ أصاب خلاًّ من أهل الكتاب أن يبتاعه ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها» (6).
وهذا قول يشتهر بين الناس، لأنه إعلان للحكم بين الناس على المنبر، فلم ينكر أحد.
الثاني: يجوز تخليلها، ويحلُّ الخلُّ: وهو مذهب الحنفية والراجح عند المالكية وهو قول أبي محمد بن حزم، وحجتهم:
_________
(1) «المحلى» (7/ 433)، و «البدائع» (5/ 114)، و «القوانين الفقهية» (34)، و «المغنى» (9/ 145)، و «نيل الأوطار» (8/ 214).
(2) سورة المائدة: 90.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1983)، وغيره.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3675)، وأحمد (3/ 119).
(5) صحيح: تقدم قريبًا.
(6) أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (ص: 104).

(2/389)


1 - أنه إصلاح، والإصلاح مباح قياسًا على دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره.
2 - ما يُروى مرفوعًا -في جلد الشاة الميتة-: «إن دباغها يحله كما يحل خل الخمر» (1) وهو ضعيف.
3 - ما يُروى مرفوعًا: «خير خلِّكم، خلُّ خمركم» (2)!! وهو ضعيف.
4 - لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «نعم الإدام الخل» (3) فلم يفرق بين التخلل بنفسه والتخليل.
5 - لأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح، لأنه يشبه إراقة الخمر.
الراجح:
الذي يظهر أن أدلَّة الأوَّلين أقوى فيحرُم تخليل الخمر، لكن إذا أهدى إلى إنسان خلٌّ مصنوع فلا حرج في أكله لزوال الوصف المفسد، ومع هذا فلا يجوز له شراؤه لأن فيه إعانة على الإثم، وقد قال سبحانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (4).
وأما ما تخلل بنفسه فلا حرج في شرائه أو أكله كما تقدم والله أعلم.
لا يجوز التَّداوي بالخمر (5):
ذهب جمهور العلماء إلى تحريم التداوي بالخمر (أي المسكرات) بل: يُحدُّ من شربها لدواء عندهم، ويؤيد التحريم ما يأتي:
1 - حديث طارق بن سويد الجعفي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر؟ فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» (6).
قال شيخ الإسلام (7): «فهذا نص في المنع من التداوي بالخمر، ردًّا على من أباحه، وسائر المحرمات مثلها قياسًا، خلافًا لمن فرَّق بينهما» اهـ.
_________
(1) ضعيف: أخرجه الدارقطني (4/ 266).
(2) ضعيف: أخرجه البيهقي في «المعرفة»، وانظر: «نصب الراية» (4/ 311).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) سورة المائدة: 2.
(5) «البدائع» (6/ 2935)، و «الدسوقي» (4/ 352)، و «مغنى المحتاج» (4/ 188)، و «كشاف القناع» (6/ 116)، وانظر: «التداوي بالمحرمات» لشيخنا ساعد بن عمر غازي، رفع الله قدره.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1984).
(7) «مجموع الفتاوى» (21/ 568)، وانظر: «مختصر الفتاوى المصرية» (ص: 490).

(2/390)


قلت: فكيف يعقل لطبيب مسلم علام بشرعه أن يصف دواءً، وصفه نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه داء؟!
2 - وعن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث» (1).
3 - وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تداووا بحرام» (2).
فهذه الأدلة تدل على تحريم التداوي بالأدوية المحرمة عامة، وبالخمر خاصة.
فإن قيل: لماذا لم تُعمل قاعدة: «الضرورات تبيح المحظورات» نقول: لأمرين:
1 - أن التداوي لا يدخل في باب الضرورات على الراجح: فليس التداوي بواجب عند جماهير الأئمة، حتى قال شيخ الإسلام (3): «ولست أعلم سالفًا أوجب التداوي» اهـ.
ومما يدل على هذا حديث ابن عباس، في المرأة السوداء التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع، فادعُ الله لي، قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوتُ الله أن يعافيك ...» الحديث (4) ولو كان دفع المرض واجبًا لم يكن للتخيير موضع. «ولا يخالف هذا الأمر بالتداوي، فالجمع ممكن بأن التفويض (ترك التداوي) أفضل مع الاقتدار على الصبر، وأما مع عدم الصبر على المرض وصدور الحرج، فالتداوي أفضل لأن أفضلية التفويض قد ذهبت بعدم الصبر» اهـ (5).
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على تحريم التداوي بالمحرم، كما تقدم، والله أعلم.
تنبيه: البنج ونحوه مما يُغيِّب العقل -إذا لم يوجد ما يقوم مقامه- يجوز استعماله عند الضرورة الملجئة في العمليات الجراحية (6).
حكم الخليطين من الأشربة (7):
لا يجوز خلط شيئين مما يقبل الانتباذ (النقع) في الماء، كالبُسر والرطب،
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3870)، وابن ماجه (3459)، وأحمد (2/ 446).
(2) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (3874)، والبيهقي (10/ 5)، وانظر «الصحيحة» (1633).
(3) «مجموع الفتاوى» (21/ 564).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5652)، ومسلم (2265).
(5) «الدراري المضية» للشوكاني (ص: 393).
(6) أشار إلى نحو هذا الحافظ في «الفتح» (10/ 80)، والنووي في «المجموع» (3/ 8).
(7) المنتقى للباجي (3/ 149)، و «مغنى المحتاج» (4/ 187)، و «كشاف القناع» (6/ 96)، و «المحلى» (7/ 508)، و «نيل الأوطار» (8/ 211).

(2/391)


والتمر والزبيب، ولو لم يشتدَّا، لحديث أبي قتادة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة» (1).
وعن جابر بن عبد الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر» (2).
ووجه النهي عن انتباذ الخليطين أن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط قبل أن يتغير، فيظن الشارب أنه ليس بمسكر، ويكون مسكرًا، فنهى عنه سدًّا للذريعة.
وقد ذهب إلى تحريم الخليطين -وإن لم يكن مسكرًا- مالك، وهو ظاهر كلام أحمد والشافعي، وبه قال إسحاق وابن حزم (لكنه خصَّه بالأنواع المذكورة دون غيرها).
وذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة إلى أنه يكره ما لم يصل إلى حدِّ الإسكار فيحرُم حينئذ، وأوَّل الحنابلة قول أحمد -رحمه الله-: «الخليطان حرام» بأن مراده: إذا اشتد وأسكر.
وأما أبو حنيفة -رحمه الله- فقال: لا بأس بالخليطين ما لم يصل إلى حدِّ الإسكار!! لأن كلاًّ منهما يحل منفردًا فلا يُكره مجتمعًا (!!) واستُدلَّ له بما يُروى عن عائشة قالت: «كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنطرحها، ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة، فيشربه عشية، وننبذه عشية فيشربه غدوة» (3) وهو ضعيف لا يحتج به.
قلت: النهي يقتضي التحريم ما لم يصرفه صارف، ثم إن من المعلوم أنه إذا وُجد الإسكار حَرُم الشراب سواء كان من خليطين أو من نوع واحد مستقلٍّ!!
النبيذ من صنف واحد (4):
النبيذ هو: ما يلقى من التمر أو الزبيب أو نحوهما في الماء حتى يحلو ويكسبه طعمه، ثم يشرب.
وهو مباح إذا كانت مدة الانتباذ قريبة أو يسيرة بحيث لم يشتد ولم يصر مسكرًا، وحدَّ الحنابلة هذه المدة بيوم وليلة (!!) وأما المالكية والشافعية فلم يعتبروا
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5173)، ومسلم (1987).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1986).
(3) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3398).
(4) «المدونة» (6/ 263)، و «روضة الطالبين» (10/ 168)، و «المغنى» (8/ 317 - 319)، و «فتح الباري» (10/ 57).

(2/392)


المدة وإنما اعتبروا الإسكار، قلت: وهو الأقرب، فعن جارية حبشية قالت: «كنت أنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم في سقاء من الليل وأوكيه وأعلقه، فإذا أصبح شرب منه» (1).
وعن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد، والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقاه الخادم، أو أمر به فصُبَّ» (2).
أي: إن كان بدا في طعمه بعض التغيير ولم يشتد سقاه الخادم، وإن اشتد أمر بإهراقه.
شرب الدُّخان (التدخين):
عندما ظهر (التبغ) واستعمله بعض الناس، وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة، اختلف الفقهاء في حكمه، فمنهم من قال بحرمته، ومنهم من كرهه ومنهم من أباحه!!
وخلاصة القول فيه أن التدخين حرام، لأن كل علل التحريم متوفرة فيه وهي:
1 - كونه يحدث تفتيرًا وخَدَرًا في الجسم، وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومُفتِّر» (3).
2 - كونها من الخبائث لاسيما وأن هذه العُشبة (التنباك) تُبَل بالخمر ولابد (!!) ولا يتصور عاقل أن «الدخان» من الطيبات، وقد قال تعالى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (4).
3 - أن هذا الدخان قد ثبت ضرره على بدن الإنسان لما فيه من المواد السامة المهلكة كالنيكوتين والقطران وغيرهما مما يتسبب في سرطان الرئة والحنجرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (5). وقال سحبانه {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (6) ولا فرق في حرمة المُضرِّ بين كل ضرره دفعيًّا -أي: يحصل دفعة واحدة- أو تدريجيًّا.
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2005).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2004).
(3) ضعيف: تقدم قريبًا.
(4) سورة الأعراف: 157.
(5) حسن: تقدم كثيرًا.
(6) سورة النساء: 29.

(2/393)


4 - أن فيه إسرافًا وإضاعة للمال، وقد «كره النبي صلى الله عليه وسلم إضاعة المال» (1) ولا فرق في إضاعة المال بين إلقائه في البحر أو إحراقه في النار.
فائدة: التدخين يُعجِّل في سن اليأس للمرأة (2):
فقد نشرت مجلة «لافست» الطبية مقالاً عن الدخان جاء فيه: «لقد توصلت دراسة أمريكية حديثة إلى نفس النتيجة التي توصل إليها العلماء في بريطانيا، وهي أن المدخنات من النساء عرضة لبلوغ سن اليأس في وقت مبكر، والتجارب الأمريكية على (3500) امرأة في منتصف العمر أكدت هذه النتيجة» اهـ.
آداب الشرب:
1 - التسمية قبل الشرب.
2 - الشرب باليمين: وقد تقدم الدليل عليهما في آداب الطعام.
3 - أن يشرب جالسًا، ويجوز قائمًا:
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشربنَّ أحدكم قائمًا، فمن نسي فليستقيء» (3).
والنهي محمول على كراهة التنزيه، فقد ثبت عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم من دلو منها وهو قائم» (4).
4 - أن يشرب على ثلاث مرات، يتنفس بينها خارج الإناء:
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفَّس بنفسين أو ثلاثة يفصل فاه عن الإناء ويقول: «إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ» (5).
5 - أن لا يتنفس أو ينفخ في الإناء:
فعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفَّس في الإناء» (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (1715).
(2) «الأشربة وأحكامها في الشريعة الإسلام» د. ماجد أبو رخية، عن «المفصل» (3/ 71).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (3775).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5617)، ومسلم (2027).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5631)، ومسلم (3782) واللفظ له.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (153)، ومسلم (267).

(2/394)


وعن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه» (1).
6 - أن لا يشرب من فم القربة أو الزجاجة ونحوها:
فعن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب من فيِّ السِّقاء» (2).
لأن الماء يتدفق وينصبُّ في حلقه دفعة واحدة، وهو يورث الكباد، ويضر بالمعدة، ولا يتميَّز في دفق الماء وانصبابه القذاة ونحوها (3).
7 - البدء بالأيمن فالأيمن عند سقاية القوم:
عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي، وقال: «الأيمن فالأيمن» (4).
وعن سهل بن سعد، قال: «أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: «يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟» قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه» (5).
8 - أن يكون ساقي القوم آخرهم شربًا:
لحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الساقي آخرهم شربًا» (6).
9 - حمد الله بعد الفراغ من الشرب:
لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يشرب الشربة فيحمده عليها» (7).

الآنية وما يتعلَّق بها
1 - الأصل في الآنية أنه يحل استعمالها إلا ما ورد النص بتحريمه: لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (8).
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3728)، والترمذي (1889)، وابن ماجه (3429).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5627).
(3) «الروضة الندية» (2/ 210).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (2352)، ومسلم (2029).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2351)، ومسلم (2030).
(6) صحيح: أخرجه مسلم (681).
(7) صحيح: أخرجه مسلم (2734)، والترمذي (1816).
(8) سورة البقرة: 29.

(2/395)


2 - لا يجوز الأكل أو الشرب في آنية الذهب أو الفضة:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر (2) في بطنه نار جهنم» (3).
3 - آنية الكفار إذا لم يوجد غيرها، تُغسل ويؤكل فيها:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة الخشني: «... أما ما ذكرت من أنك بأرض قوم أهل كتاب تأكل في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها ...» (4).
4 - يستحب تغطية الآنية وإيكاء القِرَب ونحوها والتسمية عليها قبل النوم:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأوكوا قربكم، واذكر اسم الله، وخمِّروا آنيتكم، واذكروا اسم الله، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد، فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة، فأحرقت أهل البيت» (5).
_________
(1) البخاري (5633)، ومسلم (2067).
(2) الجرجرة: صوت الماء في الجوف.
(3) البخاري (5634)، ومسلم (2065).
(4) البخاري (5488)، ومسلم (1930).
(5) البخاري (6295)، ومسلم (2012)، وأبو داود (5103).

(2/396)


صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة
تأليف أبي مالك كمال بن السيد سالم
الجزء الثالث
الطبعة الثانية عشر

(3/1)


9 - كتاب اللباس والزينة وأحكام النظر

(3/3)


أولًا: اللباس والزينة للرجال
* وجوب ستر العورة:
العورة لغة: كل خلل يتخوف منه من ثغر أو حرب، والعورة كل مكمن للستر، وعورة الرجل والمرأة: سوأتهما (1).
والعورة اصطلاحًا: "كل ما حرَّم الله تعالى كشفه أمام من لا يحل النظر إليه" (2).
وقد أوجب الشرع حفظ العورات وسترها عمن لا يحل له النظر إليها:
1 - قال الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (3).
وقد كان العرب في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية، وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا يطوف بالبيت عريان" (4).
قال القرطبي -رحمه الله-: والخطاب في الآية لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانًا، فإنه عام في كل مسجد للصلاة، لأن العبرة للعموم لا للسبب. اهـ (5).
2 - ونهى الله تعالى الناس عن كشف عورتهم وسماه فتنة، قال تعالى: {يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ...} (6).
3 - ولأهمية ستر العورة ومكانتها في الإسلام فقد لازم الشارع بينها وبين التقوى، فقال سبحانه: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير} (7).
4 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يارسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك" قلت:
_________
(1) «لسان العرب» (4/ 416) ط. دار صادر.
(2) «نهاية المحتاج» (2/ 5)، و «تفسير القرطبي» (7/ 182) ط. الكتاب العربي.
(3) سورة الأعراف: 31.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (369)، ومسلم (1347).
(5) «الجامع لأحكام القرآن» (7/ 189) ط. دار الكتاب العربي.
(6) سورة الأعراف: 27.
(7) سورة الأعراف: 26.

(3/5)


يارسول الله، فالرجل يكون مع
الرجل؟ قال: "إن استطعت أن لايراها أحد فافعل" قلت: الرجل يكون خاليا؟ قال: فالله أحق أن يُستحيا منه من الناس" (1).
5 - عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضى الرجل إلى الرجل فى الثوب الواحد" (2).
6 - بالإضافة إلى الأدلة الكثيرة المتضافرة في وجوب غض البصر وتحريم النظر إلى العورات، ووجوب الاستئذان ونحو ذلك مما سيأتي في موضعه، إن شاء الله.
* حدود عورة الرجل:
لا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس -إلا ما استثناه الدليل- ولكن ما هو حد العورة بالنسبة للرجل؟ للعلماء في هذا أقوال، يمكن تلخيصها في قولين:
الأول: عورة الرجل ما بين السرة والركبة (3): وهو مذهب الجمهور من المذاهب الأربعة وغيرهم، على اختلاف بينهم في دخول السرة والركبة في العورة، واستدلوا بما يلي:
1 - ما علَّقه البخاري -بصيغة التمريض- عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" (4).
وفي أسانيدها جميعًا ضعف، لكن يقوي بعضها بعضًا، قال العلامة الألباني رحمه الله: "لأنه ليس فيها متهم، بل عللها تدور بين الاضطراب والجهالة، والضعف المحتمل، فمثلها مما يطمئن القلب لصحة الحديث المروي بها .... " اهـ.
_________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (7/ 40)، والترمذي (2769)، وابن ماجة (1920).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (338)، والترمذي (2793)، وأبو داود (4018).
(3) «الخرشي» (1/ 246)، و «الكافي» لابن عبد البر (1/ 238)، و «المجموع» (3/ 168)، و «الفروع» (1/ 329).
(4) أما حديث ابن عباس: فأخرجه الترمذي (2798)، والحاكم (4/ 200)، والبيهقي (2/ 228)، والطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 474)، وأما حديث جرهد فأخرجه الترمذي (2795)، وأبو داود (4014)، وأحمد (3/ 478)، وابن حبان (1710)، والحاكم والبيهقي في الموضع المشار إليها والدارقطني (1/ 224)، وأما حديث محمد بن جحش فأخرجه أحمد (5/ 290)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (929)، والطبراني (19/ 246)، والحاكم (3/ 738)، والبيهقي (2/ 228)، والطحاوي (1/ 474)، وأسانيدها جميعًا ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضًا، والله أعلم.

(3/6)


2 - ما رُوي عن علي رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" (1) وهو ضعيف جدًا.
3 - ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فإن ما تحت السرة إلى ركبته من العورة" (2).
4 - وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: "أقبلت بحجر ثقيل أحمله، وعليَّ إزار خفيف، فانحلَّ إزاري ومعي الحجر لم أستطع وضعه حتى بلغتُ به إلى موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى ثوبك فَخُذْهُ، ولا تمشوا عراة" (3).
الثاني: العورة هي القُبُل والدُّبر فقط: وهو رواية أخرى عن أحمد، ورواية في مذهب مالك، وبه قال الظاهرية (4)، واستدلوا على أن الفخذ ليس بعورة بما يلي:
1 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، فصلينا عندها صلاة الغداة بغَلَس، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبى طلحة، فأجرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى زقاق خيبر، وإن ركبتى لتمس فخذ النبى -صلى الله عليه وسلم-، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إنى أنظر إلى فخذ النبى صلى الله عليه وسلم" (5).
قال ابن حزم (6): "فصحَّ أن الفخذ ليست عورة، ولو كانت عورة لما كشفها الله عزوجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المطهر المعصوم من الناس في حال النبوة والرسالة، ولا أراها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى قد عصمه من كشف العورة في حال الصبا وقبل النبوة".
وأجيب: بأن هذا محمول على أن الإزار انحسر بنفسه، لا بفعله صلى الله عليه وسلم، ولا أنه تعمده، ويدل عليه رواية "الصحيحين": "فانحسر الإزار".
2 - حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسًا كاشفًا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله، ثم
_________
(1) ضعيف جدًّا: أخرجه أبو داود (3140، 4015)، وابن ماجة (2/ 228)، والبيهقي (2/ 228)، وانظر «الإرواء» (269).
(2) حسَّنه الألباني: أخرجه أحمد (2/ 187)، والدارقطني (1/ 230)، وانظر «الإرواء» (271).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (341)، وأبو داود (4016).
(4) «كتاب الروايتين والوجهين» للقاضي (1/ 94)، و «المحلي» (3/ 272)، و «نيل الأوطار» (2).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (371)، ومسلم (1365).
(6) «المحلي» (3/ 272).

(3/7)


استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوَّى ثيابه، وقال: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟! " (1).
وأجيب: بأنها واقعة عين وحكاية حال لا تنتهض على معارضة الأحاديث المتقدمة العامة لجميع الرجال!! وكذلك فقد وقع تردد في رواية "مسلم" بين الفخذ والساق، ففي بعض ألفاظه: "كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه"!! والساق ليس بعورة إجماعًا.
3 - حديث جابر قال: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على وركه من وثء (2) كان به" (3).
وأجيب: بأن كشف النبي صلى الله عليه وسلم وركه للحجام لا يدل على أنه ليس بعورة، لأنه كشف اقتضته ضرورة المعالجة، وهو جائز اتفاقًا.
* الراجح:
قلت: الذي يظهر أن أدلة الجمهور -القولية- يُعضِّد بعضها بعضًا وترتقي إلى درجة الحجية، وهي مقدَّمة على أدلة الفريق الآخر لأن أدلتهم وقائع أعيان لا عموم لها، وهذا موطن يُقدَّم فيه القول على الفعل بلا تردد، فإن قيل: لم سلكتم مسلك الترجيح ولم تجمعوا، مع أن إعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها؟ قيل: لأن الفخذ إما أن تكون عورة أو لا تكون، ولا وَسَط، فتحتَّم الترجيح، وبهذا يُعلم أن ما جمع به ابن القيم في "تهذيب السنن" واستحسنه الألباني -رحمهما الله- في "الإرواء" (1/ 301) بين الأحاديث بأن: "العورة عورتان، مخففة ومغلظة، فالمغلَّظة السوأتان، والمحففة الفخذان، ولا تنافي بين الأمر بغض البصر عن الفخذين لكونهما عورة، وبين كشفهما لكونهما عورة مخففة" فهذا غير متجه والله.
* ما يباح ويستحب من اللباس للرجال:
* أحسن الثياب: البيض:
1 - عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم" (4).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2401).
(2) الوثء: وجع يصيب العضو من غير كسر.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3863) وفي سنده لين، وهو عند النسائي (2848)، وابن ماجة (3485)، لكن ليس عندهما ذكر «الورك»، بل احتجم في قدمه!!
(4) صحيح: أخرجه النسائي (4/ 34 - 8/ 205)، وابن ماجة (3567)، وأحمد (5/ 12، 20).

(3/8)


وفي رواية: "عليكم بالبياض من الثياب، فليلبسها أحياؤكم، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها من خير ثيابكم".
قال الشوكاني -رحمه الله-: "أما كونه أطيب فظاهر، وأما كونه أطهر فلأن أدنى شيء يقع عليه يظهر فيغسل إذا كان من جنس النجاسة فيكون نقيًّا، والأمر المذكور في الحديث ليس للوجوب، لما ثبت
عنه صلى الله عليه وسلم من لبس غيره، وإلباس جماعة من الصحابة ثيابًا غير بيض، وتقريره صلى الله عليه وسلم لجماعة منهم على غير لبس البياض" اهـ (1).
2 - وعن سعد قال: "رأيت بشمال النبى -صلى الله عليه وسلم- ويمينه رجلين عليهما ثياب بيض يوم أُحد، ما رأيتهما قبل ولا بعد" (2).
3 - وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ... " (3) الحديث.
* ولا بأس بغير البيض:
1 - فعن البراء قال: "كان النبى -صلى الله عليه وسلم- مربوعًا، وقد رأيته فى حُلَّة حمراء، ما رأيت شيئًا أحسن منها" (4).
2 - وعن عائشة قالت: "خرج رسول الله وعليه مِرْطٌ مرحَّل من شعر أسود" (5).
3 - وعن قتادة قال: قلنا لأنس: أي اللباس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "الحِبَرَة" (6).
والحبرة: بردٌ من برود اليمن من كتان أو قطن محبَّرة أي: مزينة ومخطَّطة.
4 - وعن أبي رمثة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وعليه بُردان أخضران" (7).
_________
(1) «نيل الأوطار» بتصرف يسير.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5826).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5827).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5848)، وله شاهد من حديث جابر عند الترمذي (2811).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2081)، والترمذي (2813)، وأبو داود (402).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5812)، ومسلم (2081).
(7) صحيح: أخرجه الترمذي (2812)، وأبو داود (4206)، والنسائي (8/ 204)، وأحمد (2/ 227).

(3/9)


5 - والأخضر أكثر لباس أهل الجنة، وقد قال تعالى: {عاليهم ثياب سندس خضر} (1).
* أفضل الثياب القميص (2):
فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القُمُص" (3).
وذلك لأنه أستر للأعضاء من الإزار والرِّداء اللذين يحتاجان كثيرًا إلى الربط والإمساك وغير ذلك بخلاف القميص.
* جواز لبس السراويل (البنطلون):
لبس السراويل جائز باتفاق العلماء، والأصل في جوازها، حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" (4).
وينبغي أن تكون هذه السراويل (البنطلون) فضفاضة لا تحدد العورة، وإلا لزم أن يُجعل فوقها قميص طويل يستر العورة، وقد جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسرولوا واتَّزروا، وخالفوا أهل الكتاب" (5).
* تنبيه: قد ذهب بعض الفضلاء من أهل العلم في عصرنا إلى كراهة لبس البنطلون والصلاة فيه -كراهة تحريمية- قالوا: لما فيه من التشبه بالكفار!! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن جاء وعليه ثوب معصفر: "هذه ثياب الكفار فلا تلبسها" (6).
قلت: لم يعد لبس البنطلون مما يميز الكفار ولا هو شعارهم حتى يحرم لعلة التشبه، وإنما الذي يُشترط فيه هو ما تقدم الإشارة إليه من كونه واسعًا فضفاضًا لا يحدد العورة، وتركه ولبس القميص أولى لما تقدم والله أعلم.
_________
(1) سورة الإنسان: 21.
(2) القميص هو الثوب الذي يسمَّى في بلادنا «الجلاَّبية».
(3) حسن: أخرجه الترمذي (1762، 1763)، وأبو داود (4025)، والنسائي في «الكبرى» (9668)، وأبو يعلى (7014)، والبيهقي (2/ 239).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1841، 5804)، والنسائي (2672)، وابن ماجة (2931).
(5) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 264)، والطبراني كما في «المجمع» (5/ 121).
(6) صحيح: يأتي تخريجه قريبًا.

(3/10)


* استحباب لبس العِمامة:
عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعليه عمامة سوداء" (1) ويستحب أن يُرسل (يُرخِى) العمامة بين الكتفين:
من حديث عمرو بن حريث قال: "كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه" (2).
وعن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتمَّ سدل عمامته بين كتفيه" (3).
قال النووي: "يجوز لبس العمامة بارسال طرفها وبغير إرساله، ولا كراهة في واحد منهما، ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها شئ، وإرسالها إرسالًا فاحشًا كإرسال الثوب يحرم للخيلاء ويُكره لغيره" اهـ (4).
* ما نُهي الرجال عن لبسه:
* تحريم الثياب الخاصة بالنساء:
ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تشبُّه الرجل بالمرأة في اللباس الذي يختص بهن وعكسه، وقد ثبتت النصوص بتحريم مطلق تشبه كلا الجنسين بالآخر فيما يختص به، وهذا يشمل التشبه في اللباس والزينة والكلام والمشي ونحو ذلك، وهذه النصوص:
1 - حديث ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" (5).
2 - وعن أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبس المرأة، والمرأة تلبس لبس الرجل" (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1358)، والترمذي (1735)، والنسائي (2869)، وأبو داود (4076)، وابن ماجة (2822).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1359)، وابن ماجة (2821).
(3) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (1736)، وابن حبان (6397)، والطبراني (12/ 379) وهو حسن لغيره.
(4) «المجموع» (4/ 457).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5885)، والترمذي (2784)، وأبو داود (4097)، وابن ماجة (1904).
(6) صحيح: أخرجه أبو داود (4098)، وأحمد (2/ 325).

(3/11)


واللعن لا يكون إلا على فعل محرم، وبهذا قال الجمهور.
وقال الشافعي: لا يحرم، وإنما يكره!! والأحاديث تردُّ ذلك، ولذا قال النووي -رحمه الله- منصفًا: "والصواب أن تشبه النساء بالرجال وعكسه حرام للحديث الصحيح" (1) اهـ.
* تحريم إسبال الثوب وجرِّه خيلاء:
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خيلاء" (2).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرَّ إزاره بطرًا" (3) أي تكبرًا.
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي في حُلَّة تعجبه نفسه مرجِّل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة" (4).
وقد دلَّت هذه النصوص وغيرها على تحريم جرِّ الثوب تكبرًا وخيلاء، وأنه من الكبائر.
* حكم الإسبال لغير الخيلاء:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسفل الكعبين من الإزار في النار" (5).
قال الخطابي: "يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه: أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة .. " اهـ (6).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شِقَّي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال: "إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" (7).
_________
(1) «المجموع» (4/ 335).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5783)، ومسلم (2085).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5788)، ومسلم (2087).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5789)، ومسلم (2088).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5787)، والنسائي (5331)، وأبو داود (4093)، وابن ماجة (3573).
(6) «فتح الباري» (10/ 257) ط. السلفية.
(7) صحيح: أخرجه البخاري (5784)، والنسائي (5335)، وأبو داود (4085).

(3/12)


وقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى تحريم إسبال الثوب تحت الكعبين إن كان للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، قالوا: لأن الأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة، فيجب تقييدها بالإسبال للخيلاء!! وهكذا نصَّ الشافعي على الفرق (1).
وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: أنا لا أجرُّه خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظًا، ولا يجوز لمن تناوله لفظًا أن يخالفه، ويقول: تلك العلة ليست فيَّ، فإنها دعوى غير مسلَّمة، بل إطالة ذيله دالة على تكبره (2).
قلت: وهذا الأخير أظهر، ويؤيده حديث جابر بن سليم الطويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة" (3).
فجعل مجرد الإسبال من المخيلة المحرمة، فالحاصل أن إسبال الثوب تحت الكعبين حرام ويستحق فاعله أن يُعذَّب، ما تحت الكعبين في النار -كما في حديث أبي هريرة- لكن هذا لا يكون من الكبائر التي تحرمه من نظر الله تعالى إليه يوم القيامة إلا إذا قصد التكبر والخيلاء، لأن العقوبتين -عقوبة قاصد الخيلاء وغيره- قد اختلفتا فلم يجز حمل المطلق على المقيد.
وأما حديث أبي بكر، فالظاهر أنه لم يكن مسبلًا وإنما كان يسترخي فيحتاج إلى رفعه، فلا يعكِّر الحديث على ما تقدم، والله أعلم.
* هل يدخل في حكم الإسبال تطويل أكمام القميص (4)؟
الذي يظهر أن من أطال أكمام القميص حتى خرج عن العادة دخل في حكم الإسبال، وقد نقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة.
_________
(1) «شرح مسلم» للنووي (14/ 62) ط. الفكر.
(2) «فتح الباري» (10/ 264) عن ابن العربي.
(3) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (4084)، وابن حبان (522)، والنسائي في «الكبرى» (9691)، وأحمد (5/ 63).
(4) «فتح الباري» (10/ 262)، و «زاد المعاد» (1/ 52)، و «نيل الأوطار».

(3/13)


قلت: يؤيد هذا حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرَّ شيئًا منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" (1).
وقد ذكر ابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من هديه لبس الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج، فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه ألبتة، وأنها مخالفة لسُنَّته، وفي جوازها نظر فإنها من جنس الخيلاء، وفيها إضاعة للمال، فقد يفصل من هذا الكم ثوب آخر.
* لبس الحرير الخالص:
* ذهب الجماهير من أهل العلم -بل نقل بعضهم الإجماع (2) - إلى أنه يحرم لبس الحرير الخالص على الرجال -إلا لضرورة كما سيأتي- للنصوص المصرِّحة بالتحريم، ومنها:
1 - حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" (3) والظاهر أنه كناية عن عدم دخول الجنة، فقد قال تعالى في أهل الجنة {ولباسهم فيها حرير} (4).
2 - وعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة" (5).
3 - وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" (6) أي: من لا نصيب له.
4 - وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحلَّ لإناثهم" (7).
_________
(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (4094)، والنسائي (5334)، وابن ماجة (3576)، وانظر «المشكاة» (4332).
(2) «المغني» (2/ 204)، و «الفتح» (10/ 285)، و «شرح مسلم» (14/ 32).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5833)، ومسلم (2069).
(4) سورة الحج: 23.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5426)، ومسلم (2067).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5835)، ومسلم (2068).
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (4057)، والترمذي (1720)، والنسائي (8/ 160)، وابن ماجة (3595).

(3/14)


5 - وقد نقل عن قوم إباحة الحرير للرجال، واستدلوا بما يلي:
1 - حديث عقبة بن عامر قال: أُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرُوج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف، فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره له، ثم قال: "لا ينبغي هذا للمتقين" (1) وأجيب: بأن هذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم لبسه قبل تحريمه، إذ لا يجوز أن يُظَنَّ به أنه لبسه بعد التحريم في صلاة ولا غيرها.
2 - حديث المسور بن مخرمة: "أنها قُدمت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية، فذهب هو وأبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لشيء منها، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء من ديباج مزرَّر، فقال: "يا مخرمة خبأنا لك هذا" وجعل يريه محاسنه، وقال: "أرضيَ مخرمة؟ " (2).
وأجيب: بأن هذا فعل لا ظاهر له، والأقوال صريحة في التحريم، على أنه لا نزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الحرير ثم كان التحريم آخر الأمرين (3).
* القدر المباح من الحرير في الثوب:
يُباح لبس الرجل للثوب إذا كان به عَلَم بمقدار أربع أصابع فما دون من الحرير، عند جمهور العلماء، لحديث أبي عثمان قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وصفَّ لنا النبي صلى الله عليه وسلم إصبعيه" (4).
وفي لفظ لمسلم: "نهى عن لُبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" (5).
فإن زاد علم الحرير في الثوب على أربعة أصابع حَرُم.
* إباحة لبس الحرير عند الضرورة (6):
ذهب الجمهور -خلافًا للمالكية ورواية عن أحمد- إلى جواز لبس الحرير عند الضرورة كحالة المرض أو الحكة ونحو ذلك، لحديث أنس قال: "رخص النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكَّة بهما" (7).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (375)، ومسلم (2075).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (3127)، والبيهقي (3/ 273)، والطحاوي (4/ 243).
(3) «أحكام العورة والنظر» لمساعد الفالح (ص: 183).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5829)، ومسلم (2069).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2069).
(6) «ابن عابدين» (5/ 224)، و «الخرشي» (1/ 252)، و «المجموع» (4/ 440)، و «المغني» (2/ 306)، و «زاد المعاد» (3/ 103).
(7) صحيح: أخرجه البخاري (5839)، ومسلم (2076).

(3/15)


وذهب المالكية -وهو الرواية الأخرى عند الحنابلة- إلى أنه لا يجوز للحكَّة ونحوها على الأصل، وأن الرخصة كانت خاصَّة بالصحابيين رضي الله عنهما (!!).
والصحيح قول الجمهور، لأن الأصل عدم التخصيص، والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى، تعدَّت إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى، إذ الحكم يعم بعموم سببه، والله أعلم.
* لا يجوز افتراش الحرير:
فعن حذيفة رضي الله عنه قال: "نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه" (1) وبه قال الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- لأن سبب تحريم اللبس موجود في الجلوس، ولأنه إذا حرم اللبس مع الحاجة فغيره أولى، هذا حكم الذكور، وأما الإناث فجائز لهن كاللبس.
* تحريم ثوب الشهرة:
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله مذلَّة يوم القيامة [ثم ألهب فيه نارًا] " (2).
قال ابن الأثير: الشهرة ظهور الشيء، والمراد أنه ثوب يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم، فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والتكبر. اهـ.
* هل يكره للرجل لبس الأحمر؟
اختلف أهل العلم في حكم لبس الرجل للثوب الأحمر على الأقوال -حصرها الحافظ في سبعة أقوال- ويمكن تلخيصها في قولين (3):
الأول: يُكره لبس الثوب الأحمر: وهو مذهب الحنفية والحنابلة، وحجتهم ما يلي:
1 - حديث البراء بن عازب قال: "أمرنا النبي صلى الله عليه بسبع ونهانا عن سبع -فذكر منها-: المياثر الحمر" (4) وفي رواية من حديث عمران بن حصين: "نهى عن ميثرة الأرجوان" (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5837).
(2) حسن: أخرجه أبو داود (4029)، وابن ماجة (3606)، وأحمد (2/ 92)، وهو في «صحيح الجامع» (6526).
(3) «مجمع الأنهر» (2/ 532)، و «الإنصاف» (1/ 481)، و «فتح الباري» (10/ 305)، و «نيل الأوطار».
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5849)، ومسلم (2066).
(5) أخرجه الترمذي (2788)، وهو في «صحيح الجامع» (6907).

(3/16)


والمياثر: وسائد صغيرة حمراء يجعلها الراكب -من الأعاجم- تحته.
وأجيب: بأن الدليل أخصُّ من الدعوى، وغاية ما فيه تحريم الميثرة الحمراء، فما الدليل على تحريم ما عداها مع ثبوت لبس النبي صلى الله عليه وسلم للأحمر مرات كما سيأتي؟! على أنه يحتمل أن يكون النهي عنها إنما لأنها كانت تتخذها العجم من ديباج وحرير.
2 - ما يُروى عن عبد الله بن عمرو قال: "مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران" فسلَّم عليه، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم" (1) وهو ضعيف.
3 - وعن امرأة من بني أسد قالت: "كنت يومًا عند زينب امرأة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نصبغ ثيابها بمغرة -والمغرة صباغ أحمر- قالت: فبينما نحن كذلك إذ طلع علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت ذلك زينب علمت أنه صلى الله عليه وسلم قد كره ما فعلت وأخذت فغسلت ثيابها ودارت كل حمرة، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجع فاطلع فلما لم ير شيئًا دخل" (2) وهو ضعيف.
4 - ما رُوي عن رافع بن يزيد الثقفي مرفوعًا: "إن الشيطان يحب الحمرة، وإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة" (3) وهو ضعيف كذلك.
الثاني: يجوز لبس الأحمر، وهو مذهب المالكية والشافعية، وحجتهم:
1 - حديث البراء بن عازب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعًا، وقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئًا أحسن منها" (4).
2 - وعن جابر بن سمرة قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان (5) فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر وعليه حلة حمراء، فإذا هو عندي أحسن من القمر" (6).
وقد أجاب الأوَّلون: بأن الحلة الحمراء التي لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن حمراء بحتًا وإنما خالطه غير الأحمر.
_________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذي (2807)، وأبو داود (4069).
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4071)، وابن أبي عاصم في «الآحاد» (3096) والطبراني (24/ 57 - 25/ 185).
(3) ضعيف: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7708).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5848) وقد تقدم.
(5) ليلة إضحيان، أي: مضيئة ومقمرة.
(6) ضعيف: أخرجه الترمذي (2811)، والنسائي في «الكبرى» (6940)، وأبو يعلى (7477)، والحاكم (4/ 207) ويشهد له ما قبله.

(3/17)


* الراجح: الذي يظهر لي أن أدلة الأولين القائلين بالكراهة ليست قوية، والظاهر أنه لا بأس بلبس الأحمر، لكن لو ترك الأحمر الخالص القاني الذي لم يخالطه غيره لكان أولى وأحوط خروجًا من الخلاف، والله أعلم.
* الثوب المعصفر:
عن عبد الله بن عمرو قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: "إن هذه من لباس الكفار، فلا تلبسها" (1).
وفي رواية قال: "أَأُمُّك أمرتك بهذا؟! " قلت: أغسلها، قال: "بل أحرقها" وقوله: (أأمك أمرتك بهذا؟) معناه: أن هذا من لباس النساء وزيِّهن، وأخلاقهن، وأما الأمر بإحراقهما، فقيل: هو عقوبلا وتغليظ لزجره، وزجر غيره عن مثل هذا الفعل (2).
وعن علي بن أبي طالب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبْس القَشِّىِّ، والمعصفر، عن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع" (3).
وقد اختلف أهل العلم في الثياب المعصفرة، وهي المصبوغة بالعصفر -صبغ أصفر- فأباحها جمهور العلماء، منهم الشافعي وأبو حنيفة ومالك!!
وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه لما ثبت عن ابن عمر قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة" (4) وقال الخطابي: النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فليس بداخل في النهي.
وحمل بعض العلماء النهي هنا على المحرم بالحج والعمرة ليكون موافقًا لحديث ابن عمر فيما يحرم على المحرم لبسه!! (5)
قلت: الأظهر أنه لا يجوز لُبس الثوب المصبوغ بالعصفر للأحاديث الثابتة، لاسيما ما كان منها فاقعًا يشبه لباس النساء، ولذا قال البيهقي -رحمه الله-: "لو بلغت هذه الأحاديث الشافعي لقال بها، إن شاء الله ... " اهـ.
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2077).
(2) «شرح مسلم» للنووي (14/ 55).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2078)، والترمذي (264)، والنسائي (1041).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5851)، ومسلم (1187).
(5) «شرح مسلم» (14/ 54).

(3/18)


وأما حديث ابن عمر فليس فيه ذكر المصبوغ فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صبغ الشعر أو الثوب، على أنه قد يُحمل الصفرة في حديث ابن عمر على ما لم تكن فاقعة تشابه ثياب النساء، والله أعلم.
* الثوب الذي فيه صليب:
عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه" (1).
* الثوب المصنوع من جلود السباع: كالأسد والنمر والفهد ونحوها، سواء كان في الملابس أو في الأحذية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تركبوا الخز ولا النمار" (2) وإنما نهى عن استعمالها لما فيها من الزينة والخيلاء، ولأنه زي الأعاجم (3).
* من آداب اللباس:
1 - الاهتمام بحسن الثياب لمن وَجَدَه:
فعن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: "ألك مال؟ " قال: نعم، قال: "من أي المال؟ " قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: "فإذا آتاك مالًا فَلْيَرَ أثر نعمته عليك وكرامته" (4).
وقال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ...} (5).
ليس هذا من الكبر، فعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَر الحق، وغمط الناس" (6).
2 - عدم الإسراف في اللباس:
قال الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (7).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5952).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4129)، وابن ماجة (3656).
(3) «عون المعبود» (11/ 188).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4063)، والنسائي (5224) وله شواهد من حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة، وعمران بن حصين وابن مسعود وغيرهم.
(5) سورة الأعراف: 32.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (91)، وأبو داود (4092) وغيرهم.
(7) سورة الأعراف: 31.

(3/19)


وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا، ما لم يخالطه إسراف ولا مَخِيلَة" (1).
3 - الدعاء عند لُبس الثوب الجديد:
عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجدَّ ثوبًا سمَّاه باسمه: عمامة أو قميصًا أو رداءً، ثم يقول: "اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شرِّه وشر ما صنع له" (2).
4 - الابتداء باليمين في اللبس:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره، وفي شأنه كله" (3).
5 - عدم المشي في نعل واحدة:
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعًا، أو ليحفهما جميعًا" (4).
والكراهة في هذا -والله أعلم- لأجل الشهرة، فإن هذا مما يلفت الأنظار، وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس، فكل شيء صيَّر صاحبه شهرة فحقه أن يجتنب (5).
6 - عدم الاستلقاء على الظهر ووضع إحدى الرجلين على الأخرى، لمن ليس عليه سراويل:
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يستلقين أحدكم، ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى" (6).
_________
(1) حسن: علَّقه البخاري في كتاب (اللباس) ووصله النسائي (2559)، وابن ماجة (3605) بسند حسن.
(2) حسن لشواهد: أخرجه أبو داود (4020)، والترمذي (1767)، والنسائي (1382) والصواب إرساله، لكن له شاهد يتقوى به.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (426)، ومسلم (268).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5855)، ومسلم (2097).
(5) نقله في «فتح الباري» (10/ 255) عن البيهقي.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (2099).

(3/20)


ومحل النهي أن لا يكون تحت ثوبه سراويل تستر عورته، فعن أبي سعيد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يحتبي الرجل في صوب واحد، ليس على فرجه منه شيء" (1).
والاحتباء: أن ينصب الرجل ساقيه ويدير عليهما ثوبه أو يعقد يديه على ركبتيه معتمدًا على ذلك.
أما إذا كان يلبس ما يستر عورته، فلا حرج، فعن عبد الله بن زيد أنه: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيًا في المسجد، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى" (2).
* من أحكام الزينة للرجال:
1 - زينة الشعر:
* استحباب إكرام الشَّعر:
يستحب لمن كان له شعر أن يحافظ على نظافته وحسن مظهره، فيكرمه ويرجِّله (يسرِّحه) ويدهنه ونحو ذلك.
فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان لأحدكم شعر فليكرمه" (3).
ولا ينبغي أن يترك شعره حتى يفحش ويثور، بل عليه أن يدهنه ويسكنه في بالماء ونحوه ويسرِّحه، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا أشعث فقال: "أما كان يجد ما يسكم به شعره؟ " (4).
ويستحب أن يبدأ -في تسريحه- بالشق الأيمن من الرأس لما تقدم عن عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره وتنعله وترجله" (5).
فإن كان يعتني بشعره، فيستحب أن يطيله ويسدله إلى منكبيه، فعن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب شعر رأس منكبيه" (6).
وعن عائشة قالت: "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شعر دون الجُمَّة، وفوق الوفرة" (7).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (367)، والنسائي (5340)، وأبو داود (3377) وهو عند البخاري عن أبي هريرة وعند مسلم عن جابر.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (475)، ومسلم (2100).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (4163)، وهو في «صحيح الجامع» (6493).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4062)، والنسائي (8/ 183).
(5) صحيح: تقدم قريبًا.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5904).
(7) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجة (3635)، والترمذي (1755).

(3/21)


والجُمَّة: ما تدلَّي إلى المنكبين، والوفر: ما بلغ شحمة الأذنين.
ولا ينبغي إطالة الشعر فوق هذا القدر، لأمرين:
الأول: لدخوله في التشبُّه بالنساء.
الثاني: لما رُوي عن سهل بن الحنظلية قال: قال رسول الله عليه وسلم: "نعم الرجل خزيم الأسدي، لولا طول جُمَّته وإسبال إزاره" فبلغ خزيمًا، فعجَّل، فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه (1).
* تنبيه: وأما ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الترجُّل إلا غبًّا" (2) فالمراد به: ترك المبالغة في الترفه، والله أعلم.
* النهي عن نتف الشيب:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم يوم القيامة" (3).
وعن أنس قال: "كنا نكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته" (4).
* صبغ الشعر:
ويُشرع تغيير الشيب بصبغ -غير الأسود- فعن جابر قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" (5).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود والنصارى فقال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" (6) ويكون هذا بالحناء والكتم ونحوهما، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أحسن ما غُيِّر به الشيب: الحناء والكتم" (7).
_________
(1) إسناده ليِّن: أخرجه أبو داود (4089)، وأحمد (4/ 179)، والطبراني (6/ 94).
(2) صححه الألباني: أخرجه النسائي (8/ 132)، والترمذي (1756)، وأبو داود (4159)، وهو في «صحيح الجامع» (6870).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (4202)، والترمذي (2821).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2341).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2102)، والنسائي (5076)، وأبو داود (4204).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5899)، ومسلم (2103).
(7) صححه الألباني: أخرجه الترمذي (1573)، والنسائي (8/ 139)، وابن ماجة (3622) وفي سنده اختلاف، لكن صححه الألباني - رحمه الله - في «الصحيحة» (1509).

(3/22)


وأما الصبغ بالأسود فلا يجوز، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة" (1) ولما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" (2).
* فائدة: إنما نهى عن النتف دون الخضب; لأن فيه تغيير الخلقة عن أصلها، بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه.
وقيل: شرع ستر الشيب بالخضاب لمصلحة أخرى دينية وهي إرغام الأعداء وإظهار الجلادة لهم (3).
* تحريم حلق اللحية:
حلق اللحية -للرجل- حرام بإجماع من يُعتد بخلافه من أهل العلم، لأن في خلقها تغييرًا لخلق الله، وطاعة للشيطان، ومخالفة لأمره صلى الله عليه وسلم بإعفائها وإرخائها، ومشابهة للكفار، ومشابهة للنساء، وقد تقدمت الأدلة على ذلك في أول "كتاب الطهارة".
* قص الشارب وحَفُّهُ:
قص الشارب من سنن الفطرة المأمور بها، وهو من تمام زينة الرجال، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الآباط" (4).
وقال صلى الله عليه وسلم: " ... أحفوا الشوارب" (5) وفي رواية: "جُزُّوا الشوارب ... " (6).
بل قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" (7).
والمراد هنا: قطع الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال، واستئصال
_________
(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (4212)، والنسائي (8/ 138)، وأحمد (1/ 273)، وهو في «صحيح الجامع» (8153).
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) «عون المعبود» (11/ 171) ط. الفكر.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5891)، ومسلم (257).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5892)، ومسلم (259).
(6) صحيح: أخرجه مسلم (260).
(7) صححه الألباني: أخرجه النسائي (1/ 15)، والترمذي (2761)، وأحمد (4/ 368)، وهو في «صحيح الجامع» (6533).

(3/23)


ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها بحيث لا يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ، وقيل: المراد: استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا، وكلا القولين تحتمله الأدلة ويحصل به مخالفة المجوس والأمن من التشويش على الآكل، واجتماع الوسخ والله أعلم.
وينبغي ألا يترك الشارب أكثر من أربعين يومًا، لحديث أنس قال: "وُقِّت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة" (1).
* النهي عن القزع: عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع" (2).
والقزع: حلق بعض الرأس وترك بعضها، وقد افتتن بهذا كثير من الشباب تقليدًا لليهود والنصارى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2 - زينة الخاتم ونحوه:
* تحريم خاتم الذهب على الرجال:
1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب، فكان يجعل فصَّه في باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، فقال: "إني كنت ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصَّه من داخل" فرمى به، ثم قال: "والله لا ألبسه أبدًا" فنبذ الناس خواتيمهم (3).
2 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن خاتم الذهب" (4).
3 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، فقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟! " فقالوا للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا، والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).
4 - وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فلا يلبس حريرًا ولا ذهبًا" (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (257).
(2) ") صحيح: أخرجه البخاري (5920)، ومسلم (113).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2090).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5863).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2090).
(6) حسن: أخرجه أحمد (5/ 261)، والحاكم (4/ 212)، والطبراني (8/ 186).

(3/24)


5 - وقد تقدم حديث عليٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحلَّ لإناثهم" (1).
فعُلم من هذه النصوص وغيرها تحريم التختم بالذهب على الرجال، فهلَّا استجاب الكثيرون من المسلمين لهذا، وألقوا "دبلة" الذهب التي ابتُلوا بها تقليدًا للكفار، وتقديسًا -زعموا- للحياة الزوجية!!
* لا بأس بخاتم الفضة:
يشرع لبس خاتم الفضة للرجال، فعن أنس قال: "اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من فضة نقشه: محمد رسول الله، فكأني بوبيص -أو بيصيص- الخاتم في إصبع النبي صلى الله عليه وسلم أو في كفه" (2).
* تنبيه: يُكره للرجل لبس الخاتم في الإصبع الوسطى أو السبابة:
فعن أبي بردة قال: قال علي رضي الله عنه: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في إصبعي هذه وهذه" قال: فأومأ إلى الوسطى والتي تليها (3).
وفي لفظ: " .. وأشار إلى السبابة والوسطى".
قال النووي -رحمه الله-: "وأجمع المسلمون على أن السنة جعل خاتم الرجل في الخنصر، وأما المرأة فإنها تتخذ خواتيم في الأصابع كلها، قالوا: والحكمة في كونه في الخنصر أنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد لكونه طرفا، ولأنه لا يشغل اليد عما تتناوله من أشغالها بخلاف غير الخنصر، ويكره للرجل جعله في الوسطى والتي تليها لهذا الحديث، وهي كراهة تنزيه ... " اهـ (4).
* هل يباح شيء من الذهب للضرورة؟
عن عبد الرحمن بن طرفة عن جده عرفجة بن أسعد: "أنه أصيب أنفُهُ يوم الكُلَاب في الجاهلية، فاتَّخذ أنفًا من وَرِق، فأنتن عليه، فأمره النبي صَلَّى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفًا من ذَهَبٍ" (5).
_________
(1) صحيح: تقدم قريبًا.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5872)، ومسلم (2092).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2078)، وأبو داود (4225)، والترمذي (1786)، والنسائي (5210)، والتصريح السبابة عندهم عدا مسلمًا.
(4) «شرح مسلم» للنووي (14/ 71).
(5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي (4/ 164).

(3/25)


قال الخطابي: "فيه استباحة استعمال اليسير من الذهب للرجال عند الضرورة كربط الأسنان به وما جرى مجراه مما لا يجري غير فيه مجراه" اهـ (1).
وبهذا قال أكثر العلماء، قلت: أما ما كان لغير ضرورة فهو باق -في حق الرجل- على أصل التحريم، فلا يجوز تركيب الأزرار الذهبية في الثياب!! ولا لبس الساعات الذهبية، إذ لا ضرورة تلجئ إلى ذلك، على ما في ذلك من السرف والخيلاء، والله أعلم.
هذا في حق الرجال، وأما النساء فالذهب مباح لهن ابتداء ولو لغير ضرورة كما تقدم.
3 - زينة الكحل للرجال:
اكتحال الرجل إذا كان لتقوية البصر، وجلاء الغشاوة عن العين، وتنظيفها وتطهيرها، أو لأجل التطيب، لا بأس به، لا سيما إذا كان بالإثمد الأصلي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... وإن خير أكحالكم الإثمد: يجلو البصر، وينبت الشعر" (2).
وأما التكحل لأجل التزين والتجمل فلم يثبت فيه حديث -فيما أعلم- وقد روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل في عينه اليمنى ثلاث مرات، واليسرى مرتين" ولا يثبت. فالذي يظهر أنه ليس من السنة كما يعتقده كثير من الناس.
قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "وأما الرجال: فمحل نظر، وأنا متوقف فيه، وقد يفرق فيه بين الشباب الذي يخشى من اكتحاله فتنه، فيمنع، وبين الكبير الذي لا يخشى ذلك من اكتحاله فلا يمنع" (3) اهـ.
قلت: وأما المرأة فهو مطلوب لها في تجملها لزوجها كما سيأتي.
4 - الخضاب للرجال:
* النهي عن التزعفر:
الزعفران: نبات أصفر يصبغ به الثياب ويتخذ طيبًا للنساء يُطلى به الجسم، ولا يجوز للرجل استعماله، فعن أنس قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل" (4).
_________
(1) «تحفة الأحوذي» (11/ 198).
(2) حسن: أخرجه أبو داود (3878)، والترمذي (994)، والنسائي (8/ 15)، وابن ماجة (3497).
(3) «فتاوى زينة المرأة والتجميل» (ص: 51) عن «اللباس والزينة» لسمير عبد العزيز (ص: 289).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5846)، ومسلم (2101).

(3/26)


وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ" (1).
والخلوق: طيب يتخذ من الزعفران وغيره.
* وهل يخضب الرجل يديه ورجليه بالحناء ونحوهما؟
عن أبي هريرة قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بمخنَّث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال هذا؟ " فقيل: يا رسول الله، يتشبه بالنساء، فأمر به فنُفي إلى البقيع، قالوا: يا رسول الله، ألا نقتله؟ قال: "إني نهيت عن قتل المصلين. (2) "
قال الحافظ: "وأما خضب اليدين والرجلين، فلا يجوز للرجال إلا في التداوي ... " (3) اهـ.
قلت: وأحاديث النهي عن التضمخ بالزعفران تؤيد ذلك، وأما حديث أنس: "أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أثر صفرة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار ... " الحديث (4)، فلا يسلم الاستدلال به على جواز الخضاب للرجل، فقد قال النووي -رحمه الله-: "إن الصفرة تعلقت به من جهة زوجته" اهـ (5).
وعلى هذا، فإن ما يفعله كثير من الرجال في "ليلة الحنة" قبل العُرس من خضاب اليدين والرجلين لا يجوز، والله أعلم.
5 - زينة الطِّيب:
الطيب من الزينة المستحبة، قال صلى الله عليه وسلم: "إن خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه" (6).
وعن عائشة قالت: "كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته" (7).
_________
(1) حسن لغيره: أخرجه أبو داود، وهو في «صحيح الجامع» (3061).
(2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود.
(3) «فتح الباري» (10/ 367).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5153).
(5) «شرح مسلم».
(6) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (2788)، وأبو داود (2174).
(7) صحيح: أخرجه البخاري (5923)، ومسلم (1190).

(3/27)


قال ابن بطال: "يؤخذ منه أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه بخلاف طيب النساء، لأنهن يطيبن وجوههن ويتزين بذلك بخلاف الرجال، فإن تطيب الرجل في وجهه لا يشرع لمنعه من التشبه بالنساء" اهـ (1).
وأطيب الطيب المسك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (2).
* الطيب لا يُرَدُّ:
عن أنس: أنه كان لا يردُّ الطيب وزعم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب" (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: "من عُرض عليه ريحان فلا يردَّه، فإنه خفيف المحمل طيب الريح" (4) وسيأتي طرف مما يتعلق بالطيب عند "طيب النساء".

ثانيًا: اللباس والزينة للنساء (5)
لباس المرأة المسلمة
1 - لباس المرأة أمام الأجانب (6):
(أ) النهي عن التبرج والوعيد عليه:
التبرج: أن تبدي المرأة زينتها ومحاسنها وما يجب أن تستره مما تستدعى به شهوة الرجال.
قال تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} (7).
وجاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: "أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولاتزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى" (8).
_________
(1) «الفتح» (10/ 366).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2252).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5929)، ونحوه في «صحيح الجامع» (4852).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2253)، وأبو داود، والنسائي، وعندهما «طيب» بدل «ريحان».
(5) ") من هنا حتى آخر «كتاب اللباس» من كتابي «فقه السنة للنساء». ط. التوفيقية - الطبعة الثانية.
(6) المراد بالأجانب: الرجال غير المحارم، وسيأتي تعريف المحرم قريبًا.
(7) سورة الأحزاب: 33.
(8) مسند أحمد (2/ 196) بسند حسن.

(3/28)


وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات (1) مميلات
مائلات (2)، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة (3) لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (4).
(ب) شروط لباس المرأة المسلمة، وهي ثمانية (5):
الشرط الأول: أن يستر جميع البدن، إلا أنه اختلف في الوجه والكفين:
قال الله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} (6).
وقال تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما} (7).
واعلم أن العلماء قد اتفقوا على أنه يجب على المرأة أن تستر جميع بدنها، وإنما حصل الاختلاف -المعتبر- في الوجه والكفين.
* فذهب طائفة من العلماء إلى أنه يجب عليها ستر وجهها وكفيها:
واستدلوا لذلك بجملة أدلة منها (8):
1 - قول الله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب} (9).
وقد نزلت الآية لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ودعا القوم فطمعوا ثم
_________
(1) أي: يكشفن شيئًا من أبدانهن إظهارًا لجمالهن، أو يلبسن ثيابًا رقيقة تصف ما تحتها.
(2) أي: متبخترات في مشيتهن، مميلات أكتافهن، أو مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن.
(3) يجمعن الغدائر فوق رؤوسهن فتشبه أسمنة الإبل.
(4) صحيح مسلم (2128).
(5) انظر «جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة» للألباني (ص 37) وما بعدها.
(6) سورة النور: 31.
(7) سورة الأحزاب: 59.
(8) انظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (4/ 505) وما بعدها.
(9) سورة الأحزاب: 53.

(3/29)


خرجوا وبقي منهم رهط أطالوا المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرج النبي صلى الله عليه وسلم وزينب معه ثم دخل مرارًا كي يخرجوا، فنزلت الآية فضرب بينهم وبينه سترًا (1).
فقال الموجبون لستر الوجه: إن هذا الخطاب يدخل فيه النساء جميعًا لاشتراك الجميع في العلة وهي طهارة القلوب.
2 - قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما} (2) وفسروا الإدناء في الآية بستر جميع الوجه وإظهار عين واحدة تبصر بها.
3 - حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان" (3).
ومعنى استشرفها الشيطان: زينها في نظر الرجال.
4 - حديث الإفك وفيه: " ... وكان صفوان بن المعطل السلمي، من وراء الجيش، فأدلج عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ... " (4).
5 - حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام" (5).
* بينما ذهب طائفة أخرى من العلماء إلى أنه يجوز كشف الوجه والكفين، وأن سترهما مستحب وليس بواجب، واستدلوا لذلك بجملة أدلة ومن ذلك (6):
1 - قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} (7) فقالوا: {إلا ما ظهر منها} أي: الوجه والكفين (8)
_________
(1) سبب النزول هذا أخرجه البخاري (4791)، ومسلم (1428) من حديث أنس بمعناه.
(2) سورة الأحزاب: 59.
(3) الترمذي (1173)، وابن خزيمة (3/ 95)، والطبراني في الكبير (10115) وهو صحيح.
(4) البخاري (4141)، ومسلم (2770).
(5) مستدرك الحاكم (1/ 454) بسند صحيح.
(6) انظر «جلباب المرأة المسلمة» للألباني.
(7) سورة النور: 31.
(8) اختاره الطبري في «التفسير» (18/ 84) وفي الآية أوجه أخرى: فقيل: إلا ما ظهر بغير قصد منهن، وقيل: الثياب، وقيل: الكحل والخاتم والسوار وغيرها.

(3/30)


2 - حديث عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه (1).
وهذا أصرح أدلة هذا القول، لكن إسناده ضعيف جدًّا.
-واستدلوا كذلك بجملة أدلة تفيد أن النساء المسلمات كن يُظهرن الوجه أو الكفين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينههن، ومن ذلك:
3 - حديث جابر بن عبد الله في وعظ النبي صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد، وفيه: " ... فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدَّين، فقالت: لم يا رسول الله؟ ... " الحديث (2).
قالوا: فقول جابر (امرأة سفعاء الخدين) دليل على أنها كانت كاشفة لخدَّيها.
4 - حديث ابن عباس في قصة إرداف النبي صلى الله عليه وسلم للفضل بن عباس في حجة الوداع واستفتاء المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه:
" ... فأخذ الفضل بن عباس يلتفت إليها، وكانت امرأة حسناء، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بذقن الفضل، فحوَّل وجهه إلى الشق الآخر" (3).
وفي رواية أخرى من حديث علي بن أبي طالب أن ذلك كان عند المنحر بعدما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة (4)، أي أن سؤال المرأة كان بعد التحلل من الإحرام (التحلل الأصغر).
قال ابن حزم: "ولو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق، ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء" اهـ.
5 - حديث عائشة قالت: "كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة
_________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4104) وفي سنده أربع علل: الأولى: خالد بن دريك لم يدرك عائشة فالسند منقطع، الثانية: عنعنة قتادة وهو مدلس، والثالثة: سعيد بن بشير ضعيف وخاصة في قتادة، الرابعة: عنعنة الوليد بن مسلم وهو يدلس ويسوّي.
(2) مسلم (885)، والنسائي (1/ 233)، وأحمد (3/ 318).
(3) البخاري (6228)، ومسلم (1218).
(4) الترمذي (885)، وأحمد (562) بسند جيد، وانظر فتح الباري (4/ 67).

(3/31)


الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يُعرفن من الغَلَس" (1).
فقالوا: فإن مفهومه أنه لولا الغلس (أي: الظلمة) لعُرفن، وإنما يعرفن عادة من وجوههن وهي مكشوفة.
6 - حديث ابن عباس في قصة وعظ النبي النساء يوم العيد وحثهن على الصدقة وفيه: " ... وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه (وفي رواية: فجعلن يلقين الفتخ والخواتم) في ثوب بلال ... " (2).
7 - حديث عائشة "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تبايعه، ولم تكن مختضبة فلم يبايعها حتى اختضبت" (3).
-واستدلوا كذلك بجملة آثار تنص على جريان العمل على كشف الوجه والكفين في النساء بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وليُعلم أن لكل من الطائفتين مناقشات على أدلة الأخرى، وليس هذا محل بسطها وتحريرها فهذا يطول (5).
وإنما أردت أن أسوق القولين، مع ثلة من أدلة كل فريق لإظهار أن هذه المسألة -وهي حكم لبس النقاب- قد اختلف فيها العلماء قديمًا وحديثًا، وأنه من الخلاف السائغ الذي لا ينبغي معه تشديد النكير على المخالف.
ولا يفوتني أن أحذر -في هذا المقام- من طائفة ثالثة (ليست من العلماء في شيء) يرون أن ستر الوجه بدعة وتنطع في الدين، بل بلغ الجهل ببعضهم أن صنف كتابًا في ادِّعاء أن تغطية وجه المرأة حرام؟!!
وأودُّ في ختام هذا البحث أن أقرر هذه الفوائد:
1 - أجمع العلماء على وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من المرأة الحرة.
2 - في الوجه والكفين خلاف تقدم الإشارة إليه.
_________
(1) البخاري (578)، ومسلم (645).
(2) البخاري (977)، وأبو داود (1142)، والنسائي (1/ 227).
(3) أبو داود (4166)، وعنه البيهقي (7/ 86) وصححه الألباني.
(4) انظرها في «جلباب المرأة المسلمة» للألباني (ص 96 وما بعدها).
(5) انظرها في «الحجاب ... أدلة الموجبين وشبه المخالفين» لشيخنا مصطفى العدوي، و «عودة الحجاب» للشيخ محمد بن إسماعيل، و «جلباب المرأة المسلمة» للعلامة الألباني.

(3/32)


3 - أن الذين يقولون بعدم وجوب ستر الوجه، يرون أنه الأفضل والأولى لاسيما في زمان الفتنة.
الشرط الثاني (1): أن لا يكون زينة في نفسه:
لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} (2).
فإنه بعمومه يشمل الثياب الظاهرة إذا كانت مزينة تلفت أنظار الرجال إليها.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تسأل عنهم (3): رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيًا، وأمة أو عبد أبق فمات، أو امرأة غاب عنها زوجها، وقد كفاها مؤونة الدنيا، فتبرجت بعده، فلا تسأل عنهم" (4).
والتبرج: أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها وما يجب عليها ستره مما تستدعى به شهوة الرجال (5).
والمقصود من الأمر بالجلباب إنما هو ستر زينة المرأة، فلا يعقل أن يكون الجلباب نفسه زينة (6).
* تنبيه:
يتوهم بعض النساء "الملتزمات" أن كل ثوب سوى الأسود هو زينة في نفسه!! وهذا خطأ من أمرين:
الأول: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "طيب المرأة ما ظهر لونه وخفي ريحه" (7) وهو حديث حسن.
الثاني: أنه جرى العمل من النساء الصحابيات على لبس الثوب الملون بغير الأسود ومن ذلك:
1 - حديث عكرمة أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر فشكت إليها وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء
_________
(1) من شروط لباس المرأة أمام الأجانب.
(2) سورة النور: 31.
(3) لأنهم من الهالكين.
(4) أحمد (6/ 19)، والحاكم (1/ 119) وغيرهما وهو صحيح.
(5) «فتح البيان» (7/ 274).
(6) «جلباب المرأة المسلمة» (ص 120).
(7) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (2788)، وأبو داود (2174).

(3/33)


رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات، لجلدها أشد خضرة من ثوبها .... " الحديث (1).
2 - وفي حديث أم خالد بنت خالد قالت: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة، فقال: "من ترون أن نكسو هذه؟ " فسكت القوم، قال: "ائتوني بأم خالد" فأتى بها تُحمل فأخذ الخميصة بيده فألبسها وقال: "أبلي وأخلقي" وكان فيها علمٌ أخضر أو أصفر، فقال: "يا أم خالد، هذا سناه" وسناه بالحبشية (2) [معناه: حسن].
3 - عن القاسم "أن عائشة كانت تلبس الثياب المعصفرة، وهي محرمة" (3).
قلت:
1 - فالظاهر أن الثوب الذي هو زينة في نفسه هو المنسوج من عدة ألوان، أو الذي فيه نقوش ذهبية وفضية مما يلفت النظر ويبهر العيون.
2 - ولا يمنع ما قدمنا من أن الأسود هو أولى الثياب للمرأة وأسترها وهو لبس نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما مرَّ في حديث عائشة في قصة رؤية صفوان لها والذي فيه: " ... فرأى سواد إنسان نائم ... " وقد تقدم قريبًا.
وفي حديث عائشة الآخر الذي فيه خروج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان (4).
الشرط الثالث: أن يكون الثوب صفيقًا: لا يشف عما تحته:
فقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما ... ، ونساء كاسيات عاريات ... لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (5).
فالمراد النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة (6).
_________
(1) البخاري (5825).
(2) البخاري (5823).
(3) ابن أبي شيبة (8/ 372) بسند صحيح.
(4) صحيح مسلم (2128) وقد تقدم قريبًا.
(5) صحيح مسلم (2128) وقد تقدم قريبًا.
(6) نقله السيوطي في «تنوير الحوالك» (3/ 103) عن ابن عبد البر.

(3/34)


الشرط الرابع: أن يكون فضفاضًا غير ضيق فيصف شيئًا من جسمها:
فعن أسامة بن زيد قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي فكسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مالك لم تلبس القبطية؟ " قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُرها فلتجعل تحتها غلالة، إن أخاف أن تصف حجم عظامها" (1). والقبطية: ثياب تعمل بمصر، والغلالة: بطائن تلبس تحت الثوب.
قلت: فإلى الأخوات المسلمات في هذا الزمان نقول: لا يكفي أن تستري شعرك ونحرك ثم لا تبالين -بعد ذلك- بلبس الملابس الضيقة والقصيرة التي لا تتجاوز نصف الساق!! واعلمن أنه لا يكفي أن تلبس الجورب على الساقين المكشوفتين!! فعليكن أن تبادرن إلى إتمام الستر كما أمر الله تعالى أسوة بالنساء المهاجرات الأول حين نزل الأمر بضرب الخُمُر، شققن مروطهن فاختمرن بها، وإننا لا نطالبكن بشق شيء من ثيابكن!! وإنما بإطالته وتوسيعه حتى يكون ثوبًا ساترًا لجميع ما أمركن الله بستره (2).
الشرط الخامس: أن لا يكون مُبَخَّرًا أو مطيَّبًا:
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت، فمرت على قوم ليجدوا من ريحها، فهي زانية" (3).
وسبب المنع من ذلك واضح، وهو ما فيه من تحريك داعية الشهوة، وقد ألحق به العلماء ما في معناه، كحسن الملبس، والحلى الذي يظهر، والزينة الفاخرة، وكذا الاختلاط بالرجال (4).
وقد ذكر الهيثمي في "الزواجر" (2/ 37) أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر، ولو أذن لها زوجها.
الشرط السادس: أن لا يشبه لباس الرجال:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" (5).
_________
(1) أحمد (5/ 205) بسند لين، وله شاهد عند أبي داود (4116) فيحسَّن به.
(2) مستفاد من كلام للعلامة الألباني - رحمه الله - في «الجلباب» (ص: 133).
(3) النسائي (2/ 283)، وأبو داود (4173)، والترمذي (2786) وغيرهم بسند حسن.
(4) «فتح الباري» (2/ 279).
(5) البخاري (5885)، والترمذي (2784)، وأبو داود (4097)، وابن ماجة (1904).

(3/35)


والمعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء والعكس.
وعن أبي هريرة قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل" (1).
* فائدة: الضابط في نهيه صلى الله عليه وسلم عن تشبه كلا الجنسين بالآخر، ليس راجعًا إلى مجرد ما يختاره الرجال والنساء وما يشتهونه ويعتادونه، وإنما هو راجع إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء،
فإن ما يصلح للنساء لابد أن يناسب ما أمرن به من الاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور، فالشارع له مقصودان: أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء، والثاني: احتجاب النساء، ولابد من حصولهما جميعًا (2).
* الشرط السابع: أن لا يشبه لباس الكافرات:
لما تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين -رجالًا ونساءً- التشبه بالكفار سواء في عبادتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم.
وقد تضافرت النصوص الشرعية لتقرير هذه القاعدة، ومما يتعلق بالثياب حديث عبد الله بن عمرو قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: "إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها" (3).
والنصوص غير هذا كثيرة جدًا، والمقصود هنا أن يُعلم أنه لا يجوز أن تلبس المرأة ثوبًا فيه مشابهة للباس الكافرات، فإن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس (4).
الشرط الثامن: أن لا يكون لباس شهرة:
لحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارًا" (5).
_________
(1) أبو داود (4098)، وأحمد (2/ 325) بسند صحيح.
(2) أفاد معناه شيخ الإسلام كما نقله الألباني في «الجلباب» (ص 150 وما بعدها) عن «الكواكب» لابن عروة الحنبلي (93/ 132 - 134).
(3) مسلم (2077)، والنسائي (2/ 298)، وأحمد (2/ 162).
(4) راجع لهذا كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية، فإنه لا مثيل له.
(5) أبو داود (4029)، وابن ماجة (3607) بسند حسن لغيره.

(3/36)


وثوب الشهرة: هو كل ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس، سواء كان الثب نفيسًا تلبسه تفاخرًا بالدنيا وزينتها، أو خسيسًا إظهارًا للزهد والرياء.
* فوائد متفرقة:
1 - يجوز للمرأة لبس الحرير:
اعلمي أختي المسلمة، أنه يحل للنساء لبس الحرير، ولا يحل للرجال، لقوله صلى الله عليه وسلم: "حرم الله لبس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأُحلَّ لإناثهم" (1).
وعن عليٍّ قال: "كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم حُلَّة سيراء فخرجت بها فرأيت الغضب في وجهه، فشققتها خُمرًا بين نسائي" (2).
واستدل به على جواز لبس المرأة الحرير الصرف بناء على أن الحلة السيراء، هي: التي تكون من حرير صرف (3).
2 - ذيل ثوب المرأة:
عن أم سلمة قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله؟ قال: "ترخي شبرًا" قالت أم سلمة: إذًا ينكشف عنها، قال: "فذراعًا لا تزيد عليه" (4).
فهذا الحديث يفيد استثناء النساء من الوعيد الوارد في حق المسبل (المطيل لثوبه).
وقد أجمع العلماء (5) على جواز الإسبال للنساء.
* فائدة: من أين يقاس الشبر الذي ترخيه المرأة من ثوبها؟
يقاس الشبر من منتصف الساقين كما نقله في "عون المعبود" (11/ 174)، ولهذا قالت أم سلمة: إذًا تنكشف أقدامهن، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لهن بالذراع، والمقصود أن تعلم المرأة هنا أمرين:
الأول: أنه يجب عليها تغطية قدميها بثوبها.
_________
(1) الترمذي (1720)، والنسائي (5144)، وأبو داود (4057)، وابن ماجة (3595) وهو صحيح.
(2) البخاري (5840)، ومسلم (2071).
(3) «فتح الباري» (1/ 300).
(4) أبو داود (4117)، ومالك في الموطأ (1700) بسند صحيح.
(5) نقله النووي في «شرح مسلم» (4/ 795).

(3/37)


والثاني: أنه يجوز لها إسبال ثوبها بما لا يزيد عن الذراع كما تقدم.
3 - لبس المرأة "البنطلون":
"البنطلون" من أسوأ ما ابتلي به كثير من النساء -هداهن الله- فهو وإن كان يستر العورة إلا أنه يصفها وصفًا مهيجًا للغرائز، ومثيرًا للشهوات، ولا سيما وقد تعددت ألوانه وأنواعه وأشكاله، وقد علمت أن من شروط الحجاب الشرعي أن لا يكون الثوب ضيقًا بحيث يصف مفاتن الجسم، حتى صارت "البنطلونات" أشد إغراءً وفتنة من الثياب القصيرة، وربما كانت ضيقة جدًّا، وربما كانت بلون اللحم حتى يخيل للشخص أنها لا تلبس شيئًا، وهذا من الفجور الذي عمَّ، ولذلك لا يجوز للمرأة لبس البنطلون، اللهم إلا إذا لبسته لزوجها -ما لم يكن مشابهًا للباس الرجال- ولا تخرج به أمام المحارم فضلًا
عن الأجانب. ولا بأس أن تلبسه المرأة -تحت العباءة الساترة- فإنه أعون على عدم التكشف لا سيما عند ركوب السيارة ونحو ذلك، والله أعلم.
4 - هل يجوز لبس المرأة الكعب العالي؟
عن ابن مسعود قال: "كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يُصلُّون جميعًا، فكانت المرأة لها الخليل، تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فألقي عليهن الحيض" فكان ابن مسعود يقول: "أخروهن حيث أخرهن الله" (1).
فالظاهر في أمر الكعب العالي أن المرأة إذا كانت تتخذه كي تتشرف للرجال ويراها الرجال فيحرم لبسهما، لأنهما في هذه الحالة مدعاة للفساد ونشر الشرور (2).
قلت: ويضاف إلى هذا أن لبس الحذاء ذي الكعب العالي يجعل مشية المرأة وحركاتها ملفتة لنظر الرجال، هذا فضلًا عما يحدثه هذا الحذاء من صوت يلفت الأنظار كذلك، وعلى هذا فلا ينبغي للمرأة أن تلبسه إذا خرجت من بيتها.
2 - لباس المرأة أمام محارمها:
قبل أن نتعرف على القدر الذي يجوز للمرأة أن تبديه أمام المحارم، يجدر أولًا أن نعرِّف المَحرم.
"وحقيقة المحرم من النساء التي يجوز النظر إليها والخلوة بها والمسافرة بها، كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فقولنا:
_________
(1) مصنف عبد الرزاق (5115)، وسنده صحيح.
(2) «جامع أحكام النساء» (4/ 434).

(3/38)


(على التأبيد) احتراز من أخت المرأة وعمتها وخالتها ونحوهن .. " (1).
قال الله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعلوتهن أو آبائهن ....} (2).
ففي الآية إباحة نظر المحارم إلى مواضع الزينة من المرأة، لأن الضرورة داعية إلى المخالطة والمداخلة والمعاشرة حيث يكثر الدخول عليهن والنظر إليهن بسبب القرابة، والفتنة مأمونة من جهتهم.
وقد بدأ الله تعالى في الآية الكريمة بالأزواج ثم أتبعهم ببقية المحارم، وهم:
1 - الآباء وكذا الأجداد، سواء كانوا من جهة الأب أو الأم.
2 - آباء الأزواج.
3 - أبناؤهن وأبناء أزواجهن، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن نزلوا.
4 - الإخوة مطلقًا، سواء كانوا أشقاء، أو لأب، أو لأم، وإن نزلوا.
5 - أبناء الإخوة والأخوات لأنهم في حكم الإخوة.
6 - الأعمام والأخوال وهم من المحارم وإن لم يذكروا في الآية، وجمهور العلماء على أن حكمهم كحكم سائر المحارم، ويشهد لهذا: حديث عائشة: "أن أفلح أخا القعيس جاء يستأذن عليها -وهو عمها من الرضاعة- بعد أن نزل الحجاب، [قالت]: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت، فأمرني أن آذن له" (3).
7 - المحارم من الرضاع، ولم يذكروا في الآية أيضًا، وقد أجمع العلماء على أنهم كسائر المحارم، وهذا يتأيد بالحديث السابق أيضًا.
إذا عرفت المحارم، فما هو القدر الذي يجوز إبداؤه للمحارم؟
للعلماء في القدر الذي تبديه المرأة لمحارمها قولان مشهوران: الأول: أنه لا يجوز للمحارم النظر إلى جميع بدن المرأة ما عدا ما بين السرة والركبة (4) وهو مذهب الجمهور.
1 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... وإذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره، فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإن ما أسفل من سرَّته إلى ركبتيه من عورته" (5).
_________
(1) شرح مسلم للنووي (3/ 484).
(2) سورة النور: 31.
(3) البخاري (5103)، ومسلم (1445).
(4) المبسوط (10/ 149)، والمجموع (16/ 140).
(5) أحمد (2/ 187)، وأبو داود (495) بسند حسن.

(3/39)


والحديث وإن كان سياقه في الرجال إلا أن النساء شقائق الرجال.
2 - ولحديث أبي سلمة قال: "دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة فسألها أخوها عن غسل النبى -صلى الله عليه وسلم- فدعت بإناء نحوًا من صاع، فاغتسلت وأفاضت على رأسها، وبيننا وبينها حجاب" (1).
قال القاضي عياض (2): وظاهره أنهما رأيا عملها فى رأسها وأعالى جسدها مما يحل نظره للمحرم -لأنها خالة أبى سلمة من الرضاع- وإنما سترت أسافل بدنها مما لا يحل للمحرم النظر إليه ... اهـ.
القول الثاني: أنه يجوز النظر من المحارم إلى ما يظهر من المرأة غالبًا كمواضع الوضوء (3).
فعن ابن عمر قال: "كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا" (4).
وهذا محمول على أنه يختص بالزوجات والمحارم (5)، وعلى هذا ففيه دليل على جواز نظر الرجل إلى مواضع الوضوء من محارمه والعكس والله أعلم (6).
* تنبيهات:
1 - إباحة نظر المحرم إلى المرأة -على ما تقدم- مشروط بأن لا يكون على وجه الالتذاذ والاستمتاع والشهوة، فإن حصل هذا فلا خلاف في منعه.
2 - فرق بعض العلماء بين بعض المحارم فيما يجوز للمرأة أن تبديه، بحسب ما في نفوس البشر، فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها، وتختلف مراتب ما تبدى لهم، فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج. قاله القرطبي (7).
_________
(1) البخاري (251)، ومسلم (320).
(2) نقله الحافظ في «الفتح» (1/ 465).
(3) سنن البيهقي (9417)، والإنصاف (8/ 20)، والمغني (6/ 554)، والمجموع (16/ 140).
(4) البخاري (193)، وأبو داود (79)، والنسائي (1/ 57)، وابن ماجة (381).
(5) «فتح الباري» (1/ 465) و «عون المعبود» (1/ 147).
(6) «جامع أحكام النساء» (4/ 195).
(7) ذكره شيخنا في «جامع أحكام النساء» (4/ 504) ثم قال: «وهذا مقبول من ناحية النظر، لكنه يفتقر في إثباته إلى الأدلة» اهـ.

(3/40)


3 - ينبغي للمرأة أن لا تظهر زينتها لمحرمها الذي تحصل من جهته الشبهة أو الريبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر زوجته سودة بالاحتجاب من غلام، وقد حكم أنه أخوها -لأنه ولد على فراش أبيها- لما رأى به شبهًا بينًا بعتبة بن أبي وقاص وقد ادعى سعد بن أبي وقاص أنه ابن أخيه عتبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما قضى أنه أخوها: " ... احتجبي منه يا سودة" (1).
* يجوز للمرأة مَسُّ المرأة وتقبيلها إذا لم يكن بشهوة:
ففي حديث عائشة في قصة غضبها على ابن الزبير (وهو ابن أختها أسماء). ونذرها ألا تكلمه، واستشفاعه إليها لتكمله:
"قالت: ادخلوا كلكم -ولا تعلم أن معهما ابن الزبير- فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي ... " (2).
وعن عائشة قالت: " ... كانت إذا دخلت عليه [أي فاطمة] قام إليها [النبي صلى الله عليه وسلم] فأخذ بيدها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبَّلته وأجلسته في مجلسها" (3).
* ويجوز للمرأة أن تركب خلف الرجل من محارمها:
لحديث أنس قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مَقفَله من عسفان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وقد أردف صفية بنت حيي فعثرت ناقته ... الحديث" (4).
3 - لباس المرأة أمام النساء:
قال تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن} (5).
قال ابن كثير (3/ 284): وقوله {أو نسائهن} يعني: تظهر بزينتها أيضًا للنساء المسلمات ... اهـ.
_________
(1) البخاري (2053)، ومسلم (1457) وهذا معناه.
(2) البخاري (6073).
(3) أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، والحاكم (4/ 272) وهو صحيح.
(4) البخاري (3085)، ومسلم (1345).
(5) سورة النور: 31.

(3/41)


وعورة المرأة التي يجب سترها عن المرأة هي عورة الرجل بالنسبة للرجل: من السرة إلى الركبة (1).
فلا يجوز أن تطلع المرأة على ما بين السرة والركبة من امرأة أخرى كما يفعله كثير من المسلمات، قال ابن الجوزي (2): "وعموم النساء الجاهلات، لا يتحاشين كشف العورة أو بعضها والأم حاضرة أو الأخت أو البنت، ويقلن هؤلاء ذوات قرابة، فلتعلم المرأة أنها إذا بلغت سبع سنين لم يجز لأمها ولا أختها ولا لابنتها أن تنظر إلى عورتها ... " اهـ.
قلت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة الثوب الواحد" (3).
* هل تبدي المرأة زينتها للمرأة الكافرة؟
ذهب فريق من العلماء إلى أن المرأة لا يجوز لها أن تبدي زينتها لغير المسلمات لئلا يصفنها لأزواجهن، لقوله تعالى: {أو نسائهن} والمراد النساء المؤمنات فيخرج من ذلك نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم (4).
بينما ذهب آخرون إلى جواز ذلك وأنه لا فرق بين المسلمة والذمية في النظر إلى المرأة، واستدلوا بأن الكوافر من اليهوديات كُن يدخلن على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكنَّ يحتجبن ولا أمرن بالحجاب ولا أمرن بالحجاب، وقد جاءت يهودية فدخلت على عائشة فذكرت عذاب القبر .... فسألت رسول الله فقال: "نَعَم عذاب القبر ... " الحديث (5).
وقالت أسماء: قدمت عليَّ أمي وهي راغبة -يعني: عن الإسلام- فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلها؟ قال: "نعم" (6).
ولأن الحجب بين الرجال والنساء لمعنى لا يوجد بين المسلمة والذمية فوجب
_________
(1) المغنى (6/ 562).
(2) «أحكام النساء» لابن الجوزي (ص76).
(3) مسلم (338)، وأبو داود (4018)، والترمذي (2793)، وابن ماجة (661).
(4) تفسير ابن كثير (3/ 284)، وتفسير القرطبي (4625).
(5) البخاري (1372)، ومسلم (903).
(6) البخاري (2620)، ومسلم (1003).

(3/42)


أن لا يثبت الحجب بينهما كالمسلم مع الذمي، ولأن الحجاب إنما يجب بنص أو قياس ولم يوجد واحد منهما، فقوله: {أو نسائهن} يحتمل أن يكون المراد جملة النساء، والله أعلم (1).
قلت: لكن إن حصلت الريبة من إحدى النساء الكتابيات وعلم أنها تصف المرأة لزوجها فإنه يمنع إبداء الزينة لها والله أعلم.
4 - لباس المرأة أمام عَبْدِها:
ذهب أكثر العلماء إلى أن عبد المرأة كالمحرم يجوز له النظر إلى ما ينظر إليه المحرم.
واستدلوا بقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن} (2) قالوا: فقوله: {أو ما ملكت أيمانهن} يشمل العبيد والإماء، ولا يجوز أن يحمل ذلك على الإماء، لأن ذلك دخل في قوله قبل ذلك {أو نسائهن} (3).
ولحديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد كان قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى، قال: "إنه ليس عليكِ بأس، إنما هو أبوك وغلامك" (4).
ورجع شيخ الإسلام جواز نظر العبد إلى مولاته لأجل الحاجة لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد والمعامل والخاطب فإذا جاز فنظر العبد أولى (5).
5 - إبداء الزينة أمام من ليس لهم حاجة إلى النساء:
قال تعالى: {أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال} (6).
_________
(1) «جامع أحكام النساء» (4/ 498).
(2) سورة النور: 31.
(3) المبسوط (10/ 157).
(4) أبو داود (4106)، والبيهقي (7/ 95) وهو حسن.
(5) «مجموع الفتاوى» (16/ 141).
(6) سورة النور: 31.

(3/43)


قال ابن كثير: يعني كالأُجَراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء وهم مع ذلك في عقولهم وَلَهٌ. اهـ.
وهم الذين ليس لهم حاجة إلى النساء ولم يكن لهم فيهن إرب لكبر أو تخنث أو عنَّة.
ومثل هؤلاء يرخص لهم في النظر إلى النساء من أجل الحاجة الماسة، رفعًا للحرج، لكن إذا علم أن المخنث -مثلًا- يفطن إلى أمر النساء ويصفهن فإنه يمنع من الدخول عليهن والنظر إليهن.
فعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها -وفي البيت مخنث- فقال المخنث لأخي أم سلمة -عبد الله بن أبي أمية-: إن فتح الله لكم الطائف غدًا أدلك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن هذا عليكم" (1).
فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم يصف ابن غيلان علم أنه يفهم أمر النساء فأمر بحجبه.
* تنبيه: اتفق جمهور الفقهاء على أن الرجل الخصي والمجبوب يحرم نظره إلى النساء، لأن العضو إن تعطل أو عدم، فشهوة الرجال لا تزال من قلوبهم (2).
6 - إبداء الزينة للأطفال الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن:
قال الله تعالى: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} (3).
قال ابن كثير: "يعني: لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعاطفهن في المشي وحركتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إن كان مراهقًا أو قريبًا منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكن من الدخول على النساء" اهـ.
ومما يدل على ذلك، حديث جابر "أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا طيبة أن يحجمها" قال: حسبت أنه قال: كان أخاها من الرضاعة أو غلامًا لم يحتلم (4).
_________
(1) البخاري (5235)، ومسلم (2180).
(2) انظر المبسوط (10/ 158)، والمجموع (16/ 140).
(3) سورة النور: 31.
(4) مسلم (2206)، وأبو داود (4105)، وابن ماجة (3480).

(3/44)


7 - لباس المرأة وزينتها أمام زوجها:
لكل واحد من الزوجين أن ينظر إلى جميع بدن الآخر من غير كراهة، سواء كان ذلك بشهوة أو بغير شهوة، وسواء في ذلك الفرج وغيره، وهذا قول جمهور العلماء، ومما يدل على ذلك:
1 - قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} (1).
والآية تدل على أن ما فوق النظر -وهو المس والغشيان- حلال بينهما، وبما أنه أبيح للزوج الاستمتاع به فمن باب أولى أن يباح له النظر إليه ولمسه كبقية البدن (2).
2 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح يقال له: الفَرَق" (3).
وهو دليل على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه (4).
3 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك" (5).
فالحاصل: أنه لا حد لعورة أحد الزوجين أمام الآخر، فتلبس المرأة ما شاءت لزوجها وتخلع ما شاءت، وتزين له بكل أنواع الزينة المباحة شرعًا، والتي سوف نتناولها بالتفصيل قريبًا، إن شاء الله.

مسائل تتعلق بأحكام النظر (6)
1 - نظر الرجال -غير المحارم- إلى المرأة:
يحرم على الرجال النظر إلى النساء لغير ضرورة، وقد أمر الشارع بغض البصر.
_________
(1) سورة المعارج: 29، 30.
(2) المبسوط (10/ 148)، والمحلي (10/ 33).
(3) البخاري (250)، ومسلم (319).
(4) فتح الباري (1/ 364).
(5) أبو داود (4017)، والترمذي (2769)، وابن ماجة (1920) بسند حسن.
(6) تقدم طرف من مسائل النظر فيما مضى.

(3/45)


1 - قال الله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بنا يصنعون} (1).
قال ابن القيم (2)، رحمه الله: "لما كان غض البصر أصلًا لحفظ الفرج بدأ بذكره، ولما كان تحريمه تحريم الوسائل، فيباح للمصلحة الراجحة، ويحرم إذا خيف منه الفساد، ولم يعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة، لم يأمر سبحانه بغضه مطلقًا، بل أمر بالغض منه، وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يباح إلا بحقه فلذلك عم الأمر بحفظه" اهـ.
2 - وعن ابن عباس قال: "كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر" (3). وهذا منه صلى الله عليه وسلم منع وإنكار بالفعل.
3 - وعن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة "فأمرني أن أصرف بصري" (4).
4 - وعن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: "يا عليُّ، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة" (5).
* نظر الرجل إلى المرأة يباح للمصلحة الراجحة:
قد تقرر أن نظر الرجل للمرأة -والعكس- قد حرم لأنه وسيلة وذريعة إلى الفاحشة، وما كان تحريمه تحريم الوسائل فإنه يباح للمصلحة الراجحة، والأص في هذا الحديث عليٌّ في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم له وللزبير ولأبي مرثد، لإدراك المرأة المشركة التي كان معها صحيفة حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين وفيه: " ... قلت: لقد علمت ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يُحلف به، لتخرجن الكتاب أو
_________
(1) سورة النور: 30.
(2) «روضة المحبين» (ص 92).
(3) البخاري (6228)، ومسلم (1218) وقد تقدم.
(4) مسلم (2159)، وأبو داود (2148)، والترمذي (2776).
(5) الترمذي (2777)، وأبو داود (2149)، وأحمد (1377)، وسنده حسن لغيره.

(3/46)


لأجردنك، قال فلما رأت الجد مني أهوت بيدها إلى حُجزتها فأخرجت الكتاب ... الحديث" (1).
قال الحافظ في "الفتح" (11/ 47): "في الحديث أنه يجوز النظر إلى عورة المرأة للضرورة التي لا يجد بدًا من النظر إليها" اهـ.
وقلت: ومن المواطن التي يباح فيها النظر إلى المرأة:
1 - الخطبة: وقد اتفق العلماء على إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد أن يتزوجها.
"والحكمة في ذلك أن يكون الزوج على رؤية، وأن يكون أبعد من الندم الذي يلزمه إن اقتحم في النكاح ولم يوافقه فلم يُرْده، وأسهل للتلافي إن رد، وأن يكون تزوجها على شوق ونشاط إن وافقه. والرجل الحكيم لا يلج مولجًا حتى يتبين خيره وشره قبل ولوجه" (2).
وسيأتي مزيد بيان لأحكام الخطبة وأدلة النظر حدوده وضوابطه، في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
2 - النظر للعلاج:
الأصل أنه لا يطبب المرأة إلا المرأة، لكن لا خلاف بين العلماء أنه يجوز للرجل أن يطبب المرأة وينظر إلى موضع المرض منها عند الحاجة، وضمن ضوابط معينة.
والأصل في هذا أنه جاز للمرأة الأجنبية أن تعالج الرجل عند الضرورة فذلك العكس، فعن الربيع بن معوِّذ قالت: "كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة" (3).
لكن لا ينبغي التوسع في هذا الأمر -كما هو مشاهد في هذه الأيام- فلجواز نظر الطبيب إلى المرأة المريضة ضوابط ذكرها العلماء ومن ذلك (4):
1 - يشترط تقديم الطبيبة في معالجة المرأة على الطبيب -إذا وجدت- وخاصة إذا كان الكشف في مواطن العورة المغلظة، فإن لم توجد طبيبة أو لم يمكن الوصول إليها، فحينئذ تكون الضرورة.
_________
(1) البخاري (3081)، ومسلم (2494).
(2) حجة الله البالغة (2/ 124).
(3) صحيح البخاري (2883).
(4) انظر «أحكام العورة والنظر» لمساعد الفالح (ص 344 وما بعدها).

(3/47)


2 - أن يكون الطبيب أمينًا غير متهم في خلقه ودينه.
3 - ألا يخلو الطبيب بالمرأة إلا في وجود محرم أو امرأة ثقة.
4 - ألا يتجاوز الطبيب الحد الكافي لدفع الضرورة من نظر وكشف ولمس وغيرها من دواعي العلاج، وعليه عند الكشف على المرأة أن يستر جميع ما لا يحتاج إلى النظر إليه من جسمها، ويكتفي فقط بالنظر إلى موضع العلاج.
5 - أن تكون الحاجة إلى العلاج ماسة كمرض أو وجع لا يحتمل، أو هزال يخشى منه، أما إذا لم يكن مرض أو ضرورة للمداواة فلا يجوز قطعًا كالتي تتعاين عند الطبيب لتحسين صحتها أو لتخفيف وزنها أو لتجميل جسمها، فإن هذا ليس بموضع حاجة.
3 - النظر من القاضي والشاهد:
نظر القاضي والشاهد إلى المرأة من الحالات المستثناة ضرورة، وهو ما إذا دُعي الرجل إلى الشهادة لها أو عليها، أو كان حاكمًا ينظر ليوجه الحكم عليها بإقرارها أو بشهادة الشهود على معرفتها، لأنه لا يجد بدًا من النظر في هذا الموضع، والضرورات تبيح المحظورات (1).
ولو عرفها الشاهد في النقاب لم يحتج للكشف إلى فإن الضروروة تقدر بقدرها.
4 - النظر للمعاملة كالبيع والشراء:
قد تقضي الضرورة تمييز المرأة ومعرفتها من غيرها عند البيع والشراء أو غيرهما ليرجع المتعامل بالعهدة ويطالب بالثمن مثلًا، فقد نص الفقهاء على جواز النظر للمرأة من أجل المعاملة.
قال النووي: "ويجوز للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية عند الشهادة وعند البيع منها والشراء، ويجوز لها أن تنظر إلى وجهه كذلك" (2).
* استئذان الرجل للدخول على المحارم:
تقدم تحديد عورة المرأة أمام محارمها، وأن المرأة لا تؤمر بالحجاب أمام هؤلاء المحارم.
_________
(1) انظر «أحكام العورة والنظر» (ص 350).
(2) «المجموع» (16/ 139).

(3/48)


لكن لا ينبغي أن يدخل الرجال على محارمهم بدون استئذان، لأنه قد يدخل على محرمه فيراها في هيئة يكرهها كأن تكون عريانة أو نحو ذلك.
فعن علقمة قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: أأستأذن على أمي؟ قال: ما على كل أحيانها تحب أن تراها (1).
وعن عطاء قال: سألت ابن عباس فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم، فأعدت فقلت: أختان في حجري وأنا أمونهما وأنفق عليهما أستأذن عليهما؟ قال: نعم، أتحب أن تراهما عريانتين؟!
ثم قرأ: {ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم} (2) (3).
* يحرم على الرجل الخلوة بالمرأة الأجنبية:
فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخلُوَنَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" (4).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما" (5).
* فإن دخل رجلان أو ثلاثة ممن يبعد تواطؤهم على الفاحشة على امرأة جاز:
لحديث عبد الله بن عمرو "أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس فدخل أبو بكر الصديق -وهي تحته يومئذ- فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لم أر إلا خيرًا" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد برّأها من ذلك" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة (6) إلا ومعه رجل أو اثنان" (7).
* يجوز للرجل عيادة المرأة المريضة بشرط التستر وأمن الفتنة:
فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب، فقال: "مالك
_________
(1) البخاري في «الأدب المفرد» (1059) بسند صحيح.
(2) سورة النور: 58.
(3) البخاري في «الأدب المفرد» (1063) بسند صحيح.
(4) البخاري (3006)، ومسلم (1341).
(5) أحمد في «المسند» (1/ 18) بسند صحيح.
(6) المغيبة هي المرأة التي غاب عنها زوجها.
(7) صحيح مسلم (2173).

(3/49)


يا أم السائب تزفزفين؟ " قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: "لا تسبي الحُمَّى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" (1).
2 - نظر المرأة إلى الرجال غير المحارم:
نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي، إن كان بشهوة فحرام بالاتفاق، وإن كان بغير شهوة ولا مخافة فتنة ففي جواز ذلك وجهان (2):
والراجح أن للمرأة أن تنظر إلى ما سوى ما بين السرة إلى الركبة من الرجل إذا أمنت الفتنة (3) ويؤيد هذا:
-حديث عائشة قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حُجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم" (4).
والحديث ظاهر الدلالة في جواز نظر المرأة إلى للرجال.
- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "اذهبي إلى ابن أم مكتوم فكوني عنده، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده" (5).
وهذا دليل على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أنه يطلع عليه من المرأة وأما العورة فلا (6).
وعلى هذا تكون هذه الأدلة مخصصة لقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} (7).
لكن جواز النظر إلى الرجال مشروط بما لم يكن بشهوة مع أمن الفتنة، ووجود الحاجة، فلا يعني هذا جواز اختلاط المرأة بالأجانب وتبادل النظر والحديث معهم لغير حاجة والله أعلم.
* يجوز للمرأة عيادة الرجل المريض بشرط التستر وأمن الفتنة:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وُعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالت: فدخلت عليهما قلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدُك؟ ... " (8).
_________
(1) صحيح مسلم (2575).
(2) شرح مسلم للنووي (6/ 184).
(3) المبسوط (10/ 148) وبدائع الصنائع (5/ 122).
(4) البخاري (455)، ومسلم (892).
(5) صحيح مسلم (1480).
(6) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 228).
(7) سورة النور: 31.
(8) البخاري (3926)، ومسلم (1376) واللفظ للبخاري.

(3/50)


* ويجوز للمرأة أن تعالج الرجل عند الضرورة:
لما تقدم من حديث الرُّبيع بنت معوذ قالت: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونردُّ القتلى إلى المدينة" (1).
لكن يشترط ألا يكون هناك رجل يستطيع أن يقوم بمثل هذه المعالجة، والله أعلم.
* لا يجوز للمرأة مصافحة الرجل الأجنبي:
فعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحلُّ له" (2).
ولذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافح النساء ولا يبايعهن إلا كلامًا.
فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمرأة المُبايعة: "قد بايعتك كلامًا" وقالت: ولا والله ما مسَّت يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتك على ذلك" (3).
وفي رواية أنه قال لهن: "إني لا أصافح النساء ... " (4).
* أما تسليم النساء على الرجال -وعكسه- من غير مصافحة فجائز:
فعن أم هانئ قالت: "ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه، ... " الحديث (5).
ففي الحديث جواز تسليم المرأة على الرجل من غير مصافحة، ومحله إذا أمنت الفتنة.
وكذلك يجوز للرجل السلام على النساء -دون مصافحة-: فعن أسماء بنت يزيد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ في المسجد يومًا، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم" (6).
_________
(1) صحيح البخاري (2883).
(2) الطبراني في «الكبير» (20/ 211) بسند حسن، وانظر السلسة الصحيحة (226).
(3) صحيح البخاري (2713).
(4) موطأ مالك (1842)، وأحمد (6/ 357)، والترمذي (1597)، والنسائي (4181)، وابن ماجة (2874).
(5) البخاري (3171)، ومسلم (336).
(6) الترمذي (2697)، وأبو داود (5204)، وابن ماجة (3701)، وحسنَّه شيخنا - حفظه الله - في «جامع أحكام النساء» (4/ 318).

(3/51)


* يجوز تكليم النساء للرجال -بضوابطه الشرعية- إذا أمنت الفتنة:
ومحل هذا التكليم الضرورة والحاجة، والانضباط بالضوابط الشرعية، فلا يكون فيه خضوع بالقول، ولين وتميُّع، لقوله تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا} (1).
ومما يدل على الجواز، قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب} (2).
وقوله تعالى في تكليم موسى عليه السلام للمرأتين بمدين: {ووجد من دونهم امرأتين تزودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير* فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير* فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} (3).
وفي الباب عدة أحاديث نذكر منها: حديث أنس قال: "لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة: واكرب أباه، فقال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" ... فلما دفن قالت فاطمة -عليها السلام-: يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! " (4).
* تكليم الرجل في التليفون للحاجة:
وعلى ما تقدم فيجوز للمرأة أن تكلم الرجل الأجنبي في التليفون للحاجة، على أن يقيد هذا بالضوابط الشرعية.
"أما إذا كان التليفون سيحدث بينهما جوًّا مشابهًا لجو الخلوة التي نهينا عنها شرعًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان" وكانت ستتمكن هي وهو من الحديث الذي يجرهما إلى محرم فترك ذلك متعين، والله أعلم" (5).

الزينة للمرأة المسلمة (6)
تقدم أن المرأة لا يجوز لها أن تبدي لزوجها أو محارمها أو النساء أو من تقدم ذكره قريبًا ممن يجوز لها إبداء الزينة له.
_________
(1) سورة الأحزاب: 32.
(2) سورة الأحزاب: 53.
(3) سورة القصص: 23 - 25.
(4) صحيح البخاري (4462).
(5) من كلام شيخنا - حفظه الله - في «جامع أحكام النساء» (4/ 366).
(6) انظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا، و «أحكام الزينة للنساء» لعمرو عبد المنعم.

(3/52)


وبقي أن يُعلم هنا أمران:
الأول: أن الزينة التي تبديها المرأة لهؤلاء تتفاوت وتختلف، فما تبديه لزوجها غير ما تبديه لأبيها وأخيها، وما تبديه من الزينة لهما غير الذي تبديه لزوج أمها وهكذا، وهذا أمر ظاهر.
الثاني: أن التزين للزوج له حدود، فليس الأمر فيه مطلقًا، فلا يجوز التزين للزوج بما هو محرم، أو بما فيه تشبه بالرجال، أو بما يغير خلق الله، أو بما هو خاص بزينة الكافرات وهكذا مما سيتضح فيما يأتي.
والآن: ما هي أنواع الزينة التي تتزين بها النساء، وما هو المشروع منها وما هو غير المشروع، وما هي بعض آداب ذلك؟
فأقول: إليك طرفًا من أنواع زينة النساء:
1 - زينة الشَّعر:
يستحب الاعتناء بالشعر وتمشيطه وتدهينه وغسله ونحو ذلك لكي تظهرالمرأة أمام زوجها بمظهر يسرُّه، ولا شك أن إدخال السرور على الزوج أمر مطلوب شرعًا، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير النساء قال: "الذي تطيعه إذا أمر، وتسره إذا نظر، وتحفظه في نفسها وماله" (1).
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه إذا رجعوا من سفر أن يدخلوا على نسائهم ليلًا خشية أن يرى الرجل زوجه بمنظر قبيح، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: "أمهلوا حتى لا ندخل ليلًا، كي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة" (2).
والشعثة: التي اغبر وتوسخ شعر رأسها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان له شعر فليكرمه" (3).
* ومن آداب الترجل (تمشيط الشعر):
1 - البدء بالشق الأيمن من الرأس:
لحديث عائشة الذي تقدم: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره وتنعله وترجله" (4).
_________
(1) النسائي (6/ 68) بسند صحيح.
(2) البخاري (579)، ومسلم (715).
(3) أبو داود (4163) بسند حسن.
(4) تقدم قريبًا.

(3/53)


2 - تدهين الشعر وتسكينه بالماء إذا كان ثائرًا:
لقوله صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل الأشعث: "أما كان يجد ما يسكن به به شعره؟! " (1).
* لا يجوز وصل الشعر (لبس الباروكة):
فعن أسماء: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة" (2).
والواصلة: التي تصل شعر المرأة بشعر آخر.
والمستوصلة: التي تطلب من يفعل بها ذلك، ومن هذا لبس "الباروكة" وهذا حرام على المرأة حتى وإن تساقط شعرها.
لما في الرواية الأخرى عن أسماء: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أنكحت ابنتي ثم أصابها شكوى فتمرَّق رأسها (أي تساقط شعرها) وزوجها يستحثني بها، أفأصل رأسها؟ فسبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة (3).
وعن معاوية بن أبي سفيان أنه تناول قُصَّة من شعر كانت بيد حَرَسيٌ فقال: أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حيث اتخذ هذه نساؤهم" (4).
فالحاصل أنه لا يجوز للمرأة أن تصل شعرها بشعر آخر (كلبس الباروكة) سواء كان ذلك للزوج أو لغيره فإنه حرام.
* هل يجوز وصل الشعر بخيط الحرير أو الصوف ونحو ذلك، مما ليس بشعر؟
الراجح من قولي العلماء أنه يجوز للمرأة أن تصل شعرها بخيوط الحرير أو الصوف أو القماش، مما لا يشبه الشعر، فإن هذا ليس بوصل ولا في معنى مقصود الوصل وإنما هو للتجمل والتحسين (5) والله أعلم.
* الاستحداد ونتف الإبط من سنن الفطرة:
الاستحداد: هو حلق العانة (وهي: الشعر النابت حول الفرج) ويستحب
_________
(1) أبو داود (4062)، والنسائي (8/ 183) بسند صحيح.
(2) البخاري (5936)، ومسلم (2122).
(3) البخاري (5935)، ومسلم (2122).
(4) البخاري (5933)، ومسلم (2127).
(5) نقله النووي عن القاضي عياض، وذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل - رحمه الله.

(3/54)


للمرأة أن تتعاهد إزالة شعر العانة والإبط، فإن ذلك من سنن الفطرة المندوب إلى فعلها.
ويكره للمرأة -وللرجل كذلك- أن تتركه حتى يطول لكونه مظنة لتجمع الأوساخ ومنبعًا للرائحة الكريهة التي ينفر منها كل من الزوجين.
ولذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يترك هذا الشعر أكثر من أربعين ليلة: فعن أنس قال: "وُقِّت لنا في الشارب، وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا يترك أكثر من أربعين ليلة" (1).
* النمص حرام:
النمص: قيل هو إزالة الشعر من الوجه مطلقًا.
وقيل هو إزالة شعر الحاجب وترقيقه خاصة دون سائر الوجه وهذا الثاني هو المنقول عن عائشة، وهي أعلم بمثل هذا من غيرها.
والنمص حرام سواء كان للزوج أو لغيره، بإذن الزوج أو بدونه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن النامصة والمتنمصة" (2).
لما في هذا الفعل من تغيير لخلق الله، فهذا حرام على الفاعلة له والمفعول بها.
ورغم هذا اللعن من الله ورسوله لمن تفعل ذلك نجد هذا الأمر -مع الأسف الشديد- فاشيًا في نساء المسلمين -بل وفي بعض المحجبات- حتى إنه ليُنكر على من لا تتعاطاه ويُسخر منها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
* إذا ظهر للمرأة شعر شارب أو لحية فإنها تزيله:
ففي بعض الحالات -غير الطبيعية- ينبت للمرأة شعر شارب أو لحية حتى يفحش فحينئذٍ ينبغي عليها أن تزيله، فإن هذا إعادة للخلقة إلى أصلها وليس تغييرًا لها.
2 - الزينة في الأسنان:
حث الإسلام على العناية بالأسنان، فندب إلى استعمال السواك:
_________
(1) مسلم (258)، وأبو داود (420)، والترمذي (2759)، والنسائي (1/ 15)، وابن ماجة (295).
(2) البخاري (5948)، ومسلم (2125) وغيرهما.

(3/55)


فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة" (1).
* لا يجوز تفليج الأسنان:
والتفليج: هو مباعدة الأسنان بعضها عن بعض إظهارًا لصغر السن وحسن الأسنان، وهذا الفعل لغير التطبب حرام لما فيه من تغيير خلق الله والتدليس والتلبيس، ولذا: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله" (2).
فإذا فُعل هذا لغرض التطبب جاز، وكذلك يجوز شد الأسنان بالذهب إذا خشي عليها التساقط، وزرع الأسنان والأضراس، فكل هذا مباح للضرورة (3) والله أعلم.
* زينة الطيب (استعمال العطور):
الطيب من مظاهر الزينة المباحة للنساء، فتتطيب المرأة لزوجها بما شاءت من الطيب. فقد تقدم -في الجنائز- حديث زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ... " (4).
* يجوز تطيب المرأة بطيب الرجال والعكس:
فقد جاء في حديث عائشة المتقدم -في الحيض- اتباع الدم بفرصة مسك، وهو من عطور الرجال.
وجاء في حديث أبي سعيد استحباب تطيب الرجل يوم الجمعة "ولو من طيب المرأة" (5).
* استعمال العطور المحتوية على الكحول (الكولونيا) (6):
أكثر الروائح العطرية المعروفة بـ (الكولونيا أو البارفان) تحتوي على مادة
_________
(1) البخاري (887)، ومسلم (252) واللفظ له.
(2) البخاري (4886)، ومسلم (2125).
(3) المغني (3/ 15، 16).
(4) البخاري (5334)، ومسلم (1486).
(5) صحيح مسلم (846)، والنسائي (1375)، وأبو داود (344).
(6) انظر: «أضواء البيان» (1/ 324)، و «فتاوى اللجنة الدائمة» (ص: 150) جمع صفوت الشوادفي - رحمه الله.

(3/56)


الكحول (الإيثيلي) وقد ثبت بقول أهل الخبرة من الأطباء أنها مسكرة، وعلى هذا فلا يجوز استعمالها في الطيب لأمرين:
1 - أن الله تعالى قال: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (1).
فسمَّى الله تعالى الخمر (وهي كل مسكر) رجسًا وأمر باجتنابها وهذا يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المسكر، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة الخمر (2) ولو كانت فيها منفعة أخرى لبيَّنها، كما بيَّن جواز الانتفاع بجلود الميتة، ولما أراقها.
فلا يخفى على منصف أن التضمخ بالطيب المذكور، والتلذذ برائحته واستطابته واستحسانه مع أنه مسكر، فيه ما فيه.
2 - أن الخمر نجسة -عند جمهور العلماء- من الأئمة الأربعة وغيرهم (3) فتحرم -على هذا- الصلاة في الثوب أو البدن الذي أصابه هذا العطر!! بل تبطل الصلاة عند الجمهور بذلك.
على أن من العلماء من أجاز هذه العطور إذا كانت نسبة الكحول فيها قليلة -وهذا يعرفه أهل الخبرة- والأحوط تركها، أو استعمال العطور المذابة بغير هذا الكحول، والله أعلم.
* للمرأة أن تعطِّر زوجها:
فعن عائشة قالت: "كنت أطيِّب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته" (4).
* فائدة: يؤخذ من الحديث أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه بخلاف النساء لأنهن يطيبن وجوههن ويتزينَّ بذلك بخلاف الرجال.
فإن تطييب الرجل في وجهه لا يشرع لمنعه من التشبه بالنساء (5).
_________
(1) سورة المائدة: 90.
(2) البخاري (2464)، ومسلم (1980).
(3) على أنني متوقف في مسألة نجاسة الخمر، لتوقفي في حمل المشترك اللفظي على جميع معانيه، وهي مسألة مشهورة في الأصل.
(4) البخاري (5923)، ومسلم (1190).
(5) «فتح الباري» (10/ 366).

(3/57)


* إذا خرجت المرأة من بيتها وجب عليها إزالة رائحة العطر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية" (1)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد، فلا تمس طيبًا" (2) قال الألباني -رحمه الله- (3): "فإذا كان هذا حرامًا على مريدة المسجد فماذا يكون الحكم على مريدة السوق والأزقة والشوارع؟
لا شك أنه أشد حرمة وأكبر إثمًا، وقد ذكر الهيثمي في "الزواجر" أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر ولو أذن لها زوجها" اهـ.
قلت: فيجب على المرأة أن تتخلص من رائحة الطيب قبل خروجها من بيتها.
ويكون هذا التخلص بغسله أو غير ذلك مما تحصل به الإزالة للرائحة وقد رُوي في هذا حديث ضعيف الإسناد إلا أن معناه صحيح، وهو: "ما من امرأة تطيبت للمسجد، فلن يقبل الله لها صلاة حتى تغتسل منه اغتسالها من الجنابة" (4).
* تنبيه: قد تخرج المرأة من بيتها -غير متعطرة- ولكنها تحمل طفلها الذي عطرته، وهذا لا يجوز، لأن علة لفت أنظار الرجال إليها بسبب الرائحة ما زالت موجودة فبقي حكم التحريم، فلينتبه لهذا، والله أعلم.
* لا يجوز استعمال الطيب لا للزوج ولا لغيره في ثلاث حالات:
(أ) في الإحرام:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المُحرم: " ... ولا تلبسوا شيئًا مسه زعفران ولا ورس ... " (5).
والحكمة في منعه للمُحرمة أنه من دواعي الجماع ومقدماته التي تفسد الإحرام.
(ب) عد الإحداد: وقد تقدم في الجنائز أن المرأة تمتنع في الإحداد على الميت من الطيب وغيره.
(جـ) عند الخروج من البيت: حتى وإن نوت التعطر لزوجها فهذا لا يجوز كما تقدم.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) مسلم (443)، والنسائي في «الكبرى» (9425).
(3) «الحجاب» (ص: 65، 66).
(4) النسائي (8/ 153)، وأحمد (2/ 297) وهو ضعيف.
(5) البخاري، وقد تقدم في «الحج».

(3/58)


4 - زينة الكحل:
يستحب للمرأة الاكتحال لأجل التزين لزوجها، وكذلك التطبب إذا اشتكت من آلام العين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثمد: يجلو البصر، وينبت الشعر" (1).
لا يجوز للمرأة التكحل في فترة الإحداد: وقد تقدم هذا في الجنائز.
لا يجوز اتخاذ المكحلة من الذهب أو الفضة (2):
فقد تقدم في "الآنية" أنه لا يجوز استعمال الآنية المصنوعة من الذهب أو الفضة لما فيه من السرف والخيلاء وكسر لقلوب الفقراء ونحو ذلك.
5 - الزينة بالخضاب والأصباغ:
لا يجوز للمرأة -ولا للرجل- نتف الشيب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة" (3).
ولكن يُشرع صبغ هذا الشيب بصفرة أو حُمرة، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" (4).
وقد ورد أن أفضل ما يغير به الشيب: الحناء والكتم.
فعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحسن ما غيَّرتم به الشيب: الحناء والكتم" (5).
والحناء معروفة، والكتم: نبات يصبغ به، لكن لا يشرع الصبغ بالأسود، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أبا قحافة يوم الفتح ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا: "غيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" (6).
_________
(1) أبو داود (3878)، والترمذي (994)، والنسائي (8/ 15)، وابن ماجة (3497) وسنده حسن.
(2) «فتاوى العز بن عبد السلام» (ص 158) عن «أحكام الزينة للنساء» (ص 48).
(3) أبو داود (4202) بسند حسن.
(4) البخاري (3462)، ومسلم (2103).
(5) الترمذي (1573)، والنسائي (8/ 139)، وابن ماجة (3622) وفي سنده اختلاف.
(6) مسلم (2102)، والنسائي (5076)، وأبو داود (4204).

(3/59)


* يجوز خضاب الأيدي والأقدام:
فعن معاذة: أن امرأة سألت عائشة: تختضب الحائض؟ فقالت: "قد كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم نختضب، فلم يكن ينهانا عنه" (1).
وكذلك يجوز الخضاب في الطُّهر، لكن على المرأة أن تزيله إذا أرادت الوضوء.
فعن ابن عباس قال: "كُنَّ نساؤنا يختضبن بالليل، فإذا أصبحن فتحنه فتوضأْن وصلَّيْن، ثم يختضبن بعد الصلاة، فإذا كان عند الظهر فتحنه فتوضأن وصلين، فأحسن خضابًا، ولا يمنع من الصلاة" (2).
* "المكياج" ومساحيق الزينة:
يجوز للمرأة أن تستعمل -للتزين للزوج- ما شاءت من المساحيق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ... خير طيب النساء ماظهر لونه، وخفي ريحه" (3).
ومما يؤيد هذا: حديث أنس: "أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أثر صُفرة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن تزوج امرأة من الأنصار ... " الحديث (4).
قال النووي: إن الصفرة تعلقت به من جهة زوجته. اهـ.
وعلى هذا فهو دليل على استعمال المرأة للأصباغ والمساحيق.
"فالحاصل أن للمرأة أن تستعمل المكياج ما دامت لا تبديه إلا لمن أذن الله لها في إبدائه لهم، وإذا لم يكن فيه تدليس ولا غش لأحد، وإذا لم يثبت له ضرر كبير على بشرة المرأة والله أعلم" (5).
* تنبيه: يذكر بعض الأطباء أن للمكياج أضرارًا على البشرة، فإن ثبت هذا لم يجز استعماله، ومما ذكروه (6):
_________
(1) ابن ماجة (656) بسند صحيح.
(2) الدارمي (1093) بسند صحيح.
(3) الترمذي (2788)، وأبو داود (2174) وهو حسن لغيره كما قال شيخنا في «جامع أحكام النساء» (4/ 417).
(4) صحيح البخاري (5153).
(5) جامع أحكام النساء (4/ 418)، وبهذا أفتى العلامة ابن باز وابن عثيمين - رحمهما الله.
(6) من «اللباس والزينة» للأخ سمير عبد العزيز - أثابه الله - (ص: 120 - 125).

(3/60)


قال الدكتور مصطفى حسين عبد المقصود أستاذ الأمراض الجلدية والتناسلية بكلية طب طنطا عندما سألته عن أضرار هذا المكياج الصناعي فقال إن هذا المكياج الصناعي الحديث له أضرار بالغة على البشرة كالآتي:
أولًا: ضرر المكياج:
1 - يؤدي إلى ضمور الجلد وتجعده وبالتالي إلى عجز مبكر في الجلد.
2 - يؤدي إلى جفاف الجلد وتشققه.
3 - يؤدي إلى التهاب الجلد وتهيجه وإصابته بالحساسية الإكزيما.
4 - يؤدي إلى تغير في لون الجلد إما عن طريق زيادة اللون وظهور مناطق سمراء كلف الحمل. وإما بقلة الصبغات وظهور بعض البقع البيضاء.
5 - تؤدي بعض الألوان إلى امتصاص الإشعاعات وظهور حساسية ضوئية بالجلد مما قد ينتج عنه بعض الأورام.
7 - تؤدي الكريمات التي تستعمل كأساس إلى إغلاق مسام الجلد وظهور بعض الحبوب التي تشبه حب الشباب.
8 - كما يؤدي المكياج إلى تهيج حب الشباب لدى المصابين به وعدم استجابته للعلاج.
ثانيًا: (أحمر الشفايف):
1 - يؤدي إلى جفاف الشفتين وتشققهما ويؤدي إلى التهاب وتهيج الشفتين.
2 - يؤدي الاستعمال المتكرر له إلى الإكزيما والحساسية بالشفتين كما قد ينتج عنها بعض الأورام بالشفتين.
3 - تؤدي المادة الملونة إلى امتصاص الإشعاعات وتركيزها حول الشفتين مما يؤدي إلى زيادة اللون واسمرار الشفتين حول الفم. وهذه شكوى كثير من السيدات اللاتي يستعملن أحمر الشفايف.
4 - عند اختلاطها بالطعام والشراب قد يؤدي امتصاص بعض هذه المواد إلى أضرار بالغة بالجسم. اهـ (1).
_________
(1) أمدنا (القائل: الأخ سمير، حفظه الله) بهذه المعلومات الطبية الأستاذ / مصطفى حسين عبد المقصود دكتوراه الأمراض الجلدية والتناسلية والعقم، أستاذ بكلية طب طنطا.

(3/61)


جاء في مجلة (الوعي الإسلامي) (1) مقال للدكتور/ وجيه زين العابدين يقول فيه:
(فزينة الشعر أن تضع الفتاة عليه مادة لزجة ليقف. يسمونها سبراي، وهذا قد يسبب تكسر الشعر وسقوطه، أو قد يسبب أذى في قرنية العين إذا أصابها مباشرة، أو بصورة غير مباشرة كحساسية. وربما استمر علاج هذه الإصابة بضعة أشهر، وقد يسبب صبغ الشعر حساسية للمريض لمادة البروكاتين، كما أن المصابات بحساسية البنسلين أو مادة السلفا يتأثرن جدًّا من أصباغ الشعر فيصبن بتورم حول قاعدة الشعر، وربما سقط الشعر كله .. وأشد هذه المواد خطرًا ما يستعمل لتمويج الشعر بالطريقة الباردة، حيث تستعمل مواد تذيب طبقة الكيراتين فتسبب لها تكسرًا عند تحويل الشعر المجعد إلى مسرح.
... أما المساحيق والدهون التي توضع في الوجه فإنها تعرضه للإصابة بالبثور والالتهابات في الجلد. فيضعف ويصاب بالتجعد الشيخوخي قبل الأوان، وقد يترك التجعد خطًا بارزًا تحت العين، ولما تبلغ الفتاة بعد العشرين عامًا وكم من مرة سببت الرموش الصناعية التهابًا بالجفن، أو جاءت الحساسية للجفن من الصبغ الذي يوضع فوقه.
وقد يعرض الأحمر الشفاه للتورم أو تيبس جلدها الرقيق وتشققه لأنه يزيل الطبقة الحافظة للشفة. ويسبب أحيانًا صبغ الأظافر تشققًا وتكسرًا في الأظافر ويعرضها للالتهابات المتكررة والتشوه أو المرض المزمن.
إن الإنسان بطبيعته لابد أن يجد له الحماية من المؤثرات الخارجية التي تصيبه بحكم حياته في هذه الأرض. والجلد هو خط الدفاع الأول. فبقدر ما تكون عنايتنا بالجلد نستفيد من قواه الدفاعية. ومن المؤسف أن المدنية الحديثة تتعرض لهذه القوى الدفاعية بالأذى عن طريق الإسراف في استعمال أدوات التجميل ومواده).
وجاء في مجلة "طبيبك الخاص" السنة الثانية العدد 4 نيسان أبريل 1970 مقال للدكتور/عبد المنعم المفتي أستاذ ورئيس قسم الأمراض الجلدية بكلية الطب جامعة القاهرة قال فيه:
وهناك من وسائل فرد الشعر ما يؤدي إلي سقوطه .. فاستعمال المكواة .. أو الفرد بالأدوية الكيميائية التي تحتوي علي مواد كاوية تؤدي إلي سقوط الشعر ..
_________
(1) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية عدد 140، ص 93 وما بعدها، نقلًا من كتاب لباس المرأة المسلمة د / الفوزان.

(3/62)


فهذه الأدوية تضعف طبيعة الشعر حتي يأخذ الشكل المطلوب .. وقد لا يعرف البعض الضرر المترتب علي شد الشعر سواء كان ذلك باستعمال "الرولو" أو بأي طريقة أخري، إذ أن الجذب لساعات طويلة معناه الجذب الواقع على جذور الشعر المشدود والحد من كمية الدم التي تصل إلي الشعر .. ومعني ذلك حدوث الضمور في خلايا جذور هذا الشعر المشدود .. وتوقف نموه .. ثم دفعه إلي الدخول في دور الركود .. ثم الذبول.
نفس الخطر يظل موجودًا في حالة كثرة الفرد وتغيير اللون. وهذا يؤدي إلي حدوث التأثير السيئ علي الشعر عامة، ويؤدي إلي إضعافه. اهـ (1).
ويقول الدكتور وهبة أحمد حسن (كلية الطب جامعة الإسكندرية):
(إن إزالة شعر الحواجب بالوسائل المختلفة ثم استخدام أقلام الحواجب وغيرها من مكياج الجلد، لها تأثيرها أيضًا، فهي مصنوعة من مركبات معادن ثقيلة، مثل الرصاص والزئبق تذاب في مركبات دهنية مثل زيت الكاكاو، كما أن المواد الملونة تدخل فيها بعض المشتقات البترولية، وكلها أكسيدات مختلفة تضر بالجلد، وإن امتصاص المسام الجلدية لهذه المواد يحدث التهابات وحساسية، أما لو استمر استخدام هذه الماكياجات فإن له تأثيرًا ضارًا على الأنسجة المكونة للدم والكبد والكلى. فهذه المواد الداخلة في تركيب الماكياجات لها خاصية الترسب المتكامل فلا يتخلص منها الجسم بسرعة.
وإن إزالة شعر الحواجب بالوسائل المختلفة ينشط الحلمات الجلدية فتتكاثر خلايا الجلد، وفي حالة توقف الإزالة ينمو شعر الحواجب بكثافة ملحوظة. وإن كنا نلاحظ أن الحواجب الأصلية تلائم الشعر والجبهة واستدارة الوجه) اهـ.
وتقول الدكتورة نادية عبد الحميد صالح (استشارية أمراض العيون):
إن مستحضرات تجميل العيون تحتوى على كيماويات حارقه تؤدي إلى الإضرار بالعيون، وتساقط الرموش، والتهابات ودمامل بالجفون، مع ظهور الأكياس الدهنية بها، كذلك تؤدي هذه المستحضرات إلى ترهل في جلد الجفون، وتبدو العينان مرهقتين وذابلتين مع ظهور الهالات السوداء حول جفون العيون.
وتحذر الدكتورة نادية من تبادل هذه المستحضرات مع الغير حتى لا تكون
_________
(1) من تحفة العروس (ص 368).

(3/63)


وسيلة لضرر آخر يكمن في العدوى بأمراض العيون عندما تستخدم سيدة أخرى أدوات التجميل كالقلم والفرشاة. اهـ (1).
إن المواد التي تدهن بها الرموش الطبيعية يقول عنها الأطباء أنها مكونة من أملاح النيكل، أو أنواع مطاط صناعي، وهما يؤديان إلى التهاب الجفون، وتساقط الرموش الطبيعية.
أما الألوان حول العينين فقد ذكر الأطباء عنها حقائق علمية وهي:
1 - اللون الأسود ما هو إلا كربون أسود، وأكسيد الحديد الأسود.
2 - اللون الأزرق ما هو إلا أزرق بروس ومواد أخرى زرقاء.
3 - اللون الأخضر هو لون أحد اكاسيد الكروم.
4 - اللون البني هو أحد أكاسيد الحديد المحروق.
5 - اللون الأصفر هو أكسيد حديد.
وكل هذه المواد الكيميائية تسبب أضرارًا خطيرة للعين وما حولها.
كما ذكر الأطباء أن من مركباتها مواد تسبب التسمم المزمن مثل (هيكزات كلوروفيل) و (فينيلين ثنائي لامين) وينتج عن ذلك تقرحات في القرنية وإنتانات في العين بسبب الأجسام غير المعقمة التي تحوي الجراثيم ومن ثم تتساقط الرموش (2).
قلت: (أبو مالك): إن كان الأمر كذلك فيمنع استعمال المكياج، وإلا فالأصل إباحته، والله أعلم.
* تنبيه: طلاء الأظافر بما يسمى "المناكير" لا حرج فيه بالقيد المذكور، إلا أنه يبقى فيه أنه عازل عن وصول ماء الوضوء إلى الأظفار، فيجب إزالته عند الوضوء.
ولا يفوتني أن أنبه هنا على تقليم النساء للأظفار وعدم إطالتها بالقدر الذي نراه في هذه الأيام فإن هذا مخالف لسنن الفطرة.
وكذلك لا يجوز وصل الأظفار بأظفار صناعية أطول وأكثر بريقًا، فإن هذا من تغيير خلق الله، وفيه التشبه بالكافرات، ومخالفة الفطرة السليمة.
_________
(1) المجلة الزراعية، العدد 41، أكتوبر 1999.
(2) راجع ضوابط هامة في زينة المرأة، ص 27.

(3/64)


6 - الزينة بالحُلِي:
يجوز للمرأة التحلي بجميع أنواع الذهب (1) والفضة:
قال علي بن أبي طالب: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يمينه وأخذ ذهبًا فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي [حلٌّ لإناثهم] " (2).
فيجوز تحلي النساء بالسوار، والقرط (الحلق)، والخاتم، وسلاسل العنق والقلائد ونحو ذلك.
فعن عبد الله بن عمرو: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: "أتعطين زكاة هذه؟ " قالت: لا، قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار" (3).
وفي حديث ابن عباس في قصة وعظ النبي صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد: " .. ومعه بلال فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي قرطها وخاتمها" (4).
وفي حديث ثوبان: " ... فانتزعت فاطمة سلسلة في عنقها من ذهب، وقالت: هذه أهداها إليَّ أبو الحسن ... " (5).
ويجوز للمرأة أن تلبس (الخلخال" في بيتها لزوجها، لكن لا تبديه للأجانب ولا تضرب برجلها لتعلم الرجال بما تخفيه، لقوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} (6).
* فائدة: يجوز للمرأة أن تلبس الخاتم في إصبع شاءت، بخلاف الرجل فإنه ينهى عن التختم في الأصبع الوسطى والسبابة.
ففي صحيح مسلم (2078) عن عليٍّ قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في أصبعي هذه أو هذه فأومأ إلى الوسطى والتي تليها" (7).
_________
(1) لشيخنا - حفظه الله - رسالة في هذا بعنوان «المؤنق ... في إباحة تحلي النساء بالذهب المحلق وغير المحلق» فانظرها.
(2) أبو داود (4057)، والنسائي (8/ 160)، وابن ماجة (3595) وهو صحيح.
(3) أبو داود (1563)، والترمذي (623)، والنسائي (5/ 38) بسند حسن.
(4) متفق عليه وقد تقدم مرارًا.
(5) النسائي (5140)، وأحمد (21892) بسند حسن.
(6) سورة النور: 31.
(7) صحيح: أخرجه مسلم (2078)، والترمذي (1786)، والنسائي (5210)، وأبو داود (4225).

(3/65)


وقد نقل النووي الإجماع على أن هذا النهي خاص بالرجال دون النساء، كما تقدم.
* لا حرج في لبس الخاتم من حديد:
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي أراد أن يتزوج ولم يجد شيئًا يدفعه صداقًا: " .. التمس ولو خاتمًا من حديد .. " (1).
* الوشم حرام:
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله" (2). والواشمة هي من تغرز إبرة أو مسلة أو نحوهما في ظهر الكف أو المعصم أو الشفة أو غير ذلك من بدن المرأة حتى يسيل الدم، ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل أو النورة فيخضرَّ، ومن تطلب فعل ذلك بها فهي المستوشمة، وهذا حرام على الفاعلة والمفعول بها باختيارها والطالبة لذلك، وقد يُفعل بالبنت الصغيرة فتأثم الفاعلة، ولا إثم البنت لعدم تكليفها حينئذٍ (3).
وقد انتشرت هذه الأيام بين الفتيات ظاهرة دق الوشم، الذي اتخذ شكلًا جديدًا من حيث المكان الذي يتم فيه الوشم، حيث تسلل إلى صدور الفتيات وبطونهن (!!) فتكشف الفتاة عن عورتها مرة أمام من يقوم بتلك المهمة المنكرة -وقد يكون رجلًا- في محلات (الكوافير)!! التي خصصت قسمًا بها لدق الوشم وبأسعار باهظة!!
ثم تكشف هذه العورة مرات أخرى أمام الجميع لتظهر هذه النقوش، إنها "الموضة" نعوذ بالله من الخذلان!!
* فائدة: الأثر الطبي لدق الوشم على الجلد (4):
يقول الدكتور/عبد الهادي محمد عبد الغفار استشاري الأمراض الجلدية والتناسلية: إن المواد الغريبة التي تدخل الجلد تؤدي إلى حساسية الجلد، وإذا
_________
(1) متفق عليه، وسيأتي في «الزواج» إن شاء الله.
(2) البخاري (4886)، ومسلم (2125).
(3) «شرح مسلم» للنووي (14/ 106).
(4) «جريدة عقيدتي» العدد 287 - محرم 1419 هـ.

(3/66)


احتوى على مواد بترولية فإنه يؤدي إلى سرطان الجلد وتليفه، والوخز بالإبر يؤدي إلى نقل أمراض الكبد الوبائي والإيدز.
* تنبيه:
ظهر في هذه الأيام نوع آخر من الوشم، بحيث يطبع الوشم على الجلد أو يُرسم بدلًا من دَقِّه على الجلد، فهذا إذا لم يكن ضارًا بالجلد، فلا بأس به، لأنه ليس تغييرًا لخلق الله فأشبه الحناء، بشرط أن لا تبديه المرأة إلا لزوجها، وإن كان الأحوط تركه لما فيه من التشبُّه بالمتوشمات، والله أعلم.
* ما حكم عمليات التجميل؟ (1):
إن عمليات التجميل تشمل حالات كثيرة، ولا شك أن بعضها مباح أو واجب وبعضها حرام.
1 - فمن المباح قفل الجروح الغائرة وإعادة ترميم الجروح المتهتكة، وترقيع الحروق الشديدة، وخاصة ما يصيب الوجه والأماكن التي تظهر من الجسم غالبًا، وهذا كله يرجع إلى باب إصلاح الضرر وإعادة الهيئة الأصلية إلى الجسم، وهذا كله لا شيء فيه -إن شاء الله تعالى- بل قد يكون بعضه واجبًا.
2 - إزالة التشوهات التي ربما تكون حدثت في أثناء الحمل بسبب عقار أو غيره، وكذلك إزالة ما يخالف أصل الخلقة كالإصبع السادسة، والزيادات اللحمية، ونحوها. وهذه نرجو ألا يكون بها بأس كذلك لأنها -إن شاء الله- لا تدخل في باب تغيير خلق الله سبحانه وتعالى.
3 - كل ما يدخل في باب (تغيير خلق الله سبحانه وتعالى) فهو حرام .. فقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس منهم الطويل، والقصير، والأسود، والأبيض، والجميل والدميم، وهذا كله من آيات تفرده وإبداعه سبحانه وتعالى، فهو الرب المصور كما قال تعالى: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (2).
ولا شك أن التعدي على خلق الله بتغيير الصورة، أو اللون، أو التركيب يدخل في باب العدوان على خلق الله جل وعلا كما قال تعالى: {لا تبديل لخلق الله} (3).
_________
(1) فتوى للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، حفظه الله.
(2) سورة آل عمران: 6.
(3) سورة الروم: 30.

(3/67)


أي لا تبدلوا خلق الله فهو خبر يراد به الإنشاء، وكما قال تعالى عن إبليس أنه سيأمر بني آدم بتبديل خلق الله {إن يدعون من دونه إلا إناثًا وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا* لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا* ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليًّا من دون الله فقد خسر خسرانًا مبينًا} (1).
فمن عمل الشيطان في إضلال بني آدم أن يأمرهم بتغيير خلق الله.
ولا شك أن عمليات التجميل التي تستهدف تغيير خلق الله بتغيير الجنس مثلًا من ذكر إلى أنثى أو العكس، أو تغيير اللون، أو تغيير الصورة التي ركب الله الإنسان عليها -وخاصة صورة الوجه- كل ذلك من اتباع الشيطان الذي يريد إضلال بني آدم، وأن يعتدوا على خلق الله بالتبديل والتغيير.
4 - جاء النص الصريح في أمور بعينها أنها من تبديل خلق الله ومن ذلك تفليج الأسنان، ومعناه بردها لجعل فلج وفرجة بين كل سن وآخر، وكذلك وصل الشعر، وترقيق الحاجب، والوشم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والواصلات والمستوصلات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" (2).
وتعليل الرسول صلى الله عليه وسلم التحريم هنا بأنه تغيير لخلق الله يدل على حرمة هذا العمل، وعلى أن هذه الأعمال من تغيير خلق الله، وعلى حرمة كل ما يدخل في هذا المعنى، وتوجد فيه هذه العلة (تغيير خلق الله).
5 - لا شك أن أعظم أعمال تبديل خلق الله حرمة: هي تغيير الجنس من ذكر إلى أنثى والعكس، وهذا فيمن خلقه الله ذكرًا كاملًا فأراد أن يكون أنثى والعكس .. وأما من وجد في الخلق وقد اجتمعت فيه أعضاء الذكورة والأنوثة، وهو الذي يسمى باللغة العربية (بالخنثى) فإن إجراء عملية جراحية لإلحاقه بالجنس الغالب عليه .. أقول مثل هذا لا شك -إن شاء الله- في حله، لأنه لا يدخل في تغيير خلق الله بل إن هذا من خلق الله سبحانه وتعالى.
وأما عمليات تغيير الجنس لمن كان ذكرًا كاملًا حتى يكون أنثى، أو يكون جنسًا ثالثًا كما هو حادث الآن في بعض الدول من أجل إيجاد جنس لا يحمل
_________
(1) سورة النساء: 117 - 119.
(2) سبق تخريجه.

(3/68)


ويستخدم للاستمتاع فقط فهذا من الإجرام والإفساد في الأرض، ومن أشنع أنواع تبديل خلق الله لأن هذا الأمر جريمة مركبة فهو أولًا: تبديل لخلق الله ومن أعظم التبديل، ثم هو تبديل يراد به الإفساد في الأرض وإتيان الفواحش على طرق شاذة منكرة فهو أضل وأكثر إجرامًا مما كان عليه قوم لوط، والله أعلم. اهـ (1).

حكم لبس العدسات الملونة للزينة والموضة
سئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان -حفظه الله- عن حكم لبس العدسات الملونة بحجة الزينة واتباع الموضة علمًا بأن قيمتها غالية؟
فأجاب: لبس العدسات من أجل الحاجة لا بأس به.
أما إن كان من غير حاجة فإن تركه أحسن، خصوصًا إذا كان غالي الثمن فإنه يعد من الإسراف المحرم.
علاوة على ما فيه من التدليس والغش لأنه يظهر العين بغير مظهرها الحقيقي من غير حاجة إليه. اهـ (2).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: وبالنسبة للعدسات اللاصقة فلابد من استشارة الطبيب هل يؤثر على العين أم لا؟
إن كان يؤثر عليها منع من استعمالها نظرًا للضرر الذي يصيب العين وكل ضرر يصيب البدن فإنه منهي عنه لقول الله تبارك وتعالى {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} (3).
أما إذا قرر الأطباء بأنه لا أثر له على العين ولا يضرها فإننا ننظر مرة أخرى هل هذه العدسات تجعل عين المرأة كأعين البهائم؟ يعني كعين الخروف كعين الأرنب، فهذا لا يجوز لأن هذا من باب التشبه بالحيوان، والتشبه بالحيوان لم يرد إلا في مقام الذم والتنفير كما في قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين* ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} (4)، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في
_________
(1) نقلًا من مجلة الفرقان العدد (48).
(2) من فتاوى زينة المرأة ص 49 جمعها أشرف بن عبد المقصود.
(3) سورة النساء: 29.
(4) سورة الأعراف: 175، 176.

(3/69)


قيئه" (1)، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارًا" (2).
فإذا كانت هذه اللاصقات تجعل العين كعين البهائم فإن لبسها حرام أما إذا كانت لا تغير العين ولكنها تغير لون العين من سواد خالص إلى سواد دون ذلك وما أشبه فلا بأس، وليس هذا من باب تغيير خلق الله لأن هذه لا تثبت، فليست كالوشم، بل هي غير ثابتة متى شاءت خلعتها، بل تشبه النظارة التي تلبس على العين وإن كان انفصال النظارة أظهر وأبين من انفصال هذه اللاصقات، لأن هذه اللاصقات تكون على العين مباشرة، فعلى كل حال إن تجنبتها المرأة فهو أحسن وأولى وأسلم حتى لعينها من الخطر،
ولكن الشيء الذي لابد منه هو أن نعود إلى التفصيل الذي ذكرناه. انتهى من فتاوى ضمن شريط توجيهات للمؤمنات (3).
_________
(1) البخاري (2589)، ومسلم (1622).
(2) أحمد في المسند بسند ضعيف، انظر المشكاة رقم (1397).
(3) عن «اللباس والزينة» لسمير عبد العزيز (ص 75).

(3/70)


10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه

(3/71)


* الترغيب في الزواج (1)، والحث عليه:
1 - قال الله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا وذرية} (2).
2 - وقال تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} (3).
3 - وقال سبحانه: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (4).
4 - وقال سبحانه: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (5).
5 - وعن أنس رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا -فجاء رسول الله صلى الله عيه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس منِّي" (6).
6 - وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تزوَّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم" (7) والودود: التي تحب زوجها، والولود: التي تكثر ولادتها.
7 - وعن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" (8).
والمراد بالباءة هنا: مؤنة الزواج، وتكاليفه، فإن الخطاب، موجَّه لمن له قدرة على الجماع، وبالوجاء: ما يقطع الشهوة.
_________
(1) ويطلق عليه: النكاح، والنكاح: الوطء، والعقد له، وهو حقيقة في الوطء والعقد في أصح الأقوال، وقيل: هو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر على اختلاف في هذا، وهو خلاف لفظي لا طائل من تحقيقه.
(2) سورة الرعد: 38.
(3) سورة النور: 32.
(4) سورة النساء: 3.
(5) سورة الروم: 21.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (2050)، والنسائي (6/ 65) وغيرهما.
(8) صحيح: أخرجه البحاري (5065)، ومسلم (1400).

(3/72)


8 - وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ... وفي بضع (1) أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر" (2).
9 - وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا: المرأة الصالحة" (3).
10 - وعن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: "هل تزوجت؟ " قلت: لا، قال: "فتزوَّجْ، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً" (4).
* تحريم الاختصاء (5):
1 - عن سعد بن أبي وقَّاص قال: "لقد ردَّ ذلك -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون، ولو أجاز له التبتُّل (6) لاختصينا" (7).
2 - وعن عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخَّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب (8) ثم قرأ علينا {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (9) (10).
والنهي عن الخصاء نهي تحريم -بلا خلاف- في بني آدم.
* بعض فوائد الزواج (11):
1 - امتثال أمر الله تعالى.
_________
(1) المراد به: الجماع.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1006)، وأبو داود (1286).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1467).
(4) إسناده صحيح: أخرجه البخاري (5069).
(5) الاختصار والخصاء: الشق على الأنثيين (الخصيتين) وانتزاعهما (الفتح 9/ 118).
(6) هو هنا: الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعًا للعبادة (نووي 3/ 549).
(7) صحيح: أخرجه البخاري (5074)، ومسلم (1402).
(8) المراد به هنا (نكاح المتعة) وهو منسوخ كما سيأتي.
(9) سورة المائدة: 87.
(10) صحيح: أخرجه البخاري (5075)، ومسلم (1404).
(11) مستفاد من «جامع أحكام النساء» (3/ 28).

(3/73)


2 - اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهدي المرسلين.
3 - كسر الشهوة وغض البصر.
4 - تحصين الفرج وإعفاف النساء.
5 - عدم ذيوع الفاحشة في المسلمين.
6 - تكثير النسل الذي تتم به مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم لسائر الأنبياء والأمم.
7 - تحصيل الأجر من الجماع في الحلال.
8 - حُبُّ ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "حُبِّب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء ... " (1).
9 - إيجاد الولد الذي ينتفع -بعد الموت- بدعائه.
10 - الانتفاع بشفاعة الولدان في دخول الجنة، فعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يقال للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: يا رب حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيأتون، قال: فيقول الله عز وجل: "ما لى أراهم محبنطئين (2) ادخلوا الجنة". قال: فيقولون: يا رب آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيقول: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم" (3).
11 - إيجاد الذرِّيَّة المؤمنة التي تذبُّ عن ديار المسلمين وتستغفر للمؤمنين.
12 - ما في الزواج من سكن ومودة ورحمة بين الزوجين، وغير ذلك من المنافع التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
* حكم الزواج:
أجمع المسلمون على أن الزواج مشروع (4)، ثم اختلف أهل العلم في حكمه على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه واجب على كل قادر عليه في العمر مرة: وهو مذهب داود الظاهري وابن حزم وهو مروي عن أحمد، وأبي عوانة الإسفراييني من أصحاب
_________
(1) محتمل للتحسين: أخرجه النسائي (7/ 61)، وأحمد (3/ 285) وغيرهما، وفي سنده كلام، ولتحسينه وجه، والله أعلم.
(2) أي: ممتنعين.
(3) حسن: أخرجه أحمد (4/ 105).
(4) «المغني» (6/ 446)، و «الإفصاح» لابن هبيرة (2/ 110).

(3/74)


الشافعي وهو قول جماعة من السلف (1)،
واستدلوا بظاهر الأوامر الواردة في بعض النصوص المتقدمة في "الترغيب في الزواج" قالوا: الأصل في الأمر أنه للوجوب ولم يصرفه صارف.
الثاني: أنه مستحب: وهو مذهب أكثر أهل العلم وجمهورهم من الأئمة الأربعة وغيرهم (2).
وقد حملوا الأوامر بالنكاح على الاستحباب، فقالوا في قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (3). إن الله تعالى علَّق الأمر بالنكاح على الاستطابة فمن لم تطب نفسه أن يتزوج فلا حرج عليه وقال: {مثنى وثلاث ورباع} ولا يجب ذلك بالاتفاق فدل على أن الأمر هنا للندب، وأجيب: بأن المعلق على الاستطابة إنما هو الأمر بالتعدد لا بأصل النكاح.
وقال الجمهور: وكذلك قوله تعالى: {فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} (4). لما كان التسري ليس بواجب اتفاقًا فيكون التزويج غير واجب، إذ لا يقع التخيير بين واجب ومندوب وتُعقِّب: بأن الذين قالوا بوجوبه قيَّدوه بما إذا لم يندفع التوقان إلى الجماع بالتسرِّي.
الثالث: يختلف حكمه باختلاف حال الشخص، وهذا هو المشهور عند المالكية، وهو واقع في كلام الشافعية والحنابلة (5)، قالوا:
(أ) الزواج يكون واجبًا: في حق التائق إلى الجماع الذي يخاف على نفسه الوقوع في الفاحشة بتركه، لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام وطريقه النكاح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(ب) ويكون مستحبًا: في حق من له شهوة يأمن معها الوقوع في الفاحشة، فهذا يكون الزواج له أولى من التخلي لنوافل العبادة، وبهذا قال الجمهور، إلا الشافعي فالتخلي للنوافل عنده أولى لأن الزواج عنده في حال الاعتدال مباح (!!).
_________
(1) «المحلي» (9/ 440)، و «المغني» (6/ 446)، و «فتح الباري» (9/ 110)، و «البدائع» (2/ 228)، و «روضة الطالبين» (7/ 18).
(2) «ابن عابدين» (3/ 7)، و «الدسوقي» (2/ 214)، و «بداية المجتهد) (2/ 23)، و «المغني» (6/ 446)، و «الإنصاف» (8/ 6).
(3) سورة النساء: 3.
(4) سورة النساء: 3.
(5) المراجع السابقة بالإضافة إلى: «البدائع» (2/ 228)، و «القوانين الفقهية» (ص 193)، و «مغني المحتاج» (3/ 125)، و «فتح الباري» (9/ 110).

(3/75)


(ج) ويكون مُحرَّمًا: في حق من يخلُّ بالزوجة في الوطء والإنفاق، مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه.
(د) ويكون مكروهًا: في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة فاشتغاله بالطاعة من العبادة أو الاشتغال بالعلم أولى.
قلت: الزواج من آكد السنن، فهو سنة المرسلين، كما تبيَّن من مجموع الآيات والأحاديث المرغبة في الزواج -والتي تقدم بعضها- ولا شك في وجوبه عند الخوف من الوقوع في الزنا مع القدرة عليه، وأما جعل بعض أقسامه مباحًا ففيه دفع في وجه الأدلة، وردٌّ للترغيبات الكثيرة المتقدمة، وكذلك لا ينبغي أن يجعل الزواج محرمًا في حق من لا شهوة له، فإن في الزواج مقاصد أخرى يمكن أن تتحقق فإن رضيت الزوجة بذلك ولم يكن قد دلَّس عليها فلا حرمة فيه، والله أعلم.
* ولا يجب على المرأة الزواج (1):
لحديث أبي سعيد قال: إن رجلًا أتى بابنة له إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنتي قد أبت أن تزوج، قال: فقال لها: "أطيعي أباك" فقالت: لا، حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته؟ فردّدتْ عليه مقالتها، فقال: "حق الزوج على زوجته: أن لو كان به قُرحة فلحستها أو ابتدر منخراه صديدًا أو دمًا ثم لحسته ما أدَّت حقَّه" قالت: والذي بعثك بالحق، لا أتزوَّج أبدًا، فقال صلى الله علي وسلم: "لا تُنكحوهُنَّ إلا بإذنهن" (2).
قلت: فدَّل الحديث على جواز ترك الزواج لعذر، لكن الأولى الزواج لما تقدم من المرغبات فيه وما فيه من الفوائد، فإن خشيت المرأة الوقوع في الفاحشة وجب عليها الزواج بلاشك، والله أعلم.
* المحرَّمات زواجهن من النساء:
وهن النساء اللاتي يحرُم على الرجل أن يتزوَّج بهنَّ، وقد ذكرهن الله تعالى في كتابه بقوله عز وجل: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا* حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا
_________
(1) «جامع أحكام النساء» (3/ 30)، وبه قال ابن حزم (9/ 441) رغم قوله بفرضية التزويج على الرجال القادرين.
(2) حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (17116).

(3/76)


دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورًا رحيمًا* والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} (1).
والمحرمات من النساء على النوعين:
1 - محرمات مؤبَّدًا: فلا يجوز للرجل زواجها في كل وقت.
2 - محرمات مؤقتًا: لا يجوز للرجل زواجهن في حالة خاصة فإذا زالت هذه الحالة صار زواجهن حلالًا.
1 - المحرمات مؤبدًا:
(أ) محرمات بالنسب (وهن سبع):
1 - الأمهات: وهن كل من بين الرجل وبينها إيلاد من جهة الأمومة أو الأبوة، كأمهاته وأمهات آبائه وأجداده من جهة الرجال والنساء وإن علون.
2 - البنات: وهن كل من انتسب إلى الرجل بإيلاد، كبنات صلبه وبنات بناته وأبنائهن وإن نزلن (2).
3 - الأخوات: من كل جهة.
4 - العمَّات: وهن أخوات آبائه وإن علون، فيدخل فيه عمة أبيه وعمة أمه.
5 - الخالات: وهن أخوات أمهاته وأمهات آبائه.
6، 7 - بنات الأخ وبنات الأخت: فيعم بنات الأخ أو الأخت من كل جهة وإن نزلت درجتهن.
عن ابن عباس قال: "حَرُم من النسب سبع، ومن الصهر سبع" (3) ثم قرأ {حرمت عليكم أمهاتكم ...} الآية (4).
فهؤلاء السبع من النساء يحرم على الرجل أن يتزوج منهن حرمةً أبدية، باتفاق العلماء (5).
_________
(1) سورة النساء: 22 - 24.
(2) ويلحقن بهن بنت الرجل من الزنا عند الجمهور (جامع أحكام النساء 3/ 38).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5105)، والطبري في «التفسير» (8/ 141)، والحاكم (2/ 304).
(4) سورة النساء: 23.
(5) «تفسير الطبري» (8/ 143).

(3/77)


وتيسيرًا لحفظ هذه المسألة فإن الضابط فيها "أن جميع أقارب الرجل من النسب حرام عليه إلا أربعة: بنات عمه، وبنات خاله، وبنات عمته، وبنات خالته".
وهذه الأصناف الأربعة هن اللاتي أحلهن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقول: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} (1) (2).
سؤال: هل يجوز للرجل أن يتزوج ابنته من الزنا؟
لا يجوز -عند جمهور أئمة المسلمين- أن يتزوج الرجل بابنته من الزنا، فإن ماء الزنا وإن كان ليس له حرمة إلا أن هذه البنت داخلة في عموم قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ...} (3).
فهو يتناول كل من شمله هذا اللفظ سواء كان حقيقة أو مجازًا وسواء ثبت في حقه التوارث وغيره من الأحكام أم لم يثبت إلا التحريم خاصة، ليس العموم في آية التحريم كالعموم في آية الفرائض ونحوها (4).
بل إن الجمهور تنازعوا فيمن تزوج ابنته من الزنا هل يقتل أو لا؟ فذهب أحمد إلى أنه يقتل!!
ويلحق بهذا أيضًا أن يحرم على الرجل أن يتزوج أخته وبنت ابنه وبنت بنته وبنت أخيه وأخته من الزنا، وهو قول عامة الفقهاء (5).
(ب) محرمات بالمصاهرة (وهن أربع):
1 - زوجة الأب:
فعن ابن عباس قال: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، قال: فأنزل الله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} و {أن تجمعوا بين الأختين} (6).
_________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (32/ 62)، وانظر «الأم» (5/ 32)، و «المحلي» (9/ 520)، و «المغني» (6/ 567).
(2) سورة الأحزاب: 50.
(3) سورة النساء: 23.
(4) انظر الكلام على هذا بتوسع في «مجموع الفتاوى» (32/ 134).
(5) المغني (6/ 578).
(6) تفسير الطبري (8/ 132) بسند صحيح.

(3/78)


فنهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب، ولم يبين ما المراد بنكاح الأب: هل هو العقد أو الوطء؟ لكن قد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه وإن لم يدخل بها الأب، وهذا تحريم مؤبد، وكذلك عقد الابن محرم على الأب إجماعًا وإن لم يمسها.
فعن البراء قال: لقيت عمي ومعه راية فقلت له: أين تريد؟ قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله" (1).
ومن تزوج امرأة أبيه فإن عقوبته: أن يُقتل ويؤخذ ماله.
2 - أم الزوجة: وتحرم على الرجل بمجرد العقد على ابنتها عند جمهور أهل العلم، وهو الصواب لإطلاق قوله تعالى: {وأمهات نسائكم}.
فلم تتقيد بالدخول كما قيدت الربيبة، فإن كان دخل بزوجته حَرُمَت عيه أمها بالإجماع (2) ويدخل في هذا أم أم زوجته، وأم أبيها.
3 - بنت الزوجة (الربيبة): ويشترط في تحريمها أن يدخل الرجل بأمها فإن عقد على الأم ولم يدخل بها جاز أن يتزوج ابنتها.
قال تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم}. قلت: والراجح من أقوال العلماء أن قوله: {اللاتي في حجوركم} يعني في بيوتكم، لا يعد شرطًا لتحريم بنت الزوجة -كما ذهب إليه الجمهور- (3) فهو خارج مخرج الغالب وما كان كذلك فلا مفهوم له، قلت: ومما يؤيد هذا أنه تعالى احترز بقوله {فإن لم تكونوا دخلتم بهن} ولم يقل: (فإن لم يكنَّ في حجوركم)، فعلم أن الدخول بأمها شرط بخلاف وجودها في بيته والله أعلم.
والمراد بالدخول هنا: الجماع كما قال ابن عباس. والله أعلم.
_________
(1) صحيح لشواهده: أخرجه أبو داود (4457)، والدارمي (2/ 153)، والحاكم (4/ 357)، والبيهقي (8/ 208) وصححه شيخنا لشواهده.
(2) «تفسير الطبري» (8/ 143)، و «الأم» (5/ 34)، و «المغني» (6/ 569)، و «المحلي» (9/ 259)، و «القرطبي» (5/ 70)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 87).
(3) وقد خالف في هذا علي بن أبي طالب ثم ابن حزم، ونقل عن الإمام مالك، فجعلوا كون البنت في بيت زوج أمها شرطًا لتحريمها عليه، وإلى هذا المذهب جنح شيخنا في «جامع أحكام النساء» (3/ 93) وما بعدها، لكن الظاهر أن مذهب الجمهور أقوى لأمور يطول شرحها.

(3/79)


* فائدة: ويلتحق بهذا الحكم بنات بنات الزوجة وبنات أبنائها.
4 - زوجة الابن الذي من صلبه: فلا يجوز للرجل أن يتزوج زوجة ابنه الذي من صلبه لقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}.
ويدخل في الآية أيضًا زوجة الابن من الرضاع، وأما قوله تعالى: {الذين من أصلابكم} فاحترز به عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (1).
* فائدة: زوجة الأب وزوجة الابن، لا تحرم بناتهن على الرجل فيجوز له أن يتزوج بنت امرأة أبيه، وبنت امرأة ابنه، باتفاق العلماء فإن هذه ليست من حلائل الآباء والأبناء فإن الحليلة هي الزوجة وبنت أم الزوجة وأمها ليست زوجة بخلاف الربيبة، فإن ولد الربيبة ربيب، كما أن ولد الولد ولد (2).
وتيسيرًا لحفظ المحرمات من النساء بسبب المصاهرة يمكن القول بأن: "كل نساء الصهر (3) حلال للرجل إلا أربعة: زوجة أبيه، وأم زوجته وبنت زوجته التي دخل بها، وزوجة ابنه".
(جـ) محرمات بالرضاع:
قال تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (4). ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: "لا تحل لي، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، هي ابنة أخي من الرضاعة" (5).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" (6).
فعُلم من هذا أنه يحرم بسبب الرضاع نفس الأصناف التي تحرم بالنسب مع جعل المرضعة بمنزلة الأم، فتكون المحرمات من الرضاع على الرجل (الرضيع) (7):
_________
(1) انظر تفسير ابن كثير (1/ 471)، والطبري (8/ 149)، و «الأم» للشافعي (5/ 35).
(2) انظر «مجموع الفتاوى» (32/ 65)، و «الحاوي» للماوردي (11/ 274).
(3) كل من الزوجين، يكون أقارب الآخر أصهارًا له، وأقارب الرجل أحماء المرأة، وأقارب المرأة أختان الرجل. (مجموع الفتاوى 32/ 65).
(4) سورة النساء: 23.
(5) البخاري (2645)، ومسلم (1447).
(6) البخاري (5099)، ومسلم (1444).
(7) انظر «المحلي» (10/ 2)، و «المغني» (6/ 571)، و «البدائع» (4/ 2)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 47 - وما بعدها).

(3/80)


1 - المرضعة وأمها (لأنهن أمهاته).
2 - بنات المرضعة سواء من ولدن قبله أو بعده (لأنهن أخواته).
3 - أخت المرضعة (لأنها خالته).
4 - بنت بنت المرضعة (لأنها بنت أخته).
5 - أم زوج المرضعة الذي جاء لبنها بسبب الحمل منه (لأنها جدته).
6 - أخت زوج المرضعة (لأنها عمته).
7 - بنت ابن المرضعة (لأنها بنت أخيه).
ويضاف إلى هؤلاء:
8 - بنت زوج المرضعة ولو من امرأة أخرى (لأنها أخت الرضيع من الأب).
9 - أخوات زوج المرضعة (لأنهن عماته).
10 - الزوجة الأخرى لزوج المرضع (لأنها زوجة أبيه).
11 - زوجة الرضيع تحرم على زوج المرضع (لأنها زوجة ابنه).
لأن سبب التحريم -وهو اللبن- ينفصل من المرأة بسبب الحمل من زوجها فإذا تغذى به الرضيع صار جزءًا من أجزائهما.
ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تأذن لأفلح أخي أبي القعيس -وهو عمها من الرضاعة- بالدخول عليها (1).
وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل كانت له امرأتان فأرضعت إحداهما غلامًا، وأرضعت الأخرى جارية، فقيل له: هل يتزوج الغلام الجارية؟ فقال: "لا، اللقاح واحد" (2).
وهذا قول عامة الصحابة والفقهاء (3).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5103)، ومسلم (1445) وقد تقدم لفظه في «اللباس».
(2) صحيح: أخرجه مالك (2/ 602)، والترمذي (1149) وغيرهما بسند صحيح إلى ابن عباس، وهذه الصورة تسمى «لبن الفحل» والمراد بالفحل الرجل، ونسبة اللبن إليه مجارية لكونه السبب فيه.
(3) «الأم» (5/ 34)، و «البدائع» (4/ 3)، و «المغني» (6/ 572)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 53) وقد ذهب قوم إلى أن (لبن الفحل) لا يحرم (!!) بناء على أن الله تعالى بيَّن الحرمة في جانب المرضعة ولم يبيِّن في جانب زوجها، وأن المحرِّم هو الرضاع، وقد وُجد منها لا منه، وهو قول مرجوح محجوج بالأدلة الصحيحة المذكورة أعلاه، وانظر لتفنيد هذا القول: «المحلي» لابن حزم (10/ 3).

(3/81)


12 - ولو كان الرضيع أنثى فيحرم عليها زوج المرضعة (لأنه أبوها) وأخو زوج المرضعة (لأنه عمها) وأبوه (لأنه جدها) وهكذا.
* فائدة (1): التحريم خاص بالرضيع، ولا يتعدى إلى أحد من أقاربه، فليست أخته من الرضاعة أختًا لأخيه مثلًا، والقاعدة في هذا أن "من اجتمعوا على ثدي واحد صاروا إخوة" فأخو الرضيع مثلًا لم يشترك معهم في الرضاعة وبالتالي يجوز له أن يتزوج بنت مرضعة أخيه فإنها أجنبية عنه وإن كانت أختًا لأخيه من الرضاع والله أعلم.
* شروط التحريم بسبب الرضاعة:
[1] عدد الرضعات المُحَرِّمة:
اختلف أهل العلم في عدد الرضعات المعتبرة في التحريم، والتي يثبت بها حكم الرضاع على أربعة أقوال (2):
الأول: تُحرم الرضعة الواحدة فأكثر: وهو مذهب الجمهور أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد، وهو قول ابن المسيب والحسن والزهري وقتادة والأوزاعي والثوري والليث، وحجتهم:
1 - عموم قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (3).
2 - عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" (4).
3 - قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (5).
4 - حديث عقبة بن الحارث قال: تزوجتُ امرأةً، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت: أرضعتكما، فأتيتُ النبى -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: تزوجتُ فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لى: إنى قد أرضعتكما، وهى كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة، قال: "كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟ دعها عنك" (6).
_________
(1) فتح الباري (9/ 141)، وبدائع الصنائع (4/ 2).
(2) «البدائع» (4/ 5 - 7)، و «المواهب» (4/ 178)، و «بداية المجتهد» (2/ 66)، و «الأم» (5/ 38)، و «المحلي» (10/ 12)، و «المغني» (7/ 535)، و «الإنصاف» (9/ 334)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 57).
(3) سورة النساء: 23.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5102)، ومسلم (1455).
(5) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (2659)، والترمذي (1151)، والنسائي (3330).

(3/82)


قالوا: ففي هذه النصوص وغيرها لم يُذكر عدد معين.
5 - أجابوا عن الروايات التي وردت بتحديد العدد المحرِّم -وستأتي- بأنها قد اختُلف على عائشة في هذا العدد، فوجب الرجوع إلى أقل ما ينطلق عليه الاسم.
6 - وعن عمرو بن دينار أنه سمع ابن عمر -سأله رجل: أتحرِّم رضعة أو رضعتان؟ فقال: "ما نعلم الأخت من الرضاعة إلا حرامًا" فقال رجل: إن أمير المؤمنين -يريد ابن الزبير- يزعم أنه لا تحرِّم رضعة ولا رضعتان؟
فقال ابن عمر: "قضاء الله خير من قضائك، وقضاء أمير المؤمنين" (1).
7 - ولأن ذلك فعل يتعلق به تحريم مؤبَّد فلم يُعتبر فيه العدد كتحريم أمهات النساء.
الثاني: يُحرِّم ثلاث رضعات فأكثر: وهو رواية ثالثة عن أحمد وقول أهل الظاهر -إلا ابن حزم- وبه قال إسحاق وأبو عبيد، أبو ثور وابن المنذر، وحجتهم:
1 - حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرِّم المصة والمصَّتان" (2).
2 - حديث أم الفضل قالت: دخل أعرابى على نبى الله -صلى الله عليه وسلم- وهو فى بيتى فقال: يا نبى الله، إنى كانت لى امرأة فتزوجت عليها أخرى، فزعمت امرأتى الأولى أنها أرضعت امرأتى الحُدثى رضعة أو رضعتين، فقال نبى الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحرم الإملاجة، والإملاجتان" (3).
والإملاجة: الرضعة كذا في القاموس.
3 - قالوا: ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار، يُعتبر فيه الثلاث (!!).
الثالث: يُحرِّم خمس رضعات فأكثر: وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد وابن حزم وبه قال عطاء وطاوس، وهو عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير، وحجة هذا القول:
1 - حديث عائشة قالت: "كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن". ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهنَّ فيما يقرأ من القرآن" (4).
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 467)، والبيهقي (7/ 458).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1450)، وأبو داود (2063)، والترمذي (1150)، والنسائي (6/ 101)، وابن ماجة (1941).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1451)، وأحمد (6/ 339)، والبيهقي (7/ 445).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1452)، وأبو داود (2062).

(3/83)


قال النووي: "ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخَّر إنزاله جدًّا حتى إنه صلى الله عليه وسلم توفى، وبعض الناس يقرأ (خمس رضعات) ويجعلها قرآنًا متلوًّا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يُتلى" اهـ.
قلت: فهذا من القرآن المنسوخ تلاوة، الباقي حكمًا، كآية الرجم.
2 - ما جاء في بعض طرق حديث عائشة في قصة سهلة بنت سهيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أرضعي سالمًا [خمس رضعات] فيحرم بلبنها" (1).
3 - وعن عائشة قالت: "لا يُحرِّم دون خمس رضعات معلومات" (2).
الرابع: لا يُحرِّم إلا عشر رضعات فأكثر، وهو مروي عن عائشة وحفصة رضي الله عنهما.
1 - فعن سالم "أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أرسلت به -وهو يرضع- إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، فقالت: أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل عليَّ، قال سالم: فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات ثم مرضت، فلم ترضعني غير ثلاث رضعات، فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتمَّ لي عشر رضعات" (3).
2 - وعن صفية بنت أبي عبيد [زوجة عبد الله بن عمر]: "أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو صغير يرضع، ففعلت فكان يدخل عليها" (4).
قلت: والراجح قول من قال: (خمس رضعات معلومات يحرمن) لحديث عائشة في نسخ العشر إلى خمس رضعات، وهو مقيد للأحاديث المطلقة فيجب حملها عليه، وأحاديث الرضعتين ليست صريحة في تحريم الثلاث أو الأربع، ثم
_________
(1) لا يصح بذكر عدد الرضعات: أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق (13886)، ومالك (1284)، وأحمد (6/ 201)، وأسانيده غير متصلة، وأصله عند مسلم (1453) وغيره بلفظ «أرضعيه تحرمي عليه» بدون ذكر العدد.
(2) إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني (4/ 183).
(3) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1278)، وعبد الرزاق (7/ 469)، والبيهقي (7/ 457).
(4) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1279)، وعبد الرزاق (7/ 470)، والبيهقي (7/ 457)،

(3/84)


رواية الخمس صريحة فيكون المعوَّل عليها، وعلى هذا القول تنتظم الأدلة ولا تتعارض، وأما فتوى عائشة بالعشر فليس فيه حجة لأمرين (1):
1 - أنها مخرَّجة على أن عائشة كانت تأخذ لنفسها بعشر رضعات ولغيرها بخمس رضعات كما تقدم عنها، وكذلك حفصة، فلعله كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضعات معلومات كما صحَّ عن طاووس.
2 - أن العبرة بروايتها لا برأيها وفتواها، والله أعلم.
* فائدة: إذا وقع الشك في عدد الرضعات: أو في عدد الرضاع المحرم: هل كمل أم لا؟ لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا نزول عن اليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدمه (2).
* فائدة: قال في المغني (7/ 547):
وإذا كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت طفلًا ثلاث رضعات، وانقطع لبنها، فتزوَّجت آخر فصار لها منه لبن، فأرضعت منه الصبي رضعتين، صارت أُمًّا له بغير خلاف نعلمه عند القائلين بأن الخمس محرِّمات، ولم يصر واحد من الزوجين أبًا له، لأنه لم يكمل عدد الرضاع من لبنه، ويحرم على الرجلين لكونه ربيبهما لا لكونه ولدهما" اهـ.
[2] السن المعتبرة في التحريم بالرضاع:
للعلماء في السن المعتبرة في التحريم بالرضاع فيها أقوال كثيرة أشهرها ثلاثة:
الأول: الرضاع المحرِّم ما كان في السنتين الأوليين فقط: وهو مذهب جماهير العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وصاحبا أبي حنيفة والأوزاعي (3)، وبه قال عمر وابنه عبد الله وابن
مسعود وابن عباس وأبو موسى وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة، وحجة هذا القول ما يلي:
1 - قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} (4). فهو إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال
_________
(1) «المحلي» (10/ 10)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 65).
(2) «المغني» لابن قدامة (7/ 537).
(3) «مواهب الجليل» (4/ 179)، و «بداية المجتهد» (2/ 67)، و «البدائع» (4/ 5)، و «الأم» (5/ 39، 40)، و «المغني» (7/ 542).
(4) سورة البقرة: 233.

(3/85)


الرضاعة وهي سنتان، فدلَّ على أن الرضاعة المحرِّمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك (1).
2 - حديث عائشة أن النبى -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وعندها رجل، فكأنَّه تغيَّر وجهُه، كأنَّه كره ذلك، فقالت: إنه أخى، فقال: "انظرن ما إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة" (2).
يعني: أن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسدَّ الرضاعة المجاعة.
3 - عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُحرِّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" (3).
4 - عن عبد الله بن دينار قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا معه عند دار القضاء يسأله عن رضاعة الكبير؟ فقال عبد الله بن عمر: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني كانت لي وليدة [يعني: أمة] وكنت أطؤها، فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها، فدخلتُ عليها، فقالت: دونك فقد -والله- أرضعتُها، فقال عمر: أَوْجِعها [أي: ضربًا] وائتِ جاريتك، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير" (4).
5 - وعن ابن عمر قال: "لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر، ولا رضاعة لكبير" (5).
6 - وجاء رجل إلى بن مسعود فقال: إنها كانت معي امرأتي فحُصر لبنها في ثديها، فجعلتُ أمصُّه ثم أمُجُّه، فأتيت أبا موسى فسألتُه، فقال: حرمت عليك، قال: فقام وقمنا معه حتى انتهى إلى أبي موسى فقال: ما أفتيتَ هذا؟ فأخبره بالذي أفتاه، فقال ابن مسعود وأخذ بيد الرجل: "أرضيعًا ترى هذا؟ إنما الرضاع ما أنبت اللحم والدَّم" فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم (6).
_________
(1) انظر «تفسير القرطبي» (البقرة: 233) و «ابن كثير».
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5102)، ومسلم (1455).
(3) صحيح: أخرجه الترمذي (1162)، وابن حبان (6/ 214).
(4) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1289)، وعبد الرزاق (7/ 462)، والبيهقي (7/ 461).
(5) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1282)، وعبد الرزاق (7/ 465)، وابن جرير في «التفسير» (4956).
(6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 463)، والبيهقي (7/ 461)، والطبري (4958).

(3/86)


7 - عن ابن عباس قال: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" (1).
8 - إنكار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة قولها باعتبار رضاع الكبير وسيأتي.
القول الثاني: الرضاع المحرِّم ما كان في مدة ثلاثين شهرًا، وهو مذهب أبي حنيفة (2) وحجته: قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} (3). فجعل المراد: الحمل في الفصال لا الحمل في الأحشاء!!
القول الثالث: رضاع الكبير يحرِّم كالصغير: وهو مذهب الظاهرية وعطاء والليث (4)، وبه قالت عائشة رضي الله عنها، وحجة هذا القول:
حديث عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إنى أرى فى وجه أبى حذيفة من دخول سالم (وهو حليفه) فقال النبى -صلى الله عليه وسلم-: "أرضعيه" قالت: وكيف أُرضعه وهو رجل كبير، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "قد علمتُ أنه رجل كبير" (5).
وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأجوبة منها:
1 - أنه واقعة عين خاصة بسهلة وبسالم، فلا عموم لها، ولذا أنكر سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة استدلالها به، فعن عروة قال: أَبى سائر أزواج النبى -صلى الله عليه وسلم- أن يدخل عليهن بتلك الرضعة أحدٌ من الناس -يريد رضاعة الكبير- وقلن لعائشة: "والله ما نرى الذى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهلة بنت سهيل إلا رخصة فى رضاعة سالم وحده من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يدخل علينا أحد بهذه الرضعة ولا يرانا" (6).
2 - أنه منسوخ، ولا يسلَّم به لا سيما مع عدم العلم بالتاريخ.
قلت: الراجح أن الرضاع المعتبر المؤثِّر ما كان في الحولين الأولين من عمر
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (980)، والبيهقي (7/ 462).
(2) «بدائع الصنائع» (4/ 5)، و «الهداية» (1/ 223).
(3) سورة الأحقاف: 15.
(4) «المحلي» (10/ 9)، و «المغني» (7/ 542)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 77).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1453).
(6) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 106)، ومالك (1288)، وأحمد (6/ 269)، والبيهقي (7/ 459)، وهو عند مسلم (1454) وغيره عن حديث أم سلمة بنحوه.

(3/87)


الرضيع كما ذهب إليه الجمهور، لكن إذا دعت الحاجة كرضاع الكبير -الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه- لجعله محرمًا فلا مانع من إعمال حديث سهيلة وسالم، لا سيما وأنه يجوز للحاجة ما يجوز لغيرها،
وهذا مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- واختاره الشوكاني (1)، وهو قول رابع في المسألة، وعليه تجتمع جميع النصوص في المسألة من غير إهمال لبعضها، والله أعلم.
[3] صفة الرضاع المحرِّم:
هل يشترط في الرضاع المصُّ من الثدي؟ (2)
ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن لبن المرضع يُحرِّم سواء مصَّه الطفل من ثديها أو حُلِب له في إناء وشربه منه، وسواء وضع له في الفم (الوجور) أو في الأنف (السعوط) أو بأي صفة كانت بحيث يحصل له به الغذاء وسد الجوع وإنبات اللحم وإنشاز العظم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" (3).
وأما ابن حزم فجعل مناط التحريم مسمى "الرضاع" فقال: ولا يسمى رضاعة إلا ما أخذ الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه، قال: فأما من سُقي من لبن امرأة فشرب من إناء أو حلب في فيه فبلعه أو أطعمه بخبز أو في طعام ... فكل ذلك لا يحرم شيئًا!! قلت: وهذا مذهب الليث وداود والظاهرية، وقول الجمهور أقوى لأن الاعتبار بشرب الصبي له لأنه المحرم، ولو ارتضع بحيث يصل إلى فيه ثم مجَّه لم يثبت التحريم فكان الاعتبار به، والله أعلم.
* فوائد:
* إذا نزل للبكر لبن فأرضعت طفلًا فهل يُحرِّم؟ (4)
إذا نزل للمرأة لبن من غير وطء بكرًا كانت أو ثيبًا -فإن لبنها يحرِّم عند جمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، ويصير الطفل الذي ارتضعه ابنًا
_________
(1) «مجموع الفتاوى» (32)، و «نيل الأوطار» (6).
(2) «الأم» (5/ 38)، و «البدائع» (4/ 9)، و «المغني» (7/ 538)، و «المحلي» (10/ 7)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 80).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) «الأم» (4/ 42)، و «المغني» (7/ 546)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 83).

(3/88)


لها، لأنه لبن امرأة فتعلَّق به التحريم كما لو نزل بوطء، ولأن ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال، فإن كان هذا نادرًا، فجنسه معتاد.
2 - المحرمات مؤقَّتًا:
(أ) أخت الزوجة (الجمع بين الأختين):
لا يجوز للرجل أن يجمع بين امرأة وأختها في وقت واحد بإجماع العلماء (1)، لكن إذا ماتت زوجته أو طلَّقها جاز له زواج أختها.
قال الله تعالى في بيان المحرِّمات من النساء: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} (2).
وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان أنها قالت: يا رسول الله، أنكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: "أو تحبِّين ذلك؟ " فقلت: نعم، لست لك بمخلية، وأَحَبُّ من شاركني في خيرٍ أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحل لي" (3) .. الحديث.
ويستوي في هذا أن تكونا شقيقتين أو أختين لأب أو لأمٍّ، وسواء في هذا النسب والرضاع.
واختلف فيما إذا كانت ملك يمين هل يجمع بينهما؟ فمنعه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو الصواب، فإن سائر ما ذكر في آية المحرمات عام في النكاح وملك اليمين، فكذلك الجمع بين الأختين (4).
* فائدتان:
1 - إذا تزوَّج الرجل امرأة ثم تزوَّج أختها (5): فزواج الآخرة باطل، وزواج الأولى صحيح ثابت، وسواء دخل بها أو لم يدخل، ويُفرَّق بينه وبين الآخرة، وإذا كان عنده أمة يطؤها، لم يكن له وطء أختها إلا بأن يُحرم عليه فرج التي كان يطأ ببيعها أو تزويجها أو إعتاقها ونحو ذلك.
فإن تزوجهما في عقد واحد فسد، لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.
_________
(1) «فتح الباري» (9/ 160)، و «تفسير ابن كثير» (1/ 472)، و «المغني» (6/ 571).
(2) سورة النساء: 23.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5101)، ومسلم (1449).
(4) «فتح الباري» (9/ 160)، و «زاد المعاد» (5/ 125)، و «المحلي» (9/ 521).
(5) «الأم» (3/ 150)، و «المغني» (6/ 571)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 103).

(3/89)


2 - إذا أسلم الكافر، وكان متزوجًا بأُختين: فإنه يُخيَّر، فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة، وقد ورد -بسند ضعيف- أن فيروز الديلمي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختر أيتهما شئت" (1).
(ب) خالة الزوجة وعمتها (الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها):
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُجمع بين المرأة وعمَّتها، ولا بين المرأة وخالتها" (2).
وعن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُنكح المرأة على عمتها أو خالتها" (3).
وعلى هذا إجماع من يُعتد بإجماعه من أهل العلم أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، سواء كانت عمة وخالة حقيقية، أو مجازية وهي أخت أب الأب وأبي الجد وإن علا، أو أخت أمِّ الأم، وأم الجدة من جهتي الأم والأب وإن علت، فكلهنَّ يحرم الجمع بينهما.
ويمكن أن يقال: "يحرم الجمع بين امرأتين بينهما حرمة النسب أو الرضاع بحيث لو فرضت واحدة منهما ذكرًا لم يجز نكاحها مع الأخرى" (4) فهذا هو الصفارة.
فإن تزوج إحداهما على الأخرى فنكاح الآخرة مفسوخ، كما تقدم في الجمع بين الأختين (5).
(ج) المرأة المتزوجة بالغير، أو المعتدة للغير إلا المسبيَّة، وزوجة الكافر إذا أسلمت:
لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (6).
ومعنى الآية: وحرمت عليكم المتزوجات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم
_________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذي (1129)، وأبو داود (2243)، وابن ماجة (1951)، وأحمد (4/ 232).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5108)، والنسائي (6/ 98).
(4) «المغني».
(5) «سنن الترمذي» (ح 1126)، و «الأم» (3/ 150)، و «المحلي» (9/ 521)، و «الزاد» (5/ 127)، و «شرح مسلم» (3/ 562)، و «الفتح» (9/ 161)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 109).
(6) سورة النساء: 24.

(3/90)


بالسبي، فإنه ينفسخ نكاح زوجها الكافر وتحلُّ لكم إذا انقضى استبراؤها، ويؤيد هذا المعنى حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس فلقوا عدوًّا فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأنَّ ناسًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل فى ذلك: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (1). أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. (2)
وقال ابن عباس: "كل ذات زوج: إتيانها زنا إلا ما سُبِيَتْ" (3).
وعن ابن مسعود قال في هذه الآية: "كل ذات زوج عليك حرام إلا أن تشتريها أو ما ملكت يمينك" (4).
* ويلحق بالمحصنات المباحات: المرأة التي أسلمت وكانت تحت رجل كافر، فإن إسلامها يفرِّق بينها وبين زوجها المشرك، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن
الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} (5).
(د) المطلَّقة ثلاثًا لا تحل لزوجها إلا إذا تزوَّجت غيره زواجًا صحيحًا:
لقوله سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} (6).
وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في "أحكام الطلاق".
(هـ) المشركة حتى تسلم:
قال الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} (7).
_________
(1) سورة النساء: 24.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1456)، وأبو داود (2155)، والنسائي (6/ 110)، والترمذي (1132) مختصرًا.
(3) إسناده صحيح: أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (8961).
(4) رجاله ثقات: أخرجه ابن جرير (8972) ورجاله ثقات إلا أن رواية إبراهيم عن ابن مسعود منقطعة عند بعض العلماء.
(5) سورة الممتحنة: 10.
(6) سورة البقرة: 230.
(7) سورة البقرة: 221.

(3/91)


وقال سبحانه: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} (1).
وفيهما تحريم الزواج بالمشركة حتى تؤمن، وفي حديث المسور بن مخرمة -في قصة صلح الحديبية- أنه لما نزل قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} "طلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية ... " الحديث (2).
* تنبيه: يستثنى من تحريم المشركات، الزواج بأهل الكتاب:
قال الله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} (3).
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المراد بالمحصنات هنا: العفيفات، سواء كنَّ من الحرائر، أو الإماء، فتبيَّن أن الكتابيات لسن داخلات في التحريم بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات ...} وعليه جمهور الصحابة ومن بعدهم:
1 - عن الشعبي قال: "تزوَّج أحد الستة من أصحاب الشورى يهودية" (4).
2 - عن جابر -وسئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية- قال: "تزوجناهنَّ زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبى وقاص، ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرًا، فلما رجعنا طلقناهن، وقال: لا يرثن مسلمًا ولا يرثونهن، ونساؤهم لنا حِلٌّ، ونساؤنا حرام عليهم" (5).
3 - عن أبي وائل قال: "تزوَّج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر: طلِّقها، فكتب إليه: لم؟ أحرام هي؟ فكتب إليه: لا، ولكني خفت أن تعاطوا المومسات منهن" (6).
4 - ورُوي عن عثمان بن عفان أنه: "نكح ابنة الفرافضة الكلبية -وهي نصرانية- على نسائه ثم أسلمت على يديه" (7) وفي سنده ضعف.
_________
(1) سورة الممتحنة: 10.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2734) وغيره.
(3) سورة المائدة: 5.
(4) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (717).
(5) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 8)، والبيهقي (7/ 172).
(6) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (716)، والبيهقي (7/ 172).
(7) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (7/ 172).

(3/92)


* وذهب الشافعي وبعض أهل العلم إلى أن من كان من بني إسرائيل يدين بدين اليهود أو النصارى نُكح نساؤه وأكلت ذبيحته، أما من دان بدينهم من غيرهم من العرب أو العجم لم تُنكح نساؤه ولم تحل ذبيحته (!!) وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض السلف:
فعن عبيدة عن عليٍّ قال: "لا تؤكل ذبائح نصارى العرب، فإنهم لا يتمسَّكون من النصرانية إلا بشرب الخمر" (1).
لكن هذا القول لا دليل عليه من كتاب أو سنة مرفوعة، وأما قول عليٍّ فهو مُعارض بقول غيره من الصحابة، بل قال ابن عباس: "كلوا ذبائح بني تغلب وتزوَّجوا نساءهم، فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} (2) فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم" (3).
وقد "كتب عامل عمر إلى عمر أن قبلنا ناسًا يُدعون السامرة يقرأون التوراة، ويسبتون السبت، ولا يؤمنون بالبعث، فما ترى يا أمير المؤمنين في ذبائحهم فكتب إليه عمر بن الخطاب أنهم طائفة من أهل الكتاب" (4).
قلت: وقد تقدم أن إنكار عمر على حذيفة زواجهُ باليهودية لم يكن لتحريمه وإنما خشية أن يتزوج المسلمون المومسات والزانيات منهن، وهذا أمر معتبر ينبغي التنبُّه إليه مع القول بالإباحة، والله أعلم.
* أما المسلمة فلا يحلُّ لها الزواج بالكافر: سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم، لقوله سبحانه: {ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} (5).
وقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} (6).
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 72)، والبيهقي (9/ 217).
(2) سورة المائدة: 51.
(3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (3/ 477)، والبيهقي (9/ 217).
(4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 187)، والبيهقي (7/ 173).
(5) سورة البقرة: 221.
(6) سورة الممتحنة: 10.

(3/93)


(و) الزانية حتى تتوب وتستبرئ بحيضة:
قال الله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحُرِّم ذلك على المؤمنين} (1).
وقد اختلف أهل العلم في مفهوم هذه الآية الكريمة: هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ وهل الإشارة في قوله تعالى {وحرم ذلك على المؤمنين} إلى الزنا، أو إلى النكاح؟ (2).
وقد صار الجمهور -خلافًا لأحمد- إلى حمل الآية على الذم لا على التحريم، فأجازوا زواج الزانية، لأمور:
1 - أن ظاهر الآية غير مراد لأنه يستلزم القول بأن الزاني المسلم تحل له المشركة، وكذلك الزانية المسلمة يحل لها المشرك وهما ممتنعان كما تقدم.
2 - قالوا: الآية منسوخة بقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم ...} (3).
قد خلت الزانية في أيامى المسلمين، ويعكِّر على هذا الجهل بالتاريخ فلا يثبت النسخ.
3 - واستدلوا بحديث الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم في زوجته: إنها لا تردُّ يد لامس، فقال له صلى الله عليه وسلم: "طلقها" فقال: إني لا أصبر عنها فقال له: "فأمسكها" (4).
قلت: لكن يتأيد حمل الآية على تحريم نكاح الزانية بسبب نزولها:
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن مرثد بن أبى مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغى يقال لها "عَنَاق" وكانت صديقته، فقال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناقًا؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يردَّ عليَّ شيئًا حتى نزلت: {الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (5). فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا مرثد، الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فلا تنكحها" (6).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله" (7).
_________
(1) سورة النور: 3.
(2) «بداية المجتهد» (2/ 72 - 73) وانظر «تفسير ابن كثير».
(3) سورة النور: 32.
(4) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (2049)، والنسائي (6/ 170)، والبيهقي (7/ 154، 155).
(5) سورة النور: 3.
(6) حسن: أخرجه الترمذي (3177)، وأبو داود (2051)، والنسائي (6/ 66).
(7) حسن: أخرجه أبو داود (2052)، والحاكم (2/ 193)، والبيهقي (7/ 156).

(3/94)


وهذا مذهب قتادة وإسحاق وابن عبيد وأحمد واختاره شيخ الإسلام (1).
فلا يجوز زواج الزانية إلا بشرطين:
1 - أن تتوب: لأن بتوبتها يزول عنها الوصف الذي من أجله حُرِّم نكاحها في الآية الكريمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (2).
2 - الاستبراء بحيضة: وهو شرط عند أحمد ومالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المسبيَّات: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة" (3).
فاشترط استبراء الأمة بالمحيض براءة الرحم قبل تجويز وطئها فكذلك زواج الزانية، وهو الصواب والله أعلم.
(ز) المُحْرِمة حتى تتحَلَّل:
لا يحل للمحرم أو المحرمة عقد الزواج حال الإحرام، فإن عقد أحدهما فنكاحه باطل، وهذا مذهب الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم، لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْكِح المُحرِم، ولا يُنْكَح، ولا يخطب" (4).
وقد تقدمت هذه المسألة بأدلتها في "كتاب الحج" فراجعها غير مأمور.
(ج) الزواج بخامسة ما دام تحته أربع:
قال الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (5). فانتهى عدد ما رخَّص فيه للمسلمين إلى أربع، فلا يحل لمسلم أن يجمع بين أكثر من أربع، إلا ما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم دون المسلمين من نكاح أكثر من أربع يجمعهن ومن النكاح بغير مهر.
وقد أجمع أهل العلم -إلا من لا يعتدُّ بخلافه من الشيعة- على هذا (6).
_________
(1) «المغني» (7/ 515)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 109).
(2) حسنه الألباني: أخرجه ابن ماجة (4250)، وابن الجعد (1/ 266) والقضاعي في «الشهاب» (1/ 97)، والطبراني (10/ 150) والظاهر لي إرساله لكن حسنه الألباني في «صحيح ابن ماجة» (2/ 418).
(3) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (2157)، وأحمد (3/ 62) وله طرق وشواهد.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1409)، والترمذي (840)، وأبو داود (1841)، والنسائي (5/ 292)، وابن ماجة (1966).
(5) سورة النساء: 3.
(6) «تفسير ابن كثير»، و «فتح الباري» (9/ 139)، و «المغني» (6/ 539).

(3/95)


ومن كان مشركًا ثم أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة فإنه يؤمر بفراق من شاء منهن مما زاد على الأربع.
وقد ورد عن ابن عمر "أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخيَّر أربعًا منهن" (1).
وهو حديث مُعلٌّ إلا أن الإجماع منعقد على العمل به.
ومن تزوَّج خامسة وعنده أربع: فزواجه باطل، وعليه الحدُّ إن كان عالمًا، عند مالك والشافعي، وقال الزُّهري: يُرجم إذا كان عالمًا، وإن كان جاهلًا أدنى الحدين الذي هو الجَلد، ولها مهرها، ويُفرَّق بينهما ولا يجتمعان أبدًا (2).

الأنكحة الفاسدة شرعًا (3)
[1] نكاح الشغار:
وهو أن يزوِّج ابنته أو أخته أو موليته، على شرط أن يزوِّجه ابنته أو أخته أو موليته، سواء كان بينهما صداق أو لم يكن على الأصح.
وقد أجمع العلماء على تحريم نكاح الشغار، واختلفوا في صحته، فالجمهور على بطلانه (4) لما يأتي:
1 - حديث جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار" (5).
2 - وعن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار" قال: والشغار أن يقول الرجل للرجل زوِّجني ابنتك وأوزوجك ابنتي، أو: زوجني أختك وأزوجك أختي (6).
_________
(1) أعلَّه الأئمة: أخرجه الترمذي (1128)، وابن ماجة (1953)، وأحمد (2/ 13) وغيرهم وأعلَّه البخاري ومسلم وأحمد وأبو حاتم وأبو زُرعة بالإرسال وانظر «التلخيص» (3/ 168).
(2) «تفسير القرطبي» (5/ 18)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 467).
(3) الفاسد والباطل مترادفان في اصطلاح جمهور الفقهاء، إلا في النكاح، فحيث يقولون (نكاح باطل) فهو ما أجمعت الأمة على بطلانه، وهذا لا ينعقد أصلًا ولا يعترف الشرع به ولا يحتاج الفراق فيه إلى طلاق، ولا تترتب عليه آثاره إلا أن يكون حصل بشبهة، وأما (النكاح الفاسد) فهو ما اختلفوا في فساده وتجب المفارقة فيه بطلاق، وتترتب عليه بعض آثاره.
(4) «فتح الباري» (9/ 163).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1417).
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1416)، والنسائي (6/ 112)، وابن ماجة (1884).

(3/96)


3 - عن الأعرج "أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقًا فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال فى كتابه: هذا الشغار الذى نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم" (1).
4 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق" (2).
5 - ثم "إن اشتراط المبادلة مقتضي لفساد هذا النكاح، لما فيه من فساد كبير، لأنه يُفضي إلى إجبار النساء على النكاح ممن لا يرغبن فيه إيثارًا لمصلحة الأولياء على مصلحة النساء، وهو ظلم لهن، ولأن ذلك يُفضي إلى حرمان النساء من مهور أمثالهن، كما هو واقع بين من يتعاطون هذا العقد المنكر، وكذلك لما يُفضي إليه هذا النكاح من النزاع والخصومات بعد الزواج، وهذا من العقوبات العاجلة لمن خالف شرع الله" (3).
[2] نكاح المُحَلِّل:
وهو أن يتزوج الرجل المطلقة ثلاثًا، ثم يطلقها، لأجل أن تحلَّ لزوجها الأول.
وهو من الكبائر، حرَّمه الله تعالى ولعن فاعله والمفعول لأجله:
1 - فعن ابن مسعود قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحِلَّ والمحلَّل له" (4).
* وقد ذهب عامة أهل العلم، منهم: مالك والشافعي -في قول- وأحمد، والليث والثوري وابن المبارك وغيرهم، إلى أن نكاح التحليل فاسد، وهو قول عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعثمان بن عفان من الصحابة (5).
1 - فعن عمر بن الخطاب قال: "لا أُوتَي بمحلِّل وبمحلَّلة إلا رجمتهما" (6).
_________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (2075).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2155)، ومسلم (1504).
(3) من رسالة للعلامة ابن باز - رحمه الله - في «نكاح الشغار».
(4) صحيح: أخرجه الترمذي (1120)، والنسائي (6/ 149)، وأحمد (1/ 448) وغيرهم، وقد ورد تسمية المحلل «التيس المستعار» عند ابن ماجة (1936) ولا يصح.
(5) «بداية المجتهد» (2/ 102)، و «المغني» (6/ 645)، و «نهاية المحتاج» (6/ 282)، و «المحلي» (10/ 180)، و «سنن الترمذي» (3/ 420)، و «روضة الطالبين» (7/ 126).
(6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 265)، وسعيد بن منصور (1992):

(3/97)


2 - وسئل ابن عمر عن تحليل المرأة لزوجها، فقال: "ذلك السفاح" (1).
* وسواء في هذا: أن يُشترط عليه طلاق المرأة لتحلَّ لزوجها، أو لا يُشترط لكن ينوي هو تحليلها، فالنكاح فاسد:
3 - فعن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما فسأله عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليُحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: "لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعدُّ هذا سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2).
وذهب أبو حنيفة والشافعي -في قوله الثاني وهو المشهور- إلى أن النكاح صحيح والشرط باطل (3)!! ولا يسلم لهذا القول دليل، والصحيح أنه نكاح فاسد.
* فائدة: المعتبر في فساد النكاح نيَّة الزوج الثاني (المحلِّل): فلا يخلو من حالين:
1 - أن ينوي زواج المرأة ثم تطليقها لتحليلها لأول، سواء شُرط عليه أم لا، فالنكاح حينئذ فاسد، ويكون ملعونًا.
2 - أن يُشرط عليه تحليل المرأة قبل العقد، فينوي -هو- غير ما اشترطوا عليه ويقصد النكاح رغبة، فالنكاح صحيح، لأنه خلا من نية التحليل وشرطه (4).
* ولا اعتبار لنية الزوج الأول، أو المرأة نفسها:
لأن الزوج الأول لا يملك شيئًا من العقد، ولا من رفعه، فهو أجنبي كسائر الأجانب.
وكذلك المرأة لأن الطلاق والإمساك إلى الزوج الثاني لا إليها، ومما يؤيد هذا:
أن امرأة رفاعة القرظى جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلَّقنى فبَتَّ طلاقى، وإنى نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظى، وإنما معه مثل الهُدبة، فقال
صلى الله عليه وسلم: "لعلك تريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسَيْلتكِ، وتذوقى عُسَيْلته" (5) يعني: يجامعك.
فلم يعتبر نيَّتها شيئًا.
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10776).
(2) صحيح: أخرجه الحاكم (2/ 199)، والبيهقي (7/ 208).
(3) «ابن عابدين» (3/ 411)، و «روضة الطالبين» (7/ 126).
(4) «المغني» لابن قدامة (6/ 648).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).

(3/98)


[3] نكاح المتعة:
وهو أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل مؤقت -يوم أو يومين أو أكثر- في مقابل شيء يعطيه إياها من مال أو نحوه.
وقد كان هذا النكاح حلالًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فحرَّمه تحريمًا باتًا إلى يوم القيامة، وعلى هذا جماهير أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم (1).
وقد اختلفت الأخبار في الوقت الذي نسخ فيه نكاح المتعة، والذي صحَّ منها (2):
1 - نَسخه في خيبر:
صحَّ أن عليًا قال لابن عباس: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر" (3).
ثم رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة بعد ذلك، ولم يبلغ عليًّا رضي الله عنه هذا الترخيص، فبنى على ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث التحريم يوم خيبر، وعلى ما استقرَّ عليه الأمر أيضًا (4).
2 - نسخه في عام الفتح:
فعن الربيع بن سبرة أن أباه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة قال: "فأقمنا بها خمس عشرة (ثلاثين بين ليلة ويوم) فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء ... ثم استمتعت
منها (أي من فتاة) فلم أخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (5) وفي لفظ: " ... فكُنَّ معنا [يعني النساء اللاتي استمتعوا بهن] ثلاثًا ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهن" (6).
_________
(1) «المدونة» (2/ 196)، و «بداية المجتهد» (2/ 101)، و «نهاية المحتاج» (5/ 71)، و «المبسوط» (5/ 152)، و «المغني» (6/ 644)، و «الإنصاف» (8/ 163)، و «التمهيد» (10/ 121)، و «شرح معاني الآثار» (3/ 26)، و «المحلي» (9/ 519)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 171)، ونكاح المتعة عند القائلين به: لا ميراث فيه، وتقع الفرقة بانقضاء الأجل من غير طلاق وهو بهذا يخالف النكاح، وانظر «الاستذكار» (16/ 301).
(2) انظر هذه الأخبار بأسانيدها في «جامع أحكام النساء» (3/ 127 - وما بعدها).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5115)، ومسلم (1407).
(4) «فتح الباري» (9/ 168).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1406).
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1406)، والبيهقي (7/ 202).

(3/99)


وفي لفظ: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها" (1).
3 - نسخه عام أوطاس:
عن سلمة بن الأكوع قال: "رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا ثم نهى عنها" (2).
ثم كان هذا التحريم مؤبدًا إلى يوم القيامة.
* تنبيهان:
1 - صح عن جابر بن عبد الله أنه قال: "كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق، الأيام على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر حتى نهى عنه عمر فى شأن عمرو بن حريث" (3).
وهذا محمول على أن من استمتع في عهد أبي بكر وعمر لم يكن بلغه النسخ والتحريم (4).
2 - ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يرى إباحة زواج المتعة عند الضرورة فعن أبي جمرة قال: "سمعْتُ ابن عباس يُسأل عن متعة النساء فرخَّص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قِلَّة أو نحوه؟ فقال ابن عباس: نعم" (5).
وهذا من مفاريد الحبر ابن عباس رضي الله عنهما وهو مأجور على اجتهاده إن شاء الله، وأما نحن فمتعبَّدون بما بلغنا عن الشارع من تحريمه أبدًا، ومخالفة ابن عباس لجمهور الصحابة غير قادح في حجيَّة التحريم، ولا قائم لنا بالمعذرة عن العمل به، والله تعالى أعلم.
* من تزوَّج بالمتعة، ماذا يفعل؟ تقدم أن نكاح المتعة فاسد، فتجب فيه المفارقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من تمتع بامرأن أن يفارقها كما في حديث سبرة.
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1406).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1405)، والبيهقي (7/ 204)، وابن حبان (4151).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1405)، وأبو داود (2110).
(4) «شرح معاني الآثار» (3/ 27)، و «شرح مسلم» (3/ 555).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5116)، والطحاوي (3/ 26)، والبيهقي (7/ 204).

(3/100)


* ما حكم من تزوَّج امرأة وفي نيَّته طلاقها بعد مدة؟
هذا يفعله كثير من المسافرين إلى الخارج، فيتزوجون وفي نيتهم أن يفارقوا أزواجهم إذا أرادوا العودة إلى بلادهم.
وهذا النكاح صحيح عند عامة أهل العلم: إذا تزوَّجها بغير شرط إلا أن في نيَّته طلاقها بعد مدة، قالوا: لأنه قد ينوي الشيء ولا يفعله، ولا ينويه ويفعله، فيكون الفعل حادثًا غير النية (1).
وخالف في هذا الأوزاعي، فقال: هو نكاح متعة، وهو اختيار العلامة ابن عثيمين (2).
قلت: ولعل قول الأوزاعي أَوْجَهُ، ويؤيده ما تقدم قريبًا من قول ابن عمر لمن سأله عن رجل أراد أن يتزوج زوجة أخيه ليحلها له: "لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعدُّه سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3).
ويضاف إلى ذلك ما في هذا النوع من النكاح من الغش والخداع، وإلقاء العداوة والبغضاء، وإذهاب الثقة بين المسلمين، وتدني النفس وتنقلها في مراتع الشهوات، وما يترتب على ذلك من المفاسد والمنكرات، فإن هذا النوع أجدر بالبطلان من عقد المتعة الذي يُشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الرجل والمرأة ووليها!!
ثم ههنا أمر وهو: هل للزوج حق الطلاق من غير سبب؟! "الأصل في الطلاق الحظر، لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدنيوية، والإباحة للحاجة إلى الخلاص" (4). وسيأتي في أبواب الطلاق أنه تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة على حسب اختلاف الأحوال.
[4] الزواج العُرفي (5):
المراد به هنا: تلك الظاهرة التي تفشت بين الشباب في هذه الأيام حيث: يقيم الرجل علاقة مع امرأة -زميلة في الجامعة مثلًا!! - ولا يعرف بهذه العلاقة
_________
(1) «المغني» (6/ 644)، و «الأم» (5/ 80) عن كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 376).
(2) «الاستذكار» (16/ 301)، و «أحكام التعدد» لإحسان العتيبي (ص 26).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) «شرح فتح القدير» لابن الهمام (3/ 78)، و «الإنصاف» (8/ 429).
(5) انظر: «الزواج العُرفي باطل» للشيخ أسامة البطة، حفظه الله.

(3/101)


أحد، أو قد يعرفها أصحابه الذين يعرفون علاقاته غير المشروعة، ثم ينطلق بها إلي بيت صديقه -مثلًا- فيمارس معها الجنس، ثم ترجع إلى بيت أبيها الذي ينفق عليها، ويكون هذا العقد بينهما عبارة عن ورقة بينهما، وربما شهادة هؤلاء الفسَّاق!!.
* وهذا العقد فاسد، بل هو في الحقيقة زنا -والعياذ بالله- لأنه فقد شرطًا من شروط النكاح (1) التي لا يصح إلا بها، وهو: إذن وليِّ المرأة.
فقد دلَّ الكتاب والسنة على اشتراط الولي في صحة النكاح، وعلى هذا جماهير العلماء، وستأتي هذه الأدلة مفصَّلة في "شروط عقد النكاح".
فإذا تقرر فساد هذا الزواج، فيجب فسخه أبدًا، وإن طال الزمان بعد الدخول.

الصفات المطلوبة في الزوجين (2)
(أ) الصفات التي يستحب توفرها في الزوجة:
1 - أن تكون ذات دين: لقوله تعالى: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} (3).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فاظفر بذات الدين تربت يداك" (4).
2 - إذا اجتمع مع الدِّين: جمال وحسب ومال فهو خير:
قال صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (5).
3 - أن تكون ذات عطف وحنان:
قال صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش: أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده" (6).
_________
(1) ستأتي هذه الشروط قريبًا.
(2) من «أحكام النكاح والزفاف» لشيخنا مصطفى العدوي - حفظه الله - (ص: 56 - 60) بتصرف يسير.
(3) سورة البقرة: 221.
(4) صحيح: وهو الآتي بعده.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5082)، ومسلم (2527).

(3/102)


4 - يستحب أن تكون بكرًا:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله لما تزوج: "أبكرًا أم ثيبًا؟ " قال: ثيبًا، قال: "فهلّا بكرًا تلاعبها وتلاعبك" (1).
إلا إذا كانت هناك قرينة ترجح نكاح الثيب كطلب مصاهرة الصالحين أو جبر خاطر من توفي زوجها أو لأعالة أيتام ونحو ذلك.
5 - أن تكون جميلة مطيعة أمينة:
لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها ولا في ماله" (2).
6 - أن تكون ودودًا ولودًا: لحث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج منها وقد تقدم الحديث في أول هذا الكتاب.
(ب) الصفات التي يستحب توفرها في الزوج:
1 - أن يكون ذا دين: لقوله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} (3).
2 - أن يكون حاملًا لقدر من كتاب الله عز وجل:
فقد زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من أصحابه بما معه من القرآن (4).
3 - أن يكون مستطيعًا للباءة بنوعيها: وهي القدرة على الجماع وعلى مؤن الزواج وتكاليف المعيشة.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم الشباب على الزواج عند استطاعتهم الباءة، وقال لفاطمة بنت قيس: "أما معاوية فصعلوك لا مال له" (5).
4 - أن يكون رفيقًا بالنساء:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أبي جهم: " .. أما أبو جهم فرجل لا يضع عصاهُ عن عاتقه، ولكن انكحي أسامة" (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5079)، ومسلم (715).
(2) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 68)، وأحمد (7373).
(3) سورة البقرة: 221.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5029)، ومسلم (1425).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1480)، والنسائي (3245)، وأبو داود (2284).
(6) صحيح: وهو الذي قبله.

(3/103)


5 - أن تُسَرَّ المرأة برؤيته: حتى لا تحدث النفرة بينهما، وحتى لا تكفر العشير معه.
6 - أن يكون غير عقيم: لما ورد في فضل الذرِّية، إلا أن تأتي عوارض ترجِّح مثل هذا.
7 - أن يكون كُفْئًا للمرأة:
والكفاءة هي: المساواة والمماثلة، وهي تشمل أنواعًا:
1 - الكفاءة في الدين: وهي معتبرة في النكاح، بل هي شرط في صحته، باتفاق أهل العلم، فلا يحل للمرأة أن تتزوَّج كافرًا بالإجماع (1).
وكذلك لا ينبغي للمسلم أن يزوج مُوليته الصالحة من رجل فاسق فقد قال الله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} (2). وإن كان هذا لا يشترط في صحة العقد.
2 - الكفاءة في النسب: وهي معتبرة عند جمهور العلماء خلافًا للإمام مالك.
3 - الكفاءة في المال: قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} (3). وهي معتبرة عند الحنفية والحنابلة وقول عند الشافعية.
4 - الكفاءة في الحرية وهي معتبرة عند الجمهور خلافًا لمالك.
5 - الكفاءة في الصنعة والمهنة، وقد اعتبرها الحنفية والشافعية والحنابلة.
6 - السلامة من العيوب [أي العيوب الفاحشة]: وهي معتبرة عند المالكية والشافعية وابن عقيل من الحنابلة.
* لكن: هل هذه الكفاءة شروط في صحة النكاح؟
لأهل العلم في اشتراطها قولان: أصحهما أن الكفاءة -في الجملة- ليست شرطًا في صحة النكاح، وهو قول جمهور العلماء، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية، وهو مروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما (4)، ومما يدل على ذلك:
_________
(1) «الإفصاح» (2/ 121)، و «سبل السلام» (ص 1006).
(2) سورة النور: 26.
(3) سورة النساء: 34.
(4) «ابن عابدين» (3/ 84)، و «المبسوط» (3/ 229، و «المدونة» (2/ 170)، و «الدسوقي» (2/ 217)، و «الأم» (5/ 13)، و «المغني» (6/ 484)، و «الإنصاف» (8/ 105).

(3/104)


1 - تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش -وهي أسدية من أعلى العرب نسبًا- بزيد بن حارثة رضي الله عنه وهو مولى، وقصتهما في كتاب الله، قال الله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ...} (1).
2 - تزويج النبي صلى الله عليه وسلم -وهو هاشمي- ابنتيه بعثمان بن عفان -وهو قرشي- وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (2).
3 - تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد -وهو مولى- بفاطمة بنت قيس -وهي قرشية- وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لها: " .. انكحي أسامة" (3).
4 - عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" (4).
5 - قول الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} (5).
فالفقر في الحال لا يمنع التزويج لاحتمال حصول المال في المآل.
6 - حديث أبي سعيد أن زينب امرأة ابن مسعود قالت: يا نبى الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندى حُلىٌّ لى، فأردت أن أتصدق بها، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقتُ عليهم، فقال النبى -صلى الله عليه وسلم- "صَدَق ابن مسعود، زوجُك وولدُك أحق من تصدَّقت به عليهم" (6).
فدَلَّ على أنها كانت أثرى منه بكثير، والله أعلم.
7 - حديث أبي هريرة أن أبا هند حَجَم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وانكحوا إليه" (7).
_________
(1) سورة الأحزاب: 37.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2276)، والترمذي (3605).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (934) وغيره.
(5) سورة النور: 32.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (1462)، ومسلم (1000).
(7) حسن: أخرجه أبو داود (2102)، والحاكم (2/ 164)، والبيهقي (7/ 136).

(3/105)


وأبو هند هو مولى بني بياضة وليس من أنفسهم، ثم هو يعمل حجَّامًا، وقد كانت هذه الصناعة من أحقر الصناعات في زمانهم.
8 - حديث عائشة قالت: "اشتريت بريرة فاشترط أهلها ولاءها فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أعتقيها، فإن الولاء لمن أعطى الورق" فأعتقها فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فخيَّرها من زوجها، فقالت: لو أعطاني كذا وكذا ما ثبتُّ عنده" (1).
وفي حديث ابن عباس: " .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعته، قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه" (2).
ولا يشفع إليها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح عبدًا إلا والنكاح صحيح، والله أعلم.
9 - وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" (3).
وقد ذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه، والثوري وبعض الأحناف إلى أن الكفاءة شرط، واستدلوا بجملة أدلة لا يثبت منها شيء، وما ثبت منها فليس صريحًا في الشرطية ولا يقوى على معارضة ما تقدم من النصوص.
* فوائد:
الأولى: الكفاءة عند من يشترطها إنما هي حق للمرأة والأولياء: بمعنى أن المرأة وأولياءها إن رضوا بعدم الكفء صحَّ النكاح، ولم يقل الإمام أحمد ولا غيره من العلماء إنه باطل (4).
الثانية: كثير ممن لا يشترطون الكفاءة في صحة النكاح يرون أنها شرط لزوم: بمعنى أنه: إن عُقد النكاح مع وجودها لزم النكاح، وإن عقد مع وجودها برضا المرأة والأولياء صحَّ، وإن لم يرض أحد الأولياء فله فسخ النكاح، وهذا مذهب الشافعية، وظاهر مذهب الحنفية والمعتمد عند المالكية ومتأخري الحنابلة (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (2536)، ومسلم (1504).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5283)، وأبو داود (2231)، والنسائي (8/ 245)، وابن ماجة (2075).
(3) ضعيف: أخرجه الترمذي (1090) وغيره وله أسانيد ضعيفة إلا أن نصوص الشرع تؤيده.
(4) «زاد المعاد» (5/ 161)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 284).
(5) «ابن عابدين» (2/ 318)، و «الدسوقي» (2/ 249)، و «روضة الطالبين» (7/ 84)، و «المغني» (6/ 480)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 57).

(3/106)


الثالثة: الكفاءة معتبرة في الرجل دون المرأة: فإذا تزوَّج الرجل امرأة ليست كفؤًا له فلا غبار عليه، لأن القوامة بيده، والأولاد ينسبون إليه، والطلاق بيده، وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من أحياء العرب -ولا مكافئ له في دين ولا نسب- وتسرَّى بالإماء، وقال: "من كانت عنده جارية فعلمَّها وأحسن تعليمها وأحسن إليها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" (1).

الخِطْبة وأحكامها
* تعريفها:
الخِطبة -بكسر الخاء-: طلب المرأة للزواج، فإن أجيب إلى طلبه فلا يعدو كونه وعدًا بالزواج، ولا ينعقد بهذا النكاح، فتظل المرأة أجنبية عنه حتى يعقد عليها.
فالخطبة مقدمة للنكاح لا يترتب عليها ما يترتب على النكاح كما سيأتي تفصيله.
* حكمها:
الخطبة ليست شرطًا في صحة النكاح، فلو تم بدونها كان صحيحًا، لكنها -في الغالب- وسيلة للنكاح، فهي عند الجمهور جائزة لقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} (2). والمعتمد عند الشافعية استحبابها (3) لفعله صلى الله عليه وسلم: حيث خطب عائشة بنت أبي بكر (4)، وخطب حفصة بنت عمر رضي الله عنهم (5).
هذا إذا لم يَقُم بالمرأة مانع من موانع النكاح -أو غيره مما سيأتي- وإلا لم تجز الخطبة.
* من تُخطب إليه المرأة:
1 - الأصل أن يُطلب الزواج بالمرأة (خطبتها) من وليِّها: فعن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال" (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (2544)، ومسلم (154)، وانظر «المغني» (6/ 487)، و «المبسوط» (5/ 29)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 287).
(2) سورة البقرة: 235.
(3) «ابن عابدين» (2/ 262)، و «المواهب» (3/ 407)، و «نهاية المحتاج» (6/ 198)، و «روضة الطالبين» (7/ 30)، و «المغني» (6/ 604).
(4)، (4) يأتي نص الحديثين قريبًا وهما في البخاري.
(5) أخرجه البخاري (5081).
(6) صحيح: أخرجه مسلم، والنسائي (6/ 81).

(3/107)


2 - ويجوز أن تخطب المرأة الرشيدة إلى نفسها:
لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: "لما مات أبو سلمة أرسل إلىَّ النبي صلى الله عليه وسلم حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا وأنا غيور ... " الحديث (1).
* يُشرع للوليِّ عرض مُوليه على أهل الصلاح:
1 - فقد قال الشيخ الصالح لموسى عليه السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ...} (2).
2 - وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تأيَّمت حفصة -ابنته- من خنيس بن حذافة السهمي عرضها على عثمان، ثم على أبي بكر، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
3 - وعن أم حبيبة قالت: قلت: يا رسول الله، أنكح أختي بنت أبي سفيان قال: "وتُحبين؟ " قلت: نعم، لستُ لك بمخلية، وأَحَبُّ من شاركني في خير أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحل لي" ... الحديث (4).
4 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، مالك تنوَّق (5) في قريش وتدعنا؟ فقال: "وعندكم شيء؟ " قلت: نعم، بنت حمزة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة" (6).
* ويُشرع للمرأة عرض نفسها على الرجل الصالح ليتزوجها:
1 - فعن أنس قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت ابنة أنس: ما أقل حياءها، واسوأتاه، فقال أنس رضي الله عنه: "هي خير منك، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها" (7).
_________
(1) سورة القصص: 27.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5122).
(3)
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5107) وقد تقدم.
(5) أي: تختار، وتبالغ في الاختيار.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1446)، والنسائي (6/ 99).
(7) صحيح: أخرجه البخاري (5120)، والنسائي (6/ 78)، وابن ماجة (2001).

(3/108)


2 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: "زوجنيها ... " الحديث (1).
ومحل هذا إذا أُمنت الفتنة كما لا يخفى، فإن وجدت الفتنة في إخبارها للرجل برغبتها في الزواج منه، لم يجز لما فيه من الفساد {والله لا يحب الفساد} (2) (3).
* من لا يجوز خِطبتُهنَّ:
[1] المحرمات من النساء سواء على التأبيد أو التأقيت: لأن الخِطبة مقدمة إلى النكاح، وما دام النكاح ممنوعًا فتكون الخطبة كذلك، وقد تقدم ذكر المحرمات من النساء قريبًا.
على أنه يحلُّ خطبة الكافرة (المجوسية ونحوها) لينكحها إذا أسلمت (4).
[2] المرأة المعتدَّة (في فترة العدَّة):
وهي وإن كانت داخلة في عموم المحرمات على التأقيت -كما تقدم- إلا أن لها أحكامًا وتفصيلات خاصة، ويختلف حكم خطبة المعتدة باختلاف حالتها.
* والمعتدة لا تخلو من حالات:
(أ) أن تكون معتدَّة من وفاة زوجها:
فهذه لا يجوز للرجل أن يصرِّح لها بالخطبة، كأن يقول: أريد أن أتزوجك أو: إذا انقضت عدَّتك تزوجتك، وعلى تحريم ذلك اتفاق الفقهاء (5). لكن يجوز له أن يعرِّض لها برغبته في ذلك دون تصريح:
قال الله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ... واعلموا أن الله غفور حليم} (6). ولأن الخاطب إذا صرَّح بالخطبة تحققت رغبته فيها، فربما تكذب في انقضاء العدة.
قال شيخ الإسلام (32/ 8): " ... ومن فعل ذلك (أي من التصريح بخطبة
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5126)، ومسلم (1425).
(2) سورة البقرة.
(3) «جامع أحكام النساء» (3/ 211 - الحاشية) بتصرف.
(4) «نهاية المحتاج» (6/ 198).
(5) «ابن عابدين» (2/ 619)، و «مغني المحتاج» (3/ 135)، و (3/ 135)، و «كشاف القناع» (5/ 18).
(6) سورة البقرة: 235.

(3/109)


المعتدَّة) يستحق العقوبة التي تردعه وتردع أمثاله عن ذلك، فيعاقَب الخاطب والمخطوبة جميعًا، ويزجر عن التزويج بها معاقبة له بنقيض قصده" اهـ.
والتعريض (1): قيل هو: أن يضمن الكلام ما يصلح للدلالة على المقصود وغيره، إلا أن إشعاره بالمقصود أتم.
وقيل: ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيرها كقوله: ورُبَّ راغب فيك، ومن يجد مثلك؟
قلت: ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيرها كقوله: ورُبَّ راغب فيك، ومن يجد مثلك؟
قلت: ومن صور التعريض ما فسَّر به ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء}. فقال: "يقول: إني أريد التزويج، ولوددت أنه يُيَسَّر لي امرأة صالحة" (2).
(ب) أن تكون معتدة من طلاق رجعي (التطليقة الأولى أو الثانية):
وهذه لا يجوز التصريح لها بالخطبة، ولا يجوز كذلك التعريض لها في عدَّتها، لأنها -في عدتها من الطلاق الرجعي- في معنى الزوجة لعودها إلى النكاح بالرجعة، وقد سمَّى الله المعتدة الرجعية زوجة
فقال سبحانه: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} (3).
فالنكاح الأول قائم والتعريض حينئذ يعد تخبيًا لها على زوجها ولأنها مجفوَّة بالطلاق، فقد تكذب في انقضاء عدتها انتقامًا، وعلى هذا اتفاق الفقهاء (4).
(جـ) أن تكون معتدة من طلاق بائن:
ولا يجوز التصريح لها بالخطبة بالاتفاق، ثم اختلفوا في جواز التعريض لها بالخطبة؟ على قولين (5):
الأول: يجوز التعريض: وهو مذهب الجمهور: المالكية والشافعية -في الأظهر عندهم- والحنابلة، وحجتهم:
_________
(1) «مواهب الجليل» (3/ 417)، و «نهاية المحتاج» (6/ 199)، و «أسنى المطالب» (3/ 115).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5124)، والطبري (5099)، وابن أبي شيبة (4/ 257).
(3) سورة البقرة: 232.
(4) «جواهر الإكليل» (1/ 276)، و «نهاية المحتاج» (6/ 18)، و «الإقناع» (2/ 76).
(5) «ابن عابدين» (2/ 619)، و «جواهر الإكليل» (1/ 276)، و «نهاية المحتاج» (6/ 199)، و «المغني» (6/ 608).

(3/110)


1 - عموم قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} (1).
2 - حديث فاطمة بنت قيس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها لما طلَّقها زوجها ثلاثًا: "اعتدِّي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني" ... وفي لفظ "لا تسبقيني بنفسك" (2).
قال النووي: فيه جواز التعريض بخطبة البائن وهو الصحيح عندنا.
3 - أن هذه المرأة لا تجوز رجعتها إلى مطلقها، كما لا يمكن للمعتدة من وفاة زوجها أن تعود إليه، فهما في معنى واحد بخلاف المعتدة من طلاق رجعي.
الثاني: لا يجوز التعريض: وهو مذهب الحنفية والقول المقابل للأظهر عند الشافعية، وحجتهم:
1 - أن النص المبيح للتعريض بالخطبة (الآية الكريمة) إنما ورد في المعتدة من وفاة، فلا يجوز تعديته إلى غيرها من المعتدات.
2 - لأنه قد يتأذَّى المطلق بالتعريض بخطبة زوجته، فيفضي إلى عداوته.
قلت: والراجح جواز التعريض لحديث فاطمة بنت قيس، والله أعلم.
* فائدتان:
1 - إذا خطب المرأة في عدَّتها خطبة صريحة، ثم تزوَّجها بعد انقضاء عدَّتها كان آثمًا، والزواج صحيحًا، أما إذا تزوجها في عدتها فالزواج باطل كما تقدم، لأن الخطبة لا تقارن العقد فلم تؤثر فيه، ولأنها ليست شرطًا في صحة النكاح فلا يُفسخ بوقوعها غير صحيحة، وإلى هذا ذهب الجمهور (3).
2 - إذا تزوَّج رجل امرأة في عدَّتها: فإنه يُفَرَّق بينهما، وتكمل عدَّتها من الزوج الأول، ثم تعتدُّ من الثاني إن كان دخل بها، وصداقها لها إن كانت تجهل الحكم، فإن كانت عالمة بأنه لا يجوز الزواج، فلإمام المسلمين الحق في أن يعطيها الصداق أو يودعه بيت المال من باب التعزير (4):
فعن ابن المسيب وسليمان بن يسار: أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلَّقها
_________
(1) سورة البقرة: 235.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1480).
(3) «الأم» (5/ 32)، و «كشاف القناع» (5/ 18)، و «نيل الأوطار» (6/ 131) ط. الحديث.
(4) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 385) نقلًا عن «جامع أحكام النساء» (3/ 229).

(3/111)


البتة فنكحت في عدتها، فضربها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضرب زوجها بالمخففة ضربات، وفرَّق بينهما، ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أيما امرأة نكحت في عدتها: فإن كان زوجها الذي تزوَّج بها لم يدخل بها فرِّق بينهما، ثم اعتدَّت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان [أي الزوج الجديد] خاطبًا من الخطاب، فإن كان دخل بها فرِّق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا ينكحها أبدًا" قال سعيد: ولها مهرها بما استحل منها (1).
قلت: ثم هل يجوز للزوج الثاني أن يتقدم مرة أخرى -بعد انقضاء العدتين- فيخطبها ويتزوجها؟ أم لا يجوز أبدًا؟
تقدم أن عمر رضي الله عنه يمنعه أبدًا وبه قال مالك والليث والأوزاعي، وأجازه عليُّ بن أبي طالب: فعن عطاء "أن عليًّا رضي الله عنه أُتي في ذلك، ففرَّق بينهما، وأمرها أن تعتدَّ ما بقي من عدَّتها الأولى، ثم تعتدُّ من هذا عدةٌ مستقلة، فإذا انقضت عدَّتها فهي بالخيار إن شاءت نكحت، وإن شاءت فلا" (2) وبه قال الجمهور.
والأظهر قول عليٍّ رضي الله عنه (3) لأنه الأصل ولعدم الدليل على حكم عمر رضي الله عنه ولعله إنما قضى بذلك تعزيرًا.
لكن إذا كان تزوجها في العدة عالمًا بالحرمة، فيكون لمنعه من نكاحها وجه زجرًا له ومعاملة بنقيض قصده، والله أعلم.
(د) أن تكون معتدة من نكاح فاسد أو فسخ (4):
كالمعتدة من لعان أو ردَّة، أو المستبرأة من الزنى، أو التفريق لعيب أو عنَّة وشبه ذلك، فذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة وأكثر الحنفية إلى جواز التعريض لها بالخطبة لعموم الآية الكريمة وقياسًا على المطلقة ثلاثًا، ولأن سلطة الزوج قد انقطعت.
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 441)، وعبد الرزاق (10539).
(2) ضعيف وله شواهد: أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 233)، والبيهقي (7/ 441)، وعبد الرزاق (10532).
(3) وإليه مال شيخنا - حفظه الله - في «جامع أحكام النساء» (3/ 230).
(4) «المواهب» (3/ 417)، و «الدسوقي» (2/ 218)، و «مغني المحتاج» (3/ 136)، و «مطالب أولي النهى» (5/ 23).

(3/112)


هذا كله في غير صاحب العدة الذي يحل له نكاحها فيها، أما هو فيحل له التعريض والتصريح.
[3] خِطبة المرأة المخطوبة لمسلم:
إذا خطب الرجل المسلم امرأة، فلا يحل لغيره أن يتقدم ليخطبها على خطبة أخيه:
1 - فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " .. ولا يخطب الرجل على خِطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" (1).
2 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" (2).
3 - وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحلُّ للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" (3).
وهذا النهي للتحريم عند جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، لأنه نهى عن الإضرار بالآدمي المعصوم، فكان على التحريم ولما يفضي إليه هذا الفعل من العداوة والبغضاء، والإيذاء والتعدي على المسلم، ولإفضائه إلى التزكية النفس وذم الغير واغتيابه.
* ما حدُّ الخطبة التي يَحرُم الخطبة عليها (4)؟
أجمع العلماء على تحريم الخطبة على خطبة المسلم إذا كان قد صُرِّح للخاطب بالموافقة على خطبته، ولم يأذن هو لغيره ولم يترك، وعلم الخاطب الثاني بخطبة الأول وإجابته.
ولم يشترط الحنابلة التصريح بالإجابة والموافقة على الخطبة بل قالوا: يكفي التعريض بالموافقة في تحريم الخطبة على خطبة الآخر، وهو أحد قولي الشافعي، ولعلَّهم استأنسوا بحديث: "وإذْنُها صمتها" (5) فيكون السكوت دليلًا على موافقتها!!
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (1413).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5142)، ومسلم (1412).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1414).
(4) «جواهر الإكليل» (1/ 275)، و «نهاية المحتاج» (6/ 199)، و «الأم» (5/ 39)، و «فتح الباري» (9/ 199 - المعرفة)، و «شرح مسلم» (3/ 569)، و «المغني» (6/ 607)، و «المحلي» (10/ 33)، و «السيل الجرار» (2/ 246)، و «شرح المعاني» للطحاوي (3/ 6).
(5) صحيح.

(3/113)


وذهب الشافعية -في الأصح عندهم- والحنفية والمالكية إلى أن إجابة الخاطب تعريضًا لا تحرِّم الخطبة على خطبته، واحتجوا بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا جهم ومعاوية خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة -وقد تقدم الحديث مرارًا- قالوا: فلم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض بل خطبها لأسامة.
واشترط المالكية لتحريم الخطبة على الخطبة ركون المرأة المخطوبة أو وليِّها، ووقوع الرضا بخطبة الخاطب الأول غير الفاسق.
قلت: والذي يظهر لي أن مجرَّد تقدم المسلم لخطبة امرأة يجعل خطبة غيره لها حرامًا إذا علم بذلك، ولا يجوز له التقدم حينئذٍ إلا إذا علم عدم رضاهم بالخاطب الأول أو أذن الخاطب الأول أو عدل عن الخطبة، وهذا مذهب أبي محمد بن حزم واختيار الشوكاني -رحمهما الله- ويؤيده حديث ابن عمر في قصة عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على عثمان وأبي بكر وفيه قول أبي بكر لعمر رضي الله عنهما: "إنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لَقَبلتُها" (1).
فإن أبا بكر امتنع من خطبتها بمجرد علمه برغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التقدم لها حتى ينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره، فكيف بمن تقدم فعلًا، وكيف بمن أبرم الخطبة وحصل الركون إليه والموافقة عليه؟!!
وأما حديث فاطمة بنت قيس فلا يناقض الأحاديث الصحيحة الناهية عن الخطبة على الخطبة، لأنه صلى الله عليه وسلم أشار عليها بعد استشارته والأمر لا يزال إليها، فإن قيل: ألم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تقدَّم لفاطمة أكثر من خاطب، فكيف أقرها على ذلك بعد نهيه عن خطبة الرجل على خطبة أخيه؟
فالجواب (2): أنه يُحتمل أن يكون الثاني تقدم لخطبتها من غير علمه بخطبة الأول، ويحتمل أن تكون الخطبتان في وقت واحد أو متقارب، وقد يكون الخاطب رُدَّ من قِبَلها، أو من وليِّها، ولكنها أرادت استشارة النبي صلى الله عليه وسلم في كل من تقدم.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5145) وقد تقدم.
(2) «أحكام الزواج» للدكتور عمر الأشقر - حفظه الله - (ص: 45) وقد أشار إلى شيء من هذا النووي في «شرح مسلم» (3/ 569).

(3/114)


ويتأيد هذا المذهب كذلك بأن الحكمة من النهي عن الخطبة حصول الكراهية والبغضاء، والثُّلمة في الأخوة، وهذا حاصل بالتقدم للخطبة على خطبة الغير سواء علم الخاطب الثاني بموافقة المخطوبة أو وليها أو لم يعلم، فإذا أذن الأول أو ترك أو رُدَّ من قبل المرأة أو وليِّها، فلا إشكال، ولا حرج حينئذٍ في تقدم الثاني لها، والله أعلم.
إذا خطب على خطبة غيره ثم عقد عليها، فهل يصح؟
تقدم أن خطبة الرجل على خطبة أخيه حرام، فإن عقد عليها الثاني ففي صحة هذا العقد قولان لأهل العلم (1):
الأول: أن هذا العقد فاسد أو باطل، ويُفَرَّق بينهما: وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وداود، وهو اختيار شيخ الإسلام، قال: وهو الأشبه بما في الكتاب والسنة، والقاعدة عنده: أن كل ما نهى الله عنه وحرَّمه في بعض الأحوال وأباحه في حال أخرى، فإن الحرام لا يكون صحيحًا نافذًا كالحلال يترتب عليه الحكم كما يترتب على الحلال ويحصل به المقصود كما يحصل به.
والنهي يدل على أن المنهي عنه فساده راجح على صلاحه، ولا يُشرع التزام الفساد ممن يُشرع له دفعه.
الثاني: يأثم العاقد، وهو عاص، لكن العقد صحيح: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة والشافعي والرواية الأخرى عن كل من مالك وأحمد، قالوا: لا ملازمة بين تحريم الخطبة على الخطبة وبين صحة عقد الثاني لأن محل التحريم -وهو الخطبة- متقدم على العقد وخارج عنه، وليست الخطبة جزءًا من العقد، فإن العقد يصح بدونها، كما أن إثم الخاطب على خطبة غيره باق ولو لم يعقد.
قلت: وبقول الجمهور أقول، والله أعلم.
* الخِطبة على خِطبة الكافر:
صورة هذه المسألة: أن يخطب ذمِّيٌّ كتابيةً ويُجاب، ثم يخطبها مسلم، أو أن يكون الخاطب تاركًا للصلاة [عند من يرى كفر تاركها] ونحو ذلك، فللعلماء في حكم الخطبة عليه قولان:
_________
(1) «جواهر الإكليل» (1/ 276)، و «بداية المجتهد» (2)، و «نيل الأوطار» (6/ 129)، و «كشاف القناع» (5/ 18)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 10).

(3/115)


الأول: يجوز الخطبة على خطبته، وهو مذهب أحمد والأوزاعي وابن المنذر والخطابي:
1 - لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" (1).
وقد قطع الله الأخوة بين الكافر والمسلم، فيختص النهي بالمسلم.
2 - أن الأصل الإباحة حتى يرد المنع، وقد ورد المنع -أي من الخطبة على الخطبة- مقيدًا بالمسلم فبقي ما عدا ذلك على أصل الإباحة.
3 - أن لفظ النهي خاصٌّ في المسلم، وإلحاق غيره به إنما يصح إذا كان مثله، وليس الذمي كالمسلم، ولا حرمته كحرمته، ولذلك لم تجب إجابتهم في دعوة الوليمة ونحوها.
الثاني: أنه يَحْرُم الخطبة على خطبة الكافر، وهو مذهب الجمهور، قالوا: لما في ذلك من الإيذاء للخاطب الأول!! وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" فقد خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له!!
قلت: والأوَّل أرجح، وأما قولهم: (خرج مخرج الغالب)، فقال ابن قدامة: "متى كان في المخصوص بالذكر معنى يصح أن يُعتبر في الحكم، لم يَجُزْ حذفُه ولا تعدية الحكم بدونه، وللأخوة الإسلامية تأثير في وجوب الاحترام، وزيادة الاحتياط في رعاية حقوقه، وحفظ قلبه، واستبقاء مودَّته، فلا يجوز خلاف ذلك والله أعلم" اهـ.
* الاستشارة في الخطبة، وذكر عيوب الخاطب (2):
إذا استُشير إنسان في خاطب أو مخطوبة فعليه أن يصدق ولو بذكر مساوئه، ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة إذا قصد بذلك النصيحة والتحذير لا الإيذاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت
قيس لما استشارته: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له" (3) وقال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" (4).
_________
(1) «شرح الزرقاني» (3/ 164)، و «أسنى المطالب» (3/ 115)، و «المغني» (6/ 608)، و «فتح الباري» (9/ 200)، و «شرح مسلم» (3/ 570)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 241).
(2) «جواهر الإكليل» (1/ 276)، و «نهاية المحتاج» (6/ 200)، و «روضة الطالبين» (7/ 32)، و «كشاف القناع» (5/ 11).
(3) صحيح: تقدم مرارًا.
(4) صحيح.

(3/116)


ومحل ذكر المساوئ عند الاحتياج إليه، فإن اندفع بدونه بأن لم يحتج إلى ذكرها وجب الاقتصار على ذلك ولم يجز ذكر العيوب.
وإذا استشير في أمر نفسه في النكاح بيَّنه كقوله: عندي شح، وخلقي شديد ونحو ذلك. وإن كان فيه شيء من المعاصي وجب عليه التوبة في الحال وستر نفسه، وإن قال لهم: أنا لا أصلح لكم، دون الكشف عن عيوبه كفاه.
* الاستخارة للخِطبة (1):
يستحب للخاطب والمخطوبة أن يستخيرا في أمر الزواج، فيستخير كل منهما في الآخر وفي وقت الزواج وأهل العروس ونحو ذلك، وقد تقدم في "كتاب الصلاة" ذكر صلاة الاستخارة وطرف من آدابها، ويستحب الإخلاص في دعاء الاستخارة، ولا بأس بتكرير الاستخارة لأنها دعاء، والإكثار منه والإلحاح فيه مستحب.
* يجوز أن يتوسط الرجل لخطبة أو زواج امرأة:
فقد "شفع النبي صلى الله عليه وسلم لمغيث عند بريرة لتتزوَّجه فقالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: "إنما أنا أشفع" قالت: لا حاجة لي فيه" (2).
وكان ابن عمر إذا دُعي إلى تزويج قال: "لا تفضضوا علينا الناس، الحمد لله وصلى الله على محمد، إن فلانًا خطب إليكم فلانة، إن أنكحتموه فالحمد لله، وإن رددتموه فسبحان الله" (3).

أحكام النَّظر في الخِطبة
[1] نظر الخاطب إلى المخطوبة:
* حكمه:
اتفق جمهور أهل العلم على أن من أراد نكاح امرأة فيُشرع له أن ينظر إليها، والأصل في هذا:
_________
(1) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 383) باختصار.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5283)، وأبو داود (2231)، والنسائي (8/ 245)، وابن ماجة (2075).
(3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 181).

(3/117)


1 - قوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} (1).
والحُسن لا يُعرف إلا بعد رؤيتهن.
2 - حديث أبي هريرة قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوَّج من الأنصار، فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنظرت إليها؟ " قال: لا، قال: "اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا" (2).
3 - حديث جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا خطب أحدكم المرأة فَقَدَر أن يرى منها بعض ما يدعوه إليها فليفعل" (3).
4 - حديث سهل بن سعد "أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر إليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه ... " الحديث (4).
5 - حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُريتُك في المنام يجيء بك الملك في سرقة من حرير، فقال لي: هذه امرأتُك، فكشفتُ عن وجهك الثوب فإذا هي أنت، فقلتُ: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه" (5).
والحكمة في مشروعية النظر إلى المخطوبة أن يحصل له اطمئنان النفس إلى الإقدام على الزواج منها، وهذا يؤدي -في الغالب- إلى دوام العشرة، بخلاف إذا لم يرها حتى عقد عليها، فإنه ربما أن يفاجأ بما لا يناسبه، فتجفوها نفسه.
6 - ولذا جاء في حديث المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" (6).
أي: أولى وأجدر أن يجمع بينكما، وتدوم بينكما المودة والأُلفة.
_________
(1) سورة الأحزاب: 52.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1424)، والنسائي (6/ 69).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (2082)، وأحمد (3/ 360)، والحاكم (2/ 165)، والبيهقي (7/ 84).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5126)، ومسلم (1425).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5125)، ومسلم.
(6) صححه الألباني: أخرجه الترمذي (3087)، وهو في «صحيح الترمذي» (934) وقد أعلَّه الدارقطني، لكن له شواهد تقويه.

(3/118)


قلت: وحكم النظر إلى المخطوبة عند أهل العلم دائر بين الإباحة والاستحباب، والثاني أقرب للأدلة السابقة، ولم يقل أحد بوجوبه -فيما علمتُ- فضلًا أن يكون شرطًا لصحة النكاح، ولذا قال شيخ
الإسلام (1): "يصح النكاح وإن لم يرها، فإنه لم يعلل الرؤية بأنه لا يصح منها النكاح، فدلَّ على أن الرؤية لا تجب، وأن النكاح يصحُّ بدونها" اهـ.
* حدود النظر إلى المخطوبة:
لا خلاف بين أهل العلم -القائلين بمشروعية النظر إلى المخطوبة- في جواز النظر إلى الوجه والكفين (2).
ثم اختلفوا في القدر الذي يُباح النظر إليه فوق ذلك على أربعة أقوال (3):
الأول: لا ينظر إلى الوجه والكفين فقط، وبه قال الجمهور: الحنفية والمالكية والشافعية وهو قول عند الحنابلة، قالوا: لأن الوجه مجمع المحاسن وموضع النظر، ولدلالته على الجمال، ودلالة الكفين على خضب البدن، ولأنهما يظهران عادة فلا يباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة.
الثاني: يُباح النظر إلى ما يظهر منها غالبًا، كالرقبة واليدين والقدمين، وهو الصحيح في مذهب الحنابلة، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في النظر إليها من غير علمها عُلم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر منها عادة، ولأنها امرأة أُبيح النظر إليها بأمر الشارع، فأبيح النظر منها إلى ذلك كذوات المحارم.
وقد رُوي عن أبي جعفر الباقر قال: خطب عمر إلى عليٍّ ابنته، فقال: إنها صغيرة، فقيل لعمر: إنما يريد بذلك منعها، قال: فكلمه، فقال عليٌّ: أبعث بها إليك فإن رضيت فهي امرأتك، قال: فبعث بها إليه، قال: فذهب عمر فكشف عن ساقيها، فقالت: أَرْسِل، فلولا أنك أمير المؤمنين لصككتُ عنقك" (4). وفي سنده انقطاع.
_________
(1) «مجموع الفتاوى» (29/ 355).
(2) «المغني» (6/ 552).
(3) «ابن عابدين» (5/ 237)، و «جواهر الإكليل» (1/ 275)، و «مغني المحتاج» (3/ 128)، و «نهاية المحتاج» (6/ 183)، و «المغني» (6/ 552)، و «الإنصاف» (8/ 19)، و «فتح الباري» (9/ 182)، و «المحلي» (10/ 30).
(4) إسناده منقطع: أخرجه عبد الرزاق (6/ 163)، وسعيد بن منصور (521).

(3/119)


الثالث: يجوز النظر إلى ما يريد منها إلا العورة، وهذا مذهب الأوزاعي.
الرابع: يجوز النظر إلى جميع البدن، وهو مذهب داود وابن حزم والرواية الثالثة عن أحمد، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها".
قلت: والراجح "الذي تطمئن إليه النفس أن الرجل إذا ذهب لخطبة المرأة فإنها تُبدي له الوجه والكفين كما قال الجمهور، أما إذا اختبأ لها فله أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها" (1) فليس له أن يطالبها بإبداء ما فوق الوجه والكفين، لكن له أن يستفسر عما فوق ذلك، وأن تنقله له أمُّه أو أخته، أو أن يختبئ هو لرؤيته، وهذا القول عندي هو الذي يُخرَّج عليه قول من أجاز النظر إلى ما فوق الوجه والكفين والله أعلم.
* هل يُشترط استئذان المخطوبة وعلمُها بالنظر إليها (2):
ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يشترط علم المخطوبة أو إذنها أو إذن وليها بنظر الخاطب إليها، اكتفاءً بإذن الشارع، ولإطلاق الأخبار، كما في حديث جابر المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" فقال: فخطبتُ جارية فكنت أتخبَّأ لها، حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها وتزوُّجها، فتزوجتها" (3).
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبتها، وإن كانت لا تعلم" وهذا -إن ثبت- نص في المسألة.
بل قال بعض الفقهاء: إنَّ عدم إعلامها بالنظر أولى، لأنها قد تتزيَّن له بما يغرّه، فيفوت غرضه من النظر، وهو رؤيتها على طبيعتها.
وذهب المالكية إلى وجوب إعلام المرأة أو وليها بالنظر، لئلا يتطرَّق الفساق للنظر إلى النساء ويقولون: نحن خُطَّاب.
قلت: وقول الجمهور أقرب إلى النص، ثم هو لو تمكَّن من النظر إليها -بغير علمها- قبل خطبتها فهو أولى، لأنه قد يُردُّ أو يُعرض فيحصل التأذى والكسر.
_________
(1) «جامع أحكام النساء» (1/ 253).
(2) «المواهب» (3/ 404)، و3/ 404)، و «الدسوقي» (2/ 215)، و «نهاية المحتاج» (6/ 183)، و «كشاف القناع» (5/ 10).
(3) حسن: تقدم قريبًا.

(3/120)


* هل يجوز النظر إلى المخطوبة بشهوة أو التلذذ بذلك؟
اشترط الحنابلة لإباحة النظر أمن الفتنة، قالوا: وأما النظر بقصد التلذذ أو الشهوة فهو على أصل التحريم (1).
وأما الجمهور فلم يشترطوا ذلك، بل قالوا: ينظر لغرض التزوُّج وإن خاف أن يشتهيها، أو خاف الفتنة لأمرين:
1 - أن الأحاديث الواردة بالمشروعية لم تقيِّد النظر بذلك.
2 - أن المصلحة المترتبة على نظر الخاطب أعظم من المفاسد المترتبة عليه (2).
* تكرار النظر إلى المخطوبة (3):
للخاطب أن يكرِّر النظر إلى المخطوبة -إن احتاج لذلك- ويتأمل محاسنها ولو بلا إذن وهو الأولى، ليتبيَّن هيئتها، فلا يندم بعد النكاح، إذ لا يحصل الغرض غالبًا بأول نظرة. لكن ينبغي أن يتقيَّد في هذا بقدر الحاجة وهي التأكد من مدى قبوله لها، فلو اكتفى بنظرة أو أكثر -وحصل له القبول- حرُم ما زاد على ذلك، لأنه نظر أبيح لحاجة فيتقيَّد بها، وتعود أجنبية عنه حتى يعقد عليها.
قلت: وعلى هذا، فلا ينبغي تعدد مجالس الرجل مع مخطوبته كما هو حاصل في هذه الأيام حيث يكاد الخاطب يزور مخطوبته كل يوم، ويجلس معها الساعات الطويلة يصوِّب النظر إليها -وقد استقر في نفسه قبولها- ويكرِّره لا لأجل تحقق مدى قبوله لها، ولكن ربما تغرُّلًا فيها وتلذُّذًا بجمالها!! ولا شك أن هذا لا يجوز لأنها لا تزال أجنبية عنه.
* إذا لم تعجبه المخطوبة:
إذا نظر الخاطب إلى من يريد نكاحها فلم تعجبه، فليسكت، ولا يجوز له أن يذيع ما يسوؤها وأهلها، فربما أعجب غيره ما ساءه منها، ولا ينبغي أن يقول: لا أريدها، لأنه إيذاء (4).
_________
(1) «المغني» (6/ 533).
(2) «ابن عابدين» (5/ 237)، و «جواهر الإكليل» (1/ 275)، و «روضة الطالبين» (7/ 20)، و «مجموع الفتاوى» (15/ 419 - 21/ 251).
(3) «ابن عابدين» (5/ 237)، و «نهاية المحتاج» (6/ 183)، و «مغني المحتاج» (3/ 128)، و «كشاف القناع» (5/ 10)، و «المغني» (6/ 552).
(4) «روضة الطالبين» (7/ 21)، و «مغني المحتاج» (2/ 85).

(3/121)


* هل يكتفي بالنظر إلى صورة المخطوبة؟
يجوز للخاطب أن ينظر إلى صورة المخطوبة سواء كانت "فوتوغرافية" أو "تليفزيونية" لدخوله في عموم الأدلة الحاثة على النظر إلى ما يدعوه لنكاحها.
ويتأكد هذا في الأحوال التي تكون المرأة فيها في مكان بعيد عن الخطاب، إلا أنه يحسن التنبيه هنا إلى أن هذا الطريق يدخل فيه التدليس، فالصورة قد تكون خادعة، فلا تُظهر الشخص المصوَّر على حقيقته،
وقد يحتال المصوِّر فيظهر المرأة القبيحة في صورة جميلة، أو تقدَّم له صورة امرأة غير التي يريد التقدم إلى خطبتها، وقد تضير الصورة المرأة بوصولها إلى عدد كبير من الأشخاص، وفي ذلك ضرر لها ولأسرتها (1).
[2] نظر المخطوبة للخاطب:
حكم نظر المخطوبة إلى خاطبها كحكم نظره إليها، لأنه يُعجبها منه ما يعجبه منها بل هي أولى منه في ذلك، لأنه يمكنه مفارقة من لا يرضاها بخلافها.
"ويمكن أن يقال: إن الشارع لم يوجه المرأة إلى النظر إلى الخاطب، لأن الرجال ظاهرون بارزون في المجتمع الإسلامي، لا يختفون كما تختفي النساء، وبذلك تستطيع المرأة إن شاءت أن تنظر إلى الرجل بسهولة ويسر إذا تقدم لخطبتها.
وقد اختلف أهل العلم في حدود نظر المخطوبة إلى الخاطب، والصواب أنه إن وقع نظرها على أكثر من الوجه والكفين لم يحرم، فعورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة" (2).
[3] الخُلوة بالمخطوبة:
لا يجوز خلوة الخاطب بالمخطوبة للنظر ولا لغيره لأنها محرمة، ولم يرد الشرع بغير النظر، فبقيت على التحريم، ولأنه لا يؤمن من الخلوة الوقوع في المحظور (3).
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خلوة الرجال بالنساء، فقال: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان" (4) وقال: "لا يخلُوَنَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" (5).
_________
(1) «أحكام الزواج» للدكتور عمر الأشقر (ص: 61) بتصرف يسير.
(2) «السابق» (ص: 60)، وانظر: «ابن عابدين» (5/ 237)، و «الدسوقي» (2/ 215).
(3) «المغني» لابن قدامة (6/ 553).
(4) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 18) والترمذي.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341).

(3/122)


"ويزعم الذين انحرف بهم المسار عن دين الله وشرعه أن مصاحبة الخاطب المخطوبة، والخلوة بها، والسفر معها، أمر لا بدَّ منه، لأنه يؤدي إلى تعرف كل واحد منهما على الآخر!!
ومن نظر في سيرة الغرب في هذه المسألة وجد أن سبيلهم لم يؤدِّ إلى التعارف والتآلف بين الخاطبين، فكثيرًا ما يهجر الخاطب خطيبته، بعد أن يفقدها شرفها، وقد يتركها، ويترك في رحمها جنينًا تشقى به وحدها، وقد ترميه من رحمها من غير رحمة.
وحتى الذين توصلهم الخطبة إلى الزواج كثيرًا ما يكتشف كل واحد من الزوجين أن تلك الخطبة الطويلة لم تكشف له الطرف الآخر ... " (1).
[4] لا يجوز للخاطب مصافحة المخطوبة ولا مسُّ شيء منها: وإن أمن الشهوة، لأنها أجنبية عنه، ولوجود الحُرْمة وانعدام الضرورة والبلوى:
1 - فعن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمسَّ امرأة لا تحلُّ له" (2).
ولذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافح النساء ولا يبايعهن إلا كلامًا.
2 - فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمرأة المبايعة: "قد بايعتك" كلامًا وقالت: "ولا والله، ما مسَّت يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتك على ذلك" (3).
وفي رواية أنه قال لهن: "إني لا أصافح النساء .. " (4).
[5] محادثة المخطوبة:
يجوز للخاطب -إن احتاج ذلك- أن يحادث المخطوبة في وجود المحرم، إما للتعرف على صوتها، أو ليقف على رأيها فيما له أثر في الحياة الزوجية المقبلة، ولها أن تحادثه بشرط الانضباط بالضوابط الشرعية، فيكون الكلام بقدر الحاجة،
_________
(1) «أحكام الزواج» د. عمر الأشقر (ص: 58) بتصرف يسير.
(2) حسن: أخرجه الطبراني في الكبير (20/ 211)، وانظر «الصحيحة» (226).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (2713).
(4) صحيح: أخرجه الترمذي (1597)، والنسائي (4181)، وابن ماجة (2874)، وأحمد (6/ 357).

(3/123)


من غير خضوع بالقول، أو لين وتميُّع، قال تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا} (1).
ومما يدل على جواز المحادثة بضوابطها قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب} (2).
وقوله تعالى في تكليم موسى عليه السلام للمرأتين بمدين: {وجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير * فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما
سقيت لنا} (3). وفي الباب عدة أحاديث منها حديث أنس في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: " .. فلما دفن قالت فاطمة -عليها السلام-: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! " (4).
وقد يحتاج في بعض الأحيان محادثتها عن طريق "الهاتف" فلا حرج كذلك على أن تُراعي الضوابط السابقة، وينبغي كذلك أن تكون هذه المحادثة بعلم أهل المخطوبة، وأن تكون بقدر الحاجة، "أما إذا كان الهاتف سيحدث بينهما جوًّا مشابهًا لجو الخلوة التي نُهيا عنها شرعًا وكانت ستتمكن هي وهو من الحديث الذي يجرهما إلى مُحرَّم فترك ذلك متعيِّن، والله أعلم" (5).
* دبلة الخِطبة: درج الناس في هذه الأيام على أن يقدم الخاطب لمخطوبته خاتم الخطبة "الدبلة" فيمسك يدها -وهو أجنبي عنها- ويلبسها "الدبلة" وتلبسه هي الأخرى "دبلة" -وقد تكون من الذهب كذلك!! - ويكون هذا في حفل صاخب يختلط فيه الرجال والنساء!! وفي هذا كله من المنكرات ما لا يخفى، فضلًا عن أنه ليس في الإسلام ما يدل على الخطبة بهذا الشكل بل هو تقليد أجنبي ابتدعه الفراعنة، وقيل: هو تقليد نصراني، وعلى كل حال فتبادل "دبلة" الخطوبة بين العروسين تقليد دخيل على المسلمين، ففعله تقليد أعمى وتشبُّه بالكفار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" (6) فيستوي في الحرمة أن تكون "دبلة" الخاطب من الذهب أو الفضة وإن كانت الذهبية أشد تحريمًا، والله أعلم.
_________
(1) سورة الأحزاب: 32.
(2) سورة الأحزاب: 53.
(3) سورة القصص: 23 - 25.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4462).
(5) من «جامع أحكام النساء» (4/ 366) باختصار وتصرف.
(6) حسن: أخرجه أبو داود (4031)، وأحمد (2/ 50) وغيرهما.

(3/124)


* العُدول والرجوع عن الخطبة:
1 - حكم العُدول عن الخِطبة (1):
الخطبة ليست عقدًا، ولكنها وعد بعقد، والوعد بالعقود غير مُلزم بعقدها عند جمهور أهل العلم، ولا يكره للولي الرجوع عن الإجابة إذا رأى المصلحة للمخطوبة في ذلك، ولا يُكره لها أيضًا الرجوع عن الإجابة إذا رأى المصلحة للمخطوبة في ذلك، ولا يُكره لها أيضًا الرجوع إذا كرهت الخاطب، لأن النكاح عقد عمري يدوم الضرر فيه، فكان لها الاحتياط لنفسها والنظر في حظها.
وإن رجعا لغير غرض كُره لما فيه من إخلاف الوعد والرجوع عن القول، ولم يحرم لأن الحق بعد لم يلزمها كمن سام سلعة ثم بدا له ألا يبيعها، ويكره كذلك أن يتركها الخاطب، إذا ركنت له المرأة وانقطع عنها الخُطَّاب لركونها إليه.
قلت: قال الله تعالى: {كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (2).
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف" (3).
وهذه النصوص وغيرها قوية في الدلالة على وجوب الوفاء وعدم جواز الإخلاف -لغير عذر- فكيف حملوها على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد؟!!
(أ) ما دفعه كجزء من المهر: فهذا له حالتان:
الأولى: أن يكون موجودًا بعينه، ومن ذلك ما يسمى بـ "الشبكة" وهي الحلي الذي يدفعه الخاطب إلى مخطوبته بعد الاتفاق عليه، وقد يُدفع إليها قبل العقد أو بعده حسب جريان العرف، فهذا ونحوه يحق للخاطب -عند العدول عن الخطبة- أن يستردَّه باتفاق أهل العلم لا فرق في هذا بين أن يكون العدول من جانبه أو جانبها أو بسبب خارج عن إرادتهما (4).
_________
(1) «المغني» (6/ 607)، و «مواهب الجليل» (3/ 411)، و «فتح الباري» (5/ 290).
(2) سورة الصف: 3.
(3) صحيح: أخرجه البخاري ومسلم.
(4) «ابن عابدين» (3/ 153).

(3/125)


الثانية: أن يكون قد اشترى به جهازًا لبيت الزوجية: فللفقهاء في حكم ردِّ قيمة الصداق أو ما اشترى به من جهاز قولان:
القول الأول: يجب ردُّ ما دفعه من صداق لأن الصداق معاوضة في مقابلة التمتع ولم تتم المعاوضة فوجب ردُّه بعينه إن كان قائمًا، وبقيمته إن هلك أو استهلك، وهذا مذهب الجمهور.
القول الثاني: لا يرجع عليها مما اشترى من جهاز إن كان أذن لها -بالشراء- أو علم أو جرى به عُرف، وإلا يرجع عليها بما دفعه من صداق، وهذا قول المالكية.
والذي يظهر لي: أنه إن كان العدول من جانب الخاطب وكان على علم بشراء الجهاز من المهر أو جرى بذلك العرف -فإنه يسترد الجهاز ولا تكلف المرأة ببيعه وردِّ ما دفعه لما فيه من الغُرْم.
وإن كان العدول من جانب المخطوبة، فإنها تُلزم بردِّ ما دفعه من الصداق وإن غَرِمتْ في بيع الجهاز.
(ب) ما دفعه على سبيل الهدية: فهذا لأهل العلم في حكم استرداده أربعة أقوال (1):
الأول: يجوز استردادها إذا كانت قائمة في ملك المُهدى إليه بعينها ولم يتصرف فيها بما يخرجها عن ملكه، فإن هلكت أو تغير حالها لم يمكن استردادها، وهذا مذهب الحنفية.
الثاني: لا يستردُّ شيئًا وإن كان المانع من جهتها إلا لشرط أو عرف، وبه قال بعض المالكية، والظاهر أن مبناه على أن الهدية في معنى الهبة، والهبة لا يجوز أن يعود الواهب فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه" (2).
ولما أهدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرسًا لرجل ليجاهد عليه فأضاعه، أراد عمر أن يشتريه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" (3).
_________
(1) «ابن عابدين» (2/ 364)، و «جواهر الإكليل» (1/ 176)، و «قليوبي وعميرة» (3/ 216)، و «حاشية الجمل» (4/ 129)، و «بداية المجتهد» (2)، و «الإنصاف» (8/ 296)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 10)، و «فقه الزواج» (64).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2622)، ومسلم.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (2623).

(3/126)


الثالث: تُسترد الهدايا أيًّا كان نوعها، فإن كانت قائمة بذاتها رُدَّ عينها وإن كانت هالكة فتردُّ قيمتها، وهو قول جمهور الشافعية والحنابلة، ومعناه -عندهم فيما يظهر- على أن هذه الهدايا ليست كالهبة، لأن من شرط الهبة -عندهم- أن تكون بغير عوض، والواهب في الخطبة إنما وهب بشرط بقاء العقد، فإذا زال مَلَك الرجوع كالهبة بشرط الثواب، فكأن ما قُبض بسبب النكاح حكمه حكم المهر.
الرابع: إن كان فسخ الخطبة من جانب الخاطب لم يحقَّ له استردادها، وإن كان من جانبها فله استردادها، لأن السبب الذي من أجله الإهداء لم يتم، وبهذا قال الرافعي من الشافعية وابن رشد من المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أعدل الأقوال في نظري، فإن إيجاب ردِّ الهدايا عند عدول الخاطب يجمع على المخطوبة ألم العدول وألم الاسترداد، وكذلك منع ردِّ الهدايا عند عدول المخطوبة يجمع على الخاطب ألم العدول والغُرم المالي.
قلت: ولو قُيِّد المردود بما كان باقيًا غير مستهلك لكان حسنًا، إذ لا ينبغي أن يطالب أحدهما الآخر بقيمة ما بذله له من المأكولات ونحوها مما هو مشاهد في كثير من الحالات التي يندى لها الجبين.
* حكم تعويض المتضرِّر من العدول عن الخِطبة (1):
يرى بعض المعاصرين أن العدول عن الخطبة يستوجب التعويض المادي -كما هو الحال عند الطوائف النصرانية!! - بينما لم يرتب الفقهاء -قديمًا- على اختلاف مذاهبهم أية آثار مادية تجاه أي طرف يقوم بالعدول عن الخطبة، وهذا هو الصحيح لأمور:
1 - أن القول بالتعويض يعمق المشكلة ويؤصِّلها، ولا يحلها، ثم إن الضرر الذي ينشأ عن الفسخ ناتج عن إعطاء الناس الخطبة فوق ما تستحقه، فالخطبة وعد، والوعد لا يجوز أن يبني عليه الناس من التصرفات ما يعود عليهم بالضرر، وما يفعله الناس من النفقات والمشتريات ونحو ذلك هو من الاستعجال في أمر كان لهم فيه سعة وأناةٌ.
_________
(1) «أحكام الزواج» د. عمر الأشقر (ص: 77 - 78) باختصار وتصرف وانظر المسألة بالتفصيل في «مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق» لأسامة عمر الأشقر (ص: 47 - 77).

(3/127)


2 - أن هذا سيفتح الباب لكلا الطرفين ليوقع الخسائر بالطرف الآخر بكل ما أوتي من قوة وفطنة، نتيجة لما يقع في النفس من المرارة والألم، وأعداد مثل هذه القضايا في المجتمع لا تكاد تنحصر مما سيرهق المحاكم.
3 - أن التعويض يخالف طبيعة الخطبة وحقيقتها من كونها وعدًا واتفاقًا أوَّليًّا ممهدًا للزواج.
4 - أن القول بالتعويض مخالف لإجماع الأمة.
5 - أن القول بالتعويض ليس عدلًا.
6 - أن الإلزام بالتعويض قد يلجئ إلى إتمام الزواج مع الكره له، وهذا أمر خطير.
* الفحص الطبي قبل الزواج (1):
ونعني به ما استجد في هذا العصر، الذي انحدر فيه مستوى الأمانة والصدق في الإخبار عن معايب النفس الجسدية والنفسية قبل الإقدام على الزواج، مع تقدم العلم واتخاذ الاحتياطات الطبية للتأكد من سلامة الزوجين، بحيث يقدم المقبلون على الزواج على عمل الفحوصات التي تعنى بمعرفة الأمراض الوراثية والمعدية والجنسية والعادات اليومية التي ستؤثر مستقبلًا على صحة الزوجين المؤهلين، أو على الأطفال عند الإنجاب.
* الرأي الطبي في هذا الفحص:
أبرز الرأي الطبي أن لمسألة "الفحص الطبي قبل الزواج" سلبيات وإيجابيات يمكن تلخيصها فيما يلي (2):
(أ) إيجابيات الفحص الطبي:
1 - تعتبر الفحوص الطبية قبل الزواج من الوسائل الوقائية الفعالة جدًّا في الحد من الأمراض الوراثية والمعدية الخطيرة.
2 - تشكِّل حماية للمجتمع من انتشار الأمراض والحد منها، والتقليل من نسب المعاقين في المجتمع وبالتالي من التأثير المالي والإنساني على المجتمع.
3 - محاولة ضمان إنجاب أطفال أصحاء سليمين عقليًّا وجسديًّا، وعدم انتقال الأمراض الوراثية التي يحملها الخاطبان أو أحدهما إليهم.
_________
(1) انظر «مستجدات فقهية» لأسامة الأشقر (ص: 83 - 100).
(2) من «السابق» (ص: 84 - 87) بتصرف واختصار.

(3/128)


4 - تحديد قابلية الزوجين المؤهلين للإنجاب من عدمه إلى حد ما، علمًا بأن وجود أسباب العقم في أحد الزوجين قد يكون من أهم أسباب التنازع والاختلاف بين الزوجين.
5 - التأكد من عدم وجود عيوب عضوية أو فيسيولوجية مرضية تقف أمام الهدف المشروع لكل من الزوجين من ممارسة العلاقة الجنسية السليمة منهما.
6 - التحقق من عدم وجود أمراض مزمنة مؤثرة على مواصلة الحياة بعد الزواج، مما له دور في إرباك استقرار الحياة الزوجية.
7 - ضمان عدم تضرر صحة كل من الخاطبين نتيجة معاشرة الآخر جنسيًا، وعدم تضرر المرأة أثناء الحمل وبعد الولادة نتيجة اقترانها بالزوج المأمول.
(ب) سلبيات الفحص الطبي:
1 - قد يؤدي هذا الفحص إلى الاحباط الاجتماعي، كما لو أثبتت الفحوصات أن هناك احتمالًا لإصابة المرأة بالعقم أو بسرطان الثدي واطلع على ذلك الآخرون، مما يسبب لها ضررًا نفسيًّا واجتماعيًّا، وفي هذا قضاء على مستقبلها، خاصة أن الأمور الطبية تخطئ وتصيب.
2 - يجعل هذا الفحص حياة بعض الناس قلقة ومكتئبة ويائسة إذا ما تم إخبار الشخص بأنه سيصاب بمرض عضال لا شفاء له.
3 - ثم تبقى نتائج التحليل احتمالية في العديد من الأمراض، وهي ليست دليلًا صادقًا لاكتشاف الأمراض المستقبلية.
4 - قد تحرم هذه الفحوصات البعض من فرصة الارتباط بزواج نتيجة فحوصات قد لا تكون أكيدة.
5 - ثم قلما يخلو إنسان من أمراض، خاصة إذا علمنا أن الأمراض الوراثية التي صنفت تبلغ أكثر من (3000 مرض وراثي).
6 - أن التسرُّع في إعطاء المشورة الصحية في الفحص يسبب من المشاكل بقدر ما يحلها.
7 - وقد يُساء للأشخاص المقدمين على الفحص، بإفشاء معلومات الفحص واستخدامها استخدامًا ضارًّا.
هذا هو ملخص "الرأي الطبي" في عملية "الفحص الطبي قبل الزواج"، فما هو موقف الشريعة من ذلك؟ وهل يجوز إلزام المقبلين على الزواج بإجرائه؟

(3/129)


* الرأي الشرعي في "الفحص الطبي قبل الزواج":
لا شك أنه لم تكن هناك حاجة لبحث هذه المسألة قديمًا، لما تميز به المسلمون الأولون من الأمانة في الإخبار عن العيوب من جهة، ولعدم وجود التقدم العلمي الذي يمكنهم من إجراء هذا الفحص من جهة أخرى وأما العلماء المعاصرون فلهم في هذه المسألة اتجاهان:
الاتجاه الأول: منع هذا الفحص، وأنه لا حاجة إليه، وممن رأى هذا العلَّامة ابن باز -نوَّر الله قبره- ومأخذه أنه ينافي إحسان الظن بالله، وأن هذا الفحص قد يعطي نتائج غير صحيحة (1).
الاتجاه الثاني: أنه جائز، ولا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وبهذا قال الأكثرون ورأوا أنه ليس فيه ما يتعارض مع الشرع، ولا ما يتعارض مع الثقة بالله، لأنه ضرب من الأخذ بالأسباب وقد قال عمر رضي الله عنه حين وقع الطاعون بالشام: "أفرُّ من قدر الله إلى قدر الله" (2).
قلت: لعلَّ هذا هو الأقرب مع بعض التحفُّظات. ويمكن الاستدلال على جوازه بما يأتي (3):
1 - أن حفظ النسل من الكليات الخمس التي تضافرت النصوص على الاهتمام بها والدعوة إلى رعايتها، وقد قال زكريا عليه السلام: {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} (4).
ودعا المؤمنون ربهم {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} (5).
فلا مانع من حرص الإنسان على أن يكون نسله صالحًا غير معيب ولا مشوَّه.
2 - حث النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار الزوج زوجته من عائلة نعرف بناتها بالإنجاب، فقال صلى الله عليه وسلم: "تزوَّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم" (6) مما يدل على أهمية عنصر الاختيار على أسس صحة النسل والولادة المستقبلية.
_________
(1) «جريدة المسلمون» 597 بتاريخ 12 يوليو 1996 (ص: 11) من «السابق» (ص: 92).
(2) صحيح: أخرجه البخاري.
(3) «مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق» (ص: 93 - 97) بانتفاء واختصار.
(4) سورة آل عمران: 38.
(5) سورة الفرقان: 74.
(6) صحيح: تقدم في أول الكتاب.

(3/130)


3 - عن عمر رضي الله عنه. قال: "أيما امرأة غُرَّ بها رجل، بها جنون أو جُذام أو برص، فلها المهر بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غرَّه" (1). وسيأتي في كتاب الفرق بين الزوجين" مشروعية التفريق بسبب العيوب في أحد الزوجين.
4 - الأدلة التي حثت على النظر إلى المخطوبة ومعرفة العيوب، كحديث أبي هريرة "أن رجلًا خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئًا" (2).
5 - الأدلة العامة في اجتناب المصابين بالأمراض المعدية كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا توردوا الممرض على المُصِحِّ" (3).
وقوله صلى الله عليه وسلم: " .. وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد" (4) وهذا لا يعلم إلا بالفحص.
6 - الأدلة العامة في النهي عن الضرر.
ومما تقدم يمكن القول بأن الفحص الطبي قبل الزواج لا يعارض الشريعة، بل هو موافق لمقاصدها، وعليه: فإذا رأى ولي الأمر إلزام الناس به -في حالة انتشار الأمراض- فإنه يجوز ذلك من باب السياسة الشرعية، وإن كان ليس لهذا الفحص تأثير في صحة العقد شرعًا.
* تحفُّظات:
1 - ينبغي أن لا يُجبر الناس على إجراء الفحوصات التي لا حاجة ماسة إليها، وإنما تضبط بالحاجة وبما يتعلق بالأمراض الضارة بمستقبل الزواج، من غير توسُّع يرهق كاهل الناس بتكاليفه، وحتى لا تكون هذه الفحوص أداة وذريعة لابتزاز الناس والإضرار بهم.
2 - لابد للأطباء القائمين على هذه الفحوصات من الحفاظ على أسرار الناس ومعايبهم لئلا تتخذ ذريعة للإفساد.
_________
(1) رجاله ثقات: أخرجه مالك (2/ 526)، وعبد الرزاق (10679)، والبيهقي (7/ 214).
(2) صحيح: أخرجه مسلم.
(3) صحيح: أخرجه البخاري.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5380)، وأحمد (2/ 443)، والبيهقي (7/ 218).

(3/131)


عقد الزواج
* رُكنا العقد:
عقد الزواج كغيره من العقود مبناه على إرادة العاقدين على الرضا بموضوع العقد، ولما كانت الإرادة والرضا من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها البشر، لزم أن يصدر عن كل واحد من العاقدين ما يدل على قبوله بالعقد، وموافقته عليه.
وتسمى الألفاظ التي يتم بها العقد وتكون دالة على رضا العاقدين بالمعقود عليه: الإيجاب والقبول، وهما ركنان للعقد باتفاق أهل العلم (1).
والإيجاب: لفظ يصدر من أحد المتعاقدين للتعبير عن إرادته في إقامة العلاقة الزوجية، وهو يوحي بأن العاقد ثبت في ذمته ما ألزم نفسه به بقوله.
والقبول: لفظ يصدر من المتعاقد الآخر للتعبير عن رضاه وموافقته بالمعقود عليه.
"والإيجاب والقبول اللذين ينعقد بهما النكاح يجب صدورهما ممن يصح منه عقد النكاح، وهما الخاطبان إذا كان كل واحد منهما أهلًا لعقد النكاح، كما يصح صدورهما من وكيل الزوج أو الزوجة، فالنكاح يقبل النيابة كغيره من العقود" (2).
* شروط انعقاد عقد الزواج:
أولًا: شروط في صيغة العقد:
1 - يشترط في صيغة "الإيجاب والقبول" أن تكون بألفاظ تدلُّ على النكاح كأنكحت وزوجت وملكت وبعت ووهبت ونحوها وذلك يتحقق بوجود عرف أو قرينة، ولا يشترط أن تكون الصيغة بلفظ "الإنكاح" أو "التزويج" لأن العبرة في العقود بالمقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وهذا أصحُّ قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وقول في مذهب أحمد واختيار شيخ الإسلام (3).
ويؤيده ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلًا امرأة فقال: "قد ملَّكتُكها بما معك من القرآن" (4) وأما الشافعية والحنابلة فلا يصح عندهم إلا بلفظ اشتق من التزويج
_________
(1) «المغني» (6/ 532).
(2) «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 80).
(3) «ابن عابدين» (2/ 268)، و «المواهب» (3/ 419)، و «مغني المحتاج» (3/ 140)، و «المغني» (6/ 532)، و «مجموع الفتاوى» (29/ 12).
(4) صحيح: أخرجه البخاري بهذا اللفظ.

(3/132)


أو الإنكاح لأنه لم يذكر في القرآن سواهما فوجب الوقوف معهما تعبدًا واحتياطًا، لأن النكاح ينزع إلى العبادات لورود الندب فيه، والأذكار في العبادات تُتلقى من الشرع.
* العقد بغير اللغة العربية:
إذا كان العاقدان أو أحدهما لا يفهم العربية، فإنه يجوز عقد الزواج بغير العربية اتفاقًا.
فإن كانا يفهمان العربية ويستطيعان العقد بها، فقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز العقد حينئذٍ بغير العربية.
والصحيح أنه يجوز، قال شيخ الإسلام: "تعيُّن اللفظ العربي في عقد النكاح في غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه، وعن أصول الأدلة الشرعية، إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم، وهو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة، ومعلوم أن العتق لا يتعيَّن له لفظ، لا عربي ولا عجمي، وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعيَّن لفظ عربي بالإجماع، ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهم من اللغة التي اعتادها.
نعم لو قيل: تُكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة -لكان متوجِّهًا، كما قد رُوي عن مالك أحمد والشافعي ما يدل على كراهية اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة" اهـ (1).
* لا ينعقد بالإشارة إلا لأخرس (2): ذهب الجمهور خلافًا للمالكية إلى أن القادر على النطق لا تعتبر إشارته في العقود، واتفقوا على أن إشارة الأخرس المعهودة والمفهومة معتبرة شرعًا فينعقد بها النكاح، واختلفوا: هل يشترط للعمل بالإشارة عدم القدرة على الكتابة؟ والصحيح أنه يشترط.
2 - يشترط في الصيغة أن تدلَّ على الدوام والتنجيز: فإن كانت دالة على التأقيت أو الاستقبال لم يصحَّ العقد، فقوله: (إذا جاء رأس الشهر فقد زوَّجتك) لأنه لا ينعقد به النكاح، وكذلك قوله:
(زوجتك ابنتي عندما تنجح في الامتحان) لأنه معلق على شرط غير متحقق -في الحال- فلم يصحَّ (3). فإن علقه على أمر متحقق فعلًا صحَّ العقد.
_________
(1) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (29/ 12).
(2) «الفواكه الدواني» (2/ 57)، و «مغني المحتاج» (2/ 17).
(3) انظر «الأشباه والنظائر» للسيوطي (ص: 282)، و «أحكام الزواج» (ص: 81).

(3/133)


3 - أن يوافق القبول الإيجاب من كل وجه، وعلى هذا اتفاق الفقهاء (1) فإن خالف القبولُ الإيجاب من وجه لم يصح النكاح، فإذا قال الولي: زوجتُك ابنتي فاطمة على مهر مقداره عشرة آلاف، فقال الخاطب: قبلتُ نكاح ابنتك عائشة على مهر مقداره خمسة آلاف، لم يصح النكاح.
4 - اتصال القبول بالإيجاب: ويحصل هذا الاتصال باتحاد مجلس العقد، بأن يقع الإيجاب والقبول معًا في مجلس واحد.
ولا يعني هذا أن يشترط حصول القبول فور صدور الإيجاب، فإن الفورية لا تشترط عند الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة، فلا يضرُّ التراخي ما دام القبول قد حصل في نفس المجلس (2).
فائدة:
وإنما اشترط الفقهاء -فيما مضى- اتحاد المجلس لعدم تصوُّر اتصال الإيجاب والقبول مع اختلاف الأمكنة وتباعد الديار، أما في عصرنا فقد تقدمت وسائل الاتصالات كالهاتف ونحوه، ولا مانع من إجراء العقود -مع اختلاف المجالس- إذا تحققت الفورية (أو: اتصال القبول بالإيجاب على النحو المتقدم) وتحقق كل واحد من العاقدين من هوية الآخر وأمن التزوير (3).
5 - أن لا يعود الموجب عن إيجابه قبل قبول الآخر:
ذهب الجمهور -خلافًا للمالكية- إلى أن الإيجاب غير ملزم، وللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الطرف الآخر، وحينئذٍ لا ينعقد العقد، فلابد أن يُصرَّ الموجب على ما أتى به من الإيجاب إلى قبول الآخر (4).
وكذلك لو مات أحد العاقدين بعد الإيجاب وقبل القبول لم ينعقد عند الجمهور (5).
_________
(1) «البدائع» (5/ 136)، و «مغني المحتاج» (2/ 6)، و «كشاف القناع» (3/ 146).
(2) «البدائع» (5/ 137)، و «مواهب الجليل» (4/ 241)، و «كشاف القناع» (3/ 147).
(3) «أحكام الزواج» (ص: 83) بتصرف يسير.
(4) «البدائع» (5/ 138)، و «مغني المحتاج» (2/ 6)، و «الشرح الكبير» (4/ 4 - مع المغني)، و «مواهب الجليل» (4/ 240).
(5) «ابن عابدين» (4/ 20)، و «مغني المحتاج» (2/ 6)، و «المغني» (4/ 9 - مع الشرح).

(3/134)


ثانيًا: شروط في العاقدَيْن (الولي والخاطب) (1):
1 - أهلية كلٍّ منهما لإجراء العقد: أي أن يكون بالغًا -على خلاف في الصبي المميز إذا أجازه وليه- رشيدًا عاقلًا.
2 - أن يكون لهما الحق في إنشاء العقد: بأن يعقد البالغ العاقل الرشيد لنفسه، أو يعقد له وكيله بتكليفه بالعقد له، وبتحقق الولاية، بحيث يعطيه الشرع حق إنشاء العقد، وأما الفضولي الذي يعقد لغيره بغير إذنه، فلا يصح عقده.
3 - رضاهما واختيارهما: فإن عقد العقد من غير رضاهما أو رضا أحدهما لم يصح.
4 - أن يسمع كل منهما كلام الآخر ويفهمه.
5 - أن يكون كل واحد من الزوجين معلومًا معروفًا، فلو قال الولي: (زوجتك واحدة من بناتي) ولم يحددها وله أكثر من بنت لم يصح العقد.
6 - أن لا يكون بين الزوجين سبب لتحريم الزواج، وقد تقدم بيان المحرمات.

شروط صحة عقد النكاح
وهي ما يتوقف عليها صحة عقد النكاح وترتب آثاره عليه، ويبطل العقد بتخلُّف أحدها، وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: إذنُ وَلِيِّ المرأة:
الولي هو: الذي يلي عقد النكاح على المرأة ولا يدعها تستبد بعقد دونه (2) وقد ذهب الجماهير من السلف والخلف، منهم: عمر وعلي وابن مسعود وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والثوري وأهل الظاهر (3)، إلى أن الولي شرط لصحة النكاح، فإذا زوَّجت المرأة نفسها، فنكاحها باطل، واستدلوا بما يلي:
1 - النصوص القرآنية التي جعلت أمر التزويج والإعضال إلى الرجال، ومنها:
(أ) قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم ...} (4). فخاطب الرجال بإنكاح الأيامى ولو كان أمر التزويج عائد إلى النساء لما وجَّه الخطاب للرجال.
_________
(1) «أحكام الزواج» للأشقر بتصرف (ص: 90).
(2) «لسان العرب» (3/ 985).
(3) «المدونة» (2/ 151)، و «بداية المجتهد» (2)، و «الأم» (5/ 166)، و «المغني» (6/ 448)، و «المحلي» (9/ 453)، و «الإنصاف» (8/ 660)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 19).
(4) سورة النور: 32.

(3/135)


(ب) وقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} (1). مع قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ...} (2).
(ج) قول الشيخ الكبير لموسى عليه السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} (3).
(د) قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} (4).
فنهى الأولياء عن عضل النساء عن العودة إلى أزواجهن، وفي هذا أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوَّج نفسها لم تحتج إلى أخيها (5).
(هـ) قوله تعالى: {فانكحوهن بإذن أهلهن} (6). فاشترط إذن ولي الأمة لصحة النكاح، فدلَّ على أنه لا يكفي عقدها لنفسها.
(و) قوله تعالى: {الرجال قوَّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} (7). والولاية من القوامة المنصوص عليها.
(ز) عن عائشة في قوله تعالى: {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} (8). قالت: "هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله -وهي أولى به- فيرغب عنها أن ينكحها، فيعضلها لمالها ولا يُنكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها" (9).
_________
(1) سورة البقرة: 221.
(2) سورة البقرة: 221.
(3) سورة القصص: 27.
(4) سورة البقرة: 232.
(5) سبب نزول الآية ما أخرجه البخاري (5130) وغيره من معقل بن يسار قال: «زوَّجت أختًا لي من رجل فطلَّقها حتى إذا أنقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية {فلا تعضلوهن} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوِّجها إياه».
(6) سورة النساء: 25.
(7) سورة النساء: 34.
(8) سورة النساء: 127.
(9) صحيح: أخرجه البخاري (5128).

(3/136)


(ح) وقالت عائشة -في وصف نكاح الجاهلية-: " ... فنكاح منها كنكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيُصدقها ثم ينكحها .. " (1).
2 - وأصرح من كل ما تقدم ما يلي:
(أ) حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بوَليٍّ" (2).
(ب) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذا مواليها فنكاحها باطل -ثلاثًا- ولها مهرها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له" (3) وهما صريحان في الشرطية.
(جـ) وقد ثبت هذا المعنى من قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس (4).
(د) وعن أبي هريرة قال: "لا تنكح المرأة نفسها، فإن الزانية تُنكح نفسها" (5).
وقد نقل الحافظ في "الفتح" (9/ 187 - المعرفة) عن ابن المنذر أنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.
* بينما ذهب أبو حنيفة إلى أن المرأة الحرة العاقلة البالغة لا يشترط لصحة العقد عليها وجود الولي، وإنما يشترط في إنكاح الصغيرة!! (6) وحجته في هذا ما يلي:
1 - قوله تعالى: {فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} (7).
2 - وقوله سبحانه: {حتى تنكح زوجًا غيره} (8).
قالوا: فأضاف النكاح إليهن فدلَّ على جواز النكاح بعبارتهن من غير شرط الولي.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5127).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجة (1879)، وأحمد (4/ 394) وغيرهم، وانظر «الإرواء» (6/ 243).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1101)، وابن ماجة (1879)، وأحمد (6/ 156).
(4) انظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (3/ 327 - 328).
(5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 200)، وابن أبي شيبة (4/ 135).
(6) «ابن عابدين» (3/ 55)، و «المبسوط» (5/ 10)، و «فتح القدير» (3/ 157)، و «البدائع» (2/ 248).
(7) سورة البقرة: 234.
(8) سورة البقرة: 230.

(3/137)


3 - قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} (1). قالوا: الاستدلال بها من وجهين.
(أ) أنه أضاف النكاح إليهن.
(ب) أن النهي عن العضل في الآية يحتمل أن يكون للأزواج، فنهتهم عن منع أزواجهم المطلقات -بعد قضاء عدتهن- من التزوُّج بمن شئن من الأزواج!!
قلت: وقد تقدم سبب نزول الآية وأنه يردُّ هذا التأويل.
4 - حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليِّها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صماتها" (2).
قلت: ولا يصفو لهم الاستدلال بهذا الحديث على عدم اشتراط الولي لأمرين:
(أ) "أن غاية ما يدل عليه أن للولي حقًا في تزويج الثيب، وللثيب حق في تزويج نفسها، وحقها أرجح من حقِّه، فلم يجز تزويجها بدون استئمارها، وموافقتها، أما البكر فحق الولي أعظم من حقها، ولذا اكتفى بصمتها" (3).
وهذا كله في حالة الإجبار فلا يجوز للولي أن يجبر الأيِّم على ما تكره.
(ب) أنه لو كان معنى الحديث ما أرادوا، للزم أفضلية الزواج بدون الولي، وهذا يخالف ما عليه الحنفية من استحباب وجود الولي.
فالصحيح الذي لا يجوز خلافه أن الولي شرط في صحة النكاح كما ذهب إليه الجماهير، والله أعلم.
* فوائد:
1 - أجاز أبو حنيفة -كما تقدم- للمرأة أن تزوِّج نفسها، لكنه جعل للولي حق فسخ العقد إذا تزوَّجت بغير كفءٍ!!
2 - لا تزوِّج المرأة غيرها: ولا ينعقد العقد بعبارتها، لأنه لم يصحَّ منها عقدها وتزويجها لنفسها، فلا يصحُّ تزويجها لغيرها من باب أولى، ويؤيد هذا ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكحت رجلًا من بني أخيها جارية من بني أخيها فضربت
_________
(1) سورة البقرة: 232.
(2) صحيح: أخرجه مسلم.
(3) «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 138).

(3/138)


بينهما بستر ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا النكاح، أمرت رجلًا فأنكح ثم قالت: "ليس إلى النساء نكاح" (1).
3 - ليس للوليِّ إجبار المرأة البالغة على الزواج:
(أ) إجبار الثيِّب:
"البالغ الثيِّب لا يجوز تزويجها بغير إذنها، لا للأب ولا لغيره، بإجماع المسلمين" (2).
ومما يدل على ذلك:
1 - حديث خنساء بنت خذام الأنصارية "أن أباها زوَّجها، وهي ثيِّب، فكرهت، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحها" (3).
2 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيِّم حتى تستأمر ولا تنكح حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" (4).
3 - حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للولي مع الثيِّب أمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها" (5).
* فائدتان:
الأولى: من زالت بكارتها بالزنا فهي كالثيب في الزواج: فلا يجوز لوليِّها أن يجبرها على النكاح، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة، ومذهب أبي حنيفة نفسه ومالك أنها كالبكر، وسيأتي حكم إجبارها.
وإن زالت بكارتها بغير الوطء (بوثبة أو بإصبع أو نحو ذلك) فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة (6).
_________
(1) صححه الحافظ: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 135)، والطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 10)، وصححه في «الفتح» (9/ 186).
(2) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (32/ 39)، و «فتح الباري» (9/ 194 - المعرفة).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5138)، وأبو داود (2101)، والنسائي (6/ 86)، وابن ماجة (1873).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2100) وغيره، وهو في مسلم بلفظ «الأيم أحق بنفسها ...» وقد تقدم.
(6) «مجموع الفتاوى» (32/ 29)، وانظر: «فتح القدير» (3/ 270)، و «روضة الطالبين» (7/ 54)، و «المغني» (6).

(3/139)


الثانية: إذا زوَّج الولي الثيب بغير إذنها ثم أجازت العقد: فالعقد صحيح لا يحتاج إلى استئنافه من جديد، عند أكثر العلماء منهم أبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد.
وعند الشافعية -وهو رواية عن أحمد-: لا يصح العقد السابق بغير إذنها، ولابد من استئنافه (1).
(ب) إجبار البكر البالغة:
اختلف العلماء في البكر البالغة العاقلة، هل لوليِّها إجبارها؟ على قولين، أصحهما أنه لا يجوز له إجبارها كالثيب، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ورواية عن أحمد، والأوزاعي والثوري وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، واختاره شيخ الإسلام (2) ودليلهم:
1 - حديث ابن عباس أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم" (3).
ونحوه من حديث جابر، وفيه: " ... ففرَّق بينهما" (4).
2 - قوله صلى الله عليه وسلم: " ... ولا تنكح البكر حتى تستأذن .. " (5) وما في معناه.
3 - ولأن تصرف الولي في بُضع وليته كتصرفه في مالها، فكما لا يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها -وبُضعها أعظم من مالها- فكيف يجوز أن يتصرف في بُضعها مع كراهتها ورشدها؟! (6).
4 - أن تزويجها مع كراهتها للنكاح مخالف للأصول والعقول، والله لم يُسوِّغ لوليها أن يُكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام ولا شراب ولا
_________
(1) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (32/ 29).
(2) «المغني» (16/ 491)، و «فتح الباري» (9/ 193)، و «المحلي» (9/ 458)، و «مجموع الفتاوى» (2/ 39).
(3) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (2099)، وابن ماجة (1875)، وله شواهد عند الدارقطني (3/ 233 - 236)، والبيهقي (7/ 117)، قال الحافظ (9/ 196): إن طرقه يقوي بعضها بعضًا. اهـ.
(4) يشهد له ما قبله: أخرجه النسائي في «الكبرى».
(5) صحيح: تقدم قريبًا.
(6) «مجموع الفتاوى» (32/ 39).

(3/140)


لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته وتكره معاشرته، والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له ونفورها عنه، فأي مودة ورحمة في ذلك؟! (1).
5 - "أن المرأة قد شُرع لها -إذا كرهت زوجها- الخلاصُ منه، فكيف يجوز تزويجها إياه ابتداء؟! " (2).
* فائدة: هذا إذا كان الولي هو الأب أو الجد، فإن كان الولي غيرهما كأخيها أو عمِّها فقد نقل شيخ الإسلام إجماع المسلمين على أن البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها (3).
(ج) إجبار الصغيرة:
اتفق العلماء -إلا من شذَّ (4) - على أن البكر الصغيرة التي لم تبلغ يجوز لأبيها أن يزوجها بدون إذنها، إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها.
واستدلوا بأن أبا بكر رضي الله عنه زوَّج عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة لم تبلغ، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: " .. ولا تنكح البكر حتى تستأذن" على أن المراد بالبكر التي أمر باستئذانها: البالغ.
ولأن الصغر سبب الحَجْر بالنص والإجماع، فكان هو مناط الإجبار (5).
لكن إذا كانت الصغيرة ممن تعقل الزواج وتدري عنه وتفهم، فالظاهر أنها تستأذن كذلك، لدخولها في عموم الأبكار مع حصول المصلحة باستئذانها، والله أعلم.
* فائدة: هل يجبر الصغيرة غير الأب؟
ذكر شيخ الإسلام أن "الشرع لا يمكِّن غير الأب والجد من إجبار الصغيرة باتفاق الأئمة" اهـ (6).
_________
(1) «السابق» (32/ 25).
(2) «أحكام الزواج» (ص: 146) بتصرف يسير.
(3) «مجموع الفتاوى» (32/ 24).
(4) «فتح الباري» (9/ 98 - سلفية)، و «المغني» (6/ 487)، و «بداية المجتهد» (2/ 27).
(5) «مجموع الفتاوى» (32/ 24).
(6) «مجموع الفتاوى» (32/ 57).

(3/141)


قلت: لعله أراد الأئمة الثلاثة، فقد قال أبو حنيفة -والأوزاعي- في الثيب الصغيرة: "يزوِّجها كل ولي، فإذا بلغت ثبت لها الخيار" (1).
ويُستدل للجمهور بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها" (2).
فاليتيمة: الصغيرة التي لم تحض، إذ لا يُتْم بعد احتلام، والتي مات أبوها.
4 - عَضْل الولي عن النكاح:
تقدم أنه لا يجوز للولي أن يجبر المرأة على الزواج بمن تكره، وكذلك لا يجوز له عضلها، أي: منعها من الزواج بمن ارتضته المرأة إذا كان كُفؤًا لها.
قال الله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} (3). وقد تقدم ذكر سبب نزولها.
"وإذا عضل الولي موليته فإن الولاية تنتقل عنه إلى غيره، وقد ذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه إلى أن الولاية تنتقل في حالة العضل إلى الحاكم، وذهب أبو حنيفة في المشهور عنه إلى أنها تنتقل إلى الأبعد بشرط أن يكون كُفؤًا، فإن امتنع الأولياء جميعًا عن تزويجها وعضلوها، فإن الولاية تنتقل إلى الحاكم قولًا واحدًا" اهـ (4).
قلت: الأقرب قول أبي حنيفة لما في حديث عائشة مرفوع: "فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له" (5).
5 - من هم الأولياء؟
أولياء المرأة الذين يحق له تزويجها هم العصبة، وهم أقاربها الذكور من جهة أبيها لا من جهة أمِّها، وهذا مذهب الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة فعنده: أقارب أمها من الأولياء.
وقد اختلف أهل العلم في أحق الأولياء وترتيبهم (6):
_________
(1) «فتح الباري» (9/ 98 - سلفية)، و «بداية المجتهد» (2/ 29).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2093)، والترمذي (1109)، والنسائي (6/ 85).
(3) سورة البقرة: 232.
(4) «مجموع الفتاوى» (32/ 37).
(5) صحيح: وقد تقدم قريبًا.
(6) «المحلي» (9/ 451)، و «البدائع» (2/ 251)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 525)، و «روضة الطالبين» (7/ 87)، و «الإنصاف» (8/ 87)، و «فتح الباري» (9/ 187).

(3/142)


فعند الحنفية: أحقهم: أبناء المرأة ثم أبناءهم، ثم الأب ثم الجد، ثم الإخوة ثم أبناء الإخوة، ثم الأعمام ثم أبناء الأعمام.
وعند المالكية: أحقهم: الأبناء ثم أبناؤهم، ثم الأب، ثم الإخوة ثم أبناؤهم، ثم الجد.
وعند الشافعية: الأب ثم الجد، ثم الإخوة ثم أبناؤهم، ثم الأعمام ثم أبناؤهم.
وعند الحنابلة: الأب ثم الجد، ثم الأبناء ثم أبناؤهم، ثم الإخوة ثم أبناؤهم، ثم الأعمام ثم أبناؤهم.
قلت: الضابط في الولي: القرابة والحرص على مصلحة المرأة ورعايتها، ولا ريب أنَّ "الأب أقرب الأولياء، وهو أكثرهم حنوًا وشفقة ورأفة، ويليه الجد فإنه كالأب في مزيد حنوه ورأفته على بنات ابنه، وقد يزيد على الأب في ذلك" (1).
وقد كان الأب هو الذي يعقد نكاح ابنته في زمن النبوة -إذا كان موجودًا- كما فعل أبو بكر وعمر في تزويجهما عائشة وحفصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان منه صلى الله عليه وسلم في تزويج بناته، وهكذا كان عمل سائر الصحابة، ثم إذا عدم الأب والجد تولى ذلك الأقرب فالأقرب إلى المرأة.
فأرجح الأقوال -في نظري- قول الشافعية -رحمهم الله- ثم الحنابلة -رحمهم الله- لما تقدم ولأن الابن قد يأنف من تزويج أمه بخلاف الأخ والعم، والله أعلم.
* فائدة: إذا اختلف الأولياء الذين في رتبة واحدة:
كأن تَنَازَعَ أخوان للمرأة على الرجل الذي يريد كل واحد منهما أن يزوِّجه، فإن وافقت المرأة على أيٍّ من الزوجين فالحكم لمن سبق بالتزويج منهما، لحديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة زوَّجها وليان، فهي للأول منهما" (2).
أما إذا رفضت المرأة أحدهما فنكاحه لا يصح: لأن رضاها شرط.
فإن تمادى التنازع بين الأولياء، فللمرأة أن ترفع أمرها إلى القضاء، وللقاضي حق التزويج حينئذٍ كما قال صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" (3).
_________
(1) «السيل الجرار» (2/ 21).
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (2088)، والترمذي (1110)، والنسائي (7/ 314).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(3/143)


* تزويج الولي الأبعد عند غيبة الأقرب أو عَضْلِه (1):
الأصل أنه لا يجوز إنكاح الولي الأبعد مع وجود الأقرب، فإن غاب الأقرب وكان في انتظاره تفويت لمصلحة المخطوبة، فإن الولاية تنتقل إلى الأبعد، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك.
وكذلك لو عضلها الولي الأقرب فمنعها من نكاح الكفء، فإن الولاية تنتقل إلى الأبعد في مذهب أبي حنيفة.
وإذا أذن الولي الأبعد وزوَّج المرأة، فليس من حق الولي الأقرب -بعد ذلك- الاعتراض على الزواج أو المطالبة بفسخه.
* هل يجوز للولي أن يوكِّل غيره، أو يوصيه بالتزويج؟
1 - يجوز للولي أن يوكِّل غيره في تزويج من يلي أمرها من النساء، ويثبت للوكيل -حينئذٍ- ما يثبت للولي.
2 - وأما وصيته بالتزويج بعد موته لغيره، فأصحُّ قولي العلماء أنه لا يجوز له ذلك، فلا تستفاد الولاية بالوصية "لأن المُوصي قد انقطعت ولايته بموته، مع كون الحنو والرأفة اللذين هما سبب جعل الولي وليّا معدومين فيهما" (2).
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد والثوري والنخعي وابن المنذر وابن حزم والشوكاني (3).
6 - ما يشترط في الولي (4):
(أ) الإسلام: إذ لا ولاية لكافرٍ على مسلمة، قال الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (5).
وقال سبحانه: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} (6).
_________
(1) «المغني» (9/ 385) ط. الكتاب العربي، و «بداية المجتهد» (2/ 37)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 31).
(2) «السيل الجرار» (2/ 21).
(3) «المحلي» (9/ 463)، و «المغني» (9/ 365)، و «بداية المجتهد» (2/ 36)، و «السيل الجرار» (2/ 21).
(4) «البدائع» (2/ 239)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 36) والمراجع السابقة.
(5) سورة التوبة: 71.
(6) سورة الأنفال: 73.

(3/144)


وقال عز وجل: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} (1).
وهذا قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه على هذا" اهـ.
(ب) الذكورة: وهي شرط بالإجماع.
(جـ) العقل: لأن من لا عقل له لا يستطيع أن يراعي مصلحة نفسه، فكيف يمكنه أن يراعي مصلحة غيره.
(د) البلوغ: وهو شرط عند أكثر أهل العلم.
(هـ) الحرية: شرط عند أكثر أهل العلم، لأن العبد لا ولاية له على نفسه فعدم ولايته على غيره أولى.
وقد اشترط الشافعي -وهو رواية عن أحمد- العدالة في الولي، قال: لأنه لا يؤمَن مع عدم العدالة أن لا يختار لها الكفء.
وقال الجمهور: لا تشترط العدالة، لأن الحالة التي يختار فيها الولي الكفء لموليته غير حالة العدالة، وهي خوف لحوق العار بهم، وهذه هي موجودة بالطبع.
ثم إن هذه ولاية نظر، والفسق لا يقدح في القدرة على تحصيل النظر، ولا في الداعي إليه وهو الشفقة، وكذا لا يقدح في الوراثة فلا يقدح في الولاية على غيره كالعدل.
* هل للولي أن يزوِّج نفسه من مُوليته؟ (2)
* ذهب الجمهور، منهم: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والليث وابن حزم وغيرهم إلى أن من وَلِيَ أمر امرأة -ولم يكن من محارمها- يجوز له أن يزوِّجها من نفسه إذا رضيت به، ولا يحتاج إلى غيره ليزوجه، ويُستدل لهم بما يأتي:
1 - قول الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ...} (3).
فمن أنكح أيِّمة نفسه برضاها فقد فعل ما أمره الله به، ولم يمنع الله عز وجل من أن يكون المُنكح لأيمة هو الناكح لها.
2 - حديث أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها" (4).
_________
(1) سورة النساء: 141.
(2) «المحلي» (9/ 473)، و «بداية المجتهد» (2/ 40)، و «فتح الباري» (9/ 94 - سلفية).
(3) سورة النور: 32.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4200)، ومسلم (1365).

(3/145)


فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّج مولاته من نفسه، وهو الحجة على من سواه!!
3 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ...} (1): "هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها، ويكره أن يزوِّجها غيره فيدخل عليه في ماله، فيحبسها، فنهاهم الله عن ذلك" (2).
فقولها "فرغب عنها أن يتزوجها" أعم من أن يتولى ذلك بنفسه أو يأمر غيره فيزوِّجه.
4 - عن سعيد بن خالد أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين ذلك إليَّ؟ قالت: نعم، قال: قد تزوجتك (3).
* وذهب الشافعي وداود إلى أنه لا يجوز أن يزوِّج نفسه من موليته، بل يزوِّجه غيره، ووجه ذلك:
1 - أن الأصل عند الشافعي في أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم أنها على الخصوص حتى يدل الدليل على العموم، لكثرة خصوصياته صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، فلا يتم -على أصله- الاستدلال بحديث صفية.
2 - لا يجوز أن يكون الناكح هو المنكح قياسًا على الحاكم والشاهد!!
قلت: والقول بالجواز أظهر لعدم الدليل على المنع، وأما زواج صفية، فعلى فرض أن أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص -وهذا مُسلَّم- فأحاديث الترغيب في الزواج بالأمة بعد تأديبها وإعتاقها مقتضية لعموم الحكم.
وأما دعوى عدم جواز أن يكون الناكح هو المنكح، فقال ابن حزم: "ففي هذا نازعناهم، بل جائز أن يكون الناكح هو المنكح، فدعوى كدعوى!!، وأما قولهم: كما لا يجوز أن يبيع من نفسه، فهي جملة لا تصح كما ذكروا، بل جائز إن وكل ببيع شيء أن يبتاعه لنفسه إن لم يُحابها بشيء ... " اهـ.
_________
(1) سورة النساء: 127.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5131) وغيره وقد تقدم.
(3) علَّقه البخاري بصيغة الجزم (9/ 94 - سلفية) ووصله ابن سعد في «الطبقات» (8/ 472) بسند لا بأس به إلى أم حكيم، وليس لها رواية عن النبي ق وإنما عن أزواجه ولم يزد ابن سعد في التعريف بها على ما في الخبر وذكرها في أزواج عبد الرحمن بن عوف.

(3/146)


قلت: وأما القياس على الحاكم والشاهد فقياس مع الفارق ...
الشرط الثاني: رضا المرأة قبل الزواج:
وقد تقدم فيما مضى أنه ليس للولي أن يجبر المرأة على الزواج بمن تكره -علي تفصيل ذكرناه- فإن أكرهها ولم تكن راضية، فلها أن ترفع أمرها إلى القاضي، وله أن يفسخ العقد.
الشرط الثالث: الصَّداق (المهر) إمَّا مفروضًا أو مسكوتًا عنه:
فلو اتفق الزوجان على إسقاط المهر، فهو نكاح فاسد، فالمهر لابد منه في النكاح إما مسمَّى مفروضًا أو مسكوتًا عن فرضه، وفي هذه الحالة يكون للمرأة مهر مثلها وجوبًا.
واشتراط المهر في النكاح هو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام (1). ووجه ذلك ما يلي:
1 - قوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} (2). ومعنى نحلة: وجوبًا وحتمًا، في قول أكثر المفسِّرين (3).
2 - قوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ...} (4).
3 - قوله سبحانه: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ...} (5).
فعلَّق إباحة النكاح بإتيانهن المهور، وهو يفيد الشرطية.
4 - قوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} (6).
فجعل الزواج بلا مهر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وليس لأحد غيره.
_________
(1) «القوانين» (174)، و «الخرشي» (3/ 172)، و «بداية المجتهد» (2/ 43)، ونقل هناك الاتفاق على أنه شرط!! ولعله أراد المالكية، و «الإنصاف» (8/ 165)، و «مجموع الفتاوى» (29/ 344).
(2) سورة النساء: 4.
(3) انظر «القرطبي»، و «ابن كثير» (سورة النساء: 40).
(4) سورة النساء: 24.
(5) سورة الممتحنة: 10.
(6) سورة الأحزاب: 50.

(3/147)


5 - حديث ابن عباس أن عليًّا قال: تزوَّجتُ فاطمة رضي الله عنها فقلت: يا رسول الله، ابْنِ بي، قال: "أعطها شيئًا" قلت: ما عندي من شيء، قال: "فأين درعك الحطمية؟ ". قلت: هي عندي، قال: "فأعطها إياه" (1).
6 - حديث سهل بن سعد -في قصة الواهبة- وفيه: فقام رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ ". فقال: ما عندي .. فقال صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتمًا من حديد" ... [ثم قال في آخره]: "زوجتكها بما معك من القرآن" (2).
7 - ما روي عن عائشة قالت: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أُدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئًا" (3).
فهذه النصوص تفيد ظواهرها أن تسمية المهر وقبضه شرط في صحة النكاح، لكن لما قال الله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} (4). دلَّ ذلك على صحة النكاح بدون تسمية المهر وقبل قبضه -وهذا مجمع عليه (5) - وبقي اشتراط المهر -وإن لم يُفرض- على الأصل.
* وذهب الجمهور: أبو حنيفة والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن اشتراط نفي المهر لا يُبطل النكاح، ويجب للمرأة حينئذٍ مهر المثل!! (6).
قلت: ولعلَّ وجه هذا عندهم أنه يصح العقد بلا تقدير للمهر، فيصح مع نفي المهر!!
لكن الأظهر القول الأول، قال شيخ الإسلام (29/ 344): "من قال: المهر ليس بمقصود، فإنه قول لا حقيقة له، فإنه ركن في النكاح، وإذا شُرط فيه كان
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3125)، والنسائي (6/ 129).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5149)، ومسلم (1425).
(3) فيه ضعف: أخرجه أبو داود (2128) من طريق خيثمة بن عبد الرحمن عن عائشة وفي سماعه منها نظر.
(4) سورة البقرة: 236.
(5) نقله شيخ الإسلام (29/ 352)، وابن قدامة في «المغني» (6/ 680).
(6) «فتح القدير» (3/ 324)، و «مغني المحتاج» (3/ 229)، و «الإنصاف» (8/ 165)، و «كشاف القناع» (5/ 144).

(3/148)


أوكد من شرط الثمن لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج" (1).
والأموال تُباح بالبدل، والفروج لا تُستباح إلا بالمهور، وإنما ينعقد النكاح بدون فرضه وتقديره -لا مع نفيه- والنكاح المطلق ينصرف إلى مهر المثل .... فلابد من مهر مسمى مفروض أو مسكوت عن فرضه" اهـ.
قلت: وسيأتي مزيد بيان لبعض المسائل المتعلقة بالصداق قريبًا، إن شاء الله.
الشرط الرابع: الإشهاد أو الإعلان:
وبهذا الشرط يتميَّز النكاح من السفاح، وقد اختلف أهل العلم فيما يشترط في صحة النكاح: الإشهاد أم الإعلان؟ أم كلاهما؟ أم أحدهما؟ أم لا شيء منهما؟ فهذه خمسة أقوال (2):
الأول: الإشهاد شرط، والإعلان مستحب: وهذا مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك -والمعتمد عند المتأخرين- والشافعي ورواية عن أحمد، وبه قال النخعي والثوري والأوزاعي.
1 - واحتجوا بزيادة وردت في حديث: "لا نكاح إلا بولي [وشاهدي عدل] " لكن زيادة "وشاهدي عدل" ضعيفة من كل الطرق لكن صححها بعض العلماء (3).
لكن قال الشافعي -رحمه الله- (4): "وهذا وإن كان منقطعًا دون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أكثر أهل العلم يقول به، ويقول: الفرق بين النكاح والسفاح الشهود" اهـ.
وقال الترمذي عقب الحديث: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: لا نكاح إلا بشهود، لم يختلف في ذلك من مضى منهم، إلا قومًا من المتأخرين من أهل العلم ... " اهـ المقصود.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5151)، ومسلم (1418).
(2) «فتح القدير» (3/ 199)، و «البدائع» (3/ 376)، و «ابن عابدين» (3/ 8)، و «بداية المجتهد» (2/ 42)، و «الدسوقي» (2/ 216)، و «روضة الطالبين» (7/ 45)، و «نهاية المحتاج» (6/ 217)، و «المغني» (7/ 239)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 127)، و «الاستذكار» (16/ 214)، و «المحلي» (9/ 465).
(3) انظر هذه الطرق ووجه ضعفها في «جامع أحكام النساء» (3/ 322)، وقد صححها العلامة الألباني في «الإرواء» (6/ 258) فليراجع.
(4) «الأم» (2/ 168).

(3/149)


2 - وبما يُروى عن عائشة مرفوعًا: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح: خاطب، وولي، وشاهدان" (1) وهو منكر لا يحتج به.
3 - ما يُروى عن ابن عباس مرفوعًا: "البغايا: اللاتي يزوِّجن أنفسهن بغير بيِّنة" (2).
4 - قول ابن عباس: "لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد" (3).
قلت: فرأوا أن هذه الأحاديث يقوِّي بعضها بعضًا، وأن النفي في قوله: "لا نكاح" يتوجَّه إلى الصحة، وذلك يستلزم أن يكون الإشهاد شرطًا.
الثاني: الإعلان شرط، والإشهاد مستحب: وهذا هو الصحيح عن مالك ورواية عن أحمد وبعض الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قالوا: فلو زوَّجها الولي ولم يكن بحضرة شهود، ثم أُعلن النكاح وشاع بين الناس فقد صحَّ النكاح وحصل المقصود:
1 - لأن المأمور به هو الإعلان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا النكاح" (4). والمقصود من النكاح: الإظهار والإعلان ليتميز من السر الذي هو الزنا، وهذا أعمُّ من الإشهاد فإذا تحقق الإعلان فليس ثم حاجة إلى الإشهاد، فإن تعذَّر الإعلان -على هذا النحو الواسع- كان الإشهاد واجبًا لأنه القدر الممكن من الإعلان.
2 - ولأن المسلمين ما زالوا يزوِّجون النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالإشهاد، وليس في اشتراط الشهادة في النكاح حديث ثابت، ولا في الصحاح، ولا في السنن ولا في المسانيد.
3 - من الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائمًا له شروط لم يبيِّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما تعم به البلوى، فجميع المسلمين يحتاجون إلى معرفة هذا، وإذا كان شرطًا كان ذكره أولى من ذكر المهر وغيره، مما لم يكن له ذكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 - أن الشهود قد يموتون، أو تتغير أحوالهم، وهم يقولون: مقصود الشهادة
_________
(1) منكر: أخرجه الدارقطني (3/ 224) وفي سنده مجهول.
(2) أخرجه الترمذي.
(3) صححه الألباني موقوفًا. وانظر «الإرواء» (6/ 235، 251).
(4) صححه الألباني بهذا اللفظ: وأخرجه الترمذي بسياق أطول وهو في «الضعيفة» (978) وعلى كل فاللفظ المذكور كذلك يحتاج تصحيحه إلى شيء من النظر فليحرر.

(3/150)


إثبات الفراش عند التجاحد، حفظًا لنسب الولد، فيقال: هذا حاصل بإعلان النكاح، ولا يحصل بالإشهاد مع الكتمان مطلقًا.
5 - واستُدل لهم بإعتاق النبي صلى الله عليه وسلم صفية وزواجه بها بغير شهود، فعن أنس قال: "اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم جارية بسبعة أرؤس، فقال الناس: ما ندري أتزوَّجها رسول الله
صلى الله عليه وسلم أم جعلها أم ولد؟ فلما أراد أن يركب حجبها، فعلموا أنه تزوجها" (1) وأجاب الأولون:
بأن زواجه صلى الله عليه وسلم من غير شهود خصوصية له، فقد أباح الله له الزواج من الواهبة بغير مهر، فلأن يتزوج بغير شهود أصح من باب أولى.
6 - أن البيوع التي أمر الله فيها بالإشهاد قد قامت الأدلة على أنه ليس من فرائض البيع، فالنكاح الذي لم يذكر الله فيه الإشهاد أحرى أن لا يكون الإشهاد فيه من شروطه.
الثالث: يُشترط الإعلان والإشهاد: وهو الرواية الثالثة عن أحمد.
الرابع: يُشترط أحدهما: وهو الرواية الرابعة عن أحمد وبه قال ابن حزم.
الخامس: لا يشترط الإعلان ولا الإشهاد: وهو قول شاذ منقول عن ابن أبي ليلى وأبي ثور وغيرهما.
قلت: خلاصة ما تقدم أن يقال:
1 - اتفق أهل العلم على بطلان النكاح الذي يتم بغير شهود ولا إعلان (2).
2 - واتفقوا على صحة النكاح الذي يشهد عليه رجلان فصاعدًا، ويتم الإعلان عنه (3).
3 - اختلفوا في صحة النكاح الذي شهد عليه الشهود ولم يُعلن للناس، وفي الذي أعلن عنه ولم يحضره الشهود، على النحو المتقدم، والأقرب: أن الشرط هو الإعلان إن لم يحضر الشهود، لكن الإشهاد أحوط لما فيه من الحفاظ على حقوق الزوجة والولد، لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه، لاسيما وأن هذه الشهادة تدوَّن في "قسيمة الزواج" ولا تُسجل وتوثَّق -رسميًّا- في هذه الأيام -إلا إذا أُشهد على العقد، ولا يخفى أهمية هذا التوثيق في هذا الزمان الذي خربت فيه الذمم وضعف فيه الإيمان في النفوس.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1365).
(2)، (2) انظر «مجموع الفتاوى» (32/ 130)، (33/ 158).
(3) «البدائع» (2/ 253)، و «الحاوي» (11/ 86)، و «المغني» (9/ 349)، و «المحلي» (9/ 465)، وانظر «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 170 - 173).

(3/151)


* فائدتان:
الأولى: إذا تواطأ الزوجان والولي والشاهدان على كتمان الزواج، فهل يصحُّ؟
هذه المسألة هي ثمرة الخلاف في المسألة السابقة، فمن رأى الشرط الشهود، صحَّح الزواج، ومن رأى الشرط: الإعلان، قال: الزواج باطل لفقد شرطه.
الثانية: ما يُشترط في الشهود (عند القائلين به) (1):
1، 2 - العقل والبلوغ، وهذا متفق عليه، فلا ينعقد النكاح بفاقدهما لأنه فاقد الأهلية.
3 - الإسلام، ولا خلاف في اشتراطه في الشاهد إذا كان الزوجان مسلمين، أما إذا كانت الزوجة ذمية، فأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف شهادة الذمي، ومنعها الآخرون.
4 - الذكورة: فاشترط الشافعية والحنابلة أن يكون الشاهدان ذكرين ومنعوا شهادة النساء في النكاح، وأجاز الحنفية شهادة رجل وامرأتين، وكذا قال ابن حزم وزاد أنه يجوز شهادة أربع نسوة.
5 - العدالة: وهي شرط عند الشافعية والحنابلة، والظاهر أن المراد بالعدالة هنا: أن يكون مستور الحال لم يظهر منه فسق، وأما الحنفية فصححوا العقد بشهادة الفاسقين!!
6 - أن يكونا سامعين للإيجاب والقبول فاهمين المقصود بهما.

الاشتراط في عقد النكاح
ومرادنا هنا اشتراط أحد العاقدين على الآخر شروطًا مقترنة بالعقد، أو سابقة عليه مرتبطة به.
ويمكن تقسيم الشروط المتصوَّرة في عقد النكاح إلى ثلاثة أقسام:
[1] شروط موافقة لمقصود العقد، ومقصد الشرع:
كاشتراط الزوجة: العشرة بالمعروف، والإنفاق والكسوة والسكنى، وأن يعدل بينها وبين ضرائرها، أو أن يشترط الزوج عليها: أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها، وألا تتصرف بماله إلا برضاه، ونحو ذلك.
_________
(1)

(3/152)


* حكمها: فهذه الشروط، اتفق أهل العلم على صحتها وعلى وجوب الوفاء بها (1).
[2] شروط منافية لمقصود العقد، أو منافية لحكم الله وشرعه (الشروط الفاسدة):
كأن تشترط المرأة على زوجها أن لا تطيعه، أو أن تخرج من غير إذنه، أو أن لا يقسم لضرائرها ولا ينفق عليهن، أو أن يشترط الزوج أن لا مهر لها ونحو ذلك فهذه شروط مخالفة لما نصَّ عليه الشارع.
وكأن تشترط عليه أن لا يجامعها ونحو ذلك مما ينافي المقصود من النكاح.
* حكمها: ومثل هذه الشروط، اتفق أهل العلم -كذلك- على عدم صحتها لتضمنها الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر الله به، أو تحليل ما حرَّمه، أو تحريم ما حلله، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله
عليه وسلم: "ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ... " (2).
* لكن .. ما حكم العقد الذي يُشترط فيه هذه الشروط الفاسدة؟
بعد الاتفاق على أن الشروط الفاسدة لا تصح وأنه لا يُوفى بها، اختلف أهل العلم في حكم العقد الذي اشتُرطت فيه هذه الشروط على ثلاثة أقوال (3):
الأول: لا يَبْطُل العقد بالشروط الفاسدة إلا شرط التأقيت: وهذا مذهب الحنفية، فإن الأنكحة المنهي عنها كالشغار والتحليل تصحُّ إذا أبطلت منها الشروط الفاسدة، إلا نكاح المتعة لأنه اشترط فيه التأقيت فلا يصح.
الثاني: من هذه العقود ما يبطل بالشرط الفاسد ومنها ما لا يبطل: وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وضابط الشرط الذي يُبطل العقد عندهم: أن يكون مخلًّا بمقصود النكاح، كاشتراط طلاقها أو عدم وطئها أو تأقيت زواجها ونحوه.
_________
(1) «فتح الباري» (9/ 218 - المعرفة)، و «روضة الطالبين» (7/ 264)، و «مغني المحتاج» (3/ 226).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2168)، ومسلم (1504) عن عائشة.
(3) «البدائع» (2/ 285)، و «روضة الطالبين» (7/ 265)، و «المغني» (7/ 451)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 159 - 162)، و «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 182 - 184).

(3/153)


وضابط الشرط الذي لا يبطل العقد -عندهم-: أن لا يكون مخلًّا بمقصود النكاح، كأن تشترط خروجها متى شاءت أو طلاق ضرتها ونحو ذلك مما هو منهي عنه.
قالوا: وكون العقد صحيحًا مع بطلان هذه الشروط "لأن هذه الشروط تعود إلى معنى زائد في العقد، لا يُشترط ذكره، ولا يضر الجهل به، فلم يبطل، كما لو شرط في العقد صداقًا محرمًا، ولأن النكاح يصح مع الجهل بالعوض، فجاز أن ينعقد على الشروط الفاسدة كالعتاق" (1).
الثالث: يبطل العقد الذي فيه شرط فاسد: وهو مذهب جماعة من أهل العلم واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وحجته ما يلي:
1 - يكفي في إبطاله النهي الوارد في هذه الشروط فإنه يقتضي الفساد، كنكاح الشغار والتحليل والمتعة.
2 - أبطل الصحابة هذه العقود، ففرقوا بين الزوجين في نكاح الشغار، وجعلوا نكاح التحليل سفاحًا، وتوعَّدوا المحلِّل بالرجم، (وقد تقدم هذا).
3 - أن تصحيح هذه العقود مع إبطال الشروط الفاسدة يؤدي إلى الإلزام بالعقود من غير رضا العاقدين أو أحدهما: لأن تصحيح العقد إما أن يكون مع الشرط المحرَّم الفاسد أو مع إبطاله:
(أ) فإذا صححناه مع وجود الشرط المحرم كان هذا خلاف النص والإجماع.
(ب) وإذا صححناه مع إبطال الشرط فيكون ذلك إلزامًا للعاقد بعقد لم يرض به، ولا ألزمه الله به، والعقود لا تلزم إلا بإلزام الشارع أو إلزام العاقد، فإذا كان الشارع لا يلزمه بعقد النكاح مع الشرط الفاسد، ولا هو قَبِل أن يلتزمه مع خُلُوِّه من الشرط، فيكون إلزامه بذلك إلزامًا بما لم يلزمه الله به ورسوله، وهذا لا يجوز.
قلت: وهذا المذهب الأخير قوي ومتجه، إلا أنه يُعكِّر عليه -في نظري- حديث عائشة الذي هو العمدة في هذا الباب، فإن عائشة رضي الله عنها لما أرادت أن تشتري أمةً (اسمها بريرة) لتعتقها، أبى أهلها أن يبيعوها إلا على شرط أن يكون ولاؤها لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: "اشتريها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق" ثم
_________
(1) «المغني» (7/ 451).

(3/154)


قام فخطب: "ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ... " الحديث وقد تقدم (1).
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بإمضاء العقد -على ما فيه من شرط فاسد- مع إبطال هذا الشرط، وعليه فيتألَّق القول الثاني في المسألة والله أعلم.
[3] شروط لم يأمر الشارع بها ولم ينه عنها، وفي اشتراطها مصلحة لأحد الزوجين:
كأن تشترط عليه أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يسافر بها، أو لا يتزوَّج عليها، أو أن تستمر في دراستها أو عملها [المشروع] ونحو ذلك.
* حكمها:
اختلف أهل العلم في صحة مثل هذه الشروط في عقد النكاح على قولين (2):
الأول: هذه الشروط لا تحل وهي باطلة، والعقد صحيح: وهذا مذهب الجمهور: منهم أبو حنيفة ومالك [إلا ما كان فيه عتق أو طلاق فتلزمه عنده] والشافعي والليث والثوري وابن المنذر والظاهرية وحجتهم:
1 - أن الأصل في العقود والشروط -عندهم- الحظر، إلا ما أباحه الشرع.
2 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، شرط الله أحق وأوثق" (3).
قالوا: معنى (في كتاب الله) أي في حكم الله ورسوله أو فيما دلَّ عليه الكتاب والسنة، فلا يكون شرطًا إلا ما جاء في القرآن أو السنة نصٌ بإباحته.
3 - قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا" (4).
قالوا: وهذه الشروط تخالف مقتضى العقد، لأن العقود توجب مقتضياتها
_________
(1)، (2) صحيح: تقدم قريبًا.
(2) «فتح القدير» (2/ 459)، و «الاستذكار» (16/ 149)، و «الأم» (5/ 65)، و «المغني» (7/ 93)، و «الإنصاف» (8/ 155)، و «المحلي» (8/ 375)، و «اختلاف العلماء» للمروزي (ص: 177)، و «مجموع الفتاوى» (29/ 128 - 148 - 160)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا (3/ 362)، و «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 184 - 194).
(3) أخرجه الترمذي، والبيهقي (2498).
(4) سورة المائدة: 1.

(3/155)


بالشرع، فيعتبر تغييرها تغييرًا لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادة، فصار زواجه بالثانية والسفر ونحو ذلك -مما هو حلال- حرامًا بمقتضى العقد، فكأن في الشرط تعدِّيًا على حدود الله وزيادة في الدين.
القول الثاني: يصح الشرط، ولا يلزم الوفاء به، ولها فسخ العقد إذا أخلَّ بالشرط:
وهذا مذهب الإمام أحمد والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وهو مروي عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وهو اختيار شيخ الإسلام، وحجتهم ما يلي:
1 - أن التحقيق: أن الأصل في العقود والشروط الإباحة لأنها من باب الأفعال العادية.
2 - عموم النصوص الآمر بالوفاء بالعهود والشروط والعقود، ومنها:
(أ) قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (1).
(ب) وقوله سبحانه: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولًا} (2).
(جـ) قوله تعالى: {والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون} (3).
(د) قوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث ... ، وإذا وعد أخلف" (4).
فإذا كان الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به عُلم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به (5).
3 - أن قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" (6) الصحيح أن معناه: جاء في كتاب الله نفيه أوتحريمه وإبطاله فهو باطل، وإن لم يوجد ما يدل على تحريمه كان صحيحًا.
_________
(1) سورة الإسراء: 34.
(2) سورة المؤمنون: 8.
(3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (59).
(4) «مجموع الفتاوى» (29/ 146) وانظر في البخاري باب «ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة».
(5)
(6) صحيح: تقدم قريبًا.

(3/156)


أو أن المراد بكونه في كتاب الله: أن الشارع أباحه، فإن كان المشروط فعلًا أو حكمًا مباحًا (يجوز فعله وتركه) جاز اشتراطه، ووجب الوفاء به، وإن لم يبحه الله لم يجز اشتراطه.
4 - حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحق الشروط أن توفوا بها: ما استحللتم به الفروج" (1) فدلَّ على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منها في غيره من العقود، لأن أمره أحوط وبابه أضيق (2).
5 - حديث المسور بن مخرمة قال: إن عليًّا خطب بنت أبى جهل، فسَمعتْ بذلك فاطمة، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا عليٌّ ناكح بنت أبى جهل، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعتُه حين تشهد يقول: "أما بعد، أنكحتُ أبا العاص ابن الربيع فحدثنى وصَدَقنى، وإن فاطمة بضعة منى، وإنى أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبنت عدو الله عند رجل واحد". فترك عليٌّ الخطبة (3).
قال الحافظ (7/ 86): لعلَّه كان شرط على نفسه أن لا يتزوج [يعني: أبا العاص] على زينب وكذلك عليٌّ، فإن لم يكن كذلك فهو محمول على أن عليًّا نسي ذلك الشرط فلذلك أقدم على الخطبة، أو لم يقع عليه شرط إذ لم يُصرح بالشرِّط، لكن كان ينبغي له ان يراعي هذا القدر فلذلك وقعت المعاتبة. اهـ.
6 - عن عبد الرحمن بن غنم قال: كنت جالسًا عند عمر بن الخطاب حيث تمس ركبتي ركبته، فقال رجل لأمير المؤمنين: تزوَّجتُ هذه، وشرطَتْ لها دارها، وإني أجمع لأمري -أو: لشأني- أن ينتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: "لها شرطها" فقال رجل: هلكتْ الرجال إذًا، لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت!
فقال عمر: "المسلمون على شرطهم عند مقاطع حقوقهم" (4).
7 - قوله صلى الله عليه وسلم -المتقدم- "المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حرامًا" (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (2721)، ومسلم (1418).
(2) «فتح الباري» (9/ 218 - المعرفة).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (3729)، ومسلم (2449).
(4) صحيح: علَّقه البخاري مختصرًا (9/ 323 - فتح)، ووصله سعيد بن منصور (663)، وعبد الرزاق (10608)، وابن أبي شيبة (4/ 199)، والبيهقي (7/ 249).
(5) تقدم قريبًا.

(3/157)


"فهذه الشروط الجائزة لا تحرم الحلال، فمن اشترطت على زوجها أن لا يتزوج بغيرها، فإنه لا يصير الزواج عليه حرامًا، ولكن إذا تزوَّج فلها فسخ العقد، فأين تحريم الحلال؟ " (1).
قلت: والراجح أن اشتراط ما هو مباح في الشرع (يجوز فعله ويجوز تركه) ولم يأت في الشرع النهي عنه، أنه جائز في النكاح للأدلة المتقدمة، ولحاجة الناس في بعض الأحيان إليها، فإن أخلَّ أحد الطرفين بهذه الشروط، جاز للآخر فسخ العقد، والله تعالى أعلم.
* ما حكم زواج "المِسْيار"؟
زواج المسيار (2) من أنواع الزواج المستجدة في بعض البلاد، وخلاصة ما فهمته في تعريفه أنه: "عقد الرجل زواجه على المرأة عقدًا شرعيًا مستوفيًا شروطه وأركانه، إلا أن المرأة تتنازل فيه -برضاها- عن بعض حقوقها على الزوج كالسكنى والنفقة والمبيت عندها والقسم لها مع الزوجات ونحو ذلك".
ومن أهم الأسباب المؤدية إلى نشأة هذا النوع من الزواج وانتشاره في بعض البلاد: وجود عدد من النساء اللاتي بلغن سن الزواج وتقدم بهن العمر دون زواج، أو تزوجن وفارقن الأزواج لموت أو طلاق، بالإضافة إلى الغريزة الجنسية، واحتياج المرأة إلى الرجل، هذا من جانب المرأة.
وأما من جانب الرجل فقد يدفعه إلى هذا الزواج الرغبة العارمة -عند بعضهم- في المعاشرة الجنسية، وعدم اكتفائه بزوجة واحدة، مع عدم قدرته على تحمل ما يستلزم الزواج الآخر من مهر ونفقة وسكنى ونحو ذلك، وقد يدفعه إلى ذلك رفض زوجته الأولى لزواجه من أخرى، أو رغبته في الاستيلاء على مال هذه المرأة -إذا كانت غنية- مع خشيتها من فراقه مما يدفعها إلى بذل مالها، إلى غير ذلك من الأسباب.
ولكن ما حكم هذا النوع من الزواج شرعًا؟
يتضح من التعريف السابق زواج المسيار: عقد زواج تضمَّن شرطًا يوجب إسقاط بعض حقوق الزوجة على زوجها، ولذا ناسب أن يُبحث في مبحث
_________
(1) «أحكام الزواج» د. الأشقر (ص: 190) بتصرف يسير.
(2) المسيار: صيغة مبالغة يوصف بها الرجل كثير السير، فلعل سرَّ تسمية هذا الزواج بذلك أن الزواج لا يستقر عند زوجته بل هو دائم الترحال لا بأتيها إلا زائرًا!!.

(3/158)


"الشروط في العقد" وقد اختلفت آراء الفقهاء المعاصرين في صحة هذا الزواج على ثلاثة أقوال (1):
الأول: أنه مباح مع الكراهة، ومأخذ هذا القول أنه عقد استوفى أركانه وشرائطه الشرعية ولم يتَّخذ ذريعة إلى الحرم -كنكاح التحليل والمتعة- وغاية ما فيه أن الزوجين ارتضيا واتفقا على أن لا يكون للزوجة حق المبيت أو القسم أو النفقة ونحو ذلك، وقد ثبت أن أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها لما كبرت وهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضرتها عائشة "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة" (2).
فدلَّ على أن من حق الزوجة أن تسقط حقها الذي جعله الشارع لها كالمبيت والنفقة.
ثم إن الزواج إشباع لغريزة الفطرة عند المرأة وكفٌّ لها عن الفاحشة وقد ترزق فيه بالولد.
أما سرُّ كراهة هذا النوع -رغم إباحته- فهو افتقاره إلى تحقيق مقاصد الشريعة في الزواج من السكن النفسي والإشراف على الأهل والأولاد ورعاية الأسرة بنحو وتربية أحكم.
* فائدة: من القائلين بهذا القول من نصِّ على أن اشتراط النفقة والمبيت لاغٍ، وللزوجة حق المطالبة به إذا أرادت، ولها حق إسقاطه وديًّا.
الثاني: أنه حرام، ومأخذ هذا القول: أن هذا الزواج ينافي مقاصد الزواج الاجتماعية والنفسية والشرعية من المودة والرحمة والسكن وحفظ النوع الإنساني وتعهده على أكمل وجه ورعاية الحقوق والواجبات التي يولدها عقد الزواج الصحيح، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
2 - أنه مخالف لنظام الزواج الذي جاءت به الشريعة ولم يكن المسلمون يعرفون مثل هذا النوع في زواجهم.
3 - تضمنه بعض الشروط التي تخالف مقصود العقد.
4 - بالإضافة إلى أنه سيكون مدخلًا للفساد والإفساد، فإنه يتساهل فيه في تقدير المهر، ولا يتحمل الزوج مسئولية الأسرة، وقد يكون سرًا أو بغير ولي.
_________
(1) «مستجدات في الزواج والطلاق» لأسامة الأشقر (ص: 174)، وما بعدها بتصرف.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5212)، ومسلم (1463).

(3/159)


الثالث: التوقُّف في حكمه، وهو منقول عن العلامة ابن عثيمين، رحمه الله تعالى.
الراجح:
قلت: (أبو مالك): الفاصل في النزاع هو تكييف اشتراط إسقاط النفقة والمبيت ومدى تأثيره على صحة العقد، وقد تقدم أن الشروط في عقد النكاح على ثلاثة أنواع: شروط موافقة لمقصود العقد الشرع، وشروط منافية لمقصود العقد ومنافية لحكم الله، وشروط لم يأمر بها الشارع ولم ينه عنها، وفي اشتراطها مصلحة لأحد الزوجين.
والذي يظهر أن اشتراط إسقاط النفقة والمبيت ونحوه مما هو واجب شرعًا على الزوج هو من الشروط الفاسدة، وعلى ضوء ما ترجح لدى في العقد مع الشرط الفاسد (1) أقول: هذا العقد صحيح والزواج صحيح لكن الشرط فاسد، وعليه يترتب على هذا الزواج آثاره الشرعية من حلِّ الجماع وثبوت النسب ووجوب النفقة والقسم، ومن حق الزوجة المطالبة به، لكن لو ارتضت التنازل عنه -من غير اشتراط- فلا حرج لأنه حقها.
على أن هذا النوع من الزواج لا يسلم من المحاذير التي تدفع إلى القول بكراهته وعدم التوسع في تعاطيه، ولعل هذا هو مأخذ المتوقفين في حكمه، والله أعلم بالصواب.

الصداق (المهر)
* تعريفه وحكمه:
الصداق اصطلاحًا: عِوَضٌ في النكاح أو نحوه، بفرض حاكم أو تراضيهما، ويسمى مهرًا، وأجرًا، وفريضة، وغير ذلك.
ووجه تسميته بالصداق: "أنه يشعر بصدق رغبة الزوج في الزوجة" (2).
والمهر واجب على الرجل بالنكاح أو الوطء بإجماع علماء المسلمين (3) ولا يخدش في صحة الإجماع ما تقدم من تجويز الحنفية والشافعية إسقاط المهر، فإنهم جميعًا -في هذه الحالة- يوجبون مهر المثل.
_________
(1) راجع ما تقدم في باب: «الاشتراط في عقد النكاح».
(2) «سبل السلام» (3/ 311).
(3) «الاستذكار» لابن عبد البر (16/ 67).

(3/160)


وقد تقدَّم أن المهر شرط في صحة عقد النكاح إما مسمى مفروضًا أو مسكوتًا عنه ويكون لها مهر مثلها، في أصح قولي العلماء.
* ما يصلح أن يكون مهرًا:
1 - كل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع (1): بأن يكون متموَّلًا، طاهرًا، حلالًا، منتفعًا به، مقدورًا على تسليمه، كالأموال والأعراض ونحوها، قال الله تعالى: {وأحلَّ لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم ...} (2).
2 - الإجازة: فكل عمل جاز الاستجار عليه، جاز جعله صداقًا، وذلك كتعليم القرآن، والصنائع، والخدمة ونحو ذلك، وهذا مذهب الشافعي وأحمد، ومنع ذلك أبو حنيفة وكرهه مالك (3).
والصحيح جواز النكاح على الإجارة، فقد قصَّ الله تعالى علينا في كتابه أن الشيخ الصالح زوَّج موسى عليه السلام بإحدى ابنتيه، وجعل مهرها أن يعمل عنده ثماني سنين، قال الله تعالى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك} (4). وهذا على قول من قال: إن شرع من قبلنا شرع لازم لنا حتى يدلَّ الدليل على ارتفاعه، وهو الصحيح.
وقد مرَّ حديث الواهبة، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أراد الزواج منها:
"اذهب، فقد أنكحتكها بما معك من القرآن" (5) على تأويل أن المراد: أن يعلمها سورة أو أكثر من القرآن.
3 - إعتاق الأَمَة:
فعن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها" (6) وقد أجاز أن يكون العتق صداقًا الشافعي وأحمد وداود، ومنعه فقهاء الأمصار لمعارضته للأصول، ووجه ذلك أن العتق إزالة ملكٍ، والإزالة لا تتضمن استباحة الشيء
_________
(1) «بداية المجتهد» (2/ 46)، و «الشرح الصغير» للدردير (2/ 245)، و «الأم» (5/ 52)، و «المغني» (7/ 212)، و «الإنصاف» (6/ 231).
(2) سورة النساء: 24.
(3) «بداية المجتهد» (2/ 47)، و «روضة الطالبين» (7/ 304)، و «المغني» (7/ 212)، و «المبسوط» (6/ 80).
(4) سورة القصص: 27.
(5) صحيح: تقدم كثيرًا.
(6) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

(3/161)


بوجه آخر، لأنها إذا أعتقت ملكت نفسها، فكيف يلزمها النكاح؟ وأجابوا باحتمال الخصوصية، لكثرة اختصاصه صلى الله عليه وسلم في باب النكاح!! (1).
قلت: الأظهر جواز أن يكون العتق صداقًا للحديث السابق، والأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أنها للتأسي إلا ما دلَّ الدليل على الخصوصية كزواج الهبة والزيادة على الأربع، وما ذكروه من معارضة الأصول لا يُعارض به هذا الحديث، والله أعلم.
4 - هل يكون الإسلام مهرًا؟
عن أنس قال: "تزوَّج أبو طلحة أمَّ سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها، فقالت: إني قد أسلمتُ فإن أسلمتَ نكحتُك، فأسلم فكان صداق ما بينهما" (2).
وفيه حجة لمن أجاز أن يكون إسلام الرجل مهرًا، إلا أن أبا محمد بن حزم طعن في هذا الاستدلال بأمرين:
1 - أن ذلك كان قبل الهجرة بمدة، لأن أبا طلحة قديم الإسلام، من أول الأنصار إسلامًا، ولم يكن نزل إيجاب إيتاء النساء صدقاتهن بعد.
2 - أنه ليس في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك (3).
* أقل المهر وأكثره:
1 - لا حدَّ لأكثر المهر: اتفق أهل العلم -لا خلاف بينهم- على أنه لا حد لأكثر ما يدفعه الرجل مهرًا لزوجته (4).
قال شيخ الإسلام: "ومن كان ذا يسار ووجد فأحب أن يعطي امرأته صداقًا كثيرًا فلا بأس بذلك، كما قال الله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} (5). أما من يشغل ذمته بصداق لا يريد أن يؤديه، أو يعجز عن وفائه فهذا مكروه ... " اهـ (6).
2 - ولا حدَّ لأقلِّ المهر على الراجح: فيصحُّ الصداق بكل ما يسمى مالًا أو ما
_________
(1) «بداية المجتهد» (2/ 47)، وانظر «المحلي» (9/ 501 - 507) ففيه بحث نفيس.
(2) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 114).
(3) «المحلي» (9/ 499 - 500).
(4) «الاستذكار» لابن عبد البر (16/ 65)، و «الحاوي» للماوردي (12/ 11).
(5) سورة النساء: 20.
(6) «مجموع الفتاوى» (32/ 195).

(3/162)


يقوَّم بمال ما دام قد حصل به التراضي، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور والأوزاعي والليث وابن المسيب وغيرهم وأجاز ابن حزم كل ما له نصف ولو حبة شعير (1)، ويؤيد عدم تحديد أقل المهر:
(أ) عموم قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} (2). وهو يتناول قليل المال وكثيره.
(ب) قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يتزوج الواهبة: "هل عندك من شيء؟ " قال: لا، قال: "اذهب فاطلب ولو خاتمًا من حديد" ... الحديث (3) فدلَّ على أن المهر يصح بكل ما يطلق عليه اسم المال.
* بل يصح الصداق بكل ما له قيمة حسيَّة أو معنوية: وهذا "هو الذي تجتمع به الأدلة ويتفق مع المعنى الصحيح لمشروعية المهر، إذ ليس المقصود من المهر العوض المالي فحسب، وإنما هو رمز للرغبة وصدق النية في الاقتران، فيكون بالمال غالبًا، وبكل ماله قيمة معنوية، ما دامت قد رضيت بذلك الزوجة" (4).
وقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلًا بما معه من القرآن، وتزوَّج أبو طلحة أم سليم، وكان مهرها إسلامه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم عتق صفية صداقها، فكان ما يحصل للمرأة من انتفاعها بالقرآن والعلم وإسلام الزوج، وانتفاعها بحريتها وملكها لرقبتها صداقًا لها إذا رضيت به، فإن الصداق -في الأصل- حق للمرأة تنتفع به (5).
* المغالاة في المهور (6):
ليس من الإسلام تلك النظرة المادية التي تسيطر على أفكار طائفة من الناس، فيغالون في المهور، حتى إنه لا يكاد يخرج بعضهم من عقد الزواج إلا وهم
_________
(1) «المغني» (7/ 48)، و «الإنصاف» (9/ 249)، و «الحاوي» (12/ 11)، و «تكملة المجموع» (15/ 482)، و «المحلي» (9/ 494 - وما بعدها)، وقال الشافعي: لا يجب أن يقل عن مهر المثل، وخالفه الجمهور وكثير من أصحابه وانظر «الأم» (5/ 66).
(2) سورة النساء: 24.
(3) صحيح: تقدم كثيرًا.
(4) «فقه الزواج» للسدلان (ص 26).
(5) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 178 - 179) ط. الرسالة.
(6) «الزواج والمهور» للمسند (ص 57 - 58)، و «من قضايا الزواج» لجاسم الياسين (ص 70 - 72)، عن «فقه الزواج للسدلان» (ص 28 - 43)، وكتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 392 - 396).

(3/163)


يتحدثون عن المهر، وكم بلغ من الأرقام القياسية ... ؟! كأنما خرجوا من حلبة سباق أو مزايدة على سلعة!!
فإن المرأة ليست سلعة في سوق الزواج كي نسلك بها هذا المسلك الماديِّ البحت.
وهذه المغالاة في المهور يكون من نتائجها السلبية:
1 - جعل أكثر الشباب عزبًا وأكثر البنات عوانس.
2 - حصول الفساد الأخلاق في الجنسين عندما ييأسون من الزواج فيبحثون عن بديل لذلك.
3 - حدوث الأمراض النفسية لدى الشباب من الجنسين بسبب الكبت، وارتطام الطموح بخيبة الأمل.
4 - خروج كثير من الأولاد عن طاعة آبائهم وأمهاتهم وتمردهم على العادات الطيبة والتقاليد الكريمة الموروثة.
5 - غش الولي بامتناعه من تزويجها بالكفء الصالح الذي يظن أنه لا يدفع لها صداقًا كثيرًا، رجاء أن يأتي من هو أكثر صداقًا ولو كان لا يُرضي دينًا ولا خلقًا!! ولا يُرجى للمرأة السعادة معه.
6 - تكليف الزوج فوق طاقته، مما يجلب العداوة في قلبه لزوجته وأهلها.
* إذا كانت هذه سلبيات المغالاة في المهور: فما حكمها شرعًا؟
الحاصل في حكم المغالاة في المهور، بالنظر في الأدلة الواردة في هذا الباب أن يقال:
1 - المشروع تخفيف الصداق وعدم المغالاة فيه:
* قال صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره" (1).
* وقال ابن القيم بعد ما أورد جملة من الأحاديث في الصداق:
"فتضمنت الأحاديث ... أن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح وأنها من قلة بركته وعسره" (2).
* وقال عمر بن الخطاب:
_________
(1) مستدرك الحاكم (2/ 182).
(2) «زاد المعاد» (5/ 178).

(3/164)


"ألا لا تغلوا صُدُق النساء، فإنه لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل كان أولاكم به النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليغلي بصدقته امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت لكم علق القربة" (1).
* وعن عائشة لما سئلت: كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: "كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشًّا، (والنش: نصف أوقية) فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه" (2).
قال شيخ الإسلام: "فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هنَّ خير خلق الله في كل فضيلة وهنَّ أفضل نساء العالمين في كل صفة -فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة" (3).
2 - إذا كان في المغالاة تكليف للزوج بما لا يطيق فهو مذموم:
ففي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوج امرأة من الأنصار: "على كم تزوجتها؟ " قال: على أربع أواق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "على أربع أواقٍ؟ كأنما تنحتون من عُرض هذا الجبل ... " (4).
وعن أبي حدرد الأسلمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في مهر امرأة، فقال: "كم أمهرتها؟ " قال: مائتي درهم، فقال: "لو كنتم تغرفون من بُطحان ما زدتم" (5).
فهذا إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم على إكثار المهر بالنسبة لحال هؤلاء الأزواج لأنه تقدم أن مهر بناته وأزواجه كان أكثر من ذلك، فالعبرة بحال الزوج.
3 - إذا كان الرجل ميسورًا غنيًّا فله أن يكثر صداق زوجته:
"فقد زوَّج النجاشي أم حبيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف
_________
(1) أبو داود (2106)، والترمذي (1114)، والنسائي (6/ 117)، وابن ماجة (1887) وهو صحيح.
(2) مسلم (1426)، والنسائي (6/ 116)، وابن ماجة (1886).
(3) «مجموع الفتاوى» (32/ 192 - 194).
(4) مسلم (1424)، والنسائي (6/ 69).
(5) أحمد (3/ 448)، والبيهقي (7/ 235) بسند صحيح.

(3/165)


[وكانت مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم] وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة" (1).
* وعن الشعبي قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ألا لا تغالوا في صُدُق النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سيق إليه إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، كتاب الله عز وجل أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله عز وجل، فما ذاك؟ قالت: نهيتَ الناس آنفًا أن يغالوا في صُدُق النساء، والله عز وجل يقول في كتابه: {وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا
تأخذوا منه شيئًا} (2). فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر -مرتين أو ثلاثًا- ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إني نهيتكم أن تغالوا في صدق النساء ألا فليفعل الرجل في ماله ما بدا له" (3).
فالخلاصة: أن الناس يتفاوتون في الغنى والفقر، فلا بد من مراعاة حالة الزوج المالية، فلا يطالب بما لم يقدر عليه مما يضطره إلى الاستدانة ونحو ذلك، فإن كان قادرًا لم يكره له الزيادة في المهر، إلا أن يقترن بذلك نية المباهاة ونحوها فإن يكره حينئذٍ والله أعلم (4).
* الصداق حق للمرأة وليس لأوليائها (5):
لقوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} (6). وقوله: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} (7). وغير ذلك من الآيات فإنها تدل على أن الصداق حق للمرأة، فلا يحل لأبيها ولا لغيره أن يأخذوا من هذا الصداق بغير إذنها، ولذا
_________
(1) أبو داود (2107)، وأحمد (6/ 427)، والنسائي (6/ 119) وهو صحيح.
(2) سورة النساء: 20.
(3) سنن سعيد بن منصور (598)، وعنه البيهقي (7/ 233) وهو حسن لغيره، له شواهد أوردها شيخنا - حفظه الله - في «جامع أحكام النساء» (3/ 301) لم يقف عليها الألباني - رحمه الله - فضعَّف الأثر في «الإرواء» (6/ 348) ووصف المتن بالنكارة والصواب أنه يحسَّن.
(4) هذا التفصيل هو اختيار شيخ الإسلام كما ف «الاختيارات» (ص 227).
(5) «المحلي» (9/ 511).
(6) سورة النساء: 4.
(7) سورة النساء: 24.

(3/166)


ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الزوج لا يجوز له دفع المهر لغير الزوجة أو وكيلها أو من أذنت له أن يدفعه إليهم.
* أنواع المهر:
ينقسم المهر باعتبار الاتفاق على قيمته إلى: مسمى وغير مسمى، وباعتبار وقت دفعه وأدائه إلى: معجَّل ومؤجَّل، وباعتبار المقدار الذي تستحقه المرأة منه إلى: الكل والنصف والمتعة.
أولًا: المهر المسمَّى، والمسكوت عنه (مهر المثل):
1 - يستحب أن يتفق العاقدان على فرض المهر وتسميته قطعًا للنزاع ومنعًا للخصومة (1)، ويجب حينئذٍ إمضاء المهر المتفق عليه، ويكون في ذمة الزوج دفعه للمرأة.
2 - ويجوز العقد من غير تسمية المهر كما دلَّ عليه قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} (2).
ويسمى هذا: "نكاح التفويض" وهو جائز بالإجماع (3)، وفي هذه الحالة يجب للمرأة مهر المثل اتفاقًا.
ومعنى مهر المثل: القدر الذي تُزوَّج عليه مثيلاتها من قريباتها من جهة أبيها كأخواتها وعماتها، لا من جهة أمها، فإن الأم قد تكون من أسرة لها أعراف تخالف أعراف أسرة أبيها (4)، فإن لم يوجد لها أمثال من قبل أبيها، فمن مثيلاتها وأقرانها من أهل بلدتها (5).
ثانيًا: المهر المعجَّل والمؤَجل
الأصل أن يكون المهل معجَّلًا تقبضه المرأة قبل الدخول بها ولها أن تمنع نفسها حتلا تتسلمه، قال الله تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} (6).
_________
(1) «مجموع الفتاوى» (29/ 344).
(2) سورة البقرة: 236.
(3) «بداية المجتهد» (2/ 53).
(4) «المبسوط» (5/ 64)، و «روضة الطالبين» (7/ 286).
(5) «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 261) بتصرف يسير.
(6) سورة الممتحنة: 10.

(3/167)


ولما سأل عليٌّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل بفاطمة قال له صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئًا" فقال: ما عندي من شيء، قال: "فأين درعك الحطمية؟ " قال عليٌّ: هي عندي، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأعطها إياه" (1).
وقد مضى على هذا عمل السلف رضي الله عنهم (2).
لكن يجوز تأجيل المهر أو بعضه، وكذلك تقسيطه، للحاجة كإعسار الرجل ونحو ذلك، إذا اتفق الطرفان على تأجيله إلى ما بعد الدخول، لأن المهر دين كسائر الديون، فيجوز تأجيله، ولذا فإنه يستحب تعجيله.
لكن .. هل يشترط تحديد هذا الأجل؟ أم لا؟ (3).
1 - إذا أُجِّل لأجل مجهول، كأن يقول: تزوجتك على ألفٍ بشرط الميسرة أو أدفعها عند هبوب الرياح أو قدوم فلان ونحو ذلك، فلا يصح التأجيل باتفاق المذاهب الأربعة، لتفاحش الجهالة.
2 - إذا أُجِّل المهر -أو بعضه- ولم يُذكر الأجل ولم يحدَّد، ففيه خلاف:
(أ) قال الحنفية والحنابلة: يصح المهر، وتستحقه المرأة بالفراق أو الموت، عملًا بالعرف والعادة في البلاد الإسلامية!!
(ب) وقال الشافعية: المهر فاسد، ولها مهر المثل.
(جـ) وقال المالكية: إن كان الأجل مجهولًا كالتأجيل للموت أو الفراق فسد العقد، ووجب فسخه، إلا إذا دخل الرجل بالمرأة، فحينئذٍ يجب مهر المثل.
ثالثًا: ما تستحقه المرأة من المهر وأحواله:
[أ] ما يتقرر للزوجة به المهر كاملًا (4):
1 - الدخول الحقيقي بالزوجة (الجماع):
اتفق أهل العلم على أن الزوجة تستحق المهر كاملًا، إذا دخل بها الزوج
_________
(1) صحيح: تقدم قريبًا.
(2) «مجموع الفتاوى» (32/ 195).
(3) «البدائع» (2/ 288)، و «ابن عابدين» (2/ 493)، و «بداية المجتهد» (2/ 48)، و «الدسوقي» (2/ 297)، و «مغني المحتاج» (3/ 222)، و «المغني» (6/ 693)، و «كشاف القناع» (5/ 178).
(4) «البدائع (2/ 291 - 295)، و «بداية المجتهد» (2/ 48)، و «الدسوقي» (2/ 300)، و «مغني المحتاج» (3/ 224)، و «المغني» (6/ 716)، و «كشاف القناع» (5/ 168).

(3/168)


وجامعها، لقوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا* وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} (1).
فنهى الله تعالى الزوج أن يأخذ شيئًا مما أعطاه للمرأة إذا طلَّقها واعتبر الأخذ منه بهتانًا وكذبًا وإثمًا، وذلك لأن المهر كان في مقابل حلِّ الوطء (الإفضاء) وقد استوفى الزوج حقه بالدخول، فتقرر للزوجة جميع المهر.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأة نُكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل -ثلاثًا- فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها" (2).
فإذا كان جميع المهر يتقرر بالدخول في النكاح الباطل، فمن باب أولى يتقرر في النكاح الصحيح (3).
ويترتب على استقرار المهر بالدخول: أن لا يسقط شيء منه بعدئذٍ إلا بالأداء لصاحبه، أو بالإبراء (التنازل) من صاحب الحق (4).
* فائدة: يتقرر للمرأة جميع المهر بالوطء ولو كان حرامًا: كالوطء في الدُّبُر وفي حال الحيض أوالنفاس أو الإحرام أو الصوم أو الاعتكاف ونحو ذلك.
2 - موت أحد الزوجين قبل الدخول في نكاح صحيح: وهنا حالتان:
(أ) إذا كان المهر مسمى في العقد: ومات أحد الزوجين قبل الدخول (الوطء) فإن المرأة تستحق المهر كاملًا باتفاق الفقهاء، وعلى هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم، لأن العقد لا ينفسخ بالموت، وإنما ينتهي به، لانتهاء أمده وهو العمر، فتتقرر جميع أحكامه بانتهائه، ومنها المهر.
(ب) إذا كان المهر لم يسمَّ في العقد (نكاح تفويض): ومات أحد الزوجين فاختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
الأول: تستحق مهر مثلها: وهذا مذهب الحنفية والصحيح عند الحنابلة وهو قول للشافعي، ودليلهم:
_________
(1) سورة النساء: 20، 21.
(2) صحيح: تقدم تخريجه في «اشتراط الولي».
(3) «نيل الأوطار» (118).
(4) «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 289).

(3/169)


1 - حديث علقمة قال: أُتي عبد الله [بن مسعود] في امرأة تزوَّجها رجل ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقًا ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه فقال: "أرى لها مثل صداق نسائها، ولها الميراث وعليها العدة" فشهد معقل بن سنان الأشجعي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع ابنة واشق بمثل ما قضى" (1).
2 - ولأنه عقد مدته العمر، فبموت أحدهما ينتهي ويستقر بع العوض، كانتهاء الإجارة.
3 - ولأن الموت يكمل به المهر المسمى، فيكمل به مهر المثل للمفوضة، كالدخول.
الثاني: لا شيء لها: وهو مذهب مالك والقول الآخر للشافعي، وحجتها:
أنها فرقة وردت على تفويض صحيح قبل فرض ومسيس، فلم يجب بها مهر كفرقة الطلاق!! (2).
قلت: قد علَّق الشافعي -رحمه الله- القول في المسألة على صحة الحديث المتقدم، وهو صحيح، فيتعين صحة المذهب الأول وهو الأظهر عند الشافعية، والله أعلم.
3 - الخلوة الصحيحة بين الزوجين ولو بدون جماع:
ضابط الخلوة الصحيحة: أن يجتمع الزوجان -بعد العقد الصحيح- في مكان يتمكنان فيه من التمتع الكامل، بحيث يأمنان دخول أحد عليهما، وليس بأحدهما مانع طبعي -كوجود شخص ثالث ونحوه- يمنع من الاستمتاع (3).
فإذا حصلت هذه الخلوة بعد العقد، فاختلف أهل العلم في القدر الذي تستحقه المرأة من المهر إذا طلقها على قولين (4):
الأول: تستحق جميع المهر ولو لم يحصل جماع، وهذا مذهب أبي حنيفة
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2114)، والترمذي (1145)، والنسائي (6/ 121)، وابن ماجة (1891)، وأحمد (3/ 480).
(2) انظر «الحاوي» (12/ 106)، و «الأم» (5/ 51)، مع «المراجع السابق».
(3) «ابن عابدين» (2/ 465)، وزاد الحنفية من موانع الخلوة: المرض، والمانع الشرعي كالصوم والحيض والإحرام ونحوه، وفيه نظر لأن هذا قد لا يمنع ارتكاب المحظور وحصول الجماع كما لا يخفى.
(4) «بداية المجتهد» (2/ 49)، و «المبسوط» (6/ 63)، و «الحاوي» (12/ 173)، و «المحلي» (9/ 482) مع المراجع السابقة.

(3/170)


والشافعي في القديم، وهو مشهور مذهب أحمد، وإسحاق والأوزاعي، وهو مروي عن الخلفاء الراشدين الأربعة وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين، وحجة هذا القول:
1 - عن زرارة بن أوفى قال: "قضى الخلفاء الراشدون المهديُّون: أن من أغلق بابًا، أو أرخى سترًا، فقد وجب المهر والعدَّة" (1) وهو منقطع.
وذكر ابن قدامة أنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم!! وهو متعقب بخلاف بعضهم كما سيأتي.
2 - عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قضى في المرأة إذا تزوَّجها الرجل أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق" (2).
3 - وعن عليٍّ قال: "إذا أُرخيت الستور فقد وجب الصداق" (3).
4 - قوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ...} (4).
قالوا: الإفضاء هو الخلوة، لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء، وهو الخلاء، فكأنه قال: (وقد خلا بعضكم إلى بعض).
قال الفراء: "الإفضاء: الخلوة، دخل بها أو لم يدخل" (5).
5 - وحملوا المسَّ في قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (6). على الخلوة لا على الجماع.
6 - ولأن الخلوة مظنة الجماع والمسيس، فإذا خلا بها فقد هيئت الفرصة لتحقق ذلك، والخلوة هي القدر الذي يمكن للقاضي التحقق منه، أما ما وراء ذلك فيصعب التحقق منه عند النزاع (7).
الثاني: لا تستحق جميع المهر إلا بالوطء فقط: وهو مذهب مالك والشافعي في الجديد وهو رواية أخرى عن أحمد وابن حزم، وهو مروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، وحجتهم:
_________
(1) إسناده منقطع: أخرجه البيهقي (7/ 255)، وابن حزم (9/ 482).
(2) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 528)، والبيهقي (7/ 255).
(3) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1/ 201)، والبيهقي (7/ 255).
(4) سورة النساء: 21.
(5) «معاني القرآن» للفرَّاء. مخطوط، عن «اختيارات ابن قدامة» (3/ 101).
(6) سورة البقرة: 237.
(7) «أحكام الزواج» د. الأشقر (ص: 265).

(3/171)


1 - قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (1).
قالوا: والمراد بالمسِّ: الوطء، والمطلقة قبل الوطء يصدق عليها هذا.
2 - فسروا الإفضاء في قوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} (2). بأن المراد به: الجماع.
3 - عن ابن عباس أنه كان يقول في الرجل إذا أُدخلت عليه امرأته ثم طلقها فزعم أنه لم يمسَّها- قال: "عليه نصف الصداق" (3).
4 - وعن ابن مسعود قال: "لها نصف الصداق، وإن جلس بين رجليها" (4).
قلت: لو ثبتت هذه الروايات عن ابن عباس وابن مسعود لكانت في مقابل ما ثبت عن عمر وعلي، ولم يكن في شيء من ذلك حجة على المخالف ولبقي الخلاف في تأويل معنى المس والإفضاء في الآيتين الكريمتين، لكن لا يثبت المروي عن ابن عباس وابن مسعود -فيما علمت- فبقول عمر وعليٍّ وغيرهما من الصحابة أقول، والله أعلم.
لكن قد يقال: إنما استقر المهر كله بالخلوة لأنها تفضي إلى الوطء، فلو ثبت عدم الوطء بإقرار الزوجة أو بالكشف الطبي الحديث، فهل يقال: لها نصف المهر فقط؟
هذا محل نظر واجتهاد، فليُحرَّر.
4 - إقامة الزوجة سَنَة في بيت الزوج ولو بدون وطء (عند المالكية):
فإذا تزوَّج رجل امرأة وزُفَّتْ إليه، وأقامت عنده سنة (!!) بلا وطء وجب لها المهر كاملًا عند المالكية، قلت: أما التحديد بالسنة فلا أعلم له دليلًا، ولو زُفَّت إليه وأقامت عنده دون وطء، فهذه راجعة إلى الحالة السابقة (الخلوة الصحيحة) فيقال فيها ما تقدم هناك.
_________
(1) سورة البقرة: 237.
(2) سورة النساء: 21.
(3) إسناده ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور (772) وفيه ليث بن أبي سليم: (ضعيف مختلط) وجاء من وجه آخر عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بنحوه، رواه البيهقي (7/ 254) وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس فلا يُفرح به!!.
(4) إسناده منقطع: ابن حزم (9/ 484).

(3/172)


5 - طلاق الفرار في مرض الموت قبل الدخول (عند الحنابلة):
إذا طلَّق الرجل امرأته التي لم يدخل بها، في مرض موته فرارًا من ميراثها، ثم مات فإنه يتقرر لها المهر كاملًا -عند الحنابلة- لوجوب عدة الوفاة عليها في هذه الحالة ما لم تتزوَّج أو ترتد.
[ب] ما يتقرر للمرأة به نصف المهر (1):
* الطلاق قبل الدخول (والخلوة على الراجح) وكان المهر مُسمًّى في العقد:
إذا طلَّق الرجل زوجته قبل الدخول (وقبل الخلوة على الراجح) وكان المهر قد سُمَّي في العقد، فإن المرأة تستحق نصف هذا المهر، باتفاق أهل العلم.
لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (2).
وكذلك الحال إذا حصلت الفرقة بغير الطلاق (إذا كان من جانب الزوج) كالفسخ بسبب الإيلاء أو اللعان، أو ردَّة الزوج أو إبائه اعتناق الإسلام بعد إسلام زوجته ونحو ذلك، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
* فإن لم يكن المهر مسمى وطلقها قبل الدخول (أو الخلوة)؟ فههنا اختلف العلماء فيما تستحقه المرأة من المهر، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس لها المتعة (3): وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي -في المشهور عنه- وأحمد وإسحاق والثوري وأبي عبيد وغيرهم وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} (4).
_________
(1) «البدائع» (2/ 296)، و «المبسوط» (6/ 82)، و «ابن عابدين» (2/ 463)، و «بداية المجتهد» (2/ 50)، والقوانين» (202)، و «المدونة» (2/ 224)، و «مغني المحتاج» (3/ 231)، و «نهاية المحتاج» (6/ 364)، و «كشاف القناع» (5/ 165 - 176)، و «الإنصاف» (8/ 299)، و «المغني» (7/ 239).
(2) سورة النساء: 237.
(3) المتعة: مبلغ من المال يدفعه الزوج لمطلقته، وهو يختلف باختلاف حال الزوج وسيأتي في «الطلاق».
(4) سورة البقرة: 236.

(3/173)


2 - قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين} (1).
3 - قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} (2).
القول الثاني: ليس لها شيء، وإنما يُستحب لها المتعة ولا تجب، وهو مذهب مالك والليث، وحجته: أن قوله تعالى: {متاعًا بالمعروف حقًا على المحسنين} قد دلَّ على أن المتعة على سبيل الإحسان والتفضُّل لا الوجوب، ولو كانت واجبة لم تختص بالمحسنين!!
وأجيب بأن أداء واجب من الإحسان.
القول الثالث: تستحق نصف مهر المثل: وهو رواية ثانية في مذهب أحمد، وحجته أنه نكاح صحيح يوجب مهر المثل بعد الدخول فيوجب نصفه بالطلاق قبل الدخول.
قلت: والصحيح الأول لصرح الآيات الكريمة، والله أعلم.
* فائدة: تقرر أن المهر إذا كان مسمى مفروضًا في العقد، ثم طلَّقها قبل الدخول، فلها نصف المهر، لكن ... إذا لم يذكر المهر في العقد، وإنما فرض بعده بالتراضي أو بالقضاء، فهل لها نصف المفروض (المسمى) بعد العقد أم لا؟
قال الحنفية: لا ينتصف المفروض بعد العقد، لاختصاص التنصيف بالمفروض في العقد بنص القرآن، وإنما تجب للمرأة المتعة فقط.
وقال الجمهور: ينتصف المفروض بعد العقد كالمسمى في العقد، وهو الصحيح "لأن قوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} عموم لكل صداق في نكاح صحيح فرضه الناكح في العقد أو بعده، ولم يقل عز وجل: فنصف ما فرضتم في نفس العقد، ... ولو أراد ذلك لبينه لنا ولم يهمله ... " اهـ (3).
[جـ] ما يسقط به المهر كلُّه (4):
1 - حصول الفُرقة -من جانب الزوجة- قبل الدخول: كأن تُسلم -وزوجها
_________
(1) سورة البقرة: 241.
(2) سورة الأحزاب: 49.
(3) «المحلي» لابن حزم (9/ 482) بتصرف يسير واختصار.
(4) «البدائع» (2/ 295)، و «القوانين الفقهية» (203)، و «مغني المحتاج» (3/ 234)، و «كشاف القناع» (5/ 165 - 167)، و «المقنع» (3/ 86)، و «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 295).

(3/174)


كافر- أو يفسخ الزواج بعيب في الزوجة أو أن ترتدَّ، أو أن تكون أرضعت من ينفسخ به نكاحها، أو أن تفسخ لعيب الزوج أو إعساره، ونحو ذلك، فحينئذٍ يسقط المهر المسمى ومهر المثل، وهذا هو المذهب عند الشافعية والحنابلة، كذلك عند الحنفية والمالكية لكنهم لم يفرقوا بين أن تكون الفُرقة من جانب الزوج أو الزوجة فالكل عندهم مسقط للمهر.
2 - الخلع (1) على المهر قبل الدخول أو بعده: فإذا خالع الرجل امرأته على مهرها، سقط المهر كله، فإن كان المهر غير مقبوض سقط عن الزوج، وإن كان مقبوضًا ردَّته على الزوج.
3 - الإبراء (التنازل) عن كل المهر قبل الدخول أو بعده: فإذا تنازلت المرأة عن مهرها المفروض -وكان دَيْنًا في ذمة الزوج- فإنه يسقط، إذا كانت المرأة أهلًا للتبرع.
4 - هبة الزوجة كل المهر للزوج: متى كانت أهلًا للتبرع، وقبل الزوج الهبة في المجلس، سواء أكانت الهبة قبل القبض أو بعده.
* عفو المرأة، ومن بيده عقدة النكاح:
قال الله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} (2).
ومعنى الآية الكريمة: أن المرأة إذا طلقها زوجها قبل أن يطأها وقد كان سمَّى لها صداقًا رضيته فلها نصف صداقها الذي لها إلا أن تعفو هي فلا تأخذ من زوجها شيئًا وتهب له النصف الواجب لها، أو يعفو من بيده عقدة النكاح.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بالذي بيده عقدة النكاح على قولين:
الأول: أنه ولي المرأة، فيكون للولي أن يعفو عن نصف الصداق الذي استحقته المرأة.
الثاني: أنه الزوج نفسه، فيكون المعنى: أو يعفو الزوج فيعطيها جميع الصداق.
وهذا التأويل أرجح "لأن الصداق من حق المرأة [كما تقدم] لا يجوز لأحد التصرف فيه إلا بإذنها، وهي أحق به قبل الطلاق وبعده" (3).
_________
(1) ستأتي أحكام «الخلع» في الباب الآتي، إن شاء الله.
(2) سورة البقرة: 237.
(3) «جامع أحكام النساء» لشيخنا - رفع الله قدره - (3/ 308) وهو اختيار ابن حزم في «المحلي» (9/ 511).

(3/175)


فأيهما عفا عن حقِّه، فهو أقرب للتقوى، والله تعالى أعلم.
* إذا سُمِّي للمرأة مَهْران (مهر التلجئة):
إذا طلب أهل الزوجة من الزوج أن يسمي صداقين: أحدهما للعقد، والآخر للعلن مفاخرة أمام الناس، لا أنه يلزمه، فذهب الجمهور -خلافًا للحنابلة- إلى أنه يلزمه الصداق المسمى في العقد، لا الصداق المعلن، اعتبارًا للنية في العقود، وهو اختيار شيخ الإسلام (1).
* حكم الحِباء:
الحباء: أن يشترط أحد أقارب الزوجة على الزوج مبلغًا من المال لنفسه، وقد اختلف أهل العلم في حكم الحباء على ثلاثة أقوال (2):
الأول: يجوز الحباء للأب، وهو مذهب الحنفية والحنابلة وبعض الشافعية، وهو قول إسحاق، وحجتهم: قوله تعالى -في قصة الشيخ الكبير مع موسى عليه السلام: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} (3). قالوا: فجعل الصداق: الإجارة على غنمه، وهو شرط لنفسه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك".
الثاني: إن كان الشرط عند عقد النكاح فهو للمرأة وإن كان بعده فهو للأب:
وهو مذهب مالك وبه قال عمر بن عبد العزيز والثوري وأبو عبيد، لأن في اشتراطه عند العقد تهمة النقصان من صداقها، وأما بعده فلا توجد التهمة.
واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما امرأة نُكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أُعْطِيَهُ، وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنتُه وأخته" (4).
_________
(1) «تحفة الفقهاء» (2/ 218)، و «المدونة» (2/ 171)، و «الفروع» (5/ 267)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 199).
(2) «بداية المجتهد» (2/ 56)، و «روضة الطالبين» (7/ 266)، و «المقنع» (3/ 79)، و «نيل الأوطار» (6/ 207).
(3) سورة القصص: 27.
(4) حسن: أخرجه أبو داود (2129)، والنسائي (6/ 120)، وابن ماجة (1955)، وأحمد (2/ 182).

(3/176)


الثالث: لا يجوز الحباء مطلقًا، ويفسد المهر، وتستحق مهر المثل: وهو مذهب الشافعي.
قلت: الراجح أن المرأة تستحق ما يذكر قبل العقد من صداق أو حباء ولو كان ذلك الحباء مذكورًا لغيرها كأبيها أو غيره، وأما ما يذكر بعد العقد فهو لمن جُعل له سواء كان وليًّا أو غيره، لأجل الحديث المتقدم، والله أعلم.
* جهاز العروس، على مَن يجب؟
الجهاز -بفتح الجيم، والكسر لغة قليلة-: اسم لما تُزفُّ به المرأة إلى زوجها متاع وأثاث وفراش لمنزل الزوجية.
وقد ذهب جمهور العلماء، منهم: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم (1)، إلى أنه لا يجب على المرأة أن تتجهز بمهرها أو بشيء منه أو من غيره وعلى الزوج أن يُعِدَّ لها المنزل بكل ما يحتاج إليه ليكون سكنًا شرعيًا لائقًا بهما في حدود طاقته ويسره: قال الله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} (2).
ولأن المهر المدفوع ليس في مقابلة الجهاز، وإنما هو عطاء ونحلة كما قال تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} (3). أو هو في مقابلة حلِّ التمتع بها -كما تقدم- والشيء لا يقابله عِوَضان.
حتى لو كان الزوج قد دفع أكثر من مهر مثلها رجاء جهاز فاخر، ما دام المال الذي دفعه غير مستقل عن المهر.
فإذا دفع الزوج مقدارًا من المال -مستقلًّا عن المهر- في مقابلة الجهاز، فتلزم الزوجة حينئذٍ بإعداد الجهاز، لأنه كالهبة بشرط العوض.
فإذا تجهزت الزوجة بنفسها أو جهَّزها ذووها، فالجهاز ملك لها خاصٌّ بها، لأنها لا يلزمها كما تقدم.
_________
(1) «ابن عابدين» (2/ 652)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 321)، و «نهاية المحتاج» (5/ 408)، و «كشاف القناع» (3/ 149)، و «المحلي» (9/ 507).
(2) سورة الطلاق: 6.
(3) سورة النساء: 4.

(3/177)


* فائدة:
إن جهَّزت الزوجة أو ذووها شيئًا برضاهم -من غير إجبار- فهو حسن، فعن عليٍّ رضي الله عنه قال: "جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل وقِربة ووسادة حشوها إذخر" (1).

إعلان النكاح
* معناه وحكمه:
إعلان النكاح: هو إظهاره وإشاعته بين الناس، وقد تقدم الكلام على حكمه في "الشرط الرابع" من "شروط صحة عقد الزواج".
* بم يكون إعلان النكاح (2):
يكون الإعلان بضرب النساء الدُّف، وغنائهن الغناء المباح، لإشاعة السرور والبهجة، وترويح النفوس.
وهذا الغناء مباح -في المناسبات- إذا سلم من الفحش الظاهر والخفي والتحريض على الإثم وذكر المحرَّم، وإذا خلا من آلات اللهو والمعازف (غير الدف).
ومن الأدلة على ذلك:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فصل ما بين الحرام والحلال الضرب بالدفوف والصوت" (3).
فعن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو" (4).
وعن الربيع بنت معوِّذ بن عفراء، قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُنِيَ عليَّ فجلس على فراشي، فجعلت جويرات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غدٍ، فقال: "دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين" (5).
أما اللهو المقترن بآلات الطرب المشتمل على ذكر أوصاف النساء والأغاني
_________
(1) حسن: أخرجه النسائي (6/ 135)، وابن ماجة (4152).
(2) «فقه الزواج» للسدلان (ص: 69 - 76) باختصار.
(3) الترمذي (1088)، والنسائي (6/ 127)، وابن ماجة (1896) بسند حسن.
(4) البخاري (5163).
(5) البخاري (5147)، وأبو داود (4922)، والترمذي (1090)، وابن ماجة (1897).

(3/178)


الخليعة، الذي ينشر الفواحش والرذائل في الشباب والشابات، ويهدم القيم ويغير السلوك -فلا شك في تحريمه باتفاق الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة.
قال ابن رجب (1): "إنما كانت دفوفهم نحو الغرابيل، وغناؤهم إنشاد أشعار الجاهلية في أيام حروبهم وما أشبه ذلك، فمن قاس على ذلك سماع أشعار الغَزَل مع الدفوف المصلصلة [أي: التي فيها جلاجل] فقد أخطأ غاية الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل" اهـ.
قال العز بن عبد السلام (2): "أما العود، والآلات المعروفة ذوات الأوتار كالرَّبابة والقانون، فالمشهور من المذاهب الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام" اهـ.
* ومن منكرات الأفراح (3):
1 - ذهاب العروس إلى "الكوافير" ليلة الزفاف:
وهذا من أشد المنكرات التي أصبحت عادة لا تنكر، بل يُنكر على من هجرها ولا يخفى القدر الذي يراه ويلمسه "الكوافير" -وهو رجل في الغالب- من العروس، ولا يخفى ما يحصل في هذه الأماكن
وفي هذه المناسبات، فلله كيف سمحت الفتاة المسلمة بإسلام جسدها لرجل أجنبي يعبث به؟ ويا لعَارِ زوجها "الديوث" الذي لا يغار على أهله؟!
2 - إطلاع النساء على عورة العروس بحجة تهيئتها للزفاف:
وهذا حرام، فلا يجوز أن تطَّلع المرأة على عورة المرأة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة" وعورة المرأة بالنسبة للمرأة كعورة الرجل في حق الرجل: من السرة إلى الركبة.
"وعموم النساء الجاهلات لا يتحاشين كشف العورة أو بعضها والأم حاضرة أو الأخت أو البنت، ويقلن: هؤلاء ذوات قرابة، فلتعلم المرأة أنها إذا بلغت سبع سنين لم يجز لأمها ولا لأختها ولا بنتها أن تنظر إلى عورتها" (4).
_________
(1) «نزهة الأسماع في مسألة السماع» (ص41).
(2) «تلبيس إبليس» (ص 229).
(3) من كتابي «250 خطأ من أخطاء النساء» (ص 144) وما بعدها.
(4) انظر أحكام النساء لابن الجوزي (ص 76) ط. ابن تيمية.

(3/179)


3 - الإصرار على إقامة حفلات الزواج في الفنادق، وحضور هذه الحفلات على فيها من المنكرات:
فيُجمع في هذا بين الإسراف والتبذير من جهة، وبين الإثم الحاصل من استجلاب المغنين والمغنيات والاستماع إلى النغمات والألحان التي تهيج النفوس، وتترك أثرها السيء في القلوب، وهذا مشاهد في مناسبات الأعراس وغيرها، وغالبًا ما يختلط الرجال بالنساء مما يدعو صراحة إلى الفحش والتبرج والرذيلة والذي لا يفعله إلا من لا خلاق له، ولا شك في حرمة هذا النوع من الحفلات.
ولتعلم الأخت المسلمة أنه قد أبيح لهن في هذه الأعراس ضرب الدف وإنشاد الأشعار وإعلان النكاح وإظهار البهجة والفرحة والسرور، ما دام قد سلم من الفحش وآلات اللهو والطرب والاختلاط بالرجال.
4 - تبرج العروس ليلة الزفاف:
وهذا حرام لا يجوز، إذا كان يراها غير النساء أو المحارم، وليعلم أن للعروس أن تتزين ما شاءت شريطة ألا يطلع عليها الأجانب.
5 - جلوس العروسين في "الكوشة" بين النساء والرجال:
وهذا خطأ كبير، وهو محرم لأمور منها أن فيه دخولًا على النساء وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء" وفيه التمكين من نظر الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، لا سيما وكلا الجنسين في قمة زينته.
وقد أفتت هيئة كبار العلماء بحرمة ذلك (فتوى رقم 8854/ 1405هـ).
6 - قيام بعض النساء بالرقص في الحفلات:
وهذا الرقص إذا كان على مرأى الرجال والأجانب فهو من أشد المنكرات، وإذا كان في مكان خاص بالنساء، فالأولى منعه أيضًا، وذلك لأن الرقص عادة إنما تتعاطاه الفتيات على أنغام الموسيقى المحرمة وهذا حرام.
ثم إنه لا يؤمَن -مع رقة الدين وفساد النفوس- أن تصف امرأة لزوجها أو غيره صفة رقص هذه المرأة فيحصل فساد كبير.
7 - تصوير الحفلات بالصور الفوتوغرافية والفيديو:
وهذا قبح عظيم وشر مستطير، فالنساء متعطرات متحليات بحليهن متجملات متزينات، وتصويرهن -والحالة هذه- فتنة عظيمة، ففيه كشف للعورات، وزرع

(3/180)


لبذور الشر والفساد، فالتصوير على هذا الوجه محرم بلا ريب، والمجاهرة بالمعاصي بلاء، هذا على أن أصل التصوير محرم بإطلاق، فعلى أرباب هذه الحفلات -وخصوصًا النساء- الانتهاء عن هذه الظاهرة السيئة وأن يتحروا في هذه الحفلات ما أباح الله تعالى دون ما حرم.
8 - الإسراف في وليمة العرس:
فقد أصبح الناس -بتحريض من جهلة النساء- يتنافسون في إنفاق الأموال الطائلة لإعداد وليمة العرس بما يزيد عن حاجة المدعوين إليها، وتكون النتيجة أن يلقى الطعام في مواضع القمامة في حين لا يجد الفقير ما يسد به رمقه؟! وقد ذم الله تعالى الإسراف في اثنتين وعشرين آية من كتابه، فقال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (1).
وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوا واشربوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة، إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" (2).
9 - ترك العروس الصلاة ليلة الزفاف:
فإنها تستعد لليلة زفافها من بعد صلاة الظهر عادة فتغتسل وتتزين وتضع المساحيق، وتلبس ثياب العرس وغير ذلك وربما نسيت الصلاة وهذا حرام بلا خلاف.
10 - تهنئة العروسين بقولهن: (بالرفاء والبنين):
وهي عادة منكرة: شاعت في عصر الجاهلية، وأصبحت شعارًا ودعاءً لمن يقدمون تبريكاتهم وتهانيهم بالزواج، وقد ورد النهي عن هذه الصيغة، فعن عقيل بن أبي طالب أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: "بالرفاء والبنين" فقال: لا تقولوا هكذا، لكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم وبارك عليهم" (3).
ولعل الحكمة في النهي عن استعمال هذه الصيغة: مخالفة ما كان عليه أهل الجاهلية، ولعل فيه من الدعاء للزوج بالبنين دون البنات، ونحوه من الدعاء للمتزوجين، ولأنه ليس فيه ذكر اسم الله وحمده والثناء عليه، فعلينا التأسي
_________
(1) سورة الأعراف: 31.
(2) أخرجه النسائي (5/ 79)، والحاكم في المستدرك (4/ 135) بسند حسن.
(3) أخرجه النسائي (3371)، وابن ماجة (1906)، وانظر «إرواء الغليل» (1923).

(3/181)


والاقتداء بالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، ومن ذلك قول المهنئ: "بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير".
* وليمة العُرْس:
1 - تعريفها: "الوليمة: اسم للطعام في العُرس خاصة".
2 - حكمها: الوليمة سنة مستحبة مؤكدة (1) للمتزوج أن يولم بما تيسر، فقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه، وحث أصحابه على الوليمة.
فعن أنس قال: " ... أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها (أي بزينب بنت جحش) عروسًا فدعا القوم فأصابوا الطعام ثم خرجوا ... " الحديث (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف لما تزوج: "أَوْلِمْ ولو بشاة" (3).
ولا تشترط الشاة ولا غيرها في الوليمة، بل حسبما تيسَّر للزوج، فقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على صفية بحَيس (4).
والحَيْس: تمر منزوع نواه ويخلط بالأقط أو الدقيق أو السويق.
3 - وقتها: (هل عند العقد؟ أو بعده؟ أو عند الدخول؟ أو بعده؟):
الصواب أن الوليمة تكون عند الدخول أو بعده، لا عند العقد لما تقدم قريبًا في حديث أنس -في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب- الذي فيه: "أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروسًا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ... ".
وقال بعض العلماء إن وقتها موسع من عقد النكاح إلى انتهاء العرس (5).
4 - الدعوة للوليمة:
يستحب للمتزوج أن يدعو إليها الصالحين سواء كانوا فقراء أو أغنياء لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" (6). ويستحب أن يجعل فيها حظًا للفقراء والمساكين:
_________
(1) وهو قول الجمهور، بينما ذهب الشافعي ومالك - في قول - والظاهرية إلى وجوبها.
(2) البخاري (1428)، ومسلم (5166)، والترمذي (3218)، والنسائي (6/ 136).
(3) الحديث عند البخاري (5169)، وانظر «فتح الباري» (9/ 237).
(4) البخاري (2048)، ومسلم (1427).
(5) «الإنصاف» للماوردي (8/ 317).
(6) أبو داود (4811)، والترمذي (2506) وحسنه الألباني.

(3/182)


فعن أبي هريرة قال: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (1).
5 - إجابة الدعوة للوليمة:
ذهب جمهور العلماء إلى أن إجابة دعوة العُرس واجبة -إلا لعذر- واستدلوا بما يأتي:
-حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" (2).
- وحديث أبي هريرة المتقدم: " ... ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (3) والمرأة كالرجل في هذا الحكم إلا إذا اقترن بإجابة الدعوة اختلاط بالرجال أو خلوة محرَّمة، فلا تجوز حينئذٍ.
* فائدة: من دُعي وهو صائم؟
من دُعي إلى وليمة وهو صائم -رجلًا أو امرأة- فعليه أن يجيب ويحضر الوليمة لما تقدم من الأدلة، فإذا حضر فإنه مخير بين أمرين، إما أن يأكل معهم -إن كان صيامه تطوعًا وأراد الفطر- وإما أن يمتنع عن الأكل ويدعو لصاحب الوليمة: لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك" (4).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصل" يعني الدعاء (5).
ويكون الدعاء بأحد الأدعية التي تقدمت في "آداب الطعام".
6 - متى يُترك حضور الوليمة؟
تقدم أن وجوب حضور الوليمة وإجابة الدعوة مشروط بعد وجود عذر، ومن هذه الأعذار:
_________
(1) البخاري (5177)، ومسلم (1432) موقوفًا وله حكم الرفع.
(2) البخاري (5173).
(3) البخاري (5177)، ومسلم (1432) موقوفًا وله حكم الرفع.
(4) مسلم (1430)، وأبو داود (3722).
(5) مسلم (1431)، وأبو داود (3719)، والبيهقي (7/ 263) وهذا لفظه.

(3/183)


1 - أن يدعى الشخص إلى موضع فيه منكر من خمر أو معازف ونحوها، فحينئذ لا يجوز الحضور إلا بقصد إنكارها ومحاولة إزالتها، فإن أزيلت وإلا وجب الرجوع، ومما يدل على هذا:
حديث علي قال: صنعت طعامًا فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع [فقلت: يا رسول الله، ما أرجعك بأبي أنت وأمي؟ قال: "إن في البيت سترًا فيه تصاوير، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تصاوير"] (1).
2 - أن يكون الداعي ممن يخص بدعوته الأغنياء لا الفقراء.
3 - أن يكون الداعي ممن لا يتورع عن أكل الحرام ويتخوض في الشبهات، إلى غير ذلك من الأعذار الشرعية التي يترك الواجب من أجلها.
وكذلك يعذر المدعو إذا وجد عنده عذر شرعي كالذي يبيح التخلف عن الجمعة: من كثرة مطر أو وحلٍ أو خوف عدو أو خوف على مال أو نحو ذلك.
* يجوز للعروس أن تخدم أضياف زوجها يوم عرُسها:
فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه وكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس، قال سهل: تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل فلما أكل سقته إياه" (2).
قلت: ومحل هذا الفعل هو أمن الفتنة كما لا يخفى، والله أعلم.
* التهنئة بالزواج:
من محاسن الشريعة تهنئة المسلم أخاه المسلم بما حصل له من الخير، والدعاء له بالبركة ودوام النعمة وشكرها، لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمتزوج بالبركة ودوام التوفيق وطول العشرة (3).
* ما يقال للعروسين:
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفأ الإنسان -إذا تزوج- قال: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير" (4).
_________
(1) ابن ماجة (3359)، وأبو يعلى (436) والزيادة له وصححه الألباني.
(2) البخاري (5176)، ومسلم (2006)، وابن ماجة (1912).
(3) «فقه الزواج» د. السدلان (ص: 97).
(4) أبو داود (2130)، والترمذي (1091)، وابن ماجة (1905) بسند حسن.

(3/184)


وعن عائشة قالت: "تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر" (1).
ولا ينبغي العدول عن هذه الصيغ المشروعة في التهنئة إلى ما اعتاده الناس من قولهم (بالرفاء والبنين) فقد ورد النهي عن ذلك.
* ويستحب الهدية للعروسين:
والأصل في هذا حديث أنس قال: "لمَّا تزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب، أهدت له أم سليم حيسًا في تور حجارة ... " الحديث (2).
* آداب ليلة الزفاف (3):
هذه بعض الآداب التي ينبغي لكل من الزوجين التأدب بها ليلة الزفاف، فإذا دخل العروسان منزلهما فيستحب:
1 - تسليم الزوج على العروس: فإنَّ هذا مما يذهب الرهبة من قلب العروس، فعن أم سلمة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا تزوجها، فأراد أن يدخل عليها، سلَّم" (4).
2 - أن يلاطفها بتقديم شيء من الشراب أو الحلوى:
فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت:
"إنى قيَّنت (5) عائشة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم جئته فدعوته لجلوتها (6)، فجاء فجلس إلى جنبها، فأتى بعُسِّ (7) فيه لبن، فشرب ثم ناولها النبى -صلى الله عليه وسلم- فخفضت رأسها
واستحيت، قالت أسماء: فانتهرتها وقلت لها: خذى من يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذت فشربت شيئًا ... " (8).
_________
(1) صحيح البخاري (5156).
(2) مسلم (1428) وقد تقدم.
(3) «آداب الزفاف» للألباني، و «الانشراح في آداب النكاح» لأبي إسحاق الحويني، و «المعاشرة بين الزوجين» لعمرو عبد المنعم، و «فقه الزواج» للسدلان (ص: 103) عن كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 409).
(4) «أخلاق النبي» لأبي الشيخ (199) بسند حسن.
(5) قيَّنت: أي زيَّنت.
(6) أي: لينظر إليها مجلوة بزينتها.
(7) العُسّ: هو القدح الكبير.
(8) أحمد (6/ 452) وسنده محتمل للتحسين.

(3/185)


3 - أن يضع يده على رأسها ويدعو لها:
لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادمًا فليأخذ بناصيتها، وليسمِّ الله عز وجل، وليدع بالبركة، وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما جبلتها عليه" (1).
4 - أن يصلي معها ركعتين (وهو منقول عن السلف):
ومن ذلك حديث أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: "تزوجت وأنا مملوك، فدعوت نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن مسعود وأبو ذر وحذيفة، قال: وأقيمت الصلاة فذهب أبو ذر ليتقدم، فقالوا: إليك، قال: أو كذلك؟ قالوا: نعم. قال: فتقدمتُ بهم وأنا عبد مملوك، وعلَّموني فقالوا: إذا دخل عليك أهلك فصلِّ ركعتين ثم سل الله من خير ما دخل عليك وتعوَّذ به من شره، ثم شأنك وشأن أهلك ... " (2).
5 - يستحب له قبل أن يأتيها أن يتسوَّك ليطهر فمه:
أو استخدام غير السواك كفرشاة الأسنان والمعجون ونحوه، فهذا أدعى لدوام العشرة والألفة.
فعن شريح بن هانئ قال: "قلت لعائشة: بأي شيء كان النبي -صلى الله عليه وسلم -يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك" (3).
6 - التسمية والدعاء عند الجماع:
عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله: باسم الله، اللهم جنبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قُدِّر بينهما في ذلك -أو قضي ولد- لم يضره شيطان أبدًا" (4).
قلت: وإتمامًا للفائدة فيحسن هنا إيراد طرف من الآداب والأحكام المتعلقة بالجماع:
_________
(1) أبو داود (2160)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (241 - 264)، وابن ماجة (1918) بسند حسن.
(2) عزاه الألباني إلى ابن أبي شيبة بسند صحيح وأورد في الباب آثارًا أخرى في (آداب الزفاف: 94).
(3) صحيح مسلم (253).
(4) البخاري (5165)، ومسلم (1434).

(3/186)


* من آداب الجماع (1):
1 - يستحب للرجل مداعبة زوجته قبل الجماع:
ففي رواية لحديث جابر لما تزوج فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: تزوجت بكرًا أو ثيبًا وأجابه بأنها ثيب فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لك وللعذارى ولُعابها" (2).
وفيه إشارة إلى مصِّ لسانها ورشف ريقها، وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل (3).
فإذا قضى وطره منها فلا يقوم عنها حتى تأخذ حاجتها، فإن ذلك أدعى لدوام العشرة والمودة.
2 - للزوج أن يجامعها على أي وضع شاء بشرط أن يكون في الفرج:
فعن جابر قال: إن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة وهي مدبرة، جاء ولدها أحول، فأنزل الله عز وجل: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} (4).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مقبلة ومدبرة، ما كان في الفرج" (5).
3 - يباح للزوج في جماع زوجته جسدها كله ما عدا الدُّبُر:
فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن" وسنده ضعيف (6).
لكن قال ابن عباس: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل أتى بهيمة أو امرأة في دبرها" (7).
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه-: أن رجلًا قال له: آتي امرأتي أنَّى شئت، وحيث شئت، وكيف شئت؟ قال: نعم، فنظر له رجل فقال له: إنه يريد الدبر!! قال عبد الله: محاش النساء عليكم حرام (8).
_________
(1) من كتابي «فقه السنة للنساء» ص (411).
(2) صحيح البخاري (5080).
(3) فتح الباري (9/ 121).
(4) سورة البقرة: 223.
(5) أصله في الصحيحين، وهذا لفظ الطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 419 بسند صحيح.
(6) أحمد (5/ 213)، وابن ماجة (1924) وفي سنده اضطراب كما قال شيخنا - حفظه الله -.
(7) النسائي في «العشرة» (116) وسنده حسن موقوفًا.
(8) ابن أبي شيبة (3/ 530)، والدارمي (1/ 259) والطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 46) وسنده صحيح.

(3/187)


* تنبيه: المحرَّم إنما هو الجماع في الدبر، أما الاستمتاع بالإليتين بدون إدخال في الدبر فهذا جائز لا شيء فيه، والله أعلم.
4 - لا يجوز جماع المرأة في الفرج وهي حائض:
وقد تقدم هذا في أبواب الحيض، وتقدم أن للرجل أن يصنع مع زوجته -وهي حائض- كل شيء إلا الجماع، فليراجع، وقد تقدم هناك أنه لا حرج في جماع المستحاضة.
5 - إذا وجد الرجل قوة فأراد أن يعود للجماع مرة أخرى فليتوضأ:
لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ" (1).
6 - لا حرج على الزوجين في التجرد من الثياب عند الجماع:
وقد سبق بيان هذا في "أحكام النظر"، وأنه لا حد للعورة بين الزوجين، وأما ما روي "إذا أتى أحدكم أهله، فلْيُلْقِ على عَجُزِه وعَجُزِها شيئًا، ولا يتجردا تجرُّد العَيْرين" (2).
فهذا حديث منكر لا يصح، فرجع إلى ما قدمنا من الجواز والله أعلم.
7 - لا يجوز للمرأة أن تمتنع من جماع زوجها إذا طلبها:
لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح" (3).
8 - إذا وقع نظر الرجل على امرأة فأعجبته فليأت زوجته:
فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى زينب، وهي تمعس منيئة (4) لها فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، فقال: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فاذا أبصر أحدكم امرأة فليات أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه" (5).
وفي رواية: "فإن معها مثل الذي معها".
_________
(1) صحيح مسلم (308) وتقدم.
(2) النسائي في «العشرة» (143) وقال: هذا حديث منكر.
(3) البخاري (5193)، ومسلم (1436).
(4) أي تدلك الجلد لدباغته.
(5) مسلم (1403)، وأبو داود (2151)، والترمذي (1158) والرواية له.

(3/188)


9 - لا يجوز لأحد الزوجين أن ينشر أسرار الجماع:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أشر الناس عند الله يوم القيامة، الرجل يُفضي إلى المرأة وتُفضي إليه ثم ينشر سرَّها" (1) لكن يجوز هذا لمصلحة شرعية كما كانت زوجات النبي صلى الله عليه
وسلم ينشرن ذلك لبيان هديه صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت هناك مصلحة شرعية من ذكره فلا بأس والله أعلم.
10 - إذا قدم الرجل من سفر فلا يباغت لأهله بل يخبرهم بموعد رجوعه:
حتى تستعد الزوجة بالتنظف والتطيب وتحسين هيئتها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قدم أحدكم ليلًا فلا يأتين أهله طروقًا، حتى تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة" (2).
11 - يجوز جماع المرأة المرضع (الغِيلة):
فعن عائشة عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغِيلة، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم" (3).
والغيلة: هي وطء المرضع، وقيل هي: أن ترضع وهي حامل.
12 - يُكره العزل (إنزال المني خارج الفرج):
فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: "ذلك الوأد الخفي" {وإذا الموءودة سئلت} (4) (5).
وعن جابر أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية لي وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لن يمنع شيئًا أراده الله" (6).
وفي رواية: "اعزل إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها".
وعن جابر قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" (7).
_________
(1) مسلم (1437)، وأبو داود (4870).
(2) مسلم (715) وقد تقدم.
(3) مسلم (1442).
(4) سورة التكوير: 8.
(5) مسلم (1442)، وأبو داود (3882)، والترمذي (2077)، والنسائي (6/ 106)، وابن ماجة (2011).
(6) مسلم (1439).
(7) البخاري (5208)، ومسلم (1440).

(3/189)


فدلت هذه النصوص على كراهة العزل، ولْيُعلم أنه ما من نفس كتب الله أن تخلق إلا خُلقت، عزل الرجل أو لم يعزل.
* منع الحمل:
وتنحصر وسائل منع الحمل في: العزل، والتعقيم الدائم، والتعقيم المؤقت (1).
* فأما العزل فقد تقدم الكلام عليه، ويلحق به ما تتعاطاه المرأة لمنع الحمل مؤقتًا من الحبوب وغيرها، والأولى والأحوط اجتناب هذه الوسائل، إلا أننا نقول: إذا اقترن تعاطي هذه الحبوب ونحوها بنية عدم الحمل خشية ضيق الرزق أو الفقر فإنه يحرم، لأنه سوء ظن بالله تعالى الذي تكفل بالرزق للآباء والأبناء، قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} (2).
وأما التعقيم وهو منع الحمل الدائم بإزالة المبيض أو الرحم ونحو ذلك فلا خلاف في حرمته، لأنه قضاء على النسل الذي أمر الشرع بالمحافظة عليه وتكثيره إلا أن تكون ضرورة قصوى بحيث يكون في عدم إزالة الرحم ونحوه خطرًا على الأم فإنه يباح حينئذٍ.
* وأما التعقيم المؤقت فإن له حكم العزل بالضابط الذي تقدم التنبيه عليه، والله أعلم.
* التلقيح الصناعي (3):
* التلقيح الصناعي هو حصول الحمل بطريق غير الاتصال الجنسي المعروف.
وهو جائز شرعًا إذا كان بماء الزوج، ودعت إليه داعية كأن يكون بأحد الزوجين الراغبين في إنجاب الأولاد مانع يمنع من الحمل من طريق الاتصال العادي، ومحرم شرعًا إذا كان بماء غير الزوج، لما فيه من معنى الزنا، والاختلاط في الأنساب، ونسبة الولد إلى أب لم ينشأ من مائه.
والنسب في الحالة الأولى يكون ثابتًا من الزوج، فإنه ولده قد خلق من مائه، ولهذا الولد كل حقوق الأولاد، أما النسب في الحالة الثانية المحرمة فإنه يأخذ حكم نسب الولد الذي ينشأ من زنا الزوجة، ينفيه الزوج فينتفي نسبه (4).
_________
(1) «الفقه الواضح» د. محمد بكر إسماعيل (2/ 464 - 466).
(2) سورة الإسراء: 31.
(3) «الفقه الواضح» (2/ 264 - 266).
(4) أحكام الأولاد في الإسلام (ص 13).

(3/190)


وقد نصت دار الإفتاء المصرية على جواز هذه العملية بالشروط والضوابط التي أشرنا إليها، مصدرة هذه الفتوى بإحدى عشرة قاعدة تعتبر غاية في الدقة، إليك بيانها:
1 - المحافظة على النسل من المقاصد الضرورية التي استهدفتها أحكام الشريعة الإسلامية ولذا شرع النكاح وحرم السفاح والتبني.
2 - الاختلاط بالمباشرة بين الرجل والمرأة هو الوسيلة الوحيدة لإفضاء كل منهما بما استكن في جسده لا يعدل عنها إلا لضرورة.
3 - التداوي جائز شرعًا بغير المحرم، بل قد يكون واجبًا إذا ترتب عليه حفظ النفس وعلاج العقم في واحد من الزوجين.
4 - تلقيح الزوجة بذات مني زوجها دون شك في استبداله أو اختلاطه بمني غيره من إنسان أو مطلق حيوان جائز شرعًا، فإذا ثبت ثبت النسب، فإن كان من رجل آخر غير زوجها فهو محرم شرعًا ويكون في معنى الزنا ونتائجه.
5 - تلقيح بويضة امرأة بمني رجل ليس زوجها، ثم نقل هذه البويضة الملقحة إلى رحم زوجة الرجل صاحب هذا المني- حرام ويدخل في معنى الزنا.
6 - أخذ بويضة الزوجة التي لا تحمل وتلقيحها بمني زوجها خارج رحمها (أنابيب) وإعادتها بعد إخصابها إلى رحم تلك الزوجة دون استبدال أو خلط بمني إنسان آخر أو حيوان لداع طبي، وبعد نصح طبيب حاذق مجرب بتعيين هذا الطريق - هذه الصورة جائزة شرعًا.
7 - التلقيح بين بويضة الزوجة ونطفة زوجها يجمع بينهما في رحم أنثى غير الإنسان من الحيوانات لفترة معينة يعاد بعدها الجنين إلى ذات رحم الزوجة -فيه إفساد لخليقة الله في أرضه ويحرم فعله.
8 - الزوج الذي يتبنى أي طفل انفصل، وكان الحمل به بإحدى الطرق المحرمة، لا يكون ابنًا له شرعًا، والزوج الذي يقبل أن تحمل زوجته من نطفة غيره، سواء بالزنا الفعلي أو بما في معناه - سماه الإسلام ديوثًا.
9 - كل طفل ناشئ بالطرق المحرمة قطعًا من التلقيح الصناعي، لا ينسب إلى أب جبرًا، وإنما ينسب لمن حملت به ووضعته باعتباره حالة ولادة طبيعية كولد الزنا الفعلي تمامًا.

(3/191)


10 - الطبيب هو الخبير الفني في إجراء التلقيح الصناعي أيًّا كانت صورته، فإن كان عمله في صورة غير مشروعة كان آثمًا وكسبه حرام وعليه أن يقف عند الحد المباح.
11 - إنشاء مستودع تستجلب فيه نطف رجال لهم صفات معينة، لتلقح بها نساء لهن صفات معينة - شر مستطير على نظام الأسرة، ونذير بانتهاء الحياة الأسرية كما أرادها الله.
وعلى ضوء هذه القواعد جاءت الفتوى تدور في فلكها فراجعها إن شئت في كتاب الفتاوى المجلد التاسع 1403هـ-1983م، ص 3213 وما بعدها. اهـ.
* الحقوق بين الزوجين (1):
(أ) حقوق الزوج على زوجته:
الأصل الذي بنيت عليه هذه الحقوق قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا} (2). فحق الرجل على زوجته عظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: "حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قرحة فلحستها ما أدت حقه" (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" (4).
وطاعة المرأة لزوجها من موجبات دخول الجنة: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت" (5).
فإذا كان الأمر كذلك فجدير بالمرأة المؤمنة أن تعرف حقوق زوجها عليها ومن ذلك:
1 - أن تطيعه فيما يأمرها:
فعن حصين بن محصن عن عمته قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أذات
_________
(1) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 418 - 437) مع شيء من الزيادة.
(2) سورة النساء: 34.
(3) صحيح: وقد تقدم تخريجه.
(4) الترمذي (1159)، وابن حبان (1291)، والبيهقي (7/ 291) وهو صحيح لغيره.
(5) صحيح: ابن حبان (4163) وهو صحيح.

(3/192)


زوج أنت؟ " قلت: نعم، قال: "فأين أنت منه؟ " قلت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: "فكيف أنت له، فإنه جنتك ونارك" (1).
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير النساء؟ قال: "التي تطيعه إذا أمر، وتسره إذا نظر، وتحفظه في نفسها وماله" (2).
* تنبيه: طاعة المرأة لزوجها ليست مطلقة فإنها مشروطة بما ليس فيه معصية لله تعالى، فإن أمرها زوجها بمعصية كأن تخلع حجابها أو تترك الصلاة أو أن يجامعها في حيضها أو في دبرها، فإنها لا تطيعه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" (3).
2 - أن تَقَرَّ في البيت، ولا تخرج إلا بإذنه:
قال تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} (4).
قال شيخ الإسلام: "لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه، ... وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة، عاصية لله ورسوله ومستحقة للعقوبة" (5).
3 - أن تعطيه إذا دعاها إلى الفراش:
وقد تقدم هذا قريبًا في "آداب الجماع".
4 - أن لا تأذن لأحد أن يدخل بيته إلا بإذنه:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: " ... وإنَّ لكم ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه" (6).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تأذن المرأة في بيت زوجها وهو شاهد إلا بإذنه" (7).
وهذا محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به وأما لو علمت رضا الزوج بذلك، فلا حرج عليها إن كان ممن يجوز له الدخول عليها، والله أعلم.
_________
(1) النسائي في «العشرة» (ص 106)، والحاكم (2/ 189)، والبيهقي (7/ 291)، وأحمد (4/ 341) وهو حسن.
(2) النسائي (6/ 68) وهو صحيح وقد تقدم.
(3) البخاري (7257)، ومسلم (1840).
(4) سورة الأحزاب: 33.
(5) «مجموع الفتاوى» (32/ 281).
(6) صحيح مسلم (1218).
(7) صحيح مسلم (1026).

(3/193)


5 - أن لا تصوم -صيام تطوع- وزوجها حاضر إلا بإذنه:
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل للمرأة أن تصوم -وزوجها شاهد- إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه" (1).
6 - أن تُنفق من ماله إلا بإذنه:
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنْفِقُ امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها" (2).
7 - أن تقوم بخدمته وخدمة أولاده:
فقد كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تخدم زوجها حتى اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى في يدها من الرحى (3).
وقالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "كنت أخدم الزبير بن العوام [زوجها] خدمة البيت كله، وكان له فرس، وكنت أسوسه، وكنت أحتش له، وأقوم" وكانت تعلف فرسه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له تبعد ثلثي فرسخ، أي عن بيتها (4).
قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" (34/ 90، 91):
"وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه فى مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز والطحن، والطعام لماليكه وبهائمه، مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة، وهذا القول ضعيف، كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء، فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب فى السفر الذى هو نظير الإنسان وصاحبه فى المسكن إن لم يعاونه على مصالحه لم يكن قد عاشره بالمعروف.
وقيل -وهو الصواب-: وجوب الخدمة، فإن الزوج سيدها فى كتاب الله، وهى عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)، وعلى العانى [أي: الأسير] والعبد الخدمة، ولأن ذلك هو المعروف، ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب، فعليها أن تخدمه
_________
(1) البخاري (5195)، والترمذي (782)، وابن ماجة (1761).
(2) أبو داود (3565)، والترمذي (670)، وابن ماجة (2295) وسنده حسن.
(3) صحيح: البخاري (5361)، ومسلم (2182).
(4) البخاري (5224)، ومسلم (2182).
(5) يعني حديث: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوانٍ عندكم» أخرجه مسلم (1218).

(3/194)


الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوَّع ذلك بتنوُّع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القويه ليست كخدمة الضعيفة" اهـ.
قلت: وإلى هذا ذهب أبو ثور، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو إسحاق الجوزجاني من الحنابلة، بينما ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب على المرأة خدمة زوجها وينبغي على الزوج أن يوفِّر لها من يقوم بخدمة حوائجها (!!) قالوا: لأن المعقود من جهتها الاستمتاع فلا يلزمها غيره (1). قلت: القول بإيجاب إيجاب الخدمة عليها بالمعروف أولى، قال ابن القيم في "الزاد" (5/ 187 - 188): "واحتج من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه، وأيضًا: فإن المهر في مقابلة البُضْع، وكل من الزوجين يقضي وطره من صاحبه، فإنما أوجب الله سبحانه نفقتها وكسوتها ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادة الأزواج.
وأيضًا: فإن العقود المطلقة إنما تُنزَّل على العُرف، والعرف خدمة المرأة، وقيامها بمصالح البيت الداخلية، وقولهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرُّعًا وإحسانًا يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: لا خدمة عليها وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدًا، ولما رأى أسماء والعلف على رأسها، والزبير معه، لم يقل: لا خدمة عليها، وإن هذا ظلم لها، بل أقرَّه على استخدامها، وأقرَّ سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه أن منهنَّ الكارهة والراضية، هذا أمر لا ريب فيه". اهـ.
وعلى كلٍّ لا شك أنه من التعاون على البر والتقوى، وهو مأمور به شرعًا. وليس معنى هذا أن لا يقوم الزوج بمساعدة زوجته في بعض ما تقوم به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأنف أن يقوم بذلك:
فعن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -تعني في خدمتهم- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" (2).
فعلى الزوج أن يراعي ظروف زوجته، فلا يرهقها ويحملها ما لا تستطيع.
_________
(1) «فتح القدير» (4/ 199)، و «المبسوط» (5/ 181)، و «الأم» (5/ 87)، و «المجموع» (18/ 256)، و «المغني» (7/ 21)، و «الإقناع» (4/ 139).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (676).

(3/195)


8 - أن تحفظه في عرضها وأولاده وماله:
قال تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} (1).
قال الطبري في "تفسيره":
يعني: حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن، في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن في حق الله في ذلك وغيره. اهـ.
وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم في خير النساء: " ... وتحفظه في نفسها وماله" (2).
9 - أن تشكر له، ولا تجحد فضله، وتعاشره بالمعروف:
فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه" (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: " ... ورأيت النار، لم أر كاليوم منظرًا قط، ورأيت أكثر أهلها النساء" قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن" قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط" (4).
ولسنا نعني بالشكر: شكر اللسان فحسب، وإنما نقصد معه إظهاره السرور والراحة بالحياة في كنفه والقيام على أموره وأمور ولده، وخدمته وعدم التخلي عنه عنه (5)، وعدم الشكاية منه وغير ذلك.
10 - أن تتزين له وتتجمل:
"فإن خير النساء من تسرك إذا نظرت" كما تقدم مرارًا.
11 - أن لا تَمُنَّ عليه إذا أنفقت عليه وعلى أولاده من مالها (6):
فإن المن يبطل الأجر والثواب، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (7).
_________
(1) سورة النساء: 34.
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) النسائي في «العِشرة» (249) وسنده صحيح.
(4) البخاري (29)، ومسلم (884).
(5) «الآداب الشرعية في المعاشرة الزوجية» لعمرو عبد المنعم (ص: 24) بتصرف يسير.
(6) «الوجيز» (ص 308) بتصرف يسير.
(7) سورة البقرة: 264.

(3/196)


12 - أن ترضى باليسير وتقنع به ولا تكلفه فوق طاقته (1):
قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا} (2).
13 - أن لا تفعل ما يؤذيه ويغضبه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا" (3).
14 - أن تحسن معاملة والديه وأقاربه (4).
15 - أن تحرص على الحياة معه فلا تطلب الطلاق لغير سبب شرعي:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" (5).
16 - أن تحد عليه إذا مات أربعة أشهر وعشرًا:
وقد تقدم هذا في "الجنائز".
(ب) حقوق الزوجة على زوجها:
وهي حقوق مالية كالمهر -وقد تقدم- والنفقة.
وحقوق غير مالية، ومن هذه الحقوق:
1 - حسن العشرة مع الزوجة:
والمراد به: إحسان الصحبة، وكف الأذى، وعدم مطل الحقوق مع القدرة، وإظهار البشر والطلاقة والانسباط.
والأصل في هذا قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} (6).
وقوله سبحانه: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (7).
_________
(1) «الوجيز» (ص 308) بتصرف يسير.
(2) سورة الطلاق: 7.
(3) الترمذي (1184)، وابن ماجة (2014) بسند حسن.
(4) انظر كتابي «250 خطأ من أخطاء النساء» (ص: 102).
(5) الترمذي (1199)، وأبو داود (2209)، وابن ماجة (2055) وهو صحيح.
(6) سورة النساء: 19.
(7) سورة البقرة: 228.

(3/197)


وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" (1).
وحسن العشرة لفظ جامع ترجع إليه جميع الحقوق، فما سنذكره بعد ذلك إنما هو جزء من حسن العشرة، وإنما نفرده لمزيد العناية به، ومن ذلك:
2، 3، 4 - النفقة، والكسوة، والسُّكنى، بالمعروف:
أما النفقة: فالمراد بها ما ينفقه الزوج على زوجته وأولاده من طعام وكسوة وسكنى ونحو ذلك، ونفقة الزوجة واجبة على الزوج بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول (2):
- أما الكتاب فمن ذلك:
1 - قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} (3).
2 - وقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (4).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن، من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره" اهـ.
- وأما السنة فمنها:
1 - حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (5).
2 - وحديث معاوية القشيري رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ ... قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت" (6).
_________
(1) الترمذي (3892)، وابن حبان (1312) وهو صحيح.
(2) «ابن عابدين» (3/ 886)، و «البدائع» (4/ 15)، و «بداية المجتهد» (2/ 94)، و «مغني المحتاج» (3/ 426)، و «المغني» (7/ 563)، و «روضة الطالبين» (9/ 40).
(3) سورة الطلاق: 7.
(4) سورة البقرة: 233.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1218).
(6) حسن: أخرجه أبو داود (2142)، وابن ماجة (1850)، وأحمد (4/ 447)، والنسائي في «العشرة» (269).

(3/198)


3 - وحديث عائشة رضي الله عنها: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطينى وولدى إلا ما أخذتُ وهو لا يعلم، قال: "خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف" (1).
- وأما الإجماع، فقد ذكر غير واحد من أهل العلم اتفاقهم على وجوب نفقة الزوجة على زوجها -إذا كان بالغًا- إلا الناشز.
- وأما المعقول: فإن المرأة محبوسة على الزوج، يمنعها من التصرف والاكتساب لتفرغها لحقه، فكان عليه أن ينفق عليها.
* سبب وجوب النفقة:
ذهب الحنفية إلى أن سبب وجوب النفقة على الزوج: حبس المرأة عليه، وقال الجمهور: سبب وجوب النفقة: الزوجية، أي: كونها زوجة (2).
* شروط وجوب النفقة:
اشترط الجمهور لإيجاب النفقة للزوجة على زوجها شروطًا، قبل الدخول، وبعده (3).
* الشروط قبل الدخول:
1 - أن تمكنه من الدخول بها: بأن تدعوه -بعد العقد- إلى الدخول بها، فإن لم تفعل أو امتنعت من الدخول بغير عذر فلا نفقة عليه.
2 - أن تكون الزوجة مطيقة للوطء: بأن لا تكون صغيرة أو بها مانع من الوطء.
3 - أن يكون الزواج صحيحًا: فإن كان فاسدًا، فلا نفقة لها على الزوج، ولا يمكن اعتبار الزوجة محبوسة على الزوج، لأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح، ولا يستحق في مقابلته بالاتفاق.
* الشروط بعد الدخول:
1 - أن يكون الزوج موسرًا: فلو كان معسرًا لا يقدر على النفقة، فلا نفقة عليه مدة إعساره، لقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته .... لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها} (4).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714).
(2) «البدائع» (4/ 16)، و «مغني المحتاج» (3/ 425)، و «المغني» (7/ 564).
(3) «البدائع» (4/ 18)، و «مغني المحتاج» (3/ 435)، و «المغني» (7/ 601)، و «بداية المجتهد» (2/ 94).
(4) سورة الطلاق: 7.

(3/199)


2 - أن تكون محبوسة عليه (تكون غير ناشز): فإذا خرجت عن طاعته فلا نفقة لها.
* فائدة: الزوجة العاملة أو الموظفة، هل لها نفقة؟
إذا كانت المرأة تعمل خارج بيتها (في عمل مباح!!) فإن كان برضا الزوج ولم يمنعها فإنه تجب لها النفقة، لأن الاحتباس عليه حقه، فله أن يتنازل عنه، فإن لم يرض ومنعها من الخروج فخرجت للعمل، سقط حقها في النفقة، لأن الاحتباس في هذه الحالة ناقص (1).
* تقدير النفقة الواجبة:
الأصل في هذا قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ...} (2). وقوله سبحانه {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (3)، وقوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (4).
فالمعتبر إذن:
1 - الكفاية للزوجة والأولاد بالمعروف، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأحوال والأمكنة والأزمنة.
2 - استطاعة الرجل وسعته.
وقد أطال الفقهاء -رحمهم الله- في تحديد القدر الواجب في النفقة، وفصلوا في ذلك بما نراه مبنيًّا على أعراف زمانهم (5)، وكذلك في مسألة النفقة: هل المعتبر فيها حال الزوج أو الزوجة أو حالهما؟ والصحيح الذي دلت عليه النصوص القرآنية المتقدمة أن المعتبر -في اليسار والإعسار- حال الزوج، وهو مذهب المالكية والشافعية (6).
_________
(1) «ابن عابدين» (2/ 891).
(2) سورة الطلاق: 7.
(3) سورة البقرة: 236.
(4) صحيح: تقدم قريبًا.
(5) انظر «البدائع» (4/ 23)، و «ابن عابدين» (2/ 886)، و «القوانين الفقهية» (221)، و «بداية المجتهد» (2/ 95)، و «مغني المحتاج» (3/ 426)، و «المغني» (7/ 564 - 571).
(6) «الشرح الصغير» (2/ 731 - وما بعدها)، و «المغني» (7/ 564 - 571).

(3/200)


* هل يلزم الزوج بنفقة علاج زوجته؟
مذهب الأئمة الأربعة أن الزوج لا يجب عليه نفقة علاج زوجته وتداويها (1)!! لكن الظاهر أن مبنى هذا القول على أن المداواة -في الماضي- لم تكن من الحاجات الأساسية ولم تكن تكثر الحاجة إليها، "أما الآن فقد أصبحت الحاجة إلى العلاج كالحاجة إلى الطعام والغذاء، بل أهم، لأن المريض يفضل -غالبًا- ما يتداوى به على كل شيء، وهل يمكنه تناول الطعام وهو يشكو ويتوَّجع من الآلام والأوجاع التي تبرح به وتجهده وتهدده بالموت؟!
لذا فإنا نرى وجوب نفقة الدواء على الزوج كغيرها من النفقات الضرورية، وكما تجب على الوالد نفقة الدواء اللازم للولد بالإجماع، وهل من حسن العشرة أن يستمتع الزوج بزوجته حال الصحة، ثم يردَّها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟!! " اهـ (2).
* وأما الكسوة: فقد أجمع أهل العلم على أنه تجب الكسوة للزوجة على زوجها إذا مكنته من نفسها على الوجه الواجب عليها، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (3).
ولما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم -في حديث جابر-: " ... ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (4).
ولأن الكسوة لابد منها على الدوام، فلزمته كالنفقة، كما أجمعوا على أنه يجب أن تكون الكسوة كافية للمرأة، وأن هذه الكفاية تختلف باختلاف طولها وقصرها وسمنها وهزالها وباختلاف البلاد التي تعيش فيها في الحر والبرد (5).
* فائدة: لو كساها الزوج ثم طلقها أو مات أو ماتت قبل أن تبلى الثياب، فهل يسترجعها؟
إذا استلمت المرأة نفقتها المفروضة ثم طلقها الزوج أو توفي عنها أو توفيت،
_________
(1) «ابن عابدين» (2/ 889)، و «الدسوقي» (2/ 511)، و «مغني المحتاج» (3/ 431)، و «كشاف القناع» (5/ 536).
(2) «الفقه الإسلامي وأدلته» د. وهبة (7/ 794 - 795).
(3) سورة البقرة: 233.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1218) وقد تقدم.
(5) «البدائع» (4/ 24)، و «ابن عابدين» (2/ 645 - 654)، و «جواهر الإكليل» (1/ 403)، و «روضة الطالبين» (9/ 47).

(3/201)


فلا يجوز للزوج ولا لورثته استرجاعها في أصحِّ قولي العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والأصح عند الشافعية ووجه عند الحنابلة (1).
لأنه وفَّاها ما عليه ودفع إليها الكسوة بعد وجوبها عليه، فلم يكن له الرجوع فيها.
ولأنها صلة فأشبهت الهبة، ولا يجوز الرجوع في الهبة في حال وفاة الواهب أو الموهوب.
* وأما السُّكنى: فهي واجبة للزوجة على زوجها بالاتفاق:
1 - لأن الله تعالى جعل للمطلقة الرجعية السكنى على زوجها، فوجوب السكنى للتي هي في صُلب النكاح أولى.
قال الله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} (2).
2 - ولأن الله تعالى أوجب المعاشرة بالمعروف بين الأزواج بقوله: {وعاشروهن بالمعروف} (3). ومن المعروف المأمور به أن يُسكنها في مسكن تأمن فيه على نفسها ومالها.
3 - كما أن الزوجة لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون والاستمتاع وحفظ المتاع فلذلك كانت السكنى حقًا لها على زوجها (4).
* صفة المسكن الشرعي: المعتبر في المسكن الشرعي للزوجة هو سعة الزوج وحال الزوجة، قياسًا على النفقة باعتبار أن كلًّا منهما حق مترتب على عقد الزواج.
ولقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث من وجدكم} وقوله سبحانه: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} (5).
فالواجب يكون بقدر حال المنفعة يسرًا وعسرًا وتوسطًا فكذلك السكنى، وهو مذهب الجمهور.
وقال الشافعية: المعتبر في المسكن الشرعي هو حال الزوجة فقط، على خلاف قولهم في النفقة!!
_________
(1) «ابن عابدين» (2/ 660)، و «جواهر الإكليل» (1/ 404)، و «روضة الطالبين» (9/ 55)، و «المغني» (7/ 572).
(2) سورة الطلاق: 6.
(3) سورة النساء: 19.
(4) «البدائع» (4/ 15)، و «تحفة المحتاج» (7/ 443)، و «الفرع» لابن مفلح (5/ 577).
(5) سورة الطلاق: 7.

(3/202)


قالوا: لأن الزوجة ملزمة بملازمة السكن، فلا يمكنها إبداله، فإذا لم يعتبر حالها فذلك إضرار بها، والضرر منهي عنه شرعًا، أما النفقة فيمكنها إبدالها (1).
قلت: ومذهب الجمهور أولى للآيات المتقدمة، والله أعلم.
* فوائد:
1 - سكنى الزوجة مع أهل الزوج (2): والمراد بهم هنا: الوالدان وولد الزوج من غير الزوجة.
فذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) إلى أنه لا يجوز الجمع بين الأبوين (أو غيرهما من الأقارب) والزوجة في مسكن واحد، ويكون للزوجة الامتناع عن السكنى مع واحد منهما إلا أن تختار هي ذلك، لأن السكنى من حقها فليس له أن يُشرك غيرها فيه، ولأنها تتضرر بذلك.
وأما المالكية ففرقوا بين الزوجة الشريفة (ذات القدر) والوضيعة، فمنعوا جمع الشريفة مع أبويه، وأجازوه في الوضيعة إلا أن يكون فيه ضرر عليها.
وأما جمع الزوجة وولد الزوج في مسكن واحد: فإن كان كبيرًا يفهم الجماع، لم يجز باتفاق الفقهاء، لما فيه من الضرر بها، وهو حقها فيسقط برضاها.
وإن كان ولد الزوج صغيرًا لا يفهم الجماع: فإسكانه معها جائز وليس لها حق الامتناع من السكنى معه.
2 - سكنى أهل الزوجة مع الزوج (3):
ليس للمرأة أن تُسكن أحدًا من محارمها في منزل زوجها، وللزوج أن يمنعها من إسكانهم معها، إلا أن يرضى فلا حرج حينئذٍ.
وأما ولدها من غير الزوج، فلا يجوز لها إسكانه معها بغير رضا الزوج كذلك عند الجمهور، وقيَّد المالكية المنع بما إذا كان الزوج عالمًا به وقت البناء، فإن كان يعلم به ولم يكن له حاضن فليس له منعها من إسكانه معها عندهم.
3 - هل تُجمع الزوجات في بيت واحد؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الجمع بين امرأتين في مسكن واحد، لأن ذلك
_________
(1) «البجيرمي على المنهج» (2/ 102)، و «مغني المحتاج» (3/ 432).
(2) «البدائع» (4/ 24)، «حاشية الدسوقي» (2/ 474)، و «مغني المحتاج» (3/ 430).
(3) «البحر الرائق» (4/ 210)، و «نهاية المحتاج» (7/ 597)، و «كشاف القناع» (3/ 117).

(3/203)


ليس من المعاشرة بالمعروف، ولأنه يؤدي إلى الخصومة التي نهى الشارع عنها، ولأن كل واحدة منهما قد تسمع حسَّه إذا أتى
الأخرى أو ترى ذلك، مما يثير بينهما العداوة والغيرة ونحو ذلك. ومنع الجمع بين امرأتين في مسكن واحد حق خالص لهما، فيسقط برضاهما عند الجمهور (1).
قلت: الأصل أن يجعل لكل زوجة منهن بيتًا كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ...} (2).
فذكر سبحانه أنها بيوت ولم تكن بيتًا واحدًا، لكن إذا رضيتا بذلك جاز، لأن الحق لهما، فلهما المسامحة بتركه، والله أعلم (3).
* تنبيه: سيأتي مزيد بيان لبعض مسائل النفقة والسكنى في أبواب عدة المطلَّقة إن شاء الله.
5 - التلطف بالزوجة وملاعبتها وتقدير صغر سِنِّها:
وليكن لهذا الزوج في رسول الله الأسوة الحسنة، فعن عائشة قالت: "كان الحبش يلعبون، فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو" (4).
ويسابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها ويقول لها: "تعالي أسابقك" فتسبقه، ثم يسابقها بعد أن بدنت وحملت اللحم فيسبقها ويضحك ويقول: "هذه بتلك" (5).
وقالت عائشة: "كنت ألعب بالبنات [العرائس من القطن] عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إليَّ فيلعبن معي" (6).
فأي حلم بعد هذا مع الزوجة!! (7).
_________
(1) «فتح القدير» (4/ 207)، و «مواهب الجليل» (4/ 13)، و «نهاية المحتاج» (7/ 186)، و «كشاف القناع» (5/ 196)، و «الفروع» (5/ 324).
(2) سورة الأحزاب: 53.
(3) انظر كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 440) ط. التوفيقية.
(4) البخاري (5190)، ومسلم (892).
(5) مسند أحمد (6/ 264) بسند صحيح.
(6) البخاري (6130)، ومسلم (2440).
(7) «فقه التعامل بين الزوجين» لشيخنا مصطفى العدوي - أثابه الله - (ص 41).

(3/204)


5 - أن يَسْمُر مع زوجته يُحدِّثها ويستمع إلى حديثها:
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم مستمعًا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي تقص عليه حديث النسوة اللاتي جلسن وتعاقدن أن لا يكتمن من خبر أزواجهن شيئًا وهو حديث أم زرع وهو حديث طويل، ومع ذلك لا يملُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة وهي تقصُّه عليه.
وها هو الحديث أذكره مع بعض فوائده (1):
قالت عائشة رضي الله عنها:
جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبارهن شيئًا.
قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث (2) على رأس جبل (3) لا سهل (4) فيُرتقى (5) ولا سمين (6) فيُنتقل (7).
قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره (8) إني أخاف أن لا أَذَرَه (9) إن أذكرهُ أذكر
_________
(1) السابق ص (43 - 55) والحديث عند البخاري (5189)، ومسلم (2448).
(2) الغث: الهزيل النحيف الضعيف.
(3) في رواية: على رأس جبل وعر.
(4) أي: الجبل ليس بسهل، والمعنى: أن صعوده شاق لوعورته.
(5) يُرتق أي: يُصعد عليه.
(6) المراد: اللحم.
(7) يُنتقل، أي: يتحول.
والمعنى الإجمالي لقولها - والله أعلم - أنها شبهت زوجها بلحم الجمل الضعيف الهزيل، وهذا اللحم رغم أنه لحم جمل ضعيف هزيل فهو موضوع على قمة جبل وعر يصعب الصعود إليه، فالجبل ليس بسهل للارتقاء واللحم ليس بسمين يستحق مكابدة المشاق.
وتنزيل هذا على الزوج كالتالي: أنها تذم زوجها فتقول: إن لحمه كلحم الإبل ليس كلحم الضأن الطيب، والمعنى: أنها لا تستمتع بزوجها ذلك الاستمتاع المطلوب فهو رجل ضعيف لحمه غير جيد، وكأنها تصف مضاجعته لها، تعني: أنني إذا استمتعت منه بشيء فكأني آكل لحم الجمل الهزيل وهو مع هذه الحالة من الهزال والضعف خُلقه سيئ فلا أحد يعرف كيف يتكلم معه ولا كيف يتخاطب معه ولا يصل إليه لسوء خلقه، وحتى إذا وصلت إليه بعد مكابدتي المشاق فماذا عَساي أن أحصل منه، إنني بعد هذا الجهد للوصول إليه لا أجد شيئًا يستحق أن آخذه وأنتقل به واستمتع به، والله أعلم.
(8) أبث معناها: أنشر.
(9) أذره: أتركه، والمعنى: أترك خبره.

(3/205)


عُجَرَهُ (1) وَبُجَرَه (2).
قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق (3) إن أنطق أطلَّق وإن أسكت أعلَّق (4).
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامةَ (5) لا حَرٌّ ولا قَرٌّ ولا مخافة ولا سآمة (6).
قالت الخامسة: زوجى إن دخل فَهِد (7)، وإن خرج أَسِدَ (8)، ولا يَسألُ عما عَهِد (9).
_________
(1)، (1) عُجره وبُجره: العُجر هي العروق والأعصاب التي تنتفخ وتظهر في الوجه والجسد عند الغضب أو عند الكبر، والبُجر مثلها إلا أنها محتصة بالبطن.
والمعنى الإجمالي - والله أعلم - أن المرأة تشير إلى أن زوجها مليء بالعيوب، فهي تقول إنني إذا تكلمت فيه ونشرت أخباره أخشى أن استمر في الحديث ولا انتهى لكثرة ما فيه من شرور وانفعالات، وماذا أذكر من زوجي إن ذكرت منه شيئًا فالذي أذكره هو العُقد الموجودة في وجهه وانتفاخ أوداجه والنتوء الظاهرة في عروق البطن والجسد، هذا الذي أذكره منه.
ومن العلماء من قال: إن معنى قولها إني أخاف أن لا أذره أي: أخاف أن لا أتحمل مفارقته فإنه إذا بلغه أنني تكلمت فيه طلقني فأخشى من مفارقته لوجود أولادي وعلاقتي به، والأول أولى، والله أعلم.
(2)
(3) العَشَنَّق: هو الطويل المذموم الطول، وقيل: هو السيئ الخُلق، وقيل: هو النجيب الذي يملك أمر نفسه ولا تتحكم فيه النساء، وقيل عكس ذلك، أنه الأهوج الذي لا يستقر على حال.
(4) أما قولها: إن أنطق أُطلق وإن أسكت أعلق: فمعناه - والله أعلم - إذا تكلمت عنده وراجعته في أمر طلقني وإن سكَتُّ على حالي لم يلتفت إليَّ وتركني كالمعلقة التي لا زوج لها ولا هي أيم، فلا زوج عندها ينتفع به ولا هي أيم تبحث عن زوج لها، والله أعلم.
(5) قولها: كليل تهامة، أما تهامة فبلاد تهامة المعروفة، والليل في هذه البلاد معتدل والجو فيها طيب لطيف، فهي تصف زوجها بأنه لين الجانب هادئ الطبع رجل لطيف.
(6) مخافة: من الخوف، والسآمة من قولهم: سأم الرجل، أي: ملَّ وتعب، والمعنى أنني أعيش مع زوجي آمنة مطمئنة مرتاحة البال لست خائفة ولا أملُّ من معيشته معي، وحالي عنده كحال أهل تهامة وهم يستمتعون بلذة ليلهم المعتدل وجو بلادهم اللطيف.
(7) فهد بفتح الفاء وكسر الهاء وفتح الدال من الفهد المعروف، أي فيه من خصال الفهد.
(8) أسَد بفتح الألف وكسر السين وفتح الدال من الأسد، أي فيه من خصال الأسد.
(9) هذا الوصف الذي وصفت به المرأة زوجها محتمل احتمالين: إما المدح وإما الذم.
أما المدح فله وجوه، أحدها: أنها تصف زوجها بأنه فهد لكثرة وثوبه عليها وجماعه لها فهي محبوبة عنده لا يصبر إذا رآها، أما هو في الناس إذا خرج فشجاع كالأسد.
وقولها: لا يسأل عما عهد أي: أنه يأتينا بأشياء من طعام وشراب ولباس ولا يسأل أين ذهبت هذه، ولا تلك.
والوجه الثاني للمدح أنه إذا دخل البيت كان كالفهد في غفلته عما في البيت من خلل وعدم مؤاخذته لها على القصور الذي في بيتها، وإذا خرج في الناس فهو شجاع مغوار كالأسد، ولا يسأل عما عهد، أي أنه يسامحها في المعاشرة على ما يبدو منها من تقصير.
أما الذم فهي تصف زوجها بأنه إذا دخل كان كالفهد في عدم مداعبته لها قبل المواقعة، وأيضًا سيئ الخلق يبطش بها ويضربها ولا يسأل عنها، فإذا خرج من عندها وهي مريضة ثم رجع لا يسأل عنها ولا عن أحوالها ولا عن أولاده، والله أعلم.

(3/206)


قالت السادسة: زوجى إن أكل لَفَّ (1)، وإن شرب اشتفَّ (2)، وإن اضطجع التفَّ (3)، ولا يُولجُ الكفَّ ليعلم البثَّ (4).
قالت السابعة: زوجى غَيَاياء (5) -أو: عَيَاياء (6) - طباقاء (7) كلُّ داء لهُ داءٌّ، شَجَّكِ (8) أو فَلَّكِ (9) أو جَمَع كُلًّا لكِ.
قالت الثامنة: زوجى المسُّ مسُّ أرنَب (10)، والريح ريحُ زرْنب (11).
قالت التاسعة: زوجى رفيعُ العماد (12)، طويل النِّجاد (13)، عظيم
_________
(1) أي: مر على جميع ألوان الطعام التي على السفرة فأكل منها جميعًا.
(2) اشتف أي: شرب الماء عن آخره.
(3) أي: التف في اللحاف والفراش وحده بعيدًا عني.
(4) لا يدخل يده إلى جسدي ويرى ما أنا عليه من حال وأحزان، فهي تصف زوجها بما يُذم به الرجل وهو كثرة الأكل والشرب وقلة الجماع، والله أعلم.
(5)، (6) الغياياء هو الأحمق، والعياياء (من العي) الذي لا يستطيع جماع النساء.
(6) طباقاء بلغ الغاية في الحمق.
(7) شجَّك أي: إذا كلمتيه شجَّك والشج هو الجرح في الرأس.
(8) والفلول هي الجروح في الجسد، والمعنى: إذا راجعته في شيء ضربني على رأسي فكسرها أو على جسدي فأدماه أو جمعهما لي معًا، أي جمع لي الضرب على الرأس (الذي هو الشج) مع جراح الجسد (الفلول)، والله أعلم.
(9)
(10) قولها: المس مس أرنب، أي: أن زوجها إذا مسته وجدت بدنه ناعمًا كوبر الأرنب، وقيل: كَنَّت بذلك عن حسن خلقه ولين عريكته بأنه طيب العرق لكثرة نظافته واستعماله الطيب تظرفًا.
وفي رواية: أنا أغلبه والناس يغلب.
(11) الزرنب نبت له ريح طيب، فهي تصف زوجها بحسن التجمل والتطيب لها، والله أعلم.
(12) رفيع العماد تعني: أن بيته مرتفع كبيوت السادة والأشراف حتى يقصده الأضياف.
(13) طويل النجاد: النجاد هو حمالة السيف، كجراب السيف تصفه بالجرأة والشجاعة.

(3/207)


الرماد (1)، قريب البيت من الناد (2).
قالت العاشرة: زوجى مالك (3) وما مالك، مالكٌ خيرٌ من ذلك (4)، له إبلٌ كثيرات المبارك قليلاتُ المسارح (5)، وإذا سمعن صوتَ المزْهر (6) أيقنَّ أنهن هوالك.
قالت الحادية عشرة: زوجى أبو زرع فما أبو زرع، أناس (7) من حُلىٍّ أذنىَّ، وملأ من شحم عضُديَّ (8)، وبجَّحنى فَبَجحَتْ (9) إليَّ نفسى، وجدنى فى أهل غُنَيمة بشقٍّ (10)، فجعلنى فى أهل
صهيل (11) وأَطيط (12) ودائس (13) ومُنق (14)
_________
(1) المراد بالرماد الحطب الذي نشأ عن إيقاد النار في الخشب والحطب، وكونه عظيم الرماد يدل على أنه كريم يكثر الأضياف من المجيء إليه فيكثر من الذبح والطهي لهم فيكثر الرماد لذلك، وهو أيضًا كريم في أهله.
(2) قريب البيت من الناد أي: من النادي، فالناس يذهبون إليه في مسائلهم ومشاكلهم، فالمعنى أنها تصفه بالسيادة والكرم وحسن الخلق وطيب المعاشرة، والله أعلم.
(3) زوجها اسمه مالك.
(4) أي: خيرٌ من المذكورين جميعًا.
(5) أي: أن من الإبل من يسرح ليرعى، وكثير منها يبقى بجواره استعدادًا لإكرام الضيف بذبحها.
(6) المزهر آلة كالعود - على ما قاله بعض العلماء - يُضرب به لاستقبال الأضياف والترحيب بهم.
والمعنى: أن الإبل إذا سمعت صوت المزهر علمن أن هناك أضيافًا قد وصلوا، فإذا وصل الأضياف أيقنت الإبل أنها ستذبح، والله أعلم.
(7) أناس من النوس وهو الحركة، والمعنى حرك أذني بالحلي، والمعني أيضًا: أكثر في أذني من الحلي حتى تدلى منها واضطرب وسمع له صوت.
(8) أي: أن عضديها امتلأت شحمًا.
(9) بجحني، أي: عظمني وجعلني أتبجح فعظمت إليَّ نفسي وتبجحت.
(10) بشق، قيل: هو مكان وقيل: شق جبل، والمعنى وجدني عندما جاء يتزوجني أعيش أنا وأهلي في فقر وفي غنيمات قليلة نرعاها بشق الجبل.
(11) أي: صهيل الخيول.
(12) أطيط أي: إبل، أي أنها أصبحت في رفاهية بعد أن كانت في ضنك من العيش.
(13) الدائس هو ما يُدلس، وهي القمح الذي يداس عليه ليخرج منه الحبُّ ويفصل عنه التبن كما يفعل الآن في بعض بلاد الريف يرمون القمح في طريق السيارات كي تدوسه فتفصل بين الحب والتين، وكان الدائس في زمان السلف هي الدواب.
(14) المُنق هو الذي له نقيق، قال بعض العلماء: هو الدجاج.
والمعنى: أنها أصبحت في ثروة واسعة من الخيل والإبل والزرع والطيور وغير ذلك.

(3/208)


، فَعِنْدَه أقول فلا أقبَّح (1)، وأرقُدُ فَأَتَصَبَّحُ (2)، وأشرب فأتقنَّح (3).
أم أبى زرع، فما أم أبى زرع؟ عكومها (4) رَدَاحٌ (5)، وبيتها فساحٌ.
ابن أبى زرع، فما ابن أبى زرع؟ مضجعه كمسلِّ شَطْبَة (6). ويُشبعه ذراع الجَفْرة (7). بنتُ أبى زرع، فما بنتُ أبى زرع؟ طوعُ أبيها، وطوعُ أمها، وملءُ كِسائها (8)، وغيظُ جارتها (9).
جارية أبى زرع، فما جارية أبى زرع؟ لا تَبُثُّ (10) حديثَنا تَبثيثًا، ولا تُنَقَّثُ (11) مِيراثنا (12) تنقيثًا، ولا تملأ بيتنا تعشيشًا (13).
_________
(1) أي: لا يقبح قولي ولا يرده بل أنا مُدللة عنده.
(2) أي: أنام إلى الصباح لا يوقظني أحدٌ لعمل بل هناك الخدم الذين يعملون لي الأعمال فلا يقول لي: قومي جهزي طعام ولا اعلفي دابة ولا هيئي المركب بل هناك من الخدم من يكفيني ذلك.
(3) أتقَّنح أي: أشرب حتى أرتوي، وقيل: أشرب على مهل لأني لا أخشى أن ينتهي اللبن فهو موجود دائمًا.
(4) العكوم هي الأعدال والأحمال التي توضع فيها الأمتعة.
(5) رداح أي: واسعة عظيمة.
والمعنى: أنها وصفت والدة زوجها بأنها كثيرة الآلات والأثاث والمتاع والقماش، وبيتها متسع كبير ومالها كثير تعيش في خير كثير وعيش رغيد وفير.
(6) الشطبة: هي سعف الجريد الذي يشق فيؤخذ منه قضبان رقاق تنسج منه الحصر، والمسل هي العود الذي سُلَّ (أي: سُحب) من هذه الحصيرة. تعني: أن المضجع الذي ينام فيه الولد الصغير، قدر عود الحصير الذي يسحب من الحصيرة، أي: أن الولد لا يشغل حيزًا كبيرًا في البيت.
أما الحافظ بن حجر - رحمه الله - فقال: «فتح الباري» 9/ 179): ويظهر لي أنها وصفته بأنه خفيف الوطأة عليها، لأن زوج الأب غالبًا يستثقل ولده من غيرها فكان هذا يخفف عنها، فإذا دخل بيتها فاتفق أنه قال فيه: (أي: نام فيه) مثلًا لم يضطجع إلا قدر ما يسل السيف من غمده ثم يستيقظ؛ مبالغةً في التخفيف عنها.
(7) الجفرة هي: الأنثى من الماعز التي لها أربعة أشهر.
وتعني: أن الولد ليس بكثير الطعام ولا الشراب.
(8) أي: أن جسمها ممتلئ آتاها الله بسطة فيه.
(9) قيل: جارتها: ضرتها، وقيل: جارتها على الحقيقة.
(10) لا تبث أي: لا تنشر ولا تُظهر.
(11) أي: لا تخولنا فيه ولا تسرق منه.
(12) في رواية: ميرتنا، والمعنّي بها الطعام.
(13) أي: أنها نظيفة وتنظف البيت فلا تترك البيت قذرًا دنسًا مليئًا بالخرق ومليئًا بما لا فائدة فيه.
ومعنى آخر: أنها لا تدخل على بيتنا شيئًا من الحرام وأيضًا لا تترك الطعام يفسد.

(3/209)


قالت: خرج أبو زرع والأوطابُ تَمْخَضُ (1)، فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين (2) يلعبان من تحت خصرها برمانتين (3)، فطلقنى ونكحها، فنكحت بعده رجلًا سَريًّا (4)، ركب شريًّا (5)، وأخذ خطيًّا (6)، وأراح (7) عليَّ نعمًا ثريًّا (8)، وأعطانى من كل رائحة (9) زوجًا وقال: كُلى أمَّ زرع وميرى (10) أهلك، قالت: فلو جمعت كل شىء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبى زرع (11)، قالت عائشة: قال رسول الله
_________
(1) الأوطاب: هي قدور اللبن وأوعيته، وتمخض أي: تُخضُّ كي يستخرج منها الزبد والسمن.
ومن أهل العلم من قال: إنه خرج من عندها وهي تمخض اللبن فكانت متعبة فاستلقت فرآها متعبة فكأنه زهد فيها.
(2) أي: أنه سُرَّ بالوالدين وأُعجب بهما ومن ثمَّ أحب أن يرزق منها بالولد.
(3) ذكر بعض أهل العلم أن معناه أن إليتيها عظيمتان فإذا استلقت على ظهرها ارتفع جسمها الذي يلي إليتيها من ناحية ظهرها عن الأرض حتى لو جاء الطفلان يرميان الرمانة من تحتها مرت الرمانة من تحت ظهرها وذلك من عظم إليتيها.
وقال آخر أن الطفلين يلعبان وهما مجاورين لها، ومنهم من حمل الرمانتين على ثدييها، ودلَّل بذلك على صغَر سنها أي أن ثديها لم يتدل من الكبر.
(4) سريًّا أي: من سراة الناس وهم كبراؤهم في حسن الصورة والهيئة.
(5) شريًّا أي: فرسًا جيدًا خيارًا فائقًا يمضي في سيره بلا فتور.
(6) هو الرمح الخطي أي: الذي يجلب من موضع يقال له: الخط، وهو موضع بنواحي البحرين كانت تجلب منه الرماح.
(7) أراح أي: أتى بها إلى المراح وهو موضع الماشية، أو رجع إليَّ (عند رواحه).
(8) الثرى: هو المال الكثير من الإبل وغيرها.
(9) في رواية (ذابحة)، المعنى: أعطاني من كل شيء يذهب ويروح صنفين فمثلًا الإبل والغنم والبقر والعبيد وغيرها تروح فكل شيء يروح (أو كل شيء يذبح) أعطاني منه بدلًا من الواحد اثنين أو أعطاني منه صنفًا.
(10) الميرة هي الطعام، زمنه قول إخوة يوسف - عليهم السلام -: {ونمير أهلنا} [يوسف: 65] أي: نجلب لهم الميرة، والمراد أنه قال لها: صليهم وأوسعي عليهم بالمبرة.
فهذه المرأة وصفت زوجها بالسيادة والشجاعة والفضل والجود والكرم فهو رجل يركب أفضل الفرسان ويخرج غازيًا معه سهمٌ جيد من أجود السهام فيرجع منتصرًا غانمًا الغنيمة فيُدخل عليَّ من كل نوع مما يُذبح زوجًا ولا يضيق عليَّ في الإهداء وصلة أهلي بل يقول: كُلي يا أم زرع وصلي أهلك وأكرميهم.
(11) من العلماء من قال: إن الذي يجمعه هذا الزوج من الغزوة إذا قُسم على الأيام حتى تأتي الغزوة الثانية كان نصيب كل يومٍ من الأيام لا يملأ أصغر إناء من آنية أبي زرع.
والذي يظهر لي أنها أرادت المبالغة في فضل أبي زرع، والله أعلم.

(3/210)


-صلى الله عليه وسلم-: "كنت لك كأبى زرع لأم زرع" (1).
_________
(1) هذا هو القدر المرفوع من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وها هي بعض الفوائد المتعلقة بحديث أم زرع ذكرها الحافظ بن حجر - رحمه الله - فقال: وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفضِ ذلك إلى ما يمنع، وفيه المزح أحيانًا وبسط النفس به ومداعبة الرجل أهل وإعلامه بمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسده تترتب على ذلك من تجنبها عليه وإعراضها عنه. وفيه منع الفخر بالمال وبيان جواز ذكر الفضل بأمور الدين، وإخبار الرجل أهله بصورة حاله معهم وتذكيرهم بذلك لاسيما عند وجود ما طعن عليه من كفر الإحسان. وفيه ذكر المرأة إحسان زوجها، وفيه إكرام الرجل بعض نسائه بحضور ضرائرها بما يخصها به من قول أو فعل، ومحله عند السلامة من الميل المفضي إلى الجور، وقد تقدم في أبواب الهبة جواز تخصيص بعض الزوجات بالتحف واللطف إذا استوفى للأخرى حقها. وفيه جواز تحدث الرجل مع زوجته في غير نوبتها. وفيه الحديث عن الأمم الخالية وضرب الأمثال بهم اعتبارًا، وجواز الانبساط بذكر طرف الأخبار ومستطابات النوادر تنشيطًا للنفوس. وفيه حض النساء على الوفاء لبعولتهن وقصر الطرف عليهم والشكر لجميلهم، ووصف المرأة زوجها بما تعرفه من حسن وسوء، وجواز المبالغة في الأوصاف، ومحله إذا لم يصر ذلك ديدنًا لأنه يفضي إلى خرم المروءة. وفيه تفسير ما يجمله المخبر من الخبر إما بالسؤال عنه وإما ابتداء من تلقاء نفسه، وفيه أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز إذا قصد التنفير عن ذلك الفعل ولا يكون ذلك غيبة أشار إلى ذلك الخطابي، وتعقبه أبو عبد الله التميمي شيخ عياض بأن الاستدلال بذلك إنما يتم أن لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع المرأة تغتاب زوجها فأقرها، وأما الحكاية عمن ليس بحاضر فليس كذلك وإنما هو نظير من قال: في الناس شخص يسئ، ولعل هذا هو الذي أراده الخطابي فلا تعقب عليه، وقال المازري قال بعضهم: ذكر بعض هؤلاء النسوة أزواجهن بما يكرهون ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم، قال المازري: وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان من تحدث عنده بهذا الحديث سمع كلامهن في اغتياب أزواجهن فأقرهن على ذلك، فأما والواقع خلاف ذلك وهو أن عائشة حكت قصة عن نساء مجهولات غائبات فلا، ولو أن امرأة وصفت زوجها بما يكرهه لكان غيبة محرمة على من يقوله ويسمعه، إلا إن كانت في مقام الشكوى منه عند الحاكم، وهذا في حق المعين فأما المجهول الذي لا يعرف فلا حرج في سماع الكلام فيه لأنه لا يتأذى إلا إذا عرف أن من ذكر عنده يعرفه، ثم إن هؤلاء الرجال مجهولون لا تعرف أسماؤهم ولا أعيانهم فضلًا عن أسمائهم ولم يثبت للنسوة إسلام حتى يجري عليهن حُكم الغيبة فبطل الاستدلال به لما ذكر، وفيه تقوية لمن كره نكاح من كان لها زوج لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام زوجها الثاني لها بقدر طاقته، ومع ذلك حقرته وصغرته بالنسبة إلى الزوج الأول، وفيه أن الحب يستر الإساءة، لأن أبا زرع مع إساءته لها بتطليقها لم يمنعها ذلك من المبالغة في وصفه إلى أن بلغت حد الإفراط والغلة. وقد وقع بعض طرقه إشارة إلى أن أبا زرع ندم على طلاقها وقال في ذلك شعرًا، ففي رواية عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عن عائشة أنها حدثت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي زرع وأم زرع وذكرت شعر أبي زرع على أم زرع. وفيه جواز وصف النساء ومحاسنهن للرجل، لكن محله إذا كن مجهولات، والذي يمنع من ذلك وصف المرأة المعينة بحضرة الرجل أو أن يذكر من وصفها ما لا يجوز للرجال تعمد النظر إليه وفيه أن التشبيه لا يستلزم مساواة المشبه بالمشبه به من كل جهة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت لك كأبي زرع» والمراد ما بينه بقوله في رواية الهيثم في الألفة إلى آخره لا في جميع ما وصف به أبو زرع من الثروة الزائدة والابن الخادم وغير ذلك وما لم يذكر من أمور الدين كلها. وفيه أن كناية الطلاق لا توقعه إلا مع مصاحبة النية فإنه - صلى الله عليه وسلم - تشبه بأبي زرع، وأبو زرع قد طلق فلم يستلزم ذلك وقوع الطلاق لكونه لم يقصد إليه، وفيه جواز التأسي بأهل الفصل من كل أمة ... اهـ (نقلًا عن «فقه التعامل بين الزوجين»).

(3/211)


7 - أن يعلمها أمور دينها ويحثَّها على الطاعة:
فكما أن الزوج مطالب بحسن العشرة التي تقتضي التلطف مع الزوجة على النحو الذي تقدم، فإنه -كذلك- مطالب بأن لا يتوانى ولا يفتر عن تعليمها وحثها على طاعة الله تعالى.
وقد قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة} (1).
وعن أم سلمة -رضى الله عنها- قالت: استيقظ النبى -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: "سبحان الله، ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحب الحُجَر (2)، فرُبَّ كاسية فى الدنيا، عارية فى الآخرة" (3).
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلَّت، فإن أَبَتْ نضح فى وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت، وأيقظت زوجها فصلَّى، فإن أبى نضحت فى وجهه الماء" (4).
_________
(1) سورة التحريم: 6.
(2) يعني: أزواجه كي يقمن فيصلين.
(3) صحيح البخاري (115).
(4) مسند أحمد (2/ 250) بسند حسن.

(3/212)


8 - أن يَغُضَّ الطرف عن بعض أخطائها ما لم يكن فيه إخلال بشرع الله:
وإلى هذا يرشد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يَفْرِك (1) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر" (2).
9 - أن لا يؤذيها بضربها في وجهها أو تقبيحها:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " .. ولا تضرب الوجه، ولا تقبح .. " (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم" (4).
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ضرَّابًا للنساء، فعن عائشة قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب خادمًا له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله" (5).
* فائدة: ضرب الزوجة مشروع إذا نشزت وتركت طاعة زوجها على النحو الذي في قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا} (6)، والضرب في هذه الآية له ثلاثة ضوابط:
1 - أن يكون بعد عدم جدوى الوعظ والهجر في الفراش.
2 - أن يكون ضرب تأديب غير مبرح، يكسر النفس ولا يكسر العظم.
3 - أن يُرفع الضرب ويمنع إذا امتثلت لطاعة زوجها.
10 - أن لا يهجرها -إذا هجرها- إلا في البيت:
ففي الحديث المتقدم: "ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت" إلا أن تكون هناك مصلحة شرعية في الهجر خارج البيت كما هجر النبي أزواجه شهرًا في غير بيوتهن، وسيأتي في "الإيلاء".
11 - أن يُعِفَّها:
فيلبي رغبتها الفطرية ليقصرطرفها عن الحرام، ولذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عثمان
_________
(1) أي لا يكرهها ويبغضها.
(2) صحح مسلم (1469).
(3) أبو داود (2142)، وابن ماجة (1850)، وأحمد (4/ 447).
(4) البخاري (4942)، ومسلم (2855).
(5) مسلم (2328)، والترمذي في «الشمائل» (331)، والنسائي في «العشرة» (281)، وابن ماجة (1984).
(6) سورة النساء: 34.

(3/213)


بن مظعون إلى ما لأهله عليه من الحق، لما انقطع عنهم إلى العبادة فقال صلى الله عليه وسلم: "وإن لأهلك عليك حقًّا" (1)، ووطء المرأة على الزوج في أظهر قولي العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد واختاره شيخ الإسلام (2) وحدَّ وجوبه بما كان بقدر حاجتها وكفايتها، وبقدرته بحيث لا ينهك بدنه ويشتغل عن معيشته، ولا عبرة بما وراء ذلك مما قال به الفقهاء من أن الوطء الواجب: هو مرة كل أربعة أشهر، بل الصحيح أن حدَّه قدرة الرجل وكفاية المرأة.
12 - أن يأذن لها إذا استأذنته في الخروج لشهود الجماعة أو زيارة الأقارب إذا أمنت الفتنة: وقد سبق هذا في "الصلاة".
13 - أن لا ينشر سِرَّها ويذكر عيبها: وقد تقدم مثل هذا في حقوق الزوج.
14 - أن يتزين الرجل لزوجته كما تتزين له:
قال ابن عباس: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي، لأن الله تعالى يقول: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (3) (4).
15 - أن يحسن الظن بها (5):
لقوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا} (6). وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا} (7). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلًا" (8).
وفي الوقت نفسه -مع حسن الظن- ينبغي للزوج أن يتحفظ ويحتاط ويبتعد عن مسببات الفساد والمخالفات الشرعية.
_________
(1) البخاري (1977)، ومسلم (1159).
(2) «ابن عابدين» (3/ 202)، و «الإنصاف» (8/ 354)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 271)، و «الجامع لاختيارات ابن تيمية» (2/ 643).
(3) سورة البقرة: 228.
(4) إسناده صحيح: أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 453)، وابن أبي شيبة (4/ 196)، والبيهقي (7/ 295).
(5) «فقه التعامل بين الزوجين» (ص: 78 - 79).
(6) سورة النور: 12.
(7) سورة الحجرات: 12.
(8) صحيح: البخاري (5244) وقد تقدم.

(3/214)


فلما دخل رجال من بني هاشم على أسماء بنت عميس رضي الله عنها [زوجة أبي بكر] ودخل أبو بكر فكره ذلك وقال: لم أر إلا خيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد برأها من ذلك" ثم قام على المنبر فقال: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان" (1).
فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى السوء عن أسماء وأحسن الظن بها ولكن مع هذا منع دخول الرجال حتى لا يدع مجالًا للشيطان للوسوسة والتشكيك.
16 - أن يعدل بينها وبين ضرتها في الطعام والشراب واللباس والمبيت: وسيأتي قريبًا.
(جـ) الحقوق المشتركة بين الزوجين:
1 - حل الاستمتاع: وهذا إذا تم العقد وتوفرت الشروط من تسليم الزوجة لزوجها وتأمين المسكن والنفقة، وانتفت الموانع كالإحرام ونحوه، فيباح لكل منهما الاستمتاع بالآخر على الوجه الشرعي الذي تقدم.
2 - ثبوت التوارث بينهما: بمجرد العقد إذا مات أحدهما -كما سيأتي في المواريث.
3 - المعاشرة بالمعروف: وقد تقدمت صورها.
4 - ثبوت حرمة المصاهرة بينهما: وقد بينا فيما مضى المحرمات بسبب المصاهرة.

تعدد الزوجات (2)
* مشروعية تعدد الزوجات:
قال الله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} (3).
فإن الله سبحانه وتعالى يخاطب أولياء اليتامى فيقول: إذا كانت اليتيمة في حجر أحدكم تحت ولايته، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليعدل عنها إلى غيرها من النساء، فإنهن كثيرات، ولم يُضيق الله عليه فأحل له من واحدة إلى أربع.
_________
(1) صحيح: مسلم (2173)، وقد تقدم.
(2) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 437 - 442).
(3) سورة النساء: 3.

(3/215)


فإن خاف أن يجور إذا تزوج أكثر من واحدة فوجب عليه أن يقتصر على واحدة، أو ما ملكت يمينه من الإماء (1).
وقد تقدم جملة أدلة على الحث على الزواج من أجل إكثار النسل.
وقال ابن عباس لسعيد بن جبير: "فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء" (2).
فهذه الأدلة وغيرها تدل على استحباب التعدد بشروط وضوابط تأتي:
* شروط تعدد الزوجات (3):
1 - أن يكون قادرًا على العدل بينهن: لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة}.
2 - أن يأمن على نفسه الافتتان بهن وتضييع حقوق الله بسببهن:
فقد قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم} (4).
3 - أن يكون عنده القدرة على إعفافهن وتحصينهن:
حتى لا يجلب إليهن الشر والفساد، فالله لا يحب الفساد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" (5).
4 - أن يكون بوسعه الإنفاق عليهن:
فقد قال الله سبحانه: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله} (6).
* حكمة مشروعية التعدد (7):
لا شك أن الطريق التي هي أقوم وأعدل هي إباحة تعدد الزوجات لأمور محسوسة يعرفها كل العقلاء، ومنها:
1 - أن المرأة الواحدة تحيض وتمرض وتنفس إلى غير ذلك من العوائق المانعة
_________
(1) بنحو هذا فسرت عائشة - رضي الله عنها - كما عند البخاري (4576).
(2) البخاري (5069).
(3) «أحكام النكاح والزفاف» (ص 145).
(4) سورة التغابن: 14.
(5) متفق عليه وقد تقدم.
(6) سورة النور: 33.
(7) «أضواء البيان» للشنقيطي (3/ 377).

(3/216)


من قيامها بأخص لوازم الزوجية، والرجل مستعد للتسبب في زيادة الأمة، فلو حُبس عليها في أحوال أعذارها لعطلت منافعه باطلًا في غير ذنب.
2 - أن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عددًا من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرضًا لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة، فلو قصر الرجل على واحدة لبقي عدد ضخم من النساء محرومًا من الأزواج فيضطرون إلى ركوب الفاحشة.
قلت: وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة: " ... ويقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيِّم الواحد" (1).
3 - أن الإناث كلهن مستعدات للزواج، وكثير من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج لفقرهم، فالمستعدون للزواج من الرجال أقل من المستعدات له من النساء.
4 - أنه قد يوجد عند بعض الرجال -بحكم طبيعتهم النفسية والبدنية- رغبة جنسية جامحة بحيث لا تشبعه امرأة واحدة، فأبيح له أن يشبع غريزته عن طريق مشروع بدلًا من أن يتخذ خليلة تفسد عليه أخلاقه (2).
5 - قد يكون التعدد تكريمًا لإحدى القريبات أو ذوات الرحم التي مات زوجها أو طلقها، وليس لها من يعولها غير شخص متزوج (3).
قلت: رغم أن هذا الأمر مستحب -كما رأيت- وأنه من حكم الشريعة السمحة، إلا أن سوء تطبيقه من بعض الناس، جعله في نظر الكثيرين جريمة ودناءة ونكرانًا للجميل وخسة، إلى غير ذلك من التهم الباطلة (4).
* بعض الفوائد الفقهية المتعلقة بالتعدد (5):
1 - يجوز تفاوت مهور الزوجات وكذلك تفاوت الولائم:
فقد تقدم أن النجاشي زوَّج أم حبيبة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف، وقد كان مهور أزواجه صلى الله عليه وسلم أربعمائة (6).
_________
(1) البخاري (5231)، ومسلم (2671).
(2)، (5) «هذه هي زوجتي» لعصام الشريف بتصرف يسير (ص 126).
(3) انظر للرد على بعض هذه التهم والشبهات «عمدة التفسير» (3/ 102) للعلامة أحمد شاكر - رحمه الله تعالى.
(4) مستفاد من «فقه تعدد الزوجات» لشيخنا مصطفى العدوي، رفع الله قدره.
(5)
(6) تقدم الحديث قريبًا.

(3/217)


وقال أنس في تزويج زينب بنت جحش: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلَم على أحد من نسائه ما أولم عليها" (1).
2 - لا يجوز للرجل أن يجمع أكثر من زوجة في بيت واحد إلا برضاهما:
فالأصل أن يجعل لكل زوجة بيتًا كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} (2).
فذكر الله -سبحانه- أنها بيوت ولم تكن بيتًا واحدًا، وقد تقدم هذا قريبًا.
3 - القَسْم بين الزوجات:
ذهب جمهور العلماء إلى أن الزوج إذا تزوَّج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، ثم يقسم لكل امرأة منهن ليلتها.
وإذا تزوَّج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قَسَم (3).
لحديث أنس قال: "من السُّنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعًا ثم قسم، وإذا تزوَّج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قسم" (4).
* تنبيه: يسئ بعض الناس فهم هذا الحديث فيظن أنه يباح للزوج إذا تزوج البكر أن يُحبس في البيت سبعًا فلا يخرج حتى لصلاة الجماعة وهذا قول باطل لا دليل عليه، فإن التخلف عن الجماعة لا ينبغي له كسائر الناس ولا فرق.
4 - هل يجب على الرجل أن يساوي بين نسائه في المحبة والجماع؟
المحبة محلها القلب، وقد قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} (5). فالمراد الاستطاعة في المحبة والجماع والشهوة.
وفي حديث ابن عباس: "أن عمر دخل على حفصة فقال: با بنية لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها -يريد عائشة- فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسَّم" (6).
_________
(1) تقدم الحديث قريبًا.
(2) سورة الأحزاب: 53.
(3) «زاد المعاد» (5/ 151).
(4) البخاري (5214)، ومسلم (1461).
(5) سورة النساء: 129.
(6) البخاري (3/ 49)، ومسلم (1479).

(3/218)


وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" (1).
وقال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أنه لا يجب التسوية بين النساء في الجماع، وذلك لأن الجماع طريقه الشهوة والميل، ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك فإن قلبه قد يميل إلى إحداهما دون الأخرى.
أما النفقة: فالظاهر أنه يجب على الرجل أن يُسوِّي بين نسائه في النفقة (2).
5 - لا يجوز لامرأة أن تسأل طلاق ضرتها لتنفرد بزوجها:
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها. ولتنكح فإن لها ما قدر لها" (3).

من أحكام المولود (4)
* من يباشر التوليد؟ (5)
ينبغي أن تكون المرأة الخبيرة بإجراءات الولادة هي التي تباشر توليد أختها، ومعها من النساء من تعينها على ذلك، فإسناد أمر التوليد إليهن واجب إلا عند الضرورة الملجئة بأن لا يكون هناك من النساء من تحسن هذا الأمر، فإنه يجوز أن يقوم بذلك طبيب مسلم، على ما تقدم تقريره من ضوابط في "أحكام النظر".
* استحباب البشرى والتهنئة بالمولود:
إذا ولد المولود واستهلَّ صارخًا استحب لمن حضر الولادة من النساء أو من كان قريبًا من مكانها أن يُبشر والده، لما في البشارة من سرور للعبد، فاستحب للمسلم أن يبادر إلى مسرة أخيه وإعلامه بما يفرحه.
قال الله تعالى في قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {فبشرناه بغلام حليم} (6)، وقال: {إنا نبشرك بغلام عليم} (7).
_________
(1)، (4) «مجموع الفتاوى» (32/ 230).
(2) البخاري (5152)، ومسلم (1408).
(3) انظر «تحفة المودود بأحكام المولود» لابن القيم.
(4) «الفقه الواضح» (2/ 469).
(5)
(6) سورة الصافات: 101.
(7) سورة الحجر: 53.

(3/219)


وقال تعالى: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} (1). فإن فاتت الشخص البشارة، بأن علم الوالد بمولوده، استحب التهنئة وهي الدعاء له بالخير.
* هل يؤذن في أذن المولود اليمنى ويقيم في اليسرى؟
ورد هذا في بعض الأحاديث لكنها ضعيفة الإسناد، منها حديث أبي رافع قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن في أُذُن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة" (2).
وهو حديث ضعيف فلا ينبغي العمل به حتى يأتي ما يعضده، وقد أورده ابن القيم ومعه حديثان آخران في "تحفة المولود" (ص101) وهما ضعيفان كذلك.
* استحباب تحنيك المولود:
والتحنيك: أن تمضغ تمرة ويدلك بها فم المولود من الداخل: فعن أبي موسى قال: "ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسمَّاه إبراهيم، وحنَّكه بتمرة [ودعا له بالبركة ودفعه، وكان أكبر ولد موسى] " (3).
* استحباب العقيقة:
العقيقة أصلها: الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة، لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح.
وقيل: العقيقة هي الذبح نفسه.
ويستحب في اليوم السابع من ولادة المولود أن يقوم والده بذبح شاتين عن الغلام -أو شاة إن لم يستطع- وذبح شاة عن البنت:
فعن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى" (4).
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة" (5).
_________
(1) سورة مريم: 7.
(2) أبو داود (5105)، والترمذي (1514)، والحاكم (3/ 179) بسند ضعيف، وقد حسنه لغيره الألباني في «الإرواء» (1173) ثم رجع عنه فضعفه في «الضعيفة» (321).
(3) البخاري (5467)، ومسلم (2145).
(4) صحيح: البخاري (5471)، والترمذي (1515)، وابن ماجة (3164).
(5) الترمذي (1513)، وأحمد (6/ 31)، وصححه الألباني في «الإرواء» (1166).

(3/220)


وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه" (1).
فيستحب الأكل والإطعام والتصدق من الذبيحة.
ولا يجزئ في العقيقة إلا ما يجزئ في الأضحية، بأن تكون من المعز أو الضأن سليمة من العيوب ونحو ذلك.
* حلق رأسه والتصدق بوزن شعره فضة:
عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر برأس الحسن والحسين يوم سابعهما، فحلقا، وتصدق بوزنه فضة" (2).
* تنبيه: لا يجوز حلق بعض رأس الصبي وترك بعضه وهو ما يسمى "القزع" فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع" (3).
* ختان المولود:
وقد وردت بعض الأحاديث في استحباب ختانه يوم السابع وفي أسانيدها ضعف فربما تقوَّى بعضها ببعض ومن ذلك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام" (4).
* تسمية المولود (5):
(أ) اعلم أن الأب أحق بتسمية المولود، وليس للأم حق منازعته في ذلك، لكن الأفضل أن يتشاورا ويتراضيا على التسمية، فإذا تنازعا، فالتسمية للأب.
(ب) اختيار الاسم:
يجب على الأب اختيار الاسم الحسن في اللفظ والمعنى في قالب النظر الشرعي واللسان العربي، فيكون حسنًا، عذبًا في اللسان، مقبولًا للأسماع، شريفًا كريمًا، ووصفًا صادقًا، خاليًا مما دلت الشريعة على تحريمه أو كراهته.
_________
(1) أبو داود (2837)، والترمذي (1522)، والنسائي (7/ 166)، وابن ماجة (3165) وهو صحيح.
(2) الترمذي (1519)، والحاكم (4/ 237)، والبيهقي (9/ 304) واللفظ له وهو صحيح كما ف «الإرواء» (1164).
(3) البخاري (5920)، ومسلم (113).
(4) الطبراني في «الصغير» (891)، والبيهقي (8/ 324) وفي سنده ضعف.
(5) انظر «تسمية المولود بآداب وأحكام» لعلامة بكر أبي زيد.

(3/221)


(جـ) الأسماء المستحبة:
وهي مراتب متعددة فأفضلها على الترتيب:
1 - عبد الله وعبد الرحمن: لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن" (1).
2 - الأسماء المعبدة لأي اسم من أسماء الله الحسنى:
مثل: عبد العزيز، عبد الكريم، عبد الملك ... وهكذا.
3 - أسماء الأنبياء والرسل.
4 - أسماء الصالحين من المسلمين وعلى رأسهم الصحابة:
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم" (2).
5 - ما كان وصفًا صادقًا للإنسان بالشروط التي تأتي:
* شروط التسمية وآدابها:
1 - أن يكون عربيًّا، فيخرج بهذه الأسماء الأعجمية المولدة مثل: "ديانا، هايدي، شيريهان، ... " وغيرها.
2 - أن يكون حسن المبنى والمعنى.
3 - أن يراعى في التسمية قلة الحروف ما أمكن.
4 - أن يراعى في التسمية خفة النطق.
(د) الأسماء المحرمة:
1 - كل اسم معبد لغير الله، مثل: (عبد الرسول- عبد الحسن ... إلخ).
2 - التسمية بالأسماء التي تختص بالله تعالى مثل: (الرحمن-الخالق ... إلخ).
3 - التسمية بالأسماء الأعجمية المولدة للكافرين الخاصة بهم مثل: (جرجس-جورج-ديانا-سوزان ... إلخ).
4 - التسمي بأسماء الأصنام المعبودة من دون الله مثل: (اللات-العزى ... إلخ).
5 - التسمية بالأسماء الأعجمية كالتركية أو الفارسية مما لا تتسع له لغة العرب مثل: (ناريمان-جِهان-نيفين ... إلخ).
6 - كل اسم فيه دعوى ليست في المسمى مما فيه تزكية وكذب.
7 - التسمية بأسماء الشياطين مثل: (خنزب - الأعور ... إلخ).
_________
(1)، (4) صحيح: مسلم.
(2)

(3/222)


(هـ) الأسماء المكروهة:
1 - ما تنفر منها القلوب لمعانيها أو ألفاظها لما تثيره من سخرية أو إحراج لأصحابها وتأثيرها عليهم فضلًا عن مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم بتحسين الأسماء.
ومن هذه الأسماء مثل: (خنجر-فاضح-هُيام وسُهام [داء يصيب الإبل] ... إلخ).
2 - التسمية بأسماء لها معانٍ رخوة شهوانية مثل: (أحلام-غادة-فاتن ... إلخ".
3 - تعمد التسمية بأسماء الفسَّاق والماجنين من الممثلين والمطربين.
4 - التسمية بأسماء فيها معاني الإثم والمعصية مثل: (ظالم بن سرَّاق).
5 - أسماء الفراعنة والجبابرة مثل: (فرعون-هامان-قارون ... إلخ).
6 - التسمية بأسماء الحيوانات المشهورة بالصفات المستهجنة مثل: (حنش -حمار- كلب-قنفذ ... إلخ).
7 - الأسماء المضافة إلى (الدين) أو (الإسلام) مثل: نور الدين -شهاب الدين- سيف الإسلام.
8 - الأسماء المركبة مثل: (محمد أحمد -ونحو ذلك) لما فيها من الاشتباه والالتباس.
9 - التسمية بأسماء الملائكة مثل: (جبريل -ميكائيل ... إلخ).

النشوز وعلاجه (1)
* تعريف النشوز:
النشوز: من النشز وهو المكان المرتفع، وفي الاصطلاح: معصية المرأة لزوجها فيما فرض الله عليها من طاعته، فكأنها ارتفعت وتعالت عليه (2).
* حكمه:
نشوز المرأة حرام، لأن الله تعالى قد رتَّب عليه عقوبة الناشزة إذا لم ترتدع بالوعظ، ولا تكون العقوبة إلا بفعل محرم أو ترك واجب (3)، قال الله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا} (4).
_________
(1) انظر: «أحكام المعاشرة الزوجية» لزينب شرقاوي، (ص 283) وما بعدها والمراجع الآتية بعده.
(2) «المصباح المنير» (2/ 605)، و «مغني المحتاج» (3/ 259)، و «المغني» (7/ 46).
(3) «تفسير القرطبي» سورة النساء: 34، وانظر «السابق».
(4) سورة النساء: 34.

(3/223)


* أساليب علاج الناشزة:
إذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز: كأن لا تصير إليه إلا وهي كارهة أو أن يجد منها إعراضًا وعبوسًا بعد لطف وطلاقة وجه، أو أن تخاطبه بكلام خشن بعد أن كان لينًا، أو أن تتثاقل إذا دعاها إلى فراشه.
أو ظهر منها النشوز واضحًا: كأن تمتنع عن فراشه أو أن تخرج من بيته بغير إذنه، أو ترفض السفر معه ونحو ذلك، فإنه يُشرع للزوج أن يعالجها بالأساليب الواردة في الآية الكريمة على الترتيب، فيبدأ معها بـ:
[1] الوَعْظ:
فيعظها بالرفق واللِّين، ويذكِّرها بما أوجب الله عليها من طاعته وعدم مخالفته، ويرغِّبها في ثواب الله على طاعته، وفي أن تكون من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ويخوِّفها من عقاب الله على معصيته، ومن أنه -إذا استمرت على ما هي عليه- يحق له أن يهجرها ثم يضربها (1).
فمن النساء من تردُّها الكلمة عن عنادها وغيِّها، فتستجيب للوعظ والترغيب والترهيب، وعندئذ لا يجوز له هجرها ولا ضربها، قال الله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} (2).
لكن من النساء من لا يؤثر فيها الكلام ولا الوعظ، فيلجأ إلى العلاج الثاني وهو:
[2] الهَجْر في المضجع:
الهجر: من هجرته أي قطعته، قال الله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} (3).
أي: في المنام توصُّلًا إلى طاعتهن، فيخوِّفها بالاعتزال عنها، وترك جماعها ومضاجعتها فلعلَّها ممن لا تحتمل الهجر، فإن استجابت، وإلا هجرها فعليًّا.
وقد تعددت أقوال العلماء في كيفية الهجر في المضجع: فقيل يهجرها بترك جماعها، وقيل: بل يجامعها لكن لا يكلمها حال مضاجعته لأن ذلك حق مشترك بينهما ولا يكون التأديب بما فيه ضرر، وقيل: يهجر جماعها عند غلبة شهوتها وحاجتها هي، لا في وقت حاجته إليها لأن الهجر لتأديبها هي لا لتأديبه.
_________
(1) «البدائع» (2/ 334)، و «منح الجليل» (2/ 176)، و «مغني المحتاج» (3/ 256)، و «كشاف القناع» (5/ 233).
(2) سورة النساء: 34.
(3) سورة النساء: 34.

(3/224)


والصحيح أن يهجرها كيف شاء بما يناسب حالها، ومما يكون به الزجر والردع عن النشوز (1)، لكن ينبغي على الزوج أن لا يهجر زوجته إلا في البيت لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه: " ... ولا تهجر إلا في البيت" (2) لئلا يظهر الهجر أمام الغرباء، إذ لو هجرها أمام الغرباء كان في ذلك إهانة لها مما يزيد المشكلة وقد يزيدها نشوزًا، فمراعاة هذا الأدب مما يساعد على عودة الوئام بين الزوجين.
لكن ... إن رأى في هجرها خارج البيت مصلحة شرعية فله أن يفعل، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه شهرًا في غير بيوتهن (3).
وينبغي عليه -كذلك- أن لا يظهر الهجر أمام أطفاله، فإنه يورث في نفوسهم شرًّا وفسادًا.
* مدة الهجر:
للعلماء في أقصى مدة الهجر قولان (4):
الأول: مدة الهجر شهر وله أن يزيد إلى أربعة أشهر: وهو مذهب المالكية، ومستندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا، وأن مدة الإيلاء إلى أربعة أشهر -كما سيأتي-.
الثاني: له أن يهجر ما شاء حتى ترجع: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والحنابلة ويُستدل لهم بأن الآية -في الهجر- مطلقة غير مقيدة بمدة، والأصل بقاء المطلق على إطلاقه حتى يدلَّ الدليل على تقييده.
وأما القياس على الإيلاء فقياس مع الفرق، لأن الهجر في النشوز تأديب لها على تمردها، أما الإيلاء فقد يكون من غير تمرُّد من الزوجة ولذا لم يُشرع الإيلاء أكثر من أربعة أشهر لما فيه من ظلم للمرأة، ثم إن الإيلاء يمين (حلف) بخلاف الهجر.
وإذا كان كذلك فلا يصح تقييد مطلق الآية بهذا، وهو الأرجح، والله أعلم.
* فائدة: يجوز الهجر بترك الكلام مع الناشز اتفاقًا: لكنهم اختلفوا في مدة
_________
(1) «البدائع» (2/ 334)، و «منح الجليل» (2/ 176)، و «مغني المحتاج» (3/ 259)، و «المغني» (7/ 46)، وانظر «أحكام المعاشرة الجنسية» (ص: 292).
(2) حسن: أخرجه أبو داود (2142)، وابن ماجة (1850) وقد تقدم.
(3) صحيح: يأتي تخريجه في «الإيلاء» - إن شاء الله.
(4) المراجع الفقهية السابقة.

(3/225)


الهجر بترك الكلام: فقال الجمهور: لا يجوز أن يهجر كلامها أكثر من ثلاثة أيام حتى لو استمرت على نشوزها (1)، واستدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" (2).
وقد يقال: "إذا لم يُفد الهجر بالكلام -في ثلاثة أيام- فلن يفيد في أكثر من ذلك، لأن تأثيره أقل على المرأة من الهجر في المضجع" (3).
وذهب بعض الشافعية إلى أنه يجوز للزوج أن لا يكلم الزوجة الناشز أكثر من ثلاثة أيام إذا قصد تأديبها وردَّها عن النشوز، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم "هجر الثلاثة الذين خلِّفوا أكثر من ثلاث" (4).
فإذا كانت المرأة ممن لا يفيد معها كلام ولا هجر، لشراسة في خلقها وعناد في طبعها، فلابد من الأسلوب الثالث وهو:
[3] الضرب:
وهو جائز للزوج على زوجته الناشز إذا لم يُفد معها الوعظ والهجر، اتفاقًا.
لكن ينبغي أن يُراعي في الضرب ما يأتي:
1 - أن لا يكون الضرب مبرحًا: كأن يكسر عظمًا أو يُشوِّه لحمًا كضرب المنتقم؛ فإن قوله تعالى: {واضربوهن} (5) مقيَّد بكونه غير مبرح:
فعن عمرو بن الأحوص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هنَّ عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح ... " (6).
فالمراد من الضرب: التأديب لا الإتلاف والتشويه، والمطلوب: ضرب يكسر النفس ويردُّها، ولا يكسر العظم.
_________
(1) «البدائع» (2/ 334)، و «مواهب الجليل» (4/ 15)، و «مغني المحتاج» (2/ 259)، و «المغني» (7/ 46).
(2) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(3) «أحكام المعاشرة الزوجية» (ص: 292).
(4) صحيح: أخرجه البخاري ومسلم في قصة طويلة.
(5) سورة النساء: 34.
(6) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (1163)، وابن ماجة (1851)، وفي سنده ضعف وله شاهد عند أحمد (5/ 72)، يحسَّن به.

(3/226)


2 - أن لا يزيد في ضربه على عشر ضربات: لحديث ... أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" (1).
وهذا مذهب الحنابلة (2).
3 - أن لا يضرب الوجه ولا يقع الضرب على المهالك: لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث معاوية بن حيدة-: " ... ولا تضرب الوجه، ولا تُقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت" (3).
لما في هذا الفعل من الاستهانة بالمرأة وتحقيرها ولما فيه من الإيذاء والتشويه، فلو فعل ذلك فهو جانٍ، ولها طلب التطليق والقصاص.
4 - أن يغلب على ظنه أن ضربه سيزجرها: لأن الضرب وسيلة إصلاح، والوسيلة لا تشرع عند ظن عدم ترتُّب المقصود عليها، وإلا فلا يضربها (4).
5 - أن يرفع الضرب عنها إذا أطاعته: لقول الله سبحانه: {واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} (5).
* تنبيه: لا ينبغي للزوج أن يتخذ من هذه الوسيلة العلاجية (الضرب) التي شرعها الله في بعض الأوقات (وقت النشوز بعد فشل الوعظ والهجر) ديدنًا، فيضرب زوجته -نشزت أو لم تنشز- فإن هذا لا يجوز، وهو خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم:
1 - فعن عائشة قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب خادمًا له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله" (6).
2 - وعاب على أبي جهم كثرة ضربه للنساء وقال لفاطمة بنت قيس ناصحًا لها في شأن الزواج: "أما أبو الجهم فضرَّاب للنساء" وفي لفظ: "فلا يضع عصاه عن عاتقه" (7).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري.
(2) «المغني» (7/ 46)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 106).
(3) حسن: تقدم مرارًا.
(4) «منح الجليل» (2/ 176)، و «مغني المحتاج» (3/ 260).
(5) سورة النساء: 34.
(6) صحيح: أخرجه مسلم، والترمذي في «الشمائل» (331)، والنسائي في «العشرة» (281)، وابن ماجة (1984).
(7) صحيح: أخرجه مسلم (1480)، والنسائي (3245)، وأبو داود (2284).

(3/227)


3 - وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم" (1).
وأما ما يُروى مرفوعًا: "لا تسأل الرجل فيما ضرب امرأته" (2) فضعيف لا يحتج به.
* الخلاف بين الزوجين وعلاجه:
إذا تسرَّب الشقاق والبغضاء إلى بيت الزوجية، فقد شرع الله سبحانه إرسال حكمين لحدِّ هذا الخلاف، وإزجاء النصيحة إلى الزوجين، أحدهما يمثل الزوج والآخر يمثل الزوجة، إذ أن استمرار الشقاق بينهما معناه: هدم الأسرة وتشتيت الأطفال، وقطع الصلات والعلاقات وربما الأرحام!!
قال الله سبحانه: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} (3).
وينبغي على الحكمين أن يبذلا جهدهما في عملية الإصلاح وإزالة الشقاق بينهما، وأن يكونا صادقين في الإصلاح بينهما، وعليهما أن يأخذا على يد المسيء منهما، وأن يُلزماه جانب الحق (4).
* سُلْطَةُ الحَكَمَيْنِ:
إذا بذل الحكمان ما في وسعهما للإصلاح بين الزوجين، فوجدا أنه غير ممكن فهل لهما سلطة التفريق بينهما؟ أم لابد من الرجوع إلى الزوجين؟ قولان للعلماء.
والأصح أن الحكمين قاضيان وليسا وكيلين، فلهما أن يفرقا بين الزوجين سواء رضيا أم لا، ولو بدون أمر من القاضي ولا بتوكيل من الزوجين، وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول عند الشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام (5)، ويدل عليه:
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (2147)، وابن ماجة (1986)، وأحمد (1/ 20) عن عمر مرفوعًا.
(3) سورة النساء: 35.
(4) «البدائع» (2/ 334)، و «منح الجليل» (2/ 177)، و «مغني المحتاج» (3/ 261)، و «المغني» (7/ 48)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 106).
(5) «بداية المجتهد» (2/ 163)، و «الخرشي» (4/ 9)، و «المغني» (7/ 49)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 25).

(3/228)


1 - قوله تعالى: {فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها} (1).
"هذا نص من الله تعالى في أنهما قاضيان لا وكيلان، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى، فإذا بيَّن الله -سبحانه- كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ -فكيف بعالم- أن يركب معنى أحدهما على الآخر، فذلك تلبيس وإفساد للأحكام" (2) اهـ.
2 - وقوله تعالى: {إن يريدا إصلاحًا} (3). المراد بهما: الحكمان لا الزوجان، فدلَّ على عدم اعتبار رضا الزوجين، وعلى أن للحكمين إرادةً وحقَّ تصرف خارجةً عن إرادة الزوجين، ولو كانا وكيلين لكانت إرادتهما في التصرف هي إرادة الزوجين (4).
3 - وعن عبيدة قال: "شهدت عليَّ بن أبي طالب، وجاءته امرأة وزوجها، مع كلٍّ منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكمًا وهؤلاء حكمًا، فقال عليٌّ للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تفرِّقا فرَّقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما، فقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال عليُّ: كذبت، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى لي وعَلَيَّ" (5).
وقول عليٍّ رضي الله عنه للحكمين كان بمحضر الصحابة، ولم ينكر أحد عليه فكان إجماعًا من الحاضرين.
4 - ولما حصل شقاق بين عقيل بن أبي طالب وزوجه فاطمة بنت عتبة، اشتكت فاطمة لعثمان رضي الله عنه فأرسل ابن عباس ومعاوية حكمين بينهما، فقال ابن عباس: "لأفرقنَّ بينهما" (6).
_________
(1) سورة النساء: 35.
(2) «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 424).
(3) سورة النساء: 35.
(4) «تفسير القرطبي» (5/ 175)، و «زاد المعاد» (4/ 33).
(5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 512)، والبغوي في «شرح السنة» (9/ 190)، والنسائي في «الكبرى» (4678)، وسعيد بن منصور (628)، والشافعي (655)، والبيهقي (7/ 305).
(6) إسناده صحيح: أخرجه الطبري (5/ 74)، وعبد الرزاق (6/ 5132)، والشافعي (656)، ومن طريقه البيهقي (7/ 306).

(3/229)


وعلى ما تقدم، يحق للحكمين -إذا رأيا- أن يطلقا عليه، وأن يخالعاها، وقضاؤهما نافذ، والله أعلم.
* إذا اختلف الحكمان: فطلَّق أحدهما بطلقة واحدة، والآخر باثنتين -على القول بوقوعه- أو يخالع أحدهما على ألف والآخر على ألفين ونحو ذلك، ففي هذه الحالة لا يؤخذ بحكمهما اتفاقًا، ويبعث القاضي حكمين غيرهما حتى يجتمعا على شيء.
وإذا لم يجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما، فأجاز الجمهور -خلافًا للمالكية- إرسال حكمين من الأجانب (من غير أهلها) ويكون حكمهما نافذًا إذا اتفقا (1).
_________
(1) «فتح القدير» (3/ 223)، و «مواهب الجليل» (4/ 17)، و «مغني المحتاج» (3/ 261)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 106).

(3/230)


11 - كتاب الفرْق بين الزوجين

(3/231)


الطلاق وأحكامه
* تعريف الطلاق (1):
الطلاق لغةً: حلُّ الوثاق ورفع القيد، مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك.
وفي اصطلاح الشرع: حلُّ قيد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه، أو رفع قيد النكاح في الحال (أي: بالطلاق البائن) أو في المآل (أي: بعد العدة بالطلاق الرجعي) بلفظ مخصوص.
والمراد بالنكاح هنا: النكاح الصحيح خاصة، فلو كان فاسدًا لم يصحَّ فيه الطلاق، ولكن يكون متاركةً أو فسخًا.
والفسخ يخالف الطلاق في أنه نقض للعقد وتنهدم به آثاره وأحكامه التي نشأت عنه، وأما الطلاق فلا ينقض العقد، ولكن يُنهى آثاره فقط.
والمتاركة: ترك الرجل المرأة المعقود عليها بعقد فاسد قبل الدخول أو بعده، فهي توافق الطلاق في حق إنهاء آثار النكاح، وأنها حق للرجل وحده، وتخالفه في أنها لا تحسب عليه واحدة وأنها تختص بالعقد الفاسد والوطء بشبهة، وأما الطلاق فيختص بالعقد الصحيح.
* مشروعية الطلاق:
الطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول:
(أ) فمن الكتاب:
1 - قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (2).
2 - قوله سبحانه: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين * وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ....} (3).
3 - قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} (4).
_________
(1) «المصباح المنير»، و «ابن عابدين» (3/ 226)، و «مغني المحتاج» (3/ 279)، و «المغني» (7/ 296).
(2) سورة البقرة: 229.
(3) سورة البقرة: 226 - 237.
(4) سورة الطلاق: 1.

(3/232)


4 - وقال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ...} (1).
5 - وقال سبحانه: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ...} (2).
(ب) ومن السنة:
1 - عن عمر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلَّق حفصة ثم راجعها" (3).
2 - عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلِّقها، فأبَيْتُ، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طلِّقها" (4).
3 - عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه أو جده -وافد بني المنتفق- أنه قال يا رسول الله، إن لي امرأة -فذكر من طول لسانها وإيذائها- فقال: "طلِّقها" قال: يا رسول الله، إنها ذات صحبة وولد، قال: "فأمسكها وأمرها، فإن يك فيها خير فستفعل ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك" (5).
(جـ) وأما الإجماع والمعقول:
فقال ابن قدامة -رحمه الله-: "وأجمع الناس على جواز الطلاق، والعبرة دالة على جوازه" فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة وضررًا مجردًا، بإلزام الزوج النفقة والسكنى وحبس المرأة مع سوء العشرة، والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك الشرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه" اهـ (6).
* الحكم التكليفي للطلاق (7):
بعد إجماع المسلمين من زمن النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية الطلاق، اختلف أهل العلم في الحكم التكليفي للطلاق:
_________
(1) سورة الأحزاب: 49.
(2) سورة البقرة: 231.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2283)، والنسائي (6/ 213)، وابن ماجة (2016) وغيرهم.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (5138)، والترمذي (1189)، وابن ماجة (2088).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (142)، وأحمد (4/ 33).
(6) «المغني» (7/ 96)، وانظر «الإفصاح» لابن هبيرة (2/ 147).
(7) «ابن عابدين» (3/ 227)، و «فتح القدير» (3/ 21)، و «الدسوقي» (2/ 361)، و «المغني» (7/ 97)، و «كشاف القناع» (5/ 261)، و «مغني المحتاج» (3/ 279).

(3/233)


فذهب الجمهور إلى أن الأصل في الطلاق الإباحة، والأولى عدم ارتكابه -لما فيه من قطع الألفة- إلا لعارض، وقد يخرج عن هذا الأصل في أحوال.
وذهب آخرون إلى أن الأصل فيه الحظر، ويخرج عن الحظر في أحوال، والعمدة عندهم حديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" (1) وهو حديث ضعيف.
وعلى كلٍّ: فالفقهاء متفقون -في النهاية- على أن الطلاق تعتريه الأحكام التكليفية
الخمسة بحسب الظروف والأحوال:
1 - فيكون محرَّمًا: كطلاق المرأة في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، وهو "طلاق البدعة" وسيأتي الكلام عليه، وهو مجمع على تحريمه، وكذلك إذا خشي بطلاقه على نفسه الزنا.
2 - ويكون مكروهًا: وهو عند عدم الحاجة إليه مع استقامة الزوجين، وربما يكون هذا محرمًا عند بعضهم، قلت: قد يُستدل للكراهة أو التحريم بحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجىء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجىء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأته، قال: فيُدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت" (2).
وعن عمرو بن دينار قال: "طلَّق ابن عمر امرأة له، فقالت له: هل رأيت مني شيئًا تكرهه؟ قال: "لا"، قالت: ففيم تطلق المرأة العفيفة المسلمة؟ قال: فارتجعها" (3).
3 - ويكون مباحًا: عند الحاجة إليه لسوء خلق المرأة وسوء عشرتها والتضرر بها من غير حصول الغرض منها.
4 - ويكون مستحبًّا: عند تفريط المرأة في حقوق الله تعالى الواجبة عليها كالصلاة ونحوها، ولا يمكنه إجبارها عليها، أو تكون امرأة غير عفيفة، لأن في إمساكها نقصًا لدينه، ولا يأمن إفسادها لفراشه،
وإلحاقها به ولدًا ليس هو منه،
_________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2177 - 2178)، والبيهقي (7/ 322)، وابن أبي شيبة (5/ 253) وغيرهم والصواب إرساله، وانظر «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 431)، و «التلخيص» (3/ 205)، و «العلل المتناهية» (2/ 638).
(2) صحيح: أخرجه مسلم.
(3) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1099).

(3/234)


ولا بأس بعضلها في هذه الحال والتضييق عليها لتفتدي منه، قال تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلَّا أن يأتين بفاحشة مبينة} (1).
وقد يكون الطلاق في هذا الموضع واجبًا.
5 - ويكون واجبًا: كالمُولي -وستأتي أحكام الإيلاء- إذا أبى الفيئة إلى زوجته بعد التربُّص (على قول الجمهور).
وكطلاق الحكمين في الشقاق إذا تعذَّر عليهما التوفيق بين الزوجين ورأيا الطلاق.
* الطلاق بيد الزوج:
جعل الله تعالى للزوج حق مفارقة زوجته إذا وجد ما يدعوه إلى ذلك بعبارته وإرادته المنفردة (2)، "ولم يجعل الطلاق بيد الزوجة بالرغم من أنها شريكة في العقد حفاظًا على الزواج، وتقديرًا لمخاطر إنهائه بنحو سريع غير متَّئد، والرجل -عادة- يكون أمثر تقديرًا لعواقب الأمور، وأبعد عن الطيش في التصرُّف، وأما المرأة فهي -غالبًا- أشد تأثرًا بالعاطفة، فربما أوقعت الطلاق -إذا ملكته- لأهون الأسباب.
ثم إن الطلاق يستتبع تكاليف مالية من شأنها حمل الرجل على التروِّي في إيقاع الطلاق، وأما المرأة فلا تتضرر ماليًّا بالطلاق، فلا تتروَّى في إيقاعه بسبب سرعة تأثرها وانفعالها" (3).
وقد يقوم بالطلاق غير الزوج بإنابته، كما في الوكالة والتفويض (4)، أو بدون إنابة، كالقاضي في بعض الأحوال للضرورة.

شروط الطلاق
يشترط لصحة الطلاق شروط موزَّعة على أطراف الطلاق الثلاثة: المطلِّق، والمطلَّقة، وصيغة الطلاق.
_________
(1) سورة النساء: 19.
(2) فإن المخاطب بالتطليق في الآيات والأحاديث المتقدمة هم الأزواج لا الزوجات، ويستدل العلماء على هذا كذلك بما يُروى مرفوعًا: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» لكنه ضعيف أخرجه ابن ماجة (2081)، والبيهقي (7/ 360) عن ابن عباس.
(3) «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 360) بتصرف واختصار.
(4) وستأتي أحكام التوكيل والتفويض بالطلاق.

(3/235)


أولًا: الشروط المتعلقة بالمطلِّق:
[1] أن يكون زوجًا: أي أن بينه وبين من يريد تطليقها عقد زواج صحيح، فلو قال -قبل أن يتزوجها-: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، فلا عبرة بقوله ولا يعتد به، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك" (1).
فلا يملك الرجل طلاقًا، إلا إذا كان زوجًا، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ...} (2). فذكر الطلاق بعد النكاح.
[2] البلوغ:
ذهب الجمهور إلى عدم وقوع طلاق الصغير مميزًا كان أو غير مميِّز، لأن الطلاق ضرر محض فلا يملكه الصغير، وكذلك لا يملكه وَليُّه (3)، ولحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" (4) فإذا كان الصبي غير مكلف لم يقع طلاقه.
وذهب الحنابلة إلى أن الصبي إذا كان مميزًا يعقل الطلاق، ويعلم أن زوجته تبين به وتحرم عليه، فإن طلاقه يقع، واستدلوا بما يُروي مرفوعًا: "كل طلاق جائز، إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله" (5).
وبما رُوي عن عليٍّ أنه قال: "اكتموا الصبيان النكاح" (6) فيفهم منه أن فائدته ألا يطلقوا، ولأنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق فوقع كطلاق البالغ.
_________
(1) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (1181)، وأبو داود (2190)، وابن ماجة (2047) وله شواهد كثيرة.
(2) سورة الأحزاب: 49.
(3) «المدونة» (2/ 127)، و «الأم» (6/ 258)، و «ابن عابدين» (3/ 230)، و «مغني المحتاج» (3/ 279).
(4) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (4398)، وابن ماجة (2041) وله شواهد عند أبي داود (4401)، وأحمد (1/ 116) بسند صحيح موقوفًا، ولا يصح رفعه.
(5) صحيح موقوفًا: أخرجه بنحوه عبد الرزاق (7/ 78)، وسعيد بن منصور (1113)، والبيهقي (7/ 359).
(6) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 74).

(3/236)


وبنحو هذا قال ابن المسيب وعطاء والحسن والشعبي وإسحاق وكأنه اختيار الإسلام إذ قال: "لكن الصبي المميز والمجنون الذي يميز أحيانًا يعتبر قوله حين التمييز" اهـ (1).
[3] العقل: فلا يصحُّ طلاق المجنون والمعتوه (2)، لفقدان أهلية الأداء في الأول، ونقصانها في الثاني، ويدل على ذلك الحديث المتقدم: "رفع القلم عن ثلاثة ... وعن المجنون حتى يعقل" (3).
وفي حديث ماعز -لما اعترف للنبي صلى الله عليه وسلم بالزنا- قال النبي صلى الله عليه وسلم له: "أبك جنون؟ ... " (4).
فدلَّ على أن الإقرار من المجنون لا يصح، فكذلك سائر التصرفات والإنشاءات (5) وقال عليُّ بن أبي طالب: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه" (6) والمراد بالمعتوه هنا: الناقص العقل فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران.
هذا في الجنون الدائم المطبق، أما الجنون المتقطع، الذي يغيب فترة عن صاحبه ثم يعود إليه، فإن طلَّق حال جنونه لم يقع، وإن طلق حال إفاقته وقع لكمال أهليته.
وقد ألحق العلماء بالمجنون: النائم والمغمى عليه والمدهوش (7)، لانعدام الأهلية لديهم وللحديث المتقدم.
* طلاق السكران:
وأما السكران الذي وصل إلى درجة الهذيان وخلط الكلام، ولا يعلم ما يقول، ولا يعي بعد إفاقته ما صدر منه حال سكره، والسكران لا يخلو من أحد حالين:
_________
(1) «مجموع الفتاوى» (33/ 108)، وانظر: «المغني» (7/ 116)، و «فتح الباري» (9/ 393)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 102 - 103).
(2) وهو القليل الفهم، المختلط الكلام، الفاسد التدبير، لكن لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون (ابن عابدين 3/ 243).
(3) صحيح لغيره: تقدم قريبًا.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1695) وغيره عن بريدة، ونحوه في البخاري (5270) عن جابر بدون ذكر اسم الرجل.
(5) «نيل الأوطار» (6/ 280) ط. الحديث.
(6) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1113)، وعبد الرزاق (7/ 78).
(7) المدهوش: هو الذي فقد تمييزه من غضب أو غيره، فلا يدري ما يقول.

(3/237)


(أ) أن يكون غير مُتعدٍّ بسكره: كأن يسكر مضطرًا أو مكرهًا أو تناول دواء العلاج الضروري إذا تعين بقول طبيب مسلم ثقة، أو تعاطي البنج، أو لم يعلم أنه مسكر، ونحو ذلك -وهو نادر- فهذا لا يقع طلاقه بإجماع العلماء (1)، لفقدان العقل لديه كالمجنون دون تعدٍّ.
(ب) أن يكون متعديًا بسُكره: كأن يشرب الخمر عالمًا به مختارًا لشربه، أو تناول مخدرًا ونحو ذلك، فهذا اختلف أهل العلم في وقوع طلاقه على قولين (2):
الأول: يقع طلاقه حال سُكره: وهو مذهب جمهور العلماء، منهم أبو حنيفة وصاحباه ومالك والشافعي في أصح قوليه وأحمد في المشهور عنه، وبه قال ابن المسيب والحسن والشعبي وعطاء والأوزاعي والثوري وطائفة من السلف، وحجة هذا المذهب ما يلي:
1 - أن حكم التكليف جار عليه، فيؤاخذ بجنايته، قالوا: ويدل عليه قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون ...} (3). فنهيهم حال السكر عن قربان الصلاة يقتضي عدم زوال التكليف!! وأُجيب: بأن هذا ضعيف، فإنه إن أُريد أن وقت السكر يؤمر ويُنهى فهذا باطل، فإن من لا عقل له ولا يفهم الخطاب ولا يعقل ما يقول فليس بمكلف، إذ الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل.
وأما الآية الكريمة ففيها نهي لهم أن يسكروا سكرًا يفوتون به الصلاة أو نهي لهم عن الشرب القريب من وقت الصلاة، أو نهي لمن يدب فيه أوائل النشوة، وأما في حال السكر فلا يخاطب بحال (4).
2 - أن في إيقاعه عقوبة له، وأُجيب: بأن الشريعة لم تعاقب أحدًا بهذا الجنس من إيقاع الطلاق أو عدم إيقاعه، بل يكفيه الحد وقد وحصل رضا الله عز وجل
_________
(1) «المغني» (7/ 116)، و «الإجماع» لابن المنذر (ص: 100).
(2) «ابن عابدين» (3/ 239)، و «الهداية» (1/ 230)، و «الدسوقي» (2/ 365)، و «بداية المجتهد» (2/ 138)، و «مغني المحتاج» (3/ 279)، و «الأم» (5/ 253)، و «المغني» (7/ 114 - 115) ط. المنار، و «الإنصاف» (8/ 433)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 102 - 108)، و «زاد المعاد» (5/ 211 - وما بعدها)، و «المحلي» (10/ 208)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 86 - 99).
(3) سورة النساء: 43.
(4) «مجموع الفتاوى» (33/ 106).

(3/238)


من هذه العقوبة بالحد، وعقوبته بغيره تغيير لحدود الشريعة، ثم إن في هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها ما لا يجوز.
3 - أن الصحابة جعلوا السكران كالصَّاحي في الحد بالقذف، فإنهم قالوا: "إذا شرب سكر، وإذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى، وحدُّ المفتري ثمانون" (1) وهو ضعيف.
وأجيب: بأن هذا لو ثبت، فإنه يبيِّن "أن اقدامه على السكر الذى هو مظنة الافتراء يلحقه بالمقدم على الافتراء، إقامةً لمظنة الحكمة مقام الحقيقة، لأن الحكمة هنا فيه مستترة، لأنه قد لا يُعلم افتراؤه، ولا متى يفتري، ولا على من يفتري، كما أن المضطجع يُحدث ولا يدرى هل هو أحدث أم لا؟ فقام النوم مقام الحدث، فهذا فقه معروف، فلو كانت تصرفاته من هذا الجنس لكان ينبغى أن يطلق امرأته سواء طلق أو لم يطلق، كما يحدُّ حد المفتري سواء افترى، أو لم يفتر، وهذا لا يقوله أحد" (2).
4 - أنه لا يعلم زوال عقله إلا بقوله، وهو فاسق بشربه، فلا يقبل قوله في عدم العقل والسكر.
5 - ما يُروى مرفوعًا: "كل الطلاق جائز، إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله" (3) لكنه ضعيف.
القول الثاني: لا يقع طلاق السكران مطلقًا:
وهو القول القديم للشافعي واختاره المزني والطحاوي من الحنفية والرواية الأخرى عن أحمد، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث وإسحاق وأبي ثور وهو اختيار شيخ الإسلام وهو مروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحجة هذا القول ما يلي:
1 - قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ...} (4).
_________
(1) ضعيف: أخرجه مالك (1533)، والشافعي (293)، وعبد الرزاق (7/ 378)، والدارقطني (3/ 157، 166)، والحاكم (4/ 417)، والبيهقي (8/ 320).
(2) «مجموع الفتاوى» (33/ 105).
(3) ضعيف: أخرجه الترمذي بسند ضعيف، وقد تقدم أنه قد صحَّ نحوه على عليٍّ موقوفًا وليس فيه: «المغلوب على عقله».
(4) سورة النساء: 43.

(3/239)


قالوا: فجعل قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول، فبطلت صلاته وعبادته لعدم عقله، فبطلان عقوده أولى وأحرى كالنائم والمجنون ونحوهما.
2 - قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ... " (1) والسكران لا نية له ولا قصد، والعقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالقصود.
3 - حديث بريدة -في قصة ماعز واعترافه بالزنا- وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أشرب خمرًا؟ " فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ... الحديث (2).
فجعل صلى الله عليه وسلم السكر كالجنون في إسقاط العقوبة.
وأجيب بأن هذا في باب الحدود، والحدود تُدرأ بالشبهات!
4 - حديث عليٍّ في قصة سُكر حمزة بن عبد المطلب ودخول النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وفيه: " ... فإذا هم شرب فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة قد ثمل محمرةً عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .... ثم قال: هل أنتم إلا عبيد لأبى، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قد ثمل، فنكص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عقبيه القهقرى وخرجنا معه" (3).
قال ابن حزم (10/ 211): فهذا حمزة رضي الله عنه يقول وهو سكران ما لو قاله غير سكران لكفر، وقد أعاذه الله من ذلك، فصحَّ أن السكران غير مؤاخذ بما يفعله جملة ... اهـ.
وقال الحافظ: وهو من أقوى أدلة من لم يؤاخذ السكران بما يقع منه في حال سُكره من طلاق وغيره. اهـ. واعترض بأن الخمر حينئذٍ كانت مباحة فيسقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحال (!!) وأجيب: بأن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعدم مؤاخذة السكران بما يصدر منه، ولا يفترق الحال بأن يكون الشراب مباحًا أو لا.
5 - ما صحَّ عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "كل الطلاق جائز إلا طلاق النشوان، وطلاق المجنون" (4) قال شيخ الإسلام (33/ 102): ولم يثبت عن الصحابة خلافُه فيما أعلم.
6 - وعن عمر بن عبد العزيز "أنه أُتي برجل طلَّق امرأته وهو سكران،
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1)، ومسلم.
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (3091).
(4) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1112)، وعبد الرزاق (12308)، وابن أبي شيبة (5/ 39)، والبيهقي (7/ 359).

(3/240)


فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو أنه طلَّق وما يعقل، فحلف، فردَّ عليه امرأته وضربه الحد" (1).
7 - "من سكر بشرب محرَّم فلا ريب أنه يأثم بذلك، ويستحق من عقوبة الدنيا والآخرة ما جاء به أمر الله تعالى، فهذا الفرق ثابت بينه وبين من سكر سكرًا يُعذر فيه، لكن كون عهده الذى يعاهد به الآدميين يترتب عليه أثره ويحصّل مقصوده، فهذا لا فرق فيه بين سكر المعذور وغير المعذور، لأن هذا إنما كان الموجب لصحته أن صاحبه فَعَله وهو عاقل مميِّز، لا أنه برٌّ وفاجر، والشرع لم يجعل السكران بمنزله الصاحى أصلًا" (2).
قلت: القول بعدم وقوع طلاق السكران مطلقًا أرجح وأليق بمقاصد الشريعة وأصولها، ثم إنه لا فرق بين زوال العقل بمعصية أو غيرها، فإن من كَسَرَ ساقيه يجوز له أن يصلي قاعدًا، ومن ضربتْ بطن نفسها -وهي حامل- فنفست سقطت عنها الصلاة، وهذا هو القول المعمول به في المحاكم المصرية، والله أعلم.
[4] القصد والاختيار: والمراد به هنا: إرادة التلفظ بلفظ الطلاق (3) باختياره من غير إجبار، ولو لم ينوه، فلا يقع طلاق فقيه يُعلِّم طلابه ولا حاك عن نفسه أو غيره، لأنه لم يقصد معناه وإنما قصد التعليم أو الحكاية، ولا طلاق أعجمي لُقِّن لفظ الطلاق بلا فهم منه لمعناه، وهذا متفق عليه (4).
وأما المخطئ، والمكره، والغضبان، والسفيه، والمريض، فقد اختلف أهل العلم في صحة طلاقهم:
(أ) طلاق المخطئ (5):
وهو من لم يقصد التلفظ بالطلاق أصلًا، وإنما قصد لفظًا آخر فسبقه لسانه إلى الطلاق من غير قصد، كأن يريد أن يقول لزوجته: أنت طاهر، فإذا به يخطئ
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1110)، وابن أبي شيبة (5/ 39).
(2) «مجموع الفتاوى» (33/ 108).
(3) وليس المراد هنا: النية لإيقاع الطلاق وإنما انتقاؤه للفظ الطلاق وإن لم يُرِدْ إيقاعه، فلينتبه!!
(4) «فتح القدير» (3/ 39)، و «القوانين» (ص 230)، و «مغني المحتاج» (3/ 287)، و «كشاف القناع» (5/ 263).
(5) «ابن عابدين» (3/ 230)، و «الدسوقي» (2/ 266)، و «مغني المحتاج» (3/ 287)، و «المغني» (7/ 118)، و «المحلي» (10/ 200).

(3/241)


ويقول: أنت طالق [وهو غير هازل، فالهازل قاصد للفظ الطلاق وإن كان غير قاصد للفرقة وطلاقه صحيح كما سيأتي] فهذا المخطئ اختلف أهل العلم في صحة طلاقه:
فذهب الجمهور إلى أن طلاقه لا يقع قضاءً وديانة (1)، إذا ثبت خطؤه بالقرائن، فإذا لم يثبت خطؤه وقع الطلاق قضاءً، ولم يقع ديانة، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (2).
ولا يقاس المخطئ على الهازل، لأن وقوع طلاق الهازل جاء للنص على خلاف القياس كما سيأتي في موضعه، ولأن الهازل قصد اللفظ فاستحق العقوبة بخلاف المخطئ.
وعند الحنفية يقع طلاقه قضاءً سواء ثبت خطؤه أم لا، ولا يقع ديانةً، وذلك لخطورة محل الطلاق وهو المرأة، ولأن في عدم إيقاعه فتح باب الادِّعاء بذلك بغير حق للتخلص من وقوع الطلاق، وهو ذريعة يجب سدُّها.
(ب) طلاق المُكره:
ذهب جمهور العلماء، منهم: مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وطائفة من السلف، وهو مروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم ذهبوا إلى عدم وقوع طلاق المكره (3) بغير حق، وهو اختيار شيخ الإسلام، وحجتهم ما يلي:
1 - قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} (4).
فلما وضع الله عن المكره على الكفر حكم الكفر، سقطت أحكام الإكراه عن القول كلِّه، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس، سقط ما هو أصغر منه (5).
_________
(1) وقوعه ديانةً أي: فيما بينه وبين الله تعالى، وقضاءً أي إذا رفع إلى القاضي فيحكم به.
(2) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجة (2045) وغيره وأعلُّه أبو حاتم كما في «العلل» (1/ 431) فليحرر.
(3) «الكافي» لابن عبد البر (2/ 571)، و «بداية المجتهد» (2/ 137)، و «مغني المحتاج» (3/ 289)، و «حاشية الجمل» (4/ 323)، و «المغني» (7/ 118)، و «الإنصاف» (8/ 439)، و «المحلي» (1/ 202).
(4) سورة النحل: 106.
(5) نقل البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 356) نحوه عن الشافعي - رحمه الله -.

(3/242)


2 - حديث: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد تقدم في "طلاق المخطئ".
3 - قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق، ولا عتاق، في غلاق" (1) أي: إكراه.
4 - عن ثابت بن الأحنف: "أن عبد الرحمن بن زيد توفي وترك أمهات أولاده، قال: فخطبتُ إحداهن إلى أسيد بن عبد الرحمن، وهو أصغر من عبد الله بن عبد الرحمن، فأنكحني، فلما بلغ ذلك عبد الله، بعث إليَّ، فاحتملت إليه، فإذا حديد وسياط، فقال: طَلِّقها وإلا ضربتك بهذه السياط، وإلا أوثقتك بهذا الحديد، قال: فلما رأيت ذلك طلقتها ثلاثًا، أو قال: بتتُّها، فسألت كل فقيه بالمدينة، فقالوا: ليس بشئ، فسألت ابن عمر فقال: ائت ابن الزبير، قال: فاجتمعت أنا وابن عمر عند ابن الزبير بمكة، فقصصت عليهما، فردَّاها عليَّ" (2).
5 - ولأنه منعدم الإرادة والقصد، فكان كالمجنون والنائم.
* فائدة: ذكر ابن قدامة للإكراه الذي لا يقع به الطلاق ثلاثة شروط (3):
" (أ) أن يكون من قادرٍ بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه.
(ب) أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به، إن لم يُجبه إلى ما طلبه.
(جـ) أن يكون مما يستضر به ضررًا كثيرا كالقتل والضرب الشديد والقيد والحبس الطويلين، فأما السب والشتم فليس بإكراه، وكذلك أخذ المال اليسير" اهـ.
* وخالف أبو حنيفة وأصحابه والثوري وبعض السلف، فقالوا: يقع طلاق المكره، لأنه عرف الشَّرين واختار أهونهما، وهذا آية القصد والاختيار، إلا أنه غير راضٍ بحكمه وذلك غير مُخلٍّ به، كالهازل (4).
قلت: ومذهب الجمهور أقوى لقوة أدلته، والله أعلم.
* تنبيه:
هذا كله في الإكراه بغير حق، لكن لو أكُره على الطلاق بحق، كالمُؤلي إذا انقضت مدة الإيلاء بدون فئ، فأجبره القاضي على الطلاق فطلَّق، فإنه يقع بالإجماع.
_________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2193)، وأحمد (6/ 276)، والحاكم (2/ 198)، وانظر «جامع أحكام النساء» (4/ 115).
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (11410) ونحوه عند مالك (2/ 587)، والبيهقي (7/ 358) بسياق أطول.
(3) «المغني» (7/ 119).
(4) «الهداية» (1/ 299)، و «فتح القدير» (3/ 488)، و «نصب الراية» (3/ 222).

(3/243)


(جـ) طلاق الغضبان:
الغضب: حالة من الاضطراب العصبي، وعدم التوازن الفكري، تحل بالإنسان إذا عدا عليه أحد بالكلام أو غيره.
والغضب على ثلاثة أقسام (1):
1 - "أن يحصل للإنسان مبادؤه وأوائله، بحيث لا يتغير عقله ولا ذهنه، ويعلم ما يقول ويقصده، فهذا لا إشكال في وقوعه طلاقه، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردد فكره".
قلت: (أبو مالك): وهذا هو الغالب في طلاق الرجال، إنما يكون في حال الغضب، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان مطلقًا، لكان لكل أحد أن يقول: كنت غضبان!!
2 - "أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة، فلا يعلم ما يقول، ولا يريده، فهذا لا يتوجَّه خلاف في عدم وقوع طلاقه".
قلت: وعليه يحمل حديث: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" (2) فقد قال أبو داود في "سننه" عقب الحديث: والإغلاق، أظنه الغضب. اهـ (3).
3 - "من توسَّط في الغضب بين المرتبتين، فتعدى مبادئه، ولم ينته إلى آخره بحيث صار كالمجنون، فهذا موضوع الخلاف، ومحل النظر".
قلت: في هذه الحالة يصل به الغضب إلى درجة يغلب عليه فيها الخلل والاضطراب في أقواله، وأفعاله، فيمنعه من التثبت والتروي، وإن كان لا يزيل عقله بالكلية، وهي حالة نادرة كذلك، ومذاهب الأئمة الأربعة: أنه يقع طلاق الغضبان بهذه الكيفية (4) وقال آخرون: لا يقع في هذه الحالة، وهو اختيار
شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، حيث قال: والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه، وعتقه، وعقوده، التي يُعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من الإغلاق كما فسَّره به الأئمة (5).
_________
(1) «زاد المعاد» (5/ 214)، و «إعلام الموقعين» (2/ 41).
(2) ضعيف: تقدم قريبًا.
(3) على أنه قد فسِّر الإغلاق بالإكراه وبالجنون وبتطليق الثلاث دفعة واحدة وغير ذلك.
(4) «ابن عابدين» (3/ 243)، و «الدسوقي» (2/ 366)، و «حاشية الجمل» (4/ 324)، و «كشاف القناع» (5/ 235).
(5) «إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان» لابن القيم (ص: 13).

(3/244)


وإلى هذا مال ابن عابدين -رحمه الله- فقال: " ... فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه، إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، فما دام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال: لا تعتبر أقواله، وإن كان يعلمها ويريدها، لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن إدراك صحيح كما لا تعتبر من الصبي العاقل" اهـ.
(د) طلاق السفيه:
السفيه: خفيف العقل، الذي يتصرف في المال على غير وفق العقل والشرع.
وطلاق السفيه يقع عند أكثر أهل العلم، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وغيرهم، ومنعه عطاء والشيعة الإمامية.
وصحته أولى، لأن السفيه مكلف مالك لمحل الطلاق، ولأنَّ السَّفَه موجب للحجر في المال خاصته، وهذا تصرف في النفس، وهو غير متهم في حق نفسه، فإن نشأ عن طلاق السفيه آثار مالية كالمهر فهي تبع لا أصل، والله أعلم (1).
(هـ) طلاق المريض (طلاق الفرار) (2):
إذا طلَّق المريض -مرض الموت- زوجته المدخول بها في مرضه بغير طلب منها أو رضا طلاقًا بائنًا، ثم مات وهي في عدتها من طلاقة هذا، فهل يقع طلاقه أم لا؟ وهل ترثه المطلقة أم لا؟ ليس في هذه المسألة نصٌ من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا اختلف أهل العلم في ذلك:
فذهب الجمهور إلى أنه يُعدُّ فارًّا من إرثها حكمًا، فترث منه رغم وقوع الطلاق عليها (!!) عملًا بسدِّ الذريعة لقطع حظها من الميراث ومعاملة له بنقيض قصده، وهؤلاء إنما استأنسوا بفتوى عمر وعثمان رضي الله عنهما.
ثم انقسم هؤلاء ثلاث فرق:
1 - فقالت طائفة: ترث ما دامت في العدة لأن العدَّة عندهم من بعض أحكام الزوجية، وكأنهم شبَّهوها بالمطلقة الرجعية، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري.
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 238)، و «مغني المحتاج» (3/ 279)، و «الدسوقي» (2/ 365).
(2) «ابن عابدين» (2/ 418)، و «فتح القدير» (4/ 146 - وما بعدها)، و «الدسوقي» (2/ 352)، و «بداية المجتهد» (2/ 139)، و «المدونة» (2/ 132)، و «الأم» (3/ 254)، و «مغني المحتاج» (3/ 293)، و «المغني» (6/ 329)، و «المحلي» (10/ 218 - وما بعدها) وفيه بحث نفيس.

(3/245)


2 - وقالت طائفة: ترث ما لم تتزوَّج، وبه قال ابن أبي ليلى والإمام أحمد، لكنه خلاف الأصحِّ عند الحنابلة، ولعلهم لحظوا إجماع المسلمين على أن المرأة الواحدة لا ترث زوجين.
قلت: كذا وجَّهه ابن رشد، والذي يظهر لي أن المراد بقولهم (ما لم تتزوج) أي: ما لم يمكنها التزوَّج أي بانقضاء العدة، فرجع إلى الأول، وقد أشار إلى ذلك ابن الهمام.
3 - وقالت طائفة: ترثه مطلقًا، سواء كانت في العدة أم لا، تزوجت أم لم تتزوج، وهو مذهب مالك والليث!! وحجتهم الرواية الآتية عن عثمان رضي الله عنه وقد صحَّ خلافها كذلك كما سيأتي، واحتج هؤلاء جميعًا على توريثها بما يأتي:
(أ) أن عثمان بن عفان: "ورَّث امرأة عبد الرحمن بن عوف بعد انقضاء العدة وكان طلَّقها مريضًا" (1).
(ب) عن ابن أبي مليكة "أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يطلق المرأة فيبتُّها، ثم يموت وهي في عدتها؟ فقال ابن الزبير: طلق عبد الرحمن بن عوف ابنة الأصبغ الكلبى فبتَّها ثم مات وهي في عدتها، فورَّثها عثمان، قال ابن الزبير: وأما أنا فلا أرى أن ترث المبتوتة" (2).
(ج) عن ابن عمر قال: "طلَّق غيلان بن سلمة الثقفي نساءه، وقسَّم أمواله بين بنيه في خلافة عمر، فبلغ ذلك عمر، فقال: طلَّقت نساءك، وقسمت مالك بين بنيك؟ قال: نعم، قال: والله إني لأرى الشيطان فيما يسرق من السمع سمع بموتك، فألقاه في نفسك، فلعلك أن لا تمكث إلا قليلًا، وايم الله لئن لم تراجع نساءك، وترجع في مالك، لأورثهن منك إذا متَّ، ثم لآمرنَّ بقبرك فليرجمنَّ كما رجم قبر أبي رغال" (3).
قالوا: وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليهما فكان إجماعًا!!
* بينما ذهب الشافعي -في الجديد- وابن حزم إلى أن الطلاق يقع وأنها لا ترث منه سواء مات في عدتها أو بعدها، لما يأتي:
1 - أنه طلَّق وهو بالغ غير مغلوب على عقله فجاز طلاقه كما لو كان صحيحًا.
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12191، 12195).
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12192)، وابن أبي شيبة (5/ 217).
(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12216).

(3/246)


2 - لأنه إذا طلقها بائنًا انقطعت الزوجية، ولا يجوز توريثها بلا سبب ولا نسب.
3 - أن فتوى عثمان وعمر رضي الله عنهما معارضة بفتوى ابن الزبير وقد أجيب عن هذا بأن ابن الزبير لم يكن في ذلك الزمان من الفقهاء، إذ لم يعرف له قبل ذلك فتوى ولا شهرة بفقه!! ثم إنه قال في بعض الروايات: "لو كنت أنا لم أورثها" فأراد به: لعدم علمي إذ ذاك بأن الحكم الشرعي في حقها ذلك!!
قلت: أما الوجه الأخير فيأباه السياق الذي قدمتُه من قوله: "وأما أنا فلا أرى أن ترث المبتوتة" وهذا واضح.
4 - أن التعليل لعدم إيقاع الطلاق بأنه يُظَن أنه يريد ظلمهما والفرار من توريثها، فهذا الظن لا ينبغي أن تُبطل به الأحكام الشرعية، ثم إن هذا الظن موجود في حال صحته وقوته كذلك.
* الراجح:
لا يخلو الأمر -على التحقيق- من أحد أمرين: إما أن يكون الطلاق قد وقع فتنقطع الزوجية ويسقط التوارث، وإما أن لا يقع الطلاق ولا يعتد به في مرض الموت مطلقًا فالزوجية قائمة والتوارث ثابت، أما أن يكون طلاق تبث به بعض أحكامه دون بعض، فهذا خلاف الأصول.
وعلى هذا، فمن جعل فتوى عثمان وعمر (1) رضي الله عنهما ولم يعتدَّ بمخالفة ابن الزبير لزمه أن يقول بعدم وقوع الطلاق، وأوجب لها الميراث.
ومن لم يجعل ذلك حجة عمل بالأصل وهو وقوع الطلاق من المريض -كغيره- وسقوط التوارث، وهو الأقرب والله أعلم.
* فائدتان:
1 - إذا طلقَّها طلاقًا رجعيًّا فمات في مرضه أو لم يمت فيه، أو ماتت هي، فإنهما يتوارثان بالاتفاق.
2 - وإذا طلبت هي الطلاق أو قال لها: اختاري، فاختارت نفسها عليه، أو اختلعت، فقال الأوَّلون -إلا أبا حنيفة-: ترثه، وقال أبو حنيفة: لا ترث.
قلت: قول أبي حنيفة هو مقتضى النظر، فإن طلبها الطلاق ورغبتها فيه ينفي معنى الفرار الذي لأجله أوجبوا لها الميراث، والله أعلم.
_________
(1) على أنه ليس في أثر عمر أن الرجل كان مريضًا، فلينتبه!!

(3/247)


* طلاق الكافر، هل يقع؟
فائدة هذه المسألة تظهر فيما إذا طلَّق الرجل -وهو كافر- زوجته تطليقتين ثم أسلم، فهل تُحسبان عليه ويبقى له عليها تطليقة واحدة؟ أو لا تُحسبان ويبقى له ثلاث؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين (1):
الأول: يقع طلاق المشرك ويُحسب عليه، وهو مذهب جمهور العلماء، وحجتهم:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت نكاح المشرك وأقرَّ أهله عليه في الإسلام، فكذلك الطلاق، لأن الطلاق يثبت بثبوت النكاح ويسقط بسقوطه.
2 - أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة على الراجح.
الثاني: لا يقع طلاق المشرك ولا يُحسب عليه: وهو مذهب مالك وداود وابن حزم، وبه قال الحسن وقتادة وربيعة، وحجتهم ما يلي:
1 - قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين} (2).
2 - حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام يهدم ما قبله" (3).
3 - أنه أسلم رجال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يسألهم عن عدد تطليقاتهم قبل الإسلام وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم من المقال.
4 - أن الأصل في جميع أفعال الكافر عدم الاعتبار بها، فخرج النكاح بإقراره صلى الله عليه وسلم وبقي الطلاق على الأصل.
قلت: وهذا هو الأقرب، والله أعلم.
* طلاق الهازل:
(أ) ذهب جمهور أهل العلم إلى أن من تلفَّظ -ولو هازلًا أو لاعبًا- بصريح لفظ الطلاق، فإنه يقع طلاقه إذا كان بالغًا عاقلًا، ولا ينفعه حينئذٍ أن يقول: كنت لاعبًا أو هازلًا، أو لم أنو به طلاقًا، أو ما أشبه ذلك، واحتجوا بما يلي:
_________
(1) «الأم» (5/ 79)، و «المدونة» (2/ 127)، و «فتح الباري» (9/ 390)، و «المحلي» (10/ 201)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 108).
(2) سورة الأنفال: 38.
(3) صحيح: أخرجه مسلم وغيره.

(3/248)


1 - قوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزوًا} (1).
2 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدُّهنَّ جدٌّ، وهزلهن جدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة" (2). "قالوا: لو أطلق للناس ذلك لتعطلت الأحكام ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول: كنت في قولي هازلًا، فيكون في ذلك إبطال أحكام الله سبحانه وتعالى، وذلك غير جائز، فكل من تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه، ولم يُقبل منه أن يدَّعى خلافه، وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له" (3).
3 - قال ابن القيم -رحمه الله-: " ... الهازل قاصد للفظ الطلاق غير مريد لحكمه، وذلك ليس إليه، فإنما إلى المكلَّف الأسباب، وأما ترتب أحكامها فهو إلى الشارع وتكليفه، فإذا قصده رتَّب الشارع عليه حكمه جدَّ به أو هَزَل، وهذا بخلاف النائم والمبرسم والمجنون والسكران وزائل العقل، فإنهم ليس لهم قصد صحيح وليسوا مكلفين، فألفاظهم لغو بمنزلة ألفاظ الطفل الذي لا يعقل معناها ولا يقصدها، وسر المسألة: الفرق بين من قصد اللفظ وهو عالم به ولم يُرد حكمه، وبين من لم يقصد اللفظ ولم يعلم معناه، فالمراتب التي اعتبرها الشرع أربع: إحداها: أن يقصد الحكم ولا يتلفَّظ به.
الثانية: أن لا يقصد اللفظ ولا حكمه.
الثالثة: أن يقصد اللفظ دون حكمه.
الرابعة: أن يقصد اللفظ والحكم.
فالأوُليان لغو، والآخرتان معتبرتان، هذا الذي استفيد من مجموع نصوصه وأحكامه" اهـ (4).
(ب) وذهب مالك -وهو قول عن أحمد- وغيره إلى أن التلفظ بصريح الطلاق يشترط لوقوعه وجود النية والعلم باللفظ مع إرادة مقتضاه، واحتجوا بما يلي:
_________
(1) سورة البقرة: 231.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجة (2039) بسند ضعيف، وله شواهد ضعيفة اختلف في تحسينه بها، وقد حسَّنه الألباني في «الإرواء» (6/ 224).
(3) «معالم السنن» للخطابي.
(4) «زاد المعاد» (5/ 204 - 205).

(3/249)


1 - قوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} (1).
قالوا: فدلَّ على اعتبار العرز، والهازل لا عزم منه، وأجيب بأن الاستدلال بالآية على تلك الدعوى غير صحيح من أصله، فإنها نزلت في المولى (2).
2 - قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ... " (3).

ثانيًا: الشروط المتعلِّقة بالمطلَّقة:
يُشترط في المطلَّقة ليقع عليها الطلاق ما يلي:
1 - أن تكون الزوجية قائمة بينها وبين زوجها حقيقة أو حكمًا (4):
كأن تكون المطلَّقة زوجة للمطلق، أو معتدَّة من طلاقه الرجعى.
فإذا كانت معتدة من طلاق بائن أو فسخ، فذهب الجمهور إلى عدم وقوع الطلاق عليها لانقضاء النكاح بالبينونة والفسخ، وذهب الحنفية إلى أن المبانة بينونة صغرى في عدتها زوجة من وجه بدلالة جواز عودها إلى زوجها بغير عقد جديد أثناء العدة، وعدم حل زواجها من غيره قبل انقضاء العدة، فلهذا يجوز تطليقها.
وإذا طلقت المرأة قبل الدخول والخلوة، فلا عدة عليها، لقوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} (5).
ويكون طلاقًا بائنًا فلا يلحقها طلاق آخر عند الحنفية والشافعية، فلو قال الرجل لزوجته التي لم يدخل ولم يختل بها: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق) فلا تقع إلا طلقة واحدة لأنها بالتطليقة الأولى صارت بائنًا من زوجها، وأصبحت أجنبية، فلا يلحقها طلاق آخر. وقال المالكية والحنابلة: يقع بهذه الألفاظ المتتابعة ثلاث طلقات، لأنه نسق أي: غير مفترق، لأن الواو تقتضي الجمع ولا ترتيب فيها، فيكون الرجل موقعًا للثلاث جميعًا فيقعن عليها (6)، إلا أنه إذا قصد بالثانية والثالثة تأكيد ما قبلها، فيُصدَّق -عند المالكية- قضاءً بيمين، وديانة بغير يمين.
_________
(1) سورة البقرة: 227.
(2) «نيل الأوطار» (6/ 278) ط. الحديث.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1)، ومسلم.
(4) «ابن عابدين» (3/ 344)، و «القوانين الفقهية» (229)، و «الشرح الكبير» (2/ 370) مع الدسوقي، و «مغني المحتاج» (3/ 292)، و «المغني» (7/ 233).
(5) سورة الأحزاب: 49.
(6) سيأتي تحرير مسألة: هي يقع طلاق الثلاث دفعة واحدة؟ قريبًا إن شاء الله.

(3/250)


2 - أن يُعيِّن الزوجُ المطلقة بالإشارة أو بالصفة أو بالنية: فأيُّها قدَّم جاز، فإن عيَّن المطلقة بالإشارة والصفة والنية وقع عليها الطلاق اتفاقًا، كأن يقول لزوجته التي اسمها زينب مشيرًا إليها قاصدًا طلاقها: (يا زينب، أنت طالق).
وكذلك لو أشار إلى واحدة من نسائه دون أن يصفها بوصف، ولم ينو غيرها، يقع الطلاق اتفاقًا، وكذلك إذا وصفها بوصفها دون الإشارة ودون قصد غيرها، كأن يقول: (سلمى طالق).
فإن قال: (إحدى نسائي طالق) ونوى واحدة ولم يُشر إلى إحداهن، فإنها تطلَّق دون غيرها.
* وإن أشار إلى واحدة ووصف غيرها: كأن يقول لزوجته سلمى: (أنت يا زينب طالق) وكانت زينب زوجته كذلك، طُلِّقت المشار إليها (سلمى) دون الغائبة الموصوفة، قضاء عن الحنفية، للقاعدة: (الوصف في الحاضر لغو، وفي الغائب معتبر) (1) وكذلك لو أشار إليها ووصفها بغير وصفها، فإنها تطلق للقاعدة السابقة.

ثالثًا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق:
الأصل في الطلاق أن يعبَّر عنه باللفظ، وقد يُستعاض عن اللفظ في بعض الأحوال بالكتابة أو الإشارة.
(أ) الطلاق باللَّفظ (2):
لفظ الطلاق إما أن يكون صريحًا أو كناية:
فالصريح: هو الذي يُفهم منه -عند التلفظ به- معنى الطلاق، ولا يحتمل معنى آخر، لعدم استعماله إلا في الطلاق غالبًا، لغة أو عرفًا، كقول الرجل:
(أنت طالق-طلقتك-أنت مطلقة) ونحو ذلك اتفاقًا.
واستُعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم، فمن ذلك:
قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ...} (3).
_________
(1) «مجلة الأحكام العدلية» (مادة / 65).
(2) «ابن عابدين» (3/ 247 - 296)، و «الدسوقي» (2/ 378)، و «مغني المحتاج» (3/ 280)، و «المغني» (7/ 318 - 319)، و «المحلي» (10/ 185 - 196) وفيه بحث مانع، و «جامع أحكام النساء» (4/ 59 - 63)، و «نيل المآرب» (2/ 237).
(3) سورة الطلاق: 1.

(3/251)


وقوله عز وجل: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ...} (1).
وقوله سبحانه: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقًّا على المتقين} (2).
وقد ذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى اعتبار ألفاظ: الفراق والسراح كالطلاق في كونها صريحة في معنى الطلاق، لورود الثلاثة في كتاب الله بهذا المعنى:
ففي ذكر الفراق بمعنى الطلاق: قال الله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (3).
وقال سبحانه: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} (4).
وفي ذكر التسريح بمعنى الطلاق، قال الله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (5). وقال سبحانه: {... وأسرحكن سراحًا جميلا} (6).
قلت: الأظهر قول الحنفية والمالكية (7) بأن ألفاظ الفراق والتسريح ليست صريحة وإنما هي كناية لأنهما يشترك في معناهما الطلاق وغيره، فقد قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} (8).
وقال سبحانه: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} (9).
وليس للتفرق هنا علاقة بالطلاق كما هو ظاهر.
وكذلك قوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ... وسرحوهن سراحًا جميلًا} (10). فذكر التسريح بعد الطلاق، وهو هنا بمعنى الإرسال كما قال كثير من أهل العلم (11).
فإذا كان كذلك فإن ألفاظ الفراق والتسريح تعتبر من الكنايات.
_________
(1) سورة الأحزاب: 49.
(2) سورة البقرة: 241.
(3) سورة الطلاق: 2.
(4) سورة النساء: 130.
(5) سورة البقرة: 229.
(6) سورة الأحزاب: 28.
(7) والمالكية مع اعتبارهم ألفاظ الفراق والتسريح كنائية إلا أنهم ألحقوها بالصريحة في وقوع الطلاق بها بغير نية (!!).
(8) سورة آل عمران: 103.
(9) سورة البينة: 4.
(10) سورة الأحزاب: 49.
(11) «جامع أحكام النساء» لشيخنا - رفع الله مقامه - (4/ 60).

(3/252)


وينبغي أن يُعلم أن "تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية وإن كان تقسيمًا صحيحًا في أصل الوضع، لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فليس حكمًا ثابتًا للفظ لذاته، فرُبَّ لفظ صريح عند قوم كناية عند آخرين، أو صريح في زمان أو مكان كناية في غير ذلك الزمان والمكان، والواقع شاهد بذلك، فهذا لفظ السَّراح لا يكاد أحد يستعمله في الطلاق لا صريحًا ولا كناية، فلا يسوغ أن يقال: من تكلم به لزمه طلاق امرأته، نواه أو لم ينوه!!، ويدعي أنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال، فإن هذه دعوى باطلة شرعًا واستعمالًا، أما الاستعمال فلا يكاد أحد يطلق به ألبتة، وأما الشرع فقد استعمله في غير الطلاق ... " اهـ (1).
* ولا تشترط النية في وقوع الطلاق الصريح:
وكذلك إذا صرَّح بالطلاق ولو نوى نية مناقضة، فإنه يقع قضاءً، فلو أطلق اللفظ الصريح ثم قال: لم أنو به شيئًا، وقع الطلاق، ولو قال: نويت غير الطلاق، لم يصدق قضاءً، وصُدِّق ديانة، هذا إذا لم تَحُفَّ باللفظ من قرائن الحال ما يدل على صدق نيته في إرادة غير الطلاق، فإن وُجدت قرينة تدل على عدم قصده الطلاق صدق قضاءً أيضًا، ولم يقع به عليه طلاق، كالمكره والمخطئ على ما تقدم.
وعلى هذا فيشترط -فقط- لمن أطلق اللفظ الصريح أن يفهم معناه ويختاره، لا أن ينوي إيقاعه فهذا لا يشترط في اللفظ الصريح.
2 - وأما الكناية: وهو اللفظ الذي لم يوضع للطلاق خاصة، وإنما احتمله وغيره، فإذا لم يحتمله أصلًا لم يكن كناية، وكان لغوًا، ولم يقع به شيء (2).
ومثال اللفظ الكنائي، أن يقول الرجل: (سرحتُك-أنت مسرَّحة-فارقتك- أنت مفارقة).
وكأن يقول: (اعتدِّى-واستبرئي رحمك- الحقي بأهلك- أنت خليَّة- أنت مُطْلَقة- بغير تشديد-ونحو ذلك) عند بعض العلماء (3).
_________
(1) «زاد المعاد» (5/ 321 - 322).
(2) «المغني» لابن قدامة (7/ 329).
(3) وقد ذهب أبو محمد بن حزم - رحمه الله - في «المحلي» (10/ 185 - 196) إلى أن الطلاق لا يقع بحال إلا إذا كان بأحد الألفاظ الثلاثة الواردة في كتاب الله. (الطلاق - الفراق - السراح) وما عداها فلا يقع به طلاق البتة سواء نوى الطلاق أو لم ينوه، وقد ذكر الألفاظ الأخرى ثم قال: «وهذه الألفاظ جاءت فيها آثار مختلفة الفتيا عن نفر من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولم يأت فيها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أصلًا، ولا حجة في كلام غيره - عليه الصلاة والسلام - لاسيما في أقوال مختلفة ليس بعضها أولى من بعض ...» اهـ.

(3/253)


ولابد من النية لوقوع الطلاق الكنائي: لأن اللفظ يحتمل الطلاق وغيره، فلا يُصرف إلى الطلاق إلا بنية، وأما وقوعه بالنية فلأن اللفظ يحتمله فيصرف إليه بها.
* فائدة: هل تَحل قرائن الحال محلَّ النية في وقوع الطلاق الكنائي؟ (1).
فلو قال الرجل لزوجته في حال غضبع وشجاره معها: (الحقي بأهلك) (2) ولم ينو الطلاق، فهل يقع؟
1 - ذهب الحنفية وهو المعتمد عند الحنابلة أن القرائن تحل محلَّ النية في الطلاق الكنائي، فيقع الطلاق عندهم في هذه الحالة وإن لم ينوه (!!)
2 - وأما المالكية والشافعية -وهو رواية عند الحنابلة- فلم يعتبروا قرائن الحال هنا، فلا يقع الطلاق عندهم باللفظ الكنائي إلا إذا نوى الطلاق.
قلت: وهذا هو الأرجح، والله أعلم.
* إذا طلَّق امرأته في نفسه ولم يتلفَّظ به لم يقع:
لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" (3).
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 247)، و «الدسوقي» (2/ 378)، و «مغني المحتاج» (3/ 280)، و «المغني» (7/ 322).
(2) اختلف العلماء في قوله (الحقي بأهلك) هل هو من ألفاظ الطلاق يقع به الطلاق أصلًا أو لا؟ والذي يظهر أنه لا يقع به طلاق، وأما حديث عائشة: أنَّ ابنة الجون لما أُدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: «لقد عُذت بمعاذ، الحقي بأهلك» فليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عقد عليها، ويؤيده أنه في بعض طُرق البخاري (5257) أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل عليها قال: «هبي نفسك لي ...».
ورواية عند البخاري (5637)، ومسلم (2007) أنها لما قالت: «أعوذ بالله منك، قال: «قد أعذتك مني» فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ فقالت: لا، قالوا: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليخطبك ... الحديث» ففيهما أنه لم يكن عقد عليها.
ويؤيد هذا أيضًا ما في البخاري (4418)، ومسلم (2769) في قصة كعب بن مالك وصاحبيه: «... فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ أو ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها ... فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر» وهو صريح في أن هذا اللفظ لا يعد طلاقًا، لكن قد جاء في قصة إسماعيل - عليه السلام - مع زوجته لما أخبرته بمجيء الشيخ وطلبه منه أن يغيِّر عتبة بابه، فقال إسماعيل - عليه السلام -: «ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلَّقها ...» الحديث رواه البخاري (3364)، فلو قيل: هو من الألفاظ الكنائية في الطلاق التي يقع بها إذا وجدت النية، لأجل هذا الحديث، فليس هذا ببعيد كذلك، والله تعالى أعلم.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5269)، ومسلم (127).

(3/254)


وبهذا قال عامة أهل العلم (1).
* إذا قال لامرأته: (أنت عليَّ حرام)، هل يقع طلاقًا؟
لم يقع في القرآن الكريم -صريحًا- ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم نصٌّ ظاهر صحيح يُعتمد عليه في حكم هذه المسألة، ولذا تجاذبها العلماء، واختلفوا فيها على أقوال كثيرة ذكر ابن حزم منها اثنى عشر وذكر ابن القيم ثلاثة عشر مذهبًا أصولًا تفرَّعت إلى عشرين مذهبًا (2)، وأقرب هذه الأقوال أربعة:
الأول: إن نوى به الطلاق وقع طلاقًا، وإن لم ينوه كان يمينًا، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك -في المدخول بها- والشافعي ورواية عن أحمد (3)، على اختلاف بينهم في بعض الجزئيات والتفصيلات، وحجتهم: أن الطلاق نوع تحريم فصحَّ أن يكنى به عنه كسائر كنايات الطلاق لمن يشترط لوقوعه النية كما تقدم.
فإن لم توجد نية الطلاق فهو يمين لقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تيتغي مرضات أزواجك ... قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (4).
قال القرطبي: تحليل اليمين كفارتها. اهـ.
الثاني: يقع ظهارًا نوى الظهار أو لم ينوه، ويكون فيه كفارة ظهار: وهو مذهب أحمد وقول للشافعي، وقد صح عن ابن عباس (5).
وحجة هذا القول أن الله تعالى جعل التشبيه بمن تحرم عليه ظهارًا، فالتحريم أولى، قال ابن القيم: وهذا أقيس الأقوال، ويؤيده أن الله تعالى لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم، وإنما ذلك إليه تعالى، وإنما جعل له مباشرة الأقوال والأفعال التي يترتب عليها التحريم، فإذا قال: (أنت عليَّ كظهر أمي، أو: أنت عليَّ حرام) فقد قال المنكر من القول والزور وكذب على الله تعالى، فإنه لم يجعلها عليه كظهر أمِّه ولا جعلها عليه حرامًا -فقد أوجب بهذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار (6).
_________
(1) «المغني» (7/ 121)، و «فتح الباري» (9/ 394).
(2) انظر «المحلي» (10/ 124 - 128)، و «زاد المعاد» (5/ 302 - 313)، و «إعلام الموقعين»، و «نيل الأوطار» (6/ 313).
(3) «جواهر الإكليل» (1/ 347)، و «ابن عابدين» (3/ 254)، و «حاشية الجمل» (4/ 331)، وما تقدم.
(4) سورة التحريم: 1، 2.
(5) «المغني» (7/ 414)، و «الإنصاف» (8/ 486).
(6) وستأتي أحكام الظهار قريبًا - إن شاء الله.

(3/255)


الثالث: أنه يمين يكفَّر عنه بكفارة اليمين سواء نوى الطلاق أو غيره:
وهو مذهب الأوزاعي وأبي ثور وبه قال أبو بكر وعمر وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم (1)، وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ... قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (2).
2 - وسبب نزول الآية: تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه احتباسه عند بعض نسائه وشرب العسل.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلًا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فتواطئت أنا وحفصة أن أيَّتُنَا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير (3)؟ قال: "لا، ولكني كنت أشرب عسلًا عند زينب بنت جحش فلن أعود، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا" (4).
وفي لفظ للبخاري: فنزلت {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ...} (5).
3 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا حرَّم الرجل امرأته، فهي يمين يكفِّرها، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (6) " (7).
الرابع: أنه لغو وباطل ولا يترتب عليه شيء لا طلاق ولا يمين:
وهو قول الظاهرية وأكثر أصحاب الحديث وأحد قولي المالكية وهو مروي عن ابن عباس وحجتهم ما يلي:
1 - حديث عائشة السابق، قال الحافظ: "واستدل القرطبي وغيره بقوله: (حلفت) فتكون الكفارة لأجل اليمين لا لمجرد التحريم، وهو استدلال قوي لمن يقول: إن التحريم لغو لا كفارة فيه بمجرده، وحمل بعضهم قوله: (حلفت) على التحريم ولا يخفى بُعده" اهـ.
_________
(1) «المحلي» (10/ 124 - 1287)، و «نيل الأوطار» (6/ 313) وما بعدها.
(2) سورة التحريم: 1، 2.
(3) جمع مغفور: وهو صمغ حلو له رائحة كريهة (الفتح (9/ 290) - سلفية).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4912)، ومسلم.
(5) سورة التحريم: 1.
(6) سورة الأحزاب: 21.
(7) صحيح: أخرجه مسلم بهذا اللفظ (1473).

(3/256)


قلت: وعليه يُحمل قول الله تعالى: {وقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (1). أي تحلَّة الحلف لا أن التحريم يمين.
2 - قال تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك ...} (2). فأنكر سبحانه تحريم ما أحله الله له والزوجة مما أحل الله، فتحريمها منكر والمنكر مردود لا حكم له إلا التوبة والاستغفار.
3 - عن ابن عباس قال: "إذا حرَّم امرأته ليس بشيء، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (3) " (4).
4 - قال الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} (5). فمن قال لامرأته -الحلال له بحكم الله تعالى- هي حرام، فقد كذب وافترى، ولا تكون عليه حرامًا بقوله، لكن بالوجه الذي حرمها الله به.
5 - قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (6).
وتحريم الحلال ليس في أمر الله عز وجل فوجب ان يُردَّ.
* الراجح: الذي يظهر لي بعد دراسة أدلة المذاهب في المسألة أن يقال: لا يخلو من قال لزوجته: (أنت عليَّ حرام) من أحد حالين: الأول: أن لا يكون نوى الطلاق بمعنى أنه أراد تحريم عين المرأة فالصحيح أن قوله لغو باطل لا يترتب عليه شيء لما تقدم في أدلة المذهب الرابع.
الثاني: أن يكون نوى الطلاق بهذا القول، فالظاهر أنه لا مانع من إلحاق لفظ التحريم بالألفاظ الكنائية التي يقع بها طلاق عند وجود نيَّته، بناء على ما تقدم ترجيحه من أن الألفاظ لا تراد لعينها، بل للدلالة على مقاصدها، فإذا تكلَّم بلفظ دالٍّ على معنى، وقصد به ذلك المعنى ترتَّب عليه حكمه، ولذا ذكر الله تعالى
_________
(1) سورة التحريم: 2.
(2) سورة التحريم: 1.
(3) سورة الأحزاب: 21.
(4) صحيح: أخرجه البخاري بهذا اللفظ (5266)، وقد حُمل هذا اللفظ على لفظ مسلم المتقدم بأن المراد بقوله ليس بشيء، أي ليس بطلاق فلا ينبغي أن يكون يمينًا، والله أعلم.
(5) سورة النحل: 116.
(6) صحيح.

(3/257)


الطلاق ولم يعيِّن له لفظًا، فعُلم أنه ردَّ الناس إلى ما يتعارفونه طلاقًا، فأيُّ لفظ جرى عرفهم به، وقع به الطلاق مع النية والله أعلم.
وأما أنه يقع ظهارًا فلو كان صحيحًا، لكفَّر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة الظهار، ولو فعل لاشتهر عنه ذلك، فدلَّ على أنه لم يفعل.
(ب) الطلاق بالكتابة:
إذا كان الرجل غائبًا، فكتب إلى زوجته بطلاقها، وقع الطلاق إذا نواه، عند جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم (1)، ويدلُّ على هذا:
1 - حديث فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقَّها ألبتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فقال: "ليس لك عليه نفقة" ... الحديث (2).
2 - عن الزهري قال: "إذا كتب إليها بطلاقها، فقد وقع الطلاق عليها، فإن جحدها استُخلف" (3).
3 - وعن الحسن البصري -في رجل كتب بطلاق امرأته ثم محاه قبل أن يتكلَّم- قال: "ليس بشيء إلا أن يمضيه أو يتكلم به" (4).
4 - وعن إبراهيم النخعي قال: "إذا خط الرجل بيده الطلاق فهو طلاق" (5).
5 - ولأن الكتابة حروف يُفهم منها الطلاق، فإذا أتى فيها بالطلاق وفهم منها ونواه، وقع كاللفظ.
بينما ذهب أبو محمد بن حزم -رحمه الله- إلى أن الطلاق لا يقع إلا على اللفظ، وأما الكتابة فلا تكون عنده طلاقًا (!!) والحديث حجة عليه، فالصحيح وقوع الطلاق بالكتابة مع النية له، فإن لم ينو الطلاق لم يقع -عند الجمهور- "لأن الكتابة محتملة، فإنه قد يقصد بها تجربة القلم، وتجويد الخط، وغمَّ الأهل، فلم يقع ككنايات الطلاق، ولأنه لو نوى باللفظ غير الإيقاع لم يقع، فالكتابة أولى" (6).
_________
(1) «ابن عابدين» (2/ 246)، و «القوانين الفقهية» (230)، و «الأم» (5/ 181)، و «المغني» (7/ 239)، و «المحلي» (10/ 196).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1480)، وأبو داود (2284)، (6/ 210).
(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (11433).
(4) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1183).
(5) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور.
(6) «المغني» لابن قدامة (7/ 239) ط. المنار.

(3/258)


وقد اشترط فقهاء الحنفية لوقوع الطلاق بالكتابة أن تكون: (مستبينة ومرسومة) ومعنى كونها مستبينة: أن تكتب على الصحيفة أو الحائط أو نحو ذلك بحيث يمكن فهمها وقراءتها ومعنى كونها مرسومة عندهم أن يكون الطلاق مصدرًا ومعنونًا، أي مرسلًا باسمها.
فائدة: إذا أرسل إليها الطلاق عن طريق الوسائل الحديثة: كالفاكس أو الحاسب الآلي (الكمبيوتر) المرتبط بشبكة الإنترنت (البريد الإلكتروني) ونحو ذلك، فإن كان المرسل إليها صورة من خطِّه فيلحق بما تقدم تحريره.
وإن كان بخط الآلة، فالذي يظهر أنه لا يقع حتى تتأكد من أن زوجها هو الذي أرسله وتأمن التزوير؛ لأنه يُبنى على ذلك اعتدادها واحتساب العدة من وقت صدور الطلاق، والله أعلم.
فائدة: اشترط بعض أهل العلم إثبات الكتاب بشاهدي عدل أن هذا كتابه: فقد نقله ابن قدامة في «المغني» (7/ 239): «عن أحمد في رواية حرب في امرأة أتاها كتاب زوجها بخطِّه وخاتمه بالطلاق: لا تتزوَّج حتى يشهد عندها شهود عدول، قيل له: فإن شهد حامل الكتاب؟ قال: لا، إلا شاهدان، فلم يقبل قول حامل الكتاب وحده حتى يشهد معه غيره، لأن الكتب المثبتة للحقوق لا تثبت إلا بشاهدين ككتاب القاضي ...» اهـ.
(جـ) الطلاق بالإشارة (1):
من كان قادرًا على الكلام لا يصح طلاقه بالإشارة عند الجمهور - خلافًا للمالكية - وأما الأخرس، فالجمهور على وقوع الطلاق بإشارته، وقيَّده الحنفية - وهو قول عند الشافعية - بأن يكون
عاجزًا عن الكتابة وإلا لم تجز إشارته؛ لأن الكتابة أدلُّ على المقصود، فلا يعدل عنها إلى الإشارة إلا لضرورة العجز عنها.

الإشهاد على الطلاق
استحب جماهير العلماء من السلف والخلف منهم الأئمة الأربعة وغيرهم أن يُشهد الرجلُ على طلاقه، لما فيه من حفظ الحقوق، ومنع التجاحد بين الزوجين، قال تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله} (2).
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 241)، و «الدسوقي» (2/ 384)، و «مغني المحتاج» (3/ 284)، و «المغني» 07/ 423).
(2) سورة الطلاق: 2.

(3/259)


وقد حملوا الأمر بالإشهاد في هذه الآية على أنه أمر ندب لا إيجاب، وقد يؤيد هذا الحمل:
1 - حديث ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مره فليراجعها ...» الحديث (1).
وليس فيه الأمر بالإشهاد على الطلاق ولا على الرجعة.
2 - وعن ابن عمر «أنه طلق امرأته صفية بنت أبي عبيد تطليقة أو تطليقتين فكان لا يدخل عليها إلا بإذن، فلما راجعها أشهد على رجعتها ودخل عليها» (2).
3 - أن الطلاق ورد في عدة آيات غير مقرون بالإشهاد، وكذلك في السنة.
4 - أن الطلاق من حقوق الزوج، فلا يحتاج إلى بيِّنة كي يباشر حقه.
5 - أنه كسائر الإشهاد.
وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن الإشهاد على الطلاق مستحب غير واجب، إلا أن هذه دعوى غير مسلَّمة، فقد رُوي القول بوجوب الإشهاد عن علي بن أبي طالب (!!) وعمران بن حصين - رضي الله عنهما -، وعطاء وابن جريج وابن سيرين، وهو القول القديم للشافعي - ثم استقر مذهبه على الاستحباب - وبه قال أبو محمد بن حزم، وهو مذهب أهل البيت - رضي الله عنهم -، ويُستدل لهم بما يلي:
1 - ظاهر الأمر في قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (3). وهو يقتضي الوجوب.
2 - أن الله تعالى قد قرن في الآية بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، فكل من طلَّق ولم يشهد ذوي عدل أو راجع ولم يشهد ذوي عدل متعدٍّ لحدود الله تعالى (4).
3 - عن مطرف بن عبد الله: أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها، ولم يُشهد على طلاقها ولا على رجعتها؟ فقال: «طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أُشْهِدْ على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تعد» (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471).
(2) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 373).
(3) سورة الطلاق: 2.
(4) «المحلي» (10).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2186).

(3/260)


فدلَّ على أن السنة الإشهاد، لكن لا يخفى أنه لا يدل على الوجوب، لتردد كونه من سنته - صلى الله عليه وسلم - بين الإيجاب والندب.
قلت: لو قيل بوجوب الإشهاد على الطلاق وتوثيقه لم يكن هذا بعيدًا، بل ربما يتعيَّن ذلك لاسيما في هذا الزمان الذي خربت فيه الذمم، ورقَّ منه الدين، منعًا للتجاحد، وحسمًا لمادة الخلاف والنزاع، وما نسمع به ونراه مما تعج به محاكم الأحوال الشخصية من القضايا والحوادث الناجمة عن عدم توثيق الطلاق والإشهاد عليه، ليحملنا على القول بوجوبه وإثم تاركه. على أنه ينبغي التنبيه على أن هذا الإشهاد ليست شرطًا في صحة الطلاق وإنما قد يأثم تاركه، والله تعالى أعلم بالصواب.
فائدة: إذا ادَّعت المرأة الطلاق على زوجها وأنكر الزوج (1): ههنا حالات:
1 - إذا لم يكن معها شاهد، لم تقبل دعواها، ولا يحلَّف الرجل بدعواها.
2 - إذا أقامت شاهدي عدل على طلاقها، قضي لها بذلك.
3 - إذا أقامت على الطلاق شاهدًا واحدًا، لم يكفها، ولا يؤخذ بيمينها مع الشاهد؛ لأن الشاهد واليمين إنما يكون في الأموال خاصة، فلا يثبت الطلاق بذلك، وهل يُحلَّف الزوج؟ فيه قولان:
فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد إلى أنه يُحلَّف، فإنه حلف برئ من دعواها.
وإن نَكَل (رفض الحلف) فهل يُقضى عليه بطلاق زوجته زوجته بالنكول مع شاهدها؟ فيه روايتان عن مالك، أصحهما أنه يُحكم في الطلاق بشاهد ونكول المدَّعى عليه، ويؤيده حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ادَّعت المرأة طلاق زوجها، فجاءت
على ذلك بشاهد واحد عدل، استُحلف زوجُها، فإن حلف بطلت عنه شهادة الشاهد، وإن نَكَل فنُكُوله بمنزلة شاهد آخر، وجاز طلاقه» (2).
فدلَّ على أن النكول بمنزلة البيِّنة، فلما أقامت شاهدًا واحدًا - وهو شطر البيِّنة - كان النكول قائمًا مقام تمامها، والله أعلم.
_________
(1) «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 282 - 285) باختصار.
(2) أخرجه ابن ماجة (2038).

(3/261)


أنواع الطلاق
يمكن تقسيم الطلاق إلى أنواعُ مختلفة بحسب النظر إليه:
1 - فهو من حيث الصيغة المستعملة فيه، على نوعين: صريح وكنائي، وقد تقدم الكلام عليهما.
2 - ومن حيث الأثر الناتج عنه، على نوعين: رجعي وبائن.
3 - ومن حيث صفته على نوعين: سُنِّي وبدعي.
4 - ومن حيث وقت وقوع الأثر الناتج عنه على ثلاثة أنواع: مُنجَّز، ومعلَّق على شرط، ومضاف إلى المستقبل، وإليك تفصيل هذه الأنواع وما يتعلق بها من أحكام:

أولًا: الطلاق الرجعي والبائن
[1] الطلاق الرجعي: هو ما يجوز معه للزوج ردُّ زوجته في عدَّتها من غير استئناف عقد جديد، ولو من غير رضاها، ويكون ذلك بعد الطلاق الأول والثاني غير البائن إذا تمت المراجعة قبل انقضاء العدة، فإذا انتهت العدة صار الطلاق بائنًا، فلا يملك الزوج إرجاع زوجته المطلقة إلا بعقد جديد.
مشروعية الرُّجعة:
والأصل في هذا قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (1). والمراد بالإمساك بالمعروف هنا: مراجعتها وردُّها إلى النكاح ومعاشرتها بالمعروف وقال سبحانه: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلاحًا} (2).
فدلَّ على أن أزواج المطلقات أحق بمراجعتهن في مدة العدة، بشرط أن لا يقصدوا بمراجعتهن الإضرار بهن ليخالعوهن أو نحو ذلك.
وظاهر الآية الكريمة أن كل أزواج المطلقات أحق بردهن من غير فرق بين الرجعية والبائن، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها، قال تعالى: {إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ
_________
(1) سورة البقرة: 229.
(2) سورة البقرة: 228.

(3/262)


تَعْتَدُّونَهَا} (1). والطلاق قبل الدخول بائن، فإنه لا عدة للرجل عليها فيه، وإنما تكون الرجعة في العدة.
وقد تقدم حديث ابن عمر أنه لما طلق امرأته في الحيض، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «مره فليراجعها» (2).
وأجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلَّق دون الثلاث والعبد دون اثنتين، أن لهما الرجعة في العدَّة (3).
حكمة مشروعية الرَّجعة:
«إن الحاجة تمسُّ إلى الرجعة، لأن الإنسان قد يُطلِّق امرأته ثم يندم على ذلك، على ما أشار الربُّ سبحانه وتعالى بقوله: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} (4).
فيحتاج إلى التدارك، فلو لم تثبت الرَّجعة لا يمكنه التدارك لما عسى أن لا توافقه المرأة في تجديد النكاح، ولا يمكنه الصبر عنها فيقع في الزنا» (5) لذا شُرعت الرَّجعة للإصلاح بين الزوجين وهذه حكمة جليلة، فتبارك الله أحكم الحاكمين.
فإن طلقها الثالثة:
فإن المرأة تبين منه، وتحرم على زوجها فلا يحل له مراجعتها حتى تنكح زوجًا غيره نكاحًا صحيحًا، قال تعالى: {فَإن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (6). ويشترط أن يطأها الزوج وطأ صحيحًا، لحديث عائشة - رضي الله عنها -: أن امرأة رفاعة القرظي جاءت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن فارعة طلقني فبتَّ طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسيلتك وتذوقي عسيلته» (7).
_________
(1) سورة الأحزاب: 49.
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) «المغني» (7/ 515)، و «الإفصاح» (2/ 158)، و «البدائع» (3/ 181).
(4) سورة الطلاق: 1.
(5) «بدائع الصنائع».
(6) سورة البقرة: 230.
(7) صحيح: أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).

(3/263)


من أحكام الرَّجعة والطلاق الرجعي:
شروط صحة الرَّجعة (1):
1 - أن تكون الرَّجعة بعد طلاق رجعي: (بعد الطلقة الأولى أو الثانية) سواء صدر من الزوج أو من القاضي، لأنها استئناف للحياة الزوجية التي قُطعت بالطلاق، فلولا وقوعه لما كان للرَّجعة فائدة، وهذا الشرط متفق عليه.
2 - أن تحصل الرَّجعة بعد الدخول بالزوجة المطلقة: فإن طلقها قبل الدخول وأراد مراجعتها فليس له ذلك بالاتفاق، لقوله تعالى: {إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} (2).
وقد اعتبر الحنابلة - خلافًا للجمهور - الخلوة الصحيحة في حكم الدخول من حيث صحة الرَّجعة بعدها.
3 - أن تكون الرَّجعة أثناء فترة المدَّة: فإن انفضت عدتها فلا يصح ارتجاعها باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}. ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (3).
ولأن الرجعة استدامة ملك، والملك يزول بعد انقضاء العدة، فلا تتصور الاستدامة.
4 - أن لا تكون الفرقة - قبل الرَّجعة - عن فسخ عقد النكاح.
5 - أن لا تكون الفرقة بعِوَض: فإن كانت بعوض فلا تصح الرَّجعة، لأنها حينئذٍ تَبِين منه لافتدائها نفسها من الزوج بما قدمته له من عوض مالي ينهي هذه العلاقة.
6 - أن تكون الرَّجعة منجَّزة: فلا يصح تعليقها على شرط أو إضافتها إلى زمن المستقبل، عند جمهور الفقهاء، قالوا: لأن الرجعة استدامة لعقد النكاح أو إعادة له، والنكاح لا يقبل التعليق والإضافة، فتأخذ الرَّجعة حكمه.
الرَّجعة حق الزوج لا يملك إسقاطه (4):
الرَّجعة حق الزوج ما دامت المطلقة في العدة، سواء رضيت بذلك أم لم ترض، لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} (5).
وهذا الحق للمرتجع أثبته الشرع له، فلا يقبل الإسقاط ولا التنازل عنه، فلو قال الزوج: (طلقتك ولا رجعة لي عليك، أو: أسقطت حقي في الرجعة) فإن حقه في الرجعة لا يسقط لأن إسقاطه يعد تغييرًا لما شرعه الله، ولا يملك أحد أن يغيِّر ما شرعه الله، والله سبحانه رتَّب حق الرجعة على الطلاق الرجعي في قوله: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (6). وإذا كانت الرجعة حقًّا للزوج على مطلقته، فله أن يباشر هذا الحق فيردَّها، وله أن يراجعها ويتركها حتى تنقضي العدة فتبين منه، وقد دلَّ على هذا قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (7). وقوله سبحانه: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (8).
وقد تجب الرَّجعة على الزوج: وذلك إذا طلَّقها طلقة رجعية أثناء حيضها كما سيأتي في الطلاق البدعي، إن شاء الله.
ولا يشترط رضا المرأة في الرَّجعة: لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} (9).
_________
(1) «البدائع» (3/ 185)، و «الخرشي» (4/ 80)، و «الأم» (6/ 243)، و «مغني المحتاج» (4/ 337)، و «كشاف القناع» (5/ 341)، و «المغني» (8/ 485).
(2) سورة الأحزاب: 49.
(3) سورة البقرة: 228.
(4) «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 463 - 464)، و «المفصَّل» لعبد الكريم زيدان (8/ 18).
(5) سورة البقرة: 228.
(6) سورة البقرة: 229.
(7) سورة الطلاق: 2.
(8) سورة البقرة: 229.
(9) سورة البقرة: 228.

(3/264)


فجعل الحق لهم، وقال سبحانه: {فأمسكوهن بمعروف} (1). فخاطب الأزواج بالأمر، ولم يجعل للنساء اختيارًا؛ ولأن الرجعة إمساك للمرأة بحكم الزوجية، فلم يعتبر رضاها في الرجعة، كالتي في عصمته تمامًا.
ولا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة، والرَّجعة إمساك لها، واستبقاء لزواجها (2).
عدم خروج المطلقة الرجعية من بيتها (3).
إعلام الزوجة بالرَّجعة (4):
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن إعلام الزوجة بالرجعة مستحب، لما فيه من قطع المنازعة التي قد تنشأ بين الرجل والمرأة، فربما تتزوَّج غيره بعد انقضاء العدة - وهي
_________
(1) سورة الطلاق: 2.
(2) «السابق» (7/ 469).
(3) انظر: جامع أحكام النساء (4/ 262).
(4) «البداية» (4/ 597)، و «فتح القدير» (4/ 18)، و «الخرشي» (4/ 87)، وحاشية الجمل» (4/ 393)، و «كشاف القناع» (5/ 344)، و «المحلي» (10/ 251)، و «تفسير القرطبي».

(3/265)


تظن أنه لم يراجعها - وحينئذٍ لو أثبت الزوج الرَّجعة بالبيِّنة فإنه يثبت زواجه الأول بمراجعتها، ويُفسخ زواجها الثاني وتعتد منه إن كان دخل بها ثم تعود للأول (1).
وتكون هي عاصية بترك سؤال الزوج، ويكون هو مُسيئًا بترك إعلامها بالرجعة.
ومع هذا لو لم يُعلمها صحت الرجعة؛ لأنها استدامة النكاح القائم وليست بإنشاء، فكان الزوج متصرفًا في خالص حقه، فلم يتوقف تصرُّفه على علم الغير.
وذهب الظاهرية إلى وجوب إعلام الزوجة بالرجعة، فإن لم يعلمها لم يعتبر مراجًعا، لقوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (2) فالرجعة هي الإمساك، ولا تكون - بنص كلام الله تعالى - إلا بمعروف، ومن المعروف إعلامها، فإن لم يعلمها لم يمسك بمعروف ولكن بمنكر.
ولقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} (3) وإنما يكون البعل أحق بردها إن أرادوا إصلاحًا بنص القرآن، فإن كتمها الردَّ أو ردَّ بحيث لا يُبلغها، فلم يرد إصلاحًا بلا شك، بل أراد الفساد فليس ردًّا ولا رجعة أصلًا.
قلت: وهذا هو الأرجح - في نظري - والأليق بمقاصد الشريعة وأصولها، وهو قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -، فقد روي ابن حزم بسنده إلى عمر أنه قال - في امرأة طلقها زوجها فأعلمها ثم راجعها ولم يُعلمها حتى انقضت عدتها: «قد بانت منه» (4).
ويترتب عليه أن الرجل إذا أرجع زوجته دون إعلامها فتزوجت غيره بعد انتهاء عدتها، فإن الزواج الثاني يكون صحيحًا؛ لأن الرجعة لم تقع أصلًا، والله أعلم.
هل تتزيَّن المطلقة الرجعية لزوجها، وماذا يرى منها؟ (5)
ذهب الشافعية والمالكية - في المشهور - إلى أنه لا يجوز للمطلَّقة طلاقًا رجعيًّا
_________
(1) هذا عند الجمهور، وعند مالك: أنه إن دخل بها الثاني فهي امرأته ويبطل نكاح الأول وهو رواية عن أحمد.
(2) سورة الطلاق: 2.
(3) سورة البقرة: 228.
(4) وثبت خلافه عن علي بن أبي طالب حيث قال فيمن طلق امرأته وأشهد على رجعتها ولم تعلم بذلك: «هي امرأة الأول، دخل بها الآخر أم لم يدخل». أخرجه الشافعي كما في مسنده (2/ رقم 126 - شفاء العي) ومن طريقه البيهقي (7/ 373) وسنده صحيح.
(5) «المبسوط» (6/ 25)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «روضة الطالبين» (8/ 221)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 246).

(3/266)


أن تتزيَّن لزوجها وأنه لا يستمتع منها بشيء، لأنها أجنبية عنه؛ ولأن النكاح يبيح الاستمتاع فيحرمه الطلاق لأنه ضدُّه، فإن وطئ الزوج المطلَّقة فلا حدَّ عليهما!! وقد صح نحو هذا عن عطاء، فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما يحل للرجل من امرأته يُطلِّقها فلا يبتُّها؟ قال: «لا يحل له منها شيء ما لم يراجعها» (1).
وذهب الحنفية والحنابلة والظاهرية إلى أن المطلَّقة - رجعيًّا - تتزين لزوجها بما تفعله النساء لأزواجهن من أوجه الزينة واللبس، لترغيب الزوج في المراجعة، فلعله يراها في زينتها فتروق في عينه ويندم على طلاقها فيراجعها، وللزوج أن ينظر إلى ما شاء منها.
واستدلوا على ذلك بأن المطلقة الرجعية في حكم الزوجة والنكاح قائم من وجه، وهو كونها في العدة، لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (2) فسمَّاه الله بعلًا، قلت: وهو الأظهر للآية الكريمة، ولعدم الدليل على ما يمنع أو يحدد رؤية شيء من المرأة، لكن ذهب الفقهاء إلى أنه ينبغي أن يستأذن قبل أن يدخل عليها إذا كان لا ينوي الرَّجعة، والسبب في ذلك أنهّا قد تكون متجردة من الثياب فيقع نظره على موضع الجماع فيكون مراجعًا عند من اعتبر ذلك رجعة، وسيأتي قريبًا. أما إذا كان ينوي مراجعتها فلا بأس أن يدخل عليها، لأن في نيَّته مراجعتها فكانت زوجة له لاسيما وأن الرجعة لا تحتاج إلى موافقة المرأة.
وقد صحَّ عن ابن عمر «أنه طلق امرأته صفية بنت أبي عبيد تطليقة أو تطليقتين، فكان لا يدخل عليه إلا بإذنه، فلما راجعها أشهد على رجعتها ودخل عليها» (3).
هل يلحق المطلَّقة رجعيًّا طلاق في العدة؟
المطلَّقة الرجعية في حكم الزوجة التي في العصمة، ولذا فقد ذهب جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم (4) إلى أنه يلحقها - في عدتها - طلاق الزوج، كما يلحقها ظهاره ولعانه وإيلاؤه، ويرث أحدهما الآخر، بل نقل ابن قدامة الإجماع على هذا (!!).
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11030 - 11032).
(2) سورة البقرة: 228.
(3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 373).
(4) «ابن عابدين» (3/ 397)، و «أسهل المدارك» (2/ 138)، و «تكملة المجموع» (17/ 262)، و «المغني» (8/ 477).

(3/267)


بينما ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن الرجعية لا يلحقها الطلاق وإن كانت في العدة، واحتج بقوله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (1). وهو «يدلُّ على أنه لا يجوز إرداف
الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها؛ لأنه إنما أباح الطلاق للعدة أي لاستقبال العدة (2)، فمتى طلقها طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بَنَتْ على العدَّة ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين ... ومن اخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول: إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدَّة، وما كان صاحبه مخيَّرًا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا مُنتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة، فلا يكون جائزًا، فلم يكن ذلك طلاقًا للعدة؛ ولأنه قال: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (3).
فخيَّره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي عدتها فيُسرِّحها بإحسان، فإذا طلَّقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يُسرِّح بإحسان» اهـ (4).
قلت: الظاهر أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف بين ابن تيمية والجمهور في مسألة: هل يقع طلاق الثلاث دفعه واحدة ثلاثًا أم واحدة؟ وسيأتي تحريرهُ إن شاء الله.
كيفيِّةُ الرَّجعة:
[1] الرَّجعة بالقَوْل (5):
لا خلاف بين أهل العلم في أن الرَّجعة تصحُّ بالقول الدالِّ عليها، كأن يقول لمطلَّقته وهي في العدة: (راجعتُك - ارتجعتك - رددتُك لعصمتي) وما يؤدي هذا المعنى، أو أن يقول ذلك بصيغة الغيبة: (راجعتُ امرأتي) ونحو ذلك.
_________
(1) سورة الطلاق: 1.
(2) أخرجه النسائي (6/ 139)، وابن جرير (28/ 84)، وابن أبي شيبة (5/ 2) بسند صحيح عن ابن عباس في قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} قال: «قُبُلَ عدَّتهن»، وعند عبد الرزاق (6/ 303)، وسعيد بن منصور (1058) بسند صحيح إلى عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يقرأ: (فطلقوهن لقُبُل عدتهن).
(3) سورة الطلاق: 2.
(4) «مجموع الفتاوى» (33/ 79 - 80).
(5) «البدائع» (3/ 181)، و «الخرشي» (4/ 80)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «كشاف القناع» (5/ 342).

(3/268)


وألفاظ الرجعة منها ما هو صريح ومنها ما هو كناية.
(أ) فالصريح: ما يدلُّ على الرجعة لا على غيرها، كالألفاظ المتقدمة، ولذا فإنها تقع بها الرجعة من غير احتياج إلى النية.
(ب) والكناية: ما يدل على الرجعة ويحتمل معنى آخر غيرها، كأن يقول: (أنت عندي كما كنت - أنت امرأتي - رددتك - أمسكتُك) (1) ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ الكنائية تقع بها الرَّجعة إذا نوى بها ذلك وإلا لم تقع.
[2] الرجعة بالفِعْل (2):
اختلف أهل العلم في حصول الرَّجعة بأفعال مادية يقوم بها الزوج المرتجع تجاه مطلَّقته الرجعية، على أربعة أقوال:
الأول: تحصل الرَّجعة بالجماع ومقدماته كلمسها أو تقبيلها بشهوة، سواء نوى الرجعة أو لم ينو، وكذلك بالنظر إلى فرجها - لا إلى غيره - وهذا مذهب الحنفية، وحجتهم:
1 - أن الرجعة استدامة للنكاح القائم من كل وجه فلا تختص بالقول؛ لأن الفعل قد يقع دالًا على الاستدامة.
2 - والفعل الدال على استدامة النكاح لابد أن يختص بالنكاح ولا يجوز بغيره كالوطء والتقبيل واللمس بشهوة والنظر إلى الفرج بشهوة.
وعندهم إذا حدثت هذه الأشياء من المرأة - كأن قبَّلته أو لمسته بشهوة - فتصحُّ الرجعة كذلك إذا لم يمنعها.
الثاني: تحصل الرَّجعة بالجماع ومقدماته بشرط أن ينوي بذلك الرَّجعة: وهو مذهب المالكية، ولعلَّ حجتهم عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» (3).
_________
(1) لأن قوله «رددتك» يحتمل الرد إلى الزوجية أو إلى بيت أبيها، وقوله «أمسكتك» يحتمل الإمساك بالزوجية أو الإمساك عن الخروج من بيتها في عدَّتها، فاحتاج إلى النية لصرف اللفظ إلى أحدهما.
(2) «البدائع» (3/ 183)، و «المبسوط» (6/ 21)، و «الخرشي» (4/ 81)، و «الدسوقي» (2/ 370) و «الأم» (6/ 244)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «روضة الطالبين» (8/ 217)، و «المغني» (7/ 283)، و «كشاف القناع» (5/ 343)، و «المحلي» (10/ 251)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 381).
(3) متفق عليه: تقدم كثيرًا.

(3/269)


الثالث: تحصل الرَّجعة بالجماع فقط سواء نوى الرجعة أو لم ينوها: وهذا هو المذهب عند الحنابلة وهو الرواية المختارة عندهم عن أحمد، وهو قول ابن المسيب والحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس والزهري والثوري والأوزاعي.
واستدل الحنابلة على الرجعة بالوطء بما يلي:
1 - أن فترة العدة تؤدي إلى بينونة المطلقة من حيث إن انقضاء العدة يمنع صحة الرجعة، فإن وطئها في المدة عادت إليه كالإيلاء.
2 - أن الطلاق سبب لزوال الملك ومعه خيار، فتصرف المالك بالوطء يمنع عمله كوطء البائع الأمة المبيعة مدة الخيار.
واستدلوا على عدم حصول الرجعة بالأفعال دون الوطء بما يلي:
1 - أن مقدمات الوطء ونحوها إذا حدثت لا يترتب عليها عدة ولا يجب بها مهر فلا تصح بها الرجعة.
2 - أن هذه الأفعال ليست في معنى الوطء، إذ الوطء يدل على ارتجاعها دلالة ظاهرة بخلافها.
3 - أن ينظر إلى موضع الجماع أو اللمس يحدث من غير الزوج للحاجة، فلا تكون رجعة من هذه الجهة. واختلف الحنابلة في الخلوة الصحيحة هل تصح معها الرجعة؟! على قولين.
الرابع: لا تحصل الرَّجعة إلا بالقول، لا بالوطء ولا بغيره: وهو مذهب الشافعية وأبي محمد بن حزم وحجتهم:
1 - أن الرجعة استباحة بضع مقصود بالقول فلم يصحَّ بالفعل مع القدرة على القول كالنكاح.
2 - أن المرأة في الطلاق الرجعي تعتبر أجنبية عن الزوج - عند الشافعية فقط - فلا يحل له وطؤها، والرجعة في القدرة تعتبر إعادة لعقد الزواج (!!) وكما أنه لا يصح إلا بالقول الدال عليه فكذلك الرجعة.
3 - ولأنه لم يأت بأن الجماع رجعة قرآن ولا سنة، ولا خلاف في أن الرجعة بالكلام رجعة.
4 - أن الإمساك بالمعروف المأمور به ما عرف به ما في نفس الممسك الرادّ، ولا يعرف ذلك إلا بالكلام.

(3/270)


الراجح:
أقول: أما القول الأخير فلا أراه متجهًا؛ لأن قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} (1). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر - في شأن ابنه -: «مره فليراجعها» (2) أعم من كون ذلك يختص بالقول، فلا يجوز تخصيص الرجعة بالقول دون الفعل إلا بدليل ولا دليل (3).
ثم الذي يظهر أن أعدل الأقوال في حصول الرجعة بالجماع أنه يقع به إذا نوى به الرجعة، كما ذهب إليه مالك وهو رواية عن أحمد وإسحاق وهو اختيار شيخ الإسلام.
وأما حصول الرجعة بمقدمات الجماع، فلو قيل تقع بها الرجعة بشرط النية من الزوج لم يكن بعيدًا، وإلا فلا تقع بها الرجعة.
الإشهاد على الرَّجعة (4):
قال الله سبحانه: {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (5). والمراد بالإمساك بالمعروف: الرَّجعة.
وقد أختلف أهل العلم في حكم الإشهاد على الرجعة على قولين:
الأول: أن الإشهاد على الرَّجعة واجب، وهو مذهب الشافعي القديم وهو رواية ثانية عن أحمد، وأبي محمد بن حزم واختيار شيخ الإسلام، وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (6). وهو ظاهر في الوجوب بمطلق الأمر، وهو ما فهمه عمران بن حصين.
_________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) صحيح: تقدم مرارًا وسيأتي.
(3) نحوه في «نيل الأوطار» (6/ 299) ط. الحديث.
(4) «البدائع» (3/ 181)، و «المبسوط» (6/ 22)، و «الخرشي» (4/ 87)، و «الدسوقي» (2/ 377)، و «تكملة المجموع» (16/ 269)، و «مغني المحتاج» (3/ 336)، و «روضة الطالبين» (8/ 216)، و «كشاف القناع» (5/ 342)، و «المغني» (7/ 382)، و «المحلي» (10/ 251)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 129).
(5) سورة الطلاق: 2.
(6) سورة الطلاق: 2.

(3/271)


2 - فقد سأله رجل عمن طلق امرأته طلاقًا رجعيًّا ثم وقع بها ولم يُشهد فقال: «طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على ذلك ولا تعد» (1).
3 - ولأن الرجعة استباحة بُضع مقصود فلم يصحَّ من عير إشهاد كالنكاح.
4 - أن الله - عز وجل - قد قرن - في الآية الكريمة السابقة - بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردُّ» (2).
الثاني: أن الإشهاد على الرَّجعة مستحب وليس بواجب: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - وهو الأظهر في المذهب، وإحدى الروايتين عن أحمد، وحجتهم:
1 - الإشهاد يحب في النكاح لإثبات الفراش (الزوجية) وهو ثابت هنا، ثم إن الرَّجعة استدامة للنكاح وليس ابتداءً فلم تلزمها شهادة.
2 - أن الرجعة حق للزوج لا يفتقر لقبول المرأة أو وليها فلم تجب فيه الشهادة.
3 - قالوا: أما الأمر بالإشهاد في الآية الكريمة فمحمول على الندب لا الإيجاب لأمور:
(أ) أنه كقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} (3) والبيع يصح بغير إشهاد عند الجمهور.
(ب) أن الإشهاد على الرجعة إنما هو للأمن من الجحود وقطع باب النزاع وسد باب الخلاف، فهو من باب الاحتياط.
(جـ) أن الآية جعلت له الإمساك أو الفراق ثم ذكرت الإشهاد فعلم أن الرجعة تحصل قبل الإشهاد، وأنه ليس بشرط فيها.
(د) لما كانت الفرقة حقًا للزوج وجازت بغير إشهاد، وكانت الرجعة حقًّا له وجب أن تجوز بغير إشهاد.
الراجح: الذي يترَّجح لديَّ وجوب الإشهاد في الرَّجعة لظاهر الأمر في الآية الكريمة ولما تقدم من أدلة الفريق الأول، ولما فيه من منع إنكار الزوج ودوامه
_________
(1) إسناده صحيح: تقدم قريبًا في «الإشهاد على الطلاق».
(2) صحيح: تقدم كثيرًا.
(3) سورة البقرة: 282.

(3/272)


مع امرأته فيفضي إلى الحرام، ومنع إنكار الزوجة لتتزوَّج غيره بعد انقضاء العدة - بحجة عدم ارتجاعها - فتقع في الحرام، وهو أولى من إيجاب الإشهاد على الطلاق الذي رجَّحناه آنفًا، قال شيخ الإسلام: «ثم من العجب أن الله أمر بالإشهاد في الرجعة ولم يأمر به في النكاح، ثم يأمرون به في النكاح، ولا يوجبه أكثرهم في الرجعة!!» اهـ.
اختلاف الزوجين في الرجعة (1):
1 - إذا اختلف الزوجان في حصول الرجعة: فادَّعى الزوج عليها أنه راجعها أمس مثلًا فأنكرت هي، صُدِّق إن كانت في العدة اتفاقًا؛ لأنه أخبر بما يملك استئنافه فلا يكون متهمًا في الإخبار.
2 - فإذا قال بعد انقضاء العدة أنه كان راجعها في العدة، فأنكرت:
(أ) فإن أثبت دعواه بالبيِّنة، صحت رجعته.
(ب) فإن عجز الزوج عن الإثبات، فالقول قولها؛ لأنه ادَّعى مراجعتها في زمن لا يملك مراجعتها فيه.
3 - وإذا قال الزوج للمعتَّدة: (قد راجعتُك) فقالت: (قد انقضت عدَّتي):
(أ) فإن كانت المدة بين الطلاق وبين الوقت الذي تدعي المرأة انقضاء العدة عنده كافيًا لانقضاء العدة، قُبل قولها بيمينها، ولم تثبت الرجعة.
(ب) وإن كانت هذه المدة لا تكفي لانقضاء العدة، بأن كانت أقل من مدة تنتهي فيها العدة شرعًا، لم يعتبر قولها، وتصح الرجعة، لظهور قرينة كذبها.
قلت: ومن هنا ندرك أهمية الإشهاد والتوثيق للطلاق والرجعة، فلا ينبغي التهاون في ذلك، لاسيما في زمان الفتنة والله أعلم.
فائدة: الطلاق الرجعي ينقص عدد التطليقات:
تقدم أن الرجل يمتلك ثلاث تطليقات على زوجته، وهذه التطليقات تنقص بكل طلاق رجعيًّا كان أو بائنًا - ومراجعة الرجل امرأته في العدة لا تمحو احتساب تطليقه عليه، فإن كان طلقها الأولى ثم راجعها فقد بقي له اثنتان، وإن كان طلقها
_________
(1) «المبسوط» (6/ 22)، و «البدائع» (3/ 185)، و «مغني المحتاج» (3/ 338)، و «المجموع» (16/ 271)، و «المغني» (7/ 285 - 289).

(3/273)


الثانية ثم راجعها بقي له تطليقة واحدة، وعلى هذا اتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (1).
[2] الطلاق البائن:
وهو الذي لا يكون فيه للزوج حقُّ الرَّجعة على مطلَّقته، وهو على نوعين:
بائن بينونة صغرى، وبائن بينونة كبرى:
(أ) الطلاق البائن بينونة صغرى: هو الذي لا يملك الزوج فيه أن يرجع مطلقته إليه إلا بعقد جديد ومهر جديد ويترتب على هذا النوع من الطلاق ما يلي:
آثار وأحكام الطلاق البائن بينونة صغرى (2):
1 - إزالة الملك لا الحل: بمعنى أنه تنقطع به رابطة الزوجية، فتصير أجنبية عنه، وتنتهي الحقوق الزوجية لكل منهما على الآخر - سوى النفقة للزوجة ما دامت في العدة إذا كانت حاملًا بلا خلاف، وفي وجوب نفقتها عليه إذا كانت غير حامل خلاف سيأتي بحثه. ولا يشترط لحلها لمطلِّقها أن تتزوَّج زوجًا آخر، وإنما للزوج أن يرجعها إلى عصمته (يتزوَّجها) بعقد ومهر جديدين (3).
2 - لا يملك المطلِّق حق الرجعة في العدة: ولكن له أن يتزوجها برضاها أثناء العدة (4) وبعدها بعقد ومهر جديدين كما تقدم.
3 - حلول المهر المؤجَّل: الذي لم يعيَّن في العقد لأن هذا أقرب الأجلين: الموت أو الطلاق، وقد تقدم في «أحكام الصداق».
4 - لا ظهار ولا إيلاء ولا لعان ولا توارث بينهما: لوقوع البينونة بمجرد وقوع الطلاق (5).
5 - إنقاص عدد التطليقات: فالطلاق البائن بينونة صغرى ينقص عدد التطليقات التي يمتلكها الزوج المطلِّق على زوجته، فإذا أعادها بعقد نكاح جديد قبل أن تنكح زوجًا غيره، وكان قد طلقها تطليقة واحدة بائنة، عات بتطليقتين
_________
(1) سورة البقرة: 229.
(2) «المفصل في أحكام المرأة» للدكتور عبد الكريم زيدان (8/ 59 - 60) بتصرف.
(3) «المغني» (7/ 274)، و «البدائع» (3/ 187).
(4) محل هذا عند من يقول إن الطلاق البائن بينونة صغرى يكون بغير الطلاق قبل الدخول - وهذا ليس فيه عدة - وسيأتي تحريره.
(5) «البدائع» (3/ 187).

(3/274)


يملكهما عليها، وكذلك الحكم إذا أعادها بعقد جديد بعد أنكحت زوجًا غيره، وطلقها أو مات عنها قبل أن يدخل بها، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم (1).
وأما ما عدا هذه الحالات ففيه خلاف في احتساب عدد التطليقات، يأتي تحريرهُ بعده في «مسألة الهدم» إن شاء الله.
مسألة الهدم: ويُقصد بها: (إذا طلَّق الرجل امرأته مرة أو اثنتين فتزوجت بآخر، فطلَّقها الثاني، ثم رجعت إلى الأول، فهل تُحسب التطليقات الأولى من الثلاث وتعود إليه على ما بقي من الثلاث؟ أم أن زواجها بغيره قد هدم التطلقيات الأولى فيبقى لها عليها ثلاث كاملة؟).
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين (2):
الأول: تُحسب التطليقات في الزواج، فترجع إلى الزوج الأول على ما بقي من التطليقات:
بمعنى أنه: إن كان طلقها واحدة عادت إليه وهو يملك عليها تطليقتين، وإن كان طلقها تطليقتين عادت إليه وهو يملك عليها تطليقة واحدة.
وهذا قول عمر بن الخطاب وعلي وعمران بن حصين وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، وبه قال ابن المسيب والحسن والثوري ومحمد بن الحسن ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول ابن المنذر، وحجتهم:
1 - أن الزواج الثاني هو الذي ينهي حرمة المطلقة ثلاثًا على زوجها الأول بدليل قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (3). ولا إنهاء للحرمة قبل ثبوتها، ولا ثبوت لها إلا بعد الطلاق الثلاث (4).
_________
(1) «فتح القدير» (3/ 178)، و «المغني» (7/ 261).
(2) «البدائع» (3/ 127)، و «فتح القدير» (3/ 178 - مع الهداية)، و «الأم» (5/ 250)، و «مغني المحتاج» (3/ 293)، و «الشرح الصغير» (1/ 467 - ط. الحلبي)، و «المغني» (7/ 261)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (4/ 239 - 242).
(3) سورة البقرة: 230.
(4) يقولون هذا: لأنه إذا طلق ثلاثًا ثم تزوجت غيره ثم عادت إليه بعقد جديد فيكون له عليها ثلاث تطليقات جديدة باتفاق العلماء، وانظر المراجع السابقة مع «ابن عابدين» (3/ 418).

(3/275)


2 - وفتوى عمر بذلك: فعن أبي هريرة قال: سألت عمر بن الخطاب عن رجل من أهل البحرين طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم انقضت عدَّتها، فتزوَّجها رجل غيره ثم طلَّقها أو مات عنها، ثم تزوجها زوجها الأول، قال: «هي عنده على ما بقي» (1).
الثاني: الزواج الثاني هدم التطليقات الأولى، فترجع إلى الأول وله عليها ثلاث تطليقات:
وهذا قول ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - وبه قال عطاء والنخعي وشُريح وأبو حنيفة وأبو يوسف وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وحجتهم:
1 - أن وطء الزوج الثاني مثبت لحل الزوجة لزوجها الأول بعقد جديد فيتسع لثلاث تطليقات كما يثبته لو كانت مطلقة ثلاثًا.
2 - ولأن وطء الزوج الثاني يهدم التطليقات الثلاث [وهذا متفق عليه] لو أوقعها الأول، فأولى أن يهدم ما دونها من طلقة أو طلقتين.
متى يقع الطلاق بائنًا بينونة صغرى؟
يقع هذا النوع من الطلاق في الحالات الآتية:
1 - الطلاق قبل الدخول:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} (2).
فدلَّت الآية الكريمة على أن المطلَّقة قبل الدخول لا عدة عليها، فلا يملك المطلق رجعتها، ولا يكون طلاقًا رجعيًّا، بل يكون بائنًا، وعلى هذا إجماع أهل العلم (3).
فائدة: الطلاق بعد الخلوة وقبل الدخول حقيقة بائن عند الجمهور:
لعدم الدخول الحقيقي فلا تجب فيه العدة، ولا يملك الزوج رجعتها، وأما
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي - كما في مسنده - (2/ رقم 125 - شفاء العي) ومن طريقة البيهق (7/ 364).
(2) سورة الأحزاب: 49.
(3) على بعض الخلاف بينهم فيما إذا طلقها ثلاثًا بلفظ واحد أو متفرقة، فمن قال: تقع ثلاثًا، جعل البينونة الكبرى، ومن لم يوقعه إلا واحدة جعل البينونة صغرى، وسيأتي تحرير الصواب في هذه المسألة، وانظر «المغني» (7/ 264).

(3/276)


ثبوت العدة عند الحنفية في الطلاق بعد الخلوة الصحيحة فهو للاحتياط وليس لثبوت حق الرجعة (1).
2 - الطلاق على مال (الخُلع) عند الجمهور:
الطلاق على مال يقع بائنًا عند الجمهور؛ لأن الزوجة ما دفعت المال لزوجها في الخُلع ليطلِّقها إلا لتملك نفسها وتخلص من قيد الزوجية، ولا يتأتَّى لها ذلك بجعل الطلاق رجعيًّا، بل بجعله بائنًا (2).
قلت: عدُّ الخلع طلاقًا بائنًا على معنى أن الزوج يعيد زوجته برضاها - بعده إذا أراد - إلى عصمته بعقد جديد ومهر جديد، صحيح لا غبار عليه، وإما أن يكون على معنى أنها طلقة تحسب عليه من الثلاث فلا؛ لأن الصواب أن الخلع فسخ وليس بطلاق فلا تحتسب من الثلاث طلاقًا لقول الجمهور كما سيأتي تحريره، والله أعلم.
3 - بعض أحوال التفريق بين الزوجين: تقع طلاقًا بائنًا بينونة صغرى، كما في التفريق للعيب أو الضرر أو للإيلاء، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
تنبيه: الطلاق باللفظ الصريح الموصوف أو الكنائي على المدخول بها يقع رجعيًّا ولا يكون بائنًا على الراجح (3):
فلو قال لامرأته: (أنت طالق البتة - أنت طالق بائن) وقعت طلقة رجعية، لأنه لما قال: (أنت طالق) فقد أتى بصريح الطلاق، وأنه يستدعي الرجعة حيث أنها تعقب قوله، فلما قال (بائن) فقد أراد تمييز المشروع، وهو الرجعة، فيرد عليه؛ ولأن الأصل في الطلاق أن يكون رجعيًّا، والاستمساك بهذا الأصل أولى من التحول عنه لوصف ألحقه المطلق بلفظ الطلاق، وهذا هو الموافق لحكمة تشريع الطلاق، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام (4).
وإذا كان الطلاق الصريح لا يقع إلا رجعيًّا، فالكناية - التي هي أضعف من التصريح لاحتمالها الطلاق وغيره - يكون الطلاق بها رجعيًّا بالأولى.
_________
(1) «بدائع الصنائع» (3/ 109).
(2) «السابق» (3/ 109)، و «ابن عابدين» (3/ 400)، و «الخرشي» (4/ 16)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «المغني» (7)، و «المبدع» (7/ 390).
(3) إلا أن يكون الطلاق مكملًا للثلاث فيكون بائنًا بينونة كبرى كما لا يخفى.
(4) «الأم» (5/ 241)، و «المحرر» (2/ 55)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 155).

(3/277)


ولأن الطلاق وضع شرعي لا يتأثر بالنية، فقصد البينونة بالكناية يكون تغييرًا للوضع الشرعي (1).
(ب) الطلاق البائن بينونة كبرى:
وهو الذي لا يملك منه الزوج إرجاع مطلقته لا في عدتها ولا بعد انتهائها إلا بعقد جديد ومهر جديد، وبعد أن تكون قد نكحت زوجًا آخر ودخل بها الثاني ثم فارقها بموته أو طلاقه ثم انتهت عدَّتها منه.
ويشترط في النكاح الذي يحصل به التحليل للزوج الأول ما يلي:
1 - أن يكون نكاحًا صحيحًا ظاهرًا وباطنًا: ومعنى صحته ظاهرًا: استيفاء شروط انعقاد العقد وشروط صحته، فلو كان العقد فاسدًا لم يحصل به التحليل عند جماهير أهل العلم (2).
ومعنى صحته باطنًا: أن يكون المقصود منه تحقيق أغراض النكاح كتكوين الأسرة وإعفاف كل منهما نفسه وإنجاب الذرية، فإن قُصد به التحليل الأول لم يحصل التحليل كما تقدم هذا في «الأنكحة الفاسدة».
2 - أن يجامعها الزوج الثاني: فلا يكفي مجرد العقد الصحيح بدون الدخول، على هذا اتفاق جماهير السلف والخلف - إلا ابن المسيب - وبهذا جاءت السنة: فعن عائشة - رضي الله عنها -: أن رفاعة القرظي تزوَّج امرأة، ثم طلقها، فتزوَّجت آخر، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أنه لا
يأتيها وأنه ليس معه إلا مثل الهُدبة، فقال: «لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟، لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك» (3).
والعُسيلة عند الجمهور: حلاوة الجماع التي تحصل بتغييب الحشفة في الفرج ولو من غير إنزال.
وقد اشترط جمهور الحنابلة أن يكون الوطء حلالًا، فلو وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام لم يكن كافيًا لإحلال المرأة لزوجها الأول، والصواب - الذي اختاره ابن قدامة - أنه يكفي لأن هذا واجد للعُسيلة وداخل في عموم قوله تعالى:
_________
(1) وانظر لمذاهب العلماء في الكنائي: «البدائع» (3/ 111)، و «القوانين الفقهية» (253)، و «كشاف القناع» (3/ 151)، و «المغني» (7/ 133).
(2) «المغني» (7/ 275).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).

(3/278)


{حتى تنكح زوجًا غيره} (1). ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام، فأحلَّها كالوطء الحلال، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك (2).
أحكام وآثار هذا الطلاق:
1 - تترتب على هذا النوع من الطلاق الآثار التي تترتب على البائن بينونة صغرى، وقد تقدمت.
2 - لا تحل للزوج إلا إذا تزوجت غيره زواجًا صحيحًا على النحو المتقدم بيانه، ثم يفارقها بموت أو طلاق، وتعتد منه.
فائدة: الزواج الثاني يهدم الطلقات الثلاث: فإذا تزوجت زوجها الأول بعد مفارقة الثاني وقضاء العدة من زواجه، فإن زوجها الأول يملك عليها ثلاث تطليقات جديدة بإجماع أهل العلم (3).
متى يقع الطلاق بائنًا بينونة كبرى؟
يقع هذا النوع من الطلاق إذا كان مكملًا للطلقات الثلاث، لقوله تعالى: {طَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ ... فَإن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4).
وعلى هذا إجماع أهل العلم (5).
هل يقع الطلاق بائنًا بينونة كبرى بلفظ الثلاث أو ثلاثًا في مجلس واحد؟
كأن يقول الرجل لامرأته: (أنت طالق ثلاثًا، أو: طالق طالق طالق) وهذه مسألة شهيرة، وفيها خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال مشهورة، أذكرها مع أدلة كل فريق ومناقشة ما تيسَّر من ذلك، نظرًا لأهميتها وعموم البلوى بها (6):
_________
(1) سورة البقرة: 230.
(2) «المغني» (7/ 276).
(3) «المغني» (7/ 261).
(4) سورة البقرة: 229، 230.
(5) «تفسير القرطبي» [سورة البقرة: 230].
(6) «ابن عابدين» (3/ 235)، و «شرح المعاني» (3/ 255)، و «المبسوط» (6/ 57)، و «فتح القدير» (3/ 329)، و «القوانين الفقهية» (251)، و «جواهر الإكليل» (1/ 338)، و «بداية المجتهد» (2)، و «الأم» (5/ 163)، و «تكملة المجموع» (15/ 404)، و «روضة الطالبين» (8/ 77)، و «مغني المحتاج» (3/ 310)، و «المغني» (7/ 102 - 104)، و «الإنصاف» (8/ 454)، و «كشاف القناع» (5/ 240)، و «الإفصاح» (2/ 148)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 8 - 98)، و «زاد المعاد» (5/ 241 - 272)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 283 - 325)، و «فتح الباري» (9/ 275 - 278)، و «المفصل» (8/ 62 - 88)، و «أضواء البيان» (1/ 221 - 268)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 64 - 72).

(3/279)


القول الأول: أن هذا الطلاق مباح، ويقع ثلاثًا: وهو قول الشافعي والرواية القديمة عن أحمد وابن حزم.
القول الثاني: أن هذا الطلاق محرَّم، لكنه يقع ثلاثًا: وهو قول أبي حنيفة ومالك والرواية المتأخرة عن أحمد، وهو منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين.
فاتفق الطائفتان على وقوع هذا الطلاق ثلاثًا، وهو قول الجماهير من السلف والخلف واستدلوا بما يأتي:
1 - قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (1). قالوا: فهذا الطلاق يقع على الثلاثة المجموعة وغير مفرقة (2).
وأُجيب: بأن الآية الكريمة لا علاقة لها بإباحة الثلاث مجموعة أو مفرقة، لأن موضوعها بيان حرمة المطلقة في تطليقها الثالثة على مطلقها حتى تنكح زوجًا غيره.
2 - قوله تعالى: {الطلاق مرتان} (3)، قالوا: فعلمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين، فيجوز الجمع بين الثلاث!!
وأجيب: بأنه ليس المراد حصر الطلاق كله في المرَّتين حتى يلزم الجمع بين اثنتين في إحدى التطليقتين كما ذكر، بل المراد به الطلاق الذي يملك بعده الرجعة كما فسَّره جماهير المفسِّرين (4).
3 - حديث سهل بن سعد في قصة تلاعن عويمر العجلاني وزوجته في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: «قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين (5).
_________
(1) سورة البقرة: 230.
(2) «المحلي» (10/ 107).
(3) سورة البقرة: 230.
(4) «أضواء البيان» (1/ 221 - 222).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (5259)، ومسلم (1492).

(3/280)


قالوا: فلم يُنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه إيقاع الطلقات الثلاث مجموعة، ولو كان ممنوعًا أنكره، ولو أن الفرقة وقعت بنفس اللعان.
وأُجيب: بأن هذا لا حجة فيه، لأن الزوجة بعد اللعان تحرم على زوجها تحريمًا مؤبدًا، فما ذاد الطلاق الثلاث هذا التحريم إلا تأكيدًا وقوة، ثم إن هذا الطلاق قد وقع على أجنبيه لوقوع الفرقة بينهما باللعان.
ويؤيد هذا قول سهل في الرواية الأخرى: «طلقها ثلاثًا فأنقذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (1) فدلَّ على أنه احتاج إلى إنفاذ النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختصاص الملاعن بذلك.
4 - حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلَّقها ثلاثًا، ثم انطلق إلى اليمين، فانطلق خالد بن الوليد في نفر، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة أم المؤمنين، فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثًا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس لها نفقة، وعليها عدة» (2).
5 - وحديث عائشة: أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا، فتزوَّجت، فطلقت، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتحلُّ للأول؟ قال: «لا، حتى يذوق عُسَيْلتها كما ذاق الأول» (3).
قالوا: فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديثين - تطليقهما ثلاثًا!!
وأُجيبَ: بأن التطليق ثلاثًا الوارد في الحديثين، لم يكن مجموعًا، لأن زوجها كان قد طلقَّها تطليقتين من قبل ثم طلقها آخر الثلاث، كما جاء في بعض روايات حديث عند مسلم: «فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها ..».
ولأن الحال عندهم كان معلومًا منه أن قوله (ثلاثًا) إنما تكون واحدة بعد واحدة، وهذا هو مقتضى اللغة والشرع.
6 - ما رُوي: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وقال: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله ما أردتَ إلا
_________
(1) أخرجه ابن عوانة (3/ 200)، والطبراني في «الكبير» (6/ 117) وفي سندها لين.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1480) وغيره.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5261)، ومسلم (1433)، والنسائي (6/ 148)، وأبو داود (2309).

(3/281)


واحدة؟» فقال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردَّها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلَّقها الثانية في زمن عمر بن الخطاب، والثالثة في زمن عثمان» (1).
قالوا: فقد أحلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد بالبتة واحدة، فدلَّ على أنه لو أراد بها أكثر لواقع ما أراده، ولو لم يفترق الحال لم يحلفه.
وأجيب: بأن هذا الحديث مضطرب لا يصح وقد أعلَّه الأئمة كأحمد والبخاري وغيرهم (2)، ثم إن في بعض طرقه: أنه طلقها ثلاثًا في مجلس واحد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «في مجلس واحد»؟ قال: نعم، قال: «فإنما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت» وهو ضعيف كذلك وإن كان أمثل الطرق!!
7 - ما يُروي عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة عن أبيه عن جده قال: طلق جدِّي امرأةً له ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما اتقى الله جدُك، أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء غفر له» (3) وأجيب: بأنه باطل لا يحتج به.
8 - وما يُروى عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه طلق امرأة وهي حائض، ثم أراد أن يُتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله، أخطأت السنة» ... فقلت: يا رسول الله، لو كنت طلقتها ثلاثًا، أكان لي أن أجمعها؟ قال: «لا، كانت تبينُ، وتكون معصية» (4).
وأجيب عن الحديث بأنه منكر، لا يصح.
9 - وما يُروى عن معاذ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا ألزمناه بدعته» (5).
_________
(1) ضعيف مضطرب: له طرق عند أبي داود (2196 - 2206)، والترمذي (1177)، وأحمد (1/ 265)، وعبد الرزاق (11334 - 11335)، والحاكم (2/ 491)، والبيهقي (2/ 491) وغيرهم وانظر «إرواء الغليل» (7/ 139).
(2) «الكامل» لابن عدي (5/ 208)، و «الضعفاء» للعقيلي (2/ 90)، و «الميزان» (3/ 161)، و «العلل المتناهية» (2/ 639)، و «التمهيد» (15/ 79) عن «جامع أحكام النساء» (4/ 66 - 67).
(3) باطل: أخرجه عبد الرزاق (11339)، والدارقطني (4/ 12).
(4) منكر: أخرجه الدارقطني (4/ 31)، والبيهقي (7/ 330)، وانظر «الإرواء» (2054).
(5) باطل: أخرجه الدارقطني (4/ 20).

(3/282)


وأجيب: بأنه حديث باطل.
10 - وعن مجاهد: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته مائة، فقال: «عصيت ربك، وفارقتك امرأتك» (1) وفي لفظ: أن رجلًا طلق ألفًا، قال: «يكفيك من ذلك ثلاث».
قالوا: فتوى ابن عباس تدل على أن من طلق زوجته ثلاثًا مجموعة بانت منه.
وأجيب: بأن هذه فتواه ورأيه، لكنه قد روي أن طلاق الثلاث كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقع واحدة - كما سيأتي - والحجة فيما رواه مرفوعًا لا في رأيه وفتواه كما هو مقرر في الأصول.
11 - أن وقوعه ثلاثًا قد انعقد الإجماع عليه في عهد عمر، ولا يحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالف فيه (!!).
وأجيب: بأنه ليس في المسألة إجماع، فالنزاع فيها قديم، والقول بوقوعها واحدة كان معروفًا في عهد أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر وهو مروي عن علي وابن مسعود وابن عباس والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم.
12 - أن الله تعالى ملَّك الزوج ثلاث تطليقات، وجعل إيقاعها إليه، فإن جمع الثلاث فعلى القول بجواز ذلك فقد فعل ما أبيح له فيصح، وإن قلنا بتحريمه، فالشارع ملَّكه تفريق الطلقات الثلاث فسحة له، فإذا جمعها فقد جمع ما فسخ له في تفريقه، فلزمهُ حكمه كما لو فرَّقه.
القول الثالث: أن هذا الطلاق محرَّم، ويقع واحدة رجعية: وهو منقول عن طائفة من الصحابة منهم: الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود وابن عباس (وروي عن ثلاثتهم خلافه) وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم كطاووس ومحمد بن إسحاق، وبه قال داود الظاهري وأكثر أصحابه، وبعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وانتصر له شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واحتجوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {الطلاق مرتان} (2). فبيَّن أن الطلاق الذي ذكره والطلاق
_________
(1) صحيح: أخرجه الدارقطني (4/ 13 - 60)، والطحاوي (2/ 33)، والبيهقي (7/ 337)، وانظر «الإرواء» (2056).
(2) سورة البقرة: 229.

(3/283)


الرجعي الذي يكون فيه أحق بردها هو مرتان، مرة بعد مرة، كما إذا قيل للرجل: سبح مرتين أو سبِّح ثلاث مرات أو مائة مرة، فلابد أن يقول: سبحان الله، سبحان الله، حتى يستوفى العدد، ولو قال: سبحان الله كذا مرة (مجملة) لم يكن سبِّح إلا مرة واحدة.
فكذلك من قال لامرأته: (أنت طالق اثنتين أو ثلاثًا أو عشرًا أو ألفًا) لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة (1).
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم المؤمنين جويرية: «لقد قلتُ بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قُلته لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (2).
فمعناه: أنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك، وليس المراد أنه سبَّح تسبيحًا بقدر ذلك.
فإذا أراد المطلق أن يغيِّر الصفة الشرعية للطلاق بأن يجعله سببًا لفرقة لا رجعة فيها بجمع الثلاث، لم يكن له ذلك لأنه من قبيل تغيير شرع الله ونسخه بعد وفاة رسول الله، وهذا لا يجوز، وعلى هذا يقع الطلاق طلقة واحدة رجعية وتُلغى الثلاث.
وأجيب: بأن الطلاق بجمع الثلاث وإن كان منهيًّا عنه، ولكن هذا لا يمنع من وقوعه كالظهار، فإن الله قد سماه منكرًا من القول وزورًا، ولم يمنع ذلك من تحريم زوجته عليه حتى يفعل ما أمره الله به!!
ورُدَّ عليه: بأنه لا يصح قياس الطلاق على الظهار، فإن الظهار محرَّم في نفسه، وهو جريمة رتَّب الشارع عليها جزاء هي الكفارة، بخلاف الطلاق (3).
2 - عن طاووس عن ابن عباس قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: «إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناه فلو أمضيناه عليهم» فأمضاه عليهم» (4).
_________
(1) «مجموع الفتاوى» (33/ 11).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2726) وغيره.
(3) «المفصَّل» لعبد الكريم زيدان (8/ 74).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2472)، وأبو داود (2200)، والنسائي (6/ 145).

(3/284)


وفي لفظ عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك (1)، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ فقال: «قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم» (2).
وقد اعتُرض على الحديث بأمور منها:
الأول: الطعن في ثبوت الحديث: فادعى بعضهم شذوذ رواية طاووس، باعتبار تكاثر الروايات - الموقوفة (!!) - على ابن عباس بلزوم الثلاث، قالوا: ولا يُظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ويفتى بخلافه، فيتعيَّن المصير إلى الترجيح، والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم.
وأُجيب: بأن الأئمة الأثبات - كعمرو بن جريج - رووه عن ابن طاووس - وهو إمام - عن طاووس عن ابن عباس، ورواه إبراهيم بن ميسرة - وهو ثقة حافظ - عن ابن عباس، وانفراد الصحابي لا يضر ولو لم يرو عنه أصلًا إلا واحد، ثم إن العبرة برواية الصحابي لا برأيه.
وعكَّر بعضهم: بأن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده متوفرة لاسيما وقد غيَّر ذلك عمر ولم ينكر أحد من الصحابة، فكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: إما أن يكون الذي رواه طاووس عن ابن عباس ليس معناه أن الثلاث بلفظ واحد، وإنما ثلاثة ألفاظ في وقت واحد - وبهذا جزم النسائي وصححه النووي والقرطبي - فلا يكون هناك إشكال في تغيير عمر.
وإما أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحاد مع توفُّر الدواعي إلى نقله (3)، قال العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: «والأول أولى وأخف من الثنائي» اهـ.
قلت: (أبو مالك): أما الثاني فلا ينبغي أن يُضعَّف الحديث به لا سيما مع رواية الثقات الأثبات له وعدم صراحة ما يعارضه، وأما الأول فمحتمل، قال العلامة أبو الأشبال - رحمه الله: «والذي نراه أن قول القائل: (أنت طالق ثلاثًا) لا يخرج عن أنه نطق بالطلاق مرة واحدة وأنه لا يصلح أن يكون موضع خلاف بين الصحابة أو غيرهم، وإنما الذي اختلفوا فيه وأمضاه عمر بن الخطاب، هو ما إذا قال لامرأته
_________
(1) هناتك أي: أخبارك وأمورك.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1472).
(3) «أضواء البيان» للشنقيطي (1/ 254 - 255).

(3/285)


ثلاث مرات كررها: (أنت طالق) سواء كانت في مجلس واحد أو في مجالس متعددة ما دامت ف العدة،
فهذا جعله عمر ثلاث تطليقات باعتبار أن الطلاق يلحق المعتدة، وهي قد صارت معتدة باللفظ الأول من التطليقات التي كررها المطلق ثلاث مرات، وكان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر: تعتبر المرة الأولى ثم لا يلحقها بعد ذلك المرتان اللتان بعدها لأنها معتدة، فلما تكرَّر في ألفاظ الصحابة والتابعين الكلام في وقوع الطلاق الثلاث أو عدمه فهم منه الفقهاء أن المراد هو لفظ (أنت طالق ثلاثًا) وهذا مما تنبو عنه قواعد اللغة وبديهة العقل ...» اهـ. المراد (1).
قلت: يخرج بهذا التحقيق لفظ (أنت طالق ثلاثًا) من خلاف الصحابة، لكن بقي الخلاف في المسألة كما هو في إمضاء عمر لتكرار الثلاث في المجلس الواحد على خلاف ما كان في الصدر الأول، وهو ما نحن بصدد تحريره!!
الاعتراض الثاني: دعوى أن حديث ابن عباس منسوخ وأن ابن عباس علم بالناسخ: فقد نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: «يُشبه أن يكون ابن عباس علم شيئًا نسخ المروي عنه بأن الثلاث تقع واحدة» قال البيهقي: ويقوى ما قاله الإمام الشافعي ما أخرج أبو داود عن ابن عباس قال: «كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك» (2) إلا أنه لم يشتهر الناسخ فبقى الحكم المنسوخ معمولًا به إلى أن أنكره عمر. وأُجيب عن هذا: بأن هذه الرواية واردة بشأن ما كان عليه أمر المراجعة حيث كان الرجل يطلق امرأته يراجعها بغير عدد فنُسخ ذلك وقصر على ثلاث فبها تنقطع الرجعة، ثم كيف يستمر العمل بالمنسوخ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ولا تعلم الأمة بالناسخ، وهو من أهم الأمور المتعلقة بحلِّ الفروج؟! ثم كيف يقول عمر: «إن الناس قد استعجلوا في شيء قد كانت لهم فيه أناة» وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟ ثم إن عمر لم يذكر علمه بالناسخ، وإنما ذكر رأيه فيما ذهب إليه وتبرير هذا الرأي، ولو كان هناك ناسخ لذكره وبينه، إذ في بيانه ما يكفي ويغني عن تعليل رأيه.
الاعتراض الثالث: أن حديث ابن عباس محمول على الحكم في غير المدخول بها: ولا يتعلق بالمدخول بها لما جاء في رواية لأبي داود أنه لما قال القائل لابن
_________
(1) «الروضة الندية» (2/ 52 - 53) الحاشية.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (2195)، والنسائي (6/ 212).

(3/286)


عباس: أما علمتَ أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا [قبل أن يدخل بها] جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر؟ قال: «بلى» (1).
وأيَّدوا هذا بأن غير المدخول بها إذا قال لها زوجها: (أنت طالق) فقد بانت منه فإذا أضاف كلمة (ثلاثًا) لغا العدد لوقوعه بعد البينونة.
وأُجيب عنه: بأن زيادة [قبل أن يدخل بها] منكرة لا تصح، وعلى فرض ثبوتها فإنها لا تمنع صدق رواية مسلم لحديث ابن عباس على المطلقة بعد الدخول، لأن غاية ما في رواية أبي داود - إن صحت - أنه وقع فيها التنصيص على بعض أفراد العام في رواية مسلم، وهذا لا يوجب تخصيصها بها كما هو مقرر في الأصول (2).
ثم يرد على ما قالوه: أن قول الرجل لزوجته غير المدخول بها: (أنت طالق ثلاثًا) كلام متصل غير منفصل، فكيف يصح جعله كلمتين وإعطاء كل كلمة حكمًا؟!.
الاعتراض الرابع: حمل حديث ابن عباس على صورة خاصة: وهي قول المُطلِّق: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق) وأن قائل هذا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا استئناف الطلاق وتعدده فلم يريدوا تأسيس طلاق ثان وثالث، وكانوا لسلامة صدورهم - يصدَّقون بدعواهم، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع (!!) ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد، حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم.
وأُجيب عنه: بأنه لو كان الحديث محمولًا على ما ذكروه لظلَّ الحكم بدون تغيير؛ لأن المدار إذا كان على قصد التأكيد فتقع الثلاث واحدة، وإن كان على قصد التأسيس فتقع ثلاثًا، فإن الحكم يترك لنية المطلق وينبغي تصديقه، سواء كان برًّا أو فاجرًا؛ لأن الطلاق حقه، واللفظ يحتمل التأكيد والتأسيس، والسبيل لحمل
_________
(1) منكر: وانظر «السلسة الضعيفة» للعلامة الألباني - رحمه الله - (1133).
(2) قلت: على أنه قد يقال: إن هذا ليس من باب العام والخصوص، وإنما هو من باب المطلق والمقيَّد، والمقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيَّد لاسيما إن اتحد الحكم والسبب، كما هنا، وعلى كلٍّ فالزيادة لا تثبت، والله أعلم.

(3/287)


اللفظ على أحدهما ما نواه، ونيَّته تعرف عن طريقه وما يدَّعيه، وإن كان ادعاء التأكيد لا يقبل في أحكام الدنيا، فإنه لا يقبل من البر كما لا يُقبل من الفاجر.
ثم إنه لا وجه مقبول للقول بأن الخداع كثر في الناس في زمان عمر؛ لأن الناس في زمنه هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في غالبيتهم العظمى، ومن وُجد فيهم من التابعين فهم تلامذتهم، وزمان عمر هو خير الأزمان بعد زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن أبي بكر فكيف يصح القول بكثرة الخداع فيهم؟ غاية ما في الأمر أنه أسلوب لإيقاع الطلاق - قد يقع من البعض، خلافًا للأسلوب الشرعي لأنهم غير معصومين، وهذا لا يقدح في عدالتهم ولا يعني الخداع منهم.
الاعتراض الخامس: حمل حديث ابن عباس على تغيُّر عادات الناس: فقالوا: الطلاق الذي يوقعه الناس في زمن عمر بصيغة الثلاث، كانوا يوقعونه قبل ذلك واحدة بقول المطلق (أنت طالق) لأنهم ما كانوا يستعملون الثلاث أصلًا أو كانوا يستعملونه نادرًا، فلما كثر استعمالهم للفظ الثلاث في زمن عمر أمضاه عليهم وأجازه، فلم يفعل عمر أكثر من تنفيذه حكم الثلاث عليهم وهو حكم مقرر شرعًا له، وعليه يكون حديث ابن عباس واردًا لبيان اختلاف عادات الناس في كيفية أو صيغة الطلاق، وليس في وقوعه حسب الكيفية.
وأجيب عنه: بأن الناس ما زالوا يطلقون واحدة أو ثلاثًا، وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله ثلاثًا، فمنهم من ردَّها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى واحدة، ومنهم من أنكر عليه وغضب عليه لإيقاعه الطلاق ثلاثًا وجعله متلاعبًا بكتاب الله ولم يعرف ما حكم به عليه (1).
ثم إن قول عمر: «فلو أمضيناه عليهم» يدلُّ على أن الطلاق الثلاث في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر لم يُعتبر وقوعه ثلاثًا - رغم استعماله - حتى رأى عمر ذلك.
3 - (من أدلة التابعين) أمثل طرق حديث ابن عباس - في قصة ركانة - قال: طلَّق ركانة بن يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف طلَّقتها؟» قال: طلَّقتها ثلاثًا، قال: فقال: «في مجلس واحد؟» قال: نعم، قال: «فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت» (2).
_________
(1) ستأتي هذه الأحاديث عقبه، وهي ضعيفة.
(2) ضعيف: وقد تقدم الكلام عليه في أدلة الفريق الأول.

(3/288)


وأجيب: بأن للحديث لفظًا آخر: أنه طلَّق امرأته البتة وقال: ما أردت إلا واحدة فردَّها عليه واحدة، قلت: الحديث ضعيف لاضطرابه على كل حال كما تقدم بيانه.
4 - ما ورد عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال سمعت محمود بن لبيد قال: «أُخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: «أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!» حتى قام رجل وقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟» (1).
قالوا: فكيف يُظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله وصححه واعتبره في شرعه وحكمه وأنفذه؟ وقد جعله مستهزئًا بكتاب الله تعالى؟! وهو صريح في أن الله تعالى لم يشرع جمع الثلاث ولا جعله من أحكامه.
وأُجيب عن الحديث: بأن قد أُعلَّ بعلتين: الأول: أنه مرسل إذ أن محمود بن لبيد لم تثبت له صحبة على قول بعض أهل العلم (!!) والثانية: أن مخرمة بن بكير مُتكلَّم في سماعه من أبيه.
قلت: أما سماع محمود بن لبيد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالصحيح ثبوته، فقد روي أحمد (5/ 427) بسند حسن عن محمود بن لبيد قال: «أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بنا المغرب في مسجدنا فلما سلَّم منها قال: «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» وقد تقدم في الصلاة.
وأما سماع مخرمة بن بكير من أبيه فقد صرَّح غير واحد من أهل العلم بأن روايته عنه منقطعة.
5 - عن ابن عباس قال: «إذا قال: (أنت طالق ثلاثًا) بفم واحد، فهي واحدة» (2).
6 - وَوَجَّهوا إمضاء عمر - رضي الله عنه - الثلاث بلفظ واحد بأن عمر «لما رأى الناس قد أكثروا مما حرَّمه الله عليهم من جميع الثلاث، ولا ينتهون من ذلك إلا بعقوبة، رأى عقوبتهم بإلزامهم بها لئلا يفعلوه، إما من نوع التعزير العارض الذي يُفعل عند الحاجة، وإما ظنَّا أن جعلها واحدة كان مشروطًا بشرط وقد زال» (3).
_________
(1) ضعيف: أخرجه النسائي (6/ 142).
(2) صحيح: انظر «الإرواء» (7/ 121 - 122).
(3) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (33/ 15 - 16).

(3/289)


«والذي يُحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين: إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على الأربعين في الخمر، وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازمًا، وتارة غير لازم، وأما القول بكون الثلاث شرعًا لازمًا كسائر الشرائع: فهذا لا يقوم عليه دليل شرعي» (1).
«ولا يجوز لأحد أن يظن بالصحابة أنهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعوا على خلاف شريعته - بل هذا من أقوال أهل الإلحاد - ولا يجوز دعوى نسخ ما شرعه الرسول بإجماع أحد بعده، كما يظن طائفة من الغالطين، بل كل ما أجمع عليه المسلمون فلا يكون إلا موافقًا لما جاء به الرسول لا مخالفًا له، بل كل نص منسوخ بإجماع الأمة، فمع الأمة النص الناسخ له، تحفظ الآن النص الناسخ كما تحفظ المنسوخ، وحفظ الناسخ أهم عندها» (2).
الترجيح:
بعد هذا العرض لطرف من أدلة الفريقين وما نوقشت به، فإنه يتبيَّن للباحث أن المسألة من المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف، ولا ينبغي لأحد من الطائفتين أن يشدد النكير على الآخر.
وإن كان الذي يبدو لي أن أقوى الأدلة على الإطلاق حديث ابن عباس المتقدم، ولم يأت من حاول التخلص منه بحجة تُنفق، فالذي يترجَّح لدي هو أن طلاق الثلاث - ولو بالتكرار لقوله (أنت طالق) - لا يقع إلا واحدة رجعية، على أنني أقول: هذا هو الأصل، لكن لو رأى القاضي المصلحة في إيقاع هذا النوع ثلاثًا من باب التعزير ونحوه، فله في فعل عمر وإقرار الصحابة متنفَّس وهذا هو الذي تُعمل فيه جميع الأدلة حسب مواردها، والله تعالى أعلم بالصواب.

ثانيًا: الطلاق السُّنِّي والبدعي
ينقسم الطلاق من حيث وصفه الشرعي (أو من حيث كيفية إيقاعه) إلى سُنِّي وبدعي.
والمراد بالسُّني: ما وافق السنة في كيفية إيقاعه، وليس المراد بهذا أن الطلاق بهذه الكيفية سنة!! فإن الطلاق تتناوله الأحكام الشرعية الخمسة كما تقدم.
_________
(1) «السابق» (33/ 97 - 98).
(2) «السابق» (33/ 32).

(3/290)


والبدعي: ما خالف السنة في ذلك.
[1] طلاق السنة:
وهو الطلاق الذي وافق أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأُوقع على الوجه المأذون به شرعًا، والوجه الشرعي يتعلق بأمرين: وقت إيقاعه، وعدد الطلاق.
(أ) الطلاق السني من حيث (وقت إيقاعه):
أولًا: بالنسبة للمرأة المدخول بها ممن تحيض: يشترط لكون طلاق المرأة المدخول بها من ذوات القروء (ممن تحيض) شروط:
1 - أن يطلقها في طهر، لا في حيض ولا نفاس.
2 - أن لا يكون جامعها في هذا الطهر قبل طلاقها.
قال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} (1).
قال ابن مسعود: {فطلقوهن لعدتهن}: بالطهر في غير جماع» (2).
وقال ابن عباس: «فطلقوهن لقُبل عدَّتهن» (3).
فالمراد من الآية الكريمة: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، وسيأتي في حديث ابن عمر تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الآية.
وعن نافع وسالم وعبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْهُ فليراجعْها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلَّق لها النساء» (4).
وقد دلَّ الحديث على أن الرجل ينتظر أن تطهر المرأة طهرين - بعد الحيضة التي طلَّقها فيها - حتى يحلَّ له طلاقها.
_________
(1) سورة الطلاق: 1.
(2) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 140)، وعبد الرزاق (6/ 302)، وابن أبي شيبة (5/ 1).
(3) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 139)، وعبد الرزاق (6/ 303)، وابن أبي شيبة (5/ 2).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5251 - 7160)، ومسلم (1471).

(3/291)


وقد رواه أكثر الرواة عن ابن عمر أنه يمكث حتى تطهر ثم يكون له أن يطلقها، ومن ذلك ما رواه يونس بن جبير عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أمره أن يراجعها فإذا طهرت فأراد أن يُطلقها فليطلقها ...» (1).
ولذا اختلف أهل العلم في الانتظار للطهر الثاني (2) فذهب مالك - وهو أصح الوجهين عند الشافعية والأرجح عند الحنفية - والحنابلة في ظاهر المذهب - إلى وجوب ذلك وتحريم تطليقها الذي يعقب الحيضة التي طلقها فيها وهو اختيار شيخ الإسلام.
واستندوا للرواية الأولى.
بينما ذهب أحمد في رواية - ونسبه الصنعاني إلى أبي حنيفة - إلى أن الانتظار للطهر الثاني مستحب وليس بواجب، واستندوا للرواية الثانية. قلت: الرواية الأولى يرويها أثبت الناس في ابن عمر، والثانية يرويها الأكثرون، فيصعب ترجيح إحداهما، فالأَوْلى أن يجمع بينهما بما ذكره ابن قدامة في المغني من أنه: «إن راجعها وجب إمساكها حتى تطهر، واستحب إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر». اهـ، ثم إن هذا القول يتأيَّد بحديث ابن عمر: «مرة فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا» (3).
وليس فيه التقييد بالانتظار للطهر الثاني، ثم لأن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال فوجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الذي بعده وكما يجوز في الطهر الذي لم تقدمه طلاق في الحيض والله أعلم.
فائدة: وجه استحباب الانتظار للطهر الثاني: أنه إذا أمسكها إلى الطهر الثاني، فإن مقامها معه سيطول، وقد يجامعها في هذه الفترة، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها، فيُقلع عن رغبته في طلاقها ويستقر على إرادة إمساكها.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5258)، ومسلم (1471).
(2) «ابن عابدين» (3/ 230)، و «المدونة» (2/ 70)، و «فتح الباري» (9/ 349 - المعرفة)، و «سبل السلام» (ص 1078)، و «المغني» (7/ 101)، و «كشاف القناع» (3/ 143)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 31 - 32).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1471)، وأبو داود (2181)، والترمذي (1176)، والنسائي (6/ 141) وابن ماجة (2023).

(3/292)


3 - أن لا يطلقها - إذا طهرت - إلا بعد أن تغتسل:
ففي رواية من حديث ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْ عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت فليتركها حتى تحيض، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسَّها حتى يطلقها، فإن شاء أن يمسكها فليمسكها، فإنها العدة التي أمر الله - عز وجل - أن تُطلَّق لها النساء» (1).
قال الحافظ في قول: «فإذا اغتسلت من حيضتها»: هذا مفسِّر لقوله «فإذا طهرت» فليحمل عليه. اهـ (2).
ثانيًا: بالنسبة لغير المدخول بها:
إذا تزوَّج الرجل المرأة فلم يدخل بها - وكانت ممن تحيض أو لا تحيض - فإنه يُباح له أن يطلِّقها متى شاء، وفي الطهر أو الحيض، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (3).
فغير المدخول بها ليس عليها عدة تطلق لها وتراعى في تطليقها فلا يشملها قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} (4).
ثالثًا: بالنسبة لمن لا تحيض (لصغرها أو كبرها):
وهذه يطلقها زوجها متى شاء سواء كان وطئها أو لم يكن وطئها، فإن هذه عدتها ثلاثة أشهر ففي أي وقت طلقها لعدتها، فإنها لا تعتد بقروء ولا بحمل (5)، قال الله تعالى: {واللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (6).
فدلت على أنه لا عدة لهما بالقروء حتى يُطلقها لعدتهما، فمتى وقع الطلاق ابتدأ حساب العدة وهي ثلاثة أشهر من تاريخ وقوع الطلاق.
_________
(1) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 140).
(2) «فتح الباري» (9/ 350) وهذا منصوص قول مالك كما في «المدوَّنة» (2/ 70).
(3) سورة الأحزاب: 49.
(4) سورة الطلاق: 4.
(5) «مجموع الفتاوى» (33/ 5)، وانظر «الأم» (5/ 181).
(6) سورة الطلاق: 4.

(3/293)


ولو جامع الصغيرة التي لم تحض أو الآيسة فالطلاق مشروع لأن العلة في تحريم الطلاق في الطهر الذي حصل فيه الجماع - في ذوات الأقراء - احتمال أن تحبل بالجماع فيندم، وهذا المعنى لا يوجد في الآيسة والصغيرة ولو وُجد الجماع، ولأن الإياس والصغير في الدلالة على براءة الرحم فوق الحيضة - في ذوات الأقراء - فلما جاز الإيقاع ثمة عقيب الحيضة فلأن يجوز هنا عقيب الجمع أولى» (1).
رابعًا: بالنسبة للحامل التي تبيَّن حملُها: فإنها تُطلق في أي وقت شاء زوجها كذلك لما يأتي:
1 - قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (2). فجعل عدة الحامل وضع الحمل، ووقت وضع الحمل مجهول لاختلاف النساء وأحوالهن، فلا يمكن تحديد وقت معيَّن تطلق فيه الحامل (3).
2 - حديث ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مره فليراجعها، ثم ليطلِّقها طاهرًا أو حاملًا» (4).
قال الخطابي: «فيه بيان أنه إذا طلَّقها وهي حامل فهو مطلق للسنة، ويطلقها في أي وقت شاء في الحمل، وهو قول كافة العلماء» اهـ (5).
3 - ويُروى عن ابن عباس أن قال: «الطلاق على أربعة منازل: منزلان حلال، ومنزلان حرام، فأما الحرام: فأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أيشتمل الرحم على شيء أم لا، وأن يطلقها وهي حائض، وأما الحلال: أن يطلقها لأقرائها طاهرًا من غير جماع، وأن يطلقها حاملًا مستبينًا حملها» (6).
4 - ولأن مطلق الحامل التي استبان حملها قد طلق على بصيرة، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد به الندم، كما أنها ليست مرتابة في عدَّتها، لعدم اشتباه الأمر عليها أنها حامل» (7).
_________
(1) «بدائع الصنائع» (3/ 89).
(2) سورة الطلاق: 4.
(3) «المفصل في أحكام المرأة» (8/ 100).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1471) وغيره وقد تقدم قريبًا.
(5) معالم السنن (6/ 163) ط. المكتبة العلمية.
(6) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (6/ 303)، والدارقطني (4/ 5 - 37)، والبيهقي (7/ 325) ومعناه صحيح.
(7) «المغني» لابن قدامة (7/ 105) ونحوه في «فتح الباري» (9/ 350 - المعرفة).

(3/294)


(ب) الطلاق السني من حيث العدد: والجامع له أن يطلِّق طلقة واحدة، ولا يُتْبِعُها بأخرى أثناء العدة.
أولًا: بالنسبة للمدخول بها ممن تحيض: يتحقق طلاق السنة بإيقاع طلقة واحدة على المرأة في طهر لم يجامعها فيه - كما تقدم - ويتركها حتى تنقضي عدتها (ثلاثة قروء) فتبين منه، ولا يتبعها طلاقًا آخر قبل انقضاء عدتها، فإن فعل فهو طلاق بدعة عند الجمهور خلافًا للشافعي وابن حزم وقد تقدمت أدلة ذلك في مسألة «طلاق الثلاث المجموعة».
ولو طلقها ثلاثًا في ثلاثة أطهار [عند كل طهر طلقة واحدة] كان حكمه حكم جمع الثلاث في طهر، عند أحمد ومالك، وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد.
وعند الحنفية: لا بأس بذلك وهو (حسن) عندهم (1).
ثانيًا: بالنسبة لغير المدخول بها: فهي كالمدخول بها، فإذا طلق غير المدخول بها ثلاثًا كان طلاقه خلاف طلاق السنة (2).
ثالثًا: بالنسبة لمن لا تحيض (لصغر أو كبر): فهذه عدَّتها تكون بالأشهر كما قال تعالى: {واللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (3).
فطلاق السنة لها أن يطلقها طلقة واحدة ويتركها حتى تنقضي عدتها بمضي ثلاثة أشهر من وقت طلاقها عند الجمهور، وعند الحنفية إن طلقها واحدة كل شهر فهو حسن، وهذا جائز عند الشافعية على قاعدتهم في إباحة جمع الثلاث كما تقدم.
رابعًا: بالنسبة للحامل: فطلاق السنة أن تُطلق طلقة واحدة، لا تُتْبَعُ بأخرى حتى تنقضي عدتها وهي وضع الحمل، لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (4).
_________
(1) «الهداية» (3/ 23 - مع فتح القدير)، و «الشرح الصغير» للدردير (2/ 361)، و «المغني» (7/ 98).
(2) «الهداية» (3/ 23).
(3) سورة الطلاق: 3.
(4) سورة الطلاق: 4.

(3/295)


[2] طلاق البدعة: وهو المخالف لطلاق السنة، سواء كانت المخالفة من جهة وقت إيقاع الطلاق، أو من جهة عدد التطليقات التي يوقعها.
فإن طلق امرأته وهي حائض، أو طلقها بعدما طهرت لكن جامعها في هذا الطهر، أو طلقها ثلاثًا في طهر فهو طلاق بدعة، وهو محرم، يأثم فاعله في قول عامة أهل العلم.
حكم الطلاق البدعي:
1 - هل يقع طلاق البدعة؟ تقدم فيما مضى تحرير حكم وقوع طلاق البدعة من حيث العدد، والمراد هنا تحرير: «هل يقع الطلاق في الحيض؟ وهل يحسب الطلاق في الحيض تطليقة؟» فأقول:
اختلف أهل العلم في وقوع الطلاق في الحيض - بعد الاتفاق على أنه مُحرَّم يأثم فاعله - على قولين:
الأول: أن الطلاق في الحيض يقع ويُحسب: وهو قول عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم (1)، وحجتهم ما يلي:
1 - حديث ابن عمر في تطليقه امرأته وهي حائض وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «مُرْه فليراجعها ...» (2) والمراجعة لا تكون إلا من طلاق قد وقع.
وأجاب المخالفون: بأن الأمر بالمراجعة لا يستلزم وقوع الطلاق، بل لما طلقها طلاقًا محرَّمًا حصل منه إعراض عنها ومجانبة لها، لظنه وقوع الطلاق، فأمره أن يردَّها إلى ما كانت عليه.
2 - عن أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فذكر عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ليراجعها» قلت - أي أنس لابن عمر -: تحتسب؟ قال: «فمه؟!» (3).
قال الحافظ في «الفتح» (9/ 265 سلفية): قوله (فمه) أصله (فما) وهو استفهام فيه اكتفاء، أي: فما يكون إن لم تحتسب، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية وهي كلمة تقال للزجر، أي: كفَّ عن هذا الكلام فإنه لابد
من وقوع الطلاق
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 232)، و «المبسوط» (6/ 57)، و «الشرح الصغير» (2/ 308)، و «المجموع» (15/ 398)، و «المغني» (7/ 366).
(2) صحيح: تقدم مرارًا.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5252)، ومسلم (1471).

(3/296)


بذلك. قال ابن عبد البر: معناه: فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها؟ إنكارًا لقول السائل: (أيعتد بها؟) فكأنه قال: وهل من ذلك بد؟ (1). اهـ.
3 - وعن يونس بن جبير قال سألت ابن عمر فقال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مُره أن يراجعها ثم يطلق من قُبل عدتها» قلت - أي: يونس لابن عمر -: أفتعتد بتلك التطليقة؟ قال: «أرأيت إن عجز واستحمق» (2).
قال ابن عبد البر في «التمهيد» (5/ 66) في قوله (أرأيت إن عجز واستحمق): بمعنى تعاجز عن فرض آخر من فرائض الله فلم يُقمه، واستحمق فلم يأت به، أكان يعذر فيه؟! اهـ.
وقال النووي: معناه: أفيرتفع عنه الطلاق وإن عجز واستحمق؟ وهو استفهام إنكار وتقديره: نعم، تُحسب ولا يمتنع احسابها لعجزه وحماقته. اهـ.
واعترض ابن القيم على هذا الاستدلال فقال: هذا رأي محض، ومعناه: أنه ركب خطة عجز، واستحمق، أي: أتى أحموقة وجهالة فطلق في زمن لم يؤذن له في الطلاق فيه ... وهذا ليس بدليل على وقوع الطلاق. اهـ (3).
وقد يجاب عن الاعتراض: بأنه في رواية أحمد (2/ 43) بسند صحيح قال يونس: فقلت لابن عمر: أيحسب طلاقه ذلك طلاقًا؟ قال: «نعم»، أرأيت إن عجز واستحنق» وفي رواية عنده أيضًا (2/ 79) أنَّه قال: «ما يمنعه؟ نعم أرأيت إن عجز واستحمق؟».
4 - وأصرح مما تقدم، حديث ابن عمر قال: «حُسبتْ عليَّ بتطليقة» (4).
وفي رواية قال ابن عمر: «فراجعتها، وحَسَبْتُ لها التطليقة التي طلقتها» (5).
واعتُرض: بأنه ليس فيه ما يفيد رفع ذلك للنبي ظ، فقوله (حُسبت عليَّ) من الذي حسب؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عمر - رضي الله عنه -؟ أو أنه هو الذي حسبه؟ (6).
_________
(1) «التمهيد» لابن عبد البر (15/ 66).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5258)، ومسلم (1471).
(3) «تهذيب السنن» (3/ 102 - مع مختصر المنذري).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5253).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1471، والنسائي رقم (3391).
(6) «تهذيب السنن» (3/ 101 - 102).

(3/297)


وأجاب الحافظ عن الاعتراض فقال: وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حُسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيدًا جدًّا، مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وكيف يُتخِيَّل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئًا برأيه، وهو ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيَّظ من صنيعه، كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة؟! اهـ (1).
قلت: وهذا الذي ذكره الحافظ يتأيد في الحديث الآتي:
5 - عن نافع عن ابن عمر: «أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فجعلها واحدة» (2) وهو نصٌ في موضع النزاع فيجب المصير إليه ثم يتأيد كله بفتوى ابن عمر في هذه المسألة:
6 - فعن نافع قال: «... فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض يقول: «أنا أنت طلقتها واحدة أو اثنتين، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسَّها، وأما أنت طلَّقتها ثلاثًا فقد عصيب ربَّك فيما أمرك به من طلاق امرأتك، وبانت منك» (3).
7 - ولأنَّه طلاق من مكلَّف في محل الطلاق فوقع، كطلاق الحامل.
8 - ولأن الطلاق ليس مما يتقرب به إلى الله تعالى فيُعتبر لوقوعه موافقة السنة، وإنما هو زوال عصمة فها حق لآدمي، فكيفما أوقعه وقع، فإن أوقعته لسنة هُدِىَ ولم يأثم، وإن أوقعه على غير ذلك أثم ولزم ذلك، ومحال أن يلزم المطيع ولا يلزم العاصي (4).
القول الثاني: أن الطلاق في الحيض لا يقع ولا يُحسب: وهو قول طاووس وعكرمة وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق وأهل الظاهر: داود وابن حزم، وهو مذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (5)، وحجة هذا القول:
1 - حديث أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن
_________
(1) «فتح الباري» (9/ 266 - سلفية).
(2) صحيح: أخرجه الطيالسي (68)، والدارقطني (4/ 9)، والبيهقي (7/ 326).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1471)، والنسائي (6/ 213).
(4) «التمهيد» (15/ 59)، و «المغني» (7/ 366) بنحوه.
(5) «الإنصاف» (8/ 448)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 66) ومواضع، و «الزاد» (5/ 218 - وما بعدها).

(3/298)


عمر قال: كيف ترى في رجل طلَّق امرأته حائضًا؟ قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردَّها عليَّ [ولم يرها شيئًا] وقال: «إذا طهرت فليطلق أو ليمسك» (1).
وأُجيب عنه: بأن زيادة (ولم يرها شيئًا) شاذة، وقد أطبق العلماء على تضعيفها منهم أبو داود والخطابي والشافعي وابن عبد البر (2).
2 - روي ابن حزم - ونقله عنه ابن القيم - عن نافع عن ابن عمر أنه قال - في الرجل يطلق امرأته وهي حائض -: «لا يعتد بذلك» (3).
وقد أُجيب: بأن هذا الأثر قد أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (5/ 5) من نفس الطريق عن نافع عن ابن عمر - في الذي يطلق امرأته وهي حائض - قال: «لا تعتد بتلك الحيضة»!! فذكرها ابن حزم مختصرة وفرق بين اللفظين، فهذا معناه: لا يعتد بتلك الحيضة من أقرائها الثلاثة التي في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (4). وليس فيه تعرض لاحتساب التطليق أو عدمه (5).
3 - عن طاووس قال: «وجه الطلاق أن يطلقها طاهرًا من غير جماع وإذا استبان حملها» (6).
4 - عن خلاس بن عمرو أنه قال - في الرجل يطلق امرأته وهي حائض -: «لا يعتد بها» (7).
قلت: لا يخفى أن قول طاووس وخلاس رحمهما الله - إن ثبت - إنما يفيد في إثبات الخلاف بين السلف في المسألة، لكنه لا يُعدُّ دليلًا يستدل به.
_________
(1) أخرجه أبو داود (2185) وغيره وقد جمع شيخنا - حفظه الله - طرقه وأبان علَّته في «جامع أحكام النساء» (4/ 42).
(2) «السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 327)، و «الفتح» (9/ 354 - المعرفة)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 45 - 47).
(3) إسناده ليِّن: أخرجه ابن حزم في «المحلي» (10/ 163).
(4) سورة البقرة: 228.
(5) نبَّه عليه شيخنا - رفع الله مقامه - في «جامع أحكام النساء» (4/ 47 - 48).
(6) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10923).
(7) إسناده ضعيف: أخرجه ابن حزم (10/ 163).

(3/299)


5 - أن العبادات والعقود المحرَّمة إذا فعلت على الوجه المحرَّم لم تكن لازمة صحيحة، فإن النهي يقتضي الفساد، ولأنه طلاق منه منه الشرع فأفاد منعه عدم جواز إيقاعه فكذلك يفيد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للمنع فائدة، وقد أطال ابن القيم بمعارضات كثيرة من هذا الجنس.
وأجيب: بأن هذا قياس في معارضة النص - من صاحب القصة - فهو فاسد الاعتبار، وقد عورض هذا بقياس أحسن منه وهو ما تقدم نقله عن ابن عبد البر من أن الطلاق ليس من أعمال البر التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وإنما هو إزالة عصمة فيها حق لآدمي فكيفما أوقعه وقع ... اهـ.
الراجح: من خلال الأدلة المتقدمة أن مذهب الجماهير من السلف والخلف من إيقاع الطلاق على الحائض هو الأقوى، والله أعلم.
تنبيه: يترتب على هذا أنه تجب على المرأة العدة: إذا طُلِّقت في الحيض، وهي في هذه الحالة تعتدُّ بحيضة على النحو الذي تقدم بيانه.
من طلَّق طلاق بدعة، هل يجب عليه مراجعتها؟
تقدَّم أن ابن عمر لما طلَّق امرأته وهي حائض، أخبر عمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «مُرْهُ فليراجعها ...».
وهو أمر استحباب عند أبي حنيفة والشافعي والأوزاعي وأحمد في المشهور عنه، وحكاه النووي عن سائر الكوفيين وفقهاء المحدِّثين.
وقال مالك وأصحابه: هي واجبة يُجبر عليها ما بقي من العدة شيء، وهذا هو الأصح عند الحنفية وبه قال داود الظاهري، وهو الأرجح عملًا بحقيقة الأمر، ورفعًا للمعصية بالقدر الممكن برفع أثره وهو العدة، ودفعًا لضرر تطويل العدة (1).

ثالثًا: الطلاق المُنجَّز والمضاف والمعلَّق
[1] الطلاق المُنَجَّز: وهو الطلاق الخالي في صيغته عن التعليق على شرط أو الإضافة إلى المستقبل، بل يقصد به المطلِّق وقوع الطلاق في الحال، كقوله (أنتِ طالق).
حكمه:
ينعقد هذا الطلاق سببًا للفرقة في الحال، ويعقبه أثره بدون تراخٍ ما دام
_________
(1) «طرح التثريب» للعراقي (7/ 88 - 89).

(3/300)


مستوفيًا لشروطه، فإذا قال لها: (أنت طالق) طلقت للحال وبدأ عدَّتها - إن كانت من ذوات العدة - هذا مع ملاحظة الفارق بين البائن والرجعي.
[2] الطلاق المُضاف: هو الذي قُرنت صيغته بوقت، ويقصد المطلق بذلك وقوع الطلاق عند حلول ذلك الوقت، كقوله: (أنت طالق أول الشهر القادم - أو آخر النهار).
حكمه: إذا طلق الرجل امرأته لأَجَل، بأن أضافه إلى المستقبل، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال (1):
الأول: ينعقد الطلاق في الحال، لكن لا يقع إلا عند حلول الأجل المضاف إليه: وهو قول أبي عبيد وإسحاق والشافعي وأحمد وداود الظاهري وأصحابهم.
الثاني: يقع الطلاق في الحال منجزًا: وهو قول ابن المسيب وأحد قولي أبي جنيفة والليث ومالك.
الثالث: لا يقع لا في الحال ولا عند حلول الأجل: وهو مذهب أبي محمد بن حزم، وقد ناقش أدلة مخالفيه وفنَّدها، وانتصر لمذهبه بما حاصله:
1 - أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك، وقد علَّمنا الله الطلاق على المدخل بها وغير المدخول بها، وليس هذا فيما علمنا {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} (2).
2 - أن النكاح إلى أجل لا يجوز، فقياس الطلاق عليه أولى من قياسه على المداينة والعتق.
3 - أن خلاف هذا القول يستلزم تحريم فرج بالظن على من أباحه الله تعالى له باليقين.
[3] الطلاق المعلَّق على شرط:
وهو أن يعلِّق طلاق زوجته على حصول أمر، سواء كان هذا الأمر فعل المطلِّق أو المطلَّقة، أو لم يكن من فعل أحد.
فإن كان من فعل المطلق أو المطلقة أو غيرهما سُمِّي «يمينًا» عند الجمهور
_________
(1) «المحلي» (10/ 213 - 216)، و «ابن عابدين» (3/ 265)، و «الدسوقي» (2/ 390)، و «مغني المحتاج» (3/ 314)، و «المغني» (7/ 363).
(2) سورة الطلاق: 1.

(3/301)


مجازًا، لما فيه من معنى القسم، وهو: تقوية عزم الحالف أو عزم غيره على فعل شيء أو تركه، كأن يقول لزوجته: (إن خرجت من البيت فأنت طالق) أو: (إن سافرتُ أنا، فأنتِ طالق) أو (إن زارك فلان فأنت طالق).
فإن كان الطلاق مُعلَّقًا على فعل أحد، كأن يقول لها: (أنت طالق إن طلعت الشمس) فإنه يسمى «تعليقًا» لا يمينًا لانتفاء معنى اليمين، وقيل: يسمى يمينًا أيضًا (1).
حُكْم الحلف بالطلاق:
إذا علَّق الرجل طلاق امرأته على شرط، ثم حدث هذا الشرط، كأن يقول: (أنت طالق لو خرجْت) فَخَرَجَتْ، فهل يقع الطلاق؟
والجواب: أن هذا الرجل، لا يخلو حاله من أحد أمرين:
1 - أن يكون قصد بذلك إيقاع الطلاق حقيقة إذا حصل الشرط الذي علَّق عليه، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه عند حصول الشرط عند جمهور أهل العلم.
وخالف ابن حزم فقال: لا يقع سواء برَّ أو حنث، بناءً على أصله المعروف: أنه لا طلاق إلا كما أمر الله - عز وجل -، ولا يمين إلا كما أمر الله تعالى وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفًا فليحلف بالله» (2). فدلَّ على أن كل حلف بغير الله عز وجل فإنه معصية وليس يمينًا.
قلت: والأوَّل أظهر، بل قال شيخ الإسلام: «... وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعلَّق، ولم نعلم فيه خلافًا قديمًا، لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق، وهو قول الإمامية، مع أن ابن حزم ذكر في «كتاب الإجماع» إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق، وذكر أن الخلاف إنما هو فيما إذا أخرجه مخرج اليمين ...» اهـ (3).
2 - أن يكون قصد بذلك حمل الزوجة (حضَّها) على الفعل أو الترك، ولم يكن في نيته الطلاق حقيقة عند وقوع الشرط، بل إنه يكره طلاقها إذا فعلت ما علَّق طلاقها عليه.
فللعلماء في هذا النوع قولان:
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 241)، و «المغني» (7/ 369)، وانظر «مجموع الفتاوى» (33/ 47).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6646)، ومسلم (1646).
(3) «المحلي» (10/ 211)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 46، 47).

(3/302)


الأول: أنه يقع عند حصول الشرط كذلك: وهو مذهب جمهور الفقهاء منهم الأئمة الأربعة (1)، وحجتهم ما يلي:
1 - ما ذكره البخاري تعليقًا عن نافع قال: طلَّق رجل امرأته البتة إنْ خرجتْ، فقال ابن عمر - رضي الله عنه -: «إن خرجت فقد بُتَّتْ منه، وإن لم تخرج فليس بشيء» (2).
قال السُّبْكي - رحمه الله -: فأوقع ابن عمر الطلاق على الحالف به عند الحنث في يمينه، ولا يُعرف أحد من الصحابة خالف ابن عمر في هذه الفتوى (!!) ولا أنكرها عليه. اهـ (3).
2 - ما يُروي عن عروة بن الزبير قال: ضرب الزبير أسماء بنت أبي بكر فصاحت بعبد الله بن الزبير، فلما رآه قال: «أمُّك طالق إن دخلت» فقال له عبد الله: «أتجعل أمِّي عُرضة ليمينك؟» فاقتحم عليه فخلَّصها فبانت منه، قال: «ولقد كنت غلامًا ربما أخذت بشعر منكبي الزبير» (4) والشاهد فيه قوله: «فبانت منه» لكنه ضعيف.
3 - ما جاء عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فَعَلتْ كذا وكذا فهي طالق فتفعله، قال: «هي واحدة، وهو أحق بها» (5) وفيه ضعف.
4 - ما جاء عن طريق الحسن: أن رجلًا تزوَّج امرأة وأراد سفرًا، فأخذه أهل امرأته، فجعلها طالقًا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء، فلما قدم خاصموه إلى علي بن أبي طالب، فقال عليٌّ: «اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا؟!» فردَّها عليه (6).
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 253)، و «القوانين الفقهية» (ص 200)، والخرشي (4/ 54)، و «روضة الطالبين» (8/ 114)، و «مغني المحتاج» (3/ 316)، و «المغني» (7/ 397)، و «كشاف القناع» (5/ 254).
(2) أخرجه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم (9/ 300 - سلفية) ولم يصله الحافظ في «التعليق» (4/ 453)!!
(3) «الدُّرة المضية في الرد على ابن تيميَّة» (ص 16).
(4) إسناده ضعيف: أخرجه الطبراني في «الكبير» (1/ 121)، والذهبي في «السير» (2/ 291)، وانظر «الميزان» (4/ 178).
(5) إسناده منقطع: أخرجه البيهقي (7/ 356) وهو منقطع بين إبراهيم وابن مسعود.
(6) إسناده منقطع: أخرجه ابن حزم في «المحلي» (10/ 212)، والحسن لم يسمع من عليٍّ.

(3/303)


وقد أجيب عنه: بأن عليًّا - رضي الله عنه - إنما أنكر عليهم اضطهادهم للرجل حتى حلف بالطلاق، وليس فيه أنه أوقع الطلاق!!
5 - ما يُروى عن عائشة قالت: «كل يمين - وإن عظمت - ففيها الكفارة إلا العتق، والطلاق» (1) وهذا لو صحَّ فلا تعلق له بوقوع الطلاق أو عدمه، إنما هو في الكفارة إذا حنث.
6 - أن آيات الطلاق فيها تفويض الأمر للزوج، وهي مُطْلقَة لم تفرِّق بين منجَّز ومعلَّق، والأصل أن يُعمل بالمطلق على إطلاقه حتى يأتي ما يقيِّده.
7 - لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمون عند شروطهم» (2).
القول الثاني: أن الطلاق لا يقع: وهو قول عكرمة وطاووس وابن حزم وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية - ونسبه إلى أبي حنيفة!! وطائفة من أصحاب الشافعي - وتلميذه ابن القيم (3)، واحتجوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (4)، وقوله سبحانه: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} (5).
قال شيخ الإسلام: والحلف بالطلاق من أيمان المسلمين المكفَّرة، وهو داخل في جملة الأيمان بالآية.
2 - وبمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفِّر عن يمينه، وليأت الذي هو خير» (6).
3 - قول سبعة من الصحابة بعدم وقوع الحلف بالعتق، وهم: ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وعائشة وأم سلمة وحفصة، وزينب ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، على ما ذكر ابن تيمية، فكذا الطلاق بالقياس الصحيح.
_________
(1) لم أجده مسندًا: وقد ذكره السبكي في «الدرة المضية» (17/ 18).
(2) صحيح: تقدم تخريجه في «الزواج».
(3) «مصنف عبد الرزاق» (6/ 406)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 44) وما بعدها، و «إعلام الموقعين» (4/ 79 - ط. الحديث) وما بعدها، و «المحلي» (10/ 211)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 129 - وما بعدها).
(4) سورة التحريم: 2.
(5) سورة المائدة: 89.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1650) وغيره.

(3/304)


قلت: صحَّ عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال:
«قالت لي مولاتي ليلى ابنة العجماء: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك. قال: فأتيت زينب ابنة أم سلمة وكانت إذا ذكرت امرأة بفقه ذكرت زينب، قال: فجاءت معي إليها فقالت: أفي البيت هاروت وماروت، فقالت يا زينب جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وهي يهودية ونصرانية، فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وامرأته، قال فكأنها لم تقبل ذلك، قال: فأتيت حفصة فأرسلت معي إليها فقالت يا أم المؤمنين جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية، قال: فقالت حفصة: يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وامرأته فكأنها أبت، فأتيت عبد الله بن عمر فانطلق معي إليها فلما سلم عرفت صوته فقالت: بأبي أنت وبآبائي أبوك فقال: أمن حجارة أنت أم من حديد أم من أي شيء أنت أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي منهما قالت يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية قال يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلى بين الرجل وامرأته» (1).
والشاهد أنها لما قالت: «كل مملوك لها حر» إن لم يفرق بين أبي رافع وامرأته، أفتاها الصحابة بأن عليها كفارة يمين، ولم يوجبوا عليها عتقًا، «فإذا أفتوا في الحلف بالعتق - الذي هو أحب إلى الله تعالى من
الطلاق - أنه لا يلزم الحالف، بل يجزئه كفارة يمين، فكيف يكون قولهم في الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله؟ ...» (2).
وقد أجاب عنه البيهقي فقال: وهذا في غير العتق، فقد روي عن ابن عمر من وجه آخر أن العتاق يقع، وكذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ... ، وكأن الراوي قصر بنقله في رواية بكر بن عبد الله المزني (3)، أو لم يكن لها في الوقت مملوك فلم يتعرضوا له.
4 - أن الملتزم لأمر عند الشرط إنما يلزمه بشرطين، أحدهما: أن يكون الملتزم
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (16000)، والبيهقي (10/ 66).
(2) «مجموع الفتاوى» (33/ 50).
(3) قلت: نعم، قد أخرجه عبد الرزاق (16001) عن معمر عن أبان عن بكر بنحوه ولم يذكر: «كل مملوك لها حر»!!.

(3/305)


قربةً، والثاني: أن يكون قصده التقرب إلى الله به، لا الحلف به، فلو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة ... لم يلزم، بل تجزئه كفارة يمين.
وهنا الحالف بالطلاق هو التزام وقوعه على وجه اليمين، وهو يكره وقوعه إذا وجد الشرط كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به وهذا - الأخير - لا يلزمه بالاتفاق، لأنه لم يقصد وقوعه عند الشرط، بل قصد الحلف به (1).
5 - أن القول بعدم وقوع الطلاق المعلَّق على فعل المرأة، يمنع أن تتعمد المرأة فعله لتحنيثه وإيقاع الطلاق، وهو ملحظ أشهب من أصحاب مالك، قال ابن القيم: «وهذا القول هو الفقه بعينه، ولاسيما على أصول مالك وأحمد في مقابلة العبد بنقيض قصده، كحرمان القاتل ميراثه من المقتول ... وتوريث امرأة من طلقها في مرض موته فرارًا من ميراثها .. ، فمعاقبة المرأة ههنا بنقيض قصدها هو محض القياس والفقه، ولا ينتقض هذا على أشهب بمسألة «المخيَّره» ومن جعل طلاقها بيدها؛ لأن الزوج قد ملكها ذلك وجعله بيدها، بخلاف الحالف فإنه لم يقصد طلاقها بنفسه ...» اهـ.
الترجيح:
قد رأيتَ أنّه ليس في المسألة نص صريح من قرآن أو سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيها إجماع ثابت، والذي يظهر لي أن الأقرب إلى روح الشريعة ومقاصدها أن لا يقع الحلف بالطلاق (الطلاق المعلق على شرط) إذا كان الحالف لا يقصد به إلا التهديد أو الحض أو المنع من فعل، وهذا هو المعمول به اليوم في المحاكم المصرية فقد تضمنت المادة الثانية من القانون رقم 25 لسنة 1929 ما نصه:
(لا يقع الطلاق غير المنجَّز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه لا غير).
وأما إذا قصد به وقوعه حقيقة عند حصول الشرط، فإن هذا يقع طلاقه كما تقدم والله أعلم.
فوائد (2) (على القول بوقوع الطلاق المعلَّق):
1 - لو علَّق الرجل طلاق امرأته على فعل، ثم حصل منه الفعل المعلَّق عليه ناسيًا أو مكرهًا فإن الطلاق يقع كذلك عند الجمهور، وعند الشافعية فيه قولان: أظهرهما أنه لا يقع الطلاق.
_________
(1) «مجموع الفتاوى» (33/ 56 - 57).
(2) «ابن عابدين» (3/ 352)، و «الدسوقي» (2/ 375)، و «مغني المحتاج» (3/ 293 - 316)، و «المغني» (7/ 294).

(3/306)


2 - إذا علق الطلاق على شرط، فإنها تبقى حلالًا له يطؤها متى شاء ما دام لم يحصل الفعل المعلَّق عليه عند الجمهور، خلافًا لمالك (!!).
قلت: إذا كان الطلاق لم يقع، فلم يُمنه من وطئها؟!!
3 - إذا علقَّ الزوج الطلاق على شرط، فإنه ينحلُّ بحصول الشرط المعلق عليه مرة واحدة، مع وقوع الطلاق به على الزوجة في هذه المرة، فإذا عادت إليه ثانية في العدة أو بعدها، لم تقع عليها به طلقة أخرى لانحلاله، هذا ما لم يكن التعليق بلفظ (كلما فعلت ...) فإنه يقع عندهم كلما فعلته.
وكذلك تنحلُّ اليمين المعلقة على شرط بزوال الحلِّ بالكلية، كأن تبين منه قبل أن تفعل الشرط، فلو تزوجها بعد التحليل، وفعلت الشرط لم يقع الطلاق عند جمهورهم.
كما تنحلُّ اليمين المعلقة على شرط بردَّة الحالف عند أبي حنيفة وصاحبيه.
وتنحلُّ اليمين المعلقة على شرط كذلك بفوت محلِّ البر، فإذا قال لها: (أنت طالق إن دخلت دار فلان) ثم خربت الدار ونحو ذلك انحلت اليمين حتى لو كان الدار الخربة بنيت ثانية فدخلتها.
فائدة (على القول بعدم وقوع الطلاق المعلَّق ممن لم يقصده):
ماذا على من حلف بالطلاق (علَّقه على شرط) إذا حصل الشرط؟ (1).
هذا النوع من الأيمان - الذي يدخل فيه الحلف بالطلاق - كقوله (إن فعلت كذا فعبيدي أحرار - أو عليَّ أن أحج - أو عليَّ الطلاق أي: إن لم يحصل كذا) العلماء فيها ثلاثة أقوال:
الأول: يلزمه ما حلف به إذا حنث: وهو القول الجاري على مسلك الجمهور كما تقدم.
الثاني: أنها يمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث، لا كفارة ولا وقوع طلاق، وهذا مذهب الظاهرية.
الثالث: أنها يمين منعقدة، تكفَّر إذا حنث كغيرها من الأيمان: وهو مذهب شيخ الإسلام مستندًا لفتوى الصحابة في الحلف بالعتق، قلت: وهو الأشبه بالصواب والعلم عند الله.
_________
(1) «مجموع الفتاوى» (33/ 50).

(3/307)


إذا علَّق الطلاق بالنكاح:
إذا قال الزوج: (إذا تزوجت فلانة فهي طالق) ثم تزوَّجها، فإن هذا الطلاق لا يقع في أصحِّ قولي العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد واختيار شيخ الإسلام (1).
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} (2).
فذكر سبحانه النكاح قبل الطلاق.
وقد سئل ابن عباس عن الرجل يقول: (إذا تزوجت فلانة فهي طالق، فقال: «ليس بشيء إنما الطلاق لمن ملك» قالوا: فابن مسعود قال: «إذا وقَّت وقتًا فهو كما قال، قال: «يرحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال، لقال الله: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن» (3).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» (4).
الاستثناء في الطلاق:
الاستثناء شرعًا: هو التعليق على مشيئة الله تعالى، والمراد بالاستثناء في الطلاق أن يقول الزوج لزوجته: (أنت طالق إن شاء الله) فهل يقع الطلاق؟
لأهل العلم في هذه المسألة مذهبان (5):
الأول: لا يقع الطلاق (ينفعه الاستثناء): وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن حزم ومستندهم ما يلي:
1 - أن الاستثناء في الطلاق داخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» (6).
_________
(1) «روضة الطالبين» (8/ 68)، و «منتهي الإرادات» (2/ 280)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 233).
(2) سورة الأحزاب: 49.
(3) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 320).
(4) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (1181)، وأبو داود (2190)، وابن ماجة (2047) وغيرهم وله شواهد كثيرة.
(5) «ابن عابدين» (3/ 366)، و «القوانين الفقهية» (243)، و «مغني المحتاج» (3/ 302)، و «الروضة» (8/ 96)، و «المغني» (7/ 402)، و «الفتاوى» (35/ 284).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (6639)، ومسلم (1654).

(3/308)


وأجيب: بأن قول القائل: (أنت طالق إن شاء الله) ليس يمينًا فلا يحمَّل النص ما لا يحتمله، وإنما يدخل في النص الحلف بالطلاق.
2 - ما يُروى عن ابن عباس مرفوعًا: «من قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو غلامه حر إن شاء الله، أو عليه المشي إلى بيت الله إن شاء الله - فلا شيء عليه» (1).
وقد ورد نحوه عن معاذ مرفوعًا وفيه التفريق بين الطلاق - فلا يقع - والعتاق، وهو منكر كذلك.
3 - قال الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} (2). قال ابن حزم: ونحن نعلم أن الله تعالى لو أراد إمضاء هذا الطلاق ليسَّره لإخراجه بغير استثناء، فصحَّ أنه تعالى لم يُرد وقوعه إذا يسَّره لتعليقه بمشيئته عز وجل. اهـ.
4 - عن الثوري - في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله تعالى - قال: قال طاووس وحماد: «لا يقع عليها الطلاق» (3).
الثاني: يقع الطلاق (لا ينفعه الاستثناء): وهو مذهب مالك وأحمد والليث والأوزاعي وأبي عبيد واختيار شيخ الإسلام، ومستند هذا المذهب ما يلي:
1 - ما رُوي عن ابن عباس أنه قال: «إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق» (4).
2 - ما روي عن ابن عمر وأبي سعيد قالوا: «كنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى الاستثناء جائزًا في كل شيء إلا العتاق والطلاق» (5).
قال ابن قدامة: وهذا نقل للإجماع، وإن قدر أنه قول بعضهم، ولم يُعلم لهم مخالف، فهو إجماع. اهـ.
قلت: يعني: الإجماع السكوتي، وليس هو بحجة، على أن هذه الآثار عن
_________
(1) منكر: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (1/ 338 ط. الفكر)، وعنه البيهقي (7/ 361)، وانظر «الإرواء» (7/ 154).
(2) سورة التكوير: 29.
(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11326).
(4) قال الألباني في «الإرواء» (2071): لم أره عن ابن عباس من قوله، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري ... وإسناده صحيح.
(5) لم أجده مسندًا. وقد ذكره ابن قدامة في «المغني».

(3/309)


الصحابة لا يصح منها شيء، فالذي يترجح لديَّ أن الاستثناء يبطل الطلاق، ولا يقع الطلاق إذا استثنى فإن الطلاق - ذاته - قد صحَّ اعتباره يمينًا منعقدة، والأصل أن كل ما صلح أن يكون يمينًا - كالطلاق على ما تقدم - دخله الاستثناء وأثر فيه، وقد كان ينبغي أن يكون هذا قول شيخ الإسلام - في نظري - لولا هذه الآثار عن الصحابة، وقد رأيتَ أنها لا تثبت، على أنه - رحمه الله - قد نص في الفتاوى (33/ 239) على أن الرجل لو اعتقد أن استثناءه في الطلاق لا يوقعه، وكان مقصوده تخويفها بهذا الكلام - لا إيقاع الطلاق - لم يقع الطلاق. اهـ. والله أعلم.

التخييرُ في الطلاق
1 - تعريفه ومشروعيته:
التخيير في الطلاق: هو أن يخيِّر الرجل زوجته بين أن تبقى معه وبين فعل شيء معين، كأن يقول لها: (أنت مُخَيَّرة، إما أن تتركي العمل خارج البيت - مثلًا - أو تفارقيني) فلها أن تختار ما تشاء.
والأصل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (28) وإن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (1).
وتخيير النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه كما ستأتي الأحاديث بذلك، ومجرد التخيير لا يُعدُّ طلاقًا عند جماهير العلماء.
2 - إذا اختارت زوجها أو ردَّتْ الخيار، لم يقع عليها طلاق (2):
وعلى هذا جماهير أهل العلم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري وابن المنذر وغيرهم، وهو مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم -، ويدل على ذلك:
(أ) حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «خيَّرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله، فلم يَعدَّ ذلك علينا شيئًا» (3).
_________
(1) سورة الأحزاب: 28، 29.
(2) «ابن عابدين» (3/ 321)، و «جواهر الإكليل» (1/ 360)، و «المجموع» (15/ 409)، و «كشاف القناع» (5/ 257)، و «فتح الباري» (9/ 281).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5262)، ومسلم (1477).

(3/310)


(ب) وعن مسروق قال: سألت عائشة عن الخيرة، فقالت: «خيَّرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أفكان طلاقًا؟» قال مسروق لا أبالي أخيَّرتُها واحدة أو مائة بعد أن تختارني (1).
(جـ) ولأن التخيير: ترديد بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقًا لاتحدا، فدلَّ على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق، واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة.
3 - إذا اختارت نفسها، هل تقع طلقة واحدة رجعية أو بائنًا أو ثلاثًا؟
مفهوم حديثي عائشة - رضي الله عنها - أن الرجل لو خيَّر امرأته فاختارت نفسها أن يكون طلاقًا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدل على الطلاق، ومن ثم اختلف أهل العلم فيما يقع - من الطلاق - باختيارها نفسها على ثلاثة أقوال (2).
الأول: تقع طلقة واحدة رجعية: وهو مذهب الشافعي وأحمد، وهو مروي عن عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وعبد الله بن عمرو وغيرهم.
الثاني: تقع طلقة بائنة: وهو مذهب أبي حنيفة وبه قال ابن شبرمة.
الثالث: تقع ثلاثًا في المدخول بها: وهو مذهب مالك.
(قلت): الأول أقربها، وإن كان الذي يظهر من الآية الكريمة: {... إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلًا} (3).
أن مجرد اختيارها نفسها لا يكون طلاقًا بل لابد من إنشاء الزوج الطلاق فإن قوله {فتعالين أمتعكن وأسرحكن}. أي: بعد الاختيار، ودلالة هذا المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم من حديثي عائشة.
ثم إن تخيير الرجل لزوجته - من غير إرادة الطلاق حقيقة - قد فشا بين المسلمين في هذه الأيام، وما أكثر ما تتبجَّح به الزوجات من تفضيلهن للشيء التافه!! على بقائهن مع أزواجهن عند أهون خلاف، فإيقاع هذا طلاقًا دون إنشاء الزوج له ودون إرادته إياه، مع عدم الدليل في المسألة من قرآن أو سنة مرفوعة، ينافي مقاصد الشريعة وأصولها، والعلم عند الله.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5263)، ومسلم (1477).
(2) «ابن عابدين» (3/ 322)، و «جواهر الإكليل» (1/ 359)، و «المجموع» (15/ 410)، و «الجمل» (4/ 338)، و «كشاف القناع» (5/ 255)، و «المغني» (7/ 409)، و «الفتح» (9/ 281).
(3) سورة الأحزاب: 28.

(3/311)


وإلى أن التخيير لا يكون طلاقًا سواء اختارت أو اختارت نفسها - إلا أن يُطلِّق الزوج - ذهب أبو محمد بن حزم (1)، وهو الأقرب إلى الدليل.
4 - التخيير، هل هو على الفور أو التراخي؟ (2):
ذهب جماهير أهل العلم، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي، وكثير من الصحابة والتابعين، إلى أن التخيير على الفور، فإن اختارت في وقتها، وإلا فلا خيار لها بعده.
قال الحافظ: ويمكن أن يقال: يُشترط الفور أو ما داما في المجلس عند الإطلاق، فأما إذا صرَّح الزوج بالفُسحة في تأخيره بسبب يقتضي ذلك فيتراخى، وهذا الذي وقع في قصة عائشة، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل خيار كذلك» اهـ.
قلت: يشير إلى قول عائشة - رضي الله عنها -: «لما أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: «إني لمخبرك خبرًا، فلا عليك أن لا تستأمري أبويك ...» فقالت: أفي هذا الأمر استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» (3).

التوكيل أو التفويض في الطلاق
الطلاق تصرُّف شرعي قولي، وهو حق ملَّكه الله تعالى للرجل وجعله بيده، لكن هل يملك الرجل الإنابة والتوكيل فيه كسائر التصرفات القولية الأخرى التي يملكها أم لا؟ لأهل العلم في هذا الباب اتجاهان:
الاتجاه الأول: الطلاق تدخله الإنابة: وعلى هذا جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، يقولون: هو يملك الطلاق، فيملك الإنابة فيه كسائر التصرفات القولية التي يملكها. كالبيع والإجارة ونحوها، فإذا قال الزوج لآخر: وكلتك بطلاق زوجتي فلانة، فطلَّقها عنه، جاز، وكذلك لو قال لزوجته نفسها: وكلتك بطلاق نفسك (4)، فطلقت نفسها جاز أيضًا، ولا تكون في هذا أقل من الأجنبي.
_________
(1) «المحلي» لابن حزم (10/ 116 - وما بعدها) وفيه بحث نفيس.
(2) «الهداية» (3/ 414)، و «جواهر الإكليل» (1/ 358)، و «حاشية الجمل» (4/ 339)، و «المغني» (7/ 407)، و «طرح التثريب» (7/ 106).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4786)، ومسلم (1475).
(4) وهو المعروف في هذه الأيام بجعل «العصمة بيدها»!!.

(3/312)


وعند هؤلاء تقسيمات وتفريعات:
1 - فعند الحنفية: إذن الزوج لغيره في تطليق زوجته ثلاثة أنواع: تفويض، وتوكيل، ورسالة. وللتفويض عندهم ثلاثة ألفاظ: تخيير، وأمر بيد، ومشيئة، وعندهم بين التفويض والتوكيل فروق.
2 - وعند المالكية: النيابة على أربعة أنواع: توكيل وتخيير وتمليك ورسالة، وفيها عندهم فروق.
3 - وعند الشافعية والحنابلة: يجوز أن ينيب زوجته ويسمى «تفويضًا» وله أن يُنيب غيرها ويسمى «توكيلًا» ولكل منهما أحكام وشروط، يراجعها من شاء في كتب الفروع.
والذي قد يُحتاج إليه من المسائل على هذا الاتجاه ما يلي:
[1] إذا ملَّكها أمر الطلاق، فهل تملكه مطلقًا؟! أم يتقيد بالمجلس الذي وكلَّها فيه؟ لأصحاب الاتجاه الأول في هذه المسألة رأيان (1):
الأول: تملك أمر الطلاق مطلقًا، ولا يتقيَّد بحدٍّ معين حتى يفسخه بنفسه: وهو مذهب أحمد وهو مروي عن علي - رضي الله عنه -، وبه قال الحكم وأبو ثور وابن المنذر.
وحجتهم:
1 - تخيير النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه، وإمهاله عائشة حتى تستأمر أبويها.
2 - قول عليٍّ - رضي الله عنه - في رجل جعل أمر امرأته بيدها -: «هو لها حتى تنكل» (2).
قال ابن قدامة: «ولا نعرف له من الصحابة مخالفًا، فيكون إجماعًا!!» اهـ.
3 - ولأنه نوع توكيل في الطلاق فكان على التراخي كما لو جعله لأجنبي.
الثاني: يتقيَّد تفويضها بالمجلس، ولا طلاق لها بعده: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وحجتهم: أن التفويض تخيير لها، فكان مقصورًا على المجلس، كقوله: اختاري.
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 315)، و «جوهر الإكليل» (1/ 357)، و «الجمل» (4/ 340)، و «المغني» (7/ 403).
(2) نسبه إليه ابن قدامة، والذي عند البيهقي (7/ 348) بسند ضعيف عن علي: «إذا ملك الرجل امرأته مرة واحدة، فإذا قضيت فليس له من أمرها شيء، وإن لم تقض فهي واحدة وأمرها إليه» وهو عكس ما حكاه ابن قدامة!!

(3/313)


قلت: يتأتَّى على القول الأول ما يعرف بجعل الرجل «العصمة بيد زوجته» فتطلق نفسها متى شاءت!!
وقد صدر من بعض المحاكم الشرعية المصرية (1) حكم بني على أن التفويض إذا كان في حين عقد الزواج وبصيغة مطلقة لا يتقيَّد بالمجلس فتطلَّق نفسها متى شاءت، وإلا خلا التفويض من الفائدة، وأُيِّد هذا الحكم استئنافيًا.
[2] الرجوع في التفويض (2):
إذا أراد الزوج - بعد تفويض زوجته بالتطليق وقبل تطليقها - أن يفسخ هذا التفويض، فإن له ذلك ويبطل التفويض بفسخه، عند الشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق، لأنه توكيل، فكان له حق الرجوع فيه كالتوكيل في البيع، وكما لو خاطب بذلك أجنبيًّا.
وعند أبي حنيفة ومالك: ليس له الرجوع، ولعل مرادهما: ليس له الرجوع في المجلس، فإن التفويض مقيَّد عندهما بالمجلس، وليس من حقها التطليق بعده كما تقدم.
[3] عدد التطليقات الذي تملكه الزوجة المفوَّضة:
إذا فوَّض الرجل لزوجته تطليق نفسها، فلو طلَّقت نفسها ثلاثًا - على القول بوقوعه - فهل يقع ثلاثًا؟
ذهب أحمد وظاهر مذهب مالك في المدخول بها، أنها تقع ثلاثًا، لأنها مفوَّضة في العدد فلها إيقاع ما فوض إليها، ولو قال: أردتُ واحدة، لم يُقبل منه؛ لأنه لما قال لها (طلقي نفسك) اقتضى العموم في جميع أمرها، وبه يقول ابن عمر كما سيأتي.
وقال أبو حنيفة والشافعي ورواية ثانية عن أحمد: تقع تطليقة واحدة، وهو قول مالك في غير المدخول بها، لكن الشافعي وأحمد في هذه الرواية قد قيداه بما إذا نوي الرجل غير الثلاث فردًّا الحكم إلى نيته؛ لأنه الذي فوضها فيرجع إلى نيتَّه (3).
_________
(1) «أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية» ص (152).
(2) المراجع الفقهية السابقة.
(3) المراجع السابقة.

(3/314)


الاتجاه الثاني: الطلاق لا تدخله الإنابة: وهذا قول طاووس وأبي محمد بن حزم - رحمهما الله - ويُحتمل أن يكون مذهب ابن عباس - رضي الله عنه -، وحجة هذا القول: أن الله تعالى إنما جعل الطلاق إلى الرجال:
1 - قال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (1).
2 - وقال سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (2).
3 - وقال سبحانه: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} (3).
والآيات في هذا كثيرة جدًّا.
4 - وكقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} (4).
ومن تمام القوامة أن يكون الطلاق بيد الرجل (5).
5 - وقال سبحانه: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلًا} (6). قال ابن حزم: «فإنما نصَّ الله تعالى أنه - عليه الصلاة والسلام - إن أردن الدنيا ولم يردن الآخرة طلقهن حينئدٍ من قبل نفسه مختارًا للطلاق لا أنهن طوالق بنفس اختيارهن الدنيا، ومن ادَّعى غير هذا فقد حرَّف (!!) كلام الله عز وجل، وأقحم في حكم الآية كذبًا (!!) محضًا ليس فيها منه نصٌّ ولا دليل» اهـ (7).
6 - وعن مجاهد: أن رجلًا جاء إلى ابن عباس فقال: لمَّا ملَّكت امرأتي أمرها طلَّقتني ثلاثًا، فقال: «خطأ الله نوترها، إنما الطلاق لك عليها، وليس لها عليك» (8).
7 - عن ابن جريج قال: أخبرني ابن طاووس عن أبيه وقلت له: فكيف كان
_________
(1) سورة الطلاق: 1.
(2) سورة البقرة: 230.
(3) سورة البقرة: 232.
(4) سورة النساء: 34.
(5) «جامع أحكام النساء» (4/ 74).
(6) سورة الأحزاب: 28.
(7) «المحلي» (10/ 123) وكلامه متَّجه إلا أن في عبارته من الشدَّة ما لا يخفى.
(8) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11918).

(3/315)


أبوك يقول في رجل ملَّك امرأته أمرها، أتملك أن تطلق نفسها؟ قال: لا، كان يقول: «ليس إلى النساء طلاق» (1).
الراجح من الاتجاهين:
ليس في المسألة نص قاطع من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة المرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو ذهب ذاهب إلى أن الطلاق لا يكون إلا بيد الرجل ولو فوّض - غيره لم يكن قد أبعد كثيرًا، وإن كان الذي يظهر لي الاتجاه الأول وهو أن الطلاق لا مانع من أن تدخله النيابة:
لأن الصحابة لم يُنكروا ذلك، حتى أن ما تقدم عن ابن عباس من قول: «إنما الطلاق لك عليها وليس لها عليك» فيحتمل أن يكون إنما أنكر كونها طلقته، وأما تطلق نفسها منه فلا مانع منه كما يظهر في الأثر الآتي:
عن علقمة عن ابن مسعود قال: جاء إليه رجل فقال: كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس، فقالت: لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع، فقال: إن الذي بيدي من أمري بيدك، قالت: فأنت طالق ثلاثًا، فقال [أي: ابن مسعود]: «أراها واحدة وأنت أحق بالرجعة وسألقي أمير المؤمنين عمر» فلقيه فقصَّ عليه القصة قال: فقال: «فعل الله بالرجال، وفعل الله بالرجال، يعمدون إلى ما في أيديهم فيجعلونه في أيدي النساء بفيها التراب، ماذا قلتَ؟» قال: «قلتُ: أراها واحدة وهو أحق بها» قال: [أي: عمر]: «وأنا أرى ذلك، ولو رأيتَ غير ذلك لرأيتُ أنك لم تُصب».
قال منصور (2): فقلت لإبراهيم: فإن ابن عباس يقول: خطأ الله نوترها، لو كانت قالت: طلَّقت نفسي؟ فقال إبراهيم: هما سواء (3).
وعن ابن عمر قال: «إذا جعل الرجل أمر امرأته بيدها فطلقت نفسها واحدة فهي واحدة، أو اثنتين فثنتين، أو ثلاث فثلاث، إلا أن يناكرها ويقول: لم أجعل الأمر إليك إلا في واحدة فيحلف على ذلك، وإن ردَّت الأمر فليس بشيء» وكان يقول: «القضاء ما قضت» (4).
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11913).
(2) وهو الراوي عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود.
(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 520)، وسعيد بن منصور (1640)، والبيهقي (7/ 347).
(4) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1620)، ومالك (2/ 553)، وعبد الرزاق (11909).

(3/316)


قلت:
وقد تقرر جواز التوكيل فلا فرق بين الطلاق وغيره، فلا يخرج عن ذلك إلا ما خصه دليل، والآيات الكريمة لا تصلح دليلًا على المنع منه، ولا يتعارض هذا مع ما جنحتُ إليه آنفًا من أن التخيير لا يعدُّ طلاقًا ولا يقع به - إذا اختارت نفسها - دون إنشاء الزوج، فبين المسألتين فرق والله أعلم.

العِدَّة
تعريف العِدَّة:
العدة لغةً: مأخوذة من العد والحساب، والعدُّ هو الإحصاء، وسميت بذلك لاشتمالها على العدد من الأقراء أو الأشهر غالبًا.
والعدَّة اصطلاحًا: هي المدة التي حدَّدها الشارع بعد الفُرقة، ويجب على المرأة الانتظار فيها بدون زواج حتى تنقضي (1).
حكمة مشروعيته:
شُرعت العدَّة لمعان وحكم اعتبرها الشارع، منها (2):
1 - العلم ببراءة الرحم، وأن لا يجتمع ماءُ الواطئين فأكثر في رحم واحد فتختلط الأنساب وتفسد.
2 - تعظيم خطر الزواج ورفع قدره وإظهار شرفه.
3 - تطويل زمان الرجعة للمطلق لعلَّه يندم ويفئ فيصادف زمنًا يتمكن فيه من الرجعة.
4 - قضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزيُّن والتجمل، ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد.
5 - الاحتياط لحق الزوج ومصلحة الزوجة، وحق الولد، والقيام بحق الله الذي أوجبه، ففي العدة أربعة حقوق.
حُكم العدة التكليفي:
العدة واجبة على المرأة عند وجود سببها، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:
_________
(1) «الفقه الإسلام وأدلته» (7/ 625).
(2) «إعلام الموقعين» (2/ 85).

(3/317)


(أ) فأما الكتاب فمنه: قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (1).
وقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ... وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (2).
وقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (3).
(ب) وأما السنة فمنها: حديث أم عطية - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحدُّ امرأة على ميت فوق ثلاث إلا زوج أربعة أشهر وعشرًا» (4).
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم مكتوم، وأحاديث أخرى تأتي.
(جـ) وقد أجمعت الأمة على مشروعية العدة ووجوبها [في الجملة] من عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا دون نكير من أحد (5) وإنما اختلفوا في أنواع منها.
هل على الرجل عِدَّة؟ (6)
لا تجل العدة على الرجل، فإنه يجوز له بعد فراق زوجته أن يتزوج غيرها دون انتظار مضي مدة عدَّتها، إلا إذا كان هناك مانع يمنعه من ذلك، كما لو أراد الزواج بأختها أو خالتها أو عمتها أو غير ممن لا يحل له الجمع بينهما، أو طلق رابعة ويريد الزواج بأخرى، فيجب عليه الانتظار في عدة الطلاق الرجعي بالاتفاق، ولا يجب في عدة الطلاق البائن عند الجمهور خلافًا للحنفية.
وهذا الانتظار من الرجل لا يُطْلَق عليه «عدة» لا لغةً ولا اصطلاحًا، وإن كان يحمل معنى العدة.
أنواع العدَّة:
العدة - من جهة إحصائها وحسابها - على ثلاثة أنواع: عدة بالأقراء، وعدة بالأشهر، وعدة بوضع الحمل.
_________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) سورة الطلاق: 4.
(3) سورة البقرة: 234.
(4) صحيح: يأتي تخريجه قريبًا.
(5) «المغني» (7/ 448) ط. الرياض الحديثة.
(6) «البدائع» (3/ 193)، و «الدسوقي» (2/ 469)، و «مغني المحتاج» (3/ 384)، و «المغني» (7/ 448).

(3/318)


والعدة من جهة حال المعتدَّة على أنواع نذكرها فيما يلي:
[أ] من تعتدَّ بالقُروء:
القُرْءُ لغةً: لفظ مشترك، يطلق على الطُّهر والحيض.
والقُرْء اصطلاحًا: اختلف أهل العلم في معناه - بسبب كونه لفظًا مشتركًا بين معنيين - على قولين (1):
الأول: أن القُرء هو الطُّهر (الفترة بين الحيضتين): وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو منقول عن عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر من الصحابة - رضي الله عنهم -، واستدلوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (2).
قالوا: واللام هي لام الوقت والمعنى: في زمان عدتهن أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالطلاق في الطهر - لا في الحيض لحرمته بالإجماع - فعلم أن القُرءْ: الطهر الذي يسمى عدة وتُطلَّق فيه النساء.
2 - حديث ابن عمر في تطليقه امرأته وهي حائض، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ، تلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يُطلَّق لها النساء» (3).
قالوا: فعلم أن العدَّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر بعد الحيضة، ولو كان القُرء هو الحيض كان قد طلقها قبل العدة لا في العدة، وكان ذلك تطويلًا وهو غير جائز، كما لو طلقها في الحيض.
3 - حديث عائشة أنها قالت: «القروء: الأطهار» (4) قال الشافعي في «الأم» (5/ 209): والنساء بهذا أعلم لأنه فيهن لا في الرجال. اهـ.
_________
(1) المراجع السابقة ومعها: «فتح القدير» (4/ 308)، و «كشاف القناع» (5/ 417)، و «أعلام الموقعين» (1/ 25)، و «زاد المعاد» (5/ 600 - 650) وفيه بحث مستفيض.
(2) سورة الطلاق: 1.
(3) صحيح: تقدم مرارًا.
(4) إسناده صحيح: أخرجه مالك، وعنه الشافعي (2/ 110 - شفاء العي)، والبيهقي (7/ 415).

(3/319)


4 - ولأن القرء مشتق من الجمع، فيقال: قرأت كذا في كذا إذا جمعته فيه، وإذا كان الأمر كذلك: كان بالطهر أحق من الحيض؛ لأن الطهر اجتماع الدم في الرحم والحيض خروجه منه، وما وافق الاشتقاق كان اعتباره أولى من مخالفته.
القول الثاني: أن القُرء هو الحيضة:
وهو قول أكابر الصحابة، منهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود ومعاذ وغيرهم، وطائفة من التابعين وأئمة الحديث، وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق وأحمد في الرواية الأخرى وهي التي استقر عليها مذهبه، وحجتهم:
1 - أن قوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (1). فيه الأمر بالاعتداد بثلاثة قروء، ولو حمل القُرء على الطهر لكان الاعتداد بطهرين وبعض الثالث، لأن بقية الطهر الذي صادفه الطلاق محسوب من الأقراء - عند أصحاب القول الأول - والثلاثة اسم لعدد مخصوص فلا يقع على ما دونه، فيكون ترك العمل بالكتاب.
أما لو حمل على الحيض، فيكون الاعتداد بثلاث حيضات كوامل لأن ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة، فكان الحمل على الحيض أولى لموافقة ظاهر القرآن.
2 - أن لفظ القرء لم يستعمل في لسان الشرع إلا للحيض، ولم يجيء في موضع واحد منه استعماله للطهر فحمله في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى بل متعين:
- فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال للمستحاضة: «تدع الصلاة أيام أقرائها» (2).
وقال لفاطمة بنت جيش: «انظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مرَّ قرؤك فتطهري ثم صلي بين القرء إلى القرء» (3) قالوا: فالقرء هنا الحيض بلا شك.
3 - قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} (4). فجعل كل شهر بإزاء حيضة، وعلق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر من الحيض.
_________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (297)، والترمذي (126)، وابن ماجة (625)، والدارقطني (1/ 208)، وله طرق قد يحسَّن بمجموعها والله أعلم.
(3) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأصله في البخاري بدون لفظ القُرء.
(4) سورة الطلاق: 4.

(3/320)


4 - حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «طلاق الأَمَةِ اثنتان، وعدَّتها حيضتان» (1).
ومعلوم أنه لا تفاوت بين الحرة والأمة فيما يقع به الانقضاء، فدل على أن أصل ما تنقضي به العدة هو الحيض.
5 - أن عدة المختلعة حيضة - كما تقدم تحريره - وكذلك الأمة فإنها تُستبرأ بحيضة، كما تقدم - في «الطهارة» في حديث أبي سعيد في سبايا أوطاس - من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» (2).
6 - ولأن المقصود الأصلي من العدة التعرف على براءة الرحم - وإن كان لها فوائد أخرى - والعلم ببراءة الرحم يصل بالحيض لا بالطهر، فكان الاعتداد بالحيض لا بالطهر.
7 - ولأن الأدلة والعلامات والحدود والغليات إنما تحصل بالأمور الظاهرة المتميزة عن غيرها، والطهر هو الأمر الأصلي، فمتى كان مستمرًّا لم يكن له حكم يُفرد به في الشريعة، وإنما الأمر المتميز هو الحيض، وهو الذي تتغير به أحكام المرأة.
هذا طرف من أدلة كل فريق، ولكل فريق أجوبة ومناقشات على الآخر (3)، تركت ذكرها خشية الإطالة، لكن يهمني هنا أمران:
1 - ثمرة هذا الخلاف: أن المرأة لو طُلِّقت طاهرًا وبقي من طهرها شيء ولو لحظة:
فعلى القول بأن القرء هو الطهر: يحسب ما بقي من الطهر قرءًا، وتنقضي عدتها - في هذه الحالة - برؤية الدم من الحيضة الثالثة.
وعلى القول بأن القرء هو الحيضة: لا عبرة بما بقي من الطهر، وتنقضي عدتها بانقضاء دم الحيضة الثالثة، وهل يشترط الغسل بعد ذلك لانقضاء العدة؟ فيه خلاف.
_________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2189)، والترمذي (1182)، وابن ماجة (2080)، والدارقطني (3/ 39) ولا يصح مرفوعًا، وقد صحَّ موقوفًا عن عمر، وابن عمر.
(2) حسن لغيره: تقدم في أبواب «الحيض».
(3) وقد أطال ابن القيم في «الزاد» (5/ 600) وما بعدها النفس في ذكر هذا المناقشات فليراجعها من شاء.

(3/321)


2 - الراجح من القولين:
الذي يبدو لي من دراسة أدلة الفريقين ومناقشاتهما أن الأرجح أن القرء هو الحيض، وإن كان القول الأول ليس ببعيد، إلا أن هذا أقرب والله أعلم.
وإليك الحالات التي تعتد فيها المرأة بالقروء:
(1) المطلقة (1) بعد الدخول، وهي ممن يحيضن:
المرأة الحرة التي تحيض وتطهر (من ذوات القروء) إذا طُلِّقت - بعد الدخول بها - عدَّتُها ثلاثة قروء (ثلاث حيضات على ما تقدم ترجيحه) لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (2).
فتنقضي عدَّتُها - على القول الراجح - إذا طهرت من الحيضة الثالثة بعد الطلاق، وهل يتوقف انقضاء العدة على اغتسالها منها؟ أم تنقضي العدة بمجرد انقطاع الدم؟ قولان للعلماء، أظهرهما اشتراط الاغتسال، لقوله تعالى - في الجماع بعد الحيض -: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (3).
أي: يغتسلن، وهذا هو المشهور عن أكابر الصحابة، وعليه: لزوجها أن يراجعها إذا انقطع الدم قبل أن تغتسل، قلت: لو قيَّد هذا المذهب بأن لزوجها مراجعتها - بعد انقطاع الدم - حتى يخرج وقت الصلاة التي طهرت في وقتها، كما هو مذهب أبي حنيفة والثوري ورواية عن أحمد - لكان سديدًا منعًا للتحايل، والله أعلم.
فائدتان:
الأولى:
زوجة المسلم الكتابية عدَّتها كعدة المسلمة: لعموم الأدلة الموجبة للعدة لا فرق بينهما؛ لأن العدة تجب بحق الله وحق الزوج، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} (4).
_________
(1) سواءً كانت رجعية أو بائنة أو مبتوتة، عند الأئمة الأربعة والظاهرية، لكن رأي شيخ الإسلام في «الفتاوى» (32/ 342) أن المطلقة ثلاثًا تستبرئ بحيضة واحدة لا بثلاث (!!) ولا سلف له في هذا، فليحرر.
(2) سورة البقرة: 228.
(3) سورة البقرة: 222.
(4) سورة الأحزاب: 49.

(3/322)


فجعلها حق الزوج، والكتابية أو الذميَّة مخاطبة بحقوق العباد، فتجب عليها العدة، وتجبر عليها لأجل حق الزوج والولد؛ لأنها من أهل إيفاء حقوق العباد.
وعلى هذا اتفاق الأئمة الأربعة والثوري وأبي عبيد (1).
الثانية:
المطلَّقة قبل الدخول لا عدة عليها: لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} (2). وعلى هذا إجماع العلماء، فيجوز للمرأة، إذا طلقت قبل الدخول أن تتزوَّج إن شاءت - فور طلاقها.
لكن إذا مات زوج المرأة - ولم يدخل بها - فإنها تعتد عدوة الوفاء كما سيأتي:
(2) المختلعة تعتد بحيضة: وقد مرَّ في «الخلع» أن المرأة المختلعة تعتدُّ بحيضة واحدة في أرجح قولي العلماء.
(3) الملاعنة:
عدة الملاعنة كعدة المطلقة، لأنها مفارقة في الحياة فأشبهت المطلقة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، خلافًا لابن عباس فالمروي عنه أن عدتها تسعة أشهر (3).
(4) الموطوءة بشبهة: وهي التي زُفَّت إلى غير زوجها، والموجودة ليلًا على فراشه إذا ادَّعى الاشتباه، وهذه عدَّتها كعدة المطلقة عند جمهور الفقهاء، للتعرف على براءة الرحم لشغله ولحقوق النسب فيه، كالوطء في النكاح الصحيح، فكان مثله فيما تحصل البراءة منه؛ ولأن الشبهة تقام مقام الحقيقة في موضع الاحتياط وإيجاب العدة من باب الاحتياط. وإذا وُطئت المزوَّجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدَّتها (4).
لكن شيخ الإسلام اختار أن الموطوءة بشبهة ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة واحدة، لأنها ليست زوجة، والقرآن ليس فيه إيجاب العدة بثلاثة قروء إلا على
_________
(1) «البدائع» (3/ 191)، و «الدسوقي» (2/ 475)، و «مغني المحتاج» (3/ 188)، و «المغني» (7/ 448).
(2) سورة الأحزاب: 49.
(3) «المغني» (7/ 449).
(4) «البدائع» (3/ 192)، و «الدسوقي» (2/ 471)، و «مغني المحتاج» (3/ 396)، و «المغني» (7/ 450).

(3/323)


المطلقات، وليست الموطوءة بشبهة أعظم من المستبرأة التي يلحق ولدها سيدها ومن المختلعة، وهما تستبرآن بحيضة واحدة، فهذه أولى، وهذا وجه في مذهب أحمد (1)، قلت: وله وجه قوي.
(5) المزني بها:
المرأة التي وقعت في الزني، للعلماء فيها ثلاثة أقوال (2):
الأول: لا عدة عليها، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي، سواء كانت حاملًا أو غير حامل، وهو مروي عن أبي بكر وعمر وعليٍّ - رضي الله عنهم -؛ لأن العدة شُرعت لحفظ النسب، والزنى لا يتعلق به ثبوت النسب، فلا يوجب العدة.
الثاني: عدتها كعدة المطلقة (ثلاثة قروء): وهو المعتمد في مذهب المالكية والحنابلة وبه قال الحسن والنخعي، لأنه وطء يقتضي شغل الرحم فوجب منه العدة، ولأنها حرَّة فوجب استبراؤها بعدة كاملة كالموطوءة بشبهة (!!).
الثالث: أنها تُستبرأ بحيضة واحدة: وهو قول مالك ورواية عن أحمد نصرها شيخ الإسلام بنحو ما تقدم في الموطوءة بشبهة، قلت: وهو الأشبه بالصواب والله أعلم.
(6) المفارقة لزوجها بسبب إسلامها وبقائه على كُفره (3): وهذه تُستبرأُ بحيضة واحدة، لا بثلاثة قروء في أرجح قولي العلماء، وهو قول أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام: لحديث ابن عباس: «... وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح» (4).
وقال الجمهور: عدتها كعدة المطلقة الحرة (ثلاثة قروء) وأجابوا عن الحديث السابق بأن المراد: تحيض ثلاث حيض؛ لأنها صارت بإسلامها وهجرتها من الحرائر بخلاف ما لو سُبيتْ، قلت: ولفظ الحديث لا يساعد على هذا التأويل والله أعلم.
[ب] من تعتدُّ بوضع الحمل (المطلقة الحامل):
عدَّة المطلقة وهي حامل: بوضع الحمل، سواء كانت بائنة أو رجعية، مُفارقة
_________
(1) «الإنصاف» (9/ 295)، و «الفروع» (5/ 550)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 110).
(2) «البدائع» (3/ 192)، و «مغني المحتاج» (3/ 382)، و «المغني» (9/ 79 - مع الشرح)، و «الفتاوى» (32/ 111).
(3) «المبسوط» (5/ 57)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 336)، و «فتح الباري» (9/ 328 - سلفية).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5286).

(3/324)


في الحياة أو متوفى عنها زوجها - على الأصح - لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (1).
ولأن القصد من العدة براءة الرحم، وهي تحصل بوضع الحمل.
واختلف الفقهاء في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وسيأتي تحريره.
متى يجوز للمعتدة بوضع الحمل الزواج: بالوضع أم بالطهر من النفاس؟ (2).
الذي عليه جمهور العلماء وأئمة الفتوى أن المرأة لها أن تتزوَّج بعد وضع الحمل - ولو في النفاس - لأن العدة انقضت بالوضع، إلا أن زوجها - الثاني - لا يقربها حتى تطهر لقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (3).
ويدل على ما ذهب إليه الجمهور فتوى النبي - صلى الله عليه وسلم - لسبيعة الأسلمية لما مات زوجها وهي حامل، قالت: «فأفتاني إذا وضعتُ أن أنكح» (4).
[جـ] من تعتدُّ بالأشهر:
المرأة تعتد بالأشهر في الحالات الآتية:
(1) المطلقة التي لا تحيض: إما بسبب صغرها، أو لكبرها ويأسها من المحيض، فعدَّتها ثلاثة أشهر بنص القرآن: قال تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} (5) (6).
ولأنها لا تحيض فكانت الأشهر هنا بدلًا عن الأقراء، والأصل مقدَّر بثلاثة، فكذلك البدل.
فائدة: إذا اعتدَّت المرأة بالأشهُر ثم حاضت بعد فراغها، فقد انقضت العدة، ولا تلزمها العدة بالأقراء.
_________
(1) سورة الطلاق: 4.
(2) «المغني» (9/ 110 - مع الشرح الكبير)، و «الموسوعة الفقهية» (29/ 321).
(3) سورة البقرة: 222.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5319).
(5) سورة الطلاق: 4.
(6) قوله تعالى: {إن ارتبتم}، قيل معناه: إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه، فهو ثلاثة أشهر، وقيل معناه: إن ارتبتم في دم يخرج هل هو دم حيض أو استحاضة فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك.

(3/325)


ولو حاضت أثناء الأشهر، فيأتي الكلام عليها في «تحوُّل العدة» إن شاء الله.
(2) المطلقة المرتابة (ممتدة الطُّهر) (1):
إذا كانت المرأة ممن تحيض (ذوات الأقراء) ثم ارتفع حيضها بسبب غير معروف (بدون حمل ولا يأس) فإنها تسمى (المرتابة) فإذا فارقها زوجها، فإنها تتربَّص (تنتظر) تسعة أشهر - وهي مدة الحمل غالبًا لتتبين براءة الرحم - ثم تعتد بثلاثة أشهر، فتكمل سنة تنقضي بها عدَّتها وتحل للأزواج.
وهذا مذهب المالكية والحنابلة، والقول القديم للشافعي، وبه قال عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -، واحتج القائلون بذلك بقول عمر - رضي الله عنه - في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو
حيضتين فارتفع حيضها لا يُدرى ما رفعه - قال: «تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل فتعتد بثلاثة أشهر، فذلك سنة» (2) ولا يُعرف له مخالف ولم يكره عليه أحد. وأما الحنفية والشافعية - في الجديد - فقالوا: تصبر أبدًا حتى تحيض فتعتد بالأقراء أو تيأس فتعتد بالأشهر لأن الله تعالى لم يجعل الاعتداد بالأشهر إلا للتي لم تحض والآيسة، وليست هذه واحدة منهما (!!!).
قلت: والأول أرجح، لكن هل يقال لو تأكدت من خلوها من الحمل عن طريق الكشف بالأجهزة الحديثة تتربص ثلاثة أشهر؟!
(3) المطلَّقة المستحاضة المتحيِّرة (3):
إذا كانت المطلفة المعتدة من ذوات الحيض، واستمر نزول الدم عليها بدون انقطاع (استحاضة) فلا يخلو حالها من أحد أمرين:
(أ) أن تستطيع التمييز بين الحيض والاستحاضة: برائحة أو لون أو كثرة أو عادة، فهذه تسمى «غير متحيِّرة» فتعتد بالأقراء لأنها ترد إلى أيام عادتها المعروفة لها، ولأن الدم المميز بعد طهر تام يعدُّ حيضًا، فتعتد بالأقراء لا بالأشهر.
(ب) أن لا تستطيع التمييز: وهذه تسمى «متحيِّرة»، وقد اخْتُلف في عدتها: فذهب الجمهور من الحنفية والشافعية وهو قول عند الحنابلة: إلى أن عدة
_________
(1) «البدائع» (3/ 195)، و «الدسوقي» (2/ 470)، و «مغني المحتاج» (3/ 387)، و «المغني» (7/ 466) ط. الرياض.
(2) إسناده صحيح: أخرجه مالك، وعنه الشافعي (2/ 107 - شفاء العي).
(3) «فتح القدير» (4/ 312)، و «الدسوقي» (2/ 470)، و «مغني المحتاج» (3/ 385)، و «المغني» (7/ 468).

(3/326)


المستحاضة ثلاثة أشهر، بناء على أن الغالب نزول الحيض مرة في كل شهر، أو لاشتمال كل شهر على طهر وحيض غالبًا، ولأنها في هذه الحالة مرتابة فتدخل في قوله تعالى: {إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} (1).
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحمنة بنت جحش: «تلجمي وتحيَّضي في كل شهر في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام» (2) فجعل لها حيضة في كل شهر تترك معها الصلاة والصيام، فيجب أن تنقضي به العدة، لأن ذلك من أحكام الحيض.
وذهب المالكية والحنابلة في قول وإسحاق إلى أن عدة المستحاضة المتحيرة سنة كاملة، لأنها بمنزلة من رُفعت حيضتها ولا تدري ما رفعها، ولأنها لم تتيقن لها حيضًا - مع أنها من ذوات القروء - فكانت عدتها سنة كالتي ارتفع حيضها!!
قلت: والأول أرجح والله أعلم.
(4) المرأة المتوفَّى عنها زوجها:
المرأة إذا توفى عنها زوجها - بعد زواج صحيح - سوا كانت الوفاة قبل الدخول أو بعده، وسواء كانت ممن تحيض أم لا - بشرط أن لا تكون حاملًا - فإنها يجب عليها أن تعتد أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام بلياليهن من تاريخ وفاته، لعموم قوله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ} (3).
ولحديث حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا» (4).
وتستثنى الحامل، فإنها لو مات زوجها فعدتها أن تضع حملها - كما لو لم يَمُتْ - لعموم قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (5).
ولحديث المسور بن مخرمة: «أن سُبيعة الأسلمية نفُستْ بعد وفاة زوجها بليال فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها، فنكحت» وفي لفظ من حديث
_________
(1) سورة الطلاق: 4.
(2) حسّنه الألباني. وانظر «الإرواء» (188) والأظهر ضعفه والله أعلم.
(3) سورة البقرة: 234.
(4) صحيح: يأتي في «الإحداد».
(5) سورة الطلاق: 4.

(3/327)


ابن أرقم: «قالت: فأفتاني - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وضعتُ أن أنكح» (1) وعن عمر - رضي الله عنه - قال: «لو وضعت وزوجها على السرير لم يُدفن بعدُ لحلَّت» (2).
وبهذا قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار، خالف في ذلك عليٌّ - رضي الله عنه - فقال: «تعتد آخر الأجلين» (3) ومعناه: أنها إن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها ولا تحل بمجرد الوضع، وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع، وبه قال ابن عباس ويقال إنه رجع عنه، وقوَّاه الحافظ.
قال ابن عبد البر: لولا حديث سبيعة لكان القول ما قال عليٌّ وابن عباس لأنهما عدتان مجتمعتان بصفتين، وقد اجتمعا في الحامل المتوفى عنها زوجها، فلا تخرج من عدَّتها إلا بيقين، واليقين آخر الأجلين. اهـ. قلت: فالقول قول الجماهير، والله أعلم.
فائدة:
عدَّة المتوفى عنها زوجها ليست للعلم ببراءة الرحم، فإنها تجب قبل الدخول بخلاف عدة الطلاق، و «أما عدة الوفاة فهي حرم لانقضاء النكاح، ورعاية لحق الزوج، ولهذا تَحُدُّ المتوفى عنها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج، فجعلت العدة حريمًا لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن، فيحصل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني، ولا يتصل الناكحان، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عظم حقُّه، حرم نساؤه بعده؟ وبهذا اختص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن أزواجه في الدنيا هنَّ أزواجه في الآخرة بخلاف غيره، فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغير زوجها، تضررت المتوفى عنها، وربما كان الثاني خيرًا لها من الأول ... فلا أقل من مدة تتربَّصها، وكانت في الجاهلية تتربَّص سنة، فخففها الله سبحانه بأربعة أشهر وعشر» (4) اهـ.
تحوُّل العدة (5): العدة قد تنتقل من حالة إلى أخرى كما يلي:
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5318 - 5319) ومالك.
(2) ") صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1522)، والبيهقي (7/ 430).
(3) صحيح: أخرجه الطبري (28/ 143).
(4) نقله ابن القيم في (5/ 665 - 666) عن ابن تيمية، رحمهما الله.
(5) «البدائع» (3/ 200)، و «الدسوقي» (2/ 473)، و «القوانين» (299)، و «مغني المحتاج» (3/ 386)، و «روضة الطالبين» (8/ 370 - 372)، و «المغني» (9/ 102) مع الشرح الكبير و» الموسوعة الفقهية» (29/ 322).

(3/328)


(1) تحول العدة من الأشهر إلى الأقراء:
اتفق الفقهاء على أن الصغيرة أو البالغة التي لم تحض إذا اعتدت بالأشهر، ثم حاضت قبل انقضاء عدتها - ولو بساعة - لزمها استئناف العدة (ابتداؤها من جديد) وحسابها بالأقراء، لأن الأشهر بدل عن الأقراء فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل كالتيمم مع الماء.
أما إذا انقضت العدة بالأشهر ثم حاضت بعدها - ولو بلحظة - لم يلزمها استئناف العدة.
وأما الآيسة إذا اعتدت ببعض الأشهر ثم رأت الدم، فللعلماء فيها قولان:
الأول: تتحول عدتها إلى الأقراء، لأنها لما رأت الدم دلَّ على أنها لم تكن آيسة، وأنها أخطأت في الظن، فلا يعتد بالأشهر في حقها لأنها بدل فلا يعتبر مع وجود الأصل، وهو مذهب الشافعية ورواية عند الحنفية.
الثاني: يرجع إلى القرائن، لأنه دم مشكوك فيه، فإن ظهر أنه حيض، فتتحول إلى الأقراء وإلا فلا، وهو مذهب المالكية والحنابلة وهو رواية عند الحنفية.
(2) تحول العدة من الأقراء إلى الأشهر:
تنتقل العدة من الأقراء إلى الأشهر - عند الجمهور - في حق من حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست من الحيض، فتستقبل العدة بالأشهر، لقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} (1). والعدة لا تُلَّفق من جنسين، وقد تعذر إتمامها بالحيض فوجب استئنافها (من جديد) بالأشهر.
وإياس المرأة أن تبلغ من السن ما لا يحيض فيه مثلها عادة، فإذا بلغت هذه السن مع انقطاع الدم كان الظاهر أنها آيسة من الحيض حتى يتضح خلافه.
(3) تحول المعتدة من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة:
إذا طلق الرجل امرأته طلاقًا رجعيًّا، ثم توفي وهي في العدة، سقطت عنها عدة الطلاق، واستأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا من وقت الوفاة؛ لأن المطلقة الرجعية زوجة ما دامت في العدة، فدخلت في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (2). وقد نقل ابن المنذر الإجماع على هذا.
_________
(1) سورة الطلاق: 4.
(2) سورة البقرة: 234.

(3/329)


أما إذا طلقها طلاقًا بائنًا - في حال صحته أو بناء على طلبها - ثم توفي عنها، فإنها تكمل عدة الطلاق، ولا تنتقل إلى عدة الوفاة، لانقطاع الزوجية بينهما من وقت الطلاق بالإبانة، فلا توارث بينهما لعدم وجود سببه، فتعذَّر إيجاب عدة الوفاء وبقيت عدة الطلاق على حالها.
ولو طلقها طلاقًا بائنًا في مرض موته، ففيه خلاف مبناه على ما تقدم من الخلاف في بقاء النكاح حكمًا في حق الإرث لتهمة الفرار - وقد تقدم - فمن قال ترثه لشبهة قيام الزوجية، قال: تعتد بأبعد الأجلين احتياطًا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد والثوري.
ومن قال: الإرث الذي ثبت معاملة بنقيض القصد لا يقتضي بقاء الزوجية، وأنها حينئذٍ بائن من النكاح، قال: ليس عليها عدة وفاة، وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، قلت: وهذا أقرب، والله أعلم.
(4) تحول العدة من القروء أو الأشهر إلى وضع الحمل:
إذا ظهر أثناء العدة بالقروء أو الأشهر، أو بعدها، أن المرأة حامل من الزوج، فإن العدة تتحول إلى وضع الحمل، ويسقط حكم ما مضى من القروء والأشهر، ولا يكون ما رأته من الدم حيضًا، ولأن وضع الحمل أقوى دلالة على براءة الرحم من آثار الزوجية التي انقضت، ولقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (1). وبهذا قال جمهور الفقهاء.
مكان العِدَّة (أين تعتدُّ المرأة؟» (2):
[1] بالنسبة للمعتدة من طلاق أو فسخ:
ذهب جمهور العلماء إلى أن المعتدَّة من طلاق أو فسخ تعتد في مسكن الزوجية الذي كانت تسكنه قبل مفارقة زوجها، وهذا وجب عليها بطريق التعبد، فلا يسقط بالتراضي أو غيره، إلا بعذر شرعي، وكذلك لا يجوز لزوجها أن يخرجها عنه حتى تنقضي العدة لقوله تعالى: {واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (3).
_________
(1) سورة الطلاق: 4.
(2) «البدائع» (3/ 200)، و «فتح القدير» (4/ 344 - الحلبي)، و «الدسوقي» (2/ 484)، و «التاج والإكليل» (1/ 391)، و «مغني المحتاج» (3/ 401)، و «روضة الطالبين» (8/ 410)، و «المغني» (9/ 170)، و «نيل الأوطار» (7).
(3) سورة الطلاق: 1.

(3/330)


وهذا الحكم في غير المبتونة، فإنها تعتد حيث شاءت - على الأرجح - لما سيأتي من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتوم، وقد كانت طُلِّقت البتة (1).
وهل للمعتدَّة الخروج من بيتها؟ اختلف العلماء في هذا بعد اتفاقهم على أنه يجب عليها ملازمة المسكن في العدة، وأنها لا تخرج منه إلا لحاجة أو عذر:
1 - ففي المطلقة الرجعية: فالأحناف والشافعية: لا يجوز لها الخروج من مسكن العدة لا ليلًا ولا نهارًا للآية الكريمة، ولأن الرجعية زوجته فعليه القيام بكفايتها، فلا تخرج إلا بإذنه.
وقال المالكية والحنابلة: يجوز لها الخروج نهارًا لقضاء حوائجها، وتلزم منزلها بالليل لأنه مظنة الفساد واستدلوا بحديث جابر قال: طُلقت خالتي ثلاثًا، فخرجت تجدُّ نخلًا لها، فلقيها رجل فنهاها، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت ذلك له، فقال: «اخرجي فجدِّين خلك، فلعلك أن تصدقي
منه أو تفعلي خيرًا» (2) قلت: في الاستدلال به نظر ظاهر، فالحديث صريح في أنها مبتوتة، والكلام هنا على الرجعية (!!) والأظهر القول الأول لعموم الآية وعدم المخصص.
وأما المطلقة البائن: فذهب الجمهور، ومعهم الثوري والأوزاعي والليث - خلافًا للحنفية - (3) إلى أنه يجوز لها الخروج نهارًا لقضاء حوائجها ولتتكسَّب سواء كانت بائنًا بينونة صغرى أو كبرى لحديث جابر المتقدم، وهو نص في المسألة فيتعيَّن القول به والله أعلم.
[2] بالنسبة للمعتدة من وفاة الزوج:
ذهب جمهور العلماء إلى أن المعتدة من وفاة زوجها يجب عليها أن تعتدَّ في بيت الزوجية كذلك حتى أنها لو كانت حين وفاته عند أهلها - أو نحوه - فعليها أن تعود لتعتد في بيت زوجها الذي كانت تسكنه قبل وفاته، وحجتهم:
1 - حديث فريعة بنت مالك بن سنان - أخت أبي سعيد الخدري - «أنها جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة وأن زوجها خرج في
_________
(1) صحيح: يأتي في «النفقة والسكنى للمعتدة».
(2) صحيح: أخرجه مسلم.
(3) «البدائع» (3/ 205)، و «الدسوقي» (2/ 486)، و «مغني المحتاج» (3/ 403)، و «المغني» (9/ 170 - وما بعدها).

(3/331)


طلب أعبد به أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه قالت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم» فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له قال فكيف قالت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به» (1) وإسناده ضعيف.
2 - ما روي عن مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد عن نسائهم وكُنَّ متجاورات في داره فجئن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقُلن: إنا نستوحش يا رسول الله بالليل فنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا تبددنا بيوتنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تحدَّثن عند إحداكن ما بدا لكُنَّ حتى إذا أردتن النوم فلتأت كل امرأة إلى بيتها» (2).
3 - أنه صحَّ هذا القول عن ابن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما (3).
بينما ذهب آخرون إلى أن المعتدة من الوفاة تعتد حيث شاءت، وهو قول جماعة من الصحابة، ويستدل لهذا القول بما يلي:
1 - ما رُوي عن عليٍّ: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المتوفَّى عنها زوجها أن تعتد حيث شاءت» (4). لكنه ضعيف.
2 - أن قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (5). ناسخ للآية التي جعلت العدة للمتوفى عنها زوجها حولًا كاملًا وهي قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج} (6). والفسخ إنما وقع على ما زاد على أربعة أشهر وعشر، فبقي ما
_________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2300)، والترمذي (1204)، والنسائي (6/ 199)، وابن ماجة (2031) والرواية عن فريعة مجهولة.
(2) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (12077) وفه عنعنة ابن جريج وإرسال مجاهد.
(3) أسانيدها صحيحة: أخرج أثر ابن عمر: عبد الرزاق (7/ 31)، والبيهقي (7/ 436)، وأثر ابن مسعود: أخرجه عبد الرزاق (12068)، وسعيد بن منصور (1342)، والبيهقي (7/ 436)، وانظر «جامع أحكام النساء» (2/ 55).
(4) ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 315) وفيه أبو مالك النخغي: ضعيف، ومحبوب بن محرز كذلك.
(5) سورة البقرة: 234.
(6) سورة البقرة: 240.

(3/332)


سوى ذلك من الأحكام، ثم جاء الميراث فنسخ السكني، وتعلق حقها بالتركة، فتعتد حيث شاءت، وهذا قول ابن عباس وعطاء (1).
3 - قول ابن عباس: «إنما قال الله تعتد أربعة أشهر وعشرًا ولم يقل تعتد في بيتها، تعتدُّ حيث شاءت» (2).
4 - عن عروة قال: «كانت عائشة تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدَّتها» (3).
5 - وعن جابر قال: «تعتد المتوفى عنها حيث شاءت» (4).
6 - وعن الشعبي قال: «كان عليٌّ يرُحِّلهنَّ، يقول: ينقلهنَّ» (5).
7 - أنه قد قتل من الصحابة - رضي الله عنهم - على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير، واعتدَّ أزواجهم بعدهم، فلو كان كل امرأة منهن تلازم منزلها زمن العدة، لكان ذلك من أظهر الأشياء، ولما خفي على من هو دون ابن عباس وعائشة وجابر وعليًّ، فكيف خفي عليهم.
قلت: ليس في المسألة حديث صحيح مرفوع، وقد صحَّ عن الصحابة كلا القولي، فالمسألة اجتهادية، فالظاهر أنه لا مانع من اعتدادها حيث شاءت لكن الأورع اعتدادها في بيت زوجها إلا لعذر، ولذا قال الزهري - رحمه الله -: «أخذ المترخِّصون بقول عائشة، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر» (6) والله أعلم بالصواب.
إحداد المعتدَّة:
الإحداد لغةَ: المنع، وفي الاصطلاح: امتناع المرأة من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة في أحوال مخصوصة.
حكم الإحداد:
[1] المتوفى عنها زوجها: يجب عليها الإحداد في عدة الوفاة ولم لم يدخل
_________
(1) انظر «سنن أبي داود» (2301)، والنسائي (6/ 200)، و «صحيح البخاري» (5344).
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12052)، والبيهقي (7/ 435).
(3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12052)، والبيهقي (7/ 435).
(4) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12059).
(5) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12056)، والبيهقي (7/ 436).
(6) «مصنف عبد الرزاق» (12080).

(3/333)


بها، عند جماهير العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج: أربعة أشهر وعشرًا» (1).
والزوجة الصغيرة تحد على زوجها: عند جمهور العلماء خلافًا للحنفية وعلى وليِّها أن يمنعها من فعل ما ينافي الإحداد، لأن الإحداد تبع للعدة، ولحديث أم سلمة: أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله، إن ابنتي تُوفِّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال: «لا» مرتين أو ثلاثًا ... الحديث (2) ولم يسألها عن سنِّها، وترك الاستفصال في مقام السؤال دليل على العموم.
وهل تحدُّ الزوجة الكتابية؟ ذهب الجمهور - خلافًا للحنفية ورواية عن مالك - إلى أن الكتابية إذا مات زوجها المسلم وجب عليها أن تحدَّ عليه، لعموم الأدلة السابقة في الزوجات ولأن الإحداد تبع للعدة.
وأما إحداد المرأة على قريبها - غير الزوج -: فلا يجب، بل هو جائز لمدة ثلاثة أيام فقط، ولا يجوز الزيادة عليها، لحديث زينب بنت أبي سلمة قالت: لما أتي أمَّ حبيبة نَعيُ أبي سفيان (3) دعت في اليوم الثالث بصفرة، فمسحت بها ذراعيها وعارضيها، وقالت: كنتُ عن هذا غنية، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها تحدُّ عليه أربعة أشهر وعشرًا» (4).
وعلى هذا فللزوج أن يمنعها من الإحداد على القريب إن شاء، فلو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه باتفاق العلماء.
[2] المعتدة الرجعية: المطلقة الرجعية لا إحداد عليها - في عدَّتها - بالإجماع، بل يطلب منها أن تتعرض لمطلقها وتتزيَّن له، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، على أن للشافعي رأيًا أنها تحد إذا لم ترجُ الرَّجعة (!!).
[3] المعتدة من طلاق بائن: للعلماء في إحدادها في العدة قولان:
الأول: عليها الإحداد، وهو مذهب الحنفية - والشافعي في القديم - وإحدى
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5334 - ومواضع)، ومسلم (1486 - ومواضع).
(2) صحيح.
(3) وهو أبوها.
(4) صحيح.

(3/334)


الروايتين في مذهب أحمد، وعللوا ذلك بأن إحدادها لفوات نعمة النكاح، فهي تُشبه من وجه من توفى عنها زوجها (!!).
الثاني: لا إحداد عليها، وهو مذهب مالك والشافعي في الجديد - إلا أنه استحبُّه - وأحمد في الرواية الأخرى وهو المذهب وبه قال جماعة من السلف وأبو ثور وابن المنذر، قالوا: لأن الزوج هو الذي فارقها نابذًا لها، فلا يستحق أن تحد عليه (!!).
قلت: والثاني أرجح لأن الشرع علَّق الإحداد على الوفاة، وليس في لسان الشرع - فيما أعلم - تعليق إحداد طلاق، والله أعلم.
النفقة والسكنى للمعتدة:
[1] بالنسبة للمعتدة من طلاق رجعي: المعتدة من طلاق رجعي تعتبر زوجة، لأن ملك النكاح قائم، ولذا اتفق أهل العلم على وجوب ما يلزم معيشتها من نفقة وسكنى وكسوة، سواء كانت حاملًا أو
حائلًا (غير حامل) لبقاء آثار الزوجية مدة العدة، ولقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} (1).
ولحديث فاطمة بنت قيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» (2).
[2] بالنسبة للمعتدة من طلاق بائن: فلها حالتان:
(أ) أن تكون حاملًا: فتجب لها النفقة والسكنى حتى تضع حملها بلا خلاف بين أهل العلم، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} (3).
ولما في بعض طرق حديث فاطمة بنت قيس: وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة نفقة، فقالا لها: والله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملًا، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له قولها، فقال: «لا نفقة لك» ... الحديث (4).
(ب) أن لا تكون حاملًا: لأهل العلم في حكم النفقة والسكنى للمطلَّقة طلاقًا بائنًا - غير الحامل - في عدتها ثلاثة أقوال:
_________
(1) سورة الطلاق: 6.
(2) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 144) بسند صحيح.
(3) سورة الطلاق: 6.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1480).

(3/335)


الأول: لها النفقة والسكنى: وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وهو قول عمر بن الخطاب وابن مسعود، ومأخذ هذا القول أن قوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم ...} (1). عام في جميع المطلقات لأنها ذُكرت بعد قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} (2). وهذه انتظمت الرجعية والبائن.
الثاني: لها السكنى دون النفقة: وهو مذهب مالك والشافعي والرواية الثانية عن أحمد، ومأخذه أن الله تعالى أطلق السكنى لكل مطلقة من غير تقييد في قوله {أسكنوهن من حيث سكنتم} (3). فكانت حقًّا لهن، لأنه لو أراد غير ذلك لقيَّد كما فعل في النفقة إذا قيَّدها بالحمل.
الثالث: ليس لها سكنى ولا نفقة: وهو قول أحمد - في رواية - وإسحاق وأبي ثور وداود وأصحابه وسائر أهل الحديث، وبه قال ابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس - وكانت تناظر عليه - وطائفة من السلف، قلت: وهو الأرجح لما يأتي:
1 - حديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلَّقها البتة، فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السكنى والنفقة، قالت: «فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن اعتدَّ في بيت أم مكتوم» (4).
وقد طمن عمر - رضي الله عنه - في هذا الحديث: فعن أبي إسحاق قال: «كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفًّا من حصى، فحصبه به، فقال: ويلك، تحدث بمثل هذا؟ قال عمر: «لا نترك كتاب الله وسنَّة (5) نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت؟ لها السكنى والنفقة» قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (6) (7).
_________
(1) سورة الطلاق: 6.
(2) سورة الطلاق: 1.
(3) سورة الطلاق: 6.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1480).
(5) ") قوله (وسنة نبينا) قال الدارقطني هذه زيادة غير محفوظة، قلت: وهذا لا شك فيه لأن هذه السنة لو كانت عند عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تكلمت فاطمة ولا دعت للمناظرة ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين.
(6) سورة الطلاق: 1.
(7) صحيح: أخرجه مسلم (1480/ 46).

(3/336)


وأنكرت عائشة قول فاطمة هذا: وأخبرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أرخص لها في ترك السكنى لكونها كانت في مكان وَحْش فخيف على حياتها (1).
والجواب عن هذه المطاعن أن يقال (2):
1 - أن كون الراوي امرأة ليس بمطعن بلا شك، والعلماء قاطبة على خلافه من الاحتجاج برواية النساء كالرجال، وهي قد حفظتْ الحكم لاسيما والقصة وقعت معها، حتى أنها ناظرت من خالفها على كتاب الله كما سيأتي.
- ثم إن الطعن في روايتها بأنها مخالفة للقرآن يجاب عنه بأنه على فرض أن روايتها مخالفة للقرآن فهي مخالفة لعمومه، فتكون تخصيصًا للعام، فحكمها حكم تخصيص قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء
ذلكم} (3). بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو أختها أو خالتها، فإن القرآن لم يخصَّ البائن بأنها لا تخرج ولا تُخرج، وبأنها تسكن من حيث يسكن زوجها بل إما أن يعمها ويعمَّ الرجعية - فيكون مخصصًا برواية فاطمة - وإما أن يكون مختصًّا بالرجعية، وهو الصواب للسياق لمن تدبَّره:
فإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (4). فذكر سبحانه لهؤلاء المطلقات أحكامًا متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض متعلقة بمن لهم عند بلوغ الأجل (العدة) الإمساك والتسريح وقال: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا}. والمراد به الرجعة، كما قالت فاطمة بنت قيس نفسها عندما أنكر عليها مروان حديثها: «بيني وبينكم القرآن: قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}. إلى قوله: {لا تدري لعل الله
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري.
(2) «زاد المعاد» (5/ 526 - 542) بتصرف واختصار.
(3) سورة النساء: 24.
(4) سورة الطلاق: 1 - 3.

(3/337)


يحدث بعد ذلك أمرًا} (1). قالت: هذا لمن كان له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ ...» الحديث (2).
ثم أمر بالإشهاد أي على الرجعة، فكانت هذه الأحكام المذكورة متعلقة بالمطلقة الرجعية وحدها، فلما ذكر بعد ذلك الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات بقوله {اسكنوهن ...} (3). كان المراد الرجعيات كذلك لتتَّحد الضمائر، ويؤيد هذا الفهم ما يأتي من الأدلة.
2 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية لحديث فاطمة -: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» (4) قلت: وهو صريح في محل النزاع فيتعين المصير إليه، ثم فيه الرد على تعليل عائشة - رضي الله عنها - لإخراج فاطمة من بيتها، لأنه صرَّح بأن العلة في استحقاق النفقة والسكنى هي إمكان الرجعة.
3 - أنَّ مقتضى النظر: فإن النفقة إنما تكون للزوجة، فإذا بانت منه صارت أجنبية، حكمها حكم سائر الأجنبيات، ولم يبق إلا مجرد اعتدادها منه، وذلك لا يوجب لها نفقة.
4 - ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكن من الاستمتاع، وهذا لا يمكن استمتاعه بها بعد البينونة.
5 - ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجل العدة، لوجبت للمتوفى عنها من ماله، ولا فرق، فإن كل واحدة منهما قد بانت عنه وهي معتدَّة منه، قد تعذَّر منهما الاستمتاع، والله أعلم.
[3] بالنسبة للمعتدة من وفاة زوجها:
ذهب الحنفية والحنابلة - وهو قول عند الشافعية - إلى أن المتوفى عنها زوجها لا نفقة ولا سكنى لها من ماله في العدة، وليس لها إلا مقدار ميراثها إن كانت وارثة: لأن المال صار - بموته - للغرماء أو الورثة أو الوصية، ويؤيده قول ابن عباس بأن آية الميراث نسخت قوله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا وصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إلَى الحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} (5). وقد تقدم.
_________
(1) سورة الطلاق: 1.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1480/ 41).
(3) سورة الطلاق: 6.
(4) تقدم قريبًا.
(5) سورة البقرة: 240.

(3/338)


وقد ذهب الشافعية - في الأظهر - والمالكية إلى أن لها السكنى بشرطين: أن يكون دخل بها، وأن يكون المسكن ملكه، وحجتهم حديث فريعة المتقدم، وهو ضعيف.
قلت: والأول أظهر.
فإن كانت المتوفى عنها زوجها حاملًا فقال الأكثرون: لا نفقة لها من ماله، لأن نفقته على زوجته وأولاده الأحياء تسقط عنه بموته فكذلك الحامل من أزواجه.
فالحاصل أن المتوفى عنها، ليس لها حق في نفقة أو سكن إلا مقدار ميراثها سواء كانت حاملًا أو حائلًا والله أعلم.
متعة المطلَّقات:
المتعة: مال يدفعه الزوج لمطلَّقته، وقد يكون هذا المال ثيابًا أو كسوة أو نفقة أو خادمًا أو غير ذلك مما يستمتع به، ويختلف مقدارها بحسب حال الزوج يسرًا وعسرًا، قال الله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} (1).
وقال سبحانه: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقا على المحسنين} (2).
وقد اختلف أهل العلم في حكم المتعة على ثلاثة أقوال (3):
الأول: تجب المتعة لكل مطلَّقة: وهو مروي عن عليِّ بن أبي طالب والحسن وسعيد بن جبير وجماعة من السلف وأبي ثور والظاهرية وهو رواية عن أحمد ونصرها شيخ الإسلام، لعموم الآيات الآمرة بها.
الثاني: تستحب المتعة لكل مطلقة ولا تجب: وهو مذهب مالك والليث بن سعيد وشريح، لتقييد المتعة بأنها حق على المتقين والمحسنين وتقييدها بالمعروف.
الثالث: تجب المتعة للمفوضة - وهي المطلقة قبل الدخول بها التي لم يفرض لها مهر - دون من فُرض لها المهر: وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه والشافعي والأوزاعي وأحمد في رواية الجماعة عنه، وهو قول ابن عمر وابن عباس وطائفة
_________
(1) سورة البقرة: 241.
(2) سورة البقرة: 236.
(3) «ابن عابدين» (3/ 111)، و «المغني» (10/ 139 - الكتاب العربي)، و «الحاوي» (13/ 101)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 27)، و «المحلي» (10/ 245).

(3/339)


من السلف، واحتجوا بقول ابن عمر: «لكل مطلقة متعة إلا التي طلقها ولم يدخل بها وقد فرض لها فلها نصف الصداق، ولا متعة لها» (1).
والتحقيق ... أن يقال:
عموم الآيات السابقة تدل على أن المتعة واجبة لكل مطلقة، سواء كانت مدخولًا بها أو لا، وسواء كان مهرها مفروضًا أو غير مفروض، لكن ينبغي التنبُّه إلى أن ما تستحقه المطلقة قبل الدخول من المتعة ليس أمرًا زائدًا على نصف المهر المنصوص عليه، فمتعتها هي نصف المهر لا غيره.
فإن الله تعالى أوجب للمطلقات قبل الدخول متعة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ ...} (2). وهذه المتعة أعم من أن تكون مقدَّرة أو غير مقدَّرة، وقد فصَّلَت هذا العموم آيات البقرة، فجعلت لمن سُمِّي لها
مهر نصف المهر إذا طلقت قبل الدخول، أما التي لم يُسمَّ لها مهر فلها متعة غير مقدَّرة، قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ... عقدة النكاح} (3) (4).
قلت: وهذا قول الجمهور، وهو عين ما قاله ابن عمر - رضي الله عنه -، والله أعلم.

الخُلْع
تعريف الخلع:
الخُلعُ لغةً: هو النزع والتجريد، يقال: خلع الثوب والرداء يخلعه خلعًا: جرَّده، والخُلع - بالضم -: اسم من الخلع، والمرأة لباس الرجل مجازًا.
والخُلع اصطلاحًا تعددت عبارات الفقهاء في تعريفه، وخلاصة هذه التعريفات أنه: «وقوع الفُرقة بين الزوجين بتراضيهما، وبعوض تدفعه الزوجة لزوجها» (5).
مشروعيته:
والأصل في مشروعيته الخلع:
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 126).
(2) سورة الأحزاب: 49.
(3) سورة البقرة: 236، 237.
(4) أفاده الدكتور عمر الأشقر - حفظه الله - في «أحكام الزواج» (ص 272 - 273).
(5) «المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم» د. عبد الكريم زيدان (8/ 114).

(3/340)


1 - قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} (1).
2 - حديث ابن عباس قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ما أنفقتم على ثابت في دين ولا خُلق، إلا أني أخاف الكفر (2)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فتردِّين عليه حديقته؟» قالت: نعم، فردَّت عليه وأمره ففارقها» (3).
3 - وقد أجمع العلماء لا خلاف بينهم - إلا بكر بن عبد الله المزني - في مشروعية الخلع (4).
حكمة مشروعيته (5):
قال الله تعالى: {ولا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ...} (6).
فتشريع الخُلع هو للتوقِّي من تعدِّي حدود الله التي حدَّها للزوجين من حسن المعاشرة، وقيام كل منهما بما عليه من حقوق الآخر، مع ملاحظة المماثلة في الحقوق وقيام الزوجة بما تستدعيه وتستلزمه قوامة الرجل على المرأة، وما يلزمها من قيام بأمور البيت وتربية الأولاد وعدم المُضارَّة.
وتشريع الخلع هو في المقام الأول لإزالة الضرر عن الزوجة بسبب بقاء النكاح بينها وبينه، لبغضها له، أو لعدم قيامه بحقوقها.
ثم هو في المقام الثاني لمصلحة الزوج ودفع الضرر عنه، وإنما جُعلت مصلحة الزوج في المقام الثاني، لأنه يستطيع التخلص من ضرر بقاء رابطة الزوجية بإرادته المنفردة - بالطلاق - دون توقف على رضا وموافقة الزوجة.
الحكم التكليفي للخُلع:
الخُلع على ثلاثة أَضْرُب:
_________
(1) سورة البقرة: 229.
(2) يحتمل أنها تريد بالكفر كفران العشير إذ هو تقصير المرأة في حق زوجها.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5276)، وأبو داود (2229)، وابن ماجة (2056).
(4) «المغني» (7/ 52)، و «الفتح» (9/ 315).
(5) «تفسير المنار» (2/ 388)، و «المفصَّل» (8/ 125).
(6) سورة البقرة: 229.

(3/341)


[1] مُباح: وهو أن تكره المرأة البقاء مع زوجها لبغضها إياه، وتخاف ألا تؤدي حقَّه، ولا تقيم حدود الله في طاعته، فلها أن تفتدي نفسها منه، لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح علهما فيما افتدت به} (1).
ولحديث ابن عباس - المتقدم قريبًا - قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم، فردَّت عليه، وأمره ففارقها» (2).
ولأن حاجتها داعية إلى فرقته، ولا تصل إلى الفرقة إلا ببذل العِوَض فأبيح لها ذلك.
ويستثنى من ذلك ما لو كان الزوج له ميل إليها ومحبة فحينئذٍ يستحب صبرها وعدم افتدائها (3).
[2] مُحَرَّم: وله حالتان، إحداهما من جانب الزوجة والأخرى من جانب الزوج:
(أ) فأما من جانب الزوجة: فكما إذا خالعته من غير سبب مع استقامة الحال بينهما لظاهر قوله تعالى: {ولا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (4).
ولحديث ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» (5).
وفي الباب عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المختلعات هُنَّ المنافقات» (6). وهو ضعيف.
_________
(1) سورة البقرة: 229.
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) «ابن عابدين» (3/ 441)، و «المجموع» (16/ 3)، و «المغني» (7/ 51 - 54)، و «المحلي» (10/ 235).
(4) سورة البقرة: 229.
(5) إسناده ظاهر الصحة. أخرجه أبو داود (2226)، وابن ماجة (2055)، وأحمد (5/ 283) وفي سنده اختلاف قد يعلُّ به الحديث، وانظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (4/ 172).
(6) ضعيف: أخرجه النسائي (6/ 168) وغيره، والحسن لم يسمع أبا هريرة كما قال أهل الشأن، وللحديث طرق ضعيفة، صححه بها العلامة الألباني فأودعه في «صحيح الجامع» (1934).

(3/342)


(ب) وأما من جانب الزوج: فكما إذا عضل الرجل زوجته بأذاه لها ومنعها حقها ظلمًا لتفتدي نفسها منه، لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما اتيتموهن} (1).
فإن فارقها - في هذه الحالة - بعوض لم يستحقَّه؛ لأنه عوض أكرهت على بذله بغير حق فلم يستحقه.
لكن إن زنت فعضلها لتفتدي نفسها منه جاز وصحَّ الخلع لقوله تعالى: {لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} (2). والاستثناء من النهي إباحة.
وإن ضربها لغير قصد أخذ شيء منها فخالعته لذلك صحَّ الخُلع، لأنه لم يعضلها ليأخذ مما آتاها شيئًا (3).
[3] مُستحَبٌّ: ويكون طلب الزوجة للخلع من زوجها مستحبًّا إذا كان مفرِّطًا في حقوق الله تعالى - عند الحنابلة (4) - قلت: وربما يكون واجبًا في بعض الحالات كأن يكون الزوج مُصرًّا على ترك
الصلاة (5) بالرغم من تذكيرها له بلزوم ما فرض الله عليه، وكأن يكون مدمنًا لتعاطي المخدرات ونحوها أو مرتكبًا للكبائر، أو كان يأمرها بالمحرمات ونحوها.
«وهكذا الحكم فيما لو كان الزوج متلبِّسًا باعتقاد أو فعل يخرجه من الإسلام ويجعله مرتدًا، ولا تستطيع المرأة إثبات ذلك أمام القضاء ليحكم بالتفريق، أو تستطيع إثبات ذلك ولكن القاضي لا يحكم بردَّته ولا يحكم بوجوب التفريق، فعليها في هذه الحالة أن تطلب من هذا الزوج أن يخالعها ولو على مال تدفعه له، لأنه لا ينبغي للمسلمة أن تكون زوجة لمثل هذا الرجل المتلبِّس بما يكفر به اعتقادًا أو فعلًا» اهـ (6).
_________
(1) سورة النساء: 19.
(2) سورة النساء: 19.
(3) «ابن عابدين» (3/ 445)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 593)، و «الأم» (5/ 178)، و «الجمل» (4/ 292)، و «المغني» (7/ 54 - 56)، و» الإنصاف» (8/ 383).
(4) «غاية المنتهى» (3/ 112).
(5) فإنه قد حصل الخلاف في كفر تاركها عمدًا على ما تقدم في «الصلاة».
(6) «المفصَّل في أحكام المرأة» (8/ 122).

(3/343)


حقيقة الخُلع (التكييف الفقهي للخُلع):
اتفق جمهور العلماء على أن الخلع إذا كان بلفظ الطلاق أو نيَّته فإنه يقع طلاقًا.
وإنما الخلاف بينهم في وقوعه بغير لفظ الطلاق ولم ينو به صريح الطلاق أو كنايته، وكان المراد الفداء لأجل المخالعة، على قولين:
الأول: الخُلع طلقة بائنة:
وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - ورواية عن أحمد وابن حزم - إلا أنه قال: طلقة رجعية - وبه قال عطاء والنخعي والشعبي والزهري والأوزاعي والثوري، وهو مروي عن عثمان وعليٍّ وابن مسعود - رضي الله عنهم (1) - ولا يثبت عن أحد من الصحابة ذلك - وحجة هذا القول ما يلي:
1 - ما ورد في بعض طرق حديث ابن عباس - في قصة امرأة ثابت بن قيس - وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لثابت: «اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة» (2) وأجيب: بأن الحديث بهذا اللفظ مرسل كما أشار البخاري، والطرق الصحيحة الموصولة ليس فيها ذكر التطليق!!
2 - ما ورد في بعض طرق الحديث السابق عن ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخلع تطليقة بائنة» (3).
وأجيب: بأنه ضعيف، فلا يحتج به.
3 - ما روُي أن أم بكرة الأسلمية كانت تحت عبد الله بن أُسيد واختلعت منه، فندما، فارتفعا إلى عثمان بن عفان، فأجاز ذلك، وقال: «هي واحدة إلا أن تكون سمَّت شيئًا فهو على ما سمَّت» (4) وأجيب: بأن هذا لا يثبت عن عثمان، بل
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 444)، و «الكافي» (2/ 593)، و «الأم» (5/ 181)، و «روضة الطالبين» (7/ 375)، و «المغني» (7/ 56)، و «الإنصاف» (8/ 392)، و «المحلي» (10/ 238).
(2) أخرجه البخاري (5273)، والبيهقي (7/ 313) من طريق أزهر بن جميل، وقد أشار البخاري إلى إرساله فقال عقبه: «لا يتابع فيه عن ابن عباس» قلت: اللفظ الثابت هو الذي تقدم قريبًا.
(3) ضعيف: أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 316) وفي سنده عباد بن كثير: ضعيف.
(4) ضعيف: أخرجه الشافعي (165 - شفاء العي)، والبيهقي (3/ 231) وضعفه أحمد كما في «التلخيص» (3/ 231).

(3/344)


الثابت عنه أنه لا يرى عليها العدة وأنها تستبرئ بحيضة - كما سيأتي - فلو كان عنده طلاقًا لأوجب فيه العدة!!
4 - ما رُوي عن ابن مسعود أنه قال: «لا تكون تطليقة بائنة إلا في فدية أو إيلاء» (1).
وأجيب: بأنه ضعيف، ولو صحَّ فإنه يدلُّ على أن الطلقة في الخلع تقع بائنة، لا أن الخلع يكون طلاقًا بائنًا، وبين الأمرين فرق ظاهر.
5 - ما رُوي عن عليِّ بن أبي طالب أن الخلع طلاق، وأجيب: بأنه ضعيف كذلك، قال ابن حزم: روينا من طريق لا يصح عن عليٍّ - رضي الله عنه -. اهـ.
ولذا قال شيخ الإسلام (32/ 289): وما علمتُ أحدًا من أهل العلم صحح ما نُقل عن الصحابة من أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث. اهـ.
وقال ابن خزيمة - كما في «التخليص الحبير» (3/ 231) -: «إنه لا يثبت عن أحد أنه رأى الخلع طلاق» اهـ.
6 - أن الفرقة؟؟؟؟ ص 345 هي الطلاق دون الفسخ فوجب أن يكون طلاقًا، ولأنه أتى بكناية الطلاق قاصدًا قراءتها فكان طلاقًا كغير الخلع من كنايات الطلاق.
القول الثاني: الخُلع فسخ وليس بطلاق:
وهو القول القديم للشافعي والرواية المشهورة عن أحمد، وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود، وهو مذهب ابن عباس - رضي الله عنه - وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم (2)، واحتجوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف ... وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} (3).
قالوا: فذكر الله الطلاق مرتين ثم ذكر الخلع بقوله: {فلا جناح عليهما فيما
_________
(1) ضعيف.
(2) «المغني» (7/ 56)، و «الإنصاف» (8/ 392)، و «روضة الطالبين» (7/ 375)، و «المحلي» (10/ 238)، و «معالم السنن» (3/ 143)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 289 - وما بعدها)، و «زاد المعاد» (5/ 197)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 160 - وما بعدها).
(3) سورة البقرة: 229، 230.

(3/345)


افتدت به} ثم قال سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (1) فلو كان الخلع طلاقًا لكان عدد التطليقات أربعًا.
وهذا هو فهم ابن عباس للآية الكريمة: فقد سئل عن رجل طلَّق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال ابن عباس: «ذكر الله عز وجل الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع بين ذلك، فليس الخلع بطلاق، ينكحها» (2) وقد أجيب عن الآية: بأن الله تعالى ذكر التطليقة الثالثة بعوض وبغير عوض، وبهذا لا يصير الطلاق أربعًا.
2 - وعن عكرمة عن ابن عباس قال: «ما أجازه المال فليس بطلاق» (3).
3 - حديث الربيِّع بنت معوَّذ قالت: اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألته: ماذا عَلَيَّ من العدَّة؟ فقال: «لا عدة عليك إلا أن تكوني حديثة عهد به فتمكثي حتى تحيضي حيضة» قال: «وأنا متبع في ذلك قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مريم المغالية كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، فاختلعت منه» (4).
وقد رُوي عن ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّتها حيضة» (5) وفيه ضعف.
ووجه الدلالة منهما: أن الخلع لو كان طلاقًا لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - على الأمر بالاعتداد بحيضة، وهذا أقوى أدلة هذا القول.
الراجح: والذي يظهر أن كون الخُلع فسخًا لا طلاقًا هو الأقوى، والله أعلم.
ثمرة الخلاف السابق وأثره:
يتفرَّع على القول بأن الخُلع فسخٌ وليس بطلاق، ألا يُحسب من التطليقات الثلاث، فلو خالعها بعد تطليقتين فله أن يتزوَّجها، حتى وإن خالعها مائة مرة.
_________
(1) سورة البقرة: 229، 230.
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 487)، وسعيد بن منصور (1455)، والبيهقي (7/ 316).
(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11768).
(4) صحيح لطرقه: أخرجه النسائي (6/ 186)، وابن ماجة (2058) وله طرق وشواهد.
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (2229)، واختلف في وصله وإرساله، وفيه عمرو بن مسلم: ضعيف.

(3/346)


أركان الخلع وما يتعلق بها
الخُلع تصرفٌ شرعي من قبل الزوجين بصيغة معينة تترتب عليه الفرقة بينهما نظير مال تدفعه الزوجة إلى الزوج.
وبهذا يتبيَّن أن أركان الخُلع أربعة: الزوجان - ويسميان: المخالَع والمختلعة - وصيغة الخلع والعوض.
الركن الأول: المخالَع (الزوج):
اتفق الفقهاء على أنه يشترط في المخالع أن يكون ممن يملك التطليق، والقول الجامع في شروط المخالع أن يقال: (من جاز طلاقه جاز خُلعه).
ولهذا أجاز الجمهور - المالكية والشافعية والحنابلة - خُلع المحجور عليه لفلس أو سفه أو رقٍّ لأنهم يملكون الطلاق.
لكن لا يجوز تسليم المال إلى المحجور عليه، لأن الحجر أفاد منعه من التصرف (1).
خلع المريض مرض الموت (2):
إذا صح طلاق المريض مرض الموت بغير عوض، فلأن يصح بعوض أولى، لكنهم اختلفوا في حق المختلعة - في هذه الحالة - في الميراث من زوجها:
فذهب الجمهور -خلافًا للمالكية - إلى أنها لا ترث منه لوقوع البينونة بالفرقة، ولأن الفرقة وقعت بقبولها ورضاها، فكأنه طلَّقها بسؤالها وطلبها فانتفت التهمة.
لكن قال الحنابلة: لو أوصى لها - بعد مخالعتها - بمثل ميراثها أو أقل صحَّ، لأنه لا تهمة في أنه طلَّقها ليعطيها ذلك، فإنه لو لم يفارقها عن طريق المخالعة لأخذت ما أوصى لها به عن طريق الميراث، وإن أوصى لها بزيادة على ميراثها فللورثة منه الزائد عنها، لأنه اتهم في أنه قصد إيصال ذلك إليها.
قال الدكتور زيدان معقبًّا على قول الحنابلة هذا: «إذا كان هذا التوجيه مقبولًا، فإن الأولى قبولًا أن يقال: يُنظر إلى بدل الخلع الذي بذلته له وينقص مقدار هذا البدل من الموصى به لها، فالباقي إن كان أكثر من ميراثها منه لو لم تخالعه، هو
_________
(1) «جواهر الإكليل» (1/ 332)، و «الروضة الطالبين» (7/ 383)، و «المغني» (7/ 87).
(2) «المبسوط» (6/ 193)، و «الشرح الكبير» (2/ 352)، و «معني المحتاج» (3/ 265)، و «المغني» (7/ 89).

(3/347)


الذي يسترد منها، أما إذا كان الباقي أقل من ميراثها منه لو لم تخالعه، فلا سبيل إلى استرداد شيء منه للورثة، وهذا - كما يبدو لي - هو مقتضى العدل والتسوية بين المخالع والمختلعة» اهـ (1).
الركن الثاني: المختلعة (الزوجة):
يشترط في المختلعة شرطًا:
[1] أن تكون زوجة شرعًا: لأن الغرض من الخُلع هو خلاصها من قيد الزوجية، وهذا القيد إنما يكون في النكاح الصحيح حيث تكون زوجة شرعية، لكن: هل يشترط قيام الزوجية فعلًا؟ بمعنى:
هل تخالع المعتدَّة؟ (2)
(أ) المعتدة من طلاق رجعي: في حكم الزوجة حال قيام الزوجية - ما دامت في العدة - لأن الطلاق الرجعي لا يرفع الحل ولا الملك - كما تقدم - فتصح مخالعتها بعوض لفكاكها عن رباط الزوجية (3).
(ب) المعتدة من طلاق بائن: لا يصح خُلعها؛ لأنه لا يملك نكاحها حتى يزيله، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وحكي الماوردي فيه إجماع الصحابة.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن المخالفة تصح لكن لا يلزمها المال، لأن إعطاءه لتحصيل الخلاص المنجِّز، وهو حاصل (!!) (4).
قلت: والأوَّل أصحُّ لأنها في العدة من الطلاق البائن ليست زوجة، والله أعلم.
[2] أن تكون أهلًا للتبرُّع والتصرف في المال: بأن تكون بالغة عاقلة رشيدة.
فإذا كانت الزوجة صغيرة أو مجنونة: فلا يصحُّ منها الخلع، وسواء كانت الصغيرة مميزة أو غير مميزة، لأن الخلع كالتبرع، والصغيرة والمجنونة ليستا من أهل التبرع (5).
_________
(1) «المفصَّل في أحكام المرأة» (8/ 137).
(2) «السابق» (8/ 140 - 142) بتصرف.
(3) «المبسوط» (6/ 175)، و «مغني المحتاج» (3/ 265)، و «المغني» (7/ 279).
(4) «ابن عابدين» (3/ 307)، و «الشرح الصغير» (1/ 446)، و «مغني المحتاج» (3/ 265)، و «المغني» (7/ 59).
(5) «المبسوط» (6/ 178)، و «مغني المحتاج» (3/ 263)، و «المغني» (7/ 83).

(3/348)


وهل يُخالع الأب - أو الولي - عن الصغيرة؟ (1)
ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة - على المذهب - إلى أنه لا يجوز للأب خلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها، لأنه لا نظر له فيه، إذ البُضع غير مُتقوَّم، والبدل متقوَّم، بخلاف النكاح، لأن البضع متقوم عند الدخول، ولأنه بذلك يسقط حقها من المهر والنفقة والاستمتاع، وإذا لم يجز، لا يسقط المهر ولا يستحق مالها، وللزوج مراجعتها إن كان بعد الدخول.
ومذهب المالكية - وخرَّجه بعض متأخري الحنابلة عن أصول أحمد - وهو اختيار شيخ الإسلام: أن للأب أن يخالع عن ابنته الصغيرة بمالها إذا رأى المصلحة لها، كتخليصها ممن يتلف مالها، ويُخاف منه على نفسها وعقلها.
وخرَّجه بعضهم على أن للأب العفو عن نصف المهر في الطلاق قبل الدخول بناء على أنه الذي بيده عقدة النكاح - وقد تقدم تحريره - وردَّه في «المهذَّب» بقوله: «وهذا خطأ، لأنه إنما يملك الإبراء - على هذا القول - بعد الطلاق، وهذا الإبراء (أي: في الخلع) قبل الطلاق» اهـ.
فإن خالع الولي عنها بشيء من ماله جاز؛ لأنه يصح عندهم خُلع الأجنبي والتزامه ببدل الخلع فالأب أولى.
خُلع المريضة في مرض موتها (2):
اتفق الفقهاء - في الجملة - على أنه تصح مخالعة المرأة المريضة مرض الموت لزوجها في مرضها، لأنه معاوضة كالبيع، وإنما الخلاف بينهم - إلا الظاهرية - في القدر الذي يأخذه الزوج في مقابل ذلك، مخافة أن تكون الزوجة راغبة في محاباته على حساب الورثة.
1 - فعند الحنفية: يأخذ الأقل من ميراثه منها ثم يفارقها أو بدل الخُلع أو ثلث تركتها، هذا إن ماتت في العدة، فإن ماتت بعد العدة، أو قبل الدخول، أخذ زوجها الأقل من: بدل الخلع أو ثلث التركة.
_________
(1) «الهداية» (3/ 218 - مع فتح القدير)، و «الشرح الصغير» (1/ 442)، و «المجموع» (16/ 9)، و «المغني» (7/ 83)، و «الإنصاف» (8/ 388)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 26).
(2) «المبسوط» (6/ 192)، و «الشرح الصغير» (1/ 445)، و «مغني المحتاج» (3/ 264)، و «المجموع» (16/ 37)، و «المغني» (7/ 88)، و «كشاف القناع» (3/ 137)، و «المحلي» (10/ 218).

(3/349)


2 - وعند المالكية والحنابلة: يأخذ بدل الخلع إن كان بقدر ميراثه منها أو أقل.
3 - وعند الشافعية: أن الخلع إن كان بمهر المثل نفذ دون اعتبار الثلث، وإن كان بأكثر فالزيادة كالوصية للزوج، وتعتبر في الزيادة الثلث، أي أنه يستحق مهر المثل والزيادة في حدود ثلث التركة!!
4 - وأما الظاهرية: فلا فرق عندهم بين طلاق المريض أو المريضة وغيره ولا تأثير للمرض في صحة الطلاق - والخلع عند ابن حزم طلاق - وعليه يأخذ الزوج ما خالع عليه ولو زاد على ميراثه أو الثلث.
خُلع الفضولي (الأجنبي) عن الزوجة (1):
الفضولي هو الذي ليست له صفقة تُخوِّله إجراء المخالعة عنها، إذ ليس هو بوليٍّ لها ولا وكيل عنها في موضوع الخلع، فهل يصح خُلعه عن المرأة بغير إذنها وتوكيلها؟ قولان لأهل العلم:
الأول: يجوز ويصح مخالعته: كأن يقول الأجنبي للزوج: «طلِّق امرأتك بألفٍ عليَّ» وهذا قول أكثر أهل العلم: أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم، وحجتهم:
1 - أن الأجنبي بذل ماله في مقابل إسقاط حق عن غيره، كما لو قال: أعتق عبدك وعلىَّ ثمنه.
2 - أن الطلاق مما يستقل به الزوج، والأجنبي مستقل بالالتزام، وله بذل المال، والتزامه على وجه الفداء عن الزوجة، لأن الله تعالى قد سمى الخلع فداء، فجاز كفداء الأسير.
الثاني: لا تصح مخالعة الأجنبي: وهو مذهب ابن حزم وأبي ثور وحجتهم:
1 - أن مخالعة الأجنبي ببذله ماله سفه منه، لأنه يبذله في مقابلة ما لا منفعة له فيه، وقد يجاب عن ذلك: بأنه قد يكون له فيه غرض ديني بأن رآهما لا يقيمان حدود الله أو اجتمعا على محرَّم، فرأى أن التفريق بينهما ينقذهما من ذلك فيفعل طلبًا للثواب، وغير ذلك.
2 - أن الخلع من عقود المعاوضات فلا يجوز لزوم العوض لغير صاحب
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 458)، و «الشرح الكبير» (2/ 347)، و «مغني المحتاج» (3/ 276)، و «المغني» (7/ 85)، و «المحلي» (10/ 235، 244).

(3/350)


المعوض كالبيع، ولأن الله تعالى أضاف الفدية إلى الزوجة فقال سبحانه {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (1).
3 - أن الأصل بقاء النكاح إلى أن يثبت المزيل له، وحينئذ فلا يملك الزوج البدل، ولا يقع الطلاق إن لم يتبع به، فإن أتبع به كان رجعيًّا.
قلت: أما صحة مخالعة الفضولي مطلقًا وبدون إذن الزوجة وعلمها، فلا أراه متَّجهًا، لاحتمال أن يخالع عنها ببذله ماله ليغري زوجها على مفارقتها نكاية بها وإضرارًا، أو أن يخالع عنها لمصلحته كأن يريد بذلك تزويجها أو تزويج زوجها قريبة له، ونحو ذلك، لكن لو علم من حال الزوجة إرادتها للخُلع لمسوِّغ شرعي ولكن ليس عندها من المال ما تبذله، فأعطاها ما تبذله وتخالع هي فهذا أحسن.
وهذا القول يلزم القائلين بأن الخلع فسخ، إذ أن الفسخ بلا سبب لا ينفرد به الزوج، فلا يصح طلبه منه، والله أعلم.
الركن الثالث: العِوَض (المال):
العِوَض: ما يأخذه الزوج من زوجته في مقابل خلعه لها، وضابطه عند الجمهور: أن يصلح جعله صداقًا، فإن ما جاز أن يكون مهرًا: جاز أن يكون بدل الخلع.
هل يصح «خُلع» بدون عوَض؟ اختلف العلماء فيما إذا قالت المرأة لزوجها: (اخلعني) فقال لها: (قَد خلعتك) ولم يكن هذا على عوض، هل يصح عقد الخلع؟ على قولين (2):
الأول: يصح الخلع بلا عوض: وهو مذهب الحنفية والمالكية ورواية في مذهب أحمد، وحجتهم:
1 - أن الخلع قطع للنكاح فصحَّ من غير عوض كالطلاق.
2 - ولأن الأصل في مشروعية الخلع أن توجد من المرأة رغبة عن زوجها وحاجة إلى فراقه، فتسأله فراقها، فإذا أجابها حصل المقصود من الخلع، فصحَّ كما لو كان بعوض.
_________
(1) سورة البقرة: 229.
(2) «ابن عابدين» (3/ 440)، و «الشرح الصغير» (1/ 44)، و «جواهر الإكليل» (1/ 332)، و «مغني المحتاج» (3/ 268)، و «الأم» (5/ 183)، و «المغني» (7/ 67)، و «كشاف القناع» (3/ 130)، و «الفتاوى» (32/ 304)، و «المحلي» (10/ 235).

(3/351)


الثاني: لا يصح إلا بعوض: وهو مذهب الشافعي والرواية الأخرى عن أحمد، وهو الذي استقر عليه متأخرو فقهاء الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام، والظاهر أنه مذهب ابن حزم، وحجتهم ما يلي:
1 - أن الله تعالى علَّق الخلع على مسمَّى الفدية، فقال عز وجل: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (1).
2 - أن امرأة ثابت بن قيس لما أرادت أن تخالع زوجها، قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فتردِّي عليه حديقته؟» قالت: نعم، فردَّت عليه، وأمره ففارقها (2) قلت: وهو في معنى الشرط.
3 - أن حقيقة الخلع: إن كان فسخًا - على ما هو الأرجح - فلا يملك الزوج فسخ النكاح إلا بعيبها.
4 - أنه لو قال: (فسخت النكاح) ولم ينو به الطلاق لم يقع شيء، بخلاف ما إذا دخله العوض فإنه يصير معاوضة، فلا يجتمع له العوض والمعوض.
وعلى القول بأن الخلع طلاق، فهو كناية لا يقع إلا بالنية أو بذل المعوض، وههنا لم يوجد واحد منهما.
وعلى فرض أنه طلاق وليس فيه عوض، لا يقتضي البينونة إلا أن تكمل الثلاث.
الراجح:
والذي يبدو لي أنه لا يكون خُلعًا إلا إذا كان على عوض، ولا أعرف في الكتاب أو السنة ما يدل على صحة الخلع بدون عوض، والله أعلم.
مقدار العِوَض في الخلع:
اختلف الفقهاء في مقدار العوض الذي يجوز بذله وأخذه، على ثلاثة أقوال (3):
الأول: لا يُستحب أن يكون أكثر مما أعطاه: وهو قول الحنابلة، والظاهر منه
_________
(1) سورة البقرة: 229.
(2) صحيح: تقدم مرارًا.
(3) «الهداية» (3/ 203)، و «البحر الرائق» (4/ 83)، و «حاشية الصاوي» (2/ 517)، و «روضة الطالبين» (7/ 374)، و «مغني المحتاج» (3/ 265)، و «المغني» (7/ 52)، و «المحلي» (10/ 240).

(3/352)


أنه يصح - عندهم - الخلع على أكثر من الصداق إلا أنه يكره، وبه قال ابن المسيب وطاووس والزهري وعطاء (1) ونقله الحافظ عن عليٍّ (2) وأبي حنيفة وإسحاق.
واحتجوا بزيادة وردت في حديث امرأة ثابت بن قيس وفيه: «فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الحديقة ولا يزداد» (3) وهذه الطريقة معلَّة بالإرسال.
ولها شواهد مرسلة منها ما جاء عن طريق عطاء - فذكر قصة المختلعة - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما الزيادة من مالك فلا» (4).
الثاني: يجوز بما تراضيا عليه قلَّ أو كَثُر: وهو مذهب الجمهور، منهم مالك والشافعي، وابن حزم، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعكرمة والنخعي وغيرهم، وحجتهم ما يلي:
1 - قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (5). فهذا عموم يشمل ما افتدت به سواء كان بقدر ما أعطاه الزوج أو أكثر أو أقل.
2 - ما جاء من طريق عبد الله بن عقيل «أن الربيع بنت معوذ حدثته أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه، فخاصمته في ذلك إلى عثمان بن عفان فأجازه، وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه» (6) قالوا: فدلَّ على أن للزوج أن يأخذ من زوجته في الخلع كل ما تملك من قليل أو كثير، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها (وهو ما يربط به الشعر بعد جمعه) ولم ينكر أحد من الصحابة على عثمان فيما أفتى به المرأة.
3 - عن نافع «أن ابن عمر جاءته مولاة اختلعت من كل شيء لها، وكل ثوب عليها حتى نفسها، فلم ينكر ذلك عبدُ الله» (7).
_________
(1) الأسانيد إليهم صحيحة، انظر «جامع أحكام النساء» (4/ 159).
(2) إسناده ضعيف إلى على. أخرجه ابن حزم (10/ 240) من طريق عبد الرزاق، وفيه ليث ابن أبي سليم.
(3) أُعلَّ بالإرسال: أخرجه ابن ماجة (2056)، وانظر «جامع أحكام النساء» (4/ 156).
(4) مرسل: أخرجه عبد الرزاق (6/ 502)، وابن أبي شيبة (5/ 122)، وانظر «السابق» (4/ 158).
(5) سورة البقرة: 229.
(6) إسناده ليِّن: علَّقه البخاري في «الصحيح» (9/ 306) ووصله ابن حجر، وابن حزم (10/ 240) بسند لين.
(7) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (11853).

(3/353)


الثالث: التفصيل حسب نشوز الزوج أو الزوجة: وهو قول الحنفية، قالوا:
(أ) إن كان النشوز من جهة الزوج كُره له كراهة تحريم أخذ شيء منها، لقوله تعالى: {وإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (1). ولأنه أوحشها بالفراق فلا يزيد إيحاشها بأخذ المال.
(ب) وإن كان النشوز من جهة الزوجة فله أن يأخذ ما تبذله ولو زاد على ما أعطاها، وعندهم رواية أخرى أنه لا يأخذ - في هذه الحالة - أكثر مما أعطاها.
قلت: بقول الحنفية أقول عند إعضال الزوج وحدوث النشوز من جهته، وأما إن كان من جهتها فلا مانع من اتفاقهم على ما فوق مهرها إذا تراضيا، لعموم الآية الكريمة ولعدم ثبوت ردِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على مهرها، والله أعلم.
فوائد تتعلق بالعوَض:
[1] المهر المؤجَّل يصلح أن يكون عوضًا في الخُلع (2): لأنه دين في ذمة الزوج، والدين مال حكمي أي له حكم المال، فيدخل في عموم قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (3).
[2] يجوز أن يكون العوض منفعة (4): كأن يخالعها على إرضاع ولده منها، أو من غيرها مدة معلومة - كما ذكر المالكية والشافعية - أو مطلقة - كما ذكر الحنابلة - فإن ماتت المرضعة أو الصبي أو جفَّ لبنها قبل ذلك، فعليها أجرة المثل لما بقي من المدة، لأنه عوض معين تلف قبل قبضه فوجبت قيمته أو مثله.
[3] لا يجوز أن يكون العوض (إخراج المرأة من مسكنها (5): لأن سكناها فيه إلى انقضاء العدة حق لله، قال تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} (6). فلا يجوز لأحد إسقاطه لا بعوض ولا بغيره.
الركن الرابع: صيغة الخلع:
وهو ما ينعقد به عقد الخُلع، وهو الإيجاب من أحد طرفي هذا العقد، والقبول من الطرف الآخر، فصيغة العقد ما يتحقق به الإيجاب والقبول.
_________
(1) سورة النساء: 20.
(2) «فتح القدير» (3/ 216)، و «نهاية المحتاج» (6/ 391)، و «المفصَّل» (8/ 199).
(3) سورة البقرة: 229.
(4) «الدسوقي» (2/ 357)، و «روضة الطالبين» (7/ 399)، و «المغني» (7/ 64 - 65).
(5) «البدائع» (3/ 153)، و «الدسوقي» (2/ 350 - الفكر)، و «مغني المحتاج» (3/ 265).
(6) سورة الطلاق: 1.

(3/354)


والصيغة في إنشاء العقود تكون باللفظ، هذا هو الأصل، فإن تعذَّر اللفظ - كما في الأخرس والخرساء - فالصيغة تكون بالإشارة المفهمة.
ألفاظ الخُلع (1):
1 - ألفاظ الخُلع عند الحنفية سبعة: (خالعتُك - باينتك - بارأتك - فارقتك - طلقي نفسك على ألف (مثلًا) والبيع: كبِعتُ نفسَك - والشراء: كاشتري نفسك).
2 - وألفاظ عند المالكية أربعة: (الخلع - الفدية - الصلح - المبارأة) وكلها تأول إلى معنى واحد، وهو بذل المرأة العوض على طلاقها.
3 - وألفاظه عند الشافعية والحنابلة تنقسم إلى صرح وكناية: فالصريح المتفق عليه عندهم لفظان: لفظ (خلع) وما يشتق منه لأنه ثبت له العرف، ولفظ (المفاداة) وما يشتق منه لوروده في القرآن، وزاد الحنابلة لفظ (فسخ) لأنه حقيقة فيه، وهو من الكنايات عند الشافعية ومن الكنايات عندهم لفظ (بيع) و (المبارأة) و (أبنتك).
وصريح الخلع وكنايته، كصريح الطلاق وكنايته عند الشافعية والحنابلة.
والتحقيق:
أن التعويل في الخلع على العوض، لا على مجرد اللفظ، فلا يشترط له لفظ معيَّن، ولا صيغة معينة، سواء كان بلفظ الخلع أو غيره، حتى لو بلفظ الطلاق، قال شيخ الإسلام: «... فمتى فارقها بعوض فهي مفتدية لنفسها به، وهو خالع لها بأي لفظ كان، لان الاعتبار في العقود بمعانيها لا بالألفاظ، وقد ذكرنا وبيَّنا أن الآثار الثابتة في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس وغيره تدلُّ دلالة بيِّنة أنه خلع، وإن كان بلفظ الطلاق ...» اهـ (2).
وقال - رحمه الله -: «... فالفرق بين لفظ ولفظ في الخلع قول محدث، لم يُعرف عن أحد من السلف: لا الصحابة ولا التابعين، ولا تابعيهم، والشافعي - رضي الله عنه - لم ينقله عن أحد، بل ذكر أنه يحسب أن الصحابة يفرقون، ومعلوم أن هذا ليس نقلًا لقول أحد من السلف» اهـ (3).
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 443)، و «الدسوقي» (2/ 351)، و «مغني المحتاج» (3/ 268)، و «المغني» (7/ 57)، و «المحلي» (10/ 235).
(2) الفتاوى.
(3) الفتاوى (32/ 300).

(3/355)


وقال ابن القيم: «وأيضًا فإنه سبحانه علَّق عليه أحكام الفدية بكونه فدية، ومعلوم أنَّ الفدية لا تختص بلفظ - ولم يُبيّن الله سبحانه لها لفظًا معينًا، وطلق الفداء طلاق مقيَّد ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطلق، كما لا يدخل تحتها في ثبوت الرجعة والاعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة، وبالله التوفيق» اهـ. (1).
قلت: وهو الصحيح: أن الخلع فسخ بأي لفظ وقع ولو بلفظ الطلاق، بل ولو بنية الطلاق ما دام على عوض، وهذا هو المنقول عن ابن عباس وأصحابه وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه (2).
ويبدو أنه مذهب الظاهرية والله أعلم.
هل يشترط - لجواز الخُلع - إذنُ القاضي؟ (3)
ذهب الحسن البصري إلى عدم جواز الخلع دون السلطان، واختاره أبو عبيد واستدل بقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله} (4). وقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها} (5). قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولم يقل: فإن خافا.
قلت: وقد يحتج القائل بهذا - وإن كنت لم أره - بحديث امرأة ثابت بن قيس إذا رفعت الأمر - في إرادتها الخلع - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لا يفيد الشرطية كما لا يخفى.
وذهب الجماهير من أهل العلم إلى جواز الخلع من غير إذن القاضي، واحتجوا بما يلي:
1 - أجابوا عن قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله} (6) بأن المراد منها:
إذن الأئمة وتمكينهم من الخلع إذا خافوا عليهما عدم القيام بالواجب فيما إذا ارتفعوا إليهم، وليس المراد وجوب الترافع إليهم لأخذ الإذن منهم لإجازة الخلع فيما بينهم.
_________
(1) «زاد المعاد» (5/ 200).
(2) «الفروع» (5/ 346)، و «الإنصاف» (8/ 393).
(3) «فتح الباري» (9/ 308) - سلفية)، و «فتح القدير» (3/ 202)، و «المبسوط» (6/ 173)، و «الدسوقي» (2/ 347)، و «المغني» (7/ 52)، و «المحلي» (10/ 237).
(4) سورة البقرة: 229.
(5) سورة النساء: 35.
(6) سورة البقرة: 229.

(3/356)


وعلى هذا فالأئمة والحكام يمنعونهم من الخلع عند عدم هذا الخوف بالقول والفتوى، وليس بالحكم والالتزام.
2 - قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (1). فيه إباحة الأخذ من الزوجة بتراضيهما من غير سلطان.
3 - عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: أُتي بشر بن مروان في خلع كان بين رجل وامرأة فلم يجزه، فقال له عبد الله بن شهاب الخولاني: «قد أُتي عمر في خلع فأجازه» (2) أي بدون إذن السلطان.
4 - أن الطلاق جائز دون الحاكم وإذنه، فكذلك الخلع.
5 - أن الخلع عقد معاوضة فلم يفتقر إلى السلطان كالبيع والنكاح.
والراجح: قول الجمهور - بلا شك - لعدم الدليل على اشتراط إذن القاضي، لكن ينبغي أن يلاحظ ما ذكرناه من أهمية الإشهاد على الطلاق وتوثيقه، فالأمر في الخلع أعظم، والله أعلم.
هل للقاضي أن يحكم بالخلع من غير رضا الزوج؟ (3)
تقدم في قصة امرأة ثابت «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «فتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فردَّت عليه وأمره ففارقها» وهو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب - عند الجمهور - فلذا فإنه لا يصح الخلع إلا برضا الزوج، ولذا قال ابن حزم: «فلها أن تفتدي منه، ويطلقها إن رضى هو» اهـ.
لا يشترط الطُّهر لصحة الخُلع:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخلع جائز في كل وقت، حتى ولو في الحيض، أو في الطهر الذي جامعها فيه، لأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل الضرر الذي يلحقها بتطويل العدة، والخلع شُرع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة، والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وذلك أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما - أي الضررين - بأدناهما، ولذلك لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلعة عن
_________
(1) سورة البقرة: 229.
(2) علَّقه البخاري (9/ 306)، ووصله ابن أبي شيبة.
(3) «المحلي» (10/ 235)، و «فتح الباري» (9/ 312 - سلفية).

(3/357)


حالها، ولأن ضرر تطويل العدة عليها، والخلع يحصل بسؤالها فيكون ذلك رضا منها به، ودليلًا على رجحان مصالحها فيه (1).
قلت: وهذا مما يزيد الاطمئنان إلى ترجيح أن الخلع فسخ وليس بطلاق فتأمَّل!!
اختلاف الزوجين في الخُلع أو في العِوَض (2):
1 - إذا أقر الزوج الخُلع، والزوجة تنكره: بانت بإقراره اتفاقًا، وأما دعوى المال: فتبقى بحالها - كما ذكر الحنفية - ويكون القول قولها فيها، لأنها تنكر، وعند الجمهور: القول قولها - في نفس العوض - بيمينها.
2 - أما إذا ادَّعت الزوجة الخلع، والزوج ينكره، فإنه لا يقع كيفما كان - كما ذكر الحنفية - ويصدَّق الزوج بيمينه في هذه المسألة عند الشافعية، لأن الأصل عدمه، والقول قوله وعند الحنابلة: لا شيء عليه لأنه لا يدعيه.
3 - إذا اتفقا على الخلع، واختلفا في قدر العِوَض أو جنسه أو حلوله أو صفته، فالقول قول المرأة - عند الحنفية والحنابلة في رواية.
وعند المالكية: القول قولها بيمينها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «البينة على المدَّعى، واليمين على من أنكر».
وفي رواية عن أحمد: أن القول قول الزوج، لأن البُضع يخرج من ملكه فكان قوله في عوضه.
وعند الشافعية: إن كان لأحدهما بيِّنة عمل بها، وإن لم يكن لأحدهما بيِّنة، أو كان لكل منهما بيِّنة وتعارضتا: تحالفا كالمتابعين، ويجب ببينونتهما بفوات العوض مهر المثل - وإن كان أكثر مما ادَّعاه - لأنه المردُّ!!
عِدَّةُ المُخْتَلِعَة:
اختلف أهل العلم في عدَّة المختلعة، على قولين (3):
_________
(1) «المغني» (7/ 52)، وانظر نحوه في «المجموع» (16/ 13).
(2) «ابن عابدين» (2/ 564 - ط. بولاق)، و «جواهر الإكليل» (1/ 336)، و «مغني المحتاج» (3/ 277)، و «المغني» (7/ 93)، و «كشاف القناع» (5/ 230).
(3) «فتح القدير» (3/ 269)، و «الدسوقي» (2/ 468)، و «روضة الطالبين» (8/ 365)، و «المغني» (7/ 449)، و «الإنصاف» (9/ 279)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 323) وما بعدها.

(3/358)


الأول: عدة المختلعة هي عدَّة المطلَّقة (ثلاثة قروء): وهو قول الجمهور: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة - في المذهب - وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي والنخعي والزهري وغيرهم، وحجة هذا القول:
1 - أن الخلع طلاق (!!) فتدخل المختلعة في عموم قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (1).
وقد أُجيب عنه (2): بأنه لا يجوز الاحتجاج بالآية حتى يبين أن المختلعة مطلقة، وهذا محل النزاع، وقد تقدم تحريره، ولو قُدِّر شمول نص الآية لها، فالخاص يقضي على العام، والآية قد استُثنى منها غير واحدة من المطلقات: كغير المدخول بها، والحامل، والأمة التي لم تحض، وإنما تشمل المطلقة التي لزوجها عليها الرجعة.
2 - أنها فرقة بعد الدخول، فكانت ثلاثة قروء كغير الخلع!! وأُجيب (3): لا يُسلَّم أن العلة في الأصل مجرد الوصف المذكور، ولا يسلَّم الحكم في جميع صور القياس، ثم هو منقوض بالمفارقة لزوجها وقد دلت السنة على أن الواجب منهما الاستبراء.
3 - عن نافع عن ابن عمر قال: «عدَّتها - أي: المختلعة - عدَّة المطلَّقة» (4).
وأجيب: بأنه قد ثبت عن ابن عمر أيضًا خلافه، فعن نافع عن ابن عمر قال: «عدَّةُ المختلعة حيضة» (5).
ويؤيد هذه الرواية أن نافعًا - أيضًا - سمع الرُّبيع بنت مُعوِّذ وهي تخبر عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان، فجاء عمُّها إلى عثمان بن عفان، فقال له: إن ابنة معوِّذ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل؟ فقال عثمان: «لتنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حبل» فقال ابن عمر: «فعثمان خيرنا وأعلمنا» (6) فلعل ابن عمر رجع عن قوله الأول.
_________
(1) سورة البقرة: 228.
(2)، (3) «مجموع الفتاوى» (32/ 328).
(3) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ».
(4)
(5) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (2230).
(6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حزم في «المحلي» (10/ 237)، والبيهقي (7/ 450).

(3/359)


القول الثاني: عدة المختلعة حيضة واحدة: وهو قول عثمان بن عفان وابن عمر وابن عباس وهو رواية عن أحمد، وإسحاق وابن المنذر، واختيار شيخ الإسلام، وحجتهم:
1 - حديث الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألته: ماذا عليَّ من العدة؟ فقال: «لا عدة عليك إلا أن تكوني حديثة عهد به فتمكثي حتى تحيضي حيضة، قال: «وأنا مُتَّبع في ذلك قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مريم المغالية، كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، فاختلعت منه» (1).
2 - وهو يقوِّي حديث ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعلت النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّتها حيضة» (2).
3 - وعن الربيع بنت معوذ أن: ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي، فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثابت فقال له: «خذ الذي لها عليك وخلِّ سبيلها» قال: نعم، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتربَّص حيضة واحدة فتلحق بأهلها» (3).
وقد اعتُرض على حديث امرأة ثابت بن قيس بأن الروايات اختلفت في تسمية زوجة ثابت، ففي بعضها: جميلة بنت عبد الله بن أبي، وفي بعضها: حبيبة بنت سهل (4)؟!
وأجاب شيخ الإسلام: بأن هذا مما اختلفت فيه الرواية، فإما أن يكونا قصتين أو ثلاثًا، وإما أن أحد الروايتين غلط في اسمها، وهذا لا يضر مع ثبوت القصة، فإن الحكم لا يتعلق باسم امرأته، وقصة خلعه لامرأته مما تواترت به النقول، واتفق عليه أهل العلم. اهـ (5).
4 - ما تقدم في قصة الربيِّع بنت معوذ وعمَّها مع عثمان وفُتياه بأن تعتدَّ بحيضة، وإقرار ابن عمر له.
_________
(1) صحيح بطرقه: تقدم قريبًا.
(2) حسن بما قبله: أخرجه أبو داود (2229) وغيره بسند ضعيف يتقوَّى بما قبله.
(3) أخرجه النسائي (6/ 186).
(4) أخرجه مالك (2/ 564)، وأبو داود (2227)، والنسائي (6/ 169) بسند صحيح عن حبيبة بنت سهل أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت قصة مخالعتها لثابت بن قيس.
(5) «مجموع الفتاوى» (32/ 329).

(3/360)


قال ابن القيم (1): «فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والربيِّع بنت معوِّذ، وعمِّها وهو من كبار الصحابة، لا يعرف لهم مخالف منهم» اهـ.
5 - أن القول بأن عدَّة المختلعة حيضة «هو مقتضى قواعد الشريعة: فإن العدة إنما جُعلتْ ثلاث حيض ليطول زمن الرَّجعة، فيتروَّى الزوج، ويتمكن من الرجعة في مدة العدة، فإذا لم تكن عليها رجعة، فالمقصود مجرَّد براءة رحمها من الحمل، وذلك يكفي فيه حيضة، كالاستبراء، قالوا: ولا ينتقض هذا علينا بالمطلقة ثلاثًا، فإن باب الطلاق جُعل حُكم العدَّة فيه واحدًا بائنة ورجعيه» (2).
الراجح: الذي يبدو أن القائلين بأن عدة المختلعة حيضة أسعد بالدليل، من الأحاديث المرفوعة وأقوال الصحابة، فبقولهم نقول، والله أعلم.

الإيلاء
تعريف الإيلاء:
الإيلاء لغةً: الحلف واليمين، من: آلي، يؤلي إيلاءً، والاسم منه الأليّة.
والإيلاء اصطلاحًا: حلف الزوج على ترك وطء زوجته مدة معينة.
مشروعيته وحُكمه:
1 - والأصل في مشروعة الإيلاء: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3).
2 - والأصل في الإيلاء الحَظر لما فيه من الضرر والإيذاء للزوجة، ولأنه قد يأول إلى الطلاق - كما سيأتي - ويتأكد هذا الحَظر إذا كان إيلاء الزوج بقصد الإضرار بالزوجة، فقوله تعالى: {فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (4). «يقتضي أنه قد تقدم ذنب وهو الإضرار بالمرأة في المنع من الوطء» (5).
3 - لكن إذا كان الإيلاء بقصد تأديب الزوجة وتربيتها على ما ينبغي أن تكون
_________
(1) «زاد المعاد» (5/ 197).
(2) «زاد المعاد» (5/ 197).
(3) سورة البقرة: 226، 227.
(4) سورة البقرة: 226.
(5) «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 183).

(3/361)


عليه نحو زوجها فإنه يباح حينئذٍ بشرط ألا تتجاوز مدة الإيلاء أربعة أشهر، فعن أنس قال: «آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، وكانت انفكت رجله فأقام في مشربُة له تسعًا وعشرين، ثم نزل، فقالوا: يا رسول الله، آليت شهرًا (!!) فقال: «الشهر تسع وعشرين» (1) وليس إيلاؤه - صلى الله عليه وسلم - من الإيلا المحظور قطعًا (2).
ومما يؤيد جواز الإيلاء لأجل التأديب - على الشرط المذكور - قوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} (3). وقد تقدم في «الشقاق بين الزوجين».
أركان الإيلاء:
من تعريف الإيلاء يتبيَّن أنه يستلزم وجود ستة عناصر، هي عند الشافعية (4) أركانه: حالف - محلوف عليها - محلوف به - محلوف عليه - مدة - صيغة.
[1] الركن الأول: الحالف (الزوج):
ويشترط فيه أن يكون بالغًا عاقلًا باتفاق الفقهاء (5)، واختلف فيما عدا ذلك، وذهب الجمهور، خلافًا للمالكية إلى أنه يصح الإيلاء من غير المسلم لدخوله في عموم الآية وإن لم يدخل في أهل المغفرة والرحمة (6).
وإذا كان الزوج عاجزًا عن الوطء تمامًا (كالمجبوب والخصي ونحوهما) فقال الجمهور - خلافًا للحنفية -: لا يصح إيلاؤه، لأنه يكون على ترك مستحيل فلم تنعقد، ولأنه لم يتحقق منه قصد الإيذاء والضرر بالزوجة لامتناع الأمر في نفسه (7).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5289)، والنسائي (6/ 166)، والترمذي (685).
(2) على أن رأي معظم الفقهاء - كما نقله في الفتح (9/ 427) - أن إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى الحلف وليس من الإيلاء المعروف في كتب الفقه!!
(3) سورة النساء: 34.
(4) «مغني المحتاج» (3/ 343).
(5) «البدائع» (3/ 171)، و «الشرح الصغير» (1/ 478)، و «مغني المحتاج» (3/ 343)، و «المغني» (7/ 298).
(6) «حاشية الصاوي على الشرح الصغير» (1/ 478)، و «المغني» (7/ 314).
(7) «فتح القدير» (3/ 195)، و «الشرح الصغير» (1/ 478)، و «مغني المحتاج» (3/ 344)، و «المغني» (7/ 314).

(3/362)


[2] الركن الثاني: المحلوف عليها (الزوجة):
1 - ويشترط أن تكون زوجة بنكاح صحيح، حتى يصدق عليها قوله تعالى {من نسائهم} في آية الإيلاء.
وإذا كانت معتدَّة من طلاق رجعي صحَّ إيلاؤه منها في عدتها، لأنها زوجة له كما تقدم، أما إذا كانت معتدة من طلاق بائن، فلا يصح إيلاؤه منها لزوال رابطة الزوجية بينهما.
وهل يصح إيلاؤه من زوجته قبل الدخول بها؟ فالجواب: يصح إيلاؤه كذلك عند الجمهور لعموم قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم} (1). ولأن الزوج المولى ممتنع من الوطء بيمينه فأشبه ما بعد الدخول (2).
2 - ويشترط في الزوجة - عند الحنابلة والشافعية - أن تكون صالحة للوطء، فلا يصح الإيلاء من الرتقاء والقرناء (3) لأن الوطء متعذر دائمًا فلم تنعقد اليمين على تركه، ولم يتحقق قصد الإيذاء أو الإضرار.
وقال الحنفية لا يشترط كونها صالحة للوطء لعموم الآية (4).
[3] الركن الثالث: المحلوف به:
وهو على نوعين: يمين بالله تعالى، ويمين بالشرط والجزاء.
(أ) الحلف بالله تعالى (5):
إذا حلف باسم من أسماء الله تعالى [أو صفة من صفاته] أن لا يقرب زوجته، فهذا إيلاء بلا خلاف بين أهل العلم.
ولو حلف بغير الله كالنبي أو الملائكة أو الكعبة ونحو ذلك أن لا يطأ زوجته، فهذا لا ينعقد إيلاءً لأنه لا ينعقد حلفًا، في أصحِّ قولي العلماء وبه قال مالك وابن حزم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (6).
_________
(1) سورة البقرة: 226.
(2) «المغني» (7/ 313).
(3) (الرتق): لحم ينبت في الفرج يمنع الوطء، و (القرن): عظم في الفرج يمنع الوطء.
(4) «فتح القدير» (3/ 195).
(5) «فتح القدير» (3/ 183)، و «المجموع» (16/ 290)، و «المغني» (7/ 298)، و «المحلي» (10/ 42 - 43).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (6646)، ومسلم (1646).

(3/363)


قال الحافظ في الفتح (11/ 533): فيه من الفوائد: أن من حلف بغير الله مطلقًا لم تنعقد يمينه ... ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف بالله ولا بما يقوم مقام ذلك. اهـ.
(ب) الحلف بالشرط والجزاء:
ومثاله أن يقول لزوجته: (إن جامعتُكِ فعليَّ الحجُّ، أو فزوجتي الأخرى طالق) ونحو ذلك فهو يصح الإيلاء بالحلف بمثل هذا؟ فيه قولان (1):
الأول: يُعتبر إيلاءً: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - ورواية عن أحمد وبه قال الثوري وأبو ثور وأبو عبيد وهو مروي عن ابن عباس، وحجتهم ما يلي:
1 - أن اليمين - في اللغة عبارة عن القوة، والحالف يتقوَّى بهذه الأشياء على الامتناع من قربان زوجته في مدة الإيلاء، فكان في معنى اليمين بالله!!
2 - ولأن تعليق الطلاق والعتق ونحوهما على وطئها حلف.
الثاني: لا يُعتبر إيلاءً: وهو مشهور مذهب أحمد والشافعي في القديم وبه قال ابن حزم، وحجتهم:
1 - أن الإيلاء المطلق - في الآية - هو القسم، والتعليق بشرط ليس بقسم ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم ولا يجاب بجوابه، ولا يذكره أهل اللغة العربية في باب القسم، فلا يكون إيلاءً، قالوا: ويدل على ذلك قوله تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} (2). وإنما يدخل الغفران في اليمين بالله.
2 - أن الشرع قد نهى عن الحلف بغير الله تعالى كما في الحديث المتقدم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (3) فصحَّ أن من حلف بغير الله فلم يحلف بما أمره الله تعالى، فليس حالفًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (4).
الراجح:
قد صحَّ اعتبار اليمين التي يقصد بها الشرط والجزاء حلفًا كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «من
_________
(1) «البدائع» (3/ 166)، و «الدسوقي» (2/ 426)، و «مغني المحتاج» (3/ 344)، و «المغني» (7/ 298)، و «كشاف القناع» (3/ 216)، و «المحلي» (10/ 42 - 43).
(2) سورة البقرة: 226.
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) صحيح: تقدم كثيرًا.

(3/364)


حلف فقال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» (1) فالذي يترجح لدى قول الجمهور (القول الأول) والله أعلم.
[4] الركن الرابع: المحلوف عليه (الوطء) (2):
إذا حلف الزوج على ترك وطء زوجته، فهذا إيلاء، والمقصود بالوطء: الوطء في الفرج، أي في قُبُل الزوجة لا دبرها.
فإذا حلف أن لا يطأها فيما دون الفرج، فلا يكون موليًا في قول أكثر أهل العلم.
[5] الركن الخامس: مدة الإيلاء:
اختلف أهل العلم في المدة التي لو حلف الزوج على ترك جماع زوجته فيها يكون موليًا على ثلاثة أقوال:
الأول: إذا حلف على أربعة أشهر أو أكثر: وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وهو قول عطاء والثوري، وحجتهم: أنه ممتنع من الوطء باليمين أربعة أشهر، فكان موليًا كما لو حلف على ما زاد، ولا فرق.
الثاني: إذا حلف على أكثر من أربعة أشهر: هو مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور، وبه قال طاووس وسعيد بن جبير والأوزاعي وأبو ثور وأبو عبيد، وهو مروي عن ابن عباس، وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} (3). فقد جعل الله تعالى للمولى أربعة أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها.
2 - أن الآية جعلت للمولى تربُّص أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر أو ما دونها فلا معنى للتربُّص، لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضائها، لأن المطالبة بالفيء إنما تكون بعد أربعة أشهر، فإذا انقضت المدة بأربعة أشهر فما دون، لم تصح المطالبة من غير إيلاء.
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3258)، والنسائي (3772)، وابن ماجة (2100)، وأحمد (5/ 356).
(2) «البدائع» (3/ 171)، و «فتح القدير» (3/ 182)، و «الدسوقي» (2/ 428)، و «المجموع» (16/ 300)، و «المغني» (7/ 300)، و «كشاف القناع» (3/ 216)، و «المحلي» (10/ 42).
(3) سورة البقرة: 226.

(3/365)


3 - أن القول الأول مبناه على أن الفيئة في مدة الأربعة أشهر - وهو مذهب أبي حنيفة خلافًا للجمهور - وظاهر الآية خلافه، فإن الله تعالى قال: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا} (1). فعقَّب الفيء عقيب التربص بفاء التعقيب، وهذا يدل على تأخرها عنها.
4 - ولأن الضرر لا يتحقق بترك الوطء فيما دون أربعة أشهر، ويدلُّ عليه: أن عمر سأل النساء «كم تصبر المرأة عن زوجها؟» فقلن: لا يزيد عن أربعة أشهر، فكتب عمر إلى أمراء الأجناد «أن لا تحبسوا الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر» (2).
الثالث: إذا حلف على أيَّة مدة قلَّت أو كثرت يكون إيلاءً: وهو قول النخعي وقتادة وحماد وابن أبي ليلة وإسحاق، وابن حزم، وحجتهم:
1 - أن المدة المذكورة في قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} (3). هي المحدَّدة للموُلى، فإن فاء بعدها وإلا طلق حتمًا، وليست بيانًا للمدة التي لا يصح الإيلاء بدونها.
2 - وأما المدة التي يحلف عليها فهذه مطلقة في الآية.
3 - القياس على من حلف على أكثر من أربعة أشهر أن لا يقرب زوجته، فإنه يكون موليًا، لأنه قصد الإضرار باليمين أي بإيلائه من زوجته، وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة.
قلت: وهذا الأخير أقرب، وقد يتأيَّد بحديث أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهرًا» (4)، وعليه فإن من حلف أن لا يطأ زوجته مدة لا يخلو من أحد حالين (5):
1 - أن تكون هذه المدة أقل من أربعة أشهر: فالأفضل له أن يرجع عن يمينه ويجامعها ويكفِّر عن يمينه (6)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه» (7).
_________
(1) سورة البقرة: 226.
(2) أخرجه سعيد بن منصور (2/ 174)، والبيهقي (9/ 29).
(3) سورة البقرة: 226.
(4) صحيح: تقدم قريبًا.
(5) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 470، 471).
(6) وعلى القول بالكفارة أكثر أهل العلم، انظر «ابن عابدين» (3/ 427)، و «الأم» (5/ 248)، و «جواهر الإكليل» (1/ 368).
(7) صحيح: أخرجه مسلم (1650) وغيره وقد تقدم.

(3/366)


فإذا لم يكفِّر عن يمينه ومضى في إيلائه، فيجب على الزوجة أن تصبر حتى تنقضي مدة إيلائه التي سمَّاها، وليس لها أن تطالبه بالطلاق.
2 - أن تكون هذه المدة أكثر من أربعة أشهر: فالأفضل له - كذلك - أن يطأها ويكفِّر عن يمينه، فإذا لم يفعل، فيجب على الزوجة أن تصبر حتى تمضي أربعة أشهر ثم يكون لها الحق في مطالبته بالجماع أو بالطلاق كما سيأتي:
إذا انقضت الأربعة أشهر ولم يرجع، فماذا يجب؟
قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1).
وقد اختلف أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم في مسألة الباب نظرًا لاختلافهم في فهم الآية الكريمة حتى قال ابن العربي - رحمه الله -: «اختلف الصحابة والتابعون في وقوع الطلاق بمضي المدة، هذا وهم القدوة الفصحاء اللُّسن البلغاء من العرب العُرْب، فإذا أشكلت عليهم، فمن ذا الذي يتضح له منا بالأفهام المختلة واللغة المعتلَّة؟ ...» اهـ (2).
وبناء على هذا، كان لأهل العلم قولان (3):
الأول: أنه بمجرد مُضِيِّ المدة وعدم فيئته - تقع طلقة واحدة: والقائلون بهذا منهم من قال تقع طلقة بائنة، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء والحسن والنخعي والأوزاعي، وهو مذهب الحنفية.
ومنهم من قال: تقعُ واحدة رجعية، وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري واحتجوا جميعًا على وقوع الطلاق بمضي المدة، بما يلي:
1 - ابن مسعود قرأ: {فإن فاءوا - فيهن - فإن الله غفور رحيم}.
2 - أن الله تعالى جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر، فلو كانت الفيئة بعدها، لزادت على مدة النص، وذلك غير جائز.
3 - أنه لو وطئها في مدة الإيلاء، لوقعت الفيئة، فدلَّ على استحقاق الفيئة فيها.
_________
(1) سورة البقرة: 226، 227.
(2) «أحكام القرآن» لأبي بكر بن العربي (1/ 180).
(3) «البدائع» (3/ 176)، و «فتح القدير» (3/ 184)، و «جواهر الإكليل» (1/ 369)، و «الأم» (5/ 256)، و «المغني» (7/ 318)، و «زاد المعاد» (5/ 345 - 350) وفيه بحث مستفيض.

(3/367)


الثاني: إذا مضت المدة فإن القاضي يوقفه ويأمره بالفيئة أو الطلاق: فإن أبي أن يفيء ويجامعها، وأبي تطليقها، طلَّقها عليه القاضي، وهذا مذهب الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وبه قال ابن المسيب ومجاهد وطاووس وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر، وهو المروي عن كثير من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة وأبو الدرداء - رضي الله عنهم -، ومن أدلتهم:
1 - أن ظاهر الآية الكريمة أن الفيئة تكون بعد أربعة أشهر لذكر الفيئة بعد المدة (بالفاء) المقتضية للتعقيب، ثم قال تعالى: {وإن عزموا الطلاق ...} (1). ولو وقع الطلاق بمضي المدة، لم يحتج إلى عزم عليه، فعلى هذا فإن الآية تدل على تخيير المولى بين الفيئة والطلاق بعد مضي المدة.
2 - قوله تعالى: {فإن الله سميع عليم} (2). يقتضي أن الطلاق مسموع ولا يكون المسموع إلا كلامًا.
3 - أن الإيلاء يمين يمنع من الجماع أربعة أشهر، لأن اللفظ يدل عليه فقط، ولا يدل على الطلاق، فالقول بوقوع الطلاق بمضي المدة قول بالوقوع من غير إيقاع، وهذا لا يجوز.
4 - قوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} (3). والعزم هو ما عزم العازم على فعله، ولا يكون ترك الفيئة عزمًا على الطلاق.
5 - أنه قول أكثر الصحابة: فعن سليمان بن يسار قال: «أدركتُ بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يُوقِفُ الموُلى» (4).
وعن أبي صالح قال: سألت اثنى عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يولى، فقالوا: «ليس عليه شيء حتى يمضي أربعة أشهر، فإن فاء وإلا طلَّق» (5).
_________
(1) سورة البقرة: 227.
(2) سورة البقرة: 227.
(3) سورة البقرة: 227.
(4) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي - كما في مسنده - (2/ 82) شفاء العي، والدارقطني (4/ 61).
(5) أخرجه الدارقطني (4/ 61) وانظر الآثار عن عليٍّ وابن عمر وعائشة في «شفاء العي بتخريج مسند الشافعي» (2/ 82 - 84)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 197 - 198).

(3/368)


الراجح: أنه إذا مضت المدة ورفعت المرأة أمرها للقضاء، فإن القاضي يوقفه ويخيِّره بين الفيئة وبين تطليق امرأته، فإن أبى طلَّقها عليه، ويكون هذا الطلاق - سواء طلَّق الزوج أو طلق عليه القاضي - طلاقًا بائنًا
على الأرجح وهو مذهب أبي حنيفة لأنها فرقة لرفع الضرر، فيجب أن تكون بائنًا، ولأنها لو كانت رجعية لم يندفع الضرر، لأنه يستطيع أن يرتجعها فيبقى الضرر. والله تعالى أعلم.
[6] الركن السادس: لفظ الإيلاء وصيغته (1):
التحقيق أن يقال: كل لفظ دلَّ بنفسه على الامتناع عن وطء الزوج زوجته في فرجها وكانت هذه الدلالة هي المتبادرة إلى الذهن لجريان العرف بأن هذا هو المراد، فإن هذا اللفظ يعتبر صريحًا في دلالته على الإيلاء.
وكل لفظ لا يصل في دلالته على الإيلاء إلى هذا الحد، فلا يكون صريحًا في الإيلاء، وإنما هو كناية يفتقر إلى النية لوقوع الإيلاء به، ويصدَّق الزوج فيما أراده منه - في أحكام الدنيا - ولا يصدَّق في اللفظ الصريح أنه لم يرد به الإيلاء في أحكام الدنيا.

الظِّهَار
تعريف الظِّهار:
الظهر من كلِّ شيء خلاف البطن، والظِّهار من النساء، وظاهر الرجل امرأته مظاهرة وظِهارًا إذا قال: (هي عليَّ كظهر أمي) (2).
والظهار اصطلاحًا: «أن يشبِّه امرأته أو عضوًا منها بمن تحرم عليه - ولو إلى أمد - أو بعضو منها» (3) قال ابن قدامة: «وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء، لأن كل مركوب يسمى ظهرًا لحصول الركوب على ظهره في الأغلب فشبهوا الزوجة بذلك» (4).
تكييفه الشرعي:
الظهار ليس من فرق النكاح، ولكنه يفوِّت ما يفوت بالفرقة البائنة بين الزوجين
_________
(1) «المفصَّل» (8/ 258) بتصرف يسير.
(2) «لسان العرب» لابن منظور، بتصرف.
(3) «غاية المنتهى» (3/ 190).
(4) «المغني» لابن قدامة (7/ 337).

(3/369)


(حلَّ الوطء) ما دام حكم الظهار قائمًا، فيحرم على المُظاهر وطء زوجته ما دام الظهار قائمًا، فناسب أن يُبحث مع مسائل فرق النكاح، وإلا فلَيس هو بفرقة.
وقد كانوا في الجاهلية يعتبرون الظهار طلاقًا، تحرم زوجة الرجل به كتحريم الأم، فأبطل الله تعالى ذلك، وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقًا.
حكم الظهار:
الظهار من جهة حكم فعله: حرام، لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (1).
قال ابن القيم «إن الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه، لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور، فكلاهما حرام، والفرق بين جهة كونه منكرًا وجهة كونه زورًا، أن قوله: (أنت عليَّ كظهر أمي) يتضمن إخبارًا عنها بذلك، وإنشاء تحريمها، فهو يتضمن إخبارًا وإنشاءً، فهو خبر زور، وإنشاء منكر» (2) اهـ.
أركان الظهار وما يتعلق بها:
يتبيَّن من تعريف الظهار أنه يستلزم وجود: مُظاهر (الزوج) ومظاهر منها (الزوجة) ومظاهر به أي مشبه به (الأم) وصيغة الظهار.
[1] الركن الأول: المُظاهِر (الزوج):
الظهار لا يملك إيقاعه إلا الزوج - لا الزوجة - قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} (3). ولم يقل: واللائي يظاهرون منكن من أزواجهن، فدلَّ على أنه لا يظاهر إلا الزوج، ولأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الزوج لا بيد زوجته، وقد نقل ابن العربي - رحمه الله - على هذا إجماع أهل العلم (4).
والقاعدة فيما يشترط في الزوج الذي يصح ظهاره أن: «كل زوج صحَّ ظهاره، ومن لا يصح طلاقه لا يصح ظهارُه» (5).
_________
(1) سورة المجادلة: 2.
(2) «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 326).
(3) سورة المجادلة: 2.
(4) «أحكام القرآن» لابن العربي (4/ 1739).
(5) «المغني» (7/ 388 - 399).

(3/370)


إذا ظاهرت الزوجة من زوجها (!!) فما الحكم؟ (1)
تقدم أنه لا يقع الظهار إلا إذا صدر عن الزوج، لكن لو قالت المرأة لزوجها مثلًا: (أنا عليك كظهر أمك- أو - أنت عليَّ كظهر أبي): فذهب الحنابلة - وهو اختيار شيخ الإسلام- إلى أن عليها - إذا وطئها زوجها - كفارة ظهار، وإن كان قولها لم يقع به الظهار، لما صحَّ: «أن عائشة بنت طلحة ظاهرة من المصعب بن الزبير إن تزوجته، فاستُفتى لها فقهاء كثيرة بالمدينة، فأمروها أن تكفِّر، فأعتقت غلامًا لها ثمنه ألفين» (2).
قالوا: فأفتاها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -بالكفارة، ولأنها زوج أتى بالمنكر من القول والزور كالآخر، ولأن الظهار يمين مُكفَّرة فاستوي فيها المرأة والرجل.
وذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم إلى أن ظهارها لغو، لأن التحريم ليس إليها وهي لا تملك الظهار بالقول - كما تقدم - فلا حرمة عليها إذا مكَّنته من نفسها، ولا كفارة عليها، لا كفارة ظهار ولا كفارة يمين.
قلت: ومذهب الجمهور أرجح، لأنهم جميعًا متفقون على أنه لا يقع بقولها ظهار فكيف رُتِّب عليه ظهار الرجل؟! ثم كيف يكون عليها كفارة ظهار والظهار لم يقع، والله أعلم.
[2] الركن الثاني: المُظاهَر منها (الزوجة) (3):
ويشترط في المظاهر منها أن تكون زوجة شرعًا للمظاهر، أي تكون مرتبطة به بعقد نكاح صحيح، وأن تكون الزوجية بينهما قائمة، فيصحُّ الظهار من المطلَّقة الرجعية في عدَّتها لأنها زوجته حكمًا حتى تنتهي عدتها.
وهل يظاهر من الأَمَة؟ ذهب الجمهور إلى أنه لا يصحُّ ظهار الأمة لعدم دخولها في قوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِن نِّسَائِهِمْ} (4). قالوا: وليست الأمة من النساء، أي الأزواج.
وقال مالك - رحمه الله - يصح الظهار من الأمة لعموم لفظ النساء.
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 467)، و «الدسوقي» (3/ 439)، و «كشاف القناع» (3/ 229).
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرازق (6/ 433)، وسعيد بن منصور (1848).
(3) «البدائع» (3/ 233)، و «مغنى المحتاج» (3/ 353)، و «فتح الباري» (9/ 434 - المعرفة).
(4) سورة المجادلة: 2.

(3/371)


[3] الركن الثالث: المظاهَر به (المشبَّه به):
تشبيه الزوج امرأته بمن تحرم عليه يُتصوَّر أن يكون على ثلاثة أَضْرُب:
(أ) أن يشبهها بأمِّه فيقول: (أنت عليَّ كظهر أمي)
فهذا ظهار بإجماع أهل العلم، ومستنده الأحاديث الواردة في الظهار، ومنها:
حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أن سلمان بن صخر الأنصاري - أحد بني بياضة- جعل امرأته عليه كظهر أُمِّه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف من رمضان وقع عليها ليلًا، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فذكر ذلك له، فقال له: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اعتق رقبة» قال: لا أجدها، قال: «فصُمْ شهرين متتابعين» قال: لا أستطيع، قال: «أطعم ستين مسكينًا» قال: لا أجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لعروة بن عمرو: «أعطه ذلك الفرق» وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعًا أو ستة عشر صاعًا، فقال: «أطعم ستين مسكينًا» (1).
(ب) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا: كأخته وخالته وعمته وجدته فهذا الضرب اختلف أهل العلم في وقوع الظهار به، على قولين (2):
الأول: لا يكون الظهار إلا بالأم والجدة: وهو قول الشافعي - القديم - ومذهب الظاهرية واختاره الصنعاني - رحمهم الله - قالوا: لأن النص لم يرد إلا في الأم والجدَّة أم يشملها النص كذلك، قالوا: وما ذكر من إلحاق غيرها فبالقياس وملاحظة المعنى، ولا ينتهض دليلًا على الحكم.
الثاني: أن يكون ظهارًا: وهو قول أكثر أهل العلم وجمهورهم، منهم: الحسن وعطاء والشعبي والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - وأحمد، وحجتهم ما يلي:
1 - أنهن محرمات بالقرابة، فأشبهن الأم.
2 - وردُّا على القول الأول: بأنه قد جاء في الآية الكريمة {وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا} (3). وهذا موجود في مسألتنا، فجرى مجراه.
_________
(1) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (1200)، وأبو داود (2217)، وابن ماجه (2062)، والبيهقي (7/ 390).
(2) «البدائع» (3/ 234)، و «الدسوقي» (2/ 439)، و «مغنى المحتاج» (3/ 354). و «المغنى» (7/ 340)، «المحلى» (10/ 50).
(3) سورة المجادلة: 2.

(3/372)


3 - وبأن تعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها، إذا كانت مثلها.
قلت: وهذا القول قوي ومتجه، لاسيما وأن النص ليس فيه أن الظهار لا يكون إلا بالأم، وغاية ما فيه إثباته إذا ظاهر بأمِّه، والله أعلم.
فائدة: يستوي في هذه المسألة الأم، والأخت والخالة والعمة من النسب ومن الرضاع.
(جـ) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه تحريمًا مؤقتًا: كأخت زوجته وخالتها وعمتها، وهذا الضرب اختُلف في اعتباره ظهارًا على قولين (1):
الأول: لا يكون ظهارًا: وهو مذهب الحنفية والشافعي ورواية عن أحمد، وهو مذهب الظاهرية بالطبع، لأنها غير محرَّمة على التأبيد، فلا يكون التشبيه بها ظهارًا كالحائض.
الثاني: يكون ظهارًا: وهو مذهب المالكية ورواية عن أحمد، وهو المذهب عند متأخري الحنابلة، وردُّوا قياس الأولين على الحائض: بأنه يباح الاستمتاع بها في غير الفرج، وليس في وطئها حدٌّ فهي بخلاف مسألتنا.
فائدة: لو شبَّه امرأته بظهر رجل (2): فقال: (أنت عليَّ كظهر أبي أو ابني) لم يصحَّ الظهار ويكون لغوًا عند أكثر أهل العلم، وعند الحنابلة رواية: أنه ظهار!!
إذا شبَّه بعضو غير الظَّهْر (3):
لو قال لزوجته: أنت عليَّ كبطن أمي أو كبد أمي أو كرأس أمي ونحو ذلك، فأكثر أهل العلم على وقوع الظهار بذلك في الجملة، واختلفوا في بعض الجزئيات:
1 - فاشترط الحنفية أن يكون عضوًا لا يحل للمظاهر النظر إليه!!.
2 - وصحح المالكية الظهار بأي جزء ممن تحرم عليه ولو كان شعرًا أو ريقًا.
3 - واشترط الشافعية أن يكون العضو لا يُذكر للكرامة عادة ويحرم التلذذ به، فيصح نحو التشبيه باليد، وأما (عين الأم) فذكره يحتمل الكرامة، فيكون المعوَّل على نية المظاهر: فإن أراد به الظهار فهو ظهار، وإن أراد به الكرامة، فلا ظهار.
_________
(1) «المراجع السابقة» مع «جواهر الإكليل» (1/ 372).
(2) «البدائع» (3/ 231)، و «مغنى المحتاج» (3/ 354)، و «المغنى» (7/ 341).
(3) «البدائع» (3/ 233)، و «الدسوقي» (2/ 439)، و «نهاية المحتاج» (7/ 77)، و «كشاف القناع» (3/ 227)، و «المحلى» (10/ 50).

(3/373)


4 - وعند الحنابلة يقع الظهار بالتشبيه بأي عضو ممن تحرم عليه، إلا إذا كان العضو لا ثبات له كالظفر والشعر، فلا يصح به الظهار عندهم (!!).
5 - وأما الظاهرية فلا يقع عندهم الظهار إلا بظهر الأم لا بغير ذلك.
قلت: الذي يظهر لي أن الظهار مشتق من الظهر، فلا يكون الظهار إلا بذكر الظهر أو الظهار، وهل يقع الظهار بذكر ما لا يحل له الاستمتاع به من أمِّه - مثلًا- إذا نوى به الظهار، هذا موضع نظر واجتهاد، والله أعلم بالصواب.
[4] الركن الرابع: صيغة الظهار:
(أ) من جهة لفظها: قد تكون ألفاظ الظهار صريحة، وقد تكون كناية.
فالصريح فيه اللفظ الذي يدلُّ على إرادة إيقاع الظهار بحيث لا يتبادر إلى الفهم لدى السامع غير الظهار، كأن يقول: (أنت عليَّ كظهر أمي) وهو لا يفتقر إلى النية لإيقاع الظهار به.
وقد ألحق الحنفية والشافعية والحنابلة (1) باللفظ الصريح أن يقول: (أنا منك مُظاهر- أو ظاهرتُكِ) وكذا قوله: (أنت عليَّ كبطن أمي - أو: كفخذ أمي، أو كفرج أمي) (2).
وأما الكناية فهي الألفاظ التي تحتمل إرادة الظهار وغيره فتفتقر إلى النية لإيقاع الطلاق بها، كقوله (أنت عليَّ كأمِّي) عند عامة الفقهاء، قالوا: فلو نوى به الظهار وقع، وإن نوى به الكرامة والتوقير، فليس بظهار.
وقد اعتبر بعض العلماء القرينة التي تدل على الظهار باللفظ الكنائي، وأقامها مقام النية، كأن يقول في حال الغضب والخصومة، وكأن يخرجه مخرج الحلف كقوله: (إن فعلت كذا فأنت عليَّ مثل أمي) (3).
(ب) من جهة التنجيز وعدمه (4):
الأصل أن يكون الظهار بصيغة التنجيز، بمعنى أنه غير معلَّق على شرط، ولا مضاف إلى زمن مستقبل، وهذا لا خلاف في وقوعه، كقوله: (أنت عليَّ كظهر أميِّ).
_________
(1) «البدائع» (3/ 231)، و «المغنى» (7/ 346)، و «مغنى المحتاج» (3/ 354).
(2) الذي يبدو لي أنها كنائية تفتقر إلى النية لإيقاع الظهار بها والعلم؛ عند الله.
(3) «البدائع» (3/ 231)، و «المغنى» (7/ 342).
(4) «المغنى» (7/ 350)، «مغنى المحتاج» (3/ 354).

(3/374)


وقد يكون الظهار معلَّقًا على شرط كما لو قال لزوجته: (إن دخلت الدار فأنت عليَّ كظهر أمي) فإذا وجد الشرط وقع الظهار، ولكنه قبل وجود الشرط لا يعتبر مُظاهرًا وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد، ومثل إضافة الظهار إلى زمن مستقبل.
وإذا علَّق الظهار على مشيئة الله تعالى كما لو قال: (أنت عليَّ كظهر أمي إن شاء الله) لم يقع الظهار.
(جـ) من جهة التأقيت والتأبيد (1):
يصحُّ أن يكون الظهار مؤبَّدًا أي غير محددة بمدة معينة، ويصح أن يكون مؤقتًا بمدة معينة - عند الجمهور خلافًا للمالكية- كأن يقول لزوجته: (أنت عليَّ كظهر أمي شهرًا- أو: حتى ينقضي رمضان، ونحو ذلك).
قلت: ويدل عليه ما تقدم في حديث سلمان بن صخر الأنصاري أنه: «جعل امرأته عليه كظهر أمِّه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف رمضان وقع عليها ليلًا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ....» الحديث (2). وفيه أنه أوقعه ظاهرًا وأمره بالكفارة.
آثار الظهَّار:
إذا تحقق الظهار وتوافرت شروطه، ترتبَّ عليه الآثار الآتية:
[1] حُرمة الجماع قبل الكفارة:
فيحرُم على المُظاهر أن يطأ زوجته قبل أن يكفِّر كفارة الظهار، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم إذا كانت الكفارة الواجبة عتقًا أو صومًا، لقوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (3)
وأما إذا كانت الكفارة بالإطعام (4): فذهب أحمد - في رواية- وأبو ثور وابن
_________
(1) «البدائع» (3/ 235)، و «مغنى المحتاج» (3/ 357). و «الخرشى» (3/ 23)، و «المغني» (7/ 349).
(2) حسن بطرقه: تقدم تخريجه قريبًا.
(3) سورة المجادلة: 3، 4.
(4) «البدائع» (3/ 234)، و «جواهر الإكليل» (1/ 373)، و «الأم» (5/ 265)، و «المغنى» (7/ 347)، و «المحلى» (10/ 50).

(3/375)


حزم أنه لا حرج في وطئها قبل إخراج الكفارة بالإطعام، قالوا: لأن الله تعالى اشترط في الآية تقديم الكفارة على المماسَّة في العتق والصيام، ولم يشترطه في الكفارة بالإطعام.
وذهب أكثر أهل العلم منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المشهور من المذهب إلى أنه يحرم عليه الوطء قبل التكفير حتى ولو بالإطعام، وحجتهم:
1 - ما جاء عن ابن عباس: «أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفِّر؟ فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به» (1).
قالوا: وما أمره الله به هو أداء الكفارة سواء كانت بالعتق أو بالصوم أو بالإطعام، فلم يخُصَّ نوعًا معينًا من أنواع الكفارات، فعُلم أنه لا يجوز الوطء قبل أي نوع منها.
2 - وردوا على دليل الأولين: بأن ترك النصِّ على الكفارة بالإطعام قبل المسيس، لا يمنع قياسها على المنصوص الذي في معناها.
قلت: الحديث الذي استدل به الجمهور لا يثبت، ودلالة الآية على القول الأول قوية، إذ أن النص على الكفارة قبل المسيس في موضعين دون الثالث يمنع تقبُّل قياسه عليهما، والله أعلم.
[2] هل يحرمُ الاستمتاع دون الوطء قبل الكفارة؟ فيه قولان (2):
1 - فذهب أبو حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي ورواية في مذهب أحمد: إلى أنه لا يجوز، لقوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (3). فإنه أمر المظاهر بالكفارة قبل التماس، والتماس يصدق على المس باليد وغيرها كما يصدق على الوطء، والوطء قبل التكفير حرام بالاتفاق، فكان ما دونه من دواعيه مثله، ومتى كان الوطء حرامًا كانت الدواعي إليه مثله لأن «ما أدى إلى الحرام حرام».
_________
(1) أُعل بالإرسال: أخرجه أبو داود (2223)، والترمذي (1199)، والنسائي (6/ 167) وأعله أبو حاتم والنسائي بالإرسال.
(2) «البدائع» (3/ 234)، و «الدسوقي» (2/ 445)، و «مغنى المحتاج» (3/ 357)، و «المغنى» (7/ 348).
(3) سورة المجادلة: 3.

(3/376)


2 - وذهب الشافعي- في القول الثاني وهو الأظهر عند الشافعية- وبعض المالكية والرواية الأخرى عن أحمد: إلى أنه يجوز الاستمتاع بما دون الوطء قبل التفكير، ووجهه أن المراد بالتماس في الآية: الجماع، فلا يحرم ما عداه من التقبيل والمس بشهوة والمباشرة دون الفرج، ولا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه كما في الحائض والصائم.
قلت: لعل الأوَّل أقرب لاسيما عند من يحمل المشترك اللفظي على جميع معانيه، إذ التماس حقيقة الملامسة والجماع، ثم إن الحرمة قد حصلت بتشبيهه زوجه بأمه فحرمت عليه حتى يكفِّر، وحرمة أمِّه تمنع الاستمتاع مطلقًا، فكذا حرمة الزوجة المظاهرة، والله أعلم.
إذا وطئها قبل الكفارة: فعليه أن يستغفر الله من ذلك، وأن لا يقربها حتى يكفّر، وتلزمه كفارة واحدة، لما تقدم في حديث سليمان بن صخر، فإنه وطئ قبل أن يكفِّر فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -بكفارة واحدة، وعلى هذا أكثر أهل العلم.
فائدة: للمرأة - بعد أن يظاهر منها - الحقُّ في مطالبة الزوج بالوطء، وعليها أن تمنع الزوج من الوطء حتى يُكفِّر، فإن امتنع عن التكفير، فلها أن ترفع الأمر إلى القاضي، وعلى القاضي أن يأمر بالتكفير (1).
[3] وجوب الكفارة على المُظاهر قبل الوطء:
أمر الله تعالى المظاهرين بالكفارة إذا عزموا على معاشرة أزواجهم اللاتي ظاهروا منهن في قوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ...} (2).
والأمر يدلُّ على وجوب المأمور به، ولأن الظهار معصية لما فيه من المنكر والزور، فأوجب الله الكفارة على المظاهر حتى يغطي ثوابها وزر هذه المعصية.
مُوجِبُ الكفارة:
قال الله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (3). وقد اختلف أهل العلم: هل تجب الكفارة بمجرد الظهار؟ أم لا تجب إلا به وبالعود؟
_________
(1) «الموسوعة الفقهية» (29/ 205)
(2) سورة المجادلة: 3.
(3) سورة المجادلة: 3.

(3/377)


والصحيح: الذي عليه جمهور العلماء أن الكفارة لا تجب إلا بمجموع شيئين: قول الظهار، والعود، للآية الكريمة (1)، وإن كان كذلك: فما المراد بالعود في الآية؟
للعلماء فيه أقوال ستة، أصحُّها: أن المراد بالعود (إرادة الوطء) ويكون توجيه الآية أن معنى (العود) فيها عود المظاهر لما منعه منه ظهاره، والذي منعه منه ظهاره هو الوطء، فكان معنى عود المظاهر: إرادته ما منعه من الظهار وهو الوطء، وسياق الآية يدل على هذا فإنها أوجبت على المظاهر العائد - الكفارة- قبل أن يمسَّ، فيكون العود فيها إرادة الوطء وليس الوطء فعلًا، ولاتكرار قول الظهار (2).
خصال كفارة الظهار:
خصال كفارة الظهار ثلاثة، ويجب التكفير بأحدها باتفاق الفقهاء، على الترتيب الآتي، لا ينتقل إلى كفارة إلا إذا عجز عن التكفير بالتي قبلها:
1 - إعتاق عبد أو أَمَة (تحرير رقبة) فإذا لم يجد:
2 - يصوم شهرين متتابعين دون أن يمسَّ امرأته، فإن لم يستطع:
3 - يطعم ستين مسكينًا.
والأصل في هذا قول الله سبحانه: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ..... ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -لسلمان بن صخر - لما ظاهر من امرأته-: «أعتق رقبة» قال: لا أجدها، قال: «فصم شهرين متتابعين» قال: لا أستطيع، قال: «أطعم ستين مسكينًا» قال: لا أجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لعروة بن عمرو: «أعطه ذلك العَرَق» فقال: «أطعم ستين مسكينًا» (4).
وفي معناه حديث خويلة بنت ثعلبة قالت:
ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أشكو إليه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -يجادلني فيه ويقول: «اتقي الله فإنه ابن عمك»، فما برحت حتى نزل
_________
(1) «المغنى» (7/ 353).
(2) انظر «زاد المعاد» (5/ 331 - 332)، و «المغنى» (7/ 352 - 354)، و «البدائع» (3/ 236)، و «المحلي» (10/ 50).
(3) سورة المجادلة: 3، 4.
(4) حسن بطرقه: تقدم قريبًا.

(3/378)


القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (1). إلى الفرض، فقال: «يعتق رقبة» قالت: لا يجد؟ قال: «فيصوم شهرين متتابعين» قالت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: «فليطعم ستين مسكينًا»، قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قال: فأتي ساعتئذ بَعَرق من تمر. قلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق أخر، قال: «قد أحسنت اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا، وارجعي إلى ابن عمك» قال: والعرق ستون صاعًا (2).
انتهاء الظِّهار وانحلاله:
ينتهي الظهار وينحل بعد أن ينعقد ويستوجب حكمه، بواحد مما يأتي:
[1] تأدية الكفارة الواجبة: لدلالة الآية الكريمة، ولما وقع في حديث ابن عباس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -للمظاهر: «لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عز وجل» (3) فقد نهاه عن العود إلى وطئها، وجعل لهذا النهي غاية هي التكفير، فدلَّ على أن الظهار ينتهي حكمه بفعل الكفارة.
[2] مضى المدة - إذا كان الظهار مؤقتًا-: فإذا ظاهرها على مدة معينة، فبرَّ بيمينه حتى انقضت المدة دون أن يمسَّها، فلا شيء عليه، وتعود حلالًا له.
[3] موت الزوجين أو أحدهما: فلو ظاهر من زوجته ثم مات أو ماتت زوجته قبل العود انتهى الظهار، وانتهى حكمه باتفاق الفقهاء، لأن موجب الظهار الحرمة، وهي متعلقة بالزوجين، فيحرم على الرجل الاستمتاع ويحرم على المرأة تمكينه من نفسها حتى يكفِّر، ولا يُتصور بقاء الحكم بدون من تعلَّق به.
فائدة:
أما إذا ظاهر منها ثم عاد (أراد الوطء) أو وطئها قبل أن يكفِّر ومات: فعند الحنفية والمالكية تسقط الكفارة عنه إلا إذا أوصى بها فتخرج من ثلث التركة.
وقال الشافعية والحنابلة: لا تسقط كفارة الظهار - التي لزمته - بالموت، بل يؤديها الوارث عن الميت من التركة (4).
_________
(1) سورة المجادلة: 1.
(2) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (2214)، وأحمد (6/ 410) بسند ضعيف، ولبعض أجزائه شواهد لاسيما ذكر الكفارة، وانظر (الإرواء) (7/ 174).
(3) أعلَّ بالإرسال: وقد تقدم قريبًا.
(4) «ابن عابدين» (5/ 594)، و «الدسوقي» (4/ 458)، و «مغنى المحتاج» (3/ 174)، و «المغنى» (7/ 383).

(3/379)


قلت: وهذا هو الأرجح، لأن الكفارة لزمته قبل الموت، فاستقر في ذمته، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «فدين الله أحق أن يُقضى» (1) والله أعلم.

اللِّعان
تعريف اللِّعان:
اللعان: من اللِّعن، وهو الإبعاد والطرد من الخير، واللِّعان والملاعنة: اللعن بين اثنين فصاعدًا، وتلاعن القوم: لعن بعضهم بعضًا.
واللعان في اصطلاح الشرع: «حلف الزوج - بألفاظ مخصوصة - على زنى زوجته، أو نفي ولدها منه، وحلف الزوجة على تكذيبه فيما قذفها به» (2).
مشروعية اللعان:
ثبتت مشروعية اللعان بالكتاب والسنة والإجماع:
1 - فأما الكتاب، فقال الله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) والْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إن كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ (7) ويَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ (8) والْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (3).
2 - وأما السنة فمنها:
(أ) حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه-: أن عويمر أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع سل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فأتى عاصم النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال يا رسول الله - فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -المسائل - فسأله عويمر فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كره المسائل وعابها قال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فجاء عويمر فقال يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «قد أنزل الله قرآن فيك وفي صاحبتك» فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إن حبستها فقد ظلمتها فطلقها فكانت سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين ثم قال
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6699)، والنسائي (5/ 116).
(2) «المفصل» (8/ 321) بمعناه.
(3) سورة النور: 6 - 9.

(3/380)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها» فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من تصديق عويمر فكان ينسب إلى أمه (1).
(ب) حديث ابن عباس: أن هذال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -بشريك ابن سحماء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «البينة أو حدٌّ في ظهرك» فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة؟! فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم -يقول: «البينة وإلا حدٌّ في ظهرك» فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل
جبريل وأنزل عليه {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ {إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -فأرسل إليها فجاء هلال فشهد والنبي - صلى الله عليه وسلم -يقول: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب» ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء» فجاءت به كذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» (2).
3 - وأما الإجماع: فقد نقل الحافظ في «الفتح» (9/ 440 - المعرفة) الإجماع على مشروعيته.
هل يجب على الزوج اللِّعان؟
إذا تيقَّن الزوج أن زوجته زنت - بأن رآها تزني - أو أن حملها أو ولدها الذي جاءت به على فراشه ليس منه - فيجب عليه أن يقذفها بنفي نسب الولد أو ذلك الحمل منه، لأن ترك النفي يستلزم استلحاقه، واستلحاق من ليس منه حرام.
وإنما يُعلم أن الولد ليس منه إذا لم يطأ زوجته أصلًا، أو وطئها ولكن ولدته لأقل من ستة أشهر من الوطء (3).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (4747)، وأبو داود (2237)، والترمذي (3229)، وابن ماجه (2067).
(3) «الدسوقي» (2/ 457)، و «مغنى المحتاج» (3/ 373)، و «المغنى» (7/ 420).

(3/381)


وأما إذا لاعن الزوج بقذف زوجته بناء على شكوك وظنون فاسدة لا تصلح دليلًا شرعيًا ولا قرينة معتبرة على ما يقذفها به من الزنى، فإن اللعان حينئذ يكون محرَّمًا، لأن القذف من الكبائر، فينبغي على الزوج أن يتريَّث ولا يستعجل إذا رأى بعض ما يثير الشكوك والظنون حول سلوك زوجته، وأن يفحص ما يسمعه ويراه فحصًا موضوعيًّا بدون انفعال ولا غضب، حتى يتثبت من الأمر، مستحضرًا أن الأصل في الزوجة المسلمة العفة والنزاهة والبراءة مما يشاع عنها (1).
وإذا كان نفى الولد - بناء على الشكوك والظنون الفاسدة - محرَّمًا، فلا ريب أن جحده لولده مع علمه أنه ولد محرَّم من باب أولى.
شروط صحة اللِّعان (2):
أولًا: شرط يرجع إلى القاذف (الزوج): عدم إقامة البيِّنة:
يشترط في القاذف أن لا يقيم البيِّنة على ما رمى به زوجته من الزنى حتى يجوز اللعان، لأن الله تعالى شرط ذلك في آية اللعان، بقوله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (3).
ولذا فلو أقام أربعة من الشهود على المرأة بالزنى لما جاز اللعان، ولوجب إقامة حد الزنى عليها (4).
وإن قدر على إقامة البينة، فإن له أن لا يقدِّم البينة (الشهود) ويطلب اللعان، وإنما كان له ذلك، لأن البيِّنة واللعان، بيّنتان في إثبات حق الزوج، فجاز إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الأخرى (5).
متى يجوز اللعان مع إقامة البيِّنة؟
ما تقدم من اشتراط عدم إقامة البينة لصحة اللعان مختص بما إذا كان اللعان بسبب قذفه لها بالزنى، وأما إذا كان لنفي نسب ولدها منه، فيجوز له - مع إقامة
_________
(1) «المفصَّل» (8/ 325 - 326) بتصرف، وانظر «المجموع» (16/ 385)، و «المغنى» (7/ 420).
(2) انظر «المفصَّل» (8/ 330 - 363) ففيه بحث مستفيض.
(3) سورة النور: 6.
(4) «بديع الصنائع» (3/ 240).
(5) «المجموع» (16/ 388).

(3/382)


البينة - اللِّعان، لأن النسب لا ينتفي بالبيِّنة، وإنما ينتفي باللعان، إذ الشهود لا سبيل لهم إلى العلم بأن هذا الولد ليس منه، وإن أراد أن يثبت الزنى بالبينة، ثم يلاعن لنفي الولد جاز له ذلك (1).
ثانيًا: شروط ترجع إلى المقذوف (الزوجة):
[1] إنكارها للزنى: فلو أقرَّت بالزنى، فيلزمها الحد -حدُّ الزنى- لظهور زناها بإقرارها، ولا تلاعن حينئذ، لأن اللعان كالبينة إنما يقام مع الإنكار.
لكن لا يثبت إقرارها إلا إذا أقرت بالزنى أربع مرات (2).
[2] عفَّتها عن الزنى: فإن لم تكن الزوجة المقذوفة عفيفة لم يجب اللعان بقذفها، لأنها إذا لم تكن عفيفة فقد صدَّقته بفعلها، فصار كما لو صدَّقته بقولها (3).
ثالثًا: شروط ترجع إلى القاذف والمقذوف جميعًا:
[1] قيام الزوجية: فإن الله تعالى خصَّ الأزواج بهذا الحكم، وجعل لعانهم قائمًا مقام البينة على ما قذف به زوجته، قال تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ...} (4). فلذا فإنه يصح اللعان بين الزوجين بنكاح صحيح، سواء كانت الزوجة مدخولًا بها أو غير مدخول بها، وعلى هذا إجماع أهل العلم (5).
فإن كانت زوجته في نكاح فاسد فله أن يلاعن لنفي نسب ولدها منه، على الأرجح، وإن لم يكن ولد يريد نفيه فلا حدَّ في قذفه ولا لعان بينهما، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (6). ووجه جواز اللعان في هذه الحالة، أن الغرض منه نفي الولد، والنسب يثبت في النكاح الفاسد، فكان - من هذه الجهة - كالنكاح الصحيح، فيجري فيه اللعان من هذه الجهة.
فائدة: المطلَّقة الرجعية، يصح لعانها ما دامت في العدة، لأنها في حكم الزوجة - كما تقدم - وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، والحنفية (7).
_________
(1) «المجموع» (16/ 389).
(2) «البدائع» (3/ 241)، و «المغنى» (7/ 446).
(3) «البدائع» (3/ 241).
(4) سورة النور: 6.
(5) «المغنى» (7/ 393)، و «تفسير القرطبي».
(6) «البدائع» (3/ 241)، و «المغنى» (7/ 400).
(7) «البدائع» (3/ 241)، و «المغنى» (7/ 401).

(3/383)


[2] شروط أخرى في الزوجين اختلف فيها العلماء، بسبب اختلافهم في حقيقة اللعان: هل هو يمين أو شهادة؟ فقال الجمهور: اللعان يمين بلفظ الشهادة ومن ثم قالوا: يصح اللعان من كل الزوجين مكلَّفين سواءً كانا مسلمين أو كافرين، أو عدلين أو فاسقين، أو محدودين في قذف أو كان أحدهما كذلك.
وقال الحنفية - ومعه: الثوري والزهري والأوزاعي-: اللعان شهادة، فلا يصح عندهم إلا من زوجين مسلمين عدلين حرَّين غير محدودين في قذف (1).
قلت: لكل من القولين مأخذه (2)، لكن الذي يبدو أن اللعان يمين مؤكدة بشهادة، لما يأتي:
1 - أنه يفتقر إلى اسم الله، وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه، كما قال تعالى: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (3).
2 - أنه يستوي فيه الذكر والأنثى بخلاف الشهادة.
3 - أنه لو كان شهادة لما تكرر لفظه بخلاف اليمين.
4 - أن حاجة الزوج التي لا تصحُّ منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد، كحاجة من تصح منه الشهادة سواء، والأمر الذي ينزل به مما يدعو إلى اللعان كالذي ينزل بالعدل الحر، والشريعة لا ترفع ضرر أحد النوعين، وتجعل له فرجًا ومخرجًا مما نزل به، وتدع الآخر في الآصار والأغلال، ولا فرج له مما نزل به، ولا مخرج، إن تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثله، قد ضاقت عنه الرحمة التي وسعت من تصح شهادته، وهذا تأباه الشريعة الحنيفية السمحة.
قلت: ويدل على هذا عموم قوله: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (4).
وأما تسمية اللعان شهادة، فلقول الملاعن في يمينه: «أشهد بالله» فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينًا، كما قال تعالى: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (5).
_________
(1) «البدائع» (3/ 242)، و «المبسوط» (7/ 40)، و «نهاية المحتاج» (7/ 97). و «المغنى» (7/ 392)، «المحلى» (10).
(2) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 359) وما بعدها ففيه بحث نفيس.
(3) سورة النور: 6.
(4) سورة النور: 6.
(5) سورة المنافقون: 1

(3/384)


يصح لعان الأخرس والخرساء: إذا كانت إشارتهما مفهومة ويحسنان التعبير بها قذفًا ولعانًا، وكذا بكتابتهما إن كانا يحسنان الكتابة؛ لأن الحاجة تدعو الزوج إلى اللعان، ولا سبيل إليه إلا بإشارته أو كتابته، فينبغي قبول ذلك منه كما في طلاقه، وبهذا قال الجمهور خلافًا للحنفية (1).
رابعًا: شروط ترجع إلى المقذوف به: يجري اللعان بسبب قذف الرجل لزوجته بأحد شيئين:
[1] بالزنى فقط (بغير نفي الولد):
فيشترط أن يقذفها بلفظ صريح في دلالة على الزنا كقوله (يا زانية- أو: أنت زنيت- أو: رأيتك تزنين) ونحو ذلك، فإن قذفها بلفظ كنائي كقوله: يا فاسقة أو يا خبيثة مما يحتمل الزنى وغيره، لم يعتبر قذفًا ولم يستوجب حدًّا ولا لعانًا.
ويشترط في الفعل الذي قذفها من أجله أن يكون زنى شرعًا، بمعنى أنه فعل يجب به الحد أو القذف.
[2] بنفي الولد أو الحمل:
ويشترط في القذف بنفي النسب أن يكون بصيغة صريحة الدلالة عليه، كأن يقول: (هذا الولد من الزنى- أو: هذا الولد ليس منِّي).
فإن عرَّض بذلك ولم يصرِّح فلا يعتبر قذفًا لزوجته بنفي ولدها، لحديث أبي هريرة قال: «جاء رجل من بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «ما ألوانها؟» قال: حُمر، قال: «هل فيها من أورق؟» (2) قال: إن فيها لورقًا، قال: «فأني آتاها ذلك؟» قال: «عسى أن يكون نزعه عِرْق» (3)، قال: «وهذا عسى أن يكون قد نزعه عِرق» (4).
قال النووي: فيه أن التعريض بنفي الولد ليس نفيًا وأن التعريض بالقذف ليس قذفًا، وهو مذهب الشافعي وموافقيه. اهـ. ونسب ابن حجر في «الفتح» (9/ 443) هذا القول إلى الجمهور.
_________
(1) «البدائع» (3/ 241)، و «مغنى المحتاج» (3/ 376)، و «كشاف القناع» (3/ 242)، و «المحلي» (10/ 143).
(2) أي: الذي فيه سواد ليس بصاف.
(3) يعني: هذا اللون موجود في أصوله البعيدة، فأشبهه.
(4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

(3/385)


ويصحُّ قذف الزوج زوجته بنفي حملها حال الحمل، كما يصحُّ ملاعنتها أثناء الحمل - في أصح قولي العلماء- لما تقدم في حديث سهل بن سعد في قصة لعان عويمر-: «قال سهل: وكانت - أي زوجة عويمر - حاملًا، وكان ابنها يدعي إلى أمه ...» الحديث (1) وكذلك في حديث لعان هلال ابن أمية (2).
وبهذا قال الشافعية والمالكية واختاره ابن قدامة من الحنابلة (3)، لكن لو أخرَّ قذفه ولعانة إلى أن تضع حملها، حتى يتيقَّن من حملها فقد يكون انتفاخ بطنها لعلة غير الحمل، لكان أولى، إلا أنه لو تيقَّن من حملها عن طريق الكشف بالوسائل الحديثة، فالحكم كما تقدم.
خامسًا: شروط ترجع إلى وصف القذف:
فيشترط أن يكون القذف منجزًا: لا معلقًا على شرط ولا مضافًا إلى وقت مستقبل، لأن ذكر الشرط أو الوقت يمنع وقوعه قذفًا في الحال، وعند وجود الشرط أو الوقت يجعل كأنه نجَّز القذف، كما في سائر التعليقات، والإضافات، فكان قاذفًا تقديرًا مع انعدام القذاف حقيقة، فلا يجب الحد - أي حد القذف - وبالتالي لا يجب اللعان (4).
فلو قال لزوجته (إن دخلت الدار فأنت زانية، أو: أنت زانية من الغد) لم يعتبر قذفًا يستوجب اللعان، لأنه غير مُنجَّز.
سادسًا: أن يُجرَى اللعان بحضرة القاضي وأمره:
فلا يصحُّ اللعان إلا بحضرة القاضي وأمره أو من يقوم مقامه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -أمر هلال أبن أمية أن يأتي بزوجته، فتلاعنا بحضرته - صلى الله عليه وسلم -، ولأن اللعان إما يمين وإما شهادة - وقد تقدم تحريره- فأيهما كان فمن شروطه أن يكون أمام القاضي، لأن اليمين والشهادة لا تؤديَّان إلا بحضرته، وبهذا قال الشافعية والحنابلة (5).
وإن تراضيا بغير القاضي ليلاعن بينهما صح عند الشافعية -إذا لم يكن ينفي الولد - ولم يصحَّ عند الحنابلة بحال، وهو الأقرب، والله أعلم.
_________
(1)، (5) تقدم الحديثان في أول الباب.
(2) «البدائع» (3/ 240)، و «الصاوي» (1/ 492)، و «المغني» (7/ 423)، و «المجموع» (16/ 415) ..
(3) «بدائع الصنائع» (3/ 243)، و «المبسوط» (7/ 46).
(4)
(5) «مغنى المحتاج» (3/ 376)، و «المغنى» (7/ 434).

(3/386)


كيفية إجراء اللِّعان (1):
المتحصَّل من النصِّ القرآني، والأحاديث الثابتة في الباب، أن صفة اللعان كالآتي:
1 - يُسنُّ التلاعن بمحضر جماعة من الناس يشهدونه: فإن ابن عباس وسهل ابن سعد وابن عمر، حضروه مع حداثة أسنانهم، فدلَّ على أنه حضره جمع كثير، فإن الصبيان إنما يحضرون مثل هذا تبعًا للرجال، وقد قال سهل: «... فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ...» (2).
وحكمة هذا - والله أعلم - أن اللعان بُني على التغليظ مبالغة في الردع والزجر، وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك.
2 - ويكون الزوجان قائمين عند التلاعن، ليشاهدهما الحاضرون فيكون أبلغ في شهرته وأوقع في النفوس، وفي حديث المرأة الملاعنة: «... ثم قامت فشهدت ...» (3).
3 - يبدأ القاضي بتذكيرهما بالتوبة قبل الشروع في التلاعن، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -للمتلاعنين - كما في حديث ابن عباس -: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» فإن امتنع الزوج عن اللعان: حُدَّ حَدَّ القذف عند الجمهور خلافًا للحنفية، فقالوا: يُحبس حتى يُلاعن أو يكذِّب نفسه (4) وقول الجمهور أصحُّ، لأن الحدَّ عام في كل قاذف أجنبيًّا كان أو زوجًا إذا لم يكن له شهود، لكن الله تعالى أقام اللعان للزوج مقام الشهود - كما في الآية الكريمة - فوجب إذا نكل الزوج أن يكون بمنزلة
من قذف ولم يكن له شهود، أي أنه يُحدُّ، وإن كذَّب نفسه ورجع عما رماها به حُدَّ بلا خلاف، فإذا أصر على اللعان:
4 - يبدأ القاضي بالزوج فيقيمه، ويقول له: قل أربع مرات: (أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا)، ولو كان اللعان بنفي الولد، أمره أن يقول أربع مرات: (أشهد بالله لقد زنت، وما هذا الولد بولدي) ويعيِّن الولد.
_________
(1) «المحلى» (10/ 143)، و «المغنى» (7/ 436)، و «الزاد» (5/ 376 - وما بعدها).
(2) صحيح: تقدم تخريجه.
(3) صحيح: وهذا في حديث ابن عباس المتقدم في قصة لعان هلال ابن أمية.
(4) «فتح القدير» (3/ 251)، و «الأم» (5/ 292)، و «بداية المجتهد» (2)، و «المغنى» (7/ 444)، و «المحلى» (10/ 143).

(3/387)


والبداءة بالزوج قبل الزوجة شرط عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة، فلو بدأ القاضي بالزوجة ثم الزوج، فعليه أن يعيد لعان المرأة - عندهم- لأن المرأة بشهادتها تقدح في شهادة الرجل فلا تصح قبل وجود شهادته (1).
5 - يقول الزوج - أربع مرات -: (أشهد بالله إني لمن الصادقين ...).
6 - يأمر القاضي من يضع يده على فمه، ثم يقول له: اتق الله فإنها موجبة، حتى لا يبادر بالخامسة قبل أن يعظه، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
وهذا في حديث ابن عباس:
7 - فإن رجع عما رماها به حُدَّ حَدَّ القذف.
8 - فإن أصرَّ الزوج، فإنه يقول في الخامسة: (وعليَّ لعنة الله إن كنتَ من الكاذبين).
ويسقط به حدُّ القذف.
9 - يقول القاضي للزوجة: إن التعنت وإلا حُدِدْتِ حدَّ الزنى، فإن امتنعت من اللعان حُدَّت حدَّ الزنا عند الجمهور، خلافًا للحنفية والحنابلة فقالوا: تُحبس حتى تُلاعن أو تصدق زوجها فيما قذفها به، والأول أصحُّ، لأن الواجب على المرأة إذا لاعنها هو حد الزنى، لكن لها أن تخلص نفسها منه باللعان كما قال تعالى: {ويَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَن تَشْهَدَ ...} (2). فإذا امتنعت من اللعان لم يوجد الدافع لما وجب عليها بلعان الزوج، وهو الحد فيجب عليها (3).
10 - وإن أصرت على اللعان قالت: (أشهد بالله إنه لمن الكاذبين) أربع مرات.
11 - ثم يأمر القاضي من يوقفها ليعظها ويخبرها بأنها موجبة لغضب الله، قبل أن تشهد الخامسة.
12 - فإن رجعت واعترفت بالزنى: حُدَّت حدَّ الزنى.
13 - وإن مضت في إنكارها: أُمرت أن تقول: (غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين) فإذا قالت ذلك سقط عنها حدُّ الزنا، وتم اللعان، وترتَّبت عليه آثاره.
_________
(1) «مغنى المحتاج» (3/ 374)، و «المغنى» (7/ 436)، و «الزاد» (5/ 377).
(2) سورة النور: 8.
(3) «فتح القدير» (3/ 251)، و «الأم» (5/ 292)، و «المغنى» (7/ 444) وما بعدها.

(3/388)


آثار اللِّعان (ما يترتَّب عليه):
إذا تم التلاعن بين الزوجين على الصفة السابق ذكرها، فإنه يترتَّب عليه أمور، وهي:
[1] إسقاط الحَدِّ عنهما (1):
قال الله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ ..... والْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (2).
وفي الآيات الكريمة دلالة على سقوط حد القذف عن الزوج، إذا قام باللعان، وسقوط حد الزنى عن الزوجة إذا لاعنت زوجها، وبهذا قال أهل التفسير.
ويدل على هذا كذلك ما جاء في حديث ابن عباس - في ملاعنة امرأة هلال بن أمية-:
فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابع الأليتين خَدَلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء» فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» (3).
[2] أن الملاعنة لا تُرمي بالزنا، ومن رماها حُدَّ (4):
وهذا لأن لعانها نفى عنها تحقيق ما رُميت به، فيُحدُّ قاذفها وقاذف ولدها، وهذا دلَّت عليه رواية أبي داود (2256) لحديث ابن عباس: «..... فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُدعى ولدها لأب، ولا تُرمى، ولا يُرمى ولدُها، ومن رماها أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضى ألا بيت لها عليه ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها».
قلت: وسندها ليِّن وقد ذكر الحافظ في التلخيص (3/ 227) لها شاهدًا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذا مذهب الجمهور.
_________
(1) «مغنى المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 444).
(2) سورة النور: 6 - 9.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (4747) وغيره وقد تقدم.
(4) «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 402) ط. الرسالة.

(3/389)


[3] التفريق بين المتلاعنَيْن:
لحديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: «لاعن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأة من الأنصار، وفرَّق بينهما» (1).
وهنا مسألتان:
الأولى: متى تقع الفرقة بينهما؟ (2) هل تقع بمجرد القذف؟ أم بلعان الزوج وحده؟ أم تقع بلعنهما جميعًا؟ أم بلعانهما وتفريق القاضي؟
والجواب: أما وقوع الفرقة بمجرد القذف فهو قول شاذ لأبي عبيد خالفه معه الجماهير من أهل العلم، وأما وقوعها بلعن الزوج وحده: فمما تفردَّ به الشافعي - رحمه الله - واحتج له بأنها فرقة حاصلة بالقول، فحصلت بقول الزوج وحده كالطلاق!! وهو ضعيف: «لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما فقط، وإنما فرَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما بعد تمام اللعان منهما، فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكُّم يخالف مدلول السنة النبوية، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه: إما إيمان على زناها أو شهادة على ذلك، ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما لم يحصل التفريق، وإنما ورد الشرع به بعد لعانها فلا يجوز تعليقه على بعضه» (3).
فعُلم أن الفرقة لا تقع إلا بلعان الزوجين، لكن يبقى الخلاف: هل تحصل الفرقة بمجرد لعانهما أو لابد أن يفرِّق القاضي؟
(أ) فذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين والظاهرية - ونسبه النووي للجمهور - إلى أنه إذا تمَّ لعان الزوجين وقعت الفرقة، ولا يُعتبر تفريق الحاكم واستدلوا بما يلي:
1 - حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال للمتلاعنين: «حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» قال: مالي، قال: «لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما
استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك» (4) قالوا: فقوله (لا سبيل لك عليها) يدل على حصول الفرقة بمجرد اللعان، لأنها نكرة في سياق النفي فأفادت العموم، والعبرة بعموم اللفظ.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5314)، ومسلم (1494).
(2) «البدائع» (3/ 244)، و «الشرح الصغير» (1/ 496)، و «مغنى المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 411)، «المحلى» (10/ 144)، و «زاد المعاد» (5/ 388 - وما بعدها).
(3) «المغنى» (7/ 411).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1/ 5311)، ومسلم (1493).

(3/390)


2 - ما تقدم في حديث سهل: «.... فلما فرغا، قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ذاك تفريق بين كل متلاعنين» (1). وأجيب بان الجملة الأخيرة مدرجة من كلام الزهري.
3 - أن اللعان يقتضي التحريم المؤبَّد - كما سيأتي بعده - فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع.
4 - ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهه الزوجان، كالتفريق بالعيب والإعسار، ولبقي الزواج مستمرًّا، وهذا لا يجوز.
(ب) بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو الرواية الأخرى عن أحمد إلى أن الفُرقة لا تحصل - بعد التلاعن- إلا بتفريق الحاكم، واحتجوا بما يلي:
1 - ما في رواية أبي داود لحديث سهل بن سعد قال: «شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة ففرَّق بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تلاعنا» (2).
2 - وحديث ابن عمر المتقدم: «لاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأة من الأنصار ففرَّق بينهما» (3).
وأجيب عنهما: بأن تفريق النبي بينهما، يحتمل ثلاثة أمور، أحدها: إنشاء التفريق، والثاني: الإعلام به، والثالث: إلزامه بموجبه من الفرقة الحسية، وليس هذا بقاطع في المسألة.
3 - ما جاء في حديث سهل بن سعد من قول الملاعن: «كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قيل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (4) قالوا: فهذا يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لما وقع طلاق ولما أمكنه إمساكها.
وأجيب: بأن قوله (كذبت عليها إن أمسكتها) لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعًا، بل هو بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائرًا إلى ما بادر إليه، وأما طلاقها ثلاثًا فما زاد الفرقة إلا تأكيدًا، فإنها حرمت عليه تحريمًا مؤبدًا.
_________
(1) صحيح: تقدم قريبًا.
(2) أخرجه أبو داود (2251) وأصله في الصحيحين كما تقدم.
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(3/391)


4 - برواية أبي داود لحديث سهل بن سعد قال: «فطلَّقها ثلاث تطليقات عند رسول الله، فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...» (1) وأجيب: بأن إنفاد الطلاق عليه تقرير لموجبه من التحريم، فإذا لم تحل له باللعان أبدًا كان الطلاق الثلاث تأكيدًا للتحريم الواقع باللعان، فهذا معنى إنفاذه، فلما لم ينكره عليه، وأقَرَّه على التكلم به على موجبه، جعل سهلٌ هذا إنفاذًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسهلٌ لم يحك لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -وإنما شاهد القصة وعدم إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم -فظنَّ ذلك تنفيذًا.
قلت: القول بوقوع الفرقة بمجرد تلاعنهما من غير احتياج إلى تفريق القاضي هو الأقوى، على أنني أتصورَّ أن المشترطين لتفريق القاضي يُلزمونه بإيقاع الفرقة بعد اللعان اتباعًا للسنة فيكون الخلاف صوريًّا، والله أعلم.
المسألة الثانية: التفريق باللعان، هل هو طلاق أو فسخ؟ (2)
فرقة اللعان فسخ، وليست بطلاق، في أصحِّ قولي العلماء، وبه قال مالك والشافعي، وأحمد وابن حزم ويدل على ذلك:
1 - أنها فرقة تُوجب تحريمًا مؤبدًا - كما سيأتي - فكانت فسخًا.
2 - أن اللعان ليس صريحًا في الطلاق، ولا نوى الزوج به طلاقًا، فلا يقع به الطلاق.
3 - أنه لو كان اللعان صريحًا في الطلاق أو كفاية فيه لوقع بمجرد لعان الزوج ولم يتوقف على لعان المرأة.
4 - أنه لو كان طلاقًا، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فيكون رجعيًا!!
5 - أن الطلاق بيد الزوج إن شاء أمسك وإن شاء طلَّق، وهذا الفسخ حاصل بالشرع وبغير اختياره.
6 - ولأنه قد ترجَّح بالسنة وأقوال الصحابة - كما تقدم - أن الخلعَ ليس بطلاق، بل هو فسخ مع كونه بتراضيهما، فكيف تكون فرقة اللعان طلاقًا؟.
_________
(1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (2250) وفيه عياض بن عبد الله الفهري: ضعيف.
(2) «الشرح الصغير» (1/ 496)، و «مغني المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 411)، و «المحلى» (10/ 144)، و «الزاد» (5/ 390).

(3/392)


[4] أن تحرَّم عليه زوجته المُلاعنة أبدًا:
لا خلاف بين أهل العلم في حصول الحرمة المؤبَّدة بين الزوجين المتلاعنين بسبب اللعان إذا لم يكذب أحدهما نفسه ويصدق الآخر:
1 - ففي حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين: «فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ذاك تفريق بين كل متلاعنين» قال ابن جريج: قال ابن شهاب: فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين .. الحديث (1).
2 - ورُوي عن ابن عمر مرفوعًا: «المتلاعنان إذا تفرَّقا لا يجتمعان أبدًا» (2).
3 - ما رُوي عن عمر - رضي الله عنه - قال: «لا يجتمعان المتلاعنان أبدًا» (3).
4 - ما رُوي عن عليًّ وابن مسعود أنهما قالا: «مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدًا» (4).
قلت: قوله: (فكانت سنة المتلاعنين) الراجح أنها مدرجة من قول الزهري كما صرَّح بذلك غير واحد من أهل العلم، وباقي هذه الآثار في كلٍّ منها مقال إلا أنها بمجموعها تثبت أن المتلاعنين تحصل بينهما حرمة أبدية وعلى هذا اتفاق أهل العلم.
إلا أن أبا حنيفة - رحمه الله - ومحمد ذهبا إلى أن الحرمة المؤبَّدة تسقط إن أكذب أحد الزوجين نفسه، وقد صحَّ هذا عن ابن المسيب، وخالفهم الجمهور (5) فقالوا: لا تأثير لإكذاب أحدهما نفسه في إسقاط الحرمة المؤبدة، وهذا هو الذي تقتضيه حكمة اللعان، ولا تقتضي سواه:
1 - فإن لعنة الله تعالى وغضبه قد حلَّ بأحدهما لا محالة، ونحن لا نعلم عين من حلَّت به يقينًا، ففرَّق بينهما خشية أن يكون هو الملعون فيعلو على امرأة غير ملعونة وحكمة الشرع تأبى ذلك.
2 - وإن باءت هي بالغضب بتصديق زوجها، لم يجز له نكاح زانية، وإلا كان ديُّوثًا.
_________
(1) صحيح: تقدم كثيرًا.
(2) ضعيف الإسناد: أخرجه الدارقطني (3/ 276).
(3) إسناده منقطع ورجاله ثقات: أخرجه عبد الرازق (12433)، والبيهقي (7/ 410).
(4) إسناده ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 276)، والبيهقي (7/ 410).
(5) «البدائع» (3/ 355)، و «الشرح الصغير» (1/ 496)، و «مغني المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 414)، و «المحلى» (10/ 414)، و «المحلى» (10/ 144)، و «الزاد» (5/ 391).

(3/393)


3 - أن النفرة الحاصلة من إساءة كل منهما إلى صاحبه لا تزول أبدًا، فإن الرجل إن كان صادقًا عليها فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد وأقامها مقام الخزي وحقق عليها الخزي والغضب وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذبًا، فقد أضاف إلى ذلك بَهتها بهذه الفرية العظيمة، وإحراق قلبها بها.
والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله، وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة.
فحصل لكلٍّ منهما من صاحبه من النفرة، والوحشة وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملها أبدًا، فاقتضت حكمة من شَرْعُه كلُّه حكمةٌ ومصلحة وعدل ورحمة تحتُّم الفرقة بينهما، وقطع الصحبة المتمحِّضة مفسدة (1) قلت: ولا تأثير لرجوع أحدهما وتكذيبه نفسه في إصلاح شيء من هذه المفاسد، لاسيما ولا دليل مع القائلين بذلك، بل الدليل على خلافه، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -للمُلاعن: «لا سبيل لك عليها» (2) وهذا عموم يشمل جميع أفراده وجميع حالاته حتى يدلَّ الدليل على تخصيصه، ولا دليل، والله أعلم.
[5] استحقاق المرأة صداقها وليس للرجل أن يأخذ منه شيئًا:
إذا وقع اللعان بعد الدخول فإن المرأة لا يسقط صداقها به، لحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال للمتلاعنين: «حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» قال: مالي، قال: «لا مال لك، إن كنت صدقتَ عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبتَ عليها فذاك أبعد لك» (3).
أما إذا وقع اللعان قبل الدخول، فقيل: لها نصف المهر، وقيل: يسقط مهرها جملة.
ومأخذ القولين: أن الفُرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما، فهل يسقط الصداق تغليبًا لجانبه كما لو استقل بسبب فرقتها؟ (4).
_________
(1) مستفاد من «زاد المعاد» (5/ 392 - 394) مع شيء من التصرف والزيادة.
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) صحيح: وهو السابق.
(4) «زاد المعاد» (5/ 394) بتصرف يسير.

(3/394)


[6] عدم استحقاق المرأة نفقة ولا سكنى عليه:
هكذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن عباس: «.... وقضى ألا بيتَ لها عليه، ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها» (1).
وهو وإن كان في سنده لين إلا أنه «موافق لحكمه - صلى الله عليه وسلم - في المبتوتة التي لا رجعة عليها، بل سقوط النفقة والسكنى للملاعنة أولى من سقوطها للمبتوتة، لأن المبتوتة له سبيل إلى نكاحها في عدَّتها، وهذه لا سبيل له إلى نكاحها لا في العدة ولا بعدها، فلا وجه أصلًا لوجوب نفقتها وسُكناها، وقد انقطعت العصمةُ انقطاعًا كليًّا» (2).
[7] انقطاع نسب الولد من جهة أبيه، وإلحاقه بأمِّه:
ففي حديث ابن عباس المشار إليه آنفًا: «وقضى أن لا يُدعى ولدها الأب ...»، وبهذا قال الجمهور:
وفي حديث ابن عمر: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم -لاعن بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها، ففرَّق بينهما، وألحق الولد بالمرأة» (3).
وفي حديث سهل بن سعد - في آخره -: «فكان بعدُ يُنسب لأمه» (4).
[8] ثبوت التوارث بين الملاعنة وولدها:
ففي حديث سهل - بعد ذكر قصة عويمر -: «... فكانت السنة بعدهما أن يفرَّق بين المتلاعنين، وكانت حاملًا، وكان ابنها يُدعى لأمِّه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه، ويرث منها ما فرض الله له» (5) وهذا يحتمل أنه من قول الزهري أو سهل بن سعد - رضي الله عنه-، وقد قال بعض أهل العلم بأن تحويل النسب الذي كان لأبيه إلى أمه، جعل الأم قائمة مقام الأب في ذلك، فهي عصبته وعصابتها أيضًا عصبته، فإذا مات حازت ميراثه، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس ويُروى عن عليٍّ، وهو مذهب أحمد وإسحاق، ويشهد له حديث واثلة بن الأسقع عن
_________
(1) إسناده لين: أخرجه أبو داود (2256)، وأحمد (2131) وذكر له الحافظ في التلخيص (3/ 227) شاهدًا.
(2) «زاد المعاد» (5/ 396).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5315)، ومسلم (1494).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492).
(5) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1492).

(3/395)


النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لا عنتْ عليه» (1).
وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه جعل ميراث ابن الملاَعَنَة لأُمِّه ولورثتها من بعدها» (2).
قالوا: ولا يعارض هذا ما جاء في حديث سهل المتقدم: «ثم جرت السنة أن يرث منها وترث منه ما فرض الله لها» حتى على فرض أنه من قول سهل بن سعد، لا الزهري، فإن تعصيب الأم لا يُسقط ما فرض الله لها من ولدها في كتابه، وغايتها أن تكون كالأب حيث يجتمع له الفرض والتعصيب، فهي تأخذ فرضها ولابُدَّ، فإن فَضلَ شيء أخذته بالتعصيب، وإلا فازت بفرضها» (3).

التفريق القضائي
الأصل أن الفُرقة بين الزوجين تقع باختيار الزوج وإرادته عن طريق الطلاق، لكن ثَمَّ حالات تُرفع إلى القاضي، ويكون له إيقاع التفريق بين الزوجين فيها، ومن هذه الحالات:
[1] التفريق بسبب الإيلاء.
[2] التفريق بسبب الظهار.
[3] التفريق بسبب اللعان.
وقد تقدمت هذه الحالات وأحكامها قريبًا في هذا الكتاب.
[4] التفريق للشقاق بين الزوجين: وقد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب «الزواج» في «النشوز وعلاجه، فليراجعه من شاء.
[5] التفريق بسبب العيوب المانعة من الاستمتاع:
تنقسم العيوب المانعة من الاستمتاع إلى قسمين:
(أ) عيوب جنسية تمنع الوطء.
(ب) عيوب لا تمنع الوطء، لكنها أمراض مُنفِّرة بحيث لا يمكن المقام معها إلا بضرر.
_________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (2906)، والترمذي (21116)، وابن ماجه (2742)، وأحمد (3/ 490).
(2) حسن: أخرجه أبو داود (2908).
(3) «زاد المعاد» (5/ 401).

(3/396)


وهذه العيوب منها ما يختص بالرجل، ومنها ما يختص بالمرأة، ومنها ما يشترك فيه الرجال والنساء.
وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة -خلافًا للظاهرية (1) - على الجواز التفريق بين الزوجين للعيوب، لكنهم اختلفوا في موضعين: هل يثبت حق التفريق بالعيب لكلا الزوجين؟ أم للزوجة فقط؟ فقال الجمهور الأول، وذهب الحنفية إلى الثاني، قالوا: لأن الزوج يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق بخلاف الزوجة، والأظهر قول الجمهور: «لأن كلا الزوجين يتضرر بهذه العيوب، وأما اللجوء إلى الطلاق فيؤدي إلى الإلزام بكل المهر بعد الدخول وبنصفه قبل الدخول، وفي التفريق بسبب العيب يُعفى الرجل من النصف قبل الدخول، وبعد الدخول لها المسمَّى بالاتفاق، لكن يرجع الزوج - عند المالكية والحنابلة والشافعية - بالمهر بعد الدخول على ولي الزوجة كالأب والأخ لتدليسه بكتمان العيب، ولا سكنى لها ولا نفقة» (2).
شروط التفريق بالعيوب (عند من يقول بها):
اشترط الفقهاء شرطين لثبوت الحق في طلب التفريق بالعيب، وهما (3):
1 - ألا يكون طالب التفريق عالمًا بالعيب وقت العقد: فإن علم به قبل العقد، وعُقد الزواج لم يحقَّ له طلق التفريق، لأن قبوله التعاقد مع علمه بالعيب رضا منه بالعيب.
2 - ألا يرضى بالعيب بعد العقد: فإن كان طالب التفريق جاهلًا بالعيب، ثم علم به بعد إبرام العقد ورضي به، سقط حقُّه في طلب التفريق.
فائدتان (4):
1 - اشترط الحنفية - كذلك - أن يكون طالب التفريق سالمًا من العيوب حتى يحق له طلبه، وخالفهم الجمهور فلم يشترطوا ذلك إلا في بعض الصور.
2 - اتفق الجمهور على أن العيب القديم السابق على العقد، والمرافق له، والحادث بعده، سواء في إثبات الخيار، لأنه عقد على منفعة، وحدوث العيب بها يثبت الخيار كما في الإجارة.
_________
(1) حجة الظاهرية: أنه لم يصحَّ في الفسخ للعيب دليل في القرآن أو السنة أو الأثر عن الصحابة أو القياس أو المعقول (!!).
(2) «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 516).
(3) «السابق» (7/ 521).
(4) «الموسوعة الفقهية» (29/ 70 - 71) باختصار.

(3/397)


العيوب التي تجيز التفريق (1):
[1] العيوب الخاصة بالرجل، وهي:
(أ) الجَبُّ: وهو قطع ذَكَر الرجل وأنثييه، ومثله في الحكم عند الجمهور قطع الذكر وحده، ومثله - عند المالكية -: قطع الأنثيين دون الذكر.
والمرأة تُحرَم الاستمتاع إذا كان الرجل قد جُب ذكره بلا خلاف، ولذا أثبتوا لها حق الفسخ إذا لم تكن تعلم بعيبه قبل العقد.
(ب) العنَّة: وهي العجز عن الوطء مع سلامة العضو، وسمي بذلك - عند الجمهور - لأن الذكر يعن يمنة ويسرة ولا يطأ في الفرج، والعنة عند المالكية: هي صغر الذكر بحيث لا يتأتى به الجماع.
والعنة تمنع من حق المرأة في الاستمتاع، ولذا ثبت لها حق طلب التفريق بالقيد المذكور قبله.
وقد قال الفقهاء: يؤجل العنين للعلاج سنة، فإن استطاع الوطء خلال السنة لم يحق للمرأة طلب التفريق.
(جـ) الخصاء: وهو -عند الجمهور- قطع الأنثيين أو رضُّها أو سلُّهما دون الذكر، وعند المالكية: هو قطع الذكر دون الأنثيين.
وقد ذهب الحنفية والمالكية، وجمهور الحنابلة وبعض الشافعية إلى أن الخصاء يمنع المرأة من الاستمتاع، فأثبتوا لها حق طلب التفريق، واحتجوا لما جاء عن سليمان بن يسار: أن ابن سند تزوَّج امرأة وهو خصي، فقال له عمر: «أأعلمتها؟» قال: لا، قال: «أعلمها ثم خيِّر» (2).
[2] العيوب الخاصة بالمرأة، وهي:
(أ) الرَّتق: هو انسداد محل النكاح، بحيث لا يمكن معه الوطء، وربما كان ذلك لضيق في عظم الحوض، أو لكثرة اللحم فيه.
(ب) القَرَن: هو شيء ناتئ في الفرج يسدُّه ويمنع الوطء، وربما كان ذلك من لحم أو عظم.
_________
(1) «البدائع» (3/ 327)، و «الدسوقي» (2/ 278)، ومغنى المحتاج» (3/ 202)، و «المغنى» (7/ 125)، و «كشاف القناع» (5/ 115).
(2) صححه الألباني: انظر «إرواء الغليل» (6/ 322).

(3/398)


(جـ) العَفَل: رغوة في الفرج تحدث عند الجماع، أو هو ورم في اللحمة التي بين مسلكي المرأة فيضيق به فرجها فلا ينفذ به الذكر، وقيل: هو القرن.
(ر) الإفضاء: هو اختلاط مسلك النكاح مع مسلك البول، أو اختلاط مسلك النكاح مع مسلك الغائط.
وهذه العيوب: ذهب الجمهور إلى أنها تمنح الرجل حق طلب التفريق بسببها على خلاف عند بعضهم في اعتبار بعضها - قالوا: لأن هذه العيوب في المرأة تضيع حق الرجل في الاستمتاع، وهذا منقول عن عمر وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - ولا يعلم لهم منهم مخالف.
هل يثبت حق التفريق بالاستحاضة؟
لم يذكر الفقهاء الاستحاضة في العيوب التي تجيز التفريق، إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية (1) - رحمه الله - اعتبره عيبًا يجيز التفريق به، لأنه لا يمكن الوطء معه إلا بضرر يخافه أو أذى يحصل له والقاعدة عنده أن ما يمنع كمال الوطء، يجوز التفريق لأجله.
[3] العيوب التي يشترك فيها الرجال والنساء:
(أ) الجُنون.
(ب) الجُذام: علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها، وربما انتهى إلى تآكل الأعضاء وسقوطها مع التقرُّح.
(جـ) البَرَص: بياض يظهر في ظاهر البدن فيفسد مزاج الأعضاء، وتزداد اتساعًا مع الأيام، وربما نبت عليها شعر أبيض أيضًا، وربما كانت بقعًا سوداء.
وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار هذه الأمور من العيوب التي تجيز للزوجين طلب الفرقة، وقد نقل بعض أهل العلم إجماع الصحابة على إثبات خيار الفسخ بها (2).
قلت: ويتأيد هذا المذهب بقول عمر - رضي الله عنه-: «أيُّما امرأة غُرَّ بها رجل، به جنون أو جُذام أو برص، فلها المهر بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غرَّه» (3).
_________
(1) «مجموع الفتاوى» (32/ 172).
(2) «المجموع» (16/ 167) ط. الفكر، و «المغني» (6/ 651) ط. الرياضي الحديثة.
(3) رجاله ثقات: أخرجه مالك (2/ 526)، وعبد الرازق (10679)، والبيهقي (7/ 214) وهو صحيح إن صحَّ سماع ابن المسيب من عمر.

(3/399)


وبنحو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فرَّ من المجذوف فرارك من الأسد» (1). ففيه إثبات الضرر بالجذام ونحوه، وهذا مما يمنع حصول حق الاستمتاع والله أعلم.
فائدة:
هذه العيوب ليست للحصر، وإنما هي للتمثيل، فيلحق بها كل ما كان في معناها أو زاد عليها، ويدخل في هذا ما يسمى بمرض «الإيدز» ونحوه، نسأل الله العافية من البلاء.
وقد اختار شيخ الإسلام أن تُرَّد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع، وقال ابن القيم: «والقياس: أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة، يوجب الخيار، وهو أولى من البيع كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغرورًا قطُّ، ولا مغبونًا بما غُرَّ به وغُبن به، ومن تدبَّر مقاصد الشرع ومصادره وموارده وعدله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح- لم يخفَ عليه رجحان هذا القول، وقربه من قواعد الشريعة» (2) اهـ.
نوع الفرقة الحاصلة بالعيوب:
ذهب الحنفية والمالكية أن الفرقة للعيب طلاقٌ بائن، وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها فسخ وليست طلاقًا (3)، وهو الأقرب.
[6] التفريق لعدم الإنفاق:
اتفق أهل العلم على وجوب النفقة للزوجة على زوجها بالعقد الصحيح ما لم تمتنع من التمكين، فإذا لم يقم الزوج بها - لغير مانع من الزوجة - فهل لها أن تطلب الفُرقة لذلك؟
الجواب: أن هذا الزوج لا يخلو من حالتين:
الأولى: أن يكون له مال ظاهر يمكن للزوجة أخذ نفقتها منه، بعلم الزوج أو الوصول بغير علمه (4)، بنفسها أو أمر القاضي، فحينئذٍ ليس لها طلب التفريق، لوصولها إلى حقها بغير الفرقة فلا تمكَّن منها.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري.
(2) «زاد المعاد» (5/ 183).
(3) «الموسوعة الفقهية» (29/ 76).
(4) تقدم في «حقوق الزوجين» (أن للمرأة أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف ولو بدون علم زوجها، والحديث فيه.

(3/400)


الثانية: أن لا يكون للزوج الممتنع عن النفقة مال ظاهر، سواء أكان ذلك لإعساره، أم للجهل بحاله، أم لأنه غيَّب ماله، ففي جواز رفع الزوجة إلى القاضي وطلبها التفريق لذلك خلاف بين أهل العلم، يمكن تلخيصه في ثلاثة مذاهب (1):
الأول: يجوز التفريق لعدم الإنفاق: وهو مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة وهو مروي عن عمر وعليٍّ وأبي هريرة، وبه قال ابن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز وربيعة وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور، ومن أدلتهم:
1 - قوله تعالى: {ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا} (2).وإمساك المرأة بدون النفقة عليها إضرار بها.
2 - قوله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} (3). وإمساك الزوجة مع ترك الإنفاق عليها ليس إمساكًا بمعروف، فيتعين التسريح.
3 - حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصدقة ما ترك غنيَّ، واليد العليا خير من اليد السفلى، وأبدأ بمن تعول» تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تُطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟ قالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة (4).
وأجاب المخالفون: بأن قوله: (تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تُطلقني) ليس مرفوعًا بل هو قول أبي هريرة كما هو مصرَّح به هنا، وهو الراجح من طرق الحديث.
4 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار».
5 - عن أبي الزناد قال: سألتُ سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قال: «نعم» قلتُ: سُنة؟ قال: «سُنة» (5).
_________
(1) «الدسوقي» (2/ 518)، و «مغنى المحتاج» (3/ 442)، و «المغنى» (7/ 573)، و «الزاد» (5/ 511)، و «سبل السلام» (ص1170).
(2) سورة البقرة: 231.
(3) سورة البقرة: 229.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (5356)، وانظر: أحمد (2/ 524)، والدارقطني (3/ 296)، والبيهقي (7/ 470)، وابن حبان (5/ 150).
(5) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (2022)، وعبد الرزاق (7/ 96).

(3/401)


قال الشافعي: «ويُشبه أن يكون المقصود بقوله: سنة، أي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» اهـ (!!).
6 - عن ابن عمر قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن: «ادعُ فلانًا وفلانًا - ناسًا قد انقطعوا من المدينة وخلوا منها - فإما أن يرجعوا إلى نسائهم، وإما أن يبعثوا إليهن بالنفقة، وإما أن يطلقوا، ويبعثوا بنفقة ما مضى» (1).
7 - أن الفسخ ثبت بالعجز عن الوطء، والضرر فيه أقل من الضرر من عدم الإنفاق، لأن العجز عن الوطء إنما هو فقد لذة وشهوة يبقى البدن بدونها، فلأن يثبت الفسخ بالعجز عن النفقة- التي لا يقوم البدن إلا بها - أولى.
8 - أن النفقة في مقابل الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها - عند الجمهور - فإذا لم تجب النفقة سقط الاستمتاع، فوجب الخيار للزوجة.
9 - القياس على الرقيق والحيوان، فإن من أعسر بالإنفاق عليه أُجبر على بيعه اتفاقًا، ففي الزوجة أولى.
الثاني: لا يجوز التفريق لعدم الإنفاق: وهو مذهب الحنفية، وقول للشافعي (2)، وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا} (3). قالوا: وإذا لم يكلفه الله النفقة في هذه الحال، فقد ترك ما لا يجب عليه، ولا يأثم بتركه، فلا يكون سببًا للتفريق بينه وبين سكنه، وأجيب عن الآية بأنها دلت على سقوط الوجوب عن الزوج المعسر، وهذا يقول به الأولون.
2 - قوله تعالى: {وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} (4). قالوا: وغاية ما يقال في نفقة الزوجة أنها تكون دينًا في الذمة، وقد أعسر بها الزوج، فتكون الزوجة مأمورة بالانتظار بموجب نص هذه الآية.
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه الرزاق (7/ 93)، والبيهقي (7/ 469).
(2) «فتح القدير» (3/ 320)، و «المبسوط» (5/ 191)، و «سبل السلام» (1170)، وإلى هذا جنح ابن القيم في «الزاد» (5/ 521) إلا أنه أجاز التفريق في حالة: إذا غرَّ الرجل والمرأة بأنه ذو مال، فتزوجته على ذلك، ثم ظهر معدومًا لا شيء له، أو كان ذا مال وترك الإنفاق عليها ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم.
(3) سورة الطلاق: 7
(4) سورة البقرة: 280.

(3/402)


3 - حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد الناس جلوسًا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم -جالسًا حوله نساؤه واجمًا ساكتًا، قال: فقال: لأقولن شيئًا أُضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، لو رأيتَ بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «هنَّ حولي كما ترى يسألنني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا أبدًا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرًا ...» (1).
قالوا: فهذا أبو بكر وعمر يضربان بنتيهما بحضرته - صلى الله عليه وسلم -لما سألتاه النفقة التي لا يجدها، فلو كان الفسخ لهما وهما طالبتان للحق لم يُقر النبي - صلى الله عليه وسلم -الشيخين على ما فعلا، ولبيَّن أن لهما أن تطالبان مع الإعسار حتى تثبت على تقدير ذلك المطالبة بالفسخ.
وأجيب: بأن ضرب أبي بكر وعمر كالآية دلت على عدم وجوب عليه - صلى الله عليه وسلم -وليس فيه أنهن سألن الطلاق أو الفسخ، ومعلوم أنهن لا يسمحن بفراقه، فإن الله تعالى قد خيرهن فاخترن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -والدار الآخرة، فلا دليل في القصة، ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم -لا يفرط فيما يجب عليه من الإنفاق فلعلهم طلبن زيادة على ذلك، فتخرج القصة عن محل النزاع بالكلية.
4 - أنه كان في الصحابة المعسر بلا ريب، ولم يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -أحدًا منهم بأن للزوجة الفسخ، ولا فسخ أحد. وأجيب: بأنه لم يُعلم أن امرأة طلبت الفسخ أو الطلاق لإعسار الزوج بالنفقة ومنعها عن ذلك حتى تكون حجة، بل كان نساء الصحابة كرجالهن يصبرن عل ضنك العيش وتعسُّره، كما قال مالك: إن نساء الصحابة كنَّ يردن الآخرة فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن.
5 - ولأنها لو مرضت الزوجة، وطال مرضها حتى تعذر على الزوج جماعها لوجبت نفقتها ولم يكن من الفسخ، وكذلك الزوج، فدل على أن الإنفاق ليس في مقابلة الاستمتاع كما قال الأولون.
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1478).

(3/403)


الثالث: لا يجوز التفريق بعدم الإنفاق، بل يجب على الزوجة الموسرة أن تنفق على زوجها المعسر:
فإذا أيسر الزوج لا ترجع عليه بشيء، وهذا هو مذهب أبي محمد بن حزم (1) مستدلًا بقوله تعالى: {وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نُفْسٌ إلاَّ وسْعَهَا لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا ولا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (2).
قال: فالزوجة وارثة، فعليها النفقة بنص القرآن (!!) وتُّعقب بأن الله تعالى قد جعل على وارث المولود له، أو وارث من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على الموروث، فأين في الآية نفقة غير الزوجات حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه؟! (3).
الراجح:
الأظهر مما تقدم: القول بجواز التفريق بعدم الإنفاق للأدلة التي ذكرها الجمهور، لا سيما وقد قال به الصحابة وعملوا به، ولما فيه من رفع الضرر عن الزوجة لا سيما إذا رفض الزوج تطليقها اختيارًا أو بالاتفاق معها، على أن الأولى والأحسن أن تصبر الزوجة في إعسار زوجها وتقف بجانبه وتواسيه ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.
وأما أدلة المانعين فلا تنهض لمكافأة أدلة الجمهور، والله أعلم.
نوع هذه الفرقة؟
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الفرقة لعدم الإنفاق فسخ ما دامت بحكم القاضي، فإن طلب القاضي من الزوج طلاقها فطلقها كانت رجعية ما يبلغ الثلاث أو يكن قبل الدخول، وإلا فبائن.
وذهب المالكية إلى أنها طلاق رجعي وللزوج مراجعتها في العدة إلا أنهم اشترطوا لصحة الرجعة - هنا- أن يجد الزوج يسارًا لنفقتها الواجبة عليه (4).
_________
(1) «المحلي» (10/ 92).
(2) سورة البقرة: 232.
(3) «زاد المعاد» (5/ 518) طـ. الرسالة.
(4) «الدسوقي» (2/ 419)، و «مغنى المحتاج» (3/ 442)، و «المغنى» (3/ 442).

(3/404)


[7] التفريق بسبب الضرر (1):
يرى المالكية أن للزوجة طلب التفريق بسبب الضرر الواقع عليها من قبل الزوج، وحدُّ هذا الضرر: «كل ما يلحق الأذى أو الألم ببدن الزوجة أو نفسها أو يعرضها للهلاك، ويصدر من الزوج بقصد وتعمد، وبدون وجه حق، أو موجب شرعي لهذا الإضرار».
وهذا الضرر قد يكون ماديًّا أو معنويًّا نفسيًّا، فالمادي: كل ما يلحق الأذى ببدنها كضربها وإحداث جرح في بدنها، وكإلقاء الماء الحار عليها ونحو ذلك مما لا يجوز فعله شرعًا. والمعنوي أو النفسي: ما يلحق الألم في نفس الزوجة، كإسماعها القبيح من سب وشتم لها ولوالديها، وكترك الكلام معها وإهانتها وهجر فراشها وعدم وطئها دون مبرر شرعي.
لكن لا ينبغي أن تبادر المرأة - مع أهون ضرر - برفع طلب التفريق إلى القاضي، وإنما يكون هذا بعد استنفاد كل وسائل الإصلاح وحصول ما لا يطاق معه دوام العشرة بين أمثالها.
وقد أُخذ بمذهب المالكية في هذه المسألة في المحاكم المصرية.
ترك الوطء من الضرر المبيح لطلب التفريق:
تقدم في «حقوق الزوجين» أن وطء الرجل زوجته بالمعروف واجب في أصح قولي العلماء، ولذا قال شيخ الإسلام: «وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتضٍ للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، ولو مع قدرته وعجزه كالنفقة وأولى» اهـ (2).
نوع الفرقة في هذه الحالة:
قال المالكية - وهم أكثر الفقهاء أخذًا بالتفريق بالضرر -: الواقع بالتفريق للضرر: طلقة بائنة وذلك بأن يأمر القاضي زوجها بطلاقها، فإن امتنع طلَّق عليه القاضي (3).
_________
(1) «الدسوقي» (2/ 345)، و «مواهب الجليل» (4/ 17)، و «المفصَّل» لعبد الكريم زيدان (8/ 437).
(2) «الاختيارات الفقهية لابن تيمية» (ص: 247).
(3) «حاشية الدسوقي» (2/ 345).

(3/405)


[8] التفريق لفقد الزوج أو غيبته:
أولًا: التفريق لغيبة الزوج:
إذا غاب الزوج عن زوجته - مع علمها بمكانه وإمكان الاتصال به - فقد اختلف الفقهاء في جواز التفريق للغيبة على أقوال، مبناها اختلافهم في حكم استدامة الوطء، أو حق للزوجة مثل ما هو حق للزوج أم لا؟
فذهب الحنفية والشافعية - وهو قول للحنابلة - إلى أن دوام الوطء قضاء حق للرجل فقط، وليس للزوجة حق فيه (!!) فإذا ترك وطأها مدة لم يكن ظالمًا لها سواء كان حاضرًا أو غائبًا، وعليه: فليس لها طلب التفريق لذلك عندهم، وهذا مذهب ابن حزم (1).
بينما ذهب المالكية على أاستدامة الوطء حق للزوجة مطلقًا، وهو الأظهر عند الحنابلة إلا أنهم قيدوه بما لم يكن بالزوج عذر مانع منه كمرض أو غيره، ولذا أجازوا طلب التفريق للغيبة (2)، واشترطوا في الغيبة ليثبت التفريق بها للزوجة شروطًا، وهي:
1 - أن تكون غيبة طويلة:
واختلفوا في مدَّتها: فقال الحنابلة أكثر من ستة أشهر، واستندوا إلى ما يروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه «وقَّت للناس في مغازيهم ستة أشهر، يسيرون شهرًا، ويقيمون أربعة أشهر ويسيرون شهرًا راجعين» (3) وهذا لما سمع شكاة امرأة بالمدينة كان زوجها غائبًا عنها في سبيل الله.
وحدَّها المالكية- في المعتمد عندهم- بسنة فأكثر.
2 - أن تكون الغيبة لغير عذر، فإن كانت لعذر كالحج والتجارة وطلب العلم لم يكن لها طلب التفريق، هذا عند الحنابلة، وأما المالكية فلم يشترطوا عدم العذر، وإنما لها الحق بالغيبة مطلقًا.
_________
(1) «الأم» (5/ 239)، و «ابن عابدين» (3/ 202)، و «المحلى» (10/ 133 - 134)، و «المغني» (7/ 488).
(2) «الدسوقي» (2/ 339)، و «المغنى» (7/ 31، 488)، و «كشاف القناع» (3/ 144).
(3) أخرجه سعيد بن منصور (2463) بسند حسن وأخرجه عبد الرازق (12594) عن معمر بلاغًا، وله شواهد ذكرها ابن كثير في «تفسيره» إلا أن في بعض طرقه (أربعة أشهر) وفي بعضها ستة أشهر.

(3/406)


3 - أن تخشى على نفسها الضرر، والمراد به: الوقوع في الزنى.
4 - أن يكتب القاضي إليه بالرجوع إليه أو نقلها أو تطليقها ويمهله مدة مناسبة.
قلت: القول بجواز التفريق للغيبة أوجه بلا شك، لأن الصحيح الوطء بالمعروف حق للمرأة كما تقدم تحريره، ولقوله تعالى {ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1).
واعتبار عذر الرجل في تركه من المعروف فيُعتبر قول الحنابلة، لكن ينبغي أن يتقيد بألا تزيد غيبة المعْذور عن المدة التي تنتظرها زوجة المفقود والتي يأتي تحريرها قريبًا.
وأما تحديد مدة الستة أشهر فإن ثبت النقل به عن عمر - رضي الله عنه - فالقول قوله، وإلا فالتحديد بمدة الإيلاء (أربعة أشهر) أولى لاسيما وفي بعض الطرق أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد: «أن لا تحبسوا الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر» وقد تقدم في «مدة الإيلاء» والله أعلم.
نوع الفرقة بغيبة الزوج (2):
اتفق القائلون بجواز التفريق للغيبة على أنه لا بد فيه من قضاء القاضي، لأنه فصلٌ مجتهد فيه، فلا ينفذ بغير قضاء.
وهذه الفرقة فسخ عند الحنابلة، وعند المالكية: طلاق، ولم يصرحوا بكونه بائنًا أو رجعيًا.
هل يفرَّق على الزوج المحبوس: المحبوس غائب معلوم المكان، وعليه فإن الجمهور خلافًا للمالكية قالوا: لا يجوز التفريق عليه مطلقًا، فأما الحنفية والشافعية فلأنه غائب معلوم الحياة وهم لا يقولون بالتفريق عليه كما تقدم وأما الحنابلة فلأن غيابه لعذر.
ثانيًا: التفريق لفقدان الزوج:
إذا غاب الزوج عن زوجته غيبة منقطعة خفيت فيها أخباره، وجهلت فيها حياته، فهذا يسمى (المفقود) ومذاهب العلماء في تجويز طلب زوجة المفقود التفريق كمذاهبهم في زوجة الغائب - من حيث الجملة - لأن المفقود غائب وزيادة.
_________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) «المراجع السابقة».

(3/407)


فإذا فُقد الزوج فللعلماء في شأن زوجته أقوال (1):
الأول: لا تتزوج وليس لها طلب التفريق مهما طالت المدة حتى يتبيَّن وفاته أو تطليقه:
وهذا مذهب الحنفية والشافعي في الجديد، وبه قال ابن حزم، وحجتهم:
1 - ما يروي عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان» (2) وهو ضعيف ولا يثبت.
2 - ما يُروى عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: «إذا فقدت زوجها فلا تتزوَّج حتى يستبين أمره» (3) وعنه أنه قال في امرأة المفقود: «وهي امرأته ابتليت، فتصبر حتى يستبين موت أو طلاق» (4) وفي أسانيدها نظر.
3 - لأنها زوجة كباقي الزوجات، فلا تقع الفرقة بينها وبين زوجها إلا بما يوجب الفرقة من موت أو طلاق وليس فقدان الزوج موجبًا للفرقة.
4 - أنه لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله، فلم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته.
الثاني: تتربَّص الزوجة أربع سنين من غيبته ثم يُحكم بوفاته فتعتد بأربعة أشهر وعشر وتحلُّ بعدها للأزواج: وهو ظاهر مذهب أحمد فيمن كان ظاهر غيبته الهلاك والقول القديم للشافعي، وبه قال المالكية [إذا فقد في حالة السلم في دار الإسلام] وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة:
1 - عن ابن المسيب أن عمر - رضي الله عنه - قال: «أيُّما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو، فإنها تنتظر أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا ثم تحلُّ» (5).
_________
(1) «البدائع» (6/ 196)، و «الدسوقي» (2/ 479)، و «مغنى المحتاج» (3/ 26، 379)، و «الأم» (5/ 239)، و «المغنى» (7/ 489)، و «كشاف القناع» (3/ 267)، و «المحلي» (10/ 133).
(2) ضعيف: أخرجه البيهقي (7/ 445).
(3) ذكره البيهقي (7/ 446) وقال شيخنا في «جامع أحكام النساء» (4/ 201) في أسانيدها نظر.
(4) عزاه في لحافظ في «الفتح» (9/ 340 - سلفية) إلى أبي عبيد في «النكاح» وذكر في «المغنى» (7/ 491) أنه مرسل.
(5) صحيح لطرقه: أخرجه مالك (1219)، وعبد الرازق (7/ 88)، وسعيد بن منصور (1752)، والبيهقي (7/ 445).

(3/408)


2 - وعنه أن عمر وعثمان قضيا في المفقود أن امرأته تتربَّص أربع سنين وأربعة أشهر وعشرًا بعد ذلك، ثم تزوج، فإن جاء زوجها الأول خيرِّ بين الصداق وبين امرأته» (1).
3 - عن جابر بن زيد «عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: تنتظر امرأة المفقود أربع سنين، قال ابن عمر: ينفق عليها في الأربع سنين من مال زوجها، لأنها حبست نفسها عليه ...» الأثر (2).
4 - أنه لا يصح خلاف هذا عن أحد من الصحابة.
وعند الحنابلة - وهو اختيار شيخ الإسلام - لا يشترط لتربُّص الزوجة المدة المقررة لها، ووقوع الفرقة بعدها حكم حاكم (3).
الثالث: لا وجه لتربُّصها ولها أن تطالب الحاكم بالفسخ: وهذا القول نقله الصنعاني عن الإمام يحيى، واستحسنه، واختاره شيخنا - رفع الله قدره - وقيَّد طلبها للتفريق بخشية الوقوع في الفتنة (4).
ومأخذ هذا القول عموم الأدلة الرافعة للضرر، كقوله تعالى {ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا} (5). وقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا ضرر ولا ضرار» (6).
وأنه قد شُرع التفريق لرفع المضارة في الإيلاء والظهار وللعيوب ونحو ذلك، وهو هنا أبلغ، وأما المدة التي تتربَّصها فليس فيها شيء مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم تكن لازمة.
قلت: أما جواز طلب المرأة المفقودة زوجها التفريق لفقده فلا شك أن قواعد الشريعة وأصولها يؤيده، وكذلك قال به الصحابة - رضي الله عنهم-، لأن تضرُّر المرأة حاصل بفقد زوجها إلا فيما ندر، لكن الذي ينبغي تحريره: ما الأجل الذي يُضرب لها لانتظاره ثم يجوز لها طلب الفسخ بعده؟ وهل حكم عمر ومن معه من الصحابة بانتظار الأربع سنوات مُلزم؟
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 85).
(2) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1/ 402).
(3) «كشاف القناع» (3/ 267)، و «الاختيارات الفقهية» (ص 281).
(4) «سبل السلام» (ص1143)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 202) لشيخنا مصطفى العدوي حفظه الله.
(5) سورة البقرة: 231.
(6) حسن: تقدم قريبًا.

(3/409)


فلقائل أن يأخذ بقول عمر ومن معه من الصحابة لأنه لا يصح خلافه عن أحد منهم، ويكون لهذا القول وجهه، ولآخر أن يقول: «آراء الصحابة إن هي إلا اجتهاد منهم، والذي نعتقده حقًّا هو أن مرجع الأمر للحاكم فله أن يقدر الوقت لها، وذلك يختلف باختلاف الأزمان، فإذا كان في عصر الصحابة مقدرًا بأربع سنين كما ذهب إليه أو حكم به عمر بن الخطاب، وهو إنما قاله بما كان له من سلطة الحكم، وعصرهم لم تكن فيه الأخبار سريعة التدوال بين البلدان، ومن الصعب وصول خبر من قُطر إلى آخر إلا بعد مدة طويلة، فقد يجوز في زماننا هذا أن يقدر الأجل بسنة واحدة ...» (1) وهذا اختيار العلامة أحمد شاكر، رحمه الله. قلت: ولهذا القول وجاهته لاسيما وقد تيسرت وسائل الاتصالات الحديثة، ولما فيه من رفع الضرر عن المرأة لاسيما في زمان الفتنة، فالذي يظهر أن المرأة إذا خشيت الفتنة ترفع أمرها إلى القاضي لينظر فيه فإن رأى المصلحة في فسخ النكاح فعل والله أعلم.
نوع الفرقة للفقد (2):
إذا لم ترفع المرأة المفقود زوجها أو أحدٌ من ورثته أمره للقاضي، فهو حي في حق زوجته العمر كله بالاتفاق.
فإذا رفع إلى القاضي وقضى بموته انقضت الزوجية حكمًا من تاريخ حكم الوفاة، وبانت زوجته واعتدَّت للوفاة، وهي ببينونة وفاة لا بينونة طلاق أو فسخ.
إذا عاد المفقود بعد الحكم بالتفريق: فهذا له حالات ثلاث:
الأولى: أن يعود المفقود، وزوجته لم تتزوج: فهي امرأته بنكاحها الأول معه، ولا تحتاج إلى تجديد النكاح معه، لأننا إنما أبحنا لها الزواج، لأن الظاهر موت زوجها، فإذا بان حيًّا انخرم ذلك الظاهر، وكان النكاح بحاله، كما لو شهدت البيِّنة بموته ثم بان حيًّا (3).
الثانية: أن يعود بعد أن تزوجت زوجته، وقبل دخول الثاني بها: فهي زوجة
_________
(1) حاشية «الروضة الندية» (2/ 56).
(2) «ابن عابدين» (2/ 656)، و «الدسوقي» (2/ 479)، و «مغنى المحتاج» (3/ 397)، و «المغنى» (7/ 489).
(3) «الفتاوى الهندية» (2/ 300)، و «الدسوقي» (2/ 480)، و «المجموع» (16/ 616)، و «المغنى» (7/ 492).

(3/410)


الأول كذلك عند الجمهور (مالك والشافعي واحمد) لأن نكاحها إنما صحَّ في الظاهر دون الباطن فإذا قدم المفقود تبيَّنا أن نكاح امرأته كان باطلًا، لأنه صادف امرأة ذات زوج، وليس على الثاني حينئذٍ مهر، لأنه فاسد لم يتصل به دخول (1).
الثالثة: أن يعود بعدما تزوجت زوجته ودخل الثاني بها:
فقد ثبت عن عمر وعثمان أنهما قضيا في المفقود «أن امرأته تتزوَّج، فإن جاء زوجها الأول خيِّر بين الصداق وبين امرأته» (2).
وبه قال الحنابلة: فإن اختار المفقود زوجته فهي زوجته بالعقد الأول، لأن نكاحها من الثاني كان باطلًا، وإن اختار تركها فإنه يرجع على الثاني (أي: يأخذ منه) بصداقها، قيل: الذي كان دفعة لها أولًا - وهو قضاء الصحابة- وقيل يأخذ المهر الذي دفعه الثاني (!!) (3).
واختار شيخ الإسلام أنها تكون زوجة الثاني ظاهرًا وباطنًا.
[9] التفريق بإسلام أحد الزوجين أو وردَّته:
(أ) إذا أسلمت المرأة وزوجها كافر: فإنه يفرَّق بينهما لعدم جواز بقاء المسلمة تحت الكافر، قال الله تعالى: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (4).
واختلف أهل العلم في نوع هذه الفرقة وفي أثرها إذا أسلم زوجها بعد ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: تبيُن منه بمجرد إسلامها، فإن أسلم بعدها - ولو بلحظة - لزمه إن رضيت عقدَ جديد: وهو مذهب ابن عباس وعطاء وطاووس وفقهاء الكوفة (5) وأبي ثور واختاره ابن المنذر وابن حزم وهو رواية عن أحمد وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (6). فالإسلام سبب الفرقة، وما كان سببًا للفرقة تعقبه فرقة كالرضاع والخلع والطلاق.
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) إسناده صحيح: تقدم قريبًا.
(3) «المغني» (7/ 492 - 493).
(4) سورة الممتحنة: 10.
(5) وشرط أهل الكوفة أن يُعرض على زوجها الإسلام في تلك المدة فيمتنع، إن كانا معًا في دار الإسلام.
(6) سورة الممتحنة: 10.

(3/411)


2 - عن ابن عباس قال: «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه» (1).
وفي رواية: «يفرِّق بينهما الإسلام، لأنه يعلو ولا يعلى عليه» (2).
3 - وسئل عطاء عن امرأة من أهل العهد أسلمت، ثم أسلم زوجها في العدة، أهي امرأته؟ قال: «لا، إلا أن تشاء هي بنكاح جديد وصداق» (3).
الثاني: تعتدُّ منه، فإن أسلم في عدتها فهي امرأته، وإلا لزمه إن رضيت عقد جديد:
وهذا مذهب الجمهور، منهم: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وحجتهم:
1 - ما رُوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّ ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد» (4) وهو حديث ضعيف.
2 - وقال مجاهد: «إذا أسلم في العدة يتزوَّجها» (5).
3 - وقد ادَّعى ابن عبد البر الإجماع على عدم جواز تقرير بقاء المسلمة تحت الكافر إذا تأخَّر إسلامه عن إسلامها حتى انقضت عدتها، وهو منقوض بالمنقول عن على والنخعي.
الثالث: النكاح موقوف: فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، وإن انقضت عدتها، فلها أن تنكح من شاءت، وإن أحبت انتظرته، فإن أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى تجديد نكاح: وهو مذهب عمر وعليّ رضي الله عنهما واختاره ابن القيم والصنعاني والشوكاني، وحجتهم:
1 - حديث ابن عباس قال: «وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تُخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حلَّ لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح رُدَّت إليه ...» الحديث (6).
_________
(1) علَّقه البخاري (9/ 330) بصيغة الجزم ووصله ابن أبي شيبة.
(2) إسناده صحيح: أخرجه الطحاوي.
(3) علَّقه البخاري بصيغة الجزم (9/ 330) ووصله ابن أبي شيبة.
(4) ضعيف: أخرجه الترمذي (1142)، وابن ماجه (2010)، وأحمد (6938) وضعَّفه وكذلك الترمذي.
(5) علَّقه البخاري (9/ 330) ووصله الطبري.
(6) أخرجه البخاري (5286) وهو مما انتُقد عليه، انظر «مقدمة الفتح» (ص 375).

(3/412)


2 - حديث ابن عباس قال: «ردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحًا» (1). وفيه ضعف، وله شواهد مرسلة.
قال ابن القيم: «وهو [أي: أبو العاص] إنما أسلم زمن الحديبية، وهي أسلمت من أول البعثة فبين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة، وأما قوله في الحديث: «كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين» فوهم، إنما أراد: بين هجرتها وإسلامه» اهـ.
3 - عن عبد الله بن يزيد الخطمي: «أن نصرانيًّا أسلمت امرأته، فخَّيرها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه» (2).
ومعلوم بالضرورة أنه إنما خيَّرها بين انتظاره إلى أن يُسلم فتكون زوجته كما هي، أو تفارقه.
4 - قال ابن القيم: «ولم يزل الصحابة يُسلم الرجل قبل امرأته، وامرأته قبله ... ولا نعلم أحدًا جدد للإسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد أمرين: إما افتراقهما ونكاحها غيره، وإما بقاؤها عليه وإن تأخرَّ إسلامها أو إسلامه، وأما تنجيز الفُرقة أو مراعاة العدة، فلا نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم في عهده من الرجال وأزواجهم، وقرب إسلام أحد الزوجين وبُعده منه، ولولا إقراره - صلى الله عليه وسلم -الزوجين على نكاحهما، وإن تأخرَّ إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح، لقلنا بتعجيل الفُرقة بالإسلام من غير اعتبار العدة، لقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (3). وقوله: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (4).
قال الشوكاني: «وهذا كلام في غاية الحسن والمتانة» اهـ. قلت: نعم، وهذا ما تقضيه الأدلة، وإن خالف الأكثرين، لكن هنا تنبيه ينبغي الإشارة إليه:
_________
(1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (2240)، والترمذي (1143)، وابن ماجه (2009) وغيرهم، وله شواهد مرسلة صحيحة عند ابن سعد في «الطبقات»، وعبد الرازق (12647)، والطحاوي (2/ 149)، فربما يتقوَّى بها.
(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن حزم في «المحلي» (7/ 313).
(3) سورة الممتحنة: 10.
(4) سورة الممتحنة: 10.

(3/413)


تنبيه: قولنا: تبقى عليه على العقد الأول وإن تأخر إسلامه ما لم تتزوَّج غيره، لا يعني أنها زوجته ما لم تتزوَّج (!!) لأنها محرَّمة عليه بنص القرآن، فلا يجوز لها أن تمكث في بيته إذا هي أجنبية عنه، خلافًا لما يفتى به - في هذه الأيام - بعض (الدكاترة المتفتحين!!) سبحان الله، نحلُّ لها الحرام حتى نرغِّبها في الإسلام؟!! نعوذ بالله من الخذلان.
أقول: غاية ما في الأمر أن زوجها إذا أسلم بعدها فوجدها خليَّة لم تتزوَّج فهو أحق بها ولا يحتاج إلى تجديد عقد، والله أعلم.
(ب) وإذا أسلم الرجل وزوجته كافرة:
1 - فإن كانت كتابية، فهما على نكاحهما، لأنه يصح الزواج بينهما ابتداءً من الأصل، فيكون بقاء الزواج بينهما أولى.
2 - وإن كانت كافرة - غير كتابية- فُرِّق بينهما لقوله تعالى: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (1).
فإن أسلمت بعده فهي امرأته على نكاحها الأول، كما تقدم.
(جـ) إذا ارتدَّ أحد الزوجين المسلمين:
فإن الفُرقة تقع بينهما، على تفصيل الخلاف المتقدم في إسلام أحدهما، فإن عاد المرتد إلى الإسلام كان حكمه حكم إسلام من كان باقيًا على الكفر، وقد تقدم.

الحضانة
تعريف الحضانة (2):
الحضانة: مصدر من: حضن الصبي حضنًا وحضانة، أي: جعله في حضنه أو ربَّاه فاحتضنه، والحضن هو ما دون الإبط إلى الكشح والصدر أو العضدان وما بينهما وجانب الشيء أو ناحيته.
والحضانة اصطلاحًا: حفظ من لا يستقلُّ بأمره وتربيته ورقابته عما يهلكه أو يضرُّه ولا يرد تطبيق أحكام الحضانة - غالبًا - إلا في حال الفرقة بين الزوجين
_________
(1) سورة الممتحنة: 10.
(2) «أحكام الطفل» (ص: 212) لشيخنا أحمد العيسوي - نضَّر الله وجهه - وانظر «القاموس المحيط»، و «البدائع» (4/ 40)، و «مغنى المحتاج» (3/ 452)، و «كشاف القناع» (5/ 576).

(3/414)


ووجود أولاد دون السن التي يستغنى فيها الصغير عن النساء، وذلك أن الولد يحتاج إلى نوع من الرعاية والحماية والتربية والقيام بما يصلحه، وهذا ما يعرف بالولاية.
حُكمها (1):
الحضانة واجبة، لأن المحضون يهلك بتركها، فوجب حفظه من الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك.
والحضانة - عند المحققين - تتعلق بها ثلاث حقوق معًا: حق الحاضنة، وحق المحضون، وحق الأب أو من يقوم مقامه، فإن أمكن التوفيق بين هذه الحقوق وجب المصير إليه، وإن تعارضت قُدِّم حق المحضون على غيره، ويتفرَّع على هذا الأحكام التالية:
1 - تجبر الحاضنة على الحضانة إذا تعيَّنت عليها، بأن لم يوجد غيرها.
2 - لا تجبر الحاضنة على الحضانة إذا لم تتعيَّن عليها، لأن الحضانة حقها، ولا ضرر على الصغير لوجود غيرها من المحارم.
3 - لا يصح للأب أن يأخذ الطفل من صاحبة الحق في الحضانة، ويعطيه لغيرها إلا لمسوِّغ شرعي.
4 - إذا كانت المرضعة غير الحاضنة للولد، فعليها إرضاعه عندها حتى لا يفوت حقها في الحضانة.
ترتيب المستحقين للحضانة (2):
لما كان نساء أعرف بالتربية وأقدر عليها وأصبر وأرأف وأفرغ لها وأشد ملازمة للطفل قُدِّمن على الرجال في حضانة الطفل، وهذا في سنٍّ معينة، وبعدها يكون الرجال أقدر على التربية من النساء.
الأم أحقٌ الحاضنات:
وإذا كان النساء مقدمات على الرجال في الحضانة، فإن أم الطفل أحقُّ
_________
(1) «المراجع السابقة» مع «المغنى» (7/ 612)، و «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 718).
(2) «البدائع» (4/ 41 - 44)، و «فتح القدير» (10/ 313)، و «القوانين الفقهية» (224)، و «المراجع السابقة»، و «زاد المعاد» (5/ 437 - وما بعدها)، و «مجموع الفتاوى» (34/ 123).

(3/415)


بحضانته- بعد الفرقة بطلاق أو وفاة أو زواج من غيرها - بالإجماع لوفور شفقتها، إلا إذا وُجد مانع يمنع استحقاقها للحضانة كما سيأتي قريبًا، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي» (1).
ترتيب الحضانات بعد الأم:
تقدم أن أم الطفل هي الأحق بحضانته من غيرها بالاتفاق، لكن إذا وُجد مانع - مما سيأتي- من تقديمها، فقد تضاربت أقوال الفقهاء واختلفت في ترتيب المستحقات لحضانة الطفل:
1 - فعند الحنفية: تقدَّم الأم، ثم أم الأم، ثم أم الأب، ثم الأخوات، ثم الخالات، ثم بنات الأخت، ثم بنات الأخ، ثم العمات، ثم العصبات بترتيب الإرث.
2 - وعند المالكية: الأم، ثم الجدة لأم، ثم الخالة، ثم الجدة لأب، وإن علت، ثم الأخت، ثم العمة، ثم ابنة الأخ، ثم للوصي، ثم للأفضل من العصبة.
3 - وعند الشافعية: الأم، ثم أمُّ الأم، ثم أمُّ الأب، ثم الأخوات، ثم الخالات، ثم بنات الأخ وبنات الأخت، ثم العمَّات، ثم لكل ذي محرم وارث من العصبات على ترتيب الإرث، فهم قد وافقوا الحنفية.
4 - وعند الحنابلة: الأم، ثم أمُّ الأم، ثم أمُّ الأب، ثم الجد ثم أمهاته، ثم الأخت لأبوين، ثم الأخت لأم، ثم لأب، ثم خالة لأبوين، ثم لأمِّ ثم لأبٍ، ثم عمه، ثم خالة أم، ثم خالة أب، ثم عمته، ثم بنت أخ، ثم بنت عم أب، ثم باقي العصبة الأقرب فالأقرب.
قلت: سبب وجود هذا الاختلاف، عدم وجود النص القاطع في المسألة، لكننا نلحظ تقديم أكثرهم أقارب الأم على أقارب الأب عند التساوي في القرب، ولعلهم استندوا في هذا إلى تقديم الأم على الأب فأخذوا منه تقديم جنس نساء الأم على نساء الأب، وربَّما ساعدهم على وضع هذا الضابط ما يلي:
_________
(1) حسن: أحرجه أبو داود (2276)، وأحمد (2/ 182)، والبيهقي (8/ 4).

(3/416)


1 - حديث البراء في اختصام على بن أبي طالب وزيد وجعفر في حضانة ابنة حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: «قال عليٌّ: أنا أخذتُها وهي بنت عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم» (1).
2 - حديث القاسم بن محمد قال: كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار، فولدت له عاصم بن عمر، ففارقها، فجاء عمر قباء فوجد ابنه يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه، حتى أتيا أبا بكر الصديق، فقال عمر: ابني، وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكر: «خلِّ بينها وبينه».
قال: فما راجعه عمر الكلام (2).
وخالف في هذا شيخ الإسلام - وهو رواية أحمد (3) - فقال: «يقدَّم من النساء من كُنَّ من جهة الأب على اللائي من جهة الأم، وما سوى ذلك من تقديم نساء الأم على نساء الأب فهو مخالف للمنصوص والمعقول» قلت: يعني إذا تساووا في درجة القرابة، وإلا فيقدم الأقرب، ومأخذ هذا الضابط
«أن مجمع أصول الشرع إنما يقدم أقارب الأب في الميراث والعقد والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، ولم يقدم الشرع قرابة الأم في حكم من الأحكام، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة».
وأجاب أصحاب هذه الاتجاه عن حديث ابنة حمزة بجوابين (4):
الأول: أن الشرع قدم خالة ابنة حمزة لأنها تحت ابن عمها جعفر ممل جعل عليًّا دونه وإن كان ابن عمِّها أيضًا، فكان وجه التقدم: وجود الخالة تحت من له حق الحضانة (!!).
الثاني: أن عمة ابنة حمزة (صفية بنت عبد المطلب - رضي الله عنها -) لم تطلب حضانتها، وقد طلبها جعفر نائبًا عن خالتها فقضى الشارع بها لها في غيبتها، ولو كانت طلبتها عمتها لكانت الأحق.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4251)، والترمذي (1905 - مختصرًا)، وأبو داود (2278).
(2) إسناده منقطع: أخرجه مالك، والبغوي (9/ 323).
(3) «مجموع الفتاوى» (34/ 123)، و «الإنصاف» (9/ 419).
(4) «الإنصاف» للمرداوي (9/ 419).

(3/417)


وأجابوا عن أثر عمر مع جدة ابنه، بأنه ليس فيه تقديم لجنس نساء الأم على جنس نساء الأب في الحضانة، فعمر لم تكن له أمٌّ حتى يقال: إن أم مطلَّقته قدِّمت عليها في الحضانة.
قلت: الذي يظهر لي أن الخالة تُقدَّم على غيرها، لأنها بمنزلة الأم بالنصِّ، ثم يكون الترتيب بعد ذلك باعتبار الأرفق بالصغير والأخبر بتغذيته وحمله والأصبر على ذلك، لأن هذا هو المناط في تقديم النساء على الرجال في الحضانة، بصرف النظر عن كون الحاضنة من أقارب الرجل أو المرأة، والله أعلم بالصواب.
فائدة: إذا لم يكن للمحضونة من أحد من النساء المذكورات انتقلت الحضانة إلى الرجال على ترتيب العصبات الوارثين المحارم.
شروط استحقاق الحضانة (1):
اشترط الفقهاء في الحضانة شروطًا لا بد من توفرها، وإلا سقط حقها في الحضانة، فإليك هذه الشروط مع التعليق عليها:
1، 2 - العقل والبلوغ: فلا حضانة لمعتوه أو مجنون أو صغير ولو كان مميزًا لأنهم في حاجة إلى من يتولى أمرهم ويحضنهم، فلا يتولوا أمر غيرهم.
3 - اتفاق الحاضنة والمحضون في الدين: فلا حضانة لكافر على مسلم، لوجهين:
الأول: أن الحاضن حريص على تربية الطفل على دينه فيصعب على الطفل بعد ذلك أن يتحول عنه، وهذا أعظم ضرر يلحق بالطفل، وهو ما صرَّح به النبي - صلى الله عليه وسلم -حيث قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» (2) فلا يؤمَن على دين الطفل مع كون الحاضن كافرًا.
الثاني: أن الحضانة ولاية وقد قال تعالى: {ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (3).ولذا جرى العمل على أنه إذا أسلم أحد الأبوين فالولد مع المسلم منهما، يشير إلى هذا حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كُنت أنا وأمي من المستضعفين: أنا من الوالدان وأمي من النساء» (4) يعني: في الهجرة، قال
_________
(1) «البدائع» (4/ 41)، و «الشرح الصغير» (2/ 758)، و «مغني المحتاج» (3/ 454)، و «كشاف القناع» (5/ 579)، و «المعاد» (5/ 549)، وما بعدها و «أحكام الطفل» (ص 213).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6599)، ومسلم (2688).
(3) سورة النساء: 141.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1357).

(3/418)


البخاري: «ولم يكن أبيه على دين قومه» وهذا من فقهه - رحمه الله - ومبناه على أن إسلام العباس كان بعد وقعة بدر كما رجحه الحافظ في الفتح (3/ 261).
وعن رافع بن سنان: أن أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -فقالت: ابنتي وهي فطيم - أو شبهه - وقال رافعُ: ابنتي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقعد ناحية» وقال لها «اقعدي ناحية» قال: وأقعد الصبيَّة بينهما، ثم قال: «ادعواها» فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اهدها» فمالت الصبية إلى أبيها فأخذها» (1).
قال ابن القيم (2): وهذا يدل على أن كونها مع الكافر خلاف هُدى الله الذي أراده من عباده» اهـ.
4 - القدرة على التربية: فلا حضانة لكفيفة أو مريضة أو مقعدة أو نحو ذلك مما يلحق الضرر بالطفل ويؤدي إلى إهماله وضياعه.
5 - أن لا تكون الأم متزوجة: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -في الحديث المتقدم: «أنت أحق به ما لم تنكحي» (3) ونقل ابن المنذر الإجماع على أن الأم إذا نكحت سقط حقها في الحضانة، لكن خالف في هذا الحسن البصري (!!) وابن حزم، فهو قول الجماهير على كلِّ حال ويؤيده نص الحديث.
وهل يشترط في الحاضنة - غير الأم - أن لا تكون متزوجة بأجنبي؟ اشترط ذلك أكثر أهل العلم للحديث السابق، ولأنه يعامل الطفل بقسوة وكراهية، ولأنها مشغولة عنه بحق الزوج.
بخلاف ما إذا كانت متزوجة بقريب محرم للمحضون.
قلت: يرد على هذا حديث ابنة حمزة، فقد قضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -لخالتها وهي زوجة جعفر ابن عمها وليس من محارمها، والظاهر أن اشتراط عدم الزواج بأجنبي مختص بالأم، لما عُرف من المرأة المطلقة يشتد بغضبها لمطلِّقها ومن يتعلق به، فقد يبلغ بها الشأن إلى إهمال ولدها منه قصدًا لإغاظته، وتبالغ في التحبب عند الزوج الثاني بتوفير حقِّه، وبهذا يجتمع شمل الأحاديث كما أفاده الصنعاني - رحمه الله - (4).
_________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (2244)، والنسائي (3495).
(2) «زاد المعاد» (5/ 460).
(3) حسن: تقدم قريبًا.
(4) «سبل السلام» (ص: 1180).

(3/419)


6 - العدالة (عدم الفسق): ولا وجه لاعتبار العدالة وعدم الفسق شرطًا في الحاضنة، ولو كان شرطًا لكان بيان هذا للأمة من أهم الأمور ولنقل العمل به، فإنه لم يزل منذ بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم بربُّونهم لا يتعرض لهم أحد مع كثرتهم ولم يُعلم أنه انتزع طفل من أبويه أو أحدهما لفسقه، ثم إن العادة شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق يحتاط لابنته ولا يضيِّعُها ويحرص على الخير لها بجهده (1). فهذا الشرط باطل.
7 - الحريَّة: وقد اشترطها الجمهور في الحاضن، قالوا: لأن المملوك لا ولاية له على نفسه فلا يتولى غيره، والحضانة ولاية.
وقال مالك في حر له ولد من أمته: (إن الأم أحق ما لم تُبع فتنتقل فيكون الأب أحق به) واستدل بعموم حديث: «لا تُولَّهُ والدة عن ولدها» (2) وحديث: «من فرّق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (3).
قلت: وهو الصحيح لأنها أمُّه وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأم: «أنت أحق به ما لم تنكحي».
ولذا قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما اشتراط الحرية فلا ينتهض عليه دليل يركن القلب إليه. اهـ.
هل تجب للحاضن أجرة على الحضانة؟
لا تستحق الحاضنة أجرة على الحضانة إذا كانت زوجة أو معتدة لأبي المحضون في أثناء العدة، كما لا تستحق أجرًا على الإرضاع، لو جوبهما عليها ديانة، ولأنها تستحق النفقة أثناء الزوجية والعدة، وهذه النفقة كافية للحضانة، قال تعالى {والْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (4).
أما بعد انقضاء العدة فإنها تستحق أجرة الحضانة لأنها أجرة على عمل كالرضاعة، قال تعالى: {فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
_________
(1) «زاد المعاد» (5/ 461)، «سبل السلام10» (ص: 1178).
(2) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 5).
(3) حسن: أخرجه الترمذي (1283)، وأحمد (5/ 412)، والدرامي (2/ 227)، والحاكم (2/ 55) وصححه.
(4) سورة البقرة: 233.

(3/420)


وأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وإن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (1). وكذلك تستحق الحاضنة غير الزوجة أجرة الحضانة مقابل قيامها بعمل من الأعمال، هذا بخلاف أجرة الرضاع، ونفقة الطفل (2).
انتهاء مدة الحضانة وما يترتَّب عليه:
إذا استغنى الطفل عن الخدمة وبلغ سن التمييز، وقدر على القيام وحده بحاجاته الأولية كالأكل والشرب واللبس ونحو ذلك - فإنه تنتهي مدة حضانته، وليس لهذا الاستغناء سنُّ معينة، فلذا فانه يترك للقاضي تحديد هذا السنِّ بحسب تقديره لحال الطفل ومصلحته (3).
فإذا حُكم بانتهاء مدة الحضانة، فماذا يُفعل بالطفل؟ إذا اتفق الأبوان إقامته عند أحدهما أمضى هذا الاتفاق، أما لو تنازعا (4):
[1] بالنسبة للغلام: للعلماء في الغلام بعد انتهاء الحضانة ثلاثة مذاهب:
الأول: الأب أحق به: وهو مذهب أبي حنيفة، لأن الغلام إذا استغنى يحتاج إلى التأديب والتخلُّق بأخلاق الرجال واكتساب العلوم، والأب على ذلك أقدر وأقوم، قال: ولا يخيَّر، ولا يعرف حظه، وربما اختار من يلهو عنده ويترك تأديبه ويمكنه من شهواته فيؤدي إلى فساده.
الثاني: الأم أحق به حتى يبلغ: وهو مذهب مالك.
الثالث: أنه يُخيَّر بينهما: وهو مذهب الشافعي وأحمد، لحديث أبي هريرة: أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي
عنبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استهما عليه» فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت» فاخذ بيد أمه فانطلقت به (5).
_________
(1) سورة الطلاق: 6
(2) «حاشية ابن عابدين» (2/ 876).
(3) نص القانون المصري على أن حق الحضانة ينتهي عند بلوغ الصغير سبع سنين، وبلوغ الصغيرة تسع سنين.
(4) «البدائع» (2/ 42)، و «القوانين» (ص 224)، و «مغنى المحتاج» (3/ 456)، و «المغنى» (7/ 614).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2277)، والنسائي (3496)، والترمذي (1357)، وابن ماجه (2351).

(3/421)


وظاهرة تقديم القرعة على التخيير، لكن قدِّم التخيير عليها لعمل الخلفاء الراشدين به، فقد صحَّ عن عمر - رضي الله عنه - أنه: «اختُصم إليه في صبي، فقال: هو مع أمه حتى يُعرب عنه لسانه فيختار» (1).
ورُوي عن عمارة بن رؤيبة: «أن عليِّا - رضي الله عنه - خيَّره بين أُمِّه وعمِّه فاختار أمِّهُ، فقال له: أنت مع أمك، وأخوك هذا إذا بلغ ما بلغت خُيِّر كما خيِّرت، قال: وأنا غلام» (2) وفي سنده ضعف.
وهذا هو الراجح للحديث وأثر عمر، على أنه قد ذكر ابن القيم - رحمه الله- أن التخيير والقرعة لا يكونان إلا إذا حصلت به مصلحة الولد، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدِّمت عليه ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك فلا التفات إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له، ولا تحتمل الشريعة غير هذا، ومتى أخلَّ أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطّله والآخر مُراعٍ له فهو حق وأولى به (3).
[2] بالنسبة للصغيرة: فللعلماء فيها أقوال: فقال المالكية: تبقى عند أمِّها حتى تتزَّوج ويدخل بها زوجها، وقال الحنفية وهو قول لأحمد: أنها إذا بلغت المحيض تضم إلى أبيها، وقال الحنابلة - في المذهب -: إذا بلغت سبعًا ضُمَّت إلى أبيها.
فاتفق الأئمة الثلاثة على أنها لا تخيَّر، وقال الشافعي: تخيَّر كالغلام، وتكون عند من تختار منهما.
واختار شيخ الإسلام أنها لا تخيَّر، بل تجعل عند أحد الأبوين إذا كان يلتزم طاعة الله تعالى في تربيتها، فإن لم تحصل طاعة الله ورسوله بمقامها عند أحدهما، مع حصول ذلك عند الآخر، قدم الآخر قطعًا (4).
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرازق (126.6)، وسعيد بن منصور (2263).
(2) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرازق (126.9)، وسعيد بن منصور (2265)، والبيهقي (8/ 4).
(3) «زاد المعاد» (5/ 474)، و «سبل السلام» (ص 1177).
(4) «مجموع الفتاوى» (34/ 130 - 132).

(3/422)


12 - كتاب المواريث

(3/423)


عِلْم المواريث (الفرائض)
تعريفه: هو علم بأصول - من فقه وحساب - تتعلق بالمواريث ومستحقيها، لإيصال كل ذي حق إلى حقِّه من التركة (1).
وقد سمَّي النبي - صلى الله عليه وسلم -المواريث: الفرائض، فقال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر» (2).
والفرائض: جمع فريضة، من الفرض بمعنى التقدير، كما قال تعالى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (3) أي: قدَّرتم، فالفرائض: الأنصبة المقدَّرة للورثة.
ويطلق على المال الموروث: «الإرث» و «الميراث» و «التركة».
شرفه وأهميته:
وعلم المواريث من أرفع العلوم قدرًا، وأجلِّها أثرًا، ويكفي في شرفه أن الله تبارك وتعالى قد فصَّلها وأوضح معالمها في كتابه، فحدَّد أنصبتها، ووزَّع فرائضها بنفسه سبحانه، تأكيدًا على ضرورة أن ينال كل وارث نصيبه المقدَّر على وفق حكمته سبحانه، فهو - وحده - العالم بما يصلح العبد وبما يفسده، وهو الخبير بالمستحق للمال من غيره {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (4) وفي هذا منع للتنازع والخصومة، لأن الذي فصَّل هذه الأنصبة وبيَّنها هو من لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه وأمره.
ومن هنا جاءت أهمية دراسة هذا العلم الشريف، وقد رُوي من فضل هذا العلم وأهميته جملة أحاديث، لكنها لا تثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيما تقدم غُنية عنها، ولا بأس أن أذكر بعضها تنبيهًا على ضعفها، فمن ذلك:
1 - ما رُوى عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة» (5).
_________
(1) هذا التعريف صغته من مجموع تعاريف أهل العلم، وانظر: «ابن عابدين» (5/ 499)، و «الدسوقي» (4/ 456)، و «نهاية المحتاج» (6/ 2)، و «العذب الفائض» (1/ 62).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6735)، ومسلم (1615) عن ابن عباس.
(3) سورة البقرة: 237.
(4) سورة الملك: 14.
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (2885)، وابن ماجة (54) وغيرهما بسند ضعيف.

(3/424)


2 - ما رُوي مرفوعًا: «يا أبا هريرة، تعلموا الفرائض، وعلِّموه، فإنه نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أول شيء يُنتزع من أمتي» (1).
3 - ما رُوي عن ابن مسعود مرفوعًا: «تعلموا القرآن وعلموه الناس، وتعلَّموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وسيقبض هذا العلم من بعدي حتى يتنازع الرجلان في فريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما» (2).
وهذه الأحاديث وغيرها على ضعفها- مع تعدد مخارجها - تُشعر بأن لها أصلًا.
الحقوق المتعلقة بالتركة:
إذا مات الإنسان وترك مالًا، فإن هذا المال (التركة) يتعلق به خمسة حقوق يقدَّم بعضها على بعض، مرتبة - عند ضيق التركة - على هذا الترتيب:
1 - تكاليف تجهيز الميت (3): من تغسيل وتكفين ودفن، ونحو ذلك، من غير إسراف ولا تقتير، وإنما قدمت على الدَّيْن وغيره، لأنها بمثابة الكسوة الشخصية للحي، فلا تنزع عنه لوفاء الدَّيْن.
2 - الديون المتعلقة بعين من أعيان التركة: كدَيْن برَهْنٍ - من التركة - ونحو ذلك.
3 - الديون المرسلة في الذمة: أي التي لا تتعلق برهَن عين من أعيان التركة، سواء كانت حقًّا لله تعالى كزكاة أو كفارة أو صيام، أو حقًّا لآدمي كالقرض والأجرة ونحو ذلك.
4 - تنفيذ الوصية- في حدود الثلث- من الباقي: لأن ما تقدم من تكاليف التجهيز والديون قد صار مصروفًا في ضروراته التي لا بد منها، فالباقي هو ماله الذي كان له أن يتصرف في ثلثه.
وقد اتفق الفقهاء على أن الدين مُقدَّم على الوصية، لحديث عليٍّ - رضي الله عنه - قال: «قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدين قبل الوصية» (4).
_________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (2719)، والدارقطني (4/ 67)، والحاكم (4/ 332)، والبيهقي (6/ 209)، وانظر «الإرواء» (6/ 104).
(2) ضعيف: أخرجه الترمذي (2091)، والحاكم (4/ 333)، والبيهقي (6/ 208)، وانظر «الإرواء» (1664).
(3) هذا هو ترتيب الحنابلة وقول عند الحفية، وأما الجمهور فيرون البدء بقضاء الديون.
(4) حسنه الألباني: أخرجه الترمذي (2094)، وابن ماجه (2715)، وأحمد (1/ 79)، وانظر «الإرواء» (1667).

(3/425)


ولأن الوصية - وهي تبرُّع - فعند ضيق التركة فلا شك أن أداء الدين مقدَّم عليها، لأنه فرض وهو أولى من التبرع.
وإنما قدِّمت الوصية في الذكر على الدين في قوله تعالى {مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1) لأنها تشبهُ الميراث لكونها مأخوذة بلا عوض، فيشق إخراجها على الورثة، فكانت لذلك مظنة في التفريط فيها بخلاف الدين، فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فقدم ذكرها حثًّا على أدائها، وتنبيهًا على أنها مثله في وجوب الأداء أو المسارعة إليه (2).
5 - تقسم باقي التركة على الورثة المستحقين: حسب الأنصبة المقدَّرة في كتاب الله، وهذا هو موضوع بحثنا.
ولما كان في مسائل المواريث من التشعُّب والتداخل وصعوبة الاستنباط - على غير الراسخين - واحتياجها إلى قد من المعرفة بعلوم الحساب، رأيت أن أسلك في بحثه مسلك الاختصار والتبسيط، دون التوسُّع والاستطراد في ذكر تفريعاته، مكتفيًا من القلادة بما أحاط بالعنق، محاولًا تركيز المعلومة في صورة جدول لبيان أنصبة المستحقين في الحالات المختلفة، مع إيراد القواعد الهامة التي ينبنى عليها توزيع التركة على الورثة، والتمثيل ببعض المسائل - أحيانًا - إعانة على فهمها.
أركان الإرث:
تقدم أن «الإرث» يطلق على المال الموروث، ويطلق كذلك على استحقاق الميراث وانتقاله إلى صاحبه، وعلى هذا فأركان الإرث ثلاثة، إن وجدت كلها تحققت الوراثة، وإن فقد ركن منها فلا إرث:
1 - المورِّث: وهو الميت أو الملحق به كالمفقود.
2 - الوارث: وهو الحي بعد المورِّث، أو الملحق بالأحياء كالجنين.
3 - الموروث (التركة): وهو ما تركه الميت من مال وغيره.
شروط الإرث (3): يُشترط لحصول التوريث ثلاثة شروط تتعلق بالمورِّث والوارث وهذه الشروط هي:
_________
(1) سورة النساء: 11.
(2) «شرح السراجية» (ص 4، 5).
(3) «حاشية ابن عابدين» (5/ 483)، و «العذب الفائض» (1/ 17 - 18) ط. الحلبي.

(3/426)


1 - تحقق موت المورِّث: أو إلحاقه بالموتى حكمًا، كما في المفقود إذا حكم القاضي بموته، أو تقديرًا كما في الجنين الذي انفصل بجناية على أمه توجب غُرَّة (1).
2 - تحقق حياة الوارث بعد موت المورِّث: أو إلحاقه بالأحياء تقديرًا، كحمل انفصل حيًّا حياة مستقرة لوقت يظهر منه وجوده عند الموت.
3 - العلم بالجهة المقتضية للإرث: من زوجية أو قرابة وولاء، وتعين جهة القرابة من بنوة أو أبوَّة أو أمومة أو أخوة أو عمومة، والعلم بالدرجة التي اجتمع الميت والوارث فيها.
أسباب الإرث (2):
السبب لغةً: ما يتوصلَّ به إلى غيره، واصطلاحًا: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدم العدم لذاته.
وأسباب الإرث أربعة: ثلاثة متفق عليها وواحد مختلف فيه، فإذا وجب أحد هذه الأسباب، فإنه يفيد الإرث على انفراده، وأسباب الإرث المتفق عليها هي:
1 - النكاح: فإن أحد الزوجين يستحق الإرث من الآخر بمجرد عقد الزواج الصحيح ولو من غير دخول أو خلوة، وقد تقدم في «كتاب الفرق بين الزوجين» قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنه واثق - لما توفي عنها زوجها ولم يدخل بها - أن لها الميراث (3).
وأما النكاح الفاسد فلا توارث فيه، والطلاق الرجعي لا يمنع التوارث ما دامت في العدة.
2 - النسب (القرابة): وهو الاتصال بين إنسانين بالاشتراك في ولادة قريبة أو بعيدة، وينقسم النسب إلى ثلاثة أقسام:
(أ) الأصول: وهم الآباء وآباؤهم وإن علوا.
(ب) الفروع: وهم الأبناء وأبناؤهم وإن نزلوا.
_________
(1) الغُرَّة: عبد أو أمة تقدَّر بخمس من الإبل، يأخذها ورثة الجنين.
(2) «ابن عابدين» (5/ 486)، و «شرح الرحبية» للمارديني (ص18)، و «العذب الفائض» (1/ 18).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2114)، والترمذي (1145)، والنسائي (6/ 121)، وابن ماجه (1891).

(3/427)


(جـ) الحواشي: هم الإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم.
قال تعالى {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1).
3 - الولاء:
وهم عُصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق، فمن أعتق عبدًا فمات العبد كان ماله لسيده الذي أعتقه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الولاء لمن أعتق» (2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الولاء لُحمة كلحمة النسب» (3).
وهو إرث من جهة واحدة، فيرث الولي عبده الذي أعتقه، لكن العبد المعتَق لا يرث من سيِّده ولو لم يكن له ورثة.
وهناك سبب رابع مختلف فيه وهو:
4 - جهة الإسلام: والذي يرث بهذا السبب عند من يقول به - وهم المالكية والشافعية - هو بيت المال على تفصيل فيه.
موانع الإرث (4).
المانع: ما يلزم من وجوده العدم، فلو وجد أحد موانع الإرث لزم منه عدم الإرث، وإن وجدت الأركان والشروط المتقدمة، وقد اتفق الأئمة الأربعة على ثلاثة موانع وهي:
1 - الرِّق (العبودية): فالعبد لا يورَّث، لأن جميع ما في يده من المال فهو لمولاه، فلو ورَّثناه من أقربائه لوقع الملك لسيده، فيكون توريثًا للأجنبي بلا سبب، وذلك باطل إجماعًا، وكما لا يرث العبد، فإنه لا يرثه أقرباؤه لأنه لا ملك له.
فعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: «من باع عبدًا له مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع» (5) فالبائع هو سيده، وهو يملك العبد وماله.
2 - القتل:
فإن القاتل لا يرث مَن قتله إذا قتله على وجه يتعلق به القصاص بالاتفاق،
_________
(1) سورة الأحزاب: 6.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504).
(3) صححه الألباني: أخرجه الحاكم (4/ 341)، والبيهقي (10/ 292)، وانظر «الإرواء» (1668).
(4) «شرح الرجبية» (ص 23)، و «الدسوقي» (4/ 485)، و «العذب الفائض» (1/ 23).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2204)، ومسلم (1543).

(3/428)


لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس للقاتل من الميراث شيء» (1) والعلة خوف استعجال الوارث للإرث بقتل مورثه فاقتضت الحكمة حرمانه من الإرث، معاملة له بنقيض قصده، ثم اختلفوا فيما إذا تسبب في قتله خطأ،
فالجمهور - خلافًا للحنفية - أنه لا يرثه كذلك بناء على أن المتسبب في القتل يطلق عليه قاتل، ولئلا يدعي القاتل المتعمد أنه قتل مورثه خطأ.
وأما إذا قتل مورِّثه قصاصًا أو حدًّا أو دفاعً عن نفسه فلا يحرم من الميراث عند الجمهور، خلافًا للشافعية.
3 - اختلاف الدين:
فلا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (2).
هل يرث المرتدُّ؟ (3)
المرتد - وهو من ترك الإسلام بإرادته واختياره - لا يرث أحدًا ممن يجمعه وإياهم سبب من أسباب الميراث بلا خلاف بين الفقهاء.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة - في مشهور المذهب - إلى أنه لا يرثه - كذلك - أحد من المسلمين ولا غيرهم ممن انتقل إلى دينهم، بل ماله كلُّه يكون فيئًا وحقًا لبيت مال المسلمين.

المُستحقُّون للميراث
(أ) الوارثون من الرجال تفصيلًا (خمسة عشر):
1، 2 - الأب، والجد من جهة الأب، وإن علا.
3 - الزوج.
4 - الأخ لأم.
وهؤلاء الأربعة هم أصحاب الفروض المقدَّرة من الرجال.
_________
(1) صححه الألباني: أخرجه الدارقطني (4/ 96 - 237)، والبيهقي (6/ 220)، وأبو داود (6/ 220) مطولًا، وانظر «الإرواء» (1671).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6764)، ومسلم (1614).
(3) «المبسوط» (10/ 102)، و «الدسوقي» (4/ 486)، و «المغني» (6/ 300 - 8/ 128)، و «العذب الفائض» (1/ 34).

(3/429)


5، 6 - الابن، وابن الابن وإن نزلت درجته.
7 - الأخ الشقيق.
8 - الأخ لأب.
9 - ابن الأخ الشقيق.
10 - أبن الأخ لأب.
11 - العم الشقيق.
12 - العم لأب.
13 - ابن العم الشقيق.
14 - ابن العم لأب.
15 - المعتِق.
وهؤلاء هم الوارثون بالتعصيب - وسيأتي معناه - من الرجال.
(ب) الوارثات من النساء تفصيلًا (عشرة):
1 - البنت.
2 - بنت الابن وإن نزلت.
3 - الأم.
4 - الجدَّة من جهة الأم، وإن علت.
5 - الجدَّة من جهة الأب، وإن علت.
6 - الأخت الشقيقة.
7 - الأخت لأب.
8 - الأخت لأم.
9 - الزوجة.
10 - المعتِقة.
الإرث على نوعين:
المستحقون للميراث - الذين تقدم ذكرهم - يرثون أنصبتهم على وجهين: إرث بالفرض، وإرث بالتعصب.
1 - الإرث بالفرض: أي بالنصيب المقدَّر شرعًا في كتاب الله، والفروض المقدرة في كتاب الله ستة، وهي: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.

(3/430)


وأصحاب الفروض المقدَّرة من الرجال أربعة: الأب، والجد لأب وإن علا، والزوج، والأخ لأم، ومن النساء ثمانية: هي العشر المذكورات ما عدا الجدة من جهة الأم (تسمى: الجدة الفاسدة، وهي التي يدخل نسبتها إلى الميت أنثى) والمعتقة.
ويسمى الزوج والزوجة: أصحاب الفروض السببية، إذ إن ميراثهما بسبب الزواج لا بسبب القرابة، ويسمى الباقون: أصحاب الفروض النَّسَبية.
وأصحاب الفروض يرثون إذا لم يوجد من يحجبهم من الميراث حجب حرمان كما سيأتي.
وقد يجتمع الإرث بالفرض مع الإرث بالتعصيب، وسيأتي قريبًا أنصبة الورثة في الحالات المختلفة.
2 - الإرث بالتعصيب:
العصبة لغة: قوم الرجل، وهم بنوه وأبوه وقرابته الذكور من جهتهم.
واصطلاحًا: من يرث بغير تقدير (ليس له نصيب مقدَّر).
العصبة قسمان: نسبية وسببيَّة:
(أ) العصبة النسَبَّية: وهي على ثلاثة أقسام:
[1] العصبة بنفسه: وهو كل ذكر لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى، فإن دخلت الأنثى في نسبته للميت لم يكن عصبة، كأولاد الأم (الأخ لأم).
وبهذا الضابط يتضح أن جميع الذكور الوارثين الذين تقدم ذكرهم يكونون عصبة بأنفسهم ما عدا: الزوج والأخ لأم.
جهات العصبة بالنفس:
ويظهر من هذا الضابط أن العصبة بالنفس لهم أربع جهات:
1 - جهة البنوَّة: أي أبناء الميت ثم أبناؤهم وإن نزلوا.
2 - جهة الأبوَّة: أبو الميت وآباؤه وإن علوا.
3 - جهة الأخوة: إخوة الميت الأشقاء، ثم إخوته لأبيه، ثم أبناء الإخوة الأشقاء، ثم أبناء الإخوة لأب مهما نزلوا.
4 - جهة العمومة: وهم أعمام الميت الأشقاء، ثم أعمامه لأبيه، ثم أبناء الأعمام الأشقاء، ثم أبناء الأعمام لأب.

(3/431)


وإذا تزاحم العصبات فيقدَّمون حسب الترتيب المذكور: البنوة ثم الأبوة ثم الأخوة ثم العمومة (1).
وعلى هذا يتنزل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر» (2).
أحكام العصبة بنفسه (3):
1 - إذا انفرد واحد من العصبة بنفسه من أي جهة، فإنه يستحق جميع التركة، إذا لم يكن معه أحد من أصحاب الفروض.
2 - إذا وجد معه أصحاب الفروض، فإنه يأخذ الباقي من التركة بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم.
3 - إذا استغرقت الفروض جميع التركة، سقط العصبة بالنفس إلا الأب والجد والابن.
4 - إذا تزاحم العصبات فيراعى الآتي:
(أ) إذا تعددت جهاتهم، يقدَّم حسب ترتيب الجهات المذكورة: البنوة ثم الأبوة ثم الأخوة ثم العمومة، فمثلًا: لو وجد ابن وأخ: يقدَّم الأخ، ولو وُجد أخ وعم: يقدم الأخ فيأخذ المال، وهكذا.
(ب) إذا اتحدت الجهة: فيقدم الأقرب درجة إلى الميت، فيقدم الابن على ابن الابن، ويقدم الأب على الجد، ويقدم فروع الجد الأول (الأقرب) مهما نزلوا على فروع الجد الثاني مهما علوا، لأنهم أقرب درجة، ويقدم العم على ابن العم، وهكذا.
(جـ) إذا اتحدت الجهة وتساووا في القرب من الميت قدِّم الأقوى قرابة، وهو من تكون قرابته إليه من جهة الأبوين، فيقدم على من قرابته لأب فقط، فيقدَّم الأخ الشقيق على الأخ لأب، وابن الأخ الشقيق على ابن الأخ لأب.
_________
(1) ويستثنى من ذلك الجد (من جهة الأبوة) فإنه لا يقدم على الأخ الشقيق والأخ لأب - في بعض المذاهب - بل يشاركهم، ولعله يأتي تفصيله.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2523)، ومسلم (1615).
(3) «السراجية» (ص146) وما بعدها، و «العذب الفائض» (1/ 75) وما بعدها، و «الموسوعة الفقهية» (3/ 43).

(3/432)


أما إذا كانوا من جهة واحدة وفي درجة واحدة وفي قوة واحدة، كأن يكونوا إخوة أشقاء، أو أعمام أشقاء، أو أبناء للميت، فإنهم يقتسمون الميراث بينهم بالسوية.
[2] العصبة بالغير: وهن أربع نسوة يصرن عصبة بغيرهن، وهن:
1 - بنت الميت: واحدة أو أكثر تكون عصبة بابن الميت أو أكثر (بأخيها).
2 - بنت الابن: واحدة أو أكثر، تكون عصبة بابن الابن (سواء كان أخاها أو ابن عمها المساوي لها في الدرجة) وتكون عصبة بابن الابن الأنزل منها درجة إن احتاجت إليه.
3 - الأخت الشقيقة: واحدة فأكثر تكون عصبة بالأخ الشقيق واحدًا فأكثر.
4 - الأخت لأب: واحدة فأكثر تكون عصبة بالأخ لأب واحدًا فأكثر (1).
فوائد:
1 - العصبة بالغير: تأخذ فيها الأنثى نصف نصيب مُعصبها، لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (2).
وقوله سبحانه: {وإن كَانُوا إخْوَةً رِّجَالًا ونِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (3).
2 - الأخ لأب لا يعصِّب الأخت الشقيقة، وابن الأخ لا يعصِّب أخته، ولا يُعصِّب أخت الميت (عمته).
[3] العصبة مع الغير:
وهي كل أنثى تصير عصبة مع أنثى غيرها، وهي الأخت الشقيقة أو لأب مع البنت سواء كانت صلبية أو بنت ابن، وسواء كانت واحدة أم أكثر.
فائدة: الفرق بين العصبة بالغير، والعصبة مع الغير: أن المعصِّب لغيره، يكون عصبة بنفسه، فتتعدَّى بسببه العصوبة إلى الأنثى.
وأما في العصبة مع الغير، فلا يكون ثمة عاصب بنفسه أصلًا، لكن اجتماعهن مع بعضهن جعلهن عصبة.
_________
(1) وعند المالكية: تعصَّب الأخت الشقيقة والأخت لأب، بالجد، وتكون عصبة بالغير، وكذلك عند الحنابلة إذا لم يوجد أخ يعصبها، وانظر: «الدسوقي» (4/ 459)، و «العذب الفائض» (1/ 90).
(2) سورة النساء: 11.
(3) سورة النساء: 176.

(3/433)


(ب) العصبة السببية: وهي منحصرة في المعتق والمعتقة، فإذا مات العبد ولم يكن له عصبة من النسب ورثه المعتق سواء كان ذكرًا أو أنثى (1).
ويمكن تلخيص ما تقدم في الإرث بالتعصيب في الرسم التوضيحي الآتي:
العصبة
_________
(1) وهذه هي الحالة الوحيدة التي تكون فيها الأنثى عصبة بنفسها (عندما تكون معتِقة).

(3/434)


الحَجْبُ
تعريفه (1):
الحجب لغة: المنع والحرمان.
واصطلاحًا: منع شخص معيَّن عن ميراثه، إما كلِّه أو بعضه، بسبب وجود شخص آخر.
أقسام الحجب (2):ينقسم الحجب إلى قسمين:
1 - حَجْب حرْمان: وهو منع شخص وارث من ميراثه بالكلية لوجود غيره، وهذا النوع من الحجب قائم على أساسين:
(أ) أن كل من ينتمي إلى الميت بشخص، فإنه لا يرث مع وجود ذلك الشخص.
فمثلًا: ابن الابن لا يرث مع وجود الابن، ما عدا أولاد الأم، فإنهم يرثون معها مع أنهم ينتمون إلى الميت بها.
(ب) أنه يُقدَّم الأقرب على الأبعد، فمثلًا: الابن يحجب ابن أخيه، فإن تساويا في الدرجة يرجَّح بقوة القرابة، كما تقدم، كالأخ الشقيق يحجب الأخ لأب.
من لا يدخل عليهم حجب الحرمان:
هناك ستة أشخاص لا يدخل عليهم حجب الحرمان، فهم يرثون في كل حال: إما جميع نصيبهم أو بعضه، وهم (بالنسبة للميت):
1، 2 - البنت والابن الصُّلبيَّان.
3، 4 - الأب والأم.
5، 6 - الزوج والزوجة.
_________
(1) «المصباح المنير»، و «السراجية» (ص171).
(2) المراد بالحجب هنا ما يسمى بحجب الشخص، وهناك نوع من الحجب يسمى: «حجب الصفة» وهو حجب الشخص عن الميراث كليًا لوصف قائم به منعه من الميراث، كما تقدم في قاتل المورِّث فإنه يمنع من ميراثه.

(3/435)


من يدخل عليهم حجب الحرمان:
يدخل حجب الحرمان على تسعة عشر نفرًا: اثنا عشر من الرجال، وسبع من النساء، وإليك بيانهم ومن يُحجبون به:
أما الذكور فهم:

م ... المحجوب ... الحاجب
1 ... ابن الابن ... الابن وكل ابن ابن أقرب
2 ... الجدّ ... الأب وكل جدّ أقرب
3 ... الأخ الشقيق ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ في بعض المذاهب.
4 ... الأخ لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ في بعض المذاهب، الأخ الشقيق، الأخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع الغير.
5 ... الأخ لأم ... الابن، ابن الابن، البنت، بنت الابن، الأب، الجدّ.
6 ... ابن الأخ الشقيق ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير.
7 ... ابن الأخ لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق.
8 ... العم الشقيق ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب.
9 ... العم لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب، والعمّ الشقيق.
10 ... ابن العمّ الشقيق ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب، والعمّ الشقيق، والعمّ لأب.

(3/436)


11 ... ابن العمّ لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب، والعمّ الشقيق، العمّ لأب، ابن العم الشقيق.
12 ... المعتق ... ويحجبه كل عصبة نَسَبية.

وأما النساء فهنّ:

م ... المحجوبة ... الحاجب
1 ... بنت الابن ... الابن، البنتان.
2 ... الجدّة (أُم الأب) ... الأم، كل جدّة قريبة.
3 ... الجدّة (أم الأم) ... الأُم، كل جدّة قريبة.
4 ... الأخت الشقيقة ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ في بعض المذاهب.
5 ... الأخت لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ في بعض المذاهب، والأخ الشقيق، والأخت الشقيقة إذا كانت عصبة مع الغير، والأختان الشقيقتان إن لم يكن معهما أخ مبارك.
6 ... الأخت لأم ... الابن، ابن الابن، البنت، بنت الابن، الأب، الجدّ.
7 ... المعتِقة ... كل عصبة نَسَبية.

2 - حَجْبُ النقصان: وهو أن ينقص ميراث أحد الورثة بسبب وجود غيره، وهذا النوع يتأتى دخوله على جميع الورثة.
ويُحجب خمسة من أصحاب الفروض - حجب نقصان- فينتقلون إلى فرض أقل منه، في حالات معينة كما يبينه الجدول التالي:

(3/437)


صاحب الفرض ... أصل فرضه ... تم حجبه إلى ... في حالة
الزوج ... عند وجود الولد أو ولد الولد
الزوجة ... عند وجود الولد أو ولد الولد
الأم ... عند وجود الولد أو ولد الابن أو الاثنين من الإخوة والأخوات.
بنت الابن ... (تكملة للثلثين) ... عند وجود البنت من الصُّلب
الأخت الشقيقة ... عند وجود الأخت لأب

أنصبة الورثة وحالاتهم
ويمكن الاستفادة من كل ما تقدم وجمعه وتلخيصه في الجداول الآتية التي تحتوى على نصيب كل وارث في الحالات المختلفة.
أولًا: الوارثون من الرجال وأحوالهم:
1 - أحوال الأب في الميراث: قال الله تعالى: {ولأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إن كَانَ لَهُ ولَدٌ فَإن لَّمْ يَكُن لَّهُ ولَدٌ ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} (1).
النصيب من التركة ... الحالة
إذا كان للميت فرع وارث ذكر (ابن أو ابن الابن مهما نزل)
التركة كلها أو الباقي بعد أصحاب الفروض (تعصيب) ... إذا لم يكن للميت فرع وارث مطلقًا
+ الباقي بعد أصحاب الفروض ... إذا كان للميت فرع وارث أنثى (بنت وبنت الابن مهما نزل أبوها)
_________
(1) سورة النساء: 11.

(3/438)


2 - أحوال الجد: والمراد بالجد الذي يرث (الجد الصحيح) وهو الذي لا تدخل في نسبته إلى الميت أمُّ، مثل أبي الأب، وأبي أبي الأب مهما علا.
والجد في حكم الأب في الميراث، فينطبق عليه الجدول السابق، إلا في مسألتين هما «العمريتان» وسيأتي ذكرهما قريبًا، إن شاء الله.
تنبيه: إذا وُجد أبو الميت فإنه يحجب الجد، وكذلك كل جدٍّ أقرب يحجب الجد الأبعد.
فائدة: ميراث الجد مع الإخوة:
(أ) إذا كان مع الجد إخوة لأم، فإنهم لا يرثون مع الجد، اتفاقًا.
(ب) إذا كان مع الجد إخوة أشقاء، فهذه المسألة ليس فيها نص من كتاب أو سنة، ولذلك اختلفت فيها اجتهادات العلماء- من الصحابة ومن بعدهم - وتشعَّبت، والمختار من هذه الاجتهادات: أن الجد مثل الأب فلا يرث الإخوة والأخوات معه مطلقًا، وبهذا قال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير وأبو الدرداء وابن عمر وعائشة وطائفة من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم، وبعض الشافعية، وحجتهم أن الجد قد سُمِّي في الكتاب والسنة أبًا وهو يأخذ حكمه في كثير من الأحكام، فيكون بمنزلته في حجب الإخوة، ولأن الجدَّ المباشر في أعلى عمود النسب بالنسبة للميت، وابن الابن المباشر في أسفل العمود، وكل منهما يدلي إلى الميت بدرجة واحدة، والفقهاء متفقون على أن ابن الابن يحجب الأخوة، فيجب أن يكون الجد كذلك.
ولأن الجد أقرب للميت من الأخ، ولا يحجبه عن الإرث سوى الأب، بخلاف الإخوة والأخوات فإنهم يحجبون بثلاثة: الأب والابن وابن الابن، والجد يرث بالفرض والتعصيب كالأب، والإخوة منفردون بواحد منهما، والله أعلم.
3 - أحوال الزوج:
قال الله تعالى: {ولَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ ولَدٌ فَإن كَانَ لَهُنَّ ولَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} (1).
_________
(1) سورة النساء: 12.

(3/439)


النصيب من التركة ... الحالة
إذا لم يكن للزوجة فرع وارث (ابن أو ابن الابن مهما نزل، أو بنت) (1).
إذا كان للزوجة فرع وارث

4 - أحوال الأخ لأم: قال الله تعالى: {وإن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ولَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (2) وقد انعقد الإجماع على أن المراد بالأخ والأخت هنا: الإخوة من جهة الأم.

النصيب من التركة ... الحالة
إذا كان واحدًا، وليس للميت فرع وارث- ذكر أو أنثى- وليس للميت أصل وارث ذكر كالأب (والجد على الراجح).
للاثنين أو أكثر يقسم بينهم بالسوية (3) ... إذا كانوا أكثر من واحد ذكورًا أو إناثًا (إخوة وأخوات لأم) مع عدم وجود فرع ولا أصل وارثين.
لا يرث (يُحجب) ... إذا كان للميت فرع وارث أو أصل وارث.

5 - أحوال الابن: قال تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (4).
_________
(1) فإن كان للزوجة بنت بنت، فلا تأثير على الزوج ويستحق النصف، لأن بنت البنت من ذوي الأرحام وليست وارثة.
(2) سورة النساء: 12.
(3) وهذه هي الحالة التي يكون فيها نصيب الذكر والأنثى متساويًا تمامًا، وإنما سُويِّ بين الذكور والإناث في هذه الحالة لأن تفضيل الذكور على الإناث إنما هو باعتبار العضوية وهي منتفية في قرابة الأم.
(4) سورة النساء: 11.

(3/440)


وهو يرث تعصيبًا، فلو انفرد ولم يكن معه أحد من أصحاب الفروض، استحق التركة كلها، وإن كان معه أحد من أصحاب الفروض فيأخذ الباقي من التركة هو باقي الأبناء- إن وجدوا - للذكر مثل حظ الأنثيين.
6 - أحوال ابن الابن: وهو يرث تعصيبًا كالابن بشرط ألا يكون للميت ابن، فإن ابن الميت يحجب ابن ابنه كما تقدم.
7 - أحوال الأخ الشقيق:

النصيب من التركة ... الحالة
بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت فرع ذكر، ولم يكن له أصل ذكر (ليس له ابن أو ابن ابن أو أب أو جد على الراجح).
لا يرث ... إذا كان للميت فرع ذكر أو أصل ذكر.

8 - أحوال الأخ لأب:

النصيب من التركة ... الحالة
بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت فرع ذكر، ولا أصل ذكر، ولا أشقاء.
لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم

9 - أحوال ابن الأخ الشقيق:

النصيب من التركة ... الحالة
بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت ولا أصل ذكر، ولا أخ شقيق ولا أخ لأب ولا أخت شقيقة وأخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير.
لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم.

(3/441)


10 - أحوال ابن الأخ لأب:

النصيب من التركة ... الحالة
بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت فرع ذكر، ولا أصل ذكر، ولا أشقاء، ولا أخ لأب، ولا ابن أخ شقيق، ولا أخت شقيقة وأخت لأب إذا صارتا مع الغير عصبة.
لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم.

11 - أحوال العم الشقيق:

النصيب من التركة ... الحالة
بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت أصل ذكر، ولا فرع ذكر، ولا أشقاء، ولا أخ لأب، ولا ابن أخ شقيق، ولا ابن أخ لأب ولا أخت شقيقة وأخت لأب إذا صارتا عصبة.
لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم.

12 - أحوال العم لأب:

النصيب من التركة ... الحالة
بالتعصيب ... أن لا يكون للميت أحد ممن يحجب العم الشقيق كما تقدم، وكذلك لا يكون له عم شقيق.
لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم.

(3/442)


13 - أحوال ابن العم الشقيق:
النصيب من التركة ... الحالة
بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت أصل ذكر، لا فرع ذكر ولا أشقاء ولا أخ لأب، ولا ابن أخ شقيق، ولا ابن أخ لأب، ولا عم شقيق ولا عم لأب، ولا أخت شقيقة وأخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير.
لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم.

14 - أحوال ابن العم لأب:

النصيب من التركة ... الحالة
بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت أحد من العصبات المتقدمة.
لا يرث ... إذا وجد أحد من العصبات.

15 - أحوال المعتق:

النصيب من التركة ... الحالة
بالتعصيب ... عند عدم وجود العصبة النسبية
لا يرث ... إذا وجدت العصبة النسبية

ثانيًا: الوارثات من النساء وأحوالهن:
1 - أحوال البنت من الصُّلب: قال تعالى: {اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وإن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (1).
_________
(1) سورة النساء: 11.

(3/443)


النصيب من التركة ... الحالة
.. إذا كانت واحدة وليس معها ابن للميت وليس معها أخت أو أكثر.
تعصيب بالغير ... إذا كان معها ابن للميت أو أكثر، فترث بالتعصيب (للذكر مثل حظ الأنثيين).
للبنتين أو أكثر ... إذا كانت معها أخت أو أكثر، وليس للميت ابن، فلهن الثلثان فرضًا (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك).

2 - أحوال بنات الابن: وهن كل من تنسب إلى الميت بواسطة الابن مهما نزلت درجة هذا الابن.

النصيب من التركة ... الحالة
إن كانت واحدة ولم يكن للميت ولد من صلبه.
للاثنين فأكثر ... إن كانتا اثنين فأكثر عند عدم الولد من الصلب.
للواحدة أو أكثر ... إذا كانت واحدة أو أكثر مع وجود ابنة واحدة صلبية إلا إذا كان معهن ابن في درجتهن فيعصبهن ويكون الباقي بعد نصيب البنت يقسم للذكر مثل حظ الأنثيين.
لا يرثن ... إذا وجد ابن للميت لأنه يحجبهن
لا يرثن ... إذا وجد للميت ابنتان فأكثر من صلبه إلا إذا وجد معهن ابن ابن في درجتهن أو أسفل منهن فيرثن
بالتعصيب.

(3/444)


3 - أحوال الأم:

النصيب من التركة ... الحالة
إذا كان للميت ولد (ذكر أو أنثى) أو اثنان من الإخوة أو الأخوات مطلقًا.
التركة ... إذا لم يوجد احد ممن تقدم ذكرهم، ولم تكن إحدى العمريتين.
الباقي ... إذا عدم من تقدم ذكرهم، بعد فرض أحد الزوجين في مسألتين (1):
الأولى: إذا تركت امرأة زوجًا وأبوين.
الثانية: إذا ترك رجل زوجة وأبوين.

4 - أحوال الزوجة:

النصيب من التركة ... الحالة
للزوجة أو يقسم على الزوجات ... إذا لم يكن لزوجها المتوفى ولد (ذكر أو أنثى) أو ابن ابن أو بنت ابن مهما نزلت.
للزوجة الواحدة أو يقسم بالتساوي على
الزوجات ... إذا وجد ولد للمتوفى سواء كان منها أو من غيرها.
_________
(1) (*) العمريتان.

(3/445)


5 - أحوال الأخت الشقيقة: وهي كل أخت شاركت المتوفى في الأب والأم.

النصيب من التركة ... الحالة
إذا كانت واحدة منفردة ولم يكن معها ولد للميت ولا ولد ابن ولا أب ولا جد ولا أخ شقيق.
للاثنتين فأكثر ... عند عدم وجود من تقدم ذكرهم.
تعصيب بالغير ... إذا وجد معهن أخ شقيق ولم يوجد غيره ممن تقدم فيعصبهن ويكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
تعصيب مع الغير ... ترث مع بنت الميت أو بنت ابنه عند عدم وجود من يعصبهما وكذلك مع أكثر من واحدة من بنات الميت أو بنات ابنه.
تعصيب ... تدخل مع الأخ لأم أو الأخت لأم أو الإخوة لأم في حالة استغراق الفروض جميع التركة بحيث لم يتبق للإخوة الأشقاء شيء، فيدخلون مع الإخوة لأم باعتبارهم أولاد أم واحدة.
لا ترث ... إذا كان للميت ابن أو ابن ابن، أو أب أو جد.

6 - أحوال الأخت لأم:

النصيب من التركة ... الحالة
إذا كانت واحدة، ولا يوجد للميت ابن أو بنت، أو ابن ابن أو ابن بنت.
إذا كانتا اثنين فأكثر (ذكورًا أو إناثًا) فإنهم يشتركون في الثلث بالسوية لا يفضل أخ على أخت (1).
للاثنتين فأكثر
لا ترث ... إذا كان للميت ابن أو بنت، أو ابن ابن، أو بنت ابن، أو أب أو جد صحيح.
_________
(1) وهذه هي الحالة التي يكون نصيب الأنثى فيها مساويًا للذكر تمامًا، لا نصفه.

(3/446)


7 - أحوال الأخوات لأب:

النصيب من التركة ... الحالة
إذا كانت منفردة عن مثلها وعن الأخ لأب وعن الأخت الشقيقة.
للاثنتين فأكثر ... إذا كانت معها أخرى أو أكثر ولم يكن معها من سبق ذكرهم.
إذا كان معها أخت شقيقة منفردة.
تعصيب بالغير ... إذا كان مع الواحدة أو الأكثر أخ لأب فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
تعصب مع الغير ... إذا كانت مع الواحدة أو الأكثر بنت أو بنت أبن ويكون الباقي للأخوات لأب بعد فرض البنت وبنت الابن.
لا ترث ... إذا كان معها واحد ممن يأتي:
1 - الابن أو ابن الابن وإن نزل
2 - الأب
3 - الأخ الشقيق
4 - الأخت الشقيقة التي صارت عصبة بأخيها
5 - الاثنتان فأكثر من الأخوات الشقيقات (إلا إذا وجد معها أخ لأب عصبها فيكون الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين).

8، 9 أحوال الجدَّة لأم أو أب:
والمراد بالجدة هنا: الجدة الصحيحة وهي التي لا يتخلل في نسبتها إلى الميت جد فاسد، والجد الفاسد هو من يتخلل في نسبته إلى الشخص أنثى كأب الأم.
وللجدات الصحيحات ثلاث حالات:

(3/447)


النصيب من التركة ... الحالة
سواء كانت واحدة أو أكثر، وسواء كانت جدة لأب أو لأم فيقسم بينهن السدس.
لا ترث ... مع وجود الأم، فالأم تحجب جميع الجدات سواء كن من جهتها أو من جهة الأب.
لا ترث ... مع وجود الجدة الأقرب منها، فمثلًا أم أم تحجب أم أم الأم وتحجب أيضًا أم أبي الأب.

وفرض الجدة ليس في كتاب الله، لكن أعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السدس فثبت ميراثها (1) وقد أجمع العلماء على أن الجدة ترث إذا لم يكن للميت أم كما تقدم.
10 - المرأة المُعتِقة للميت:
وهي ترث بالتعصيب (2)، لكن بشرط أن تنعدم العصبات من النسب.
أمثلة بسيطة في تقسيم الميراث:
مثال 1: توفي رجل عن: زوجة، وابن، وبنت ابن.
الحل:
1 - نبحث أولًا عن أصحاب الفروض، فنجد: الزوجة وبنت الابن.
2 - ننظر هل يُحجَب أحدهما، فنرى أن بنت الابن تحجب بوجود الابن، فبقى من أصحاب الفروض: الزوجة، وبما أن للميت ابنًا، فيكون نصيب الزوجة (ثمن) كما هو موضح في جدول رقم (4) من الوارثات من النساء.
3 - يبقى الابن، وهو يرث تعصيبًا كما تقدم فيكون له الباقي.
ويمكن تمثيل المسألة بالصورة المقابلة ونعني بأصل المسألة: المضاعف المشترك
_________
(1) وقد صح هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عند مالك (1098)، والترمذي (2101)، وابن ماجه (2724)، وأحمد (4/ 225) وغيرهم.
(2) وتسمى عصبة سببية؛ لأنها بسبب العتق.

(3/448)


الأدنى لمقامات الفروض، والأصول المتفق عليها (2، 3، 4، 6، 8، 12، 24).
وهنا لا يوجد إلا فرض الثمن فنجعل أصل المسألة = 8.

مثال 2: توفي رجل عن: بنت، وأب.
الحل: نلحظ أن كلًّا من البنت والأب
من أصحاب الفروض فتأخذ البنت النصف
(جدول - 1 - وارثات).
ويأخذ الأب السدس (جدول - 1 - وارثون).
ونلحظ أن الأب عصبة بنفسه، فيأخذ الباقي بالإضافة إلى السدس، تعصيبًا.
وتكون صورة المسألة كالآتي:
لاحظ أن المضاعف المشترك الأدنى لـ (2، 6) هو (6) فهو أصل المسألة، ويكون سهم البنت نصفه (3)، وسهم الأب (بالفرض) = 1، وسهم بالتعصيب هو الباقي (6 - 3 - 1) = 2فيكون مجموع سهم الأب = 3 (ثلاثة أجزاء من ستة).
مثال 3: توفي رجل عن: زوج، وبنت، وبنت ابن، وابن ابن ابن.
للزوج: لوجود فرع وارث.
للبنت: لانفرادها وعدم معصِّب.
لبنت الابن: (جدول - 2 - وارثات).
لابن ابن الابن: الباقي، لأنه أولى رجل ذكر.
مثال 4: توفي رجل عن: أم، وأخت شقيقة،
وعمٍّ.
للأم:، لعدم الفرع والجمع بين الأخوة (جدول - 3 - وارثات).

(3/449)


للشقيقة:
(جدول - 5 - وارثات).
للعم: الباقي، تعصيبًا.
(جدول - 11 - وارثون).
مثال 5: توفي رجل عن: أم، وأب، وابن،
وأخ شقيق.
للأم: (جدول - 3 - وارثات).
للأب: (جدول - 1 - وارثون).
للابن: الباقي تعصيبًا لأنه أولى
رجل ذكر (5 - وارثون).
الأخ الشقيق: لا يرث، لأنه يُحجب بوجود ابن الميت (جدول - 7 - وارثون).
مثال 6: توفي رجل عن: ابنين، وابن ابن، وأب، وجدّ، وجدة.
لاحظ أن ابن الابن يحجب بابني الميت،
فلا يرث وكذلك الجدُّ يحجب بالأب،
ويكون أصحاب الفروض:
الأب له: لأن للميت أبناء ذكورًا
(جدول - 1 - وارثون).
الجدة لها: لعدم وجود الأم
(جدول - 8 - وارثات).
والابنان لهما: الباقي بالتساوي بينهما تعصيبًا.
مثال 7: توفي رجل عن: أب، وبنت، وابن،
وعم، وجد، وبنت ابن.
نلاحظ أن كلًّا من العم والجد وبنت الابن
محجوبون بوجود الأب والابن، فلا يرثون.
ويكون للأب: فرضًا.

(3/450)


ويكون الباقي للابن والبنت للذكر مثل حظ الاثنين.
ويلاحظ أن البنت كانت سترث (نصف) إذا لم يكن للميت ابن، فلما وجد الابن حجبها - حجب نقصان - ونقلها من الإرث بالفرض إلى الإرث بالتعصيب، فصار سهمها (1) من (6) أسهم لولا الابن لكان سهمها (3) من ستة، وانظر (جدول - 1 - وارثات).
مثال 8: توفي رجل عن: بنت، وأخت لأب، وابن أخ لأب، وأخ لأم.
نلاحظ أن ابن الأخ محجوب بالأخت
لأب التي صارت عصبة مع الغير،
فلا يرث، انظر (جدول - 10 - وارثون).
وكذلك يُحجب الأخ لأم، لوجود الفرع
الوارث (جدول - 4 - وارثون).
ويكون للبنت: فرضًا.
وتأخذ الأخت لأب الباقي تعصيبًا مع الغير (جدول - 7 - وارثات).
مثال: 9: (الأخ المبارك):
توفي عن: بنتين، وبنت ابن، وابن ابن.
للبنتين: فرضًا (جدول - 1 - وارثات).
ولبنت الابن وابن الابن: الباقي تعصيبًا.
يلاحظ: أنه لولا وجود ابن الابن لسقط ميراث أخته (بنت الابن) لاستكمال الصُّلبيتين الثلين (جدول - 2 - وارثات)، ولذلك يسمى هذا الأخ بالأخ المبارك، لأنه لولاه لسقطت أخته.
فائدة: «الأخ المبارك يُعصِّب بنات الابن حتى وإن كان أنزل منهن، بشرط استغراق من فوقهن الثلثين».

(3/451)


مثال: 10: (الأخ المشئوم):
توفيت امرأة عن: زوج، وأخت شقيقة،
وأخ لأب، وأخت لأب.
للزوج: نصف لعدم الفرع (جدول - 3 - وارثون).
الأخت الشقيقة: فرضًا أيضًا (جدول - 5 - وارثات).
ولم يبق للعصبة شيء لاستغراق الفروض
أصل المسألة.
ويلاحظ: أنه لولا الأخ لأب لأخذت
الأخت لأب السُّدس تكملة للثلثين
وعالت المسألة (وسيأتي معنى العول قريبًا)، أما وجوده معها فقد أضرَّ بها، ولذا يسمى (الأخ المشئوم) لأنه لولاه لورثت أخته.
مثال 11، 12: «المسألتان العمريَّتان»: وهما الحالتان اللتان يختلف فيهما الجد عن الأب لو كان مكانه.
الأولى: توفيت امرأة عن زوج، وأب، وأم.
للزوج: نصف لعدم وجود الفرع (جدول - 3 - وارثون).
للأم: ثلث الباقي (جدول - 3 - وارثات) لأنها عمريَّة.
للأب: الباقي بعد ما تقدم، لأنه ليس للميت فرع مطلقًا (جدول - 1 - وارثون).
ويلاحظ: أنه لو كان الجد في هذه المسألة مكان الأب، كان للزوج (نصف)، وللأم (ثلث) وللجد الباقي.
الثاني: توفي رجل عن: زوجة، وأم،
وأب للزوجة: نصف لعدم الفرع (جدول - 4 - وارثات).
وللأم: ثلث الباقي (جدول - 3 - وارثات) وللأب: الباقي بعد ما تقدم.

(3/452)


ولو كان الجد مكان الأب هنا، لأخذت الزوجة (ثلث).
والأم (ثلث)، والجد (الباقي) فافترق عن الأب في هذه الحالة والتي قبلها.
العَوْل: وهو زيادة في السهام، ونقص في الأنصباء.
في بعض المسائل يكون مجموع سهام الورثة زائدًا على أصل المسألة، ولا يحصل هذا في جميع الأصول، وإنما يكون العول في أصول ثلاثة: 6، 12، 24.
(أ) الأصل (6): وقد يعول إلى (7، 8، 9، 10) فمثلًا:
لو توفيت امرأة عن: زوج، وأم، وأخت شقيقة.
فللزوج (نصف)، وللشقيقة (نصف)، والأم (ثلث) فأصل المسألة من 6 أسهم ونلاحظ أن عدد السهام للورثة ثمانية فتعول إلى ثمانية، بمعنى:
أن نصيب الزوج سيكون = بدلا من
ونصيب الأم = =، بدلًا من
ونصيب الشقيقة = بدلًا من.
وهذا شيء منطقي وكلُّ ما حصل أننا وزَّعنا النقص في التركة على الورثة كلٌّ بحسب نسبة ميراثه.
فائدة: أول من قضي في العَوْل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم كان الإجماع على ذلك.
(ب) الأصل (12): وقد يعول إلى (13، 15، 17) فمثلًا:
لو توفي رجل عن: زوجة وشقيقتين، وأختين لأم، وجدة.
فللزوجة: (ربع)، وللشقيقتين (ثلثان)، وللأختين
لأم (ثلث)
وللجدة (سدس)، وأصل المسألة من (12)
وتعول إلى (17)
وعلى هذا يكون نصيب الأم = من التركة
والشقيقتين =، والأختين لأم =،
وللجدة =.

(3/453)


(جـ) الأصل (24): وقد يعول إلى (27)، فمثلًا:
لو توفي عن: زوجة، وبنت، وبنت ابن، وأم، وأب.
للزوجة (ثمن)، وللبنت (نصف)، ولبنت الابن (سدس) تكملة للثلثين، وللأم (سدس)، وللأب (سدس+الباقي تعصيبًا) فأصل المسألة من (24) لأنه المضاعف المشترك الأدنى لـ (8، 2، 6) ثم تعول المسألة إلى (27).
لاحظ أن الأب لا يبقى له شيء من طريق
التعصيب، لأن مسائل العول تأول إلى
استغراق الفروض للسهام فلا يبقى للتعصيب
شيء من التركة، وهذا واضح.
فائدة:
إذا ساوت سهام أصحاب الفروض - في المسألة - أصل المسألة سميت المسألة: «عادلة».
وإذا نقصت سهام أصحاب الفروض عن أصل المسألة سميت المسألة: «ناقصة».
وإذا زادت سهام أصحاب الفروض عن أصل المسألة سميت المسألة: «عائلة» أو «زائدة».
الرَّدُّ (1):
تقدَّم أن العول هو زيادة في السهام ونقص في الأنصباء، وفي بعض الحالات يحصل عكس هذا، أي: زيادة في الأنصباء ونقص في السهام، فهذا يسمَّى: «الرَّد» وهو يحصل إذا لم يوجد عصبة، ولم تستغرق الفروض المسألة، فيردُّ الزائد على أصحاب الفروض بنسبة فرض كلٍّ منهم ما عدا الزوجين، فإنه لا يُردَّ عليهما.
مسائل الرَّد على حالتين: إما أن يكون مع الورثة أحد الزوجين، أو لا يكون معهم أحدهما.
_________
(1) «مباحث في علم المواريث» د. مصطفى مسلم (ص: 129) بتصرف واختصار.

(3/454)


1 - إذا لم يكن مع الورثة أحد الزوجين: فلا يخلو من ثلاث صور:
(أ) أن يكون صاحب الفرض شخصًا بمفرده فيأخذ المال جميعًا فرضًا وردًّا.
(ب) أن يكونوا أكثر من واحد لكنهم صنف واحد، فالمال بينهم بالسوية.
(جـ) أن يكون الورثة - أصحاب الفرض - من صنفين أو أكثر فنحل المسألة كالعادة ثم نردُّ أصل المسألة إلى مجموع سهام الورثة.
مثال: توفي رجل عن: جدة، وأخت لأم، وأخ لأم.
نلاحظ أن أصل المسألة من (6)، ومجموع السهام (3) فقط فنردُّ أصل المسألة إلى (3).
فيزيد نصيب كل واحد، فمثلًا تأخذ الجدة (ثلث) بدلًا من (سدس) وهكذا.
2 - إذا كان مع الورثة أحد الزوجين: ولها ثلاث صور كالأولى:
(أ) أن يكون مع أحد الزوجين صاحب فرض واحد.
(ب) أن يكون مع أحد الزوجين
أكثر من واحد من صنف واحد.
ففي هاتين الصورتين نجعل أصل
المسألة من فرض صاحب الزوجية
ونعطيه سهمه، ثم نجعل الباقي لمن يُردُّ عليه، وكأنهم عصبة.
فمثلًا: لو ماتت امرأة عن زوج، وبنت.
(جـ) أن يكون مع أحد الزوجين أصناف مختلفة ممن يُردُّ عليهم، فهنا نتبه المراحل التالية:
1 - نجعل المسألة من مقام فرض صاحب الزوجية، ونعطيه فرضه، ونجعل الباقي مشتركًا بين جميع الورثة الذين يردُّ عليهم.
2 - نجعل مسألة صغيرة خاصة لمن يُردُّ عليهم، ونجعلها تمامًا كما لو لم يكن معهم أحد الزوجين ونردُّ أصل المسألة إلى مجموع سهامهم.

(3/455)


3 - ننظر بين مرد مسألة أهل الرد والسهم المشترك بينهم في المسألة الأولى، فنخرج القاسم المشترك الأعظم، فنقسم مردَّ المسألة الصغيرة عليه، ونضع الناتج فوق أصل المسألة الأولى (كجزء السهم) ثم نقسم السهم المشترك بين من يرد عليهم على القاسم أيضًا، ونضع الناتج فوق مردّ المسألة الصغيرة كجزء السهم.
4 - نضرب وفق مرد المسألة في أصل المسألة الأولى ونضعه في شباك على يسار المسألة الأولى، ويسمى الناتج: جامعة الرَّد، ونضرب سهم صاحب الزوجية في وفق المسألة أيضًا ونضعه مقابله تحت الجامعة، ثم نأتي إلى المسألة الصغيرة فنضرب سهم كل وارث في جزء السهم، ونضعه مقابل الوارث في المسألة الأولى الكبيرة، وبذلك نكون قد رددنا على الورثة ما عدا صاحب الزوجية، ويمكن تنفيذ هذه الخطوات في المسألة التالية: ماتت امرأة عن: زوج، وبنت، وبنت ابن.
قلت: إذا استصعبتَ هذه الطريقة فيمكن حل المسألة بطريقة «جبرية» بحتة، فنقول: للزوج1/ 4 = 6/ 24، وللبنت (1/ 2) =12/ 24، ولبنت الابن (1/ 6) = 4/ 24 فيبقى من التركة - فنزيد تقسيمه على كل من البنت وبنت الابن بحسب سهم كل منهما ويبقى نصيب الزوج كما هو (6/ 24 = 1/ 4).
فنرى أن نسبة نصيب البنت إلى نصيب بنت الابن هو 12: 4 أي 3: 1.
ومعنى هذا أننا نريد تقسيم الزائد (2/ 24) إلى أربعة أجزاء، تأخذ البنت (3) أجزاء وبنت الابن (1) جزء، فيكون كل جزء مساويًا (0.5/ 24) فيتحصل أن نصيب البنت يساوي (13.5/ 24) ونصيب بنت الابن (4.5/ 24)، ونصيب الزوج كما هو (6/ 24) ومجموع هذه الأنصبة =24/ 24 = 1 = التركة بتمامها، فإذا ضُرب كل كسر منها في القيمة الكلية للمال الموروث، كان الناتج نصيب كل وارث، والله أعلم.

(3/456)


ملاحظة: لاحظ أنك لو جعلت المقام في الكسور السابقة (16) لحصلت على نفس الأسهم الناتجة من الحل السابق: 4/ 16، 9/ 16، 3/ 16، فتأمل!!
ميراث الحمل (الجنين):
الحمل (الجنين) من جملة الورثة إذا تحقق شرطان:
1 - أن يعلم أنه كان موجودًا في البطن عند موت المورِّث، ويُعرف هذا بأن تلده لأقل من ستة أشهر منذ موت الموروث، إذا كان النكاح قائمًا بين الزوجين.
2 - أن ينفصل كله حيًّا حياة مستقرة: ويُعرف ذلك باستهلاله صارخًا أو عطسه أو بكائه ونحو ذلك.
فعن جابر والمسور بن مخرمة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث الصبي حتى يستهلَّ صارخًا» (1).
ما يُفعل بالميراث إذا تحقق وجود الحمل في بطن أمه (2):
1 - إذا كان الحمل غير وارث أو كان محجوبًا بغيره - على جميع الاعتبارات - فإنه لا يوقف له شيء من التركة، وتوزَّع على الورثة من غير انتظار.
2 - إذا كان الحمل وارثًا، ولم يكن معه وارث أصلًا، أو كان معه وارث محجوب به، ومات من يرثه، فقد اتفق الفقهاء على أن توقف التركة كلها لأجله إلى ولادته، ليتبين أمره.
3 - إذا كان الحمل وارثًا، ومعهُ ورثة غير محجوبين به، ورضوا جميعًا صراحة أو ضمنًا بعدم قسمة التركة حتى يولد، ولم يطالبوا بالقسمة، فإن التركة توقف - كذلك - حتى يولد.
4 - إذا طالب الورثة بحقوقهم، فذهب الجمهور إلى التفصيل التالي:
(أ) من لا يرث مع الحمل ولو على بعض التقادير، لا يُعطى شيئًا، كأخي الميت، فإنه على تقدير أن الحمل ذكر لا يرث.
(ب) من لا يختلف نصيبه - على أي تقدير - يُعطى له نصيبه، ويوقف الباقي، كالأم والزوجة، مع ابن وحمل من الميت، فإن الأم لا تنقص عن السدس، والزوجة لا تنقص عن الثمن سواء ولد الحمل حيًّا أو ميتًا.
_________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجة (2751)، والحاكم (4/ 348)، وانظر «الإرواء» (1707).
(2) مستفاد من «أحكام الطفل» لشيخي أحمد العيسوي - رفع الله قدره - (ص: 82) ط. الهجرة.

(3/457)


(جـ) من يختلف نصيبه - وهو من أصحاب الفروض - يُعطى له أقل النصيبين كالزوجة مع الحمل دون ولده سواه، فإن نصيبها على تقدير وجود الحمل الثُّمن، وعلى تقدير عدمه الربع، فإن ولد حيًّا وكان يستحق النصيب الأوفر أخذه وإن لم يكن يستحق إلا النصيب الأقل، أخذه ورد الباقي إلى الورثة، وإن نزل ميتًا لم يستحق شيئًا ووزعت التركة كلها على الورثة دون اعتبار للحمل. اهـ.
قلت: ينبغي - في الحالة الأخيرة - أن نقدِّر تقديرات الحمل - وهي في الغالب لا تخرج عن ست حالات:
1 - أن ينزل الحمل ميتًا.
2 - أن ينزل حيًّا ذكرًا.
3 - أن ينزل حيًّا أنثى.
4 - أن ينزل حيًّا ذكرًا وأنثى.
5 - أن ينزل حيًّا ذكرين.
6 - أن ينزل حيًّا أنثتين.
فنحل المسألة على كل تقدير من هذه التقديرات، فنوقف النصيب الأكبر للحمل، ونعطي بقية الورثة الأنصباء المقابلة له، فإن ظهر الحمل كما قدَّرنا أعطيناه الموقوف، وإلا أعدناه إلى بقية الورثة حسب استحقاقهم.
ميراث الغرقى والحرقى والهدمى:
إذا مات متاورثان أو أكثر في أحد حوادث الموت المفاجئ الجماعي، كغرق سفينة بهم، أو انهدام بيت أو حريق ونحو ذلك، فلهم خمس حالات:
1 - أن يُعلم تقدم موت بعضهم على بعض، فيرث المتأخر - ولو لوقت يسير - من المقدَّم إجماعًا.
2 - أن يتحقق من موتهما معًا في آن واحد، فلا توارث بينهما إجماعًا.
3 - أن يُجهل الحال، فلا يُعلم، أماتوا معًا أم سبق أحدهم الآخر.
4 - أن يُعرف سبق أحدهم من غير يقين.
5 - أن يُعلم السابق على التعيين، ثم يُنسى لطول مدة أو غير ذلك.

(3/458)


ففي الحالات الثلاث الأخيرة، للعلماء قولان (1):
الأول: لا توارث بينهم: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك والشافعي، واتفق عليه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، ووجه هذا القول: أن سبب استحقاق كل منهما ميراث صاحبه غير معلوم يقينًا، والاستحقاق ينبني على السبب، فما لم يتيقن السبب لا يثبت الاستحقاق.
الثاني: أن يرث كل واحد منهم الآخر إلا فيما ورثه من صاحبه: بمعنى أنه يرثه في ماله القديم وأما المال الذي ورثه من صاحبه - الذي مات معه - فلا يقسم إلا على الورثة الأحياء لكل واحد.
وهو مذهب أحمد - عند تنازع الورثة واختلافهم - وهو مروي عن عليٍّ وابن مسعود.
ووجه هذا القول: أن سبب استحقاق كل واحد منهم ميراث صاحبه معلوم، وهو حياته، وسبب الحرمان مشكوك فيه، فيجب التمسك بحياته حتى يأتي بيقين آخر، وسبب الحرمات موته قبل موت صاحبه مشكوك فيه، فلا يثبت الحرمان بالشك إلا فيما ورث كل واحد منهما من صاحبه لأجل الضرورة، والله أعلم بالصواب.
ميراث ولد الزنى (2):
يثبت نسب ولد الزنى من أمه، ويرث من جهتها، لأن صلته بها حقيقة مادية لا شك فيها، أما نسبه إلى الزاني، فقال الجمهور: لا يثبت - ولا يتوارثان - ولو أقرَّ ببنوَّته له من الزنى، لأن النسب نعمة، فلا يترتب على الزنى - الذي هو جريمة - فإذا لم يُصرِّح بأنه ابنه من الزنى، وكانت أم الولد غير متزوِّجة، وتحققت شروط الإقرار ثبت نسبه منه، حملًا على الصلاح وعملًا بالظاهر، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر.
وذهب إسحاق وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما إلى ثبوت نسب ولد الزنى من الزاني بغير صاحبة فراش الزوجية، لأن زناه حقيقة ثابتة، فكما ثبت نسبه من الأم يثبت نسبه من الزاني، كي لا يضيع نسب الولد، ويصيبه الضرر والعار بسبب جريمة لم يرتكبها والله تعالى يقول: {ولا تزر وازرة ورز أخرى} (3).
ومقتضى هذا القول أن يثبت التوارث بينهما، لأن التوارث فرع ثبوت النسب.
_________
(1) «المبسوط» (30/ 27 - 28) ط. المعرفة.
(2) «تبيين الحقائق» (6/ 241)، و «الموسوعة الفقهية» (3/ 70).
(3) سورة فاطر: 18.

(3/459)


ميراث ولد اللعان والمتلاعنين:
تقدم في «اللعان» أنه لا توارث بين ولد اللعان وبين المُلاعِن لأنه قد انقطع نسب الولد من جهة أبيه وأُلحق بأمِّه، كما في حديث سهل بن سعد - في قصة المتلاعنين - وفي آخره: «... فكان بعدُ يُنسب لأمه» (1).
وأما الملاعنة فيثبت التوارث بينها وبين ولدها الذي لا عنت عليه، لما في حديث سهل: «... وكان ابنها يُدعى لأمِّه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه، ويرث منها ما فرض الله له» (2) وهذا يحتمل أنه من قول سهل أو من قول الزهري.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الملاعنة تقوم مقام الأب في ميراثها ابنها فهي عصبته وعصباتها أيضًا عصبته فإذا مات حازت ميراثه، وهو قول ابن عباس وابن مسعود، ورُوي عن عليٍّ، ويشهد له حديث واثلة بن الأسقع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها،
وولدها الذي لا عنت عليه» (3) وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأُمِّه ولورثتها من بعدها» (4).
وانظر ما تقدم في «آثار اللعان».
ميراث ذوي الأرحام:
المراد بذوي الأرحام - عند الفرضيين -: «كل قريب ليس بذي فرض مقدَّر في كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو إجماع الأمة، ولا عصبة تحرز المال عند الانفراد» (5) فإذا لم يوجد أحد من أصحاب الفروض ولم يكن هناك عصبة، فاختلف العلماء: هل يورث ذوو الأرحام أم لا، على قولين (6):
الأول: لا يرثون مطلقًا: ويُردُّ الإرث إلى بيت المال، وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد وأهل الظاهر، وهو قول زيد بن ثابت، وابن عباس في رواية عنه - رضي الله عنهم -، وحجتهم:
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (5309)، ومسلم (1492).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (2906)، والترمذي (2116)، وابن ماجة (2742)، وأحمد (3/ 490).
(4) حسن: أخرجه أبو داود (2908).
(5) «السراجية» (ص 265)، و «العذب الفائض» (2/ 15).
(6) «المبسوط» (30/ 2)، و «جواهر الإكليل» (2/ 328)، و «الأم» (4/ 10)، و «الإنصاف» (7/ 323)، و «المحلي» (9/ 312).

(3/460)


1 - أن الله تعالى نص في آيات المواريث على بيان أصحاب الفروض والعصبات، ولم يذكر لذوي الأرحام شيئًا {وما كان ربك نسيا} (1).
2 - ما رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ميراث العمة والخالة، فقال: «نزل جبريل - عليه السلام - وأخبرني ألا ميراث للعمة والخالة» (2) وهو ضعيف.
الثاني: يورثون، وينزلون منزلة من أدلوا به: فينزل الخال والخالة منزلة الأم، والعمة منزلة الأب، وهكذا.
وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد ومتأخري المالكية والشافعية، وهو مروي عن عمر وعلي وابن عمر وأبي عبيدة ومعاذ وأبي الدرداء - رضي الله عنهم -، وحجتهم:
1 - عموم قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} (3).
فإذا انعدم الوصف الخاص، وهو كونهم أصحاب فروض أو عصبات، استحقوا بالوصف العام وهو كونهم ذوي رحم، ولا منافاة بين الاستحقاق بالوصف العام والاستحقاق بالوصف الخاص، فلا يكون ذلك زيادة على كتاب الله.
2 - ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له» (4).
3 - وما يُروى عن المقداد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه» (5).
قلت: الذي يظهر أن القول بتوريثهم أولى لا سيما عند عدم عدل السلطان أو عدم بيت المال أصلًا!! والله أعلم.
تنبيه: إذا وجد أصحاب فروض - وإن لم يستغرقوا التركة - فإنه يُقدَّم الردّ كما تقدم، وإذا وجد عصبة للميت جازوا التركة كذلك، فلا يُورَّث ذوو الأرحام على كلا القولين.
_________
(1) سورة مريم: 64.
(2) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (2103)، وابن ماجة (2737)، وله شواهد عن عائشة عند الترمذي (2104) وغيره وآخر عن المقداد وهو الذي بعده، وانظر «الإرواء» (1700).
(3) سورة الأنفال: 75.
(4) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (2899)، وابن ماجه (2634، 2738) وانظر السابق.
(5) ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 249)، والدارقطني (4/ 99)، والحاكم (4/ 381)، والبيهقي (6/ 212) وضعَّفه الحافظ في «التلخيص» (3/ 81).

(3/461)


صحيح
فقه السنة
وأدلته
وتوضيح مذاهب الأئمة

أعده

أبو مالك كمال بن السيد سالم

مع تعليقات فقهية معاصرة

فضيلة الشيخ / ناصر الدين الألباني

فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن باز فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين

الجزء الرابع

(4/1)


13 - كتاب الحدود

(4/3)


الحدود
تعريف الحدود (1):
الحدود لغةً: جمع حدٍّ، وهو المنع، ويُطلق على الحاجز بين الشيئين، أو ما يميِّز الشيء عن غيره.
والحدُّ شرعًا: «عقوبة مقدَّرة في الشرع، وحبستًا لأجل حق الله على ذنب - كما في الزنا - أو اجتمع فيها حق الله وحق العبد كالقذف».
فخرج بقولنا (مقدَّرة) التعزير، لعدم تقديره شرعًا، وخرج كذلك القصاص لأنه حق خالص للآدمي.
هذا هو الحد في اصطلاح الفقهاء، وهو موضوع هذا الكتاب، وإن كان الحد في لسان الشارع أعم من ذلك، فإنه يُراد به هذه العقوبة تارة، ويُراد به نفس الجنابة تارة كقوله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} (2)، ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدَّرة، فقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» (3) فالمراد بالحد فيه: ما حَرُم لحق الله.
سبب تسمية العقوبات المقدَّرة حدودًا (4): لا خلاف في أن العقوبات
المقدرة إنما سميت حدودًا لعلَّة المنع، وإنما حصل الخلاف في تعليل مورد المنع في ذلك على أقوال ثلاثة هي:
1 - لأن هذه العقوبات تمنعه المعاودة في مثل ذلك الذنب وتمنع غيره أن يسلك مسلكه.
2 - لأنها عقوبات مقدرة من الشارع، تمتنع الزيادة فيها أو النقصان.
3 - لأنها زواجر عن محارم الله.
وليس هناك ما يمنع التعليل بها مجتمعة لاشتمالها على هذه المعاني الثلاثة.
_________
(1) «مختار الصحاح»، و «ابن عابدين» (3/ 140)، و «كشاف القناع» (6/ 77)، و «المجموع» (22/ 3)، و «نيل الأوطار» (7/ 105)، و «إعلام الموقعين» (3/ 29)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 347)، و «الحدود والتعزيزات» (ص: 24).
(2) سورة البقرة: 187.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6850)، ومسلم (1708).
(4) «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» للعلامة بكر أبو زيد - أمتع الله بحياته - (ص: 22، 23).

(4/4)


حكم إقامة الحدود:
إقامة الحدود فرض على وليِّ الأمر أو نائبه، دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
(أ) فأما الكتاب: فمنه:
1 - قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} (1).
2 - قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (2).
3 - وقال سبحانه في حد القاذف: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (3).
(ب) وأما السنة فمنها:
1 - حديث عائشة: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عله إلا أسامة حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟» ثم قام فاختطب فقال: «يا أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (4).
2 - حديث النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا» (5).
3 - وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم» (6).
_________
(1) سورة المائدة: 38.
(2) سورة النور: 2.
(3) سورة النور: 4.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2493)، والترمذي (2173).
(6) حسن: أخرجه ابن ماجو (2540).

(4/5)


(جـ) وقد أجمع علماء الأمة على وجوب إقامة الحدود على من ارتكب مسبباتها، ولم يخالف أحد في ذلك.
(ر) وأما المعقول: فلما كانت طبيعة البشر مائلة إلى اقتناص الملاذِّ، وتحصيل مقصودها، من شرب وزنا وقذف وسفك للدماء، اقتضت حكمة الله تعالى شرع هذه الحدود حسمًا للفساد، وزجرًا عن ارتكابه، لأن إخلاء المجتمع عن إقامة الرادع يؤدي إلى انحرافه، فالمقصد الأصلي من شرع الحدود الانزجار عما يتضرر به العباد (1).
فضل إقامة الحدود:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إقامةُ حدٍّ بأرض، خير لأهلها من مطر أربعين صباحًا» (2) وهو مختلف فيه.
لا تجوز الشفاعة في الحدود:
لا تجوز الشفاعة في الحدود بعد وصولها للحاكم، والثبوت عنده؛ لأنه طلب ترك الواجب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة بن زيد - كما تقدم - حين شفع في المخزومية التي سرقت، وقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟!» (3).
وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: «من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود
الله تعالى، فقد ضادَّ الله في خلقه» (4).
وأما قبل الوصول إليه، فتجوز - عند الجمهور - الشفاعة عند الرافع له إلى الحاكم ليطلقه؛ لأن وجوب الحدِّ قبل ذلك لم يثبت، فالوجوب لا يثبت بمجرد الفعل (5).
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 140)، و «فتح القدير» (5/ 3).
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2538)، والنسائي (8/ 75)، وأحمد (2/ 362 - 402)، وابن حبان (4997 - 4398) وفي سنده اختلاف، لكن حسنه الألباني في «الصحيحة» (231) وفيه نظر.
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3597)، وأحمد (2/ 70)، وانظر «الإرواء» (2318).
(5) «ابن عابدين» (3/ 140)، و «المواهب» (6/ 320)، و «روضة الطالبين» (10/ 95)، و «المغني» (8/ 281).

(4/6)


قلت: ويؤيد هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب» (1).
وعن صفوان بن أمية قال: «كنتُ نائمًا في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهمًا، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل، فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه، وأنسئه ثمنها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به»؟ (2).
من يقيم الحدود (3):
إن أمر الحدود موكول إلى الحاكم المسلم أو من ينوب عنه، وليس لأفراد الناس إقامة الحدود على من ارتكبوا أسبابها، وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بإقامة الحدود خطابًا مطلقًا، لكن قد عُلم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرًا عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، والقدرة هي السلطان، فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونُوَّابه، ولأنه لم يُقم حدٌّ على حُرٍّ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأنه حق الله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه الحيف، فلم يجز بغير إذن الإمام.
وقد أناب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الحدود، فقال لأنيس: «واغْدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (4).
فائدة: الحدود لا تسلم إلى السلطان إذا كان مُضيِّعًا لها أو عاجزًا عنها (5).
وهل يقيم الرجل الحدَّ على أَمَته أو عبده؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة، وأكثر أهل العلم - خلافًا لأبي حنيفة!! - على أنه يجوز للسيد إقامة الحد على مملوكه دون السلطان، لحديث أبي هريرة قال:
_________
(1) حسن بشواهده: أخرجه أبو داود (4376)، والنسائي (8/ 70)، والبيهقي (8/ 331)، والحاكم (4/ 424) وإسناده حسن لولا خشية تدليس ابن جريج، وله شواهد يحسن بها.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4394)، والنسائي (8/ 69)، والحاكم (4/ 380)، والبيهقي (8/ 265)، وانظر «الإرواء» (2317).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (2315)، ومسلم (1698).
(4) «فتح القدير» (5/ 2359، و «الدسوقي» (4/ 322)، و «روضة الطالبين» (10/ 102)، و «كشاف القناع» (6/ 78).
(5) انظر «مجموع الفتاوى» (34/ 176).

(4/7)


سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا زَنَتْ أمةُ أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحدَّ، ولا يثرِّب عليها، ثم إن زنتْ فليجلدها الحدَّ ولا يُثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبيَّن له زناها فليبعها، ولو بحبل من شعر» (1).
وعن عليٍّ قال: ولدت أمة بعض نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أقم عليها الحد». قال: فوجدتها لم تجف من دمها، فذكرت له ذلك، فقال: «إذا جفَّت من دمها، فأقم عليها الحد» ثم قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» (2).
وعن نافع: «أن ابن عمر قطع يد غلام له سرق، وجلد عبدًا له زنا، من غير أن يرفعهما إلى الوالي» (3).
ما تسقط به الحدود:
1 - الرجوع عن الإقرار (في حق المقرِّ بها على نفسه) (4):
ذهب الجمهور (أبو حنيفة والشافعي وأحمد، وهو قول لمالك) إلى أنه يُقبل من المُقِرِّ الرجوع عن الإقرار، ويسقط عنه الحد، وأنه يُترك إذا هرب لعلَّه يرجع.
لحديث أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردَّد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبك جنون؟!» (5) ... الحديث، فلقَّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الرجوع، فلو لم يكن محتملًا للسقوط بالرجوع ما كان للتلقين فائدة، ولأنه يورث الشبهة.
وفي رواية: «فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحَرُّة فرجم بالحجارة، فلما رأى مسَّ الحجارة فرَّ يشتد حتى مرَّ برجل معه لَحْيُ جمل فضربه به، وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هلا تركتموه» (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (2152)، ومسلم (1703).
(2) ضعف: أخرجه أبو داود (4473)، وأحمد (1/ 135 - 145) وغيرهما، وانظر «الإرواء» (2325)، وقد صح من قول عليٍّ عند مسلم (1705).
(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 239) رقم (18979).
(4) «نيل الأوطار» (7/ 123)، و «البدائع» (7/ 61)، و «المواهب» (6/ 294)، و «الروضة» (10/ 97)، و «المغني» (8/ 197).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (6814)، ومسلم (1318).
(6) إسناده حسن: أخرجه الترمذي (1428)، وأبو داود (4419)، وابن ماجة (2554).

(4/8)


وذهب أبو ثور - وهو الرواية الأخرى عن مالك والشافعي - إلى أنه لا يُقبل منه الرجوع عن الإقرار بعد كماله كغيره من الإقرارات، واستدلوا بما ورد في حديث جابر في قصة ماعز بنحو حديث أبي هريرة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فهلا تركتموه وجئتموني». قال جابر: «ليستثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، فأما ترك حدٍّ فلا» (1).
قلت: والأوَّل أرجح.
2 - الشبهة، فلا يجب الحد بالتُّهم ولا بالظن (2):
اتفق الفقهاء - خلافًا لابن حزم وأصحابه - على أنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات، والشبهة: ما يشبه الثابت وليس بثابت، سواء كانت في الفاعل: كمن وطىء امرأة ظنَّها خليلته، أو في المحل: بأن يكون للواطىء فيها ملك أو شبهة
ملك كالأمة المشتركة، أو في الطريق: بأن يكون حرامًا عند قوم، حلالًا عند غيرهم، والأصل في هذا:
1 - حديث ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العجلاني وامرأته» فقال شداد بن الهاد: هي المرأة التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها» قال: لا، تلك امرأة أعلنت (3).
2 - ما يُروى مرفوعًا: «ادرءوا الحدود بالشبهات» (4).
3 - وما يُروى عن عائشة مرفوعًا: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (5) وهما ضعيفان، وفي الباب عن أبي هريرة وغيره وفيه ضعف، لكن الأمة تلَّقت معنى هذه الأحاديث بالقبول.
4 - وعن ابن مسعود قال: «ادرءوا الجلد عن المسلمين ما استطعتم» (6).
_________
(1) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (4420).
(2) «ابن عابدين» (3/ 149)، و «القوانين» (347)، و «الروضة» (10/ 92)، و «كشاف القناع» (6/ 96)، و «المحلى» (11/ 153)، و «الأشباه والنظائر» للسيوطي (122).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1497)، وابن ماجة (2559، 2560).
(4) ضعيف: وانظر «إرواء الغليل» (2316).
(5) ضعيف: أخرجه الترمذي (1424)، والدارقطني (3/ 84)، والبيهقي (8/ 238)، وانظر «الإرواء» (2355).
(6) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 511)، والبيهقي (8/ 238).

(4/9)


5 - وعن عمر بن الخطاب أنه قال: «لأن أعطِّل الحدود بالشبهات أحب إليَّ من أن أقيمها في الشبهات» (1).
وأما أبو محمد بن حزم فضعَّف حديثي أبي هريرة وعائشة -؟؟ كذلك - وقال: «إن لم يثبت الحد لم يحلَّ أن يُقام بشبهة، وإذا ثبت الحدُّ لم يحلَّ أن يُدرأ بشبهة» (!!)» اهـ.
قلت: نعم، الحديثان ضعيفان من جهة السند، إلا أن معناهما يتفق مع قواعد الشرع التي تقضي بأن لا يقام حدٌّ إلا بعد اليقين، رحمة بالإنسان ودفعًا لإلحاق الضرر به بظنٍّ مجرَّد، ولذا تلقت الأمة هذا الحكم بالقبول، وعمل له أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، على أن في حديث ابن عباس المتقدم أن الحدَّ لا يقام إلا ببينة، والله أعلم.
أثر التوبة في الحدود (2):
أثر التوبة في الحدود درءًا وإيجابًا يكون على حالتين:
الأولى: أن تكون توبته بعد القدرة عليه: فهذه التوبة لا تُسقط الحدَّ بالاتفاق.
الثانية: أن تكون توبته قبل القدرة عليه: فأثر التوبة في سقوط الجريمة الحدِّية في هذه الحالة ينقسم إلى قسمين: محلُّ اتفاق، ومحل اختلاف.
(أ) محلُّ الاتفاق:
لا خلاف بين الفقهاء في أن حدَّ قطاع الطريق (حدّ الحرابة) والرِّدَّة يسقطان بالتوبة إذا تحققت توبة القاطع قبل القدرة عليه، وكذلك حدُّ ترك الصلاة - عند
من اعتبره حدًا، لقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفقوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} (3).
_________
(1) رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 511)، ورجاله ثقات لكنه منقطع، لكن قال السخاوي: «وكذا أخرجه ابن حزم في «الإيصال» له بسند صحيح» اهـ، وانظر «الإرواء» (7/ 345).
(2) «ابن عابدين» (3/ 140)، و «الشرح الصغير» (4/ 489)، و «روضة الطالبين» (10/ 97)، و «المغني» (8/ 296)، و «الحدود والتعزيرات» (71 - وما بعدها).
(3) سورة المائدة: 33، 34.

(4/10)


(ب) محل الاختلاف:
واختلفوا في بقية الحدود إذا تاب مرتكب الجريمة الحدِّية قبل المقدرة عليه على قولين:
الأول: تسقط هذه الحدود بالتوبة قبل المقدرة عليه كذلك: وهو قول في مذهب الحنفية وقول للشافعية، وهو إحدى الروايتين عند الحنابلة، واختارها ابن القيم، واستدل لها بما يلي:
1 - قوله تعالى - في سياق الكلام عن فاحشة الزنى - {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} (1).
2 - وقوله سبحانه بعد ذكر حد السرقة: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} (2).
3 - حديث أنس قال: «كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ حدًّا فأقمه عليَّ، ولم يسأله، قال: وحضرت
الصلاة فصلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إليه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، قال: ولم يسأل عنه، قال: «أليس قد صليت معنا؟» قال: نعم، قال: «فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك» (3) وفي بعض الروايات أنه قال: «إني زنيت».
قال الحافظ في «الفتح» (12/ 134): «قد يتمسك به من قال: إنه إذا جاء تائبًا سقط عنه الحد» اهـ.
4 - حديث وائل بن حُجْر - رضي الله عنه -: (أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وه تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه إليها: فقال: أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته أنه الذي وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذبت هو الذي وقع علي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انطلقوا به
_________
(1) سورة النساء: 16.
(2) سورة المائدة: 39.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6823)، ومسلم (2764).

(4/11)


فارجموه». فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة فقال: أما أنت فقد غفر لك. وقال للذي أغاثها: قولًا حسنًا فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لأنه قد تاب إلى الله) (1).
قال ابن القيم: «ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعًا واختيارًا خشية من الله وحده، وإنقاذًا لرجل مسلم من الهلاك، وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها، فقاوم هذا الدوا ذاك الداء، وكانت القوة الصالحة، فزال المرض، وعاد القلب إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة لنا بحدك، وإنما جعلناه طهرة ودواء، فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك، فأيُّ حكم أحسن من هذا الحكم؟ وأشد مطابقة للمرحلة والحكمة والمصلحة؟ وبالله التوفيق» اهـ (2).
5 - حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (3).
فدلَّ على أنه لا عقاب على التائب مما يوجب حدًّا إذا تاب قبل القدرة عليه لتمحُّض صدقه في توبته.
6 - أن الشارع اعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره قبل القدرة عليه بطريق الأولى، فإنه إذا دفعت عنه توبته حدَّ حرابة مع شدَّة ضررها وتعدِّيه، فلأن تدفع التوبة عنه ما دون حدِّ الحرابة بطريق الأولى والأحرى، وقد قال الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (4).
القول الثاني: أن التوبة في هذه الحدود - قبل القدرة عليه - لا تُسقط الحدَّ:
وهو مذهب المالكية والأظهر عند الحنفية والشافعية، والرواية الأخرى عند الحنابلة واستدلوا بما يلي:
1 - عموم آيات إقامة الحدود في القرآن، قالوا: وهي عامة في التائبين وغيرهم (!!).
_________
(1) حسن: أخرجه الترمذي (1454)، وأبو داود (4379)، وابن ماجة، وأحمد (26698).
(2) «إعلام الموقعين» (3/ 21).
(3) حسن: أخرجه ابن ماجة (4250)، والبيهقي (10/ 154)، والطبراني (10/ 150).
(4) سورة الأنفال: 38.

(4/12)


وأجيب: بأن هذا من العموم المخصَّص بالسنة كما تقدم في أدلة الفريق الأول.
2 - الأحاديث التي فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام الحدَّ على من جاء تائبًا يطلب التطهير بإقامة الحد عليه كماعز والغامدية - رضي الله عنهما.
قالوا: فلو كانت التوبة قبل القدرة مسقطة للحدِّ لم يحدَّهم - صلى الله عليه وسلم.
وأجيب: بأن الحدَّ مطهَّر والتوبة مطهرة، وهما اختارا التطهير بالحدِّ على التطهير بالتوبة، وأبيا إلا أن يُطهَّرا بالحدِّ، فأجابهما النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعز: «هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه» (1) ولو تعيَّن الحد بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مُخيَّر بين أن يتركه - كما قال لصاحب الحد الذي اعترف: «اذهب فقد غفر الله لك» (2) - وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختار إقامته، وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردَّهما النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارًا، وهما
يأبيان إلا إقامته عليهما.
وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول: لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة، وبين مسلك من يقول: لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة، وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط والله أعلم (3).
قلت: وهو الأرجح، والأقرب إلى روح الشريعة، وهو مقتضى رحمة رب العالمين واتساعها للعفو عن المذنبين، ورفع العقاب عن التائبين، فليس للإمام أن يقيم الحدَّ على من تاب توبة صادقة وجاء بنفسه فاعترف قبل أن تقوم البينة عليه ويؤتى به إلى الإمام، لكن إذا طلب هو إقامة الحد عليه أُقيم وإلا فلا، على أنه ينبغي أن ينتبه إلى أنَّ من قامت عليه البينة وأتى به إلى الإمام ليقيم عليه الحد، ثم أظهر التوبة لم يُقبل منه ذلك، فإن كان تائبًا في الباطن كان الحد مكفِّرًا، وكان مأجورًا على صبره (4) والله أعلم.
شروط وجوب الحدِّ:
يشترط فيمن يرتكب جريمة حدِّية ليجب عليه الحد - عمومًا - ما يلي:
_________
(1) إسناده حسن: تقدم قريبًا.
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) «إعلام الموقعين» (2/ 79).
(4) انظر «مجموع الفتاوى» (16/ 31).

(4/13)


1 - التكليف (البلوغ، والعقل):
فلا خلاف بين الفقهاء في أن الحد لا يجب إلا على مكلَّف، وهو البالغ العاقل، فلا يُحدُّ الصغير ولا المجنون، ويؤيد هذا:
(أ) حديث ابن عباس قال: أُتي عمر بمجنونة قد زَنتْ فاستشار فيها أناسًا،
فأمر بها عمر أن تُرجم، فمر بها على عليِّ بن أبي طالب فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: راجعوا بها، ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أما علمت أن القلم قد رُفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى، قال: فما بال هذه تُرجم؟ قال: لا شيء، قال: فأرْسِلْها، قال: فأَرْسَلَها، فجعل يكبِّر (1).
(ب) وفي حديث أبي هريرة - في قصة اعتراف ماعز بالزنا -: ... فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبك جنون»؟ ... الحديث (2).
فدلَّ على أنه لو كان به جنون ما أقام عليه الحدَّ.
2 - الاختيار وعدم الإكراه:
فلا حدَّ على من أُكره على أمر من الأمور، قال الله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله} (3).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (4).
3 - العلم بالتحريم:
فلا يجب إلا على من عُلِم التحريم، وبهذا قال عامة أهل العلم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - راجع ماعزًا فقال له: «هل تدري ما الزنا؟» (5). وقد رُوي عن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - أنهما قالا: «لا حدَّ إلى على من علمه» (6) وأسانيده ضعيفة.
_________
(1) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (4399)، وأحمد (1/ 116) ومواضع، وله شاهد عن عائشة، وفي لفظ لأبي داود (4401) أنه قال: أوما تذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رفع القلم عن ثلاثة ...».
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) سورة النحل: 106.
(4) صحيح: تقدم مرارًا.
(5) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (7/ 322)، وعنه أبو داود (4428)، والنسائي في الكبرى (7165)، وابن حبان (4399)، وفيه عنعنة أبي الزبير وهو مدلس.
(6) انظر: «إرواء الغليل» للعلامة الألباني - رحمه الله - (2314 - 2315).

(4/14)


فإن ادعى الزاني - مثلًا - الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهلهُ كحديث العهد بالإسلام، قُبل منه؛ لأنه يجوز أن يكون صادقًا، وإن كان ممن لا يخفى عليه كالمسلم الناشئ بين المسلمين لم يُقبلْ منه؛ لأن تحريم الزنا لا يخفى على من هو كذلك.
هذا، وهناك شروط أخرى لوجوب كل حدٍّ، يأتي الكلام عليها في موضعها - إن شاء الله.
تنبيه: يشترط لإقامة الحد العلم بالتحريم وليس العلم بالعقوبة، فإن علم أن الزنا مثلًا محرَّم، لكن لم يَدْرِ أنه يُرجم، أقيم عليه الحد، بلا خلاف.
هل يقام الحد على المريض ونحوه؟ (1)
مرتكب الجريمة الحدِّية إذا كان مريضًا عند القدرة، فله حالتان:
(أ) أن يكون مرضه مما يُرجى بُرْؤه: ففيه قولان للعلماء:
الأول: يقام عليه الحدُّ ولا يؤخر، وبه قال إسحاق وأبو ثور وهو رواية عن أحمد، وحجة هذا القول:
1 - أن عمر - رضي الله عنه - أقام الحد على قدامة بن مظعون في مرضه ولم يُؤَخِّرهُ (2)، وانتشر ذلك في الصحابة، فلم ينكروه، قالوا: فصار إجماعًا (!!).
2 - أن الحد واجب على الإمام إقامته، فلا يؤخَّر بغير حجة.
الثاني: يؤخر الحد حتى يبرأ من عليه الحدُّ من مرضه، وهو مذهب الجماهير من الأئمة الأربعة وغيرهم، وحجتهم:
1 - عن أبي عبد الرحمن - رضي الله عنه - قال: خطب عليٌّ - رضي الله عنه - فقال: يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحدَّ، من أحصن منهم، ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيتُ إن أنا جلدتُها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أحسنتَ» وزاد في رواية: «اتركها حتى تماثل» (3).
_________
(1) «فتح القدير» (5/ 29)، و «جواهر الإكليل» (2/ 286)، و «نهاية المحتاج»، و «المغني» (8/ 171) وللقصة شاهد من حديث ابن عباس عند النسائي في «الكبرى» (5289).
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9/ 240) ومن طريقه البيهقي (8/ 315).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1705)، وأبو داود (4473)، والترمذي (1441).

(4/15)


قلت: وقد يستدل لهم كذلك:
2 - بحديث الغامدية لما جاءت فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردَّها، فلما كان من الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردُّني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فوالله إني لحُبلى، قال: «أما الآن، فاذهبي حتى تلدي» فلما ولدت أتته
بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدتُ، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ...» الحديث (1).
وهو أصل تأخير الحد لعارض يترتب عليه مصلحة للمحدود، والله أعلم.
ولا شك أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقراره يقدَّم على فعل عمر وغيره، والله أعلم.
(ب) أن يكون مرضه مما لا يُرجى بُرؤه (2): فيقام عليه الحدُّ في الحال، ولا يؤخَّر، فإن كان حدُّ مائة جلدة مثلاً، فإنه يقام عليه بسوط يؤمن معه التلف، فإن خيف عليه جُمع عُثكول فيه مائة شمراخ فيضرب به ضربة واحدة، وبه قال الشافعي.
وأنكره مالك؛ لأن هذه ضربة واحدة والله تعالى يقول: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (3).
وقول الشافعي أظهر، لحديث سعيد بن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: كان في أبياتنا رُويجل ضعيف، فخبث بأمة من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اضربوه حدَّهُ» فقالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك، فقال: «خذوا عثكالًا فيه مائة شمراخ، ثم أضربوه به ضربة واحدة»، ففعلوا (4).
فهذا في حال العذر أولى من ترك حدِّه بالكلية، وأولى من قتله بما لا يوجب القتل.
قلت:
وقد قال الله تعالى - في شأن أيوب عليه السلام لما أقسم أن يضرب امرأته مائة ضربة -: {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1695).
(2) انظر: «سبل السلام» (4/ 1283).
(3) سورة النور: 2.
(4) فيه ضعف: أخرجه ابن ماجة (2574)، وأحمد (5/ 222)، وابن أبي عاصم في «الآحاد» (2024)، والطبراني في «الكبير» (6/ 63) وفيه عنعنه ابن إسحاق.
(5) سورة ص: 44.

(4/16)


هل تُقام الحدود على المسلم في دار الحرب؟ (1)
إذا أصاب المسلم - في أرض العدو - حدًّا من سرقة أو شرب خمر أو نحوهما من موجبات الحدود فقد اختلف أهل العلم في إقامة الحدِّ عليه على ثلاثة أقوال:
الأول: يقام عليه الحد سواء كان في دار الإسلام أو دار الحرب، وهو مذهب المالكية، وحكاه البيهقي وغيره عن الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، وحجتهم:
1 - أن الأدلة الآمرة بإقامة الحدود مطلقة، في كل مكان وزمان، كقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (2).
2 - حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر».
الثاني: لا حدَّ عليه في دار الحرب، لا إذا رجع، وهو مذهب أبي حنيفة على ما نقله ابن قدامة وابن القيم عنه - وقيَّده الحنفية بعدم وجود خليفة المسلمين ف دار الحرب، فإن كان معهم وجبت إقامة الحدود على من تلبَّس بها ولا تؤخَّر، فإن لم يكن معهم سقط الحد، واحتجوا بحديث: «لا تقام الحدود في دار الحرب» (3) ولا أصل له.
ويستدل لهم بان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أسقط الحد - حدَّ الخمر - عن أبي محجن، فخلَّى سبيله، وقال: «والله لا أضرب اليوم رجلًا أبلى للمسلمين ما أبلاهم» (4).
الثالث: لا يقام عليه الحد في أرض الحرب، ولا يسقط عنه بالكلية، بل يؤخَّر حتى يرجع إلى أرض الإسلام:
وهو مذهب أحمد وإسحاق والأوزاعي، واستدلوا بما يلي:
_________
(1) «شرح فتح القدير» (5/ 46)، و «جواهر الإكليل» (2/ 286)، و «المغني» (10/ 537 - مع الشرح الكبير)، و «سنن البيهقي» (9/ 103)، و «نيل الأوطار» (7/ 163)، و «الحدود والتعزيزات» (ص: 39 - وما بعدها).
(2) سورة النور: 2.
(3) لا أصل له: قال ابن الهمام الحنفي في «فتح القدير» (5/ 46): «لا يُعلم له وجود» اهـ.
(4) صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (2502)، وابن أبي شيبة (6/ 550)، وعبد الرزاق (9/ 243).

(4/17)


1 - حديث بسر بن أبي أرطأة: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تقطع الأيدي في الغزو» (1) وفي لفظ «في السفر».
قال ابن القيم: «فهذا حدٌّ من حدود الله وقد نهى عن إقامته في الغزو، خشية أن يترتب عله ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، من لحوق لصاحبه بالمشركين حمية وغضبًا كما قال عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم ...» اهـ (2).
فإن قيل: ظاهر الحديث سقوط الحد لا تأخيره، والحال يقتضي البيان؟! قيل: الحديث نهى عن إقامة حد القطع في (غير واضح ص 18) وهو الغزو وليس إسقاطًا له، ويوضحه فعل الصحابة - رضي الله عنهم.
2 - فرُوي عن عمر أنه «كتب إلى الناس: أن لا يجلدون أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غازٍ حتى يقطع الدرب قافلًا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار» (3).
3 - ورُوى عن أبي الدرداء: «أنه كان ينهي أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز في سبيل الله حتى يقفل مخافة أن تحمله الحمية فيلحق بالكفار، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا فإن عقوبة الله من ورائهم» (4).
4 - وعن علقمة بن قيس قال: «كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحدَّه، فقال حذيفة: أتحدُّون أميركم؟! وقد دَنَوْتُم من عدوكم فيطمعون
فيكم» (5).
وفيه أن حذيفة لم يسقط الحد عنه وإنما استنكر عليهم تعجيله وهم عند أرض العدو مخافة أن يطمع فيهم الأعداء.
_________
(1) صحيح إلى بسر: أخرجه أبو داود (4408)، والترمذي (1450)، وأحمد (17174)، والدارمي (2492) وغيرهم وهو صحيح إلى بسر، وهو مختلف في صحبته وفي سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه كلام يغمز في عدالته - لا في صدقه -.
(2) «إعلام الموقعين» (3/ 17).
(3) حسن بطرقه: سعيد بن منصور (2500)، وابن أبي شيبة (5/ 549)، والبيهقي (9/ 105).
(4) إسناده ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2499).
(5) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (2501)، وعبد الرزاق (5/ 198)، وابن أبي شيبة (5/ 549).

(4/18)


5 - قال ابن قدامة: وهو إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - (!!) والظاهر أن مراده الإجماع السكوتي.
6 - انه قد ثبت تأخير الحدِّ لمصلحة المحدود (كالحامل والمرضع) فتأخيره لما فيه مصلحة المسلمين وحاجتهم إليه أولى. قلت: وهذا الأخير أظهر والله أعلم.
لا تُقام الحدود في المساجد (1):
اتفق الفقهاء على أنه تحرم إقامة الحدود في المساجد، لحديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقامة الحد في المساجد» (2) وعن طارق بن شهاب قال: أُتي عمر برجل في شيء فقال: «أخرجاه من المسجد واضرباه» (3).
ولأن تعظيم المسجد واجب، وفي إقامة الحدود فيه ترك تعظيمه.
ولا خلاف في إقامتها في الحرم على من ارتكب موجب الحد فيه، أما من ارتكبه خارج الحرم ولجأ إليه، فقد اختلف الفقهاء: فذهب الجمهور إلى أنه لا يُستوفى فيه حدٌّ لقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنًا} (4).
ولحديث أبي شريح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا» (5) يريد: مكة.
قالوا: يُقاطع ويضيَّق عليه حتى يخرج فيستوفى منه الحد.
وذهب المالكية والشافعية إلى أنه تستوفى الحدود في الحرم، لحديث أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعلى رأسه مغفر، فلما نزع المغفر، جاءه رجل فقال: ابن خطيل متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه» (6).
_________
(1) «البدائع» (7/ 60)، و «جواهر الإكليل» (2/ 223)، و «روضة الطالبين» (10/ 173)، و «كشاف القناع» (6/ 80).
(2) حسن بشواهده: أخرجه أبو داود (4490)، وأحمد (3/ 434)، والحاكم (4/ 378)، والبيهقي (8/ 328)، وانظر «الإرواء» (2327).
(3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/ 23).
(4) سورة آل عمران: 97.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (104)، ومسلم (1354).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (1846)، ومسلم (1357).

(4/19)


التلف بسبب الحدود (1):
لا خلاف بين الفقهاء في أن الحدود إذا أُتي بها على الوجه المشروع من غير زيادة، أنه لا يضمن من تلف بها، وذلك لأنه فعلها بأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يؤاخذ به، ولأنه نائب عن الله تعالى، ومأمور بإقامة الحد، وفعل المأمور لا يتقيَّد بشرط السلامة، وإن زاد على الحد فتلف وجب الضمان بغير خلاف.
الحدود كفارات للذنوب:
ذهب الجمهور - خلافًا للحنفية - إلى أن الحدَّ المقدَّر في ذنب كفارة لذلك الذنب، ويدلُّ على هذا حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس، فقال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ هذه الآية كلها -، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عاقبه» (2).
وقال الحنفية: الحد غير مُطهِّر، بل المطهر التوبة، فإذا حُدَّ ولم يتب يبقى عليه إثم المعصية - عندهم - كما قال تعالى في حدِّ قطاع الطريق: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (3).
استحباب الستر على المسلم:
من عايَنَ ارتكاب مسلم لجريمة حدِّية، فهو مخيِّر بين أداء الشهادة حسبةً لله تعالى القائل {وأقيموا الشهادة لله} (4). وبين الستر على أخيه المسلم، وهو الأولى، لاسيما على من كان ظاهره الستر ولم يكن مجاهرًا بمعصيته، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» (5).
ويستحب كذلك أن يستر العبد على نفسه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 189)، و «مواهب الجليل» (6/ 321)، و «روضة الطالبين» (10/ 101)، و «كشاف القناع» (6/ 83).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (18)، ومسلم (1709).
(3) سورة المائدة: 33.
(4) سورة الطلاق: 4.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2699)، والترمذي (1449)، وأبو داود (4925)، وابن ماجة (225).

(4/20)


عليه، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عليه» (1).

الجرائم الحَدِّيَّة:
وقد ثبت بالكتاب والسنة أن الجرائم التي يجب الحد (العقوبة المقدَّرة) على مرتكبها هي: الزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسَّرقة، والمحاربة، والرِّدة.
وإليك هذه الحدود وأهم ما يتعلق بها من أحكام:

(1) حَدُّ الزِّنا
تعريف الزنا (2):
الزنا لغةً: يطلق على عدة معان منها: الفجور، ومنها: الضيق، يقولون زنى زناء، أي: دخل وضاق، ويطلق كذلك على ما دون مباشرة الأجنبية، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» (3).
ويطلق الزنا ويراد به: وطء المرأة من غير عقد شرعي، وهذا هو المراد في عامة النصوص المتعلقة بالزنا مما سيأتي بعضه.
فالزنا اصطلاحًا، قد تعددت تعريفات العلماء له، وكلها متقاربة، ولعل أمثلها أن يقال: «الزنا: هو الوطء في قُبُل خالٍ عن ملك أو شبهة».
ذم الزنا والترهيب منه:
الزنا من أكبر الكبائر، وقد ثبتت حُرمته بالكتاب والسنة والإجماع.
(أ) فمن الكتاب:
1 - قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (4).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990).
(2) «لسان العرب»، و «معجم مقاييس اللغة»، و «فتح القدير» (4/ 139)، و «جواهر الإكليل» (2/ 283)، و «نهاية المحتاج» (7/ 402)، و «المحرر» (2/ 53)، و «الحدود التعزيزات» (ص: 89 - 93)، و «التشريع الجنائي» (2/ 349).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657).
(4) سورة الإسراء: 32.

(4/21)


2 - قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق إثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا} (1).
3 - وقوله سبحانه: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} (2).
4 - وقوله سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو
مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (3).
5 - قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (4).
(ب) ومن السنة:
1 - حديث ابن مسعود قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» قلت: إن ذلك لعظيم، قال: ثم قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» (5).
2 - وفي حديث سمرة بن جندب - الطويل في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «... فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، قال: أحسب أنه يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضووا، قال: قلت لهما - أي الملكين - ما هؤلاء؟ ... قالا: وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فهم الزناة والزواني ...» الحديث (6).
_________
(1) سورة الفرقان: 68 - 70.
(2) سورة الأنعام: 151.
(3) سورة النور: 2، 3.
(4) سورة المؤمنون: 5 - 7.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (6811)، ومسلم (86).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (7047).

(4/22)


وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزنى الزاني حين
يزني وهو مؤمن» (1).
ومعناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان.
4 - وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظُّلَّة، فإذا انقلع رجع إليه الإيمان» (2).
5 - وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم [ولا ينظر إليهم] ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذَّاب، وعائل مستكبر» (3).
(جـ) وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين في أن الزنا محرم قطعًا، وتحريمه مما علم من الدين بالضرورة.
سدُّ الذرائع الموصَّلة إلى الزنا (4):
قاعدة التشريع التي لا تنخرم أن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئًا حرم الأسباب والدوافع الموصلة إليه سدًّا للذريعة وكفًّا عن الوقوع في حمى الله ومحارمه، ليعيش في مجتمع مملوء بالإباء والشمم عن كافة الرذائل والطرائق الموصلة إليها حتى يلقى الله تعالى وهو على هدى من الله وصراط مستقيم.
ولهذا فإن علماء الشريعة استنبطوا بطريق التتبع والاستقراء لمواطن التنزيل
قاعدة شريفة هامة تعتبر من الكليات التشريعية التي تعايش المسلم في كلّ لحظة وآن، تلك هي: قاعدة (سد الذرائع الموصلة إلى المحرمات).
وابن القيم - رحمه الله تعالى - قرر هذه القاعدة، واستدل لها من وجوه الأدلة بما يقارب مائة وجه من الكتاب والسنة، وبيّن أن قاعدة سد الذرائع، أحد أرباع التكليف، فإنه وجه ذلك فقال:
(وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه والثاني: وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان: أحدهما: ما
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6772)، ومسلم (57).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4690).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (107)، والنسائي (5/ 86)، وأحمد (2/ 433).
(4) من «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» للعلامة بكر أبو زيد - رفع الله قدره - (ص: 106 - 114).

(4/23)


يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني: ما يكون وسيلة إلى مفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين).
وفي خضم هذا المبحث ذكر ضروبًا ووجهًا مما ورد في الكتاب والسنة من سد الذرائع الموصلة إلى فاحشة الزنا، وعرضها بأسلوبه العلمي الأخاذ الخالي من التعقيد والجفاف وبيانها على ما يلي:
1 - نهي النساء عن الضرب بالأرجل:
قال - رحمه الله تعالى -:
قال الله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}. فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن).
وهذا المنهي عنه - من وسائل الإغراء والإشارة - هو نهي تحريم كما فهمه ابن القيم وهو محال اتفاق عن علماء التفسير.
وابن القيم في مقام دلالة النص على قاعدة سد الذرائع، وإلا فإن الآية تفيد أيضًا النهي عن كلّ حركة من شأنها أن تثير الغريزة وتلهب داعي الشهوة، وفي ذلك المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن} (1) إلى آخره).
2 - وهذا الأمر بغض البصر:
وهذا أمر مطلوب من الجنسين الرجال والنساء لقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} (2) الآية.
وابن القيم - رحمه الله تعالى - قد أبدى في هذه الذريعة عجبًا فأبدى كلامًا يزغ الأبصار الخائنة، والأعين الفاجرة عن غوايتها إن كان لديها بقية من إيمان
_________
(1) سورة النور: 31.
(2) سورة النور: 32.

(4/24)


واستجابة لداعي الرحمن. وقد أكثر اللهج برعاية حرمات الله، وأنا في هذا المقام أسوق للقارئ شذرة من كلامه المنثور والمنظوم إذ يقول:
(أما اللحظات: فهي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتبع النظرة النظرة، إنما لك الأولى وليست لك الأخرى».
وفي المسند عنه - صلى الله عليه وسلم -: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه» هذا معنى الحديث. وقال: «غضّوا أبصاركم واحفظوا فروجكم» وقال: «وإياكم والجلوس على الطرقات» قالوا يا رسول الله مجالسنا، ما لنا بدّ منها، قال: «غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام».
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد خطرة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولابد، ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل «الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده».
قال الشاعر:
كلّ الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت من قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر
ومن آفات النظر: أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه، وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة على بعضه.
قال الشاعر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدًا لقلبك يومًا، أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
وهذا البيت يحتاج إلى شرح. ومراده: أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه، فإن قوله: «لا كله أنت قادر عليه» نفي لقدرته على الكلّ الذي لا ينفى إلا بنفي القدرة عن كل واحد واحد.

(4/25)


وكم من أرسل لحظاته فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلًا كما قيل:
يا ناظرًا، ما أقلعت لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلًا
ولي من أبيات:
ملّ السلامة فاغتدت لحظاته وقفًا على طلل يظن جميلًا
ما زال يتبع أثره لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلًا
ومن العجب: أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه، حتى يتبوأ مكانًا من قلب الناظر، ولي من قصيدة:
يا راميًا بسهام اللحظ مجتهدًا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له أحبس رسولك، لا يأتيك بالعطب
وأعجب من ذلك: أن النظرة تجرح القلب جرحًا، فيتبعها جرحًا على جرح، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها. ولي أيضًا في هذا المعنى:
ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كلّ مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في الـ تحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح
وقد قيل: أن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات.
3 - النهي عن الخلوة بالأجنبية:
وفي ذلك يقول - رحمه الله تعالى -:
(أنه - صلى الله عليه وسلم - حرّم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن).
وقال أيضًا:
(نهى - صلى الله عليه وسلم - الرجال عن الدخول على النساء لأنه ذريعة ظاهرة).
وهذا محل إجماع ولو في باب من أبواب الخير والرشاد كإقراء القرآن وتعليم العلم، وقد حكى الإجماع على ذلك الحافظان ابن حجر والشوكاني.
4 - النهي عن سفر المرأة بلا محرم:
قال - رحمه الله تعالى -:
(ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن السفر بلا محرم وما ذاك إلا أن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها).

(4/26)


5 - النهي عن خروج المرأة متطيبة:
وفي ذلك يقول:
(ونهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخورًا وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوقهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرج تفلة ولا تتطيب ... كلّ ذلك سدًّا للذريعة
وحماية عن المفسدة).
6 - النهي عن أن تصف المرأة المرأة لزوجها:
وفي هذا يقول:
(نهى - صلى الله عليه وسلم - أن تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، ولا يخفى أن ذلك سدًّا للذريعة، وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه، وكم ممن أحب غيره بالوصف قبل الرؤية).
7 - الأمر بالتفريق بين الأولاد في المضاجع:
وفي هذا يقول - رحمه الله تعالى -:
(أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يفرق بين الأولاد في المضاجع، وأن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد، لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما: المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولاسيما مع الطول. والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر، وهذا أيضًا من ألطف سد الذرائع).
8 - النهي عن الشياع:
قال - رحمه الله تعالى - في ذلك:
(إنه - صلى الله عليه وسلم - حرّم الشياع: وهو المفاخرة بالجماع؛ لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتشهي، وقد لا يكون عند الرجل من يغنيه عن الحلال فيتخطى إلى الحرام. ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي، فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه، وفي ذلك
من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله).
9 - إبطال أنواع من الأنكحة التي يتراضاها الزوجان:
وفي بيانها وبيان وجه الإبطال يقول:
(إنه - صلى الله عليه وسلم - أبطل أنواعًا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سدًّا للذريعة الزنا: فمنها: النكاح بلا ولي، فإنه أبطله سدًّا لذريعة الزنا، فإن الزاني لا يعجز أن يقول

(4/27)


للمرأة: انكحيني نفسك بعشرة دراهم) ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم، فمنعها من ذلك سدًّا لذريعة الزنا.
ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجة بل وطر فيما يفضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة.
ومن ذلك تحريم نكاح المتعة، الذي يعقد فيه الممتع على المرأة مدة يقضي وطره منها فيها.
فحرّم هذه الأنواع كلها سدًّا لذريعة السفاح، ولم يبح إلا عقدًا مؤيدًا يقصد فيه كلّ من الزوجين المقام مع صاحبه، ويكون بأذن الولي وحضور الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما من الإعلان.
فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع، وهي من محاسن الشريعة وكمالها.
10 - النهي عن اختلاط الجنسين:
وقد ورد بذلك جملة الأحاديث الصحيحة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء».
وفي بيان الذريعة يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
(لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال: أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة .. فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية - قبل الدين - فكانوا أشد شيء منعًا لذلك ..).
هذه جملة من المناهي التي وردت في الشريعة الإسلامية سدًّا لإثارة الغرائز وتهييج الشهوات حماية للمجتمع وصيانة له من الوقوع في جريمة الزنا وهذا باب في الشريعة مطرد: إذا حرّم الله شيئًا سد الأبواب الموصلة إليه والله أعلم.
الزنا المعتبر في وجوب الحدِّ:
تقدم أن حقيقة الزنا: «الوطء في قُبُل (فرج) خال عن ملك أو شبهة» ويتحقق

(4/28)


هذا بتغييب حشفة الذكر (رأس الذكر) في فرج محرَّم (أي بغير عقد شرعي) من غير شبهة نكاح، سواء أنزل أو لم ينزل.
فإذا باشر الرجل امرأة أجنبية فيما دون الفرج، فإن هذا محرَّم بلا شك، لكنه لا يعتبر «زنا» ولا يوجب حدَّ الزنا، وإن استحق فاعله التعزيز.
بم يثبت حد الزنا؟
يثبت حدُّ الزنا على الزاني بواحد من ثلاثة أشياء:
(1) الإقرار (اعتراف الزاني):
إذا اعترف الزاني على نفسه أنه زنى بامرأة، ثبت الحد في حقِّه - إن اختاره وأبى إلا أن يقام عليه كما تقدم تحريره -:
ففي حديث أبي هريرة - في قصة ماعز -: «فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردَّد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبك جنون؟».
قال: لا، قال: «فهل أُحصنت؟» قال: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اذهبوا به فارجموه» (1).
وفي حديث بريدة - رضي الله عنه - في قصة ماعز والغامدية ... ثم جاءت امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله، طهِّرني، فقال: «ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه».
فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، قال: «وما ذاك؟» قالت: إنها حُبلى من الزنا، فقال: «أنت؟» قالت: نعم، ... ، فرجمها» (2).
وعن عمران بن حصين: أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليَّها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني
بها» ففعل، فأمر بها فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت» (3).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6814)، ومسلم (1318).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1695).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1695).

(4/29)


وقد اتفق أهل العلم على أن الحد يثبت بإقرار الزاني على نفسه، لكنهم اختلفوا في عدد مرات الإقرار الذي يلزم به الحد على قولين (1):
الأول: لا يُحدُّ حتى يُقرَّ أربع مرات، وهو مذهب أحمد وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه اشترط أن تكون الإقرارات في مجلس واحد (!!).
واستدلوا بحديث ماعز - رضي الله عنه - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم عليه الحد إلا بعد أن شهد على نفسه أربعًا ولو كان الإقرار مرة موجبًا للحد لما أخَّره إلا الأربع، قالوا: فإذا أقرَّ دون الأربع، لم يلزم تكميل نصاب الإقرار، بل للإمام أن يُعْرِضَ عنه، ويُعرِّض له بعدم تكميل الإقرار.
الثاني: يُكتفى بإقراره مرة واحدة، وتكراره ليس بشرط، وهو مذهب مالك والشافعي، وبه قال الحسن وحماد وأبو ثور والطبري وابن المنذر وجماعة.
قالوا: لأن الإقرار إنما صار حجة في الشرع لرجحان جانب الصدق فيه على جانب الكذب، وهذا المعنى عند التكرار والتوحيد سواء، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (2) فعلَّق الرجم على مجرد الاعتراف.
فائدة: يسقط الحد بالرجوع عن الإقرار، وقد مرَّ تحريره قريبًا.
من أقرَّ بأنه زنى بامرأة معينة: فلا يخلو من حالتين:
1 - فإن اعترفت المرأة، أقيم الحدُّ عليهما، لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر - وهو أفقههما -: أجل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي أن أتكلم، قال: «تكلم» قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا [والعسيف الأجير] فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فأفتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلدُ مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردٌّ عليك» وجَلَد ابنه مائة وغرَّبه عامًا، وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت، فرجمها» (3).
_________
(1) «البدائع» (7/ 49)، و «مواهب الجليل» (6/ 294)، و «روضة الطالبين» (10/ 95، 143)، و «المغني» (8/ 191)، و «زاد المعاد» (5/ 32).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6828)، ومسلم (1698).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6828)، ومسلم (1698).

(4/30)


2 - فإن جحدت المرأة وأنكرت: سقط الحدُّ عنها، واختلف العلماء فيما على الزاني المقرِّ على ثلاثة أقوال (1):
الأول: يُحدُّ حدَّ الزنا: وهو مذهب مالك والشافعي، لحديث سهل بن سعد: أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه قد زنى بامرأة سمَّاها، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فدعاها، فسألها فأنكرت، فحدَّه وتركها» (2) يعني: حدَّه حدَّ الزنا الذي أقرَّ به على نفسه.
الثاني: يُحدُّ حدّ القذف - لا الزنا -: وهو مذهب الأوزاعي وأبي حنيفة، لأن إنكارها شبهة (!!)، واعتُرض بأن إنكارها لا يُبطل إقراره.
الثالث: يُحدُّ للزنا وللقذف، وهو مذهب محمد بن الحسن، ويُروى عن الشافعي، وحجتهم حديث ابن عباس: «أن رجلًا من بكر بن ليث أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقرَّ أنه زنى بامرأة، أربع مرات، فجلده مائة - وكان بكرًا - ثم سأله البينة على المرأة، فقالت: كذب يا رسول الله، فجلده حدَّ الفرية ثمانين» (3) وهو حديث منكر.
قلت: أما القول الثاني فضعيف، والأظهر أنه يُحدُّ حدَّ الزنا فقط لصحة دليله، ولأنه ليس فيه أنه أقام عليه حدين، فإن قيل: الأصل أن يُحدَّ عن كلٍّ من المُوجبين وإن لم يصحَّ الحديث، قلت: نعم، لكنَّ إنكار المرأة شبهة تسقط حدَّ القذف، وأما حدُّ الزنا فهو ثابت بإقراره، والله أعلم.
(2) ثبوت الحمل لمن لا زوج لها:
المرأة إذا كانت لا زوج لها ولا سيد، ثم وُجدت حاملًا، فاختلف أهل العلم في اعتبار الحمل قرينة تُحدُّ بها المرأة، على قولين (4):
الأول: تُحدُّ الحبلى التي لا زوج لها ولا سيد، ولم تَدَّعِ شبهة في الحمل: وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واحتجوا بما يلي:
1 - حديث بصرة بن أكثم الأنصاري، قال: «تزوجتُ امرأة بكرًا في سترها،
_________
(1) «زاد المعاد» (5/ 42)، و «نيل الأوطار».
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4466، 4437)، وأحمد (22368).
(3) منكر: أخرجه أبو داود (4467).
(4) «ابن عابدين» (4/ 7)، و «أسهل المدارك» (3/ 170)، و «الروضة» (10/ 95).

(4/31)


فدخلتُ عليها فإذا هي حُبلى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد عبدٌ لك، فإذا ولدت فأجلدها، أو قال: فحدوها» (1) وهو ضعيف.
قالوا: فأمر - صلى الله عليه وسلم - بجلدها بمجرد الحمل من غير اعتبار بينة ولا إقرار.
2 - قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «الرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف» (2) وهذا قاله عمر في خطبته فلم يُنكر عليه.
3 - ولأن دلالة الحمل أمارة ظاهرة على الزنا، أظهر من دلالة البينة، وما يتطرق إلى دلالة الحمل يتطرق مثله إلى دلالة البينة وأكثر.
الثاني: لا يثبت الزنا بالحمل، بل بالإقرار أو البيِّنة فقط: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والمعتمد عند الحنابلة، وحجتهم:
1 - أن الحدَّ يُدرأ بالشبهة إجماعًا، والشبهة هنا متحققة من وجوه متعددة، فيحتمل أن الحمل من وطء إكراه، ويحتمل أنه من وطء رجل واقعها في نومها وهي ثقيلة النوم، ويحتمل أنه من وطء شبهة، ويحتمل حصول الحمل بإدخال ماء الرجل في فرجها دون جماع.
3 - أثر علي بن أبي طالب أنه أُتي بامرأة من همدان وهي حُبلى يُقال لها شراحة قد زنت، فقال لها عليٌّ: «لعل الرجل استكرهك؟» قالت: لا، قال: «فلعلَّ الرجل قد وقع عليك وأنت راقدة؟» قالت: لا، قال: «فلعل لك زوجًا من عدونا هؤلاء وأنت تكتمينه؟» قالت: لا، فحبسها حتى إذا وضعت، جلدها يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة (!!) فأمر فحفر لها حفرة بالسوق ...» (3).
3 - أثر أبي موسى أنه: «كتب إلى عمر - رضي الله عنه - في امرأة أتاها رجل وهي نائمة، فقالت: إن رجلًا أتاني وأنا نائمة، فوالله ما علمت حتى قذف فيَّ مثل
_________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2131) وله علتان ذكرهما ابن القيم في «تهذيب السنن» (3/ 61) طـ. أنصار السنة.
(2) صحيح عنه: أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691).
(3) صحيح عنه: أخرجه عبد الرزاق (7/ 326)، وأحمد (1214 - 1189)، والنسائي، وأصله في البخاري مختصرًا.

(4/32)


شهاب النار، فكتب عمر: «تهامية تنومت، قد يكون مثل هذا» وأمر أن يُدرأ عنها الحدُّ» (1).
بلغ عمر أن امرأة متعبِّدة حملتْ، فقال عمر: «أراها قامت من الليل تصلي فخشعت فسجدت، فأتاها غاوٍ من الغواة فتجشمها» فأتته فحدَّثْتهُ بذلك، فخلَّى سبيلها (2).
قلت: الذي تجتمع عليه أدلة الفريقين أن الزنا يثبت بحمل من لا زوج لها، إلا إن ادَّعتْ هي شبهة في هذا الحمل ولم تقرَّ بالزنا فحينئذ يدرأ عنها الحدُّ، والله أعلم.
(3) إقامة البينة (الشهُّود) (3):
لا خلاف بين الفقهاء في أن الحدود تثبت بالبيِّنة عن استجماع شرائطها، ونظرًا لخطورة الاتهام بالزنا وعظم أثره، فقد اشتُرط في الشهادة على الزنا ما يلي:
(أ) أن يكون الشهود أربعة فأكثر: ولا خلاف في هذا الشرط.
قال الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلًا} (4).
وقال سبحانه: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (5).
وقال سبحانه: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} (6).
وقال سعد بن عبادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إن وجدتُ مع امرأتي رجلًا، أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال: «نعم» (7).
_________
(1) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 410)، ونحوه البيهقي (8/ 235)، وانظر «الإرواء» (2362).
(2) صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 409).
(3) «ابن عابدين» (3/ 142)، و «الشرح الصغير» (4/ 265)، و «روضة الطالبين» (10/ 97)، و «نيل المآرب» (2/ 358).
(4) سورة النساء: 15.
(5) سورة النور: 4.
(6) سورة النور: 13.
(7) صحيح: أخرجه مسلم (1498)، وأبو داود (4533)، ومالك (1557)، وأحمد (27251).

(4/33)


إذا شهد أقلُّ من أربعة:
إذا شهد أقل من أربعة لم تثبت البيِّنة، وهل يُحدُّون حدَّ القذف؟ قولان للعلماء:
الأول: أنهم يُحدُّون حدَّ القذف: وهو قول الجمهور، لحديث أبي عثمان قال:
«لما شهد أبو بكرة وصاحباه على المغيرة جاء زياد، فقال له عمر: رجل لن يشهد إن شاء الله إلا بحق، قال: رأيت انبهارًا، ومجلسًا سيئًا، فقال عمر: «هل رأيت المرود دخل المكحلة؟» قال: لا، قال: فأمر بهم فجلدوا» (1).
الثاني: لا حدَّ عليهم، وهو قول الظاهرية، وقول مرجوح عند الحنفية والشافعية؛ لأنهم إنما قصدوا أداء الشهادة، ولم يقصدوا قذف المشهود عليه.
(ب) أن يكونوا رجالًا: فلا تقبل شهادة النساء في هذا الباب عند جماهير العلماء (2)، قال الله تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (3) ولفظ: «أربعة» عدد مؤنث فلابد أن يكون المعدود مذكرًا، ثم إن الحدود تُدرأ بالشبهات، وقد قال الله تعالى في شأن النساء: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (4).
وذهب أبو محمد بن حزم إلى أنه يقبل في الشهادة على الزنا - كغيرها من الشهادات - شهادة امرأتين مسلمتين مكان رجل، فيجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين، أو رجلين وأربع نسوة، أو رجل وست نسوة، أو ثمان نسوة لا رجل
معهن.
(جـ) أن يكونوا عقلاء، فلا تقبل شهادة المجنون ونحوه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لماعز لما شهد على نفسه: «أبك جنون؟» (5) وفي لفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقال لقومه: «أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟» (6).
(د) أن يكونوا أحرارًا، فلا تقبل شهادة العبيد (!!).
(هـ) أن يكونوا عدولًا، فلا تقبل شهادة الفاسق، قال الله تعالى: {وأشهدوا
_________
(1) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 544)، والطحاوي (2/ 286)، والبيهقي (8/ 334)، وانظر «الإرواء» (2361).
(2) صحيح: تقدم مرارًا.
(3) سورة النساء: 15.
(4) سورة البقرة: 282.
(5) «فتح الباري» (12/ 181) طـ. المعرفة.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1695).

(4/34)


ذوي عدل منكم} (1). وقال سبحانه: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (2).
(و) أن يكونوا مسلمين: فلا تقبل شهادة الكافر على المسلم بالزنا اتفاقًا، وكذلك لا تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض بالزنا عند الجمهور، وذهب جماعة من السلف إلى قبول شهادة الكفارة بعضهم على بعض، واستدلوا بما رُوي عن جابر: «أن اليهود جاءوا برجل وامرأة زنيا، ... ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشهود، فجاءوا بأربعة، فشهدوا بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمهما» (3) وهو ضعيف، ثم قد أجاب الحافظ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رجم
اليهوديين بوحي، وألزمهم الحجة بينهم، كما قال تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} (4). وقيل: رجمهما باعترافهما.
(ز) أن يعاينوا الزنا ويصرّحوا بحصوله: فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها، كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر، وقد تقدم أن عمر قال لزياد: «هل رأيت المرود في المكحلة؟» قال: لا، فأمر بجلد الثلاثة الذين شهدوا بالزنا (5).
وفي حديث ماعز، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعلك قبَّلت أو غمزت أو نظرت؟!» قال: لا يا رسول الله، قال: لا يا رسول الله، قال: «أنكتها» - لا يكنى - قال: نعم، فأمر برجمه (6).
وفي لفظ لأبي داود - بسند ضعيف - قال - صلى الله عليه وسلم - «أنكتها؟» قال: نعم، قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟» قال: نعم، قال: «كما يغيب الميل في المكحلة والرِّشاء في البئر؟» قال: نعم ... الحديث (7).
(ح) وهل يشترط اتحاد المجلس؟ (8)
ذهب الجمهور - خلافًا للشافعية - إلى أنه لابد أن يكون الشهود مجتمعين
في
_________
(1) سورة الطلاق: 2.
(2) سورة الحجرات: 6.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (4452)، والحميدي (1294)، والبيهقي (8/ 231).
(4) سورة يوسف: 26.
(5) صحيح: تقدم قريبًا.
(6) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ البخاري (6824)، وأحمد (2429).
(7) ضعيف: أخرجه أبو داود (4428)، وعبد الرزاق (13340)، وابن حبان (1513)، والبيهقي (8/ 227).
(8) «البدائع» (7/ 48)، و «الشرح الصغير» (4/ 265)، و «روضة الطالبين» (10/ 98)، و «المغني» (8/ 200)، و «المحلي».

(4/35)


مجلس واحد عند أداء الشهادة، فإن جاءوا متفرقين يشهدون واحدًا بعد الآخر، لم تقبل شهادتهم، ويُحدُّون حدَّ القذف، وإن كثروا (!!).
وذهب الشافعية والظاهرية وابن المنذر إلى أنه لا يشترط، وتقبل شهادتهم مجتمعين ومتفرقين، لقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} (1). ولم يذكر المجالس.
قلت: وهو الأظهر، فإن إبطال شهادة أربعة بدعوى عدم اتحاد المجلس، ففيه إبطال لشهادة - نصَّ الله على قبولها - بغير دليل.
(ط) وهل يشترط عدم التقادم؟ (2):
ذهب الحنفية إلى اشتراط عدم التقادم في البيِّنة، وهو رواية عن أحمد، فإذا شهدوا على زنى قديم لم يجب الحدُّ، قالوا: لأنهم لما لم يشهدوا فور المعاينة دلَّ ذلك على اختيارهم جهة الستر على المسلمين، فإذا شهدوا بعد ذلك دلَّ على أن الضغينة حملتهم على ذلك، فلا تُقبل شهادتهم، لما رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته، فإنما شهدوا عن ضغن، ولا شهادة لهم» ولم ينقل أن أحدًا أنكر عليه، قالوا: فكان إجماعًا (!!)، ولأن التأخير - والحالة هذه - يورث تهمة، ولا شهادة للمتهم.
وذهب الجمهور إلى أن الشهود لو شهدوا بزنا قديم، وجب الحدُّ، لعموم الآية، ولأن التأخير يجوز أن يكون لعذر أو غَيْبة، والحد لا يسقط بمطلق
الاحتمال، ولو سقط بكل احتمال لم يجب حدٌّ أصلًا.
عُقوبة الزاني:
الزاني على قسمين: إما أن يكون مُحصنًا، أو غير محصن (بِكْرًا)، ولكل منهما عقوبة خاصة به.
تعريف المُحْصِن:
المحصن هو: الثِّيب الذي تتوفر فيه الشروط الآتية (3):
_________
(1) سورة النور: 13.
(2) «البدائع» (7/ 46)، و «الشرح الصغير» (4/ 249)، و «الروضة (1/ 98)، و «المغني» (8/ 207).
(3) «التشريع الجنائي» (2/ 390) وغيره.

(4/36)


1 - التكليف: وهو البلوغ والعقل.
2 - الحُرَّية: فلو زنى العبد أو الأمة، لم يكونا محصنين، لقوله تعالى - في الإماء -: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (1). والرجم الذي هو حدُّ المحصنة لا ينتصف.
ولذا صح عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه خطب فقال: «يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحدّ، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديث عهد بنفاس ... الحديث» (2) وقد تقدم، وهو مشعر بأنها كانت محصنة فأمر بجلدها.
3 - أن يكون وجد الوطء (الجماع) في نكاح صحيح ولو مرة واحدة: وهل يشترط في المحصن الإسلام؟ بمعنى إذا تزوَّج المسلم ذمية فوطئها، هل يصيران
محصنين؟ وهل يحصن الذميُّ الذمية؟ للعلماء في هذا قولان: أصحهما ما ذهب إليه الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (3) أنهما يكونان محصنين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل وامرأة من اليهود زنيا، فرجمهما (4).
تنبيه: المرأة الحرَّة (الزوجة) هي التي تحصن الرجل، ولا تحصنه الأمَةُ المملوكة (5).
(ا) عقوبة الزاني غير المحصن (البكر):
اتفق أهل العلم على أن البكر إذا زنى وجب عليه الحد، وهو: أن يُجلد مائة جلدة، لقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (6).
ثم اختلفوا هل يُزاد على هذه العقوبة غير الجلد؟ على ثلاثة أقوال (7):
_________
(1) سورة النساء: 25.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1705).
(3) «المغني» (10/ 129 - مع الشرح)، و «فتح الباري» (12/ 170)، و «زاد المعاد» (5/ 35).
(4) صحيح: يأتي قريبًا بتمامه.
(5) للإمام ابن القيم - رحمه الله - كلام نفيس في حكمة تحصين الرجل بالحرة - وإن كانت قبيحة - دون الأمة - وإن كانت بارعة الجمال - فانظره غير مأمور في «إعلام الموقعين» (2/ 53 - 82).
(6) سورة النور: 2.
(7) «المحلي» (11/ 232)، و «المغني» (9/ 45 - الفكر)، و «نيل الأوطار» (7/ 104).

(4/37)


الأول: أنه يجب مع الجلد تغريب (نفي عن البلد) لمدة سنة: وهو مأثور عن الخلفاء الراشدين الأربعة، وبه قال عطاء وطاوس والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب الشافعي وأحمد وابن حزم، واستدلوا بما يلي:
1 - حديث عادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عنِّي، خذوا عنِّي، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر
بالبكر جلد مائة، ونفيُ سنة ...» (1).
2 - وفي حديث أبي هريرة وزيد بن خالد - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي زنى ولدُه: «أما والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله ...» وجَلَد ابنه وغرَّبه عامًا (2).
قالوا: وهذا عام في كل بكرٍ سواء كان رجلًا أو امرأة.
الثاني: يُغرَّب الرجل دون المرأة، وهو مذهب مالك والأوزاعي، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرةً يوم وليلة إلا مع ذي محرم» (3) قالوا: وتغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور وتضييع لها، وإن غُرِّبت بِمَحْرمَ أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي لمن لا ذنب له.
الثالث: لا يجب التغريب مع الجلد أصلًا إلا تعزيرًا إذا رأى الحاكم، وهو قول الحسن وغيره، ورأوا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ...» (4) ناسخًا للتغريب!!
وردَّ ابن حزم هذا الاستدلال فقال - رحمه الله -: «هذا الخبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر مجمل أحال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غيره من الأخبار، فلم يذكر نفيًا ولا عددًا لجلد، فإن كان دليلًا على إسقاط
التغريب، فهو دليل أيضًا على إسقاط عدد الجلدات، وإن لم يكن دليلًا على إسقاط عدد الجلدات لأنه لم يذكر فيه، فليس أيضًا دليلًا على نسخ النفي، وإن لم يذكر فيه، والواجب ضمُّ الأخبار بعضها إلى بعض، واستعمالها جميعًا» اهـ.
قلت: الراجح أن حدَّ الزاني البكر (غير المحصن): جلد مائة جلدة ونفي سنة، سواء في ذلك الرجل والمرأة ويؤيده ما ثبت في بعض روايات حديث عبادة:
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1690)، والترمذي (1434)، وأبو داود (4415).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6827 - 6828)، ومسلم (1697 - 1698).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1339) واللفظ له.
(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(4/38)


«... والبكر بالبكر جلد مائة، وينفيان عامًا» فقوله (ينفيان) صريح في نفي المرأة كالرجل فإن قيل: في نفي المرأة تضييع لها، قلنا: إن إمام المسلمين يوفِّر لها مكانًا آمنًا تنفى إليه، ولا تحتاج إلى أن ينفي محرمها معها!! والله أعلم.
فائدة: صفة الجلد: قال القرطبي - رحمه الله -: «أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب، والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطًا بين سوطين، لا شديدًا ولا لينًا» ونقل عن الجمهور قولهم: الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلمًا لا يجرح ولا يَبْضَع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه.
(2) عقوبة الزاني المحصن (الثيِّب):
لا خلاف بين أهل العلم من الصحابة والسلف والأئمة المشهورين - إلا شرذمة من الخوارج وبعض المعتزلة - أن المحصن إذا زنى، فإنه يُرجم بالحجارة حتى الموت:
1 - فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر
جلد مائة ونفي سنة، والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرجم» (1).
2 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قد بعث محمدًا بالحق وأنزل الكتاب، فكان مما أُنزل عليه آية الرجم قرآنًا ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما تجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف» (2).
وهو يدل على أن آية الرجم كانت في القرآن ثم نسخت قراءتها وبقي حكمها، ويؤيده.
3 - حديث أُبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: «كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنا فارجموهما البتة» (3).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1690).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1691) واللفظ له.
(3) حسن: أخرجه ابن حبان (4428)، والحاكم (2/ 415)، وعبد الرزاق (13363)، والبيهقي (8/ 211).

(4/39)


4 - ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي زنى ابنه بزوجة الآخر: «والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم ردٌّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغُدُ يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت
فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها (1).
5 - وقد رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا والغامدية والجهنية واليهوديين:
(أ) فعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: «رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل قصير أعضل ليس عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فلعلَّك»؟ قال: لا، والله إنه قد زنى الآخر (2)، قال: فرجمه ... الحديث» (3).
وقد ثبت رجم ماعز كذلك من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وبريدة وغيرهم.
(ب) وعن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن امرأة من جهينة أتت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حُبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبتُ حدًّا عليَّ، فدعا نبي الله وليها، فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها» ففعل، فأمر بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فشكت عليها ثيابها (4)، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلَّى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة
أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!» (5).
(ر) وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء يهود، فقال: «ما تجدون في التوراة على من زنى؟» قالوا: نُسوِّد ونحملهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: «فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين» فجاءوا بها فقرءوها، حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6827 - 6828)، ومسلم (1697، 1698).
(2) يعني بالآخر نفسه، يريد تحقيرها لارتكابه هذا الفعل.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1692).
(4) أي شدَّت - كما في الروايات الأخرى - فيستحب جمع أثوابها عليها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلبها ونحوه.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1696).

(4/40)


عبد الله بن سلام، وهو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مُرْهُ فليرفع يده، فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه (1).
هل يُجلدُ قبل الرَّجمُ؟
بعد الاتفاق على وجوب الرجم للزاني المحصن، اختلف العلماء في حكم الجمع بين الجلد والرجم على ثلاثة أقوال (2):
الأول: يُجلد قبل الرجم، وهو رواية عن أحمد وبه قال الظاهرية لما يأتي:
1 - حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: «... والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» (3).
2 - قضاء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في شراحة الهمدانية فإنه: «جلدها يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة ...» وقال: «جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
قالوا: فتوارد على الجمع بين الجلد والرجم قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقضاءُ عليٍّ فوجب العمل بذلك.
الثاني: يُرجم فقط، ولا جلد عليه: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، واستدلوا بما يلي:
1 - أن الذين رجمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كماعز والغامدية واليهوديين، لم يأت في رواية أنه جلد واحدًا منهم، وإقامة الحد أمر يشتهر بين الناس، فلو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل الرجم ولو في رواية واحد منهم، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم يكن شيء من ذلك علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع لأحد بين الجلد والرجم، فلا يجمع بينهما إذًا.
واعتبروا حديث عبادة منسوخًا، قال الشافعي - رحمه الله -: «فدلَّت السنة على أن الجلد ثابت على البكر، وساقط على الثيب، والدليل على أن قصة ماعز
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6841)، ومسلم (1699).
(2) «فتح القدير» (5/ 25)، و «بداية المجتهد» (2/ 426)، و «المغني» (10/ 124 - الشرح)، و «فتح الباري» (12/ 119 - 157)، و «الحدود والتعزيزات» (ص129 وما بعدها).
(3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 326) وغيره وقد تقدم في «اعتبار قرينة الحمل في البينة».

(4/41)


متراخية عن حديث عبادة أن حديث عبادة ناسخ لما شرع أولًا من حبس الزاني في البيوت، فنسخ الحبس بالجلد، وزيد الثيب الرجم، وذلك صريح في حديث عبادة،
ثم نسخ الجلد في حق الثيب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصة ماعز على الرجم، وذلك في قصة الغامدية والجهنية واليهوديين، لم يذكر الجلد مع الرجم ...» اهـ.
2 - حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «... واغْدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها، وقد قال قبل ذلك: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله» (1).
فدلَّ الربط بين الشرط وجزائه على أن الجزاء اعترافها هو الرجم وحده، وأن ذلك قضاء بكتاب الله، وهو متأخر عن حديث عبادة بلا شك، فكان ناسخًا له.
3 - أن هذا مؤيَّد بقضاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقد: «رجم رجلًا في الزنى ولم يجلده» (2). وهو - رضي الله عنه - قد شهد التنزيل وأدرك قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذين رُجموا.
4 - أن الحدَّ الأصغر ينطوي في الحدِّ الأكبر، وذلك إنما وضع للزجر، فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم.
الثالث: يُجمع بين الجلد والرَّجم في رجم الشيخ والشيخة دون الشباب: وبه قال أُبيُّ بن كعب ومسروق، واستدلاَّ بالآية المنسوخ تلاوتها «والشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة» فقد ورد بلفظ الشيخ، ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة.
قلت: الأظهر قول الجمهور بأن الزاني المحصن يُرجم حتى الموت، ولا يُجلد، لما تقدم من أدلة هذا المذهب، ويتأيد هذا - كذلك - بأمرين (3).
1 - أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرَّجم، على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة، والحدود تُدرأ بالشبهات، فيُدرأ حدُّ الجلد هنا لذلك.
_________
(1) صحيح: تقدم مرارًا.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة ونحوه في البيهقي (8/ 215) مطولًا وفيه أنه رجم امرأة.
(3) «أفادهما مع غيرهما العلامة الشنقيطي - رحمه الله - في أضواء البيان» (6/ 47 - 48).

(4/42)


2 - أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة، أهون من الخطأ في إيقاع عقوبة غير لازمة، وقد تقدم نحو هذا عن عمر وعائشة - رضي الله عنها - عند الكلام على إسقاط الحد بالشبهة، والله تعالى أعلم.
فائدة: يقام حدُّ الزنى على الكافر كالمسلم سواء، لحديث ابن عمر المتقدم في رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهوديين، وهذا أصح قولي العلماء، وفي المسألة خلاف راجع إلى الخلاف في: «هل من شرط الإحصان الإسلام؟» وقد تقدم الإشارة إليه.
عقوبة من زنى بإحدى محارمه:
اتفق المسلمون على أن من زنى بذات محرمه فعليه الحد، وإنما اختلفوا صفة الحدِّ على قولين (1):
الأول: حدُّه حدُّ الزنى بغير محرمه ولا فرق: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين.
الثاني: حدُّه القتل بكل حال: وهو مذهب أحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث، واستدلوا: بحديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وقع على ذات محرمه فاقتلوه» (2).
قالوا: وهو أخصُّ مما ورد في الزنى، وهو حكم عام من غير استفصال - والمقام يقتضي التفصيل - فدلَّ على عدم التفريق بين المحصن وغيره، وأنه يقتل على كل حال.
قلت: الحديث ضعيف، لكن ربما يتأيَّد القول الثاني، بحديث البراء - رضي الله عنه - قال «مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو، ومعه لواء عقده له النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: أي عم، أين بعثك النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بعثني إلى رجل تزوَّج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه» (3). زاد في بعض الروايات: «... وآخذ ماله».
_________
(1) «فتح القدير» (5/ 40)، و «الداء والدواء» (ص: 206)، و «المغني» (10/ 154)، و «نيل الأوطار» (7)، و «المحلي» (11/ 252).
(2) ضعيف: أخرجه الترمذي (1462)، وابن ماجة (2564)، وانظر «الإرواء» (2352).
(3) صحيح لطرقه: أخرجه النسائي (2/ 85)، والترمذي (1362)، وأبو داود (4456)، وابن ماجة (2607)، وأحمد (4/ 292) وغيرهم، وانظر «الإرواء» (2351).

(4/43)


قال ابن القيم - رحمه الله (1) -: «وكذلك اتفقوا كلهم على أنه لو أصابها [يعني: محرمه] باسم النكاح عالمًا بالتحريم أنه يُحدُّ، إلا أبا حنيفة وحده، فإنه رأى في ذلك شبهة مسقطة للحدِّ» اهـ.
اعتراضُ على عقوبة الزنا، وردُّه (2):
تختلف عقوبة الزنا باختلاف حال الزاني، فالجلد والتغريب عقوبة الزاني البكر، والرجم عقوبة الزاني المحصن.
وعلى أي من الحالين فقد أورده نفاة المعاني والقياس اعتراضًا على عقوبة الزنا، فقالوا: هذا تفريق في الشرع بين المتماثلات، فكيف يعاقب الشارع السارق بقطع يده، ويترك معاقبة الزاني بقطع فرجه والفرج هو العضو الذي باشر فيه معصية الزنا كما أن اليد هي الآلة التي باشر فيها معصية السرقة.
وقد ناقش ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذا الاعتراض، وأتى عليه بالنقض والرد له من وجوه متعددة مبينًا أن هذا من أفسد القياس وأبطله، وأن عين الحكمة والكمال: هي فيما رتبه الشارع على كلّ جريمة بما يناسبها من عقاب.
ونستطيع أن نستخلص وجوه الرد والتعقب لهذا الاعتراض فيما يلي:
1 - أن الفرج عضو خفي مستور لا تراه العيون فلا يحصل بقطعه مقصود الشارع بالحد من الزجر والردع للغير، وهذا بخلاف السارق بقطع يده.
2 - أن في قطع العضو التناسلي قطع النسل وتعريض للهلاك وقضاء على النوع الإنساني وهذا بخلاف قطع يد السارق.
3 - أن لذة الزنا سرت في جميع البدن كلذة العضو المخصوص فكان الأحسن أن تعم العقوبة جميع البدن الذي نالته اللذة المحرمة.
4 - أن السارق إذا قطعت يده بقيت له يد أخرى تعوض عنها بخلاف الفرج فإنه إذا قطع لم يبق له ما يقوم مقامه لتتميم مصالحه بتنمية النوع الإنساني.
5 - أن قطع العضو التناسلي مفض إلى الهلاك، وغير المحصن لا تستوجب جريمة الهلاك، والمحصن يناسب جريمته أشنع القتلات، ولا يناسبها قطع بعض أعضائه. فافترقا.
_________
(1) «الداء والدواء» (ص: 207) ط. التوفيقية بتحقيق أخي الحبيب هاني الحاج - نفع الله به -.
(2) من «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» للعلامة بكر أبو زيد - رفع الله قدره - (ص: 97 - 98)، وانظر: «إعلام الموقعين» (1/ 126 - 2/ 52، 106، 108).

(4/44)


لهذه الوجوه ولغيرها من أسرار التشريع - التي أبدى ابن القيم - رحمه الله تعالى الكثير منها - يتبين للمنصف أن عقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه وأقومها بالمصالح وأوفقها للعقل كما في عقوبة الزنا، وأن الشارع لم يفرق بين متماثلين قط، كما أنه لم يجمع بين ضدين أبدًا، بل وضع كلّ حكم موضعه المناسب له ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
وهذه الوجوه قد أبداها ابن القيم - رحمه الله تعالى - مختصرة ومبسوطة، فيحسن بنا بعد هذا السياق ذكر كلامه الشامل في ذلك إذ يقول:
(وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كلّ عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى محرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدوانًا، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها.
وأسماء الرّب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى
كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحًا، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة.
إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
خصائص حَدِّ الزنا (1):
خصَّ الله سبحانه حدَّ الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص، وهي:
الأولى: تغليظ العقوبة:
فالقتل عقاب مشترك بين عدد من الجرائم، لكن كونه رجمًا بالحجارة حتى تزهق النفس فليس هذا إلا في عقوبة الزنا للمحصنين، وهذا أشنع القتلات.
والجلد عقوبة مشتركة بين جملة من الحدود، لكن عقوبة الزاني البكر - وإن كانت بالجلد - إلا أنها تخالف غيرها من ناحيتين: أولاهما: أن الجلد مائة جلدة، وليس في الحدود ما يبلغ هذا حدًّا، والثانية: أن من تمام الحد التغريب، ولا يكون التغريب عقوبة حدية في غير حد الزاني البكر، والله أعلم.
_________
(1) «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» (ص: 114 - 117) بتصرف واختصار.

(4/45)


الثانية: التنصيص على نهي العباد عن أن تأخذهم رأفة بالزناة:
قال الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (1).
فنهى الله تعالى عباده أن تأخذهم رأفة في دينه، بحيث تمنعهم من إقامة الحدِّ
عليهم، فإنه سبحانه من رأفته ورحمته بهم شرع هذه العقوبة، فهو أرحكم بكم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.
الثالثة: أمره سبحانه يكون حدهما بمشهد من المؤمنين:
فلا يكون في خلو بحيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر، قال تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (2).

اللِّواط
تعريفه:
اللواط لغةً: مصدر لاط، يقال: لاط الرجل ولاط، أي عمل عملَ قوم لوط، إذ يعمل هذه الجريمة أحد من العالمين قبل قوم لوط، كما قال تعالى: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} (3).
واللواط اصطلاحًا: إيلاج ذكر في دُبر ذكر [أو أنثى].
حُكم اللواط (4):
أجمع أهل العلم على تحريم اللواط، وأنه من أغلظ الفواحش، وقد ذكر الله سبحانه عقوبة اللوطية وما حلَّ بهم من البلاء في عشر سور من القرآن الكريم، وجمع على القوم بين عمى الأبصار، وخسف الديار، والقذف بالأحجار، ودخول
النار، فمن ذلك:
_________
(1) سورة النور: 2.
(2) سورة النور: 2.
(3) سورة الأعراف: 80.
(4) «زاد المعاد» (5/ 40)، و «روضة المحبين» (ص 371)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 161 - 162).

(4/46)


1 - قوله تعالى: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} (1).
2 - قوله سبحانه: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} (2).
3 - وقوله عز وجل: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} (3).
4 - وقال محذِّرًا لمن عمل عملهم ما حلَّ بهم من العذاب الشديد: {وما قوم لوط منكم ببعيد} (4).
وأما السنة، فقد ورد اللواط فيها من وجهين:
1 - وعيد فاعله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط».
2 - بيان عقوبته، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» (5).
وأما قضاءً، فلم يقضِ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء؛ لأن العرب لم تكن تعرفه، ولم يرفع إليه - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء.
عقوبة اللِّواط (6):
للفقهاء - رحمهم الله - في عقوبة اللواط اتجاهان:
الاتجاه الأول: لا حدَّ فيه، وإنما يعزَّز فاعله بضرب أو سجن (!!).
وهو مذهب أبي حنيفة وابن حزم، وحجتهم في هذا ما يلي:
_________
(1) سورة الشعراء: 165، 166.
(2) سورة الحجر: 72 - 74.
(3) سورة هود: 82، 83.
(4) سورة هود: 89.
(5) حسن: أخرجه الترمذي (1456)، وأبو داود (4462)، وابن ماجة (1561)، وأحمد (1/ 300) وغيرهم، وصححه في «الإرواء» (2350).
(6) «المحلي» (11/ 387)، و «فتح القدير» (5/ 43)، و «المبسوط» (9/ 77)، و «أسهل المدارك» (3/ 165)، و «روضة الطالبين» (10/ 90)، و «الإنصاف» (10/ 176)، و «المغني» (10/ 160 - مع الشرح)، و «سبل السلام» (4/ 1285)، و «نيل الأوطار» (7/ 139)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 334)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 173 وما بعدها).

(4/47)


1 - أنه لم يرد في الشرع للواط عقوبة مقدَّرة (!!) فصار فيه التعزيز، ليكف ضرره عن الناس فقط بما لا يستباح به دمه.
وتُعقِّب: بأنه قد ثبت في السنة حدٌّ معين للِواط وهو القتل - كما سيأتي - وقد ذكر شيخ الإسلام وغيره إجماع الصحابة على قتل فاعله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله على ما يأتي، ولذا قال ابن قدامة - رحمه الله -: «وقول من أسقط الحد عنه (أي: عن اللوطي) يخالف النصَّ والإجماع» اهـ.
2 - أن التلوُّط: وطء محل لا تشتهيه الطباع، والمعصية إذا كان الوازع عنها طبيعيًّا اكتفى بالوازع عن الحد، كما في وطء الأتان والميتة والبهيمة (!!) ونحو ذلك.
وتعقب: بأن هذا قياس في مقابلة النصّ وإجماع الصحابة فهو فاسد الاعتبار، ثم هو منقوص بوطء الأم والأخت والبنت، فإن النفرة الطبيعية حاصلة مع أن الحد فيه أغلظ الحدود كما تقدم، ثم كيف يقاس وطء الأمرد الجميل - الذي فتنته تربوا على كل فتنة - على وطء أتان أو امرأة ميتة، فهذا عن أفسد القياس.
فائدة: هذا، على أن أصحاب أبي حنيفة صرحوا أنه إذا أكثر منه اللوطي فللإمام أن يقتله تعزيرًا (!!).
الاتجاه الثاني: أن عليه الحدَّ: وعليه جمهور العلماء، ولكنهم اختلفوا في نوعية الحد، وصفة تطبيقه على قولين:
القول الأول: يُحدُّ حدَّ الزنا فيفرق بين المحصن وغيره: وهو مذهب الشافعي، وأحمد في رواية، وصاحبا أبي حنيفة والثوري والأوزاعي، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وقتادة والنخعي واحتجوا بما يلي:
1 - ما يُروى عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان» (1) لكنه ضعيف لا يُحتج به.
2 - قياس اللواط على الزنا بجامع أن كلًّا منهما إيلاج فرج محرَّم في فرج محرم شرعًا، مشتهى طبعًا، فيكون حكمه حكم حد الزنا.
وتعقِّب: بأن القياس لا يكون في الحدود - على الأصحِّ - لأن الحدود تدرأ
بالشبهة، وعلى فرض جواز القياس فيها - كما يقول الأكثرون!! - فيُجاب (2) بأن
_________
(1) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 232)، وانظر «الإرواء» (2349).
(2) «نيل الأوطار» للشوكاني (7).

(4/48)


الأدلة الواردة بقتل الفاعل والمفعول به مطلقًا مُخصِّصة لعموم أدلة الزنا الفارقة بين البكر والثيب على فرض شمولها للوطي ومبطلة للقياس المذكور على فرض عدم الشمول؛ لأنه يصير فاسد الاعتبار كما تقرر في الأصول.
القول الثاني: يُقتل حدًّا على كل حال محصنًا كان أو غير محصن: وهو مذهب مالك وإسحاق وأحمد - في أصحِّ الروايتين - والشافعي - في أحد قوليه - وصاحبا أبي حنيفة، وبه قال أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعبد الله بن الزبير وابن عباس وطائفة من السلف، وحجتهم:
1 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وجدتموه يعمل عمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (1) وليس فيه تفصيل لمن أحصن أو لم يحصن فدلَّ بعمومه على قتله مطلقًا.
2 - أنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته.
3 - مطابقة هذا القول لقاعدة الشريعة المُطَّردة من تغليظ العقوبات كلما تغلظت المحرمات، ووطء من لا يباح بحال أعظم حُرمًا من وطء من يباح في بعض الأحوال، فيكون حدُّه أغلظ.
كيفية قتل اللوطي:
والذي يترجح أن اللوطى يُقتل على كل حال سواء كان محصنًا أو غير محصن، والمُختار أن يُقتل بالرجم كما رآه الجمهور، وذلك لما يأتي:
1 - أن الله تعالى سمَّى اللواط فاحشة فقال تعالى: {ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} (2). وسمَّى سبحانه الزنا فاحشة فقال عز وجل: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (3).
فيكون الحدُّ في اللواط كالزنا بجامع ما بينهما من الوصف المشترك، غير أنه في اللواط: القتل رجمًا في جميع الأحوال بالنص.
_________
(1) حسن: أخرجه الترمذي (1456)، وأبو داود (4462)، وابن ماجة (1561)، وأحمد (1/ 300) وغيرهم، وصححه الألباني في «الإرواء» (2350).
(2) سورة العنكبوت: 28.
(3) سورة الإسراء: 32.

(4/49)


2 - أن الله تعالى عاقب قوم لوط بالرجم قال سبحانه {وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود} (1).
وهذا قول عمر وعلي وابن عباس وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهناك ثلاثة آراء أخرى للصحابة - رضي الله عنهم - في كيفية قتل اللوطي، وهي:
(أ) الرمي من أعلى بناء في البلد ثم إتباعه بالحجارة: وهو مروي عن ابن عباس وأبي بكر - رضي الله عنهما -، والظاهر لي أن مستنده التشبيه بما فُعل بقوم لوط، قال تعالى: {جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود} (2).
(ب) أن يُلقى عليه حائط: وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم.
(جـ) إحراق اللوطى بالنار: وهو قول أبي بكر وعليٍّ وابن الزبير - رضي الله عنهم.
قلت: والمُختار أن يُقتل رجمًا كما تقدم، على أن هذه الكيفيات جميعًا يشملها عموم الأمر بالقتل، وقد فعلها الصحابة - رضي الله عنهم، «وما أحق مرتكب هذه الجريمة ومقارب هذه الرذيلة الذميمة بأن يُعاقب عقوبة بصير بها عبرة للمعتبرين، ويُعذَّب تعذيبًا يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى فاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يصلي من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابهًا لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيِّبهم» اهـ (3). والله أعلم.
فائدة: إنما يُقتل الفاعل والمفعول به إذا كانا بالغين، فإن أحدهما غير بالغ عُوقب بما دون القتل (4).
عقوبة من وطئ البهيمة (5):
اختلف أهل العلم في عقوبة من وطئ بهيمة، على ثلاثة أقوال:
الأول: يُقتل كما يُقتل اللُّوطي (يُقتل بكل حال): وقول للشافعي - وعلَّق
القول على صحة الحديث فيه - ورواية عن أحمد، وإليه جنح ابن القيم، لحديث
_________
(1) سورة هود: 82.
(2) سورة هود: 82.
(3) «نيل الأوطار» (7).
(4) «مجموع الفتاوى» (28/ 334).
(5) «المحلى» (11/ 386)، و «المغني» (9/ 59 - الفكر)، و «سبل السلام» (4/ 1285)، و «نيل الأوطار» (7/ 141)، و «الداء والدواء» (209)، و «الحدود والتعزيرات» (190).

(4/50)


ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى بهيمة فاقتلوه، واقتلوها معه» (1) قالوا: ولأنه وطء لا يُباح بحال، فكان فيه القتل كحد اللوطى.
الثاني: حدُّه حدُّ الزنا، فيفرق بين المحصن وغيره، وهو قول الحسن البصري، ودليله القياس على الزنا بجامع أن كلًا منهما وطء في فرج محرم ليس له فيه شبهة، وقد تقدم ما فيه من نظر، في حد اللواط.
الثالث: يُعزَّر فقط، ولا حدَّ عليه، وهو مذهب الجمهور منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي - في أحد أقواله - وأحمد في إحدى الروايتين، وإسحاق والشعبي والنخعي، ودليلهم أن الحديث في قتله ضعيف - عندهم - والعقوبات المقدرة لابد فيها من دليل مثبت ولا دليل هنا ثابت، فلا حدَّ إذًا.
قلت: مدار الحكم هنا على ثبوت حديث ابن عباس المتقدم كما قال الشافعي - رحمه الله - فمن صححه لزمه القول الأول، وإلا فالثالث، وقد صحَّح الحديث: الذهبي، والشوكاني، والألباني، ومال إلى صحته البيهقي، وسكت عنه الحافظ في «التلخيص» فهو حسن عنده. وضعَّفه أحمد وأبو داود والطحاوي، وغيرهم (2).
تساحُق النساء (3):
السحاق: مساحقة المرأتين، أي تدالكهما، واستمتاع كل واحدة منهما بالأخرى، وهو حرام بالاتفاق، لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يُفضى الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد» (4).
وقد اختُلف في عقوبته، فذهب مالك - رحمه الله - إلى أنه يجب الحدُّ - مائة جلدة - على كل من المرأتين، واحتج بما يُروى مرفوعًا: «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» (5) لكنه حديث ضعيف، ولذا ذهب الجمهور إلى أن السحاق لا حدَّ فيه، وإنما تعزَّر المرأة بفعله، لأنه مباشرة بلا إيلاج فلا حد فيه، كما لو باشر الرجل المرأة دون إيلاج في الفرج، وهو الصحيح والله أعلم.
_________
(1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (4464)، والترمذي (1455)، وابن ماجة (2564)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (5938).
(2) «سنن البيهقي» (8/ 233)، و «التلخيص» للذهبي (4/ 355 - مع المستدرك) و «التلخيص الحبير» (4/ 55)، و «نيل الأوطار» (7)، و «صحيح الجامع» (5938)، و «الداء والدواء» (ص: 208 - ط. التوفيقية).
(3) «المغني» (9/ 58 - الفكر)، و «المحلي» (11/ 392).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (338)، والترمذي (2793)، وأبو داود (4018).
(5) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 233).

(4/51)


(2) حَدُّ القَذْفِ
تعريف القذف (1):
القذف لغةً: الرميُ مطلقًا، ومنه قوله تعالى: {أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم} (2).
وقد اختلفت كلمة الفقهاء في تعريف «القذف» الموجب للحد، على وجوه متقاربة، والتعريف الشامل أن يقال:
«القذف: هو الرمي بوطءٍ، أو نفي نسب، موجب للحدِّ فيهما».
حُكْمُه الشرعي:
لا خلاف بين علماء الأمة في أن القذف مُحرَّم قطعًا، بل هو من الكبائر الموبقات.
1 - قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبل لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون} (3).
2 - وقال سبحانه: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} (4).
3 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: وما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (5).
القذف باعتبار المقذوف نوعان:
1 - قذف الزوج لزوجته: فهذا نوع خاص من القذف ومحل بحثه في باب «اللعان» وقد تقدم مفصَّلًا في كتاب: «الفرق بين الزوجين».
2 - قذف غير الزوجين: وهو موضوع بحثنا في هذا الباب.
_________
(1) «الحدود والتعزيرات» (ص 199)، وانظر: «فتح القدير» (5/ 89)، و «جواهر الإكليل» (ص / 286)، و «نهاية المحتاج» (7/ 415)، و «كشاف القناع» (6/ 104).
(2) سورة طه: 39.
(3) سورة النور: 4.
(4) سورة النور: 23.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (89)، والنسائي (3671)، وأبو داود (2874).

(4/52)


شروط حدِّ القذف:
يتَّضح من التعريف السابق للقذف أن أركانه ثلاثة: قاذف، ومقذوف، ومقذوف به، وحتى يجب حدُّ القذف على القاذف لابد من توفر شروط متعلقة بكلٍّ من هذه الأركان:
أولًا: شروط القاذف (1):
يشترط في القاذف ليجب عليه الحد:
1 - أن يكون مكلَّفًا: أي بالغًا عاقلًا، فلا حدَّ على صبي ولا مجنون، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن
الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» (2).
لكن الصبي والمجنون قد يُعزَّران بحسب حالتهما.
2 - أن يكون مختارًا: فلا حدَّ على مُكْرَهٍ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (3).
وهذان الشرطان اتفق على اعتبارهما الفقهاء، سواء في ذلك الذكر والأنثى، والحر والعبد، والمسلم وغير المسلم.
وهناك شروط أخرى اختلف الفقهاء في اعتبارها لإيجاب الحد على القاذف، ومن ذلك:
3 - العلم بالتحريم: وهو شرط عند الشافعية، واحتمال عند الحنفية، فلا حدَّ على جاهل التحريم، لقرب عهده بالإسلام، أو بعده من العلماء.
قلت: وأصول الشريعة تقضي باعتبار هذا الشرط، وقد تقدم نحوه في «حد الزنا».
4 - عدم إذن المقذوف: وهو شرط عند الشافعية، فلا حدَّ على من قذف غيره بإذنه، كما نقله الرافعي عن الأكثرين!!
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 167)، و «فتح القدير» (4/ 196)، و «مغني المحتاج» (4/ 155)، و «الدسوقي» (4/ 325 - 331)، و «نيل المآرب» (2/ 360)، و «المغني» (8/ 219)، و «المحلي» (11/ 295).
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) حسن: تقدم مرارًا.

(4/53)


5 - أن يكون القاذف غير أصل للمقذوف: فلو قذف الأبُ ابْنَه فلا حدَّ عليه عند الجمهور: أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم، وإسحاق، وهو المذهب عند المالكية، واستدلوا بما يلي:
(أ) قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانًا} (1).
(ب) قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} (2) قالوا: فليس من البر ولا من الإحسان ولا من خفض الجناح ضرب الولد لأبيه في القذف (!!).
وأجاب المخالفون: بأن هذا كلام خاطئ؛ لأن من الإحسان والبر لهما إقامة الحدِّ عليهما؛ لأن الحدَّ حكمُ الله تعالى الذي لولاه لم يجب برُّهما فسقط تعلُّقهم بالآية.
(جـ) قياس إسقاط حد القذف عن الولد، على إسقاط القصاص عنه في القتل إذ لا يقاد والدٌ بولده، وإهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق أولى، وكذلك إسقاط حد السرقة عنه إن سرق ولَدَه.
وأجاب المخالفون: بأن هذا قياس باطل على باطل (!!) حيث إن القول بإسقاط القصاص عن الوالد إذا قتل ابنه أو عدم القطع إذا سرقه ليس له حجة ولا أوجبه نصٌ (!!) ولا إجماع، بل الحدود والقود واجبان على الأب للولد.
قلت: في هذا الكلام نظر، والنصوص فيه ثابتةً كما سيأتي تحريره في موضعه - إن شاء الله.
وذهب عمر بن عبد العزيز ومالك - وهو قول عند المالكية - والأوزاعي وداود وابن حزم وسائر أهل الظاهر إلى أن الأب يُحدُّ بقذف ابنه، واحتجوا بما
يلي (3):
(أ) عموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} (4).
قالوا: فلفظ المحصنات في الآية عام ولم يخصص أحدًا دون أحد، ولم يقل: (إلا الوالد لولده) ولو أن الله أراد تخصيص الأب بإسقاط الحد عنه لولده لبيَّن
_________
(1) سورة الإسراء: 23.
(2) سورة الإسراء: 23.
(3) «المحلي» لابن حزم (11/ 295).
(4) سورة النور: 4.

(4/54)


ذلك، ولما أهمله حتى يتفطَّن له من لا حجة في قوله، وقد قال تعالى: {وما كان ربك نسيا} (1). فصح بذلك أن الله تعالى لما عمم ولم يخصِّص أراد أن يحدَّ الوالد لولده، والولد لوالده وأجيب: بأن هذا العموم يخرج منه الولد على سبيل المعارضة بقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (2) والمانع مقدم.
(ب) قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} (3).
فأوجب الله تعالى القيام بالقسط والشهادة على الوالدين والأقربين كالأجنبيين فدخل في ذلك الحدود وغيرها.
(جـ) ما رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: «لا عفو عن الحدود ولا عن شيء منها بعد أن تبلغ الإمام، فإن إقامتها من السنة» (4).
قال ابن حزم: فهذا قول صاحب لا يعرف له مخالف، وهو حجة عندهم، وقد خالفوه هنا لأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عمَّ جميع الحدود ولم يخصِّص.
(ر) ولأنه حدٌّ هو حق لله فلا يمنع من إقامته قرابة الولادة كالزنا، وأجيب بأن الفرق بين القذف والزنا: أن حد الزنا خالص لحق الله تعالى لا حق للآدمي فيه، وحد القذف حق لآدمي، فلا يثبت للابن على أبيه، كالقصاص.
6 - النطق: وهو شرط عند الحنفية، فلا حدَّ على الأخرس.
7 - الإقامة في دار العدل: وهو شرط عند الحنفية، احترازًا عن المقيم في دار الحرب، وقد تقدم تحرير هذه المسألة في أول «كتاب الحدود» وترجيح أن الحدَّ لا يقام عليه في أرض الحرب، ولا يسقط عنه بالكلية، بل يؤخَّر حتى يرجع إلى أرض الإسلام.
8 - التزام أحكام الإسلام: وهو شرط عند الشافعية، فلا حدَّ على حربي لعدم التزامه أحكام الإسلام (!!).
_________
(1) سورة مريم: 64.
(2) سورة الإسراء: 23.
(3) سورة النساء: 135.
(4) له شواهد مرفوعة تقدمت.

(4/55)


ثانيًا: شروط المقذوف: (كون المقذوف محصنًا):
يشترط في المقذوف - الذي يجب الحدُّ بقذفه من الرجال (1) والنساء - أن يكون محصنًا.
وقد اختلف أهل العلم في شروط المقذوف بناء على اختلافهم في معنى «الإحصان» في قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} (2).
فمنهم من رأى أن «الإحصان» في القذف معناه: (البلوغ والعقل والحرية والإسلام والعفة عن الزنا) وهو قول جمهور الفقهاء، فجعلوا هذه الخمسة شروطًا للمقذوف.
ومنهم من جعل «الإحصان» بمعنى «المنع» كما ورد في لغة العرب، فلم يجعل البلوغ ولا العقل ولا الحرية من شروط الإحصان، وهو قول ابن حزم، قال: «لأن الصغار والمجانين والعبيد محصونون بمنع الله تعالى لهم من الزنا، وبمنع أهليهم، وكذلك بعفَّتهم عن الزنا» (3).
قلت: ومن هنا يتبيَّن أن شروط المقذوف (شروط الإحصان) منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه.
(أ) شرط متفق عليه:
1 - العفة عن الزنا: فيشترط أن يكون المقذوف عفيفًا عن الفاحشة التي رمى بها، سواء كان عفيفًا عن غيرها أم لا.
(ب) شروط مختلف فيها:
2 - الإسلام: فذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه يشترط في المقذوف أن
_________
(1) قال الحافظ في «الفتح» (12/ 181): «وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصن من النساء» اهـ. قلت: وإنما خصت الآية النساء بالذكر لأن قذفهن أشنع والعار فيهن أعظم، ومن العلماء من قال: إن الآية تعم الرجال والنساء والتقدير فيها (والذين يرمون الأنفس المحصنات) وقيل: أراد بالمحصنات: الفروج، والله أعلم.
(2) سورة النور: 23.
(3) «المحلي» لابن حزم (11/ 273).

(4/56)


يكون مسلمًا، وقالوا: لا حدَّ على من قذف كافرًا، واستدلوا بقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ...} (1).
وبما يُروى عن ابن عمر مرفوعًا «من أشرك بالله فليس بمحصن» (2).
بينما ذهب ابن حزم - رحمه الله - إلى وجول الحد على من قذف محصنة من أهل الكتاب إذا كانت عفيفة.
3، 4 - العقل والبلوغ:
اختلف العلماء فيمن قذف صغيرًا أو مجنونًا (3)، فقال الجمهور: لا يجب عليه الحد، لأن ما رمى به الصغير والمجنون لو تحقق لم يجب به الحد، فلم يجب الحدُّ على القاذف، كما لو قذف عاقلًا بما دون الوطء.
وقال مالك بجلد من قذف المجنون دون الصغير، لكنه قال في الصبيَّة التي يجامع مثلها: يحدُّ قاذفها، خصوصًا إذا كانت مراهقة، فإن الحدَّ بعلة إلحاق العار، ومثلها يلحقه.
وأما ابن حزم فأوجب الحد على قاذف المجنون والصغير مطلقًا، وناقش الجمهور بما ملخصه: أن القاذف لا يخلو من ثلاثة: إما أن يكون صادقًا صحَّ صدقه فلا خلاف أنه لا حدَّ عليه، وإما أن يكون ممكنًا صدقه وممكنًا كذبه فيحدُّ بلا خلاف لإمكان كذبه فقط، ولو صح صدقه فلا حدَّ عليه، وإما أن يكون كاذبًا
صحَّ كذبه [وأنتم تقولون أن من قذف المجنون أو الصغير قد تيقن كذبه] فالآن حقًّا طابت النفس بوجوب الحد عليه بيقين.
5 - الحرية:
اختلف العلماء فيمن قذف عبدًا أو أمة، هل يحدُّ أو لا؟ على قولين:
فقال جماهير أهل العلم (منهم: النخعي والشعبي وعطاء والحسن والزهري والأوزاعي والثوري، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد)، لا حدَّ عليه، واحتجوا بما يلي:
_________
(1) سورة النور: 23.
(2) أخرجه الدارقطني (3/ 147) وصوَّب وقفه.
(3) «ابن عابدين» (3/ 156)، و «الدسوقي» (4/ 326)، و «المغني» (8/ 221)، و «المحلي» (11/ 273).

(4/57)


1 - حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قذف مملوكه بالزنا يُقام عليه الحدُّ يوم القيامة إلا أن يكون كما قال» (1).
قالوا: «لو وجب على السيد أن يُجلد في قذف عبده في الدنيا لذكره كما ذكره في الآخرة، وإنما خصَّ ذلك بالآخرة تمييزًا للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذٍ إلا بالتقوى» اهـ (2).
2 - ادِّعاء الإجماع على أن الحرَّ إذا قذف عبدًا لم يجب عليه الحد (!!) وفيه نظر فإنه منقوض بما صح عن نافع قال: «سئل ابن عمر عمن قذف أم ولد لآخر،
فقال: يُضرب الحدُّ صاغرًا» (3) وبه قال الحسن البصري وأهل الظاهر (4).
3 - أن العبد - وكذا الأمة - لا حرمة له (!!) قال ابن حزم: قولهم لا حرمة للعبد ولا للأمة فكلام سخيف، والمؤمن له حرمة عظيمة، ورب عبد جلف خير من خليفة قريش عند الله تعالى، قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم} (5). والناس كلهم أولاد آدم لا تفاضل بينهم إلا بأخلاقهم وأديانهم، لا بأعراقهم ولا بأبدانهم.
الحاصل:
يتحصَّل مما تقدم أنه يشترط في المقذوف الذي يجب الحدُّ على قاذفه ..
ثالثًا: شروط المقذوف به (صيغة القذف):
القذف على ثلاثة أضربُ: صريح، وكناية، وتعريض.
فاللفظ الذي يقصد به القذف إن لم يحتمل غيره فصريح، كأن يقول: «يا زاني» أو «يا زانية»، أو يقول عبارة تجري مجرى التصريح كنفي نسبه عنه.
وإلا فإن فُهم منه القذف بوضعه فكناية، كقوله لامرأة: «لا تردِّين يد
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6858)، ومسلم (1660).
(2) نقله في «فتح الباري» (12/ 192 - سلفية) عن المهلب وكذا القرطبي في «التفسير» (12/ 174)، والنووي في «شرح مسلم» (11/ 131)، وابن قدامة في «المغني» (10/ 202).
(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق.
(4) «فتح الباري» (12/ 192)، و «المحلي» (11/ 272).
(5) سورة الحجرات: 13.

(4/58)


لامس»، وإلا فتعريض وهو الكلام الذي له وجهان ظاهر وباطن، فيقصد قائلُه الباطن ويُظهر إرادة الظاهر.
1 - القذف الصريح:
من قذف غيره بصريح الزنا وجب عليه الحدُّ بشروطه باتفاق الفقهاء.
2 - القذف الكنائي:
وأما الكناية - كمن قال لامرأة: «لا تردِّين يد لامس» أو قال لها: «يا قحبة» ونحو ذلك مما يحتمل القذف وغيره - فللعلماء فيه قولان (1):
الأول: يُحدُّ قائله إلا أنه إذا أنكر القذف صُدِّق بيمينه: وهو قول المالكية والشافعية، ويُعزَّرُ للإيذاء عند جمهور الشافعية، وقيَّده الماوردي بما إذا خرج اللفظ مخرج السبِّ والذم، فإن أبى أن يحلف حُبس عند المالكية، فإن طال حبسه ولم يحلف عُزِّر.
وهؤلاء اختلفوا في بعض الألفاظ كم قال لامرأته: «يا فاجرة أو يا فاسقة أو يا خبيثة» ونحو ذلك وهل يقبل يمينه بأنه لم يرد بها القذف أو لا، على أوجه تراجع في كتب الفروع.
الثاني: لا حدَّ عليه، وإنما الحدُّ على من صرَّح بالقذف فقط: وهو قول الحنفية والحنابلة، فلو قال: «يا قحبة أو يا فاجر» فلا حدَّ عليه عندهم لأنه لم ينسبه - أو ينسبها - إلى صريح الزنا، قالوا: والفجور قد يكون بالزنا وغير الزنا، فلا يكون قذفًا بصريح الزنا، فلو أوجبنا الحدَّ، أوجبناه بالقياس، ولا مدخل للقياس في الحد، لكن عليه التعزير لارتكابه حرامًا، وليس فيه حدٌّ مقدَّر، ولأنه ألحق به نوع شَيْن بما نسبه إليه، فيجب التعزير لدفع ذلك الشين عنه.
3 - التعريض بالقذف:
وأما التعريض بالقذف - كأن يقول لصاحبه في مقام الخصام والتنازع: «ما أنا بزانٍ، وأمي ليست بزانية!!» - فقد اختلف الفقهاء في وجوب الحدِّ به على قولين (2):
_________
(1) «الدسوقي» (4/ 328)، و «مغنى المحتاج» (3/ 368)، و «المبسوط» (9/ 119)، و «كشاف القناع» (6/ 110).
(2) «ابن عابدين» (3/ 191)، و «فتح القدير» (5/ 100)، و «شرح الزرقاني» (8/ 87)، و «تفسير القرطبي» (12/ 173)، و «روضة الطالبين» (8/ 312)، و «فتح الباري» (9/ 443)، و «المغني» (8/ 222)، و «إعلام الموقعين» (3/ 141)، و «الحدود والتعزيرات» (ص 216).

(4/59)


الأول: لا حدَّ في التعريض بالقذف: وهو قول الجمهور منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وابن حزم واحتجوا بما يلي:
1 - حديث أبي هريرة قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال: «هل لك من إبل؟»، قال: نعم، قال: «ما لونها؟» قال: حُمْر، قال: «فيها من أوراق؟» قال: نعم، قال: «فأنَّى كان ذلك»؟ قال: أراه عرق نزعه، قال: «فلعلَّ ابنك هذا نزعه عرق» (1).
قالوا: لما كان قول الأعرابي محتملًا لغير القذف لم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بحكم القذف، فدلَّ على أنه لا حدَّ في التعريض بالقذف.
واعترض ابن القيم على هذا الاستدلال بأن قول الأعرابي (إن امرأتي ولدت غلامًا أسود) (2) ليس فيه ما يدل على القذف ولا صريحًا ولا كناية وإنما أخبره بالواقع مستفتيًا عن كم هذا الولد، أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه
النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرَّب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح صدره له، فأين في هذا ما يبطل حدَّ القذف؟!!.
2 - أن أحكام الشرع مضت في الحدود وغيرها على ما يظهره العباد، والله تعالى يُدين بالسرائر، بل قال الشافعية - في الأصحِّ عندهم -: إن هذا ليس بقذف وإن نواه (!!)؛ لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ المنوي، ولا دلالة هنا في اللفظ ولا احتمال، وما يفهم منه مستنده قرائن الأحوال.
3 - أن التعريض يتضمن الاحتمال، والاحتمال شبهة تسقط الحدَّ.
4 - أن الله تعالى فرَّق بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فكذلك في القذف.
القول الثاني: يجب الحدُّ في التعريض بالقذف إن فُهم القذف بتعريضه بالقرائن: وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو مذهب مالك - إلا أنه استثنى أن يكون المُعَرّض الأَبَ فإنه لا يحدُّ عنده لبعده عن التهمة - وهو مقابل الأصح عند الشافعية - فقالوا: هو كناية عن القذف لحصول الفهم والإيذاء، فإن أراد النسبة إلى الزنا فقذف عندهم فإلا
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6847)، ومسلم (1500).
(2) وجه التعريض هنا: أنه قال: (غلامًا أسود) أي: وأنا أبيض فكيف يكون منِّي؟!

(4/60)


فلا (1) - وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وانتصر له العلامة ابن القيم، واحتج هؤلاء في الجملة بما يلي.
1 - حدُّ عمر لمن عرَّض بالقذف وموافقة الصحابة عليه:
فقد ثبت أن رجلًا - في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ما أمي بزانية، ولا أبي بزان، قال عمر: «ماذا ترون؟» قالوا: رجل مدح نَفْسَهُ، قال: «بل انظروا، فإن كان بالآخر بأس فقد مدح نفسه، وإن لم يكن به بأس فلم قالها؟ فوالله لأحدَّنَهَ» فحدَّه (2).
وفي رواية: فاستشار عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه أمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمِّه مدح غير هذا، نرى أن تجلده الحدَّ، فجلده عمر الحدَّ ثمانين» (3).
وردَّ الشافعي - رحمه الله - دعوى الاتفاق بأن عمر استشار الصحابة فخالفه بعضهم، ومع من خالفه احتمال القذف وعدمه وهي شبهة تدرأ الحدَّ.
وأجاب ابن القيم بأن القائل الأول لم يكن يخالف عمر، فإنه لما قيل له: إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، فهم أنه أراد القذف فسكت، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة، على أنه قد صحَّ عن عمر هذا الحكم من أوجه أخر مما يدل على تقوية الاتفاق على استمرار عمر - رضي الله عنه - على الحكم بذلك واشتهاره، فعن ابن عمر: «أن عمر كان يحدُّ في التعريض بالفاحشة» (4).
2 - ما رُوي «أن رجلًا قال لرجل: يا ابن شامة الوذر، فاستعدي عليه عثمان
بن عفان، فقال: إنما عنيتُ به كذا وكذا، فأمر عثمان بن عفان فجُلد الحدَّ» (5) ولا يصحُّ.
3 - أن من التعريض بالقذف ما هو أوجع وأنكى من التصريح وأبلغ في
_________
(1) ولا يكون للقرائن تأثير - عندهم - فيستوي في ذلك حال الغضب وغيره كما نص عليه في «روضة الطالبين» (8/ 312).
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 425).
(3) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1569)، والدارقطني، وانظر «الإرواء» (2371).
(4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 421)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 334)، والبيهقي (8/ 252).
(5) إسناده تألف: أخرجه الدارقطني، وانظر «الإرواء» (2372).

(4/61)


الأذى، وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح، والعبرة في الشريعة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.
4 - أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى، كما حكى الله تعالى عن مريم {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} (1). فعرضوا لمريم بالزنا ولذا قال تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما} (2).
قال القرطبي - رحمه الله -: «وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي: ما كان أبوك امرأ سوء وكانت أمك بغيًّا، أي: أنت بخلافهما وقد أثبت بهذا الولد» اهـ.
5 - أن هذا الحكم مؤيد بالقياس على وقوع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالتصريح والكناية، والعلة كون الكل ألفاظًا يمكن أن يفيد غير الصريح منها ما يفيده الصريح.
الراجح (3):
الذي يبدو أن الحدَّ يجب بالتعريض في القذف بشرط قيام القرائن على تحديد القصد في ذلك، بحيث يُفهم من التعريض القذفُ فهمًا واضحًا لا لبس فيه، إذ لا يكون للمعرِّض تأويل مقبول يصحُّ حمل الكلام عليه، وفي هذا إعمال لقاعدتي الشريعة: (العبرة في الشريعة بالمقاصد والنيات) وقاعدة (درء الحد بالشبهات).
فإذا احتفت القرائن مع أن المراد بالتعريض ذات القذف، انتفت الشبهة وتحقق الحدُّ، وإذا ضعفت القرائن، قويت الشبهة وانتفى الحد (4).
ولئلا يتذرَّع الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يُفهم منها القذف بالزنا، والله أعلم.
تنبيه: القائلون بانتفاء الحد عن المعرِّض بالقذف - أو أكثرهم - يرون أنه لابد أن يعاقب بالتعزير للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض.
_________
(1) سورة مريم: 28.
(2) سورة النساء: 156.
(3) مستفاد من «الحدود والتعزيرات» (ص 223 - 224)، و «أضواء البيان» (6/ 99)، و «الروضة الندية» (ص: 282).
(4) وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة المتقدم، فإن قول الرجل «ولدت غلامًا أسود» تعريض محتمل لم يقم بجانبه من القرائن ما يجعله يفهم منه بوضوح أنه قذف، ولذا لم يحدَّ، والله أعلم.

(4/62)


ثبوت حدِّ القذف:
يثبت القذف بأحد بأمرين (1):
(1) إقرار القاذف: فإن أقرَّ على نفسه مرةً وجب عليه الحد، لكون إقرار المرء لازمًا له.
فإن أقرَّ بالقذف ثم رجع لم يُقبل رجوعه؛ لأن للمقذوف فيه حقًّا، فيكذبه في
الرجوع، بخلاف ما هو خالص حق الله تعالى، لأنه لا مكذب له فه فيقبل رجوعه.
(2) شهادة عدلين: ولا تقبل - في القذف - شهادة النساء مع الرجال في قول عامة الفقهاء، فعن الزهري قال: جرت السنة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود».
ومما يؤيد ذلك أن الحدود تدرأ بالشبهات، وقد قال الله في شأن النساء: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (2).
ولا تقبل فيه الشهادة على الشهادة، ولا كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن موجبه حدٌّ يندرئ بالشبهات، وهو قول النخعي والشعبي وأبي حنيفة وأحمد.
وقال مالك وأبو ثور والشافعي - في المذهب -: تقبل الشهادة على الشهادة، وفي كل حق؛ لأن ذلك يثبت بشهادة الأصل، فيثبت بالشهادة على الشهادة، كما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي.
فائدة: لو ادَّعى على رجل أنه قذفه فأنكر المدعي عليه:
ففي هذه المسألة مذهبان (3):
الأول: يستحلف، وبه قال الزهري وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، واختاره ابن المنذر، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اليمين على المدعى عليه» (4) ولأنه حق آدمي فيستحلف فيه كالدين.
_________
(1) «المبسوط» (9/ 111)، و «فتح القدير» (4/ 199)، و «جواهر الإكليل» (2/ 132)، و «مغني المحتاج» (4/ 157، 442)، و «المغني» (9/ 206).
(2) سورة البقرة: 282.
(3) انظر: «المغني» (9/ 90 - الفكر).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (2514)، ومسلم (1711).

(4/63)


الثاني: أنه لا يستحلف: وبه قال حماد والثوري وأصحاب الرأي، قالوا: لأنه حد، فلا يستحلف فيه كالزنا والسرقة، فإن امتنع عن اليمين لم يقم عليه الحد، لأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يُقضى فيه بالنكول كسائر الحدود.
عقوبات القاذف:
من قذف مسلمًا بفاحشة الزنا، أو ما يستلزم الزنا كنفي ولد المحصنة عن أبيه، وعجز عن إثبات دعواه هذه، فإن الله تعالى أوجب عليه ثلاث عقوبات في نصٍّ قرآني صريح مُحكم، قال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يألوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} (1).
وقد تضمنت الآية الكريمة العقوبات الآتية:
الأولى: جلد القاذف ثمانين جلدة:
وهذا من قواطع الأحكام في الإسلام، للآية الكريمة، ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن قذف عائشة - رضي الله عنها - في - حادثة الإفك - إذ جلد كل واحد ثمانين جلدة.
إذا قذف العبد حُرًّا:
العبد إذا قذف حرًّا محصنًا، فإنه يجب عليه الحد بشروطه المتقدمة، لكن اختلف أهل العلم: هل يُحدُّ كحدِّ الحرِّ (ثمانين جلدة) أم على النصف منه؟ على
قولين (2):
الأول: حدُّ أربعون جلدة: وهو قول جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، قالوا: لأنه حدٌّ ينتصَّف بالرقِّ كالزنا، وقد قال الله تعالى: {فإن أتن بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (3).
وقال مالك: قال أبو الزناد: سألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك فقال: «أدركت عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والخلفاء وهلم جرا، فما رأيت أحدًا جلد عبدًا في فرية أكثر من أربعين» (4).
_________
(1) سورة النور: 5.
(2) «فتح القدير» (4/ 192)، و «تفسير القرطبي» (النور: 4)، و «فتح الباري»، و «المحلي» (11/ 272).
(3) سورة النساء: 25.
(4) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1567).

(4/64)


الثاني: حدُّ العبد كحد الحر ثمانون جلدة: وهو مروي عن ابن مسعود والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو مذهب ابن حزم، واحتجوا:
بعموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (1).
قال صديق حسن خان - رحمه الله -: «الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحرُّ والعبد، والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد، لا من الكتاب ولا من السنة، ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا: {فعليهن نصف ما على المحصنات من
العذاب} (2). ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف، فإلحاق أحد الحدين بالآخر فيه إشكال، لاسيما مع اختلاف العلة، وكون أحدهما حقًّا لله محضًا، والآخر مشوبًا بحق آدمي» اهـ (3).
قلت: ويقول الجمهور أقول، لفعل الخلفاء الراشدين، والله أعلم.
العقوبة الثانية: رَدُّ شهادة القاذف:
وقد اتفقت الأمة على أن القاذف إذا حُدَّ للقذف، لم تُقبلْ شهادته بعد ذلك ما لم يَتُبْ، وقد نصَّ القرآن على ذلك، قال سبحانه: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ...} (4).
حكم قبول شهادته بعد توبته:
ثم اختلف أهل العلم في القاذف إذا تاب - وقد حُدَّ بقذفه - هل تقبل شهادته بعد ذلك؟ على قولين مشهورين (5):
الأول: لا تقبل شهادة المحدود في قذف ولو تاب: وهو مذهب أبي حنيفة، وطائفة من السلف منهم: القاضي شريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد، وحجة هذا القول ما يلي:
_________
(1) سورة النساء: 25.
(2) سورة النساء: 25.
(3) «الروضة الندية شرح الدرر البهية» (ص: 281 - 282).
(4) سورة النور: 4، 5.
(5) «البدائع» (6/ 271)، و «فتح القدير» (6/ 475)، و «نهاية المحتاج» (8/ 291)، و «جواهر الإكليل» (2/ 235)، و «المجموع» (22/ 101)، و «المغني» (12/ 76)، و «تفسير ابن كثير (3/ 257)، و «التشريع الجنائي» (2/ 491)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 225 - 244).

(4/65)


1 - أن الله سبحانه قد أبَّد المنع من قبول شهادتهم بقوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأييده.
وهذا الاستدلال راجع إلى مسألة أصولية مشهورة عند الحنفية، وهي: (أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات رجع الاستثناء للأخير فقط).
وعليه، فاستثناء الذين تابوا في هذه الآية إنما يرجع على وصفهم بالفسق فقط، فيرفع عنهم الفسق، ويبقون مردودي الشهادة أبدًا.
2 - أن المنع من قبول شهادته جعل من تمام عقوبته، ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد، فلا يسقط هذا العقاب بالتوبة، كما أن الحد لا يسقط عنه بالتوبة.
وتُعقِّب هذا الاستدلال بأن ردَّ الشهادة ليس من تمام الحد، فإن الحد تمَّ باستيفاء عدده، وسببه نفس القذف، وأما ردُّ الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف لا الحد.
ثم إن قياسهم هذه العقوبة - وهي رد الشهادة - على عقوبة الحد، وأنه كما لا تسقط عقوبة الجلد بالتوبة فكذلك عقوبته برد الشهادة، فهذا القياس يرد عليه القادح بافتراق العلة، فإن العلة في الحد بالجلد هي القذف، وأما في إيجاب ردِّ الشهادة فالعلة مترددة بين القذف وبين الفسق بالقذف، فلا يتم الاستدلال بالقياس.
3 - واستدلوا بما يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا
تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام، ولا ذي غمر على أخيه» (1).
وتعقب الجمهور هذا الاستدلال من جهتين: من جهة السند فهو ضعيف لاسيما ذكر المجلود في حد، ثم على فرض صحته فهو محمول على غير التائب، فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (2).
«وهذا نقد مُسلَّم فإن قوله «ولا محدود» يشمل أي حد كالخمر والزنا والقذف ونحوها، والاتفاق جارٍ على أن المحدود في خمرٍ - مثلًا - تقبل شهادته إذا تاب،
_________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2366)، وأحمد (2/ 208)، والدارقطني (4/ 244)، والبيهقي (10/ 155) بسند ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وله شاهد من حديث عائشة عند الترمذي (2298) وغيره ولا يصح.
(2) حسن: أخرجه ابن ماجه (4250) بسند منقطع وله شواهد يحسن بها.

(4/66)


فكذا يقال في القاذف، لاحتمال أن يكون الاستثناء في الآية مخصصًا لعموم الحديث بالنسبة له» (1).
4 - قالوا: القذف متضمن للجناية على حق الله وحق الآدمي، وهو من أوفى الجرائم، فناسب تغليظ الزجر، وردُّ الشهادة من أقوى أسباب الزجر.
وتُعقِّب بأن مصلحة الزجر متحصلة بالحد، وتغليظ الزجر وصف لا ينضبط فلا يعلق له حكم، ثم إن زجر القاذف بردِّ شهادته لا يتحقق في كل أحد لتفاوت الناس، والقذف عادة إنما يحصل من الرعاع لا من أعيان الناس، وهم لا ينزجرون غالبًا بردِّ شهاداتهم، وأيضًا فإن ما يترتب على ردِّ شهادته أبدًا من المفاسد - كفوات الحق على الغير، وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها - تغمر المصلحة
في ذلك، والقاعدة أن (رد المفاسد مقدم على جلب المصالح).
القول الثاني: تقبل شهادة القاذف إذا تاب: وهو مذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد وجماعة من السلف منهم سعيد بن المسيب، وعليه عمل الصحابة - رضي الله عنهم -، ومما استدلوا به:
1 - أن الاستثناء في الآية الكريمة عائد إلى الجملتين المتعاطفتين قبله في قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون} (2).
وهذا بناء على أصل الجمهور - خلافًا للحنفية - في أن (الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات فإنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها).
قال أبو عبيد: «وهذا عندي هو القول المعمول به؛ لأن من قال به أكثر، وهو أصح في النظر، ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل، وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب» اهـ.
2 - واستدلوا بعمل الصحابة - رضي الله عنهم -، كما في قصة قذف المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، فإن عمر - رضي الله عنه - قبل شهادة نافع وشبل لما تابا، وردُّ شهادة أبي بكرة إذا أبى أن يتوب (3).
_________
(1) «الحدود والتعزيرات» (ص: 234) بتصرف يسير.
(2) سورة النور: 4.
(3) إسنادها صحيح: أخرجها عبد الرزاق (7/ 384) بسند صحيح عن ابن المسيب. قال: «شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا، ونكل زياد، فحدَّ عمر الثلاثة، وقال لهم: «توبوا تقبل شهادتكم» فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة، فكان لا يقبل شهادته ..» وله طرق أخرى.

(4/67)


وقد حكى ابن قدامة في «المغني» أن هذا محل إجماع من الصحابة - رضي الله
عنهم.
3 - القياس على قاعدة الشريعة المطردة من قبول شهادة كل تائب، قالوا: وأعظم موانع الشهادة: الكفر والسحر وقتل النفس وعقوق الوالدين والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قُبلت اتفاقًا، فالتائب من القذف أولى بالقبول، قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد يتاب منه ويبقى أثره المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها، وخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (1)؟!
قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو لعلة الفسق، وقد ارتفع بالتوبة، وهو سبب الرد، فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع.
وتعقبه الأولون: بأن العلة إنما هي تتمة الحد بسبب القذف لا الفسق به - كما تقدم - فهذا قياس مع الفارق!!
4 - قالوا: الحدُّ يدرأ عنه عقوبة الآخرة، وهو طهرة له، فكيف تقبل شهادته إذ لم يتطهر بالحد، وترد أطهر ما يكون، فإنه بالحد والتوبة قد يطهر طهرًا كاملًا.
الترجيح:
الذي يظهر مما تقدم أن الحاسم في المسألة، معرفةُ ما يعود إليه الاستثناء في الآية الكريمة، ففي الآية تقدم الاستثناء ثلاثُ جمل متعاطفات وهي:
(أ) {فاجلدوهم ثمانين جلدة} (2).
(ب) {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} (3).
(جـ) {وأولئك هم الفاسقون} ثم قال {إلا الذين تابوا} (4).
وقد أجمعوا على أن الاستثناء غير عامل في جلده - في الجملة الأولى - فالتوبة لا تسقط عن القاذف حدَّ الجلد إجماعًا (5) أي: إذا رفعت إلى الحاكم.
وكذلك أجمعوا على أن الاستثناء عامل في فسقه - في الجملة الثالثة - فالتوبة تزيل عن القاذف وصف الفسق.
_________
(1) حسن: تقدم قريبًا.
(2) سورة النساء: 25.
(3) سورة النساء: 25.
(4) سورة النور: 4، 5.
(5) نقل الإجماع غير واحد، انظر: «تفسير ابن كثير» (3/ 257)، و «المجموع» (22/ 101).

(4/68)


فيبقى الخلاف في عمل الاستثناء في ردِّ الشهادة؟! وقد علمت خلاف الجمهور والحنفية في عود الاستثناء على الجمل المتعاطفات.
والذي يظهر لي هو ما استظهره جماعة من الأصوليين (1) من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع، ولا إلى الأخيرة، إلا بدليل يدل عليه، ويبدو لي أن فعل الصحابة وعمومات الشريعة بكون التائب كمن لا ذنب له يصلح دليلًا على جعل الاستثناء راجعًا إلى الجملتين - كما قال الجمهور - فيرتفع بالتوبة ردُّ الشهادة والحكم بالفسق، والله تعالى أعلم.
صِفَةُ توبةِ القَاذِفِ:
وأما صفة التوبة التي بها يرفع الحكم بالفسق عن القاذف وتقبل شهادته،
فللعلماء فيها قولان (2):
الأول: لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حُدَّ فيه، وبه قال عمر - رضي الله عنه - وجماعة من السلف، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وحجتهم:
1 - قصة عمر المتقدمة في حدِّ أبي بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنا، وفيها أن عمر قال لهم: «توبوا تُقبل شهادتكم» فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة، فكان لا يقبل شهادته (3).
وفي رواية: «فلما فرغ من جلد أبي بكرة، قام أبو بكرة فقال: أشهد أنه زان ...» (4).
قلت: وهذا يدلُّ على أن المراد بطلب توبتهم إكذاب أنفسهم.
2 - أن إكذابه نفسه هو ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عرض المسلم المحصن، فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه لينتفي عن المقذوف العار الذي الحق به القذف، وهو مقصود التوبة.
القول الثاني: يكفي في توبته أن يصلح ويحسن حاله، ويندم على ما كان منه ويستغفر، وإن لم يكذِّب نفسه: وهو قول جماعة من التابعين واختيار ابن جرير الطبري، وهو مذهب مالك - رحمه الله -.
_________
(1) منهم القرطبي وابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة، واستظهره العلامة الشنقيطي في «الأضواء» (6/ 90) والعلامة بكر أبو زيد - حفظه الله -.
(2) «تفسير القرطبي» (12/ 179)، و «نهاية المحتاج» (8/ 291)، و «المغني» (12/ 77).
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (8873).

(4/69)


والأوَّل أرجح للأثر، ولأن مجرد الاستغفار لا مصلحة فيه للمقذوف، ولا يحصل له براءة عرضه مما قذف به، فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب، فإن فيه حقين: حق لله وحق للعبد، وحق العبد لا يؤدي إلا بتكذيب القاذف نفسه.
وهنا إِشْكال (1):
ولعله لأجله قال من قال: يكفي الاعتراف بالذنب والاستغفار، وهو: إذا كان صادقًا قد عاين الزنا فأخبر به فكيف يسوغ له تكذيب نفسه وقذفها بالكذب، ويكون ذلك من تمام توبته؟
والجواب: أن الكذب يراد به أمران: أحدهما: الخبر غير المطابق لمخبره، والآخر: الخبر الذي لا يجوز الإخبار به، وإن كان مطابقًا لمخبره.
ومن الثاني خبر القاذف المنفرد برؤية الزنا، والإخبار به، فإنه كاذب في حكم الله وإن كان خبره مطابقًا لمخبره، ولذا قال الله تعالى: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} (2).
وعلى هذا فحكم الله في مثل هذا أن يعاقب عقوبة المفتري الكاذب وإن كان خبره مطابقًا، فيلزمه أن يعترف بأنه كاذب عند الله كما أخبر الله تعالى عنه، فإذا لم يعترف بأنه كاذب وجعله الله كاذبًا، فأي توبة له، وهل هذا إلا محض الإصرار والمجاهرة بمخالفة حكم الله الذي حكم به عليه؟!
العقوبة الثالثة: الحكم بفسق القاذف: ولا خلاف في ذلك لنصِّ الآية الكريمة {وأولئك هم الفاسقون} (3).
وقد علمت أن الحكم بفسقه يرتفع بتوبته إجماعًا لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} (4). وتكون التوبة على النحو الذي تقدم وصفه والله أعلم.
إذا قذف إنسانًا باللواط أو بإتيان البهائم (5):
من قذف رجلًا بفعل قوم لوط - إما فاعلًا أو مفعولًا به - فقد اختلف أهل
_________
(1) للعلامة بكر أبو زيد - أمتع الله بحياته - (ص: 246 - 248).
(2) سورة النور: 13.
(3) سورة النور: 4.
(4) سورة النور: 5.
(5) «المغني» (9/ 79)، و «المجموع» (22/ 114)، و «المحلي» (11/ 283 - 285).

(4/70)


العلماء في إيجاب الحد عليه تبعًا لاختلافهم في إيجابهم الحد على اللوطي أصلًا، فقال الحسن والنخعي والزهري ومالك والشافعي وأحمد - وهو الخارج على قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن -: يجب عليه حدُّ القذف.
وقال عطاء وقتادة وأبو حنيفة وابن حزم: لا حدَّ عليه!!
وقد تقدم أن اللوطي يجب عليه الحدُّ كما قال الجمهور، فنقول: وكذلك يجب الحدُّ بقذفه باللواط.
وكذلك الشأن فيمن قذف إنسانًا بإتيان بهيمة، فمن رأي الحدَّ في إتيان البهيمة، قال: يحدُّ بقذفه، ومن قال: لا حد عليه - وهم الجمهور -، قالوا: كذلك لا حدَّ على قاذفه، وإنما يعزَّر لقوله بما يراه الإمام صالحًا له، لما في قوله من أذى
ومعرَّة تلحق بالمقذوف.
إذا قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات:
من رمى جماعة بالزنا، فللعلماء فيه ثلاثة مذاهب (1):
الأول: يحدُّ حدًّا واحدًا: وبه قال طاوس والشعبي والزهري والنخعي وقتادة والثوري، وهو مذهب أبى حنيفة وصاحبيه ومالك والشافعي - في أحد قوليه - وإسحاق، واستدلوا بما يلي:
1 - أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فرفع ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلاعن بينهما ولم يحدَّ شريكًا (2).
2 - أن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة، فلم يحدهم عمر إلا حدًّا واحدًّا.
3 - أنه قذف الجماعة قذف واحد، فلم يجب إلا حدٌّ واحد، كما لو قذف واحدًا.
4 - أن الحدَّ وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه، ويحد واحد يظهر كذب القاذف وتزول المعرة عن المقذوف، فوجب أن يكتفى به.
5 - أن قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} (3) لم يفرق بين قذف واحد أو جماعة.
الثاني: يحدُّ لكل واحد حدًّا: وهو قول الحسن وأبي ثور وابن المنذر وأحمد
_________
(1) «المغني» (9/ 88).
(2) تقدم حديثه في «اللعان».
(3) سورة النور: 4.

(4/71)


والشافعي في قوله الآخر، وحجتهم أن الحدَّ حق للآدميين، ولو عفا بعضهم ولم
يعفُ الكل لم يسقط الحد.
الثالث: التفريق بين رميهم بكلمة واحدة فيحدُّ مرة، أو بكلمات فيحدُّ لكل كلمة بحدٍّ: لأنه إذا تعدد القذف فيجب تعدُّد القذف.
مسقطات حدُّ القذف:
يسقط حد القذف عن القاذف، فلا يعاقب به، بواحد مما يأتي:
1 - عفو المقذوف عن القاذف (1):
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن للمقذوف أن يعفو عن القاذف، سواء قبل الرفع إلى الإمام أو بعد الرفع إليه، لأنه حق لا يستوفى إلا بعد مطالبة المقذوف باستيفائه، فيسقط بعفوه، كالقصاص، وفارق سائر الحدود، فإنه لا يعتبر في إقامتها طلب استيفائها.
وذهب المالكية إلى أنه لا يجوز العفو بعد أن يرفع إلى الإمام، إلا الابن في أبيه، أو الذي يريد سترًا.
وأما الحنفية فذهبوا إلى أنه لا يجوز العفو عن الحدِّ في القذف، سواء رفع إلى الإمام أو لم يرفع.
وسبب اختلافهم - كما قال ابن رشد -: هل هو حق لله أو حق للآدميين أو حق لكليهما؟ فمن قال: حق الله، لم يجز العفو كالزنا، ومن قال حق للآدميين، أجاز العفو، وعمدتهم أن المقذوف إذا صدَّقه فيما قذفه به سقط عنه الحد.
ومن قال: هو حق لكليهما وغلَّب حق الإمام إذا وصل إليه، قال بالفرق بين أن يصل إلى الإمام أو لا يصل.
قلت: ولعلَّ هذا الأخير يتأيَّد بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب» (2).
وبالقياس على الأثر الوارد في السرعة في حديث صفوان بن أمية في قصة
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 182)، و «المدونة» (4/ 387)، و «بداية المجتهد» (2/ 331)، و «روضة الطالبين» (10/ 106)، و «المغني» (8/ 217).
(2) حسن بشواهده: وتقدم في أول «الحدود».

(4/72)


الذي سُرق رداؤه ثم أراد ألا يقطع، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟» (1). والله تعالى أعلم.
2 - اللعان: وذلك إذا رمى الرجل زوجته بالزنا، أو نفى حملها أو ولدها منه، ولم يُقم بيِّنة على ما رماها به، فإن الحدَّ يسقط عنه إذا لاعنها كما تقدم في «اللعان».
3 - البيِّنة:
فإذا ثبت زنا المقذوف بشهادة، أو إقرار، فإنه يُحَدُّ المقذوف، ويسقط الحد عن القاذف، لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة ...} (2).
4 - زوال الإحصان عن المقذوف (3): فذهب الجمهور إلى أنه لو قذف محصنًا ثم زال أحد أوصاف الإحصان عنه، كأن زنى المقذوف، أو ارتد (4) أو جُنَّ، سقط الحدُّ عن القاذف، لأن الإحصان يشترط في ثبوت الحد، وكذلك استمراره.
وأما الحنابلة فقالوا: إذا ثبت القذف فإنه لا يسقط بزوال شرط من شروط الإحصان بعد ذلك، ولا يسقط الحدُّ عن القاذف بذلك.
5 - رجوع الشهود على القذف عن الشهادة (5):
إذا ثبت حدُّ القذف بشهادة الشهود، ثم رجعوا عن شهادتهم قبل إقامة الحد، سقط الحدُّ باتفاق الفقهاء، وكذلك إذا رجع بعضهم ولم يبق منهم ما يثبت الحدُّ بشهادته منهم؛ لأن رجوعهم شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.

(3) حَدُّ شُربِ الخَمر
تعريف الخمر (6):
الخمر: تجمع على خُمور، وهى مؤنثة، ويجوز تذكيرها، والتأنيث أكثر وأشهر،
وتؤنث بالهاء، فيقال: هذه أو هذا خمر، وهذه خمرة.
_________
(1)، (2) «ابن عابدين» (3/ 168)، و «الدسوقي» (4/ 326)، و «روضة الطالبين» (8/ 327)، و «كشاف القناع» (6/ 105).
(2) سورة النور: 4.
(3) لكن قال الشافعية: لا يسقط الحدُّ بالردَّة بخلاف الزنا ونحوه.
(4) انظر «الموسوعة الفقهية» (33/ 16)، (22/ 149).
(5) «مختار الصحاح» (189)، و «القاموس» (2/ 32)، و «تهذيب الأسماء واللغات»، و «القرطبي» (3/ 51)، و «فتح الباري» (10/ 32)، و «نيل الأوطار» (7/ 166)، و «الحدود والتعزيرات» (251).
(6)

(4/73)


وسميت بذلك لأنها تغطي حتى تدرك أي تغلي، وقيل: لأنها تستر العقل وتغطيه، وقيل: لأنها تخامر العقل أي تخالطه.
والتحقيق: أن هذه الأوجه كلها موجودة في الخمر، فالخمر تركت حتى أدركت وسكنت، فإذا شُربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه، فلا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان.
حقيقتها في اللغة:
قال الفيروزآبادي: الخمر ما أسكر من عصير العنب، أو هو عام، والعموم أصحُّ، لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا البسر والتمر (1).
حقيقتها الشرعية:
اختلف العلماء في حقيقة الخمر الشرعية بناء على اختلافهم في حقيقتها في اللغة وإطلاق الشرع، على قولين (2):
الأول: أن الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد بطبعه دون عمل النار، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض الشافعية.
الثاني: أن الخمر كل ما أسكر سواء كان عصيرًا أو نقيعًا من العنب أو غيره مطبوخًا أو غير مطبوخ، وهو مذهب جمهور العلماء.
والحق أن هذه المسألة مما طال فيه النزاع مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جعل لها حدًّا أغنانا به عن هذا التعب والتطويل، فعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ...» (3).
وعن أبي موسى قال: قلت: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن، البتع: وهو من العسل حين يشتد، والمزر: وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يَشتد، قال: - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه - «كل مسكر حرام» (4).
_________
(1) «القاموس المحيط» مادة: (خمر).
(2) «ابن عابدين» (5/ 288)، و «الدسوقي» (4/ 353)، و «مغني المحتاج» (4/ 186)، و «الروضة» (10/ 168)، و «المغني» (9/ 159)، و «كشاف القناع» (6/ 116).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2003)، والترمذي (1861)، والنسائي (5582)، وأبو داود (3679)، وابن ماجة (3390).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4343)، ومسلم (1733).

(4/74)


فهذا الحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر، وقد سماه (خمرًا) أفصح الأمة لسانًا - صلى الله عليه وسلم -، فمن خصَّ بنوع خاص من المسكرات فقد قصر فهمه، وهضم المعنى العام في الخمر الشامل معناه لكل مسكر.
ثم إن الأحاديث الواردة في هذا الباب تبطل المذهب الأول القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، ومن ذلك:
1 - حديث أنس قال: «إن الخمر قد حُرمت، والخمر يومئذ: البُسر والتمر» (1).
2 - وعنه قال: «لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب
يُشرب إلا من التمر» (2).
وفي لفظ: «... وما نجد خمر الأعناب، وعامة خمرنا البسر والتمر» (3).
3 - وعن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذٍ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب» (4).
4 - وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا» (5).
5 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قام عمر على المنبر فقال: «أما بعد، نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل» (6).
فهذه النصوص وغيرها كثير صريحة في دخول هذه الأشربة المتخذة من غير العنب في اسم الخمر في اللغة التي نزل بها القرآن، وخوطب بها الصحابة، وهي تغني عن التكلف في إثبات تسميتها خمرًا بالقياس مع كثرة النزاع فيه، على أن محض القياس الجلي - على فرض عدم وجود هذه النصوص - يقتضي التسوية بينها، بل هي أرفع أنواع القياس؛ لأن الفرع فيه مساوٍ للأصل في جميع أوصافه،
والعجب من أبي حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد (!!) ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة (7).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5584)، ومسلم (1980).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1982).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (5580).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4616)، ومسلم (3032).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3659)، والترمذي (1934)، وابن ماجة (3379).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5581)، ومسلم (3032).
(7) انظر: «تهذيب السنن» (5/ 262) لابن القيم، و «تفسير القرطبي» (6/ 295).

(4/75)


لا فرق بين قليل الخمر وكثيرها:
حرَّم الشارع القطرة من الخمر، وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير، لكونها ذريعة إلى شرب كثيرها (1).
فعن ابن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام» (2).
وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام» (3).
والفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلًا.
الحشيشة والمخدرات حرام، وفيها الحدُّ:
عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ...» (4).
وهذا يتناول كل ما يُسكر، ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولًا أو مشروبًا، أو جامدًا أو مائعًا، فلو اصطبغ كالخمر كان حرامًا، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حرامًا، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بُعث بجوامع الكلم، فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن (5).
وقد صحَّ عن أصحابه - رضي الله عنهم - الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده بأن «الخمر ما خامر العقل» (6).
على أنه لو لم يتناول لفظه - صلى الله عليه وسلم - كلَّ مسكر، لكان القياس الصحيح الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل جهة حاكمًا بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع، تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه (7).
ولذا فإن المخدرات بجميع أنواعها (الحشيشة والأفيون والهيروين وغيرها)
_________
(1) «إغاثة اللهفان» (1/ 361).
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجة (3392) والنسائي مفرقًا (8/ 297، 300).
(3) صحيح: أخرجه الترمذي (1928)، وأبو داود (3670).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2003)، وغيره وقد تقدم.
(5) «مجموع الفتاوى» (34/ 204).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (5581)، ومسلم (3032) من قول عمر - رضي الله عنه.
(7) «زاد المعاد».

(4/76)


محرَّمة وهي خمر لأنها مسكرة تغيب العقل، وإنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك.
وقد نصَّ على تحريمها فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم ولا خلاف في ذلك (1)، لكنهم لا يرون فيها الحدَّ (!!) بل يقولون بالتعزير، ويرى بعضهم أن
الحرمة إنما هي في تعاطي القدر المسكر!!
والتحقيق: أن هذه المخدرات - بعد الاتفاق على تحريمها - لها حكم الخمر بالنصِّ فلا وجه للتفريق بينهما وبين الخمر، فهي وإن كانت تجامع الشراب المسكر في تغييب العقل والنشوة والطرب، فإنها تشتمل على ضرر ف دين المرء وعقله وخلقه وطبعه، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين، وتورث من مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى، وقد صحَّ تسميتها خمرًا، فيكون القليل منها حرامًا كالكثير، ويُحدَّ متعاطيها، كما حقَّقه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -، قال: «وقاعدة الشريعة: أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات، كالخمر والزنا ففيه الحدُّ، لا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير، والحشيشة مما يشتهيها آكلوها ويمتنعون عن تركها، فيجب فيها الحد، بخلاف البنج ونحوه مما يُغطى العقل من غير سُكر، ولا يشتهيه الناس، ففيه التعزير ...» اهـ (2).
عقوبة شارب الخمر:
ذهب عامة أهل العلم - بل حكي غير واحد منهم الإجماع (3) على أن
الشرع قد رتَّب على شرب الخمر عقوبة حدِّية مقدَّرة، فقد وردت أحاديث كثيرة في حد
_________
(1) «ابن عابدين» (4/ 42)، و «الدسوقي» (4/ 352)، و «مغني المحتاج» (4/ 187)، و «الإنصاف» (10/ 228).
(2) «مجموع الفتاوى» (34/ 214).
(3) حكي الإجماع ابن حزم والقاضي عياض وابن هبيرة وابن قدامة وابن حجر وغيرهم، لكن حكي الطبري وابن المنذر وغيرهما عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حدَّ فيها وإنما فيها التعزير، وانتصر لذلك الشوكاني - رحمهم الله -، وقدح في صحة الإجماع باختلاف الصحابة قبل إمارة عمر وبعدها، وهذا الاعتراض على التحقيق غير وارد لأن اختلافهم إنما هو فيما زاد على الأربعين، وأما الأربعين فلا خلاف فيها بدلالة مثل أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر في صدر خلافته.

(4/77)


شارب الخمر - يأتي بعضها - وأجمع الصحابة ومن بعدهم على جلد شارب الخمر، ثم اختلفوا في مقداره على قولين (1):
الأول: مقداره أربعون جلدة: وهو مذهب الشافعي - ورواية عن أحمد - وداود وابن حزم وبه قال جمع من الصحابة - رضي الله عنهم -، وحجة هذا المذهب:
1 - حديث أنس قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين» (2).
2 - أن عثمان - رضي الله عنه - أمر عليًّا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر: «اجلده، فجلده، فما بلغ الأربعين قال: أمسك، جَلَدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكُلٌّ سُنَّة، وهذا أحب إليَّ» (3).
3 - وعن السائب بن يزيد قال: «كنا نُؤتي بالشارب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإمرة أبي بكر، فصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا
جلد ثمانين» (4).
قالوا: ففيهما الجزم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين، واعتمده أبو بكر في خلافته، وعمر - رضي الله عنه - صدرًا من خلافته حتى تتابع الناس فيها فزادها أربعين «تعزيرًا».
ولذا قال عليٌّ - رضي الله عنه -: «ما كنت لأقيم الحدَّ على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَسُنَّه» (5).
أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقدر فيه بقول تقديرًا لا يزاد عليه، ولذا زاد عمر أربعين أخرى بعدما استشار الصحابة تعزيرًا، لكن جلد عليٌّ أربعين فقط في خلافته وقال: «هذا أحب إليَّ».
الثاني: مقدار الحدِّ ثمانون جلدة: وهو مذهب جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد، وهو القول الآخر عند الشافعية، واستدلوا بما يلي:
_________
(1) «ابن عابدين» (5/ 289)، و «الفواكه الدواني» (2/ 290)، و «مغني المحتاج» (4/ 187)، و «المغني» (9/ 137)، و «المحلي» (11/ 365)، و «نيل الأوطار» (7/ 146).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1706).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1707)، وأبو داود (4480)، وابن ماجة (2571).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (6779)، وأحمد (15292).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (6778)، ومسلم (1707).

(4/78)


1 - ما يُروى «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر ثمانين» (1) وهو ضعيف لا تقوم به حجة.
2 - حديث أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل قد شرب
الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين، - قال: - وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين، فأمر به عمر» (2).
قالوا: فاتفق رأيهم على الثمانين فكان إجماعًا (!!).
3 - ما يُروى عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: «إذا سكر أهذى، وإذا أهذى افترى، وحدَّ المفتري ثمانون» (3) ولا يصحُّ عنه، بل ثبت عنه أنه جلد أربعين.
قلت:
الذي يترجَّح لديَّ هو القول الأول: أن الحدَّ أربعون، لأنه الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر صدرًا من خلافته، وأما ما زاده عمر - رضي الله عنه - واستشار فيه الصحابة، فإنه قد زاده على الحدِّ من باب التعزير لما رأى من اجتراء الناس وتتابعهم على شربها، ويؤيد هذا أمران:
(أ) أن عمر تدرَّج بالجلد من أربعين إلى ستين ثم إلى ثمانين، فعنه «أن عمر - رضي الله عنه - جلد أربعين سوطًا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين، ثم قال: هذا أدنى الحدود» (4).
(ب) أنه كان يضرب في وقت واحد أربعين وثمانين تبعًا للمصلحة، فقد «أُتي عمر بشارب، فقال لمطيع بن الأسود: إذا أصبحت غدًا فاضربه، فجاء عمر فوجده
يضربه ضربًا شديدًا، فقال: كم ضربته؟ قال: ستين، قال: اقتصَّ منه بعشرين» (5).
_________
(1) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 379) مرسلًا، وانظر «التلخيص» (4/ 72).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1706)، وأبو داود (4479)، والترمذي (1443)، وأحمد (11729).
(3) ضعيف: أخرجه مالك (2/ 842)، والدارقطني (354)، والطحاوي (2/ 88)، والحاكم (4/ 375)، والبيهقي (8/ 320)، وانظر «الإرواء» (2378).
(4) مرسل: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 377).
(5) صححه الحافظ: عزاه الحافظ في «الفتح» (12/ 75) إلى أبي عبيد في «الغريب» وقال: إسناده صحيح.

(4/79)


قال أبو عبيد: «يعني: اجعل شدة ضربك له قصاصًا بالعشرين التي بقيت من الثمانين» اهـ وقال البيهقي: «ويؤخذ من هذا أن الزيادة على الأربعين ليست بحد إذ لو كانت حدًّا لما جاز النقص منه بشدة الضرب إذ لا قائل به» اهـ (1).
وأما ادعاؤهم اتفاق الصحابة - بعد استشارة عمر لهم - على الثمانين وأنه إجماع، فهو متعقَّب بجلد عليٍّ للشارب أربعن، وكذلك عثمان - رضي الله عنهما.
والذي يتحصَّل أن الحدَّ إنما هو أربعون، وللإمام أن يزيد عليها بحسب الحال تبعًا للمصلحة من باب التعزير، والله تعالى أعلم.
فائدتان:
صفة حد الشرب:
1 - صفة حد الشرب: يجوز ضرب الشارب بالجريد أو الأيدي أو النعال أو الثياب أو السوط بحسب الحال، وما تقتضيه المصلحة، ففي حديث السائب بن يزيد المتقدم: «... فتقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا ...» الحديث (2).
وعن أنس قال: «جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمر بالجريد والنعال ...» (3).
هذا مذهب الشافعي واختيار شيخ الإسلام، وأما الجمهور (4) فقالوا: يقام الحد بالسوط كسائر الحدود، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا شرب الخمر فاجلدوه» (5).
فأمر بجلده كما أمر الله بجلد الزاني فكان بالسوط مثله؛ ولأن الخلفاء الراشدين ضربوا بالسياط وكذلك غيرهم، وأما الأحاديث المتقدمة فكانت في بدء الأمر ثم استقر الأمر على الجلد بالسوط.
قلت: وهذا له وجهه كذلك، والله أعلم بالصواب.
2 - لا يجوز لعنُ شارب الخمر تعيينًا، ولا سبُّهُ إذا أقيم عليه الحد:
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رجلًا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه
_________
(1) انظر «سنن البيهقي»، و «فتح الباري» (12/ 75 - سلفية).
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) «الهداية» (2/ 111)، و «القوانين» (310)، و «مغني المحتاج» (4/ 179)، و «المغني» (4/ 354)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 483).
(5) صحيح: يأتي قريبًا.

(4/80)


عبد الله وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنْهُ، ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ أنه يحب الله ورسوله» (1).
وعن أبي هريرة قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما
انصرف قال رجل: ماله أخزاه الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» (2).
إذا تكرر منه الشرب وحُدَّ أكثر من ثلاث مرات:
من شرب الخمر فَحُدَّ فيها ثلاث مرات ثم شربها الرابعة، فقد ورد في قتله جملة أحاديث عن جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها:
حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه» (3).
ونحوه من حديث ابن عمر ونفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن حديث معاوية ابن أبي سفيان وغيرهم.
وقد كان لأهل العلم في هذه الأحاديث وما في معناها اتجاهان، خرج عليها ثلاثة أقوال (4):
الاتجاه الأول: أن هذه الأحاديث منسوخة أو انعقد الإجماع على خلافها:
وبهذا قال الأئمة الأربعة وغيرهم وعليه تتابعت كلمتهم، حتى قال الترمذي في «كتاب العلل» من «سننه» (5/ 736): «قال أبو عيسى: جمع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معلول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا
حديثين ...» وذكر منهما حديث القتل.
وقد استدلوا على النسخ بأمور:
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6780).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6781).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (4484)، وأحمد (7704).
(4) «المحلي» (11/ 365)، و «نيل الأوطار» (7/ 176)، و «الحدود والتعزيرات» (ص306 - 320).

(4/81)


1 - حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه» قال: فثبت الجلد ودرئ القتل.
وفي لفظ: «فرأى المسلمون أن الحدَّ قد وقع، وأن القتل قد رُفع» (1).
2 - حديث قبيصة بن ذويب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شرب الخمر فاجلدوه - إلى أن قال - ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه» قال: فأتى برجل قد شرب فجلده ثم أتى قد شرب فجلده ثم أتى به وقد شرب فجلده، ثم أتى به في الرابعة قد شرب فجلده، فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة» (2).
3 - حديث عمر بن الخطاب في قصة جلد الرجل الذي كان يلقب حمارًا في الخمر، وفيه: فقال رجل عن القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله» (3).
قال الحافظ (12/ 80): وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أُتي به أكثر من خمسين مرة. اهـ.
4 - حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (4).
قالوا: فهذا تناول بعمومه شارب الخمر، لأنه ليس ممن استثنى في الحديث، فيفيد عدم حلِّ دمه (!!).
وتُعقِّبت دعوى النسخ بهذا الحديث بأنها لا تصح، لأنه عام وحديث القتل خاص.
5 - واحتجوا على النسخ بدعوى الإجماع على خلاف حكمه، قال الشافعي - عقب حديث جابر في ترك القتل -: هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمتُه، وقال الترمذي: لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافًا في القديم والحديث.
_________
(1) أخرجه النسائي في «الكبرى»، والبيهقي (8/ 314)، والطحاوي (2/ 92).
(2) إسناده مرسل: أخرجه أبو داود (4485)، والشافعي (291)، والبيهقي (8/ 314)، وعلَّقه الترمذي في الحدود.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6780).
(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(4/82)


الاتجاه الثاني: أن هذه الأحاديث محكمة ليست منسوخة: وهو قول أبي محمد بن حزم - رحمه الله -، وابن القيم، فاتفقا في المأخذ، لكنهما اختلفا في النتيجة، فقال ابن حزم: يُقتل في الرابعة حدًّا، وقال ابن القيم: يُقتل تعزيرًا حسب المصلحة، فإذا أكثر منه ولم ينهه الحد واستهان به فللإمام قتله تعزيرًا لا حدًّا.
وقد ناقش كلاهما دعوى نسخ الأمر بقتل الشارب في الرابعة، ودعوى الإجماع على ذلك بما يلي:
1 - تضعيف ابن حزم للأحاديث التي فها التصريح برفع القتل.
2 - أن ادعاء النسخ بالحديث الخاص - كحديث عبد الله الملقب حمارًا -
إنما يتم بثبوت تأخره والإتيان به بعد الرابعة، ومنافاته للأمر بقتله.
3 - أن ادعاء النسخ بحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ...» لا يصح لأنه عام وحديث القتل خاص.
4 - أن دعوى الإجماع يقدح فيها أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «ائتوني به في الرابعة فعليَّ أن أقتله» (1).
قالوا: وهذا كافٍ في نقص الإجماع أو نفي ادعائه.
الترجيح:
الذي يظهر لي أن قول الجماهير من العلماء من أن قتل الشارب في الرابعة منسوخ أقوى لثبوت النص بذلك، وكذلك للإجماع عليه، وأما أثر عبد الله بن عمرو فهو ضعيف منقطع، فلا تقوم به حجة، ولا تتم دعوى نقص الإجماع به، وحتى لو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعَدَّ ذلك من نزره المخالف (2).
لكن .. إذا أدمن الناس شربها وانهمكوا فيها وتهالكوا في شربها، ولم يكن الحد بالجلد زاجرًا لهم، فهل للإمام أن يُعزِّر الشارب المتهالك بالقتل صيانة للعباد وردعًا للفساد من باب السياسة الشرعية للمصلحة كما اختاره ابن تيمية وابن القيم؟! هذا موضع نظر واجتهاد، والله أعلم.
_________
(1) إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (6752)، والطحاوي (2/ 91)، وابن حزم (11/ 366) وهو منقطع بين الحسن وعبد الله بن عمرو.
(2) انظر «فتح الباري» (12/ 82 - سلفية).

(4/83)


ما يثبت به حَدُّ الخمر (1):
1 - الإقرار: أي اعتراف الشارب بشربه للخمر، ويكفي فيه مرة واحدة في قول عامة أهل العلم، ولا يشترط مع إقرار وجود رائحة الفم - خلافًا لأبى حنيفة - لأنه ربما يُقرُّ بعد زوال الرائحة عنه.
2 - البيِّنة: وهي أن يشهد رجلان عدلان مسلمان أنه شرب مسكرًا، ولا يحتاجان إلى تفصيل في نوع المشروب، ولا إلى ذكر الإكرام أو عدمه، ولا ذكر علمه أنه مسكر؛ لان الظاهر الاختيار والعلم.
فعن حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان وأُتى بالوليد بن عقبة قد صلَّى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد الآخر أنه رآه يتقيَّأ، فقال عثمان: «إنه لم يتقيأ حتى شربها» فقال: «يا عليُّ، قم فاجلده» فقال عليٌّ: «قم يا حسن فاجلده» فقال الحسن: وَلِّ حارَّها من تولى قارَّها، فقال: «يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده» فجلده وعليٌّ يعدُّ حتى بلغ أربعين فقال: «أمسك» ... الأثر (2).
فاعتبر عثمان وعليٌّ شهادة الرجلين ولم يستفصلا عن شيء مما ذكرنا.
هل تعتبر رائحة الخمر في الفم أو تقيُّؤ الخمر بمثابة البينة؟
اختلف العلماء في وجوب الحد بوجود الرائحة في الفم أو القيء على ثلاثة
أقوال (3):
الأول: لا يجب الحدُّ بوجود الرائحة من الفم أو القيء: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، قالوا: لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها، أو حسبها ماءً فلما صارت في فيه مجَّها، أو ظنَّها لا تُسكر أو كان مكرهًا، أو أكل نبقًا بالغًا، أو شرب شراب تفاح، فإنه يكون منه رائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يُدرأ بالشبهة (4).
_________
(1) «المغني» (9/ 138 - الفكر)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 239)، و «التشريع الجنائي» (2/ 509).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1707) وقد تقدم.
(3) «المبسوط» (24/ 31) و «القوانين الفقهية» (310)، و «المتقى» (3/ 142)، و «مغني المحتاج» (4/ 190)، و «المغني» (10/ 332 - مع الشرح الكبير)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 339)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 325 - 342).
(4) انظر: «المغني» لابن قدامة (س10/ 332 - مع الشرح الكبير).

(4/84)


الثاني: يجب إقامة الحد بالرائحة أو القيء: وهو مذهب مالك، وأحمد في الرواية الأخرى عنه، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وحجتهم أن هذا القول هو مقتضى ما حكم به الصحابة - رضي الله عنهم - كعمر وعثمان وابن مسعود:
1 - فعن السائب ين يزيد «أنه حضر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يجلد رجلًا وجد منه ريح شراب، فجلده الحدَّ تمامًا» (1).
وأجيب: بأن هذا السياق فيه اختصار مخل، وإلا ففي رواية معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد - نفسه - قال: شهدت عمر بن الخطاب صلَّى على جنازة ثم أقبل علينا، فقال: «إني وجدت من عبيد الله ريح الشراب، وإني سألته
عنها، فزعم أنها الطلاء، وإني سائل عن الشراب الذي شرب، فإن كان مسكرًا جلدته» قال: فشهدته بعد ذلك يجلده (2).
ومدار الأثر على السائب بن يزيد عن عمر فدلَّ على أن القصة واحدة، وعليه فإن جلد عمر لابنه عبيد الله كان لإقراره بأنه شرب الطلاء وقد علم أنه مسكر، ولم يجلده بمجرد وجود الرائحة، فلا يبقى فيه متعلق لمن أوجب الحدَّ بالرائحة، وهو واضح.
2 - وعن حصين بن المنذر قال: «شهدا عثمان - رضي الله عنه - وأتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم، فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها ...» الأثر وقد تقدم وفيه أنه جلده (3).
وأجيب بأنه ظاهر في أن عثمان - رضي الله عنه - لم يحدَّ الوليد بمجرد القيء للخمر، وإنما بانضمام ذلك إلى شهادة حمران بأنه شربها، ولذا لم يترجمه الأئمة الذين أخرجوه بما يفيد الحدُّ بالقيء!!
3 - وعن علقمة قال: «كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود - رضي الله عنه - سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أُنزلت، فقال: قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أحسنت»
_________
(1) أخرجه بهذا السياق عبد الرزاق (10/ 228).
(2) إسناده صحيح: علَّقه البخاري في «الصحيح» (10/ 62)، ووصله الشافعي (296)، ومالك (2/ 178)، وعبد الرزاق (10/ 228) واللفظ له.
(3) صحيح: تقدم قريبًا.

(4/85)


ووجد منه ريح الخمر، فقال: أتجمع أن تكذب
بكتاب الله، وتشرب الخمر، فضربه الحدَّ» (1).
وأجيب: بأن دلالته غير مسلَّم بها، لاحتمال أن يكون الرجل اعترف بشرب الخمر بلا عذر، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
ولذا فإن البخاري - رحمه الله - ذكر هذا الأثر في (كتاب فضائل القرآن) ولم يترجم واقعة الخمر منه في كتاب الحدود، مع دقة فهمه وقوة استنباطه - رحمه الله - (!!) وكذلك فعل الإمام مسلم حين ذكره في زمرة أحاديث فضائل القرآن، وترجم له النووي (باب: فضل استماع القرآن) (2).
4 - أن الحكم بحد الشارب بالقرينة الظاهرة عليه اتفاق الصحابة، إذ لا يُعرف لعمر وابن مسعود في حكميهما السابقين مخالف من الصحابة!!
وأجيب بأنه قد وقع عند الإسماعيلي النقل عن عليٍّ أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يشهد عليه، ذكره الحافظ في الفتح (3).
الثالث: أن الحد بالرائحة لا يجب إلا بضميمة قرنية إليه تنفي الشبهة فيحذر حينئذ: وبه قال جماعة من السلف منهم عمر - رضي الله عنه - وابن الزبير - رضي الله عنه -، وعطاء، وإليه مال ابن قدامة - رحمهم الله تعالى - وهو اختيار العلامة بكر أبو زيد أمتع الله بحياته ونفع بعلمه.
قلت: ولعلَّ هذا الأخير هو الأقرب، الذي تلتئم به الأدلة ويجتمع شملها،
وعليه فإن الحدَّ بالرائحة والقيء يكون في الصور الآتية (4):
(أ) أن يكون من وجدت منه الرائحة مشهورًا بإدمان شرب الخمر، وبها قال عمر - رضي الله عنه - (5).
(ب) أن يوجد جماعة الفساق على شراب فيكون في بعضهم سُكر، والبعض تنبعث الرائحة من فمه، فيحدُّ الجميع، وبها قال عمر بن عبد العزيز وعطاء (6).
(جـ) أن يوجد مع الرائحة عوارض السُّكر والتقيؤ، كما ذكر ابن قدامة.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5001)، ومسلم (3580) واللفظ للبخاري.
(2) أفاده العلامة بكر أبو زيد - حفظه الله - في «الحدود والتعزيرات عند ابن القيم» (ص 336).
(3) «فتح الباري» لابن حجر (9/ 50).
(4) «الحدود والتعزيرات» (ص: 340 - 341).
(5) انظر «مصنف عبد الرزاق» (10/ 228).
(6) انظر «مسند الشافعي» (298)، و «مصنف عبد الرزاق» (17037).

(4/86)


(ر) أن يشهد على شخص شاهدان أحدهما بالشرب والثاني بالرائحة أو القيء كما في قصة عثمان.
وأما الحدُّ بمجرد الرائحة ونحوها، فقد وقع ما يدل على أن ذلك غير موجب للحد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «شرب رجل فسكر، فلقي يميل في الفج، فانطلق به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك، فقال: أفعلها؟ ولم يأمر فيه بشيء» (1).
قال الخطابي - رحمه الله -: يحتمل أن يكون إنما لم يتعرض له بعد دخوله دار العباس - رضي الله عنه - من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار منه أو شهادة
عدول، وإنما لقي في الفج يميل، فظن به السُّكر، فلم يكشف عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وتركه على ذلك، والله أعلم. اهـ.
هل يُحدُّ السكران حال سكره؟ أو بعد صحوه؟ (2)
ذهب عمر بن عبد العزيز والشعبي والثوري وأبو حنيفة والشافعي إلى أن السكران لا يحدُّ حتى يصحو، وحجتهم أن المقصود بالحد الزجر والتنكيل، وحصولهما بإقامة الحد عليه في صحوه أتمُّ، فينبغي أن يؤخر إليه، لأن السكران لا يعقل ذلك.
وقالت طائفة: يُجلد حين يؤخذ، وبه قال ابن حزم، قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بالشارب فأقر فضربه ولم ينتظر أن يصحو، والنظر لا يدخل على الخبر الثابت، فالواجب أن يحد حين يؤتى به إلا أن يكون لا يحسُّ أصلًا، ولا يفهم شيئًا فيؤخر حتى يحسَّ، وبالله تعالى التوفيق. اهـ.
مجالسة شاربي الخمر، وهل يُحدُّ غير شاربها؟ (3)
يحرم مجالسة شاربي الخمر وهم يشربونها، أو الأكل على مائدة يُشرب عليها شيء من المسكرات خمرًا كان أو غيره، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر» (4).
_________
(1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (4476).
(2) «المحلي» (11/ 371)، و «المغني» (9/ 140).
(3) «المحلي» (11/ 371)، و «كشاف القناع» (6/ 118).
(4) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (2801)، وأبو داود (3774)، وأحمد (126 - 14241)، والدرامي (2092) وله طرق يحسن بمجموعها، وانظر «الإرواء» (1949).

(4/87)


ويحرم على المسلم المكلف أن يسقي غيره الخمر ولو كان صبيًّا أو مجنونًا أو
كافرًا، لقوله- صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» (1).
وقد اختلفوا في غير شاربها - من هؤلاء - هل يحدُّ كذلك؟ فروي عن ابن عامر ومروان بن الحكم أنه يُجلد كذلك.
والصحيح أنه ليس عليه الحدُّ؛ لأن الحدَّ إنما ثبت في أصناف معينة منهم شارب الخمر، وأما غيره فلم يأت في إيجاب الحدِّ عليه قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب، قلت: لكن للإمام أن يؤدِّبه ويعزّره بما فيه المصلحة والله أعلم.

(4) حَدُّ السَّرِقَة
تعريف السرقة:
السرقة لغة: أخذ ما ليس له أخْذُه خفية.
واصطلاحًا: أخذ مالٍ محترم لغيره، وإخراجه من حرز مثله بلا شبهة له فيه، على وجه الاختفاء (2).
حكم السرقة، وحدُّها:
السرقة من الكبائر، وقد اتفقت كلمة العلماء على تحريمها، وحدُّها ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
1 - قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالًا
من الله والله عزيز حكيم} (3).
2 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» (4).
3 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقًا في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم» (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3657)، وابن ماجة (3380).
(2) «كشاف القناع» للبيهقي (6/ 129).
(3) سورة المائدة: 38.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (6795)، ومسلم (1686).

(4/88)


4 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها» (1).
5 - وقد أجمعوا على أن قطع يد السارق يجب، إذا شهد عليه بالسرقة شاهدان عدلان مسلمان حُرَّان (2).
حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده (3):
من ضروريات التعايش الآمن وبناء العمران المطمئن صيانة الأموال والمحافظة عليها فكان من حكمة الله ورحمته بعباده أن فرض العقوبة الرادعة لكل سارق يفسد على الناس معاشهم ويخل بأمنهم على أموالهم. ففرض عقوبة قطع اليد من السارق. وجاء في نص صريح محكم وتنزيل يتلى فقال تعالى: {والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (4).
وفي هذه الآية، جماع القول بالحكمة (جزاءًا بما كسبا نكالًا من الله). فبيّن سبحانه أن (القطع) هو الحكم المطابق لمجازاة (السارق) لا نقص ولا شطط فلم يجعل عقوبته الجلد، فيكون جزاءً ناقصًا عن مقابلة الجرم. ولم يجعله إعدامًا للنفس فيكون فيه مجاوزة لما يستحقه الجرم. وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
(إن عقوبة القطع للسارق أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد. ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل، فكان أليق العقوبات به: إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم).
وقال أيضًا:
(ولم يشرع في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدالته لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان. ويقنع كلّ إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقَّه).
وقال أيضًا:
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
(2) «الإجماع» لابن المنذر (621).
(3) نقلًا من «الحدود والتعزيرات» لبكر أبو زيد - حفظه الله - ص (351 - 352).
(4) سورة المائدة: 38.

(4/89)


(إن المقصود هو الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كفّ عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحًا وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرًّا كما
يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون (فلان ينظر إلى فلان مسارقة) إذا كان ينظر إليه نظرًا خفيًّا لا يريد أن يفطن له. والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء.
واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران. ولهذا يقال: (وصلت جناح فلان) إذا رأيته يسير منفردًا، فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق يقطع اليد قصًّا لجناحه، وتسهيلًا لأخذه أن عاود السرقة.
فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفًا في العدو.
ثم تقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفًا في عدوه، فلا يكاد يفوت الطالب.
ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة. ورجله الأخرى في الرابعة فيبقى لحمًا على وضم فيستريح ويريح).
شبهات حول قطع يد السارق، وردُّها:
قال العلامة بكر أبو زيد - رفع الله قدره -في كتابه القيم «الحدود والتعزيرات عند ابن القيم» ما نصُّه:
أورد ابن القيم - رحمه الله تعالى - التساؤل المشهور من نفاة القياس والحكم والتعليل من وجود التفريق بين المتماثلين. والجمع بين المختلفين. وفي هذا ذكر إيرادهم في السرقة وكشف عنها بما لا يدع لقائل مقالًا.
ونفاة القياس إنما أوردوا هذا وأمثاله لفك شرعية القياس لا للقدح في حكم السرقة فحاشاهم بل هم مؤمنون بحكم الله ودينه وشرعه ولا يعتريهم في ذلك شك ولا يساورهم فيه وهم.
أما في عصرنا فهذه الإيرادات ونحوها هي النافذة الموهومة التي نفث منها - المستشرقون وأذنابهم - بإلقاء الشبه وتكوين الشكوك لا في هذا الحد (قطع السارق) فحسب بل ليتدرجوا بالرعاع من أولاد المسلمين، الغرباء عن إسلامهم - إلى ترك الإسلام جملة وتفصيلًا؟

(4/90)


ولكن نقول بكل ثبات: وأنى لهم أن يتم ذلك؟؟؟.
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (1).
وابن القيم - رحمه الله تعالى - في مباحثه هذه كأنما أعطى - رحمه الله تعالى - نسخة من شبه المستشرقين فكر عليها بالنقض والرفض حتى أصبحت أثرًا بعد عين بل ولا أثر.
لهذا فإنني أورد هذه الإيرادات على لسان مورد الشبه والاعتراض {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (2).
الاعتراض الأول: أن العقوبة بالقطع محض ضرر السارق.
نعى ابن القيم على المتباكين على هؤلاء اللصوص، الذين يقولون أن القطع شر محض على المقطوع فقال:
(السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه. وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم. وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرًا وحكمًا. لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عمومًا بإتلاف هذا العضو
المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه يذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة ... أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وإحسان إلى العبيد وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة وأما ما نسب إلى الربّ منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة؟ فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم. فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته.
ولا تلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلًا وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة؟. وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلًا بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد
_________
(1) سورة الحجر: 9.
(2) سورة الأنفال: 42.

(4/91)


الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} (1). وقوله: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} (2). وقوله: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل
المتقين كالفجار} (3).
فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزّه سبحانه نفسه عنه فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزّته وإلهيته لا إله إلا هو تعالى عما يقول الجاهلون علوًا كبيرًا. وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان. وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام موضع العقوبة والانتقام كما إذا جاء من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة، وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق ولظهرت مناقضة الحكمة كما قال الشاعر:
نعمة الله لا تعاب ولكن ربما استقبحت على أقوام
هذا ما قرره ابن القيم بحماس متدفق ضد هذا الاعتراض المريض المتلخص: أن في هذه العقوبة حماية للمجتمع من ضرر هذه الجريمة، واهتمامًا بتهذيب المجرم وتطهيره مع إبداء كمال المناسبة بين الجريمة والعقاب.
ويطيب لي في هذا المقام أن أذكر ما أوضحه الأستاذ عبد الكريم زيدان، في
تفنيد هذا الاعتراض ونقضه فقال:
(أما صيرورة المقطوع عالة على المجتمع فهذا إذا كان صحيحًا فمن الصحيح أيضًا أن يقال: أن صيرورة المقطوع عالة على المجتمع، وقد انكف إجرامه، خير له وللمجتمع من أن يبقى مجرمًا سليم اليدين ينال كسبه من السحت الحرام أما الاستعاضة عن القطع بالحبس مع التربية والتوجيه، فالرد على هذا أن الطواف على
_________
(1) سورة القلم: 36.
(2) سورة الجاثية: 21.
(3) سورة ص: 28.

(4/92)


السجون وعد نزلائها يرينا أنهم بازدياد دائم. فما ردعت السجون عن جريمة السرقة إلا قليلًا. بل أن السجن أصبح مكانًا أمينًا للسراق يتواجدون فيه ويلتقون ويتبادلون خبراتهم في عالم السرقة والإجرام.
أما قطع اليد فإنها كفيلة بقطع دابر السرقة أو تقليلها إلى حد كبير جدًّا، والتاريخ خير شاهد على ما نقول فإن هذه العقوبة آتت أكلها وثمرتها للناس فعاشوا بأمان من السرقة والسراق).
الاعتراض الثاني: كيف يكون القطع لمن سرق ثلاثة دراهم دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاضبها.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الجواب عن ذلك:
(هذا من تمام حكمة الشارع: فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه. فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضًا. وعظم الضرر. واشتدت المحنة بالسراق بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس. فيمكنهم أن يأخذوا على يديه. ويخلصوا حق المظلوم. أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه
وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه. وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس.
فليس كالسارق. بل هو بالخائن أشبه.
وأيضًا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبًا، فإنه الذي يقاتلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه. وهذا يمكن الاحتراز منه غالبًا فهو كالمنتهب.
وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر وهو أولى بعدم القطع من المنتهب. ولكن يسوغ كفْ عدوان هؤلاء بالضرب والنكال، والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال).
ومدار الدفع من ابن القيم لهذا الاعتراض: هو توفر الحرز في السرقة وهو غاية ما يملكه الناس من الاحتراز. مع اختفاء السارق. وهذا المعنى لا يوجد في كل من المنتهب والمختلس. والغاصب على ما أوضحه - رحمه الله تعالى -.

(4/93)


الاعتراض الثالث: التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها فإن ديّتها خمسمائة دينار وبين عقوبتها بالقطع إذا سرق فإن نصاب السرقة الموجب للقطع ثلاثة دراهم؟.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الجواب عن ذلك:
(وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار: فمن أعظم المصالح والحكمة.
فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف:
فقطعها في ربع دينار حفظًا للأموال. وجعل ديتها خمسمائة دينار حفظًا لها وصيانة.
وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال وضمنه بيتين فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من العار
فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت.
وضمنه الناظم قوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت لكنها قطعت في ربع دينار
حماية الدمّ أغلاها، وأرخصها خيانة المال، فانظر حكمة الباري
وروى أن الشافعي - رحمه الله تعالى - أجاب بقوله:
هناك مظلومة غالت بقيمتها وههنا ظلمت هانت على الباري
وأجاب شمس الدّين الكردي بقوله:
قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار
لا تقدحن زناد الشعر عن حكم شعائر الشرع لم تقدح بأشعار
فقيمة اليد نصف الألف من ذهب فإن تعدت فلا تسوى بدينار
ومنه يتضح للمنصف أن هذا التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها وبين نصاب القطع إذا جنت هو عين الحكمة والعدل والصيانة لأبدان الناس وأموالهم. وهذا الاعتراض الآثم أورده جماعة من العلماء ولكن لا يخرجون في جوابهم عما
ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى -. وهو نقض جلي مبناه على التفاوت العظيم بين الجنايتين.

(4/94)


وممن أورده الحافظ بن حجر في (فتح الباري). وفي (لسان الميزان) وقال:
(قال السلفي: إن كان المعرى قال هذا الشعر معتقدًا معناه فالنار مأواه وليس له في الإسلام نصيب).
حكمة التشريع في جعل نصاب السرقة ربع دينار:
وابن القيم - رحمه الله تعالى - بعد نقض هذا الاعتراض يتحفنا بحكمة الشرع في تخصيص القطع بهذا القدر (ربع دينار) زيادة منه في نقضن مقالة العرى وأضرابه فيقول:
(وأما تخصيص القطع بهذا القدر: فلأنه لابد من مقدار يجعل ضابطًا لوجوب القطع، إذ لا يمكن أن يقال: يقطع بسرقة فلس أو حبة حنطة أو تمرة، ولا تأتي الشريعة بهذا وتنزه حكمة الله ورحمته وإحسانه عن ذلك.
فلابد من ضابط: وكانت الثلاثة دراهم أول مراتب الجمع، وهي مقدار ربع دينار.
وقال إبراهيم النخعي وغيره من التابعين: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه.
فإن عادة الناس التسامح في الشيء الحقير عن أموالهم، إذ لا يلحقهم ضرر بفقده.
وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة: فإنها كفاية المقتصد في يومه له.
بم يثبت حدُّ السرقة؟
يثبت حدُّ السرقة، ويجب الحدُّ بأحد أمرين:
1 - البيِّنة: وهي أن يشهد رجلان عدلان مسلمان حرَّان أمام القاضي بأن فلانًا سرق كذا، وعلى هذا إجماع الأمة (1).
2 - الإقرار: بأن يعترف السارق على نفسه أنه سرق، وقد اختلف أهل العلم في عدد الإقرار على قولين (2):
الأول: لابُدَّ من إقراره مرتين: وهو مذهب الحنابلة، وحجتهم:
1 - حديث أبي أمية المخزومي - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بلصٍّ قد اعترف
_________
(1) المراجع التالية.
(2) «فتح القدير» (5/ 126)، و «بداية المجتهد» (2/ 454)، و «نهاية المحتاج» (7/ 140)، و «المغني» (10/ 292).

(4/95)


اعترافًا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما إخالك (1) سرقت» قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فأمر به فقطع ...» (2).
قالوا: فلم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين.
2 - أن هذا قضاء عليٍّ - رضي الله عنه -، فعن القاسم بن عبد الرحمن بن مسعود عن أبيه قال: جاء رجل إلى عليٍّ بن أبي طالب فقال: إني سرقت، فردَّه، فقال: إني سرقتُ، فقال: «شهدت على نفسك مرتين» فقطعه، قال عبد الرحمن:
فرأيت يده في عنقه معلّقة (3).
3 - ولأنه يتضمن إتلافًا في حد، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا؛ ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة!!
الثاني: يكفي إقرار مرة واحدة: وبه قال عطاء والثوري وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وحجتهم:
1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يد سارق المجن، وسارق رداء صفوان، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بتكرار الإقرار، وما وقع من التكرار في بعض الحالات فهو من باب التثبت.
2 - ولأنه حق يثبت بالإقرار، فلم يعتبر فيه التكرار كحق الآدمي.
3 - ولأن السرقة قد ظهرت بالإقرار مرة، فيكتفى به كما في القصاص وحدِّ القذف.
قلت: أما حديث أبي أمية المخزومي فهو ضعيف، والذي يترجَّح لي أنه يكفي مرة لكن يستحب للقاضي أن لا يتسرع في إقامة الحد، وأن يراجعه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقضاء عليٍّ - رضي الله عنه -، ولما فيه من الاحتياط والتثبت في إقامة الحد، والله أعلم.
3 - هل يثبت الحد باليمين المردودة؟ (4).
إذا ادعى شخص على آخر سرقة نصاب، فأنكر المدعى عليه السرقة، فطلب
_________
(1) أي: ما أظنك.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4380)، والنسائي (8/ 67)، وابن ماجة (2597)، وانظر «الإرواء» (2426).
(3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 191)، وابن أبي شيبة، والطحاوي (2/ 97)، والبيهقي (8/ 275).
(4) «البحر الرائق» (7/ 240)، و «روضة الطالبين» (10/ 143)، و «مغني المحتاج» (4/ 175)، و «حاشية البجيرمي على المنهج» (4/ 235)، و «المغني» (12/ 124 - مع الشرح الكبير).

(4/96)


المدعى منه أن يحلف لإثبات براءته، فنكل (أي: امتنع) عن اليمين، رُدَّت اليمين على المدعى، فإن حلف أن المدعى عليه سرق ما ادعاه، فهل يثبت الحد بهذه اليمين؟ قولان:
فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة - وهو مقابل الأصح عند الشافعية - إلى أن المال المسروق يثبت بهذه اليمين المردودة، لكن لا يقام الحد إلا بالإقرار أو البيِّنة، لأن القطع في السرقة حق الله تعالى وهو لا يثبت إلا بهما.
وقال الشافعية: في الأصح عندهم - تثبت السرقة بيمين المدعى المردودة ويقام الحدُّ، ومقابل الأصح عند الشافعية هو المعتمد في المذهب؛ لأنه نصُّ الشافعي في الأم.
4 - هل يثبت الحد بالقرائن؟
جمهور الفقهاء على أن حدَّ السرقة لا يثبت إلا بالإقرار أو البيِّنة؟.
ويرى بعضهم جواز ثبوت السرقة - ومن ثم إقامة الحد وضمان المال - بالقرائن والأمارات إذا كانت ظاهرة الدلالة باعتبارها من السياسة الشرعية التي تخرج الحق من الظالم الفاجر.
قال ابن القيم - رحمه الله -: «لم يزل الأئمة يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرَّق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نصٌّ صريح لا تتطرَّق إليه شبهة»
اهـ (1).
واستدل - رحمه الله - بقصة يوسف - عليه السلام - وإخوته إذ قالوا: {تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين - إلى قوله - فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه} (2) الآيات. قال: «فيها دليل على أن وجود المسروق بيد السارق كاف في إقامة الحد عليه، بل هو بمنزلة إقراره، وهو أقوى من البينة، وغاية البيِّنة أن يستفاد منها الظن، وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين» (3) اهـ.
شروط وجوب قطع السارق:
للسرقة أركان أربعة: السارق، والمسروق منه، والمال المسروق، وطريقة
_________
(1) «الطرق الحكيمة» (ص: 8).
(2) سورة يوسف: 73 - 76.
(3) «إعلام الموقعين» (3/ 232).

(4/97)


الأخذ، ولا يجب حد السرقة إلا يتوفر شروط تتعلق بكل ركن من هذه الأركان، وإليك أهم هذه الشروط وما يتعلق بها من مناقشات:
أولًا: شروط تعتبر في السارق: يشترط في السارق حتى يستوجب حدَّ السرقة ما يلي:
1، 2 - التكليف والاختيار: فلا يُحدُّ غير المكلف، كالمجنون والصغير، فإذا سرق الصغير أُدِّب.
وكذلك لا يحدُّ المكره الذي لا اختيار له، وقد تقدمت أدلة هذين الشرطين
مرارًا.
3 - القصد: بمعنى أن يكون عالمًا بتحريم السرقة، وأنه يأخذ مالًا مملوكًا لغيره دون علم مالكه وإرادته، وأن تنصرف نيته إلى تملكه.
4 - انتفاء الشبهة: بمعنى أن لا يكون للسارق شبهة في المال المسروق، فإن الحدَّ يُدرأ بالشبهة.
ومن الشبهات التي يذكرها العلماء في هذا الباب ما يلي:
(أ) أن يسرق من شيء له فيه حق (1): وهذا له صور، منها:
1 - سرقة الوالد من مال ولده: فهذه شبهة دارئة للحدِّ في قول عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، فلا يُقطع عندهم الوالد فيما أخذ من مال ولده، لأنه أخذ ما يحق له أخذه، فعن جابر - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنت ومالك لأبيك» (2).
واللام في قوله (لأبيك) للتمليك، ففي هذا شبهة الانبساط بين الأب وابنه، فلا يجوز قطع من أخذ ما جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مالًا له مضافًا إليه.
قال الشافعي: وكذلك الأجداد والجدات، كيف كانوا، لا قطع عليهم فيما سرقوه من مال من تليه ولادتهم.
وخالف ابن حزم فقال: يُقطع الوالد - كغيره - إذا سرق من مال ابنه لعموم آية
_________
(1) «فتح القدير» (5/ 144)، و «جواهر الإكليل» (2/ 293)، و «نهاية المحتاج» (7/ 435)، و «المغني» (10/ 284)، و «كشاف القناع» (6/ 141)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 378).
(2) صحيح بمجموع الطرق: وانظر «الإرواء» (838).

(4/98)


القطع، وأجاب عن الحديث بأنه منسوخ بآيات المواريث وغيرها، قال: ولا يخالف أحد في أن الوالدين إذا احتاجا فأخذا من مال ولدهما حاجتهما باختفاء أو بقهر أو كيف أخذاه فلا شيء عليهما، فإنما أخذا حقهما، وإنما الكلام فيهما إذا أخذا ما لا حاجة بهما إليه إما سرًّا وإما جهرًا. اهـ. مختصرًا (1).
قلت: الحق أن الحديث مقصور على سببه وليس له عموم - لا أنه منسوخ - لإجماع العلماء على أن الولد يرث مع أبيه بل ويكون نصيه - أحيانًا - أكبر من أبيه، فصح أن للولد مالًا ولأبيه مالًا، ومع هذا فقول الجمهور بدرء الحدِّ عن الوالد إذا سرق من مال ولده أقوى؛ لأنه لا يقاد به، فلم يقطع به من باب الأولي، وإنما أتى ابن حزم من جهة أنه لا يقول بقياس الأولى (!!)، والله أعلم.
2 - سرقة الولد من والده:
ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه لا قطع على الولد ولا على البنت فيما سرقاه من مال الوالدين أو الأجداد أو الجدات، لأن الابن يتبسَّط في مال والديه عادةً.
وذهب مالك وأبو ثور وابن حزم إلى أنه يقطع عملًا بظاهر الآية، وهو عام لا مخصَّص له. قلت: لا ينبغي أن يُطلق الحكم هنا، فمتى كان الانبساط للابن في مال الأب لم يقطع بأخذه، ومتى كان محجوبًا عنه قطع والله أعلم.
3 - سرقة الأقارب بعضهم من بعض (2):
ذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابهُ: لا قطع على من سرق من ذي رحم محرم، كالأخ والأخت والعم والعمة، والخال والخالة؛ لأن دخول بعضهم على بعض دون إذن عادة يعتبر شبهة تسقط الحدُّ، ولأن قطع أحدهم بسبب سرقته من الآخر يفضي إلى قطع الرحم، وهو حرام.
أما من سرق من ذي رحم غير محرم كابن العم أو بنت العم، وابن العمة أو بنت العمة، وابن الخال أو بنت الخال، وابن الخالة أو بنت الخالة، فيقام عليه حد السرقة - عندهم - لأنهم لا يدخل بعضهم على بعض عادة!!
وأما الجمهور - ومعهم ابن حزم - فذهبوا إلى أن سرقة الأقارب بعضهم من
_________
(1) «المحلي» (11/ 345).
(2) «البدائع» (7/ 75) والمراجع السابقة.

(4/99)


بعض ليست شبهة تدرأ الحد عن السارق، ولهذا أوجبوا القطع على من سرق من مال ذي رحم، محرمًا أو غير محرم.
قلت: وهو الصواب لعموم آية القطع، ولا دليل على تخصيصها بغير الأقارب.
4 - سرقة أحد الزوجين من الآخر (1):
ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم إقامة الحد إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر، وكانت السرقة من حرز قد اشتركا في سكناه، لاختلال شرط الحرز،
وللانبساط بينهما في الأموال عادة، ولأن بينهما سببًا يوجب التوارث بغير حجب (!!).
أما إذا كانت السرقة من حرز لم يشتركا في سكناه، أو اشتركا في سكناه ولكن أحدهما منع من الآخر مالًا أو حجبه عنه، فاختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: لا قطع على واحد منهما: وهو قول أبي حنيفة وقول عند الشافعية والرواية الراجحة عند الحنابلة، قالوا: وذلك لما بين الزوجين من الانبساط في الأموال عادة ودلالة، وقياسًا على الأصول والفروع، ولأن بينهما سببًا يوجب التوارث من غير حجب.
واستدل بعضهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ...» (2).
قالوا: فكلاهما كالمودَّع والمأذون له في الدخول، فلا يقطع بسرقته منه.
الثاني: يُقطع الزوج دون زوجته: وهو قول للشافعية فيقطع الزوج إذا سرق من مال زوجته ما هو محرز عنه، ولا تقطع الزوجة إذا سرقت من مال زوجها ولو كان محرزًا عنها، قالوا: لأن الزوجة تستحق النفقة على زوجها، فصار لها شبهة تدرأ عنها الحد (!!) وربما استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة إذ أخبرته أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها وولدها، فقال - صلى الله عليه
وسلم -: «خذي ما يكفيك وولدك
_________
(1) «البدائع» (5/ 75)، و «مغني المحتاج» (4/ 162)، و «المدونة» (16/ 76)، و «المغني» (10/ 287)، و «كشاف القناع» (6/ 141)، و «المحلي» (11/ 347).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1839).

(4/100)


بالمعروف» (1) قالوا: فأطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدها على مال زوجها تأخذ ما يكفيها وولدها فهي مؤتمنة عليه كالمستودع، بخلاف الزوج فقد قال تعالى: {وأتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} (2).
الثالث: يجب الحدُّ على السارق منهما لمال الآخر: وهو مذهب المالكية والراجح عند الشافعية والرواية الأخرى عند الحنابلة، وبه قال ابن حزم، لعموم آية السرقة، ولأن الحرز هنا تام، وربما لا يبسط أحدهما للآخر في ماله، فأشبه سرقة الأجنبي، وأما استدلال الأولين بحديث «كلكم راع ...» فقد أجاب عنه ابن حزم - رحمه الله - فقال: وهو أعظم حجة عليهم لأنه - عليه السلام - أخبر أن كل من ذكرنا راع فيما ذكر وأنهم مسئولون عما استُرعوا من ذلك، فإذ هم مسئولون عن ذلك، فبيقين يدري كل مسلم أنه لم تبح لهم السرقة والخيانة فيما استودعوه، وأسلم إليهم، وأنهم في ذلك إن لم يكونوا كالأجنبيين والأباعد، ومن لم يسترع، فهم بلا شك أشد إثمًا وأعظم جرمًا وأسوأ حالة من الأجنبيين ... فأقل أمورهم أن يكون عليهم ما على الأجنبيين ولابد ... وأما قولهم: إن كليهما كالمودع وكالمأذون له في الدخول، فأعظم حجة عليهم؛ لأنهم لا يختلفون أن المودع إذا سرق مما لم يودع عنده - لكن من مال لمودع آخر في حرزه - وأن المأذون له في الدخول لو سرق من مال محرز عنه للمدخول عليه الإذن له في الدخول لوجب القطع عليهما عندهم بلا خلاف، فيلزمهم بهذا التشبيه البديع بالضد أن لا يسقطوا القطع عن الزوجين فيما
سرق أحدهما من الآخر إلا فيما أؤتمن عليه ولم يحرر منه ... اهـ (3).
وأما استدلال من فرق بين سرقة الزوج وسرقة الزوجة بحديث هند بنت عتبة، فالجواب:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق يدها على ما لا حق لها فيه من مال زوجها ولا على أكثر من حقها، فلها ما أخذت بالحق، وعليها ما افترض الله تعالى من القطع فيما أخذت بوجه السرقة (4).
قلت: والذي يظهر أن لا يُطرد حكم واحد، بل في كل قضية بما يناسبها على نحو ما ذكرته في سرقة الابن من مال والده، والله أعلم.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714).
(2) سورة النساء: 20.
(3) «المحلي» (11/ 348).
(4) «المحلي» (11/ 349) باختصار.

(4/101)


5 - سرقة الشريك من مال الشركة (1):
فذهب الحنفية والشافعية - في الأصح عندهم - والحنابلة إلى عدم إقامة الحد على الشريك إذا سرق من مالك الشركة؛ لأن للسارق حقًّا في هذا المال، فكان هذا الحق شبهة تدرأ عنه الحد.
واحتجوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «درأ القطع عن عبد من رقيق الخمس سرق الخمس» (2). وهو حديث ضعيف لا يحتج به.
وقال المالكية: يقطع إن تحقق شرطان، أحدهما: أن يكون المال في غير الحرز
المشترك، والآخر: أن يكون فيما سرق من حصة صاحبه فضل عن جميع حصته ربع دينار فصاعدًا.
وعند الشافعية قول آخر: أنه يقطع؛ لأنه لا حق للشريك في نصيب شريكه، فإن أخدًا زائدًا على حقه (نصيبه) بمقدار النصاب قطع، وهو مذهب ابن حزم، وهو الأقرب.
6 - السرقة من بيت المال أو الغنيمة (3):
ذهب الحنفية والحنابلة إلى عدم إقامة الحد على من سرق من بيت المال، إذا كان السارق مسلمًا، غنيًّا كان أو فقيرًا، لأن لكل مسلم حقًّا في بيت المال، فيكون هذا الحق شبهة تدرأ الحد عنه كما لو سرق من مال له فيه شركة!!.
وقد استُدل لهم بما جاء عن القاسم بن عبد الرحمن قال: إن رجلًا سرق من بيت المال، فكتب فيه سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر إليه: «أن لا قطع عليه لأن له فيه نصيبًا» (4).
وعن عبيد بن الأبرص أن عليَّ بن أبي طالب أُتي برجل قد سرق من الخمس مغفرًا، فلم يقطعه عليٌّ، وقال: «إن له فيه نصيبًا» (5).
_________
(1) «البدائع» (7/ 76)، و «المدونة» (4/ 418)، و «قليوبي» (4/ 188)، و «كشاف القناع» (6/ 142).
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2590)، والبيهقي (8/ 282) من حديث ابن عباس، والمراد بالخمس: خمس الغنيمة.
(3) «ابن عابدين» (3/ 208)، و «الدسوقي» (4/ 337)، و «مغني المحتاج» (4/ 163)، و «كشاف القناع» (6/ 142)، و «المحلي» (11/ 327).
(4) ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حزم (11/ 327)، وانظر «الإرواء» (2422).
(5) ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حزم (11/ 327)، والبيهقي (8/ 282)، وانظر «الإرواء» (2423).

(4/102)


وذهب المالكية - وهو المرجوح عند الشافعية - إلى أنه يقطع، لعموم نص
الآية، وضعف الشبهة؛ لأنه سرق مالًا من حرز لا شبهة له فيه بعينه ولا حق له فيه قبل حاجته، ووافقهم ابن حزم على قاعدته في أن من أخذ فوق نصيبه يقطع إذا كان نصابًا.
وأما الشافعية ففرَّقوا بين كون المال محرزًا لطائفة هو أو أحد أصوله أو فروعه منها، فلا قطع لوجود الشبهة، وبين أن يكون المال محرزًا لطائفة ليس منها فيقطع.
7 - سرقة العبد من مال سيِّده:
ذهب عامة أهل العلم إلى أن العبد لا يقطع فيما سرق من مال سيده، لقضاء جماعة من السلف بذلك، فعن السائب بن يزيد: أن عبد الله بن عمرو الحضرمي جاء بغلام له إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال له: اقطع يد هذا، فإنه سرق، فقال له عمر: «ما سرق؟» فقال: سرق مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهمًا، فقال عمر: «أرسله، فإنه ليس عليه قطع، خادمكم سرق متاعكم» (1).
وعن عمر بن شرحبيل قال: «جاء معقل المزني إلى عبد الله [بن مسعود] فقال: غلامي سرق قبائي، فأقطعه؟ قال عبد الله: لا، مالك بعضه في بعض» (2).
وقد ذكر ابن قدامة طرفًا من القضايا بنحو هذا عن السلف ثم قال: «وهذه قضايا تشتهر، ولم يخالفها أحد فتكون إجماعًا، وهذا يخص عموم الآية، ولأن هذا إجماع من أهل العلم؛ لأنه قول من سمينا من الأئمة ولم يخالفهم في عصرهم أحد
فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم، كما لا يجوز ترك إجماع الصحابة بقول أحد من التابعين» اهـ (3).
8 - السرقة من مال المدين (4):
اختلف الفقهاء في وجوب الحدِّ على الدائن إذا سرق من مال مدينه، على النحو الآتي:
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1584)، وعنه الشافعي (267)، وعبد الرزاق (10/ 210)، والبيهقي (8/ 281)، والدارقطني (3/ 188).
(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، والبيهقي (8/ 281).
(3) «المغني» لابن قدامة (10/ 285).
(4) «البدائع» (7/ 72)، و «ابن عابدين» (4/ 94)، و «الدسوقي» (4/ 337)، و «منح الجليل» (4/ 526)، و «مغني المحتاج» (4/ 162)، و «المغني» (10/ 288)، و «كشاف القناع» (6/ 143)، و «المحلي» (11/ 328).

(4/103)


(أ) إن كان المدين غنيًّا غير جاحد للدَّيْن، أو كان الدين مؤجلًا لم يحل أجله، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقام عليه الحد - إذا كان المسروق نصابًا - إذ لا شبهة له في الأخذ ما دام الوصول إليه ميسورًا.
وأما الحنفية فلا يقام عليه الحد عندهم على كل حال ما دام المسروق من جنس الدين!!
(ب) إذا كان المدين جاحدًا للدين أو مماطلًا فسرق مقدار حقه، فقالوا جميعًا: لا يقام عليه الحد.
(جـ) فإن أخذ أكثر من حقه (دينه) بما يبلغ نصابًا، فقال المالكية: يُقطع لتعدِّيه بأخذ ما ليس من حقه، وكذا قال ابن حزم إلا أنه استثنى ما إذا لم يصل إلى حقه إلا بما فعل ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا يقطع وعليه أن يردَّ الزائد.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يقطع، لأن المال لم يبق محرزًا عنه ما دام قد أبيح له الدخول لاستيفاء حقِّه، لكن قيَّده ألحنابلة بأن يكون أخذ الزائد من نفس المكان الذي فيه المال، فإن أخذ الزائد من غير الحرز الذي فيه ماله وجب القطع لعدم الشبهة.
(ب) شبهة: اضطرار السارق أو حاجته (1):
فالاضطرار شبهة تدرأ الحدَّ، والضرورة تبيح للآدمي أن يتناول من مال الغير بقدر الحاجة ليدفع الهلاك عن نفسه، فمن سرق ليردَّ جوعًا أو عطشًا مهلكًا فلا عقاب عليه، لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (2). ولعموم قول سبحانه: {ولا تقتلوا أنفسكم} (3).
والحاجة أقل من الضرورة، فهي كل حالة يترتب عليها حرج شديد وضيق بيِّن، ولذا فإنها تصلح شبهة لدرء الحد، ولكنها لا تمنع الضمان والتعزير.
من أجل ذلك أجمع الفقهاء على أنه لا قطع بالسرقة عام المجاعة، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «لا تقطع في عذق، ولا في عام السنة» (4).
_________
(1) «المبسوط» (9/ 140)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 162)، و «المغني» (10/ 288)، و «المحلي» (11/ 343)، و «الفتاوى الهندية» (2/ 176).
(2) سورة البقرة: 173.
(3) سورة النساء: 29.
(4) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (10/ 242)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 343)، وانظر «الإرواء» (2428).

(4/104)


وفي قصة غلمة حاطب بن أبي بلتعة حين سرقوا ناقة رجل من مزينة وأتى
بهم إلى عمر معترفين: «ثم قال عمر: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونها وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حلَّ له لقطعت أيديهم، وأيم الله إذ لم أفعل لأغرمنَّك غرامة توجعك (يعني: عبد الرحمن بن حاطب) ثم قال: يا مزني، بكم أريد منك ناقتك؟ قال: بأربع مائة، قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمائة» (1).
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله - (2):
«وإسقاط القطع عن السارق في عام المجاعة هو محض القياس، ومقتضى قواعد الشريعة، فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعو إلى ما يسدُّ به رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانًا، على الخلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجانًا، لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج.
وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، وهي أقوى من كثير من الشُّبَه التي يذكرها كثير من الفقهاء ... لاسيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميَّز المستغنى منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فَدُرئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغنٍ عن السرقة قطع» اهـ.
(جـ) شبهة: قول السارق: هذا ملكي (3):
هذه من الشبهة التي يقررها جماعة من العلماء منهم الشافعية والحنابلة، ويسميه الشافعي: السارق الظريف.
وابن القيم - رحمه الله تعالى - يندد بذلك ويبطل هذه الشبهة ويرى أنها من الحيل المحرمة لإبطال حد السرقة فيقول:
_________
(1) إسناده منقطع: أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 123)، وعنه الشافعي (267).
(2) «إعلام الموقعين» (3/ 23).
(3) «نهاية المحتاج» (7/ 422)، و «كشاف القناع» (6/ 143)، و «إعلام الموقعين» (3/ 257)، و «الحدود والتعزيرات» (ص 376 - 377).

(4/105)


(الحيلة على إسقاط حد السرقة بقول السارق: هذا ملكي وهذه داري وصاحبها عبدي - من الحيل التي هي إلى المضحكة والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها إلى الشرع. ونحن نقول: معاذ الله أن يجعل في فِطَر الناس وعقولهم قبول مثل هذا الهذيان البارد المناقض للعقول والمصالح، فضلًا عن أن يشرع لهم قبوله.
وكيف يظن بالله وشرعه ظن السوء: أنه شرع رد الحق بالباطل الذي يقطع كل أحد ببطلانه. وبالبهتان الذي يجزم كل حاضر ببهتانه. ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولًا في دين من الأديان أو شريعة من الشرائع أو سياسة أحد من الناس؟. ومن له مسكة من عقل وإن بلى بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور. وبالله وياللعقول! أيعجز سارق قط عن التكلم بهذا البهتان ويتخلص من قطع اليد. فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان).
وقال أيضًا في معرض بيانه لبطلان الحيل:
(ويالله العجب كيف يسقط القطع عمن اعتاد سرقة أموال الناس، وكلما أمسك معه المال المسروق قال: هذا ملكي. والدار التي دخلتها داري. والرجل الذي دخلت داره عبدي؟ قال أرباب الحيل: فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك.
فهل تأتي بهذا سياسة قط جائرة أو عادلة. فضلًا عن شريعة نبي من الأنبياء؟ فضلًا عن الشريعة التي هي أكمل شريعة طرقت العالم).
ثانيًا: شروط تعتبر في المسروق منه:
1 - أن يكون المسروق منه معلومًا ويطالب بماله (1): فيُدرأ الحدُّ عن السارق عند الجمهور - خلافًا للمالكية - إذا كان المسروق منه مجهولًا، بأن ثبتت السرقة ولم يُعرف مَن هو صاحب المال المسروق، لأن إقامة الحد تتوقف على دعوى المالك أو من في حكمه، ولا تتحقق الدعوى مع الجهالة، غير أن هذا لا يمنع من حبس السارق حتى يحضر من له حق الخصومة ويدعى ملكية المال.
فائدة:
ذهب الجمهور (أبو حنيفة والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين وهي المذهب) إلى أنه يشترط لإقامة الحد: مطالبة المسروق منه بماله، لحديث صفوان بن أمية أنه: قدم المدينة فنام في المسجد متوسِّدًا رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه من
_________
(1) «البدائع» (7/ 81)، و «المدونة» (16/ 68)، و «الأم» (6/ 141)، و «كشاف القناع» (6/ 118).

(4/106)


تحت رأسه، فأخذ صفوان السارق، فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقطع يده، فقال صفوان: إني لم أُرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فهلَّا قبل أن
تأتيني به؟» (1).
بينما ذهب مالك - وهو الرواية الأخرى عن أحمد - إلى أنه لا تشترط المطالبة لعموم الآية إذ ليس فيها اشتراط مطالبة المسروق منه بماله، وهو متعقب بحديث صفوان، وهو مخصص لعموم الآية.
2 - أن يكون له يد صحيحة على المسروق (2): أي يكون المسروق منه مالكًا للمسروق أو وكيلًا لمالكه أو مودعًا أو مستعيرًا أو دائنًا مرتهنًا أو مستأجرًا ونحو ذلك؛ لأن هؤلاء ينوبون عن المالك في حفظ المال وإحرازه.
فإذا لم يكن للمسروق منه يد صحيحة على المال كأن يكون غاصبًا له أو سارقًا، فذهب الحنابلة والشافعية - في الراجح عندهم - إلى أنه لا يقام عليه الحدُّ، لأن من يأخذ من يد أخرى فكأنه وجد مالًا ضائعًا فأخذه.
وقال المالكية: يقام عليه الحد، لأنه سرق مالًا محرزًا لا شبهة له فيه، لأن يد المالك لهذا المال لا تزال باقية عليه رغم سرقته أو غصبه، وهو قول مرجوح للشافعية.
وفرَّق الحنفية بين السارق من الغاصب - فيقطع لأن يده يد ضمان فهي يدٌ صحيحة - وبين السارق من السارق فلا يقطع لأن يده ليست يد مالك ولا يد أمانة ولا يد ضمان، فلا تكون صحيحة.
قلت: والأظهر أنه يقام عليه الحد ما دام في حرز غيره، ولا دليل على اعتبار صحة يده عليه من عدمها، والله أعلم.
3 - أن يكون المسروق منه معصوم الدم (3): بأن يكون مسلمًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ...» الحديث (4). أو ذميًّا، فيحد السارق المسلم أو الذمي إذا سرق الذمي عند جمهور الفقهاء.
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (4394)، والنسائي (8/ 68، 69، 70)، وابن ماجة (2595)، وأحمد (6/ 465)، والبيهقي (8/ 265)، والحاكم (4/ 380)، وابن الجارود (828).
(2) «البدائع» (7/ 71)، و «المدونة» (6/ 19)، و «المهذب» (2/ 299)، و «كشاف القناع» (6/ 1401).
(3) «البدائع» (7/ 69)، و «المدونة» (6/ 270)، و «المهذب» (2/ 256)، و «المغني» (10/ 76).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1218).

(4/107)


وأما إذا كان المسروق منه حربيًّا فلا يقام الحد على السارق المسلم أو الذمي باتفاق الفقهاء لأن مال الحربي هدر بالنسبة لهما.
وأما مال المستأمن، فقال الحنفية - عدا زفر - والشافعية: لا يقام الحد على المسلم إذا سرق من ماله، لأن في ماله شبهة الإباحة باعتبار أنه من دار الحرب.
وقال المالكية والحنابلة - وزفر من الحنفية -: مال المستأمن معصوم، فإذا سرق منه مسلم أو ذمي أقيم عليه الحد.
ثالثًا: شروط تعتبر في المال المسروق:
1 - أن يكون مالًا متقوَّمًا (محترمًا شرعًا) (1):
فلو سرق ما لا قيمة له في نظر الشرع، كالخنزير والخمر والميتة وآلات اللهو،
والكتب المحرَّمة، والصليب والصنم - فلا قطع عليه عند عامة الفقهاء، ويحسن ههنا التنبيه على الفوائد التالية:
(أ) يرى المالكية وأبو يوسف من الحنفية أن من سرق آنية فيها خمر، وكانت قمة الآنية بدون الخمر تبلغ النصاب، أقيم عليه الحد، وكذلك لو سرق صليبًا يبلغ النصاب عند أبي يوسف وابن حزم.
(ب) يرى الشافعية أن من سرق آلات اللهو أو آنية الذهب والفضة أو الصنم أو الصليب أو الكتب غير المحترمة شرعًا، يقام عليه الحد إذا بلغت قيمة ما سرق نصابًا بعد كسره أو إفساده.
وكذلك قال المالكية وقيدوه بأن يكسره داخل الحرز.
وأما الحنابلة فلا يقطع وإن بلغت بعد إتلافها نصابًا؛ لأنها تعين على المعصية فكان له الحق في أخذها وكسرها، وفي ذلك شبهة تدرأ الحد، لكن لو كان على هذه الآلات حلية تبلغ نصابًا ففي إقامة الحد بسرقتها عندهم روايتان:
(أ) إذا سرق خمرًا من ذمي، فقال أبو حنيفة ومالك والثوري: لا قطع
_________
(1) «البدائع» (7/ 67 - 69)، و «ابن عابدين» (3/ 273 - 275)، و «فتح القدير» (4/ 227 - 232)، و «المدونة» (16/ 77)، و «الدسوقي» (4/ 336)، و «الخرشي» (8/ 96)، و «مغني المحتاج» (4/ 173)، و «نهاية المحتاج» (7/ 421)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 1095)، و «المغني» (10/ 24 - 284)، و «كشاف القناع» (6/ 78، 130)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 364)، و «المحلي» (11/ 334 - 338).

(4/108)


عليه، ولكن يغرم لها مثلها (!!) وقال الشافعي وأحمد وأصحابهما: لا قطع عليه في ذلك ولا ضمان، وانتصر له ابن حزم، وهو الأقوى.
(ر) يرى ابن حزم أن من سرق ميتة فإنه يقطع، قال: لأن جلدها باق على ملك صاحبها يدبغه فينتفع به ويبيعه.
(هـ) هل يقطع من سرق إنسانًا حُرًّا؟ (1)
ذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور إلى أن من سرق إنسانًا حرًّا فلا يقام عليه الحدُّ سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، لأنه سرق ما ليس بمال، حتى لو كان يرتدي ثيابًا غالية الثمن أو يحمل حلية تساوي نصابًا، لأن ذلك تابع للصبي.
وعند الحنابلة رواية: أنه إن قصد بسرقته المال قطع.
وذهب الحسن البصري والشعبي ومالك وإسحاق وابن حزم إلى أن من سرق الحر يقطع، لما يُروى عن عائشة «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل يسرق الصبيان، ثم يخرج فيبيعهم في أرض أخرى، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقطعت يده» (2).
وأما العبد الصغير الذي لا يفهم فإن سارقه سارق مال فعليه القطع بلا خلاف بين أهل العلم، فإذا كان مميزًا فإن بعضهم قد أسقط القطع عن سارقه، لأنه لولا أنه أطاعه ما أمكنه سرقته!! قال ابن حزم: وهذا لا ينبغي أن يُطلق إطلاقًا لأنه من الممكن أن يسرقه وهو نائم أو سكران أو مغمى عليه أو متغلبًا عليه متهددًا بالقتل. قلا يقدر على الامتناع، فإذا كان كذلك فهي سرقة صحيحة قد تمت منه فيقطع بنص القرآن (3).
(و) هل يشترط في المال المسروق ألا يتسارع إليه الفساد؟ (4)
أسقط الحنفية - خلافًا للجمهور - القطع في سرقة ما يتسارع إليه الفساد:
كاللبن واللحم أو الثمار والفواكه الرطبة، وأما إذا كانت الثمار يابسة وآواها الجرين ففيها القطع.
_________
(1) المراجع السابقة، و «المحلي» (11/ 236 - 237).
(2) باطل: أخرجه الدارقطني (2/ 202)، وضعَّفه، والبيهقي (8/ 268)، وقال الألباني في «الإرواء» (2407): موضوع.
(3) «المحلي» لابن حزم (11/ 236).
(4) «فتح القدير» (5/ 130)، و «المغني» (10/ 247)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 367) وما تقدم من المراجع.

(4/109)


ومدار هذا الخلاف هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلَّق، فقال: «ما أصاب من ذي حاجة غير متخذ خُبْنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجَنِّ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة» (1).
فرأى الحنفية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة لأنه يسرع إليه الفساد لرطوبته، وأوجبه على سارقه من الجرين ليبسه بحيث لا يتسارع إليه الفساد، فجعلوه أصلًا في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه.
وأما الجمهور فمدار التعليل عندهم على الحرز المكاني لا على اليبس والرطوبة، وهو الصحيح ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها، وأوجبه على سارقها من عطنها فإنه حرزها، ففي رواية النسائي لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في كم تقطع اليد؟ قال: «لا تقطع اليد في ثمر معلق، فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن، ولا تقطع في حريسة الجبل، فإذا آوى المراح قطعت
في ثمن المجن» (2).
(ز) هل يقطع سارق المصحف؟ (3)
ذهب أبو حنيفة وأصحابه - وهو المذهب عند الحنابلة - إلى أن سارق المصحف لا يقطع، لأن له فيه حق التعليم؛ لأنه ليس له منعه عمن احتاج إليه.
وذهب مالك والشافعي وبعض الحنابلة وأبو يوسف من الحنفية، والظاهرية إلى أنه يقطع إذا بلغت قيمته نصابًا؛ لأن الناس يعدونه من نفائس الأموال، وردَّ ابن حزم على شبهة الحنفية بأن حق التعليم في التلقين فقط لا في المصحف إذ لم يوجبه قرآن ولا سنة ولا إجماع وإنما فرض على الناس تعليم بعضهم بعضًا القرآن تدريسًا وتحفيظًا وهكذا كان جميع الصحابة - رضي الله عنهم - في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف من أحد أنه لم يكن هناك مصحف ... ، فبطل قولهم: إن للسارق حقًّا في المصحف، وصحَّ أن لصاحب المصحف منعه من كل أحد إذ لا ضرورة بأحد
_________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (4390)، والترمذي (1289)، والنسائي (8/ 85).
(2) حسن: أخرجه النسائي (8/ 78).
(3) «البدائع» (7/ 68)، و «مغني المحتاج» (4/ 173)، و «المغني» (10/ 249)، و «المحلي» (11/ 337).

(4/110)


إليه، فصح أن القطع واجب في سرقة المصحف، كانت عليه حلية أو لم تكن لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (1). وكذلك القول في كتب العلم النافعة، والله أعلم.
2 - أن يبلغ المسروق نصابًا:
المراد بالنصاب هنا: الحد الأدنى الذي لو سرق أقل منه لم يقطع، وإذا سرقه قطع.
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم إقامة الحد إلا إذا بلغ المال المسروق نصابًا، لكنهم اختلفوا في تحديد مقدار هذا النصاب اختلافًا كبيرًا على ما يقرب من عشرين مذهبًا (!!)، وأشهر هذه المذاهب أربعة:
الأول: لا يقطع إلا في دينار أو عشرة دراهم (2): وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول عطاء، واحتجوا بما يلي (3):
1 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» (4).
وفي لفظ: «لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المِجَنِّ».
وقد اختلفوا في تحديد ثمن المجن، فمنهم من قَدَّره بثلاثة دراهم، ومنهم من قدَّره بأربعة، ومنهم من قدرة بخمسة، ومنهم من قدَّره بعشرة، فرأى الحنفية أن الأخذ بالأكثر أولى، لأن في الأقل احتمالًا يورث شبهة تدرأ الحد.
2 - حديث ابن عباس قال: «قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم» (5) وأجيب: بأنه لا دلالة فيه على أنه لا يقطع بما دونه.
الثاني: النصاب الذي يجب القطع بسرقته، ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما: بمعنى أن كل واحد من الذهب والفضة معتبر بنفسه، فإذا كان المسروق من غير الذهب أو الفضة قُوِّم
_________
(1) سورة المائدة: 38.
(2) الدينار: نقد من الذهب، كان وزنه في الدولة الإسلامية يعادل (4. 25) جرامًا، والدرهم: نقد من الفضة، كان وزنه في الدولة الإسلامية يعادل (2. 975) جرامًا.
(3) «البدائع» (7/ 77)، و «فتح القدير» (4/ 220)، و «المبسوط» (9/ 137).
(4) ضعيف: أخرجه بهذا اللفظ الدارقطني (4/ 193) بسند ضعيف وله ألفاظ، انظر: «فتح الباري» (12/ 105).
(5) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (4387)، وله عند النسائي (4947) شاهد مرسل.

(4/111)


بالدراهم (أي الفضة)، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم ولم تبلغ ربع دينار أقيم الحد، وإن بلغت قيمته ربع دينار ولم تبلغ ثلاثة دراهم فلا حدَّ، أي أن الأصل - على هذا القول - الفضة.
وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، وبه قال إسحاق، ويحكى عن الليث وأبي ثور (1).
واحتجوا بما يلي:
1 - حديث ابن عمر: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجّنٍّ قيمته ثلاثة دراهم» (2).
2 - حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، فصاعدًا» (3).
فأخذوا بحديث عائشة فيما إذا كان المسروق من الذهب، وبحديث ابن عمر فيما إذا كان المسروق فضة أو شيئًا غير الذهب والفضة، وأيَّدوا هذا بما روي عن بعض الصحابة:
3 - فعن أنس: «أن سارقًا سرق مجنًّا - ما يسرُّني أنه لي بثلاثة دراهم، أو: ما يساوي ثلاثة دراهم - فقطعه أبو بكر» (4).
4 - وعن عمرة قالت: «أُتي عثمان برجل قد سرق أُترجَّة، فأمر بها عثمان فقُوِّمت بثلاثة دراهم من صرف: اثنى عشر درهمًا بدينار، فقطع يده» (5).
الثالث: النصاب ربع دينار من الذهب أو ما قيمته ذلك: بمعنى أن الأصل في التقويم الذهب، فلا يقام الحد على من يسرق ثلاثة دراهم أو ما قيمته ثلاثة دراهم، إذا قلَّت قيمتها عن ربع دينار.
_________
(1) «الدسوقي» (3/ 333)، و «جواهر الإكليل» (2/ 290)، و «المغني» (10/ 242)، و «كشاف القناع» (4/ 78)، و «الإنصاف» (10/ 262).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6796)، ومسلم (1686).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6790)، ومسلم (1684) واللفظ له.
(4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 236)، والشافعي (274 - شفاء العي)، والبيهقي (8/ 259).
(5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/ 237)، ومالك (1574)، وعنه الشافعي (273).

(4/112)


وهذا مذهب الشافعي، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وعائشة - رضي الله عنهم - وبه قال الفقهاء السبعة، وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وابن المنذر (1)، وحجتهم:
1 - حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا» (2).
قالوا: وهو قولٌ أقوى في الاستدلال من الفعل المجرَّد، وهو صريح في
الحصر، وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم لها.
2 - أن حديث عائشة قد رُوي بلفظ: «اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» قالت: وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنى عشر درهمًا (3).
قلت: وهو ضعيف بهذا اللفظ.
3 - أن المعوَّل عليه في القيمة الذهب، لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نقل الخطابي استدلالًا على أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير، بأن الصكاك القديمة كان يُكتب فيها: (عشرة دراهم: وزن سبعة مثاقيل) فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها.
الرابع: يقطع في القليل والكثير، إلا الذهب فلا يقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا: وهو مذهب أبي محمد بن حزم، ووافقه على القطع في القليل والكثير: الحسن وبعض أصحاب الشافعي (4)، واحتجوا لهذا بما يلي:
1 - عموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (5).
قالوا: وهو يشمل القليل والكثير.
2 - حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله
السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» (6).
_________
(1) «مغني المحتاج» (4/ 158)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 186)، و «المغني» (10/ 242)، و «فتح الباري» (12/ 109).
(2) صحيح: تقدم قريبًا.
(3) ضعيف بهذا اللفظ: أخرجه أحمد (6/ 80)، والبيهقي (8/ 255)، وانظر: «الإرواء» (2409).
(4) «المحلي» (11/ 351)، و «مغني المحتاج» (4/ 158)، و «المغني» (10/ 242).
(5) سورة المائدة: 38.
(6) صحيح: أخرجه البخاري (6799)، ومسلم (1687).

(4/113)


قالوا: وهو نصٌ جليٌّ على أنه لا حدَّ فيما يجب القطع فيه في السرقة فتقطع كل ما له قيمة قلَّت أو كثرت، وأما الشيء التافه الذي لا قيمة له أصلًا فلا قطع فيه، لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «لم تقطع يد سارق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن المجن: ترس أو حجفة، وكان كلُّ واحدٍ منهما ذا ثمن» (1).
ثم استثنى ابن حزم من هذا العموم: الذهب، فإذا كان المسروق ذهبًا -فقط- فإنه يقطع إذا كان ربع دينار فصاعدًا، لحديث عائشة في ذلك.
ويبقى ما دون الذهب من المسروقات - عنده - يُقطع في كثيرها وقليلها.
الراجح مما تقدم:
والذي يترجَّح لي أن أقرب هذه الأقوال: الثاني والثالث، لكن جعل النصاب مقدرًا بالذهب (ربع دينار = 1. 0625 جرام) أقوى؛ لما تقدم من أدلة الشافعية، ولأن الأشياء والعملات الورقية المتداولة في هذه الأزمان قيمتها مقدرة بالذهب، والله أعلم.
ويبقى الجواب عن حديث: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ...». فقيل: المراد بالبيضة ما يبلغ قيمتها ربع دينار فصاعدًا وكذا الحبل (2)، وقيل:
المعتبر قيمة النصاب وقت السرقة (3):
اتفقت المذاهب الأربعة على أن المعتبر قيمة النصاب وقت إخراجه من الحرز، فإن كانت قيمة المسروق تقل عن النصاب حين السرقة، ثم زادت حتى بلغته بعد إخراجه من الحرز، فلا يقام الحدُّ.
أما إن كانت قيمة المسروق - وقت إخراجه من الحرز - نصابًا، ثم نقصت بعد ذلك، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقام الحدُّ سواء أكان النقص في عين المسروق بأن هلك بعضه في يد السارق بعد إخراجه، أم كان بسبب تغيُّر الأسعار.
وقال الحنفية: فيه تفصيل، فإن كان النقص في عين المسروق فإن هلك في يد
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6794).
(2) انظر: «فتح الباري» (12/ 110).
(3) «البدائع» (7/ 79)، و «المدونة» (16/ 90)، و «نهاية المحتاج» (7/ 420)، و «المغني» (10/ 278).

(4/114)


السارق، فلا عبرة بهذا النقص فيُحدُّ، أما إن كان بسبب تغيُّر الأسعار ففي المذهب روايتان، الأولى: العبرة بالقيمة حين السرقة فيحدُّ كما قال الجمهور، والأخرى: إذا نقصت قيمة المسروق عن النصاب قبل الحكم فلا يقام الحدُّ، لأنه لا دخل للسارق في ذلك، ولأن النقص عند الحكم يورث شبهة تدرأ الحدَّ.
3 - أن يكون المسروق محرزًا:
الْحرِزُ - عند الفقهاء -: الموضع الحصين الذي يحتفظ فيه المال عادة، بحيث لا يعدُّ صاحبه مضيِّعًا له بوضعه فيه.
وقد ذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) إلى أن حدَّ السرقة لا يقام إلا إذا أخذ السارق النصاب من حرزه، لأن المال غير المحرز ضائع
بتقصير من صاحبه (1).
واحتج الجمهور بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رجلًا من مزينة يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحريسة (2) التي توجد في مراتعها؟ فقال: «فيها ثمنها مرتين، وضرب نكال، وما أخذ من عطنه (3) ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن» قال: يا رسول الله، فالثمار وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: «من أخذ بفمه ولم يتخذ خُبْنة (4) فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين، وضرب نكال، وما أخذ من أجرائه ففيه القطع، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن» (5).
وفيه اعتبار الحرز، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه من الجرين، وكذلك في الشاة، وهذا الحديث مخصص لعموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما} (6).
_________
(1) «البدائع» (7/ 66)، و «الدسوقي» (4/ 338)، و «مغني المحتاج» (4/ 164)، و «كشاف القناع» (6/ 110).
(2) يريد: الشاة يدركها الليل قبل رجوعها إلى مأواها فتسرق من الجبل.
(3) العطن: الموضع الذي يترك فيه الإبل على الماء.
(4) ما يحمله الإنسان في حضنه أو ثوبه.
(5) حسن: تقدم تخريجه.
(6) سورة المائدة: 38.

(4/115)


والحِرْزُ نوعان (1):
1 - حرز بنفسه (حرز المكان): وهو كل مكان مُعدٍّ للإحراز، يُمنع الدخول
فيه إلا بإذن، كالدار والبيت.
2 - حرز بغيره (حرز الحافظ): وهو كل مكان غير مُعدٍّ للإحراز، لا يُمنع أحدٌ من دخوله، كالمسجد والسوق، ولا يكون حرزًا إلا إذا كان عليه حافظ، أي: شخص يحرسه.
وضابط الحرز وتحديد مفهومه يرجع إلى العرف، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان، ونوع المال المراد حفظه، وباختلاف حال السلطان من العدل والجور، ومن القوة والضعف.
ولذا اختلف الفقهاء في الشروط الواجب توافرها ليكون الحرز تامًّا، وبالتالي يقام الحد على من يسرق عنه، وهذا مبسوط في كتب الفروع.
وإليك بعضًا من الأحراز مما دلت عليه الوقائع في عهد النبوة:
(أ) حرز الثمار:
دلَّ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - المتقدم - فيمن سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثمار المعلقة، أن الجرين (وهو موضع تخرين الثمار) هو حرز الثمار، فلو سرقت من الجرين ففيها القطع، أما سرقة الثمار المعلقة في أشجارها فلا قطع فيها، وإنما يعزَّر السارق بأن يدفع ثمنها مضاعفًا، مع ضربه أو حبسه ويشهد لذلك حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا قطع في ثَمَر ولا كَثَر» (2).
وبهذا قال جماهير أهل العلم منهم الأئمة الأربعة (3) إلا أن الحنفية يشترطون
_________
(1) «البدائع» (7/ 73)، و «الخرشي» (8/ 117)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 190)، و «المغني» (10/ 251).
(2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (4388 - 4389)، والنسائي (8/ 87)، وابن ماجة (2593)، وأحمد (3/ 63 - ومواضع)، وابن الجارود (826)، والبيهقي (8/ 263)، وابن حبان (4466) وغيرهم، وقد ورد على أوجه مختلفة، والظاهر أن أرجحها الطريق المنقطعة، لكن صححه الألباني في «الإرواء» (8/ 73) وهو محتاج إلى مزيد بحث، وانظر: «شفاء العي» لشيخنا أبي عمير الأثري - حفظه الله - (2/ 166 - 168).
(3) «البدائع» (7/ 69)، و «الدسوقي» (4/ 144)، و «مغني المحتاج» (4/ 173)، و «المغني» (10/ 262).

(4/116)


أن تكون الثمار جافة غير رطبة ليقطع، وقد تقدمت الإشارة إلى مأخذهم في هذا ونقده.
(ب) الإنسان حرز نفسه وفراشه:
عن صفوان بن أمية - رضي الله عنه - قال: كنت نائمًا في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثين درهمًا فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذت الرجل فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر به ليقطع، فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، فقال: «هلا كان قبل أن تأتيني به» (1).
وفيه أن الإنسان حرر لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه أين كان، سواء كان في المسجد أو غيره (2).
وهذا متفق عليه - في الجملة - في المذاهب الأربعة، والحرز عندهم - هنا - بالحافظ لا بالمكان (3).
هل يُقطع الطرَّار (النشال)؟ (4)
ولهذا ذهب جمهور العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، إلى أن الطرَّار (وهو البطَّاط: الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام، وهو ما يسمى في بلادنا: النشال) يُقطع، سواء شقَّ الجيب وأخذ منه المال، أو أدخل يده في الكم أو الجيب فأخذه من غير شقٍّ، لأن المال محرز بصاحبه، والكم تبع له.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الطرَّار لا قطع عليه إلا إذا شق الجيب أو الكم، لأن الحرز لا يتحقق - عنده - بغير الشق إذا كانت الدراهم مصرورة في داخل الكم أو الجيب، وعليه فلا قطع عندهم فيما إذا حلَّ الرباط ولم يشقَّه!!
قلت: وقول الجمهور أقوى ويتأيد بحديث صفوان المتقدم، وهو قول أبي يوسف من الحنفية.
_________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (4394)، والنسائي (8/ 69)، وابن ماجة (2/ 865)، وأحمد (6/ 466)، والبيهقي (8/ 265).
(2) «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 54) ط. الرسالة.
(3) «فتح القدير» (1495)، و «نهاية المحتاج» (7/ 428)، و «جوهر الإكليل» (2/ 292)، و «المغني» (10/ 251).
(4) «المبسوط» (9/ 160)، و «روضة الطالبين» (10/ 123)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 333)، و «القرطبي» (6/ 70) والمراجع المتقدمة.

(4/117)


(جـ) هل يعتبر المسجد حرزًا لما فيه؟
لا يخلو ما يمكن سرقته من المسجد من أن يكون أحد ثلاثة أنواع:
1 - ما يعتاد وضعه في المسجد من أدواته المعدة للاستعمال فيه: كالحصر والبُسُط والقناديل ونحوها، فهذه اختلف أهل العلم في قطع سارقها (1):
فذهب الحنفية والشافعية وهو المعتمد عند الحنابلة إلى أنه لا يقطع، لأن له
فيها حقًّا وهو الجلوس على الفراش والشرب عن السِّقاء ونحو ذلك من آلات المسجد وهي شبهة تدرأ الحدَّ، فإن لم يكن له فيها حق - كأن كان ذميًّا غير مسلم - قطع.
وعدم القطع عند الحنفية مقيَّد بما إذا لم يكن به حارس، لأن السجد يعتبر - عندهم- حرزًا بالحافظ، أما إذا كان للمسجد حارس فإنه يكون محرزًا به فيقطع.
وذهب المالكية - وهو وجه عند الحنابلة والشافعية - إلى أن سارق الحصر والقناديل يُقطع.
2 - ما جعل لعمارة المسجد كالبناء والسقف أو لتحصينه كالأبواب والشبابيك أو لزينته كالستائر والقناديل المعلقة (2): فنصَّ المالكية والشافعية والحنابلة - في رأيٍ - على أن المسجد يعتبر حرزًا بنفسه في هذه الأشياء، فيقام الحد على سارقها، وعند الحنابلة رأى آخر: أنه لا يقام الحد على من يسرق من المسجد سواء كان المسروق لعمارته وزينته أو كان معدًّا للانتفاع به، لأن المسجد لا مالك له من المخلوقين ولأنه معدٌّ لانتفاع المسلمين به، فكان ذلك شبهة تدرأ الحد سوا اعتبرت السرقة من حرز بنفسه أو من حرز بالحافظ.
3 - ما يضعه صاحبه في المسجد مما هو ملك له لا للمسجد (3):
فلا يقام الحدُّ على من سرق متاعًا تركه صاحبه في المسجد، لأن المسجد لا يعتبر من الأماكن المعدة لحفظ الأموال، ويُدخل إليه بلا إذن، فأما إذا سرق المتاع
حالة وجود الحافظ (الحارس) فإنه يقام الحد على السارق، وعلى هذا يحمل حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع يد رجل سرق ترسًا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم» (4).
_________
(1) «البدائع» (7/ 74)، و «مواهب الجليل» (6/ 309، 313)، و «نهاية المحتاج» (7/ 425)، و «القليوبي» (4/ 192)، و «المغني» (10/ 254)، و «كشاف القناع» (4/ 83)، و «الإنصاف» (10/ 275).
(2)، (2) المراجع الفقهية السابقة.
(3)
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4386)، والنسائي (8/ 77)، وأحمد (2/ 145).

(4/118)


فائدة: مذهب الظاهرية وجوب قطع السارق من المسجد مطلقًا بناءً على أصلهم في عدم اعتبار الحرز شرطًا (1).
مسائل متعلقة باعتبار الحرز:
الأول: هل يقطع جاحد العاريَّة أو خائن الأمانة؟ (2)
من استعار من غيره شيئًا - مما يبلغ النصاب - ثم جحده وأنكره حينما طولب به، فقد اختلف أهل العلم في قطعه بذلك على قولين:
الأول: يقطع جاحد العارية، وهو قول الإمام أحمد في أشهر الروايتين - وهو المعتمد في مذهبه - وهو مذهب الظاهرية، وانتصر له ابن حزم وابن القيم.
وعمدة هذا القول:
1 - حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة
بن زيد - رضي الله عنهما - فكلَّموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أسامة، لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل» ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (3).
2 - حديث ابن عمر: أن امرأة كانت تستعير الحلي من الناس ثم تمسكه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله، وترد ما تأخذ من القوم» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قم يا بلال، فخذ بيدها فاقطعها» (4).
الثاني: لا قطع على جاحد العارية: وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وقد أجابوا عن حديث المخزومية بما يلي:
_________
(1) انظر: «المحلي» لابن حزم (11/ 329).
(2) «فتح القدير» (5/ 136)، و «بداية المجتهد» (2/ 436)، و «نهاية المحتاج» (7/ 436)، و «المغني» (10/ 240)، و «الإنصاف» (10/ 253)، و «كشاف القناع» (6/ 104)، و «فتح الباري» (12/ 91)، و «المحلي» (11/ 358)، و «تفسير القرطبي»، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 404)، و «إعلام الموقعين» (2/ 62)، و «تهذيب السنن» (6/ 209).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1688)، وأبو داود (4373)، والنسائي (8/ 63 - 68).
(4) صحيح: أخرجه النسائي (8/ 63 - 64) بسند صحيح، وأخرجه أبو داود (4395)، والنسائي (8/ 70)، وأحمد (2/ 151) وغيرهم عن ابن عمر مختصرًا بلفظ: «أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها» وسنده صحيح على شرط الشيخين.

(4/119)


1 - أنه قد ثبت من وجه آخر عن عائشة - نفسها - بلفظ (سرقت) بدلًا من (تستعير المتاع وتجحده)، فعنها: أن قريشًا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلم رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقال: «أتشفع في حد من حدود الله ...» الحديث بنحوه (1).
(أ) قالوا: ورواية (سرقت) أرجح، لأن الأخرى تفرَّد بها معمر عن الزهري، وخالفه الليث ويونس وأيوب بن موسى عن الزهري فقالوا (سرقت) ومعمر لا يقاومهم فروايته شاذة!!
وأجيب: بأن معمرًا لم يتفرد بهذا اللفظ، بل تابعه شعيب ويونس وابن أخي الزهري وأيوب بن موسى - أيضًا - عن الزهري به، ثم قد صح من حديث ابن عمر بنحوه كما تقدم فصحَّ الحديث، ولذا قال الحافظ: وعلى هذا فيتعادل الطريقان، ويتعيَّن الجمع فهو أولى من اطّراح أحد الطريقين. اهـ.
(ب) قالوا: لا شك أن القصة - في الحديثين - لامرأة واحدة استعارت وجحدت، أو سرقت فقطعت للسرقة لا للعارية، وإنما ذكر العارية والجحد في هذه القصة تعريفًا لها بخاص صفتها، قالوا: ويترجَّح أنها قُطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه:
أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث الذي ذكرت فيه العارية: «لو أن فاطمة سرقت» وفيه دلالة قاطعة (!!) على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغيًّا، ولقال: (لو أن فاطمة جحدت العارية)، ثانيهما: أنها لو كانت قطعت في جحد العارية، لوجب قطع كل من جحد شيئًا، إذا ثبت عليه ولو لم يكن بطريق العارية.
ثالثها: أن ذلك يعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس على خائن، ولا مختلس، ولا منتهب قطع» (2) والمستعير الجاحد خائن، فلا يقطع.
قال الحافظ: وقد أجمعوا على العمل به إلا من شذ ... وأجمعوا على أن لا قطع على الخائن في غير ذلك ولا على المنتهب، إلا إن كان قاطع طريق. اهـ.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688)، وأبو داود (4373)، والترمذي (1430)، والنسائي (8/ 65).
(2) صححه الألباني: وسيأتي تخريجه قريبًا.

(4/120)


وناقش أصحاب هذا القول هذه الأوجه:
(أ) فقال ابن القيم: «وأما قولهم: إن ذكر جحد العارية للتعريف، لا أنه المؤثر، فكلام في غاية الفساد لو صح مثله - وحاشا وكلا - لذهب من أيدينا عامة الأحكام المترتبة على الأوصاف، وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم، ولا يردون بمثلها السنن، وإنما يسلكها بعض المقلدين من الاتباع» ثم بيَّن أن لفظ ابن عمر يبطل هذا القول، فقال: ويقويه أن لفظ الحديث وترتيبه في إحدى الروايتين القطع على السرقة، وفي الأخرى على الجحد - على حد سواء، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعَلَمية، فكل من الروايتين دلَّ على أن علة القطع كل من السرقة وجحد العارية على انفراده، ويؤيد ذلك أن سياق حديث ابن عمر ليس فيه ذكر للسرقة ولا للشفاعة من أسامة، وفيه التصريح بأنها قطعت في ذلك. اهـ (1).
ثم أجاب هو وغيره (2) عن استدلال الجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم - في آخره «لو أن فاطمة سرقت» بأنه لا ينافي ذم جحد العارية، بل هو دليل على إدخال النبي - صلى الله عليه وسلم - جاحد العارية في اسم السارق - كإدخال
سائر المسكرات في اسم الخمر - وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه، فيكون جاحد العارية - إن لم يسمَّ سارقًا لغةً - فهو سارق شرعًا، والشرع مقدَّم على اللغة.
(ب) وأما قياسهم جاحد العارية على جاحد الوديعة بجامع الخيانة في كل منهما، فينتج أنه لا قطع عليه، فاعترض ابن القيم بأنه قياس مع الفارق، إذ إن جاحد العارية لا يمكن الاحتراز منه، بخلاق جاحد الوديعة، فإن صاحب المتاع فرَّط حيث ائتمنه، فهو إنما يفعل ذلك عند عدم احتراز المال، وتعقَّبه الحافظ بقوله: وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة إذا ثبت حديث جابر - رضي الله عنه - «ليس على خائن ... قطع» اهـ.
(جـ) وناقش ابن حزم كلام الجمهور من وجه آخر فقال: «هَبْكَ أنها امرأة واحدة وقصة واحدة، فلا حجة فيها لأن ذكر السرقة إنما هو من لفظ بعض الرواة لا من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك ذكر الاستعارة. إنما لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتها» فهذا يخرج على وجهين - يعني ذكر السرقة (3) -:
_________
(1) «تهذيب السنن» (6/ 211)، و «فتح الباري» (12/ 94).
(2) انظر ما سبق، مع «زاد المعاد» (5/ 50)، و «الروضة الندية» (2/ 281).
(3) يعني في قول الراوي: «في المخزومية التي سرقت».

(4/121)


أحدهما: أن يكون الراوي يرى أن الاستعارة سرقة فيخبر عنها بلفظ السرقة.
والوجه الآخر: هو أن الاستعارة ثم الجحد سرقة صحيحة لا مجازًا؛ لأن المستعير إذا أتي على لسان غيره، فإنه مستخف بأخذ ما أخذ من مال غيره، يورِّى
بالاستعارة لنفسه أو لغيره ثم يملكه مستترًا مختفيًا، فهذه هي السرقة نفسها دون تكلُّف فكان هذا اللفظ خارجًا عما ذكرنا أحسن خروج، وكان لفظ العارية لا يحتمل وجهًا آخر أصلًا». اهـ.
2 - ومما استدل به الجمهور على عدم القطع لجاحد العارية: أن الحرز غير متوفِّر في العارية، إذ المعير قد سلَّط المستعير على ماله وجعله تحت يده، وهذا بخلاف السرقة من حرز فافترقا.
قلت: نعم، لولا أن النص ثابت في قطع المخزومية بجحد العارية على ما بيَّنه مناقشو الجمهور. وعليه فالذي يظهر لي أن جاحد العاريَّة يقطع، وأما حديث «ليس على خائن قطع» (1) فلو ثبت - وفيه كلام - فيخرج من عمومه جاحد العارية إما بالنصِّ، وإما باعتبار الفارق الذي ذكره ابن القيم، والله أعلم.
وأما خائن الأمانة: فالذي يظهر أنه قد أطبق الفقهاء - ومعهم ابن القيم - خلافًا لابن حزم على أنه لا يُقطع؛ لحديث جابر «ليس على خائن قطع» (2) ولعدم توفر الحرز.
وأما ابن حزم فإنه يضعِّف حديث جابر، ولا يعتبر الحرز شرطًا لإقامة الحدِّ أصلًا، والله تعالى أعلم بالصواب.
المسألة الثانية: هل يُقطع النبَّاش؟ (3)
النبَّاش: هو الذي يسرق أكفان الموتى بعد دفنهم في قبورهم.
وقد اختلف أهل العلم في حكمه وفي اعتباره سارقًا، فذهب الجمهور منهم المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف - من الحنفية - وابن حزم إلى أن النباش سارق، لانطباق حدِّ السرقة عليه، فيقطع.
وذهب أبو حنيفة ومحمد والأوزاعي والثوري، إلى أنه لا يعتبر سارقًا؛ لأنه يأخذ ما لا مالك له، وليس مرغوبًا فيه، وأخذه من غير حرز، فيعزَّر ولا يقطع.
_________
(1)، (2) صححه الألباني: وسيأتي تخريجه قريبًا.
(2) «المبسوط» (9/ 156)، و «فتح القدير» (5/ 374)، و «الدسوقي» (4/ 340)، و «تكملة المجموع» (18/ 321)، و «كشاف القناع» (6/ 138)، و «المحلي» (11/ 329).
(3)

(4/122)


قلت: والصواب قول الجمهور من اعتبار النباش سارقًا؛ لأنه يأخذ ما لا حق له في أخذه خفية من حرزه - وهو القبر - لكن يلزم الجمهور - إلا ابن حزم (1) - أن لا يقطعوه إلا إذا كانت قيمة الكفن نصابًا، ولا أظنه يبلغه، والله أعلم.
رابعًا: شروط تعتبر في طريقة أخذ المسروق:
1 - أن يأخذ السارق المال بعد هتك الحرز (2):
لا يعتبر مجرد الأخذ سرقة عند جمهور الفقهاء، إلا إذا نتج عن هتك الحرز، كأن يفتح السارق أغلاله ويدخل، أو يكسر بابه أو شباكه، أو ينقب في سطحه أو جداره، أو يدخل يده في الجيب لأخذ ما به، أو يأخذ ثوبًا توسَّده شخص نائم، أو نحو ذلك؛ ولا يشترط عند الجمهور - خلافًا للحنفية - دخول السارق الحرز
لتحقيق الأخذ وهتك الحرز، فدخول الحرز ليس مقصودًا لذاته، بل لأخذ المال، فإذا تحقق المقصود بمد اليد داخل الحرز وإخراج المال، كان ذلك كافيًا في هتك الحرز وأخذ المال.
ويؤيده ما في حديث جابر مرفوعًا: «... حتى رأيت فيها صاحب المحجن يجرُّ قصبه في النار، وكان يسرق الحاج بمحجنه، فإذا فُطن له قال: إنما تعلَّق بمحجني؛ وإن غفل عنه ذهب به» (3).
2 - أن يأخذ المال خُفية:
يشترط الفقهاء لإقامة حد السرقة أن يؤخذ الشيء خفية واستتارًا، بأن يكون ذلك دون علم المأخوذ منه ودون رضاه، وقد نقل ابن حزم إجماع الأمة على أن السرقة هي الاختفاء بأخذ الشيء ليس له، وأن السارق هو المختفي. اهـ.
فإن أخذه على سبيل المجاهرة سُمِّي: مغالبة أو نهبًا أو خلسة أو اغتصابًا أو انتهابًا، لا سرقة.
وإن حدث الأخذ دون علم المالك أو من يقوم مقامه ثم رضي فلا سرقة (4).
_________
(1) لأن ابن حزم لا يشترط للحد - في المسروق من غير الذهب - أن يبلغ نصابًا، كما تقدم.
(2) «البدائع» (7/ 66)، و «فتح القدير» (4/ 245)، و «مواهب الجليل» (6/ 310)، و «المهذب» (2/ 297)، و «المغني» (10/ 259).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (904)، وأحمد (6447).
(4) «البدائع» (7/ 64)، و «بداية المجتهد» (2/ 436)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 186)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 362)، و «المحلي» (11/ 327).

(4/123)


ولهذا لا يعتبر الفقهاء الخائن (1) ولا المختلس (2) ولا المنتهب (3) سارقًا،
فلا يوجبون عليه القطع، وإن وجب التعزير، ويحتجون بحديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع» (4).
وقد تقدم - في الشبهات حول قطع السارق - وجه الحكمة في قطع السارق دون الغاصب والمنتهب والمختلس.
3 - إخراج المسروق من الحرز (5):
اتفق جمهور الفقهاء على وجوب إخراج المسروق من الحرز لكي يقام حدُّ السرقة، فإن كانت السرقة من حرز بالحافظ، فيكفي مجرد الأخذ، حيث لا اعتبار للمكان في الحرز بالحافظ.
وإن كانت السرقة من حرز بنفسه فلابد من إخراج المسروق من المكان المعد لحفظه، فإذا ضبط السارق داخل الحرز قبل أن يخرج بما سرقه، فلا يقطع، بل
يعزَّر، وفي هذا آثار عن عمر بن الخطاب وعثمان وعليٌّ وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز، ذكرها ابن حزم في «المحلي» (11/ 320) وفي أسانيدها مقال، وذكر خلافه عن عائشة وابن الزبير وغيرهما.
ويشترط الحنفية لإقامة الحد أن يخرج السارق بالمال من الحرز، فلو رمي بالمال
_________
(1) الخائن: هو الذي يؤتمن على المال بطريق العارية أو الوديعة فيأخذه ويدعى ضياعه أو ينكر أنه كان عنده وديعة أو عارية، والفرق بينه وبين السارق يرجع إلى قصور في الحرز.
(2) المختلس: هو الذي يأخذ المال جهرة معتمدًا على السرعة في الهرب، فالفرق بين السرقة والاختلاس أن السرقة تعتمد على الخفية، والاختلاس على المجاهرة.
(3) المنتهب: هو الذي يأخذ المال قهرًا، ولا يكون نهبًا حتى تنتهبه جماعة، فيأخذ كل واحد شيئًا وهي النهبة، فيظهر أن الفرق بين النهب والسرقة يعود إلى شبه الخفية، وهو لا يتوافر في النهب.
(4) صحيح: أخرجه الترمذي (1448)، وأبو داود (4393)، والنسائي (8/ 88)، وابن ماجة (2591)، وأحمد (3/ 380)، وعبد الرزاق (18845، 18859)، والطحاوي (3/ 171)، والبيهقي (3/ 279) من طريق عن أبي الزبير عن جابر، وأبو الزبير مدلس لكنه صرَّح بسماعه من جابر في رواية عبد الرزاق، فزالت الشبهة، ثم له شواهد. انظر «الإرواء» (2403).
(5) «البدائع» (7/ 65)، و «الخرشي» (8/ 97)، و «القليوبي» (4/ 190)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 367)، و «مواهب الجليل» (6/ 308)، و «نهاية المحتاج» (7/ 437)، و «المغني» (10/ 259).

(4/124)


خارج الحرز، ثم لم يتمكن هو من الحرز، أو خرج فلم يجد المال الذي رماه، فلا يقام عليه الحد عندهم، بل يعزَّر.
وأما الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، فقد اتفقوا على أن إخراج المسروق من حرزه ومن حيازة المسروق منه يستتبع حتمًا إدخاله في حيازة السارق إدخالًا فعليًّا أو حكميَّا - كما في المثال السابق - وبالتالي يجب عليه القطع.
قلت: وهو الأرجح والله أعلم.
فائدة: إذا لم تتم السرقة، فلا يقام الحد عند جمهور الفقهاء، لكنهم يوجبون التعزير على من يبدأ في الأفعال التي تكوِّن بمجموعها جريمة السرقة، ليس باعتباره شارعًا في السرقة، ولكن باعتباره مرتكبًا لمعصية تستوجب التعزير (1).
الاشتراك في السرقة:
إذا اشترك جماعة في سرقة مال من حرز (2):
1 - فإن كانت قيمة المسروق لو قسمت عليهم بلغ نصيب كلٍّ منهم النصاب: فإنه يقام الحدُّ علميهم جميعًا بلا خلاف بين الفقهاء، واشترط الشافعية أن يشتركوا جميعًا في إخراجه من الحرز، وإلا فإنه لا يُحدُّ عندهم إلا من اشترك في إخراج المسروق.
2 - وإذا بلغت قيمة المسروق نصابًا لكن لا تكفي ليصيب كل واحد نصابًا فاختلف العلماء في قطعهم:
فقال الحنفية والشافعية: لا قطع على أحد منهم، وإنما يعزَّرون.
وقال المالكية والحنابلة: يُقطع الجميع، سواء كان الاشتراك في الإخراج أو كان بإخراج البعض وإعانة البعض الآخر، وسواء حدثت الإعانة بفعل مادي (كالإعانة على حمل المسروق) أو بفعل معنوي (كالإرشاد إلى مكان المسروق) أو لم يأت بعمل ما (كمن دخل الحرز مع السارق لتنبيهه إذا انكشف أمره) لأن فعل السرقة يضاف إلى كل واحد منهم.
_________
(1) «المبسوط» (9/ 147)، و «الدسوقي» (4/ 306)، و «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 237).
(2) «البدائع» (7/ 65 - 66)، و «فتح القدير» (4/ 225)، و «مواهب الجليل» (6/ 310)، و «المدونة» (16/ 68)، و «مغني المحتاج» (4/ 160)، و «نهاية المحتاج» (7/ 421)، و «كشاف القناع» (4/ 79)، و «المغني» (3/ 295)، و «روضة الطالبين» (5/ 134)، و «مجموع الفتاوى» (14/ 84).

(4/125)


أما إذا لم يحصل تعاون بأن استقل كل واحد بإخراج بعض المسروق، فلا يقام الحد إلا على من أخرج نصابًا كاملًا.
قلت: الأظهر أنهم إن اشتركوا في سرقة نصاب واحد قُطعوا سواء أخرجوه جملة، أو أخرج كل واحد جزءًا، وهو اختيار شيخ الإسلام، فالحاجة إلى الزجر عن سرقة المال موجودة فوجب القطع، والله أعلم.

عقوبات السارق
(أ) العقوبة الحدِّيَّة:
اتفق أهل العلم على أن حدَّ السارق قطع يده، لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (1).
وهو الحدُّ الذي أقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - على من سرق في عهده كما تواترت الأخبار بذلك، وجرى عليه عمل الخلفاء الراشدين دون اعتراض عليهم، وأجمعت عليه الأمة (2).
لكنهم اختلفوا في أمور تتعلق بمحل القطع ومقداره، وكيفيته، وتكرره مع تكرار السرقة، ونحو ذلك، وإليك بيان أهم هذه الأمور:
1 - محل القطع (3):
إذا ثبتت السرقة الأولى، فقد اتفق الفقهاء - إلا ابن حزم - على وجوب قطع اليد اليمنى، قالوا: لما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قطع اليد اليمنى (4) وكذلك فعل الأئمة من بعده، ولقراءة عبد الله بن مسعود: «فاقطعوا أيمانهما» وهي قراءة مشهورة عنه، ولم يجمع على أنها قرآن لمخالفتها للمصحف الإمام، فكانت خبرًا مشهورًا، فيقيد إطلاق النص .. ولو كان الإطلاق مرادًا
والامتثال للأمر في الآية
_________
(1) سورة المائدة: 38.
(2) «مراتب الإجماع» (135)، و «المغني» (10/ 239)، و «فتح الباري» (12/ 97)، و «فتح القدير» (5/ 153)، و «الإفصاح» (2/ 414)، و «طرح التثريب» (8/ 23).
(3) «البدائع» (7/ 86) و «الدسوقي» (4/ 332)، و «مغني المحتاج» (4/ 177)، و «كشاف القناع» (6/ 118)، و «المغني» (10/ 264)، و «تفسير القرطبي» (6/ 160)، و «الطبري» (6/ 228)، و «المحلي» (11/ 358).
(4) إسناده ضعيف: أخرجه البغوي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» وسنده ضعيف كما في «التلخيص» (4/ 67)، وانظر «الإرواء» (8/ 81).

(4/126)


يحصل بقطع اليمين أو الشمال، لمَا قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اليسار على عادته من طلب الأيسر لهم ما أمكن، جريًا على عادته - صلى الله عليه وسلم - في أنه: «ما خُيِّر بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا» (1).
وذهب ابن حزم إلى أن قطع اليمين مستحب وليس بواجب، وردَّ دعوى الإجماع بفعل عليٍّ - رضي الله عنه -، فعن ابن عمر قال: «سرق سارق بالعراق في زمان علي بن أبي طالب، فقدم ليقطع يده، فقدَّم السارق يده اليسرى ولم يشعروا فقطعت فأخبر علي بن أبي طالب خبره، فتركه ولم يقطع يده الأخرى» (2).
فإذا كانت اليمنى غير صحيحة:
بأن كانت شلَّاء أو ذهب أكثر أصابعها، فاختلفوا في محل القطع:
1 - فقال الحنفية: تقطع لأن القطع متعلق بها؛ ولأنه إذا تعلق الحكم بالسليمة فإنها تقطع، فلأن تقطع المعيبة من باب أولى.
2 - وقال المالكية: لا يجزئ قطع المعيبة؛ لأن مقصود الحد إزالة المنفعة التي يستعان بها على السرقة، والشلاء وما في حكمها لا نفع فيها فلا يتحقق مقصود الشرع بقطعها، لأن منفعتها التي يراد إبطالها باطلة من غير قطع، ولذا ينتقل القطع إلى الرجل اليسرى، وهذا قول للشافعية - في مقطوعة الأصابع كلها - ورواية عن الحنابلة.
3 - وقال الشافعية والحنابلة: يجزئ قطع اليمين إذا كانت شلاَّء إلا إذا خيف من قطعها ألا يكف الدم ولا يرقأ، فحينئذٍ ينتقل القطع إلى الرجل اليسرى.
وإذا كانتا اليمين مقطوعة: سواء بآفة أو جناية أو قصاص، فذهب الجمهور - خلافًا للحنفية - إلى انتقال القطع إلى الرجل اليسرى، إذا ذهبت اليد اليمنى قبل السرقة، وإلى سقوط الحد إذا ذهبت بعد السرقة سواء كان ذهابها قبل الخصومة أو بعدها، وقبل القضاء أو بعده، لأنه بمجرد السرقة تعلق القطع باليد اليمنى، فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع فسقط.
وكذلك قال الحنفية إذا كان زوال اليمنى ولو بعد السرقة قبل المخاصمة، أما
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327) من حديث عائشة.
(2) أخرجه أبو حزم في «المحلي» (11/ 358 - هامش).

(4/127)


لو ذهبت اليد اليمنى بعد المخاصمة وقبل القضاء أو بعد المخاصمة والقضاء فيسقط الحد عندهم (1).
2 - موضع القطع ومقداره (2):
ذهب جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن قطع اليد يكون من الكوع، وهو مفصل الكف، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع السارق من الكوع (3)، ولقول أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -: «إذا سرق
السارق، فاقطعوا يمينه من الكوع» (4).
وذهب بعض الفقهاء إلى أن موضع القطع من اليد: المنكب، لأن اليد اسم للعضو من أطراف الأصابع إلى المنكب، وذهب بعضهم إلى أن موضع القطع: مفاصل الأصابع التي تلي الكف (!!).
قال ابن حزم - مؤيدًا ما ذهب إليه الجمهور بعد تصحيح إيقاع اسم اليد على كل ما تقدم -: «فإذا كان ذلك كذلك، فإنما يلزمنا أقل ما يقع عليه اسم يد، لأن اليد محرمة قطعها قبل السرقة ثم جاء النص بقطع اليد، فوجب أن لا يخرج من التحريم المتيقن المتقدم شيء إلا ما تيقن خروجه، ولا يقين إلا في الكف فلا يجوز قطع أكثر منها، وهكذا وجدنا الله تعالى إذ أمرنا في التيمم بما أمر إذ يقول تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (5). ففسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراد الله تعالى بذكر الأيدي ههنا وأنه الكفان فقد كان على ما قد أوردناه ...» اهـ.
وموضع قطع الرِّجل هو: مفصل الكعب من الساق، فعل ذلك عمر - رضي الله عنه -، وذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عن أحمد.
_________
(1) «البدائع» (7/ 88)، و «الدسوقي» (4/ 374)، و «مغني المحتاج» (4/ 148)، و «المغني» (10/ 269).
(2) «المبسوط» (9/ 133)، و «الدسوقي» (4/ 332)، و «بداية المجتهد» (2/ 443)، و «المهذب» (2/ 301)، و «كشاف القناع» (6/ 118)، و «المغني» (10/ 266)، و «المحلي» (11/ 357).
(3) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 271)، وابن عدي في «الكامل»، وله شواهد انظرها في «الإرواء» (؟؟ - 82).
(4)؟؟ في «التلخيص» (4/ 71): «ولم أجده عنهما، وفي كتاب الحدود لأبي الشيخ من طريق نافع عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون من المفصل» اهـ. وذكر له الألباني في «الإرواء» (8/ 81 - 82) شواهد.
(5) سورة المائدة: 6.

(4/128)


والرواية الأخرى عنه - وبها قال بعض الفقهاء - أن موضع القطع: أصول
أصابع الرِّجل، لما روي عن عليِّ أنه: «كان يقطع من شطر القدم، ويترك للسارق عقبه يمشي عليها» (1).
3 - كيفية القطع:
لا خلاف بين الفقهاء في أنه ينبغي مراعاة الإحسان في إقامة الحد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم».
وقد ذكر الفقهاء أنه ينبغي على الحاكم أن يتخيَّر الوقت الملائم للقطع بحيث يجتنب الحر والبرد الشديدين، إن كان ذلك يؤدي إلى الإضرار بالسارق، ولا يقيم الحدَّ أثناء مرض يرجى زواله، ولا يقيم الحد على الحامل والنفساء.
كما ينبغي أن يساق السارق إلى مكان القطع سوقًا رفيقًا، فلا يعنف به، ولا يعيَّر، ولا يُسب، فإذا وصل إلى مكان القطع:
(يجلس، ويضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه، وتُشد يده بحبل، ويُجرُّ حتى يبين مفصل الذراع، ثم توضع بينهما سكين حادة، ويدق فوقها بقوة ليقطع في مرة واحدة، أو توضع على المفصل وتمد مدة واحدة، وإن عُلم قطع أوحى من ذلك - أي أسرع - قطع به) اهـ (2).
حَسْمُ موضع القطع (3):
رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بسارق سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله إن هذا قد سرق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به ...» الحديث (4).
وهو حديث ضعيف، ومع هذا فقد اتفق الفقهاء على حسم موضع القطع، وذلك باستعمال ما يسدُّ العروق، ويوقف الدم، لما فيه من مصلحة السارق وحفظه من الهلاك.
_________
(1) حسنه الألباني: وانظر «الإرواء» (2435).
(2) «المغني» (10/ 266) مع الشرح الكبير.
(3) «ابن عابدين» (3/ 285)، و «الخرشي» (8/ 92)، و «مغني المحتاج» (4/ 178)، و «كشاف القناع» (6/ 119)، و «المغني» (10/ 266 - مع الشرح الكبير).
(4) ضعيف: أخرجه الطحاوي (2/ 96)، والدارقطني، والحاكم (4/ 381)، والبيهقي (8/ 275)، وانظر «الإرواء» (2431).

(4/129)


لكنهم اختلفوا في حكم الحسم: فذهب الحنفية والحنابلة وهو القول مقابل الأصح عند الشافعية إلى أنه واجب عيني على من قام بالقطع للأمر بذلك في الحديث (!!) وذهب المالكية إلى أنه فرض على الكفاية، فلا يلزم واحدًا بعينه، فإذا قام به القاطع أو المقطوع أو غيرهما فقد حصل المقصود.
وقال الشافعية - في الأصح عندهم -: الأمر بالحسم يحمل على الندب؛ لأنه حق للمقطوع لإتمام الحد، فيجور للإمام تركه، وحينئذٍ يندب للإمام ولغيره أن يفعله، ولا يمنع ذلك من وجوبه على السارق إذا لم يقم به أحد، فإن تعذَّر عليه فعل الحسم وترتب على تركه تلف محقق فلا يجوز للإمام إهماله، بل يجب عليه فعله.
هل تعلَّق اليد المقطوعة في عنق السارق؟ (1)
يُسَنُّ - عند الشافعية والحنابلة - تعليق اليد المقطوعة في عنق السارق، ردعًا للناس، واستدلوا بما رُوي عن فضالة بن عبيد: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه» (2) وهو حديث ضعيف.
وذهب الحنفية إلى أن تعليق اليد لا يُسنُّ، بل يترك الأمر للإمام، إن رأى فيه مصلحة فعله، وإلا فلا.
قلت: وهذا أقرب، لضعف الحديث المرفوع وإن كان مأثورًا عن السلف.
4 - تكرُّر السرقة بعد القطع (3):
(أ) إذا قطعت يمين السارق، قم عاد للسرقة مرة ثانية فكيف تكون عقوبته؟
اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال:
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 285)، و «أسنى الطالب» (4/ 153)، و «كشاف القناع» (6/ 119)، و «المغني» (10/ 267).
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4411)، والنسائي (2/ 263)، والترمذي (1447)، وابن ماجة (2587)، وأحمد (6/ 19)، وانظر «الإرواء» (2432).
(3) «ابن عابدين» (3/ 285)، و «البدائع» (7/ 186)، و «المبسوط» (9/ 16)، و «القوانين الفقهية» (ص 362)، و «الخشري» (8/ 93)، و «جواهر الإكليل» (2/ 289)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 198)، و «نهاية المحتاج» (7/ 444)، و «كشاف القناع» (6/ 119)، و «المغني» (10/ 271)، و «المحلي» (11/ 354)، و «فتح الباري» (12/ 102)، و «زاد المعاد» (5/ 56)، و «تهذيب السنن» (6/ 236)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 387) وما بعدها.

(4/130)


الأول: لا قطع عليه، وإنما يضرب ويُحبس، وهو مذهب عطاء بن أبي رباح - رحمه الله - فعن ابن جريج أنه قال لعطاء: إن سرق ثانية؟ قال: ما أرى أن تقطع إلا في السرقة الأولى اليد فقط، قال الله تعالى: {فاقطعوا أيديهما} (1). ولو شاء أمر
بالرِّجْل، ولم يكن الله تعالى نسيًّا (2).
الثاني: تُقطع يده اليسرى فإن عاد فلا قطع عليه وإنما يعزَّر بالضرب والحبس وهو مذهب ربيعة وداود وابن حزم الظاهريين؛ لأن الله تعالى أمر بقطع الأيدي وهي تشمل اليمنى واليسرى، وإدخال الأرجل في القطع زيادة على النص، ولأنها آلة السرقة والبطش، فكانت العقوبة بقطعها أولى.
الثالث: تُقطع رجلُه اليُسرى، وهو مذهب عامة الفقهاء وجماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو مروي عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -.
واستدلوا بجملة أحاديث مرفوعة تشتمل على هذا الحكم، إلا أنها جميعًا ضعيفة لا تقوم يها الحجة، وكذلك استندوا إلى آثار عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وسيأتي ذكر طرف من هذه الأحاديث والآثار عما قريب، إن شاء الله.
قال ابن عبد البر: «ثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم - قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (3).
قلت: وثبت عن عمرو بن دينار أن نجدة بن عامر كتب إلى ابن عباس: السارق يسرق فتُقطع يده، ثم يعود فتقطع يده الأخرى؟ قال الله تعالى: {فاقطعوا أيديهما}. قال: قال: «بلى، ولكن ورجله من خلاف» (4).
وثبت عن عائشة - في قصة الرجل الأسود الذي كان أبو بكر يُدنيه يقرئه
القرآن ثم قطعت يده في سرقة - قالت: «... ثم أدناه [أي: أبو بكر] ولم يحول منزلته التي كانت له منه، فلم يغب إلا قليلًا حتى فقد آلُ أبي بكر حليًّا لهم ومتاعًا، فقال أبو بكر: طرق الحي الليلة، فقام الأقطع فاستقبل القبلة، ورفع يده الصحيحة والأخرى التي قطعت، فقال: اللهم أظهره على من سرقهم - أو نحو
_________
(1) سورة المائدة: 38.
(2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق، ومن طريقه ابن حزم في «المحلي» (11/ 354).
(3) سورة المائدة: 38.
(4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 185)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 355).

(4/131)


هذا - فما انصرف النهار حتى ظهر المتاع عنده، فقال له أبو بكر: ويلك، إنك لقليل العلم بالله، فأمر به فقطعت رجله» (1).
وعن ابن عباس قال: «رأيت عمر بن الخطاب قطع يد رجلٍ، بعد يده ورجله» (2).
(ب) إذا عاد للسرقة ثالثة ورابعة وخامسة:
ثم اختلف هؤلاء - أعني الجمهور - فيما إذا عاد السارق للسرقة - بعد قطع رجله اليسرى - ثالثة ورابعة وخامسة، على ثلاثة أقوال كذلك:
الأول: لا قطع عليه في المرة الثالثة، وإنما يضرب ويحبس: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأحمد في المشهور عنه - وهو المذهب - وبه قال الحسن والشعبي والثوري والزهري والنخعي والأوزاعي وحماد، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - وحجة هذا القول ما يلي:
1 - عن عمر - رضي الله عنه - أنه «أُتي برجل قد سرق يقال له سدوم، فقطعه ثم أتى به الثانية فقطعه، ثم أتى به الثالثة فأراد أن يقطعه، فقال له عليٌّ: «لا
تفعل، إنما عليه يد ورجل، ولكن أحبسه» وفي لفظ: «فحبسه عمر» (3).
2 - وعن أبي الضحى قال: «كان عليُّ بن أبي طالب لا يزيد في السرقة على قطع اليد والرجل».
3 - وعن عبد ألله بن مسلمة: أن علي بن أبي طالب أتى بسارق فقطع يده، ثم أتى به فقطع رجله، ثم أُتي به الثالثة، فقال: «إني استحيي أن أقطع يده، فبأي شيء يأكل؟! أو أقطع رجله، فعلى أي شيء يعتمد؟!» فضربه وحبسه (4).
4 - ولأن في قطع اليدين تفويت منفعة الجنس، فلم يُشرع في حدٍّ، كالقتل.
5 - ولأنه لو جاز قطع اليدين لقطعت اليسرى في المرة الثانية؛ لأنها آلة البطش كاليمنى، وإنما لم تقطع للمفسدة في قطعها.
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 188).
(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، والدارقطني، والبيهقي (8/ 273)، لكن وجدته عند عبد الرزاق (10/ 187) بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ «... قطع رِجْل رجل ...»؟!
(3) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (10/ 186)، والبيهقي (8/ 274).
(4) إسناده لين: أخرجه عبد الرزاق (10/ 186)، والبيهقي (8/ 275)، وابن حزم (11/ 355)، وعبد الله بن مسلمة تغير حفظه لكنه توبع، وانظر: «الإرواء» (8/ 90).

(4/132)


الثاني: تقطع يده اليسرى في الثالثة، ثم رجله اليمنى في الرابعة، ثم إن عاد في الخامسة يعزر ويحبس: وهذا مذهب الجمهور (المالكية والشافعية والرواية الأخرى في مذهب أحمد) وهو مروي عن أبي بكر وعمر (!!) - رضي الله عنهما - وبه قال إسحاق وقتادة وأبو ثور، واحتج هؤلاء بما يلي:
1 - آية المحاربة (!!) قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من
خلاف أو ينفوا من الأرض} (1).
2 - حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله» (2) وسنده تألف (!!).
3 - حديث عصمة بن مالك - رضي الله عنه - قال: سرق مملوك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعفى عنه .. (أربع مرات) ... ثم رفع إليه الخامسة وقد سرق، فقطع يده، ثم رفع إليه السادسة فقطع رجله، ثم رفع إليه السابعة فقطع يده، ثم رفع إليه الثامنة فقطع رجله، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربع بأربع» (3) وسنده ساقط (!!).
4 - أنه فعل أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - (!!) فعن القاسم بن محمد «أن أبا بكر قطع يد سارق في الثالثة» (4) وهو منقطع.
الثالث: كالقول السابق، إلا أنه إن عاد في الخامسة يُقتل، وهو مروي عن عثمان بن عفان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز، وأبي مصعب المالكي وذكره الحافظ قولًا عن مالك أولًا ثم إنه رجع عنه واستقر رأيه على تعزيره دون
قتله - وهو ما ذهب إليه الشافعي في القديم، واستدلوا بما يلي:
1 - حديث جابر قال: جيء بسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا
_________
(1) سورة المائدة: 33.
(2) سنده تالف: أخر الدارقطني، وفيه الواقدي: متروك وقد صححه الألباني في «الإرواء» (2434) بما بعده وبغيره، وكلها شديدة الضعف وبينها اختلاف في المتن، فلا يسلَّم له، رحمة الله.
(3) سنده تالف: أخرجه الدارقطني (3/ 173) والطبراني وفيه من يشبه أن يكون وضاعًا، وضعفه ابن حجر والزيلعي والهيثمي.
(4) سنده منقطع: أخرجه مالك، وعنه الشافعي (281).

(4/133)


رسول الله إنما سرق، فقال: «اقطعوه» قال: فقطع، ثم جيء به الثانية، فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، قال: «اقطعوه» .. فأتي به الخامسة فقال: «اقتلوه» قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة (1) وهو ضعيف.
2 - حديث الحارث بن حاطب بنحو حديث جابر مع شيء من المغايرة في لفظه، وهو منكر كما قال النسائي والذهبي (2).
3 - حديث عبد الله بن زيد الجهني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سرق متاعًا فاقطعوا يده، فإن سرق فاقطعوا رجله، فإن سرق فاقطعوا يده، فإن سرق فاقطعوا رجله، فإن سرق فاضربوا عنقه» (3) وسنده تالف.
وقد أجاب العلماء عن حديث جابر بأنه ضعيف، وعلى فرض صحته، فقيل: منسوخ، وهو محكي عن الشافعي، وناسخه هو عين الناسخ لقتل شارب الخمر في الرابعة - على ما تقدم - وقيل: هذه حكومة مختصة بهذا الرجل وقد علم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المصلحة في قتله، ولذلك أمر بقتله من أول مرة، وقيل: يخرج على أن هذا الرجل كان من المفسدين في الأرض، وهذا يعزي للإمام مالك، رحمه الله.
الترجيح:
الذي يظهر لي بعد هذا العرض لمذاهب العلماء ودراسة أدلتهم أن أقوى هذه الأقوال الأول، القائل، بأن السارق إذا كرَّر السرقة ثانية - بعد قطع يده اليمنى - فإنه تقطع رجله اليسرى، ثم لا قطع عليه إن عاد، وإنما يضرب ويحبس - ولو مدى الحياة - حتى يظهر الصلاح، لقضاء الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك.
ولو ذهب ذاهب إلى قول ربيعة وابن حزم من أنه تقطع يده اليسرى في الثانية - بعد اليمنى - ثم لا قطع عليه وإنما يُعزَّر، فلا يكون بعيدًا ولا شاذًّا كما قيل، والله أعلم.
_________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4410)، والنسائي (8/ 83)، والبيهقي (8/ 272) وقال النسائي: حديث منكر، وقال ابن عبد البر: منكر لا أصل له، وقد قوَّاه الألباني في «الإرواء» (8/ 86 - 88) بطريق أخرى، وبشواهد أرى أنها تعلُّه بالاضطراب.
(2) منكر: أخرجه النسائي (8/ 83)، والحاكم (4/ 382)، (8/ 272) وحكم بنكارته النسائي والذهبي.
(3) منكر: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 6) ثم قال: تفرَّد حزام (صوابه: حزم) بن عثمان وهو من الضعف بالمحل العظيم. اهـ. وقال الذهبي: متروك مبتدع. اهـ.

(4/134)


ما يسقط به الحدُّ:
1، 2 - الشفاعة، وعفو المسروق منه (1):
أجمع الفقهاء على جواز الشفاعة بعد السرقة وقبل أن يصل الأمر إلى الحاكم، إذا كان السارق لا يُعرف بشرٍّ، سترًا له وإعانة على التوبة.
وأما إذا وصل الأمر إلى الحاكم فالشفاعة فيه حرام، كما تقدم بيانه في بداية «كتاب الحدود».
وكذلك الشأن في العفو، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ فقد وجب» (2).
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لصفوان لما تصدق بردائه على سارقه بعد رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فهلا قبل أن تأتيني به؟!» (3).
فإذا عفا المسروق منه عن السارق - قبل رفعه - سقط عنه الحد.
3 - الرجوع عن الإقرار (4):
اتفق جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة على أن السارق إذا رجع عن إقراره (اعترافه) قبل القطع، سقط عنه الحد، لأن الرجوع عن الإقرار يورث شبهة.
وذهب بعض الفقهاء إلى أن رجوع السارق في إقراره لا يقبل منه، ولا يسقط عنه الحد، لأنه لو أقر لآدمي بقصاص أو بحق لم يُقبل رجوعه عنه، فكذلك الحكم إذا أقر بالسرقة.
4 - هل يسقط الحدُّ بتوبة السارق؟
اتفق الفقهاء على أن التوبة النصوح، أي: الندم الذي يورث عزمًا على إرادة الترك تسقط عذاب الآخرة عن السارق، واتفقوا على أنه إذا تاب بعد القدرة عليه وقيام البينة عليه ورفعه للحاكم، لم يسقط عنه الحد.
_________
(1) «المبسوط» (7/ 111)، و «تفسير القرطبي» (5/ 295)، و «تكملة المجموع» (18/ 333)، و «المغني» (10/ 294 - مع الشرح الكبير)، و «نيل الأوطار» (7).
(2) حسن: أخرجه أبو داود (4376)، والنسائي (8/ 70) وغيرهما وله شواهد.
(3) صحيح: تقدم قريبًا.
(4) «ابن عابدين» (3/ 290)، و «الدسوقي» (4/ 345)، و «نهاية المحتاج» (7/ 441)، و «كشاف القناع» (6/ 117)، و «المغني» (10/ 293).

(4/135)


ثم اختلفوا فيما إذا تاب قبل القدرة عليه ورفعه إلى الحاكم على قولين، تقدم بسطهما في مقدمة «كتاب الحدود» ورجحنا هناك أن التوبة تسقط الحدَّ عمومًا، ومما يدل على ذلك في حدِّ السرقة قوله تعالى - عقب ذكر عقوبة السارق: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} (1). وهو يدل على أن التائب لا يقام عليه الحد، إذ لو أقيم عليه الحد بعد التوبة لما كان لذكرها فائدة.
وهذا مهب الشافعية - في أصح القولين - والحنابلة في رواية (2).
لكن تبقى مسألة وهي:
هل من شرط التوبة ضمان المسروق وردُّه لصاحبه؟ (3)
1 - إن كانت العين المسروقة موجودة: فأجمعوا على أن من شرط صحة توبته: أداؤها إلى صاحبها، سواء كان السارق موسرًا أو معسرًا، وسواء أقيم عليه الحد أو لم يقم، وسواء وُجد المسروق عنده أو عند غيره.
2 - إن كانت العين المسروقة قد تلفت: فإن لم يُقم الحد على السارق لسبب يمنع القطع فيجب عليه رد قيمة المسروق بلا خلاف.
وإن كان أقيم عليه الحدُّ، اختلف العلماء في وجوب ضمان المسروق على
ثلاثة أقوال:
الأول: يلزمه الضمان لتمام توبته سواء كان موسرًا أو معسرًا: وهو مذهب الجمهور، منهم: الشافعي وأحمد وإسحاق والليث والنخعي والحسن والزهري وغيرهم، قالوا: لأن هذه العين تعلَّق بها حقان: حق لله، وحق لمالكها، وهما حقان لمستحقين متباينين فلا يبطل أحدهما الآخر، بل يستوفيان معًا، أن القطع حق لله، والضمان حق لمالكها.
وقد رُوي من طريق الحسن عن سمرة مرفوعًا: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» (4).
_________
(1) سورة المائدة: 39.
(2) «فتح القدير» (5/ 429)، و «الخرشي» (8/ 103)، و «قليوبي» (4/ 201)، و «المحلي» (11/ 129)، و «المغني» (8/ 281 - مكتبة القاهرة)، وانظر مبحث «أثر التوبة في الحدود».
(3) «المبسوط» (9/ 156)، «والبدائع» (7/ 84)، و «فتح القدير» (5/ 413)، و «بداية المجتهد» (2/ 442)، و «القوانين» (ص 361)، و «أسنى المطالب» (4/ 152)، و «قليوبي» (4/ 198)، و «المغني» (10/ 279)، و «كشاف القناع» (6/ 149).
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3561)، والترمذي (1266)، وابن ماجة (2400).

(4/136)


الثاني: لا يجب الضمان مطلقًا، ولا تتوقف صحة توبته عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول وغيرهم، وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} (1). قالوا: فسمى القطع جزاء، والجزاء يبنى على الكفاية، فلو ضم إليه الضمان لم يكن القطع كافيًا فلم يكن جزاءً، فعلم أن التضمين عقوبة زائدة على الجزاء فلا تُشرع.
وأجاب الجمهور بأن مجموع الجزاء - إن أريد به: مجموع العقوبة - فصحيح هو القطع، والقول بالتضمين لا دخل له في العقوبة، ولهذا يجب الضمان في حق غير الجاني: كمن أتلف مال غيره خطأ أو إكراهًا، ولهذا فإن سقوط الحد لا يسقط
الضمان لتفاوت الحقين - حق الله وحق العبد - بتفاوت جهتهما.
2 - حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه قضي في السارق إذا أقيم عليه الحد أنه لا غرم غليه» (2) ولذا قالوا: لا يجتمع حد وضمان، لأن الحكم بالضمان يجعل المسروق مملوكًا للسارق، مستندًا إلى وقت الأخذ فلا يجوز إقامة الحد عليه، لأنه لا يقطع أحد في ملك نفسه.
وأجاب الجمهور بأنه حديث ضعيف لا يحتج به.
الثالث: يلزمه الضمان إن كان موسرًا، وإلا لم يلزمه، وهو مذهب مالك وغيره من فقها المدينة واستحسنه ابن القيم.
قالوا: لئلا تجتمع على السارق - المعسر - عقوبتان: قطع يده، واتباع ذمته.
قال ابن القيم: وهذا استحسان حسن جدًّا، وما أقربه من محاسن الشرع، وأولاه بالقبول، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.
الراجح (3):
والذي يترجح لي هو ما ذهب إليه الجمهور من إيجاب الضمان على السارق مطلقًا وأنه من تمام توبته من غير فرق بين الموسر والمعسر، فإن كان موسرًا تعيَّن
_________
(1) سورة المائدة: 38.
(2) ضعيف: أخرجه النسائي (8/ 58)، والدارقطني، وقال النسائي عقبه: هذا مرسل، وليس بثابت. اهـ. وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي. اهـ. قلت: وعلته الانقطاع.
(3) مستفاد من ترجيح العلامة بكر أبي زيد، حفظه الله. انظر: «الحدود والتعزيرات» (ص: 427 - 428).

(4/137)


دفعه، وإن كان غير قادر فقد قال الله تعالى في حق غير القادرين: {وإن كان ذو
عسرة فنظرة إلى ميسرة} (1).
وأما رأي المالكية - الذي استحسنه ابن القيم - فهو مجرد استحسان.
والاستحسان هو «الحكم على مسألة بحكم يخالف نظائرها لدليل شرعي» ولم يذكروا دليلًا شرعيًّا يقضي بهذا الاستحسان، والله أعلم.
5 - هل يسقط الحدُّ بتملُّك السارق المسروق قبل الحكم؟ (2)
إذا تملَّك السارق المسروق قبل القضاء، بأن اشتراه أو وُهب له أو نحو ذلك، فإن القطع يسقط عنه عند الجمهور، لأن المطالبة شرط للحكم بالقطع، فإذا تملكه السارق قبل القضاء امتنعت المطالبة، وخالف المالكية - لعدم اشتراطهم المطالبة - فقالوا: لا يسقط الحد.
أما إذا حدث الملك بعد القضاء - وقبل القطع - فلا يسقط الحدُّ عند الجمهور - خلاف للحنفية - لأن ما حديث بعد وجوب الحدِّ لم يوجد شبهة في الوجوب، فلم يؤثر في الحد، ولو كان حدوث الملك - بعد القضاء - يسقط الحد، لما قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - سارق رداء صفوان بعدما تصدق به عليه، بل قال له - صلى الله عليه وسلم -: «فلا قبل أن تأتيني به» (3).
لا يسقط الحدُّ بالتقادُم (4):
ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وزفر - من الحنفية - إلى أن الحد لا يسقط بالتقادم، لأن الحكم لم يصدر إلا بعد أن ثبتت السرقة، فوجب تنفيذه مهما طال الزمن، ولا ينبغي أن يكون هروب الجاني أو تراخي التنفيذ من أسباب سقوط الحد، وإلا كان ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود الله.
بينما ذهب الحنفية - عدا زفر - إلى أن تقادم التنفيذ بعد القضاء يسقط القطع؛ لأن القضاء في باب الحدود - عندهم - إمضاؤها، فما لم تمض فكأنه لم يقض، ولأن التقادم في التنفيذ كالتقادم في الإثبات بالبينة (!!).
_________
(1) سورة البقرة: 280.
(2) «المبسوط» (9/ 187)، و «البدائع» (7/ 88)، و «شرح الزرقاني» (8/ 89)، و «المهذب» (2/ 264)، و «المغني» (10/ 277)، و «معالم السنن» (3/ 300).
(3) صحيح: تقدم مرارًا.
(4) «المبسوط» (9/ 176)، و «مغني المحتاج» (4/ 151)، و «المغني» (10/ 205).

(4/138)


قلت: وقول الجمهور هو الصواب، لأن الحدَّ إذا ثبت بيقين، فلا يسقط إلا بدليل.
(ب) العقوبات التعزيرية للسارق (1):
تجوز العقوبة بالتعزير على كل سرقة لم تكتمل أركانها، أو لم تستوف شروطها، لعدم وجوب الحد فيها، وعلى سرقة دُرئ الحدُّ فيها لوجود شبهة، فيترتب على السارق - بالتعزير- عقوبتان: عقوبة بدنية، بالضرب ونحوه نكالًا له، وعقوبة مالية: بتضعيف الغُرم للمسروق، وبهذا قضي النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسقط القطع عمن أخذ بفمه من الثمر المعلق وهو محتاج، وحكم على من خرم بشيء منه غرامة مثليه والعقوبة (أي: الضرب) وكذلك على من سرق من الثمر بعد أن يوضع في مخزنه - ولم يبلغ نصاب القطع - كما تقدم في حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده (2).
وكذلك تجوز العقوبة بالتعزير على السرقة التي سقط فيها القطع.
وتقدَّم ذِكر تعزير السارق في الثالثة أو الخامسة - على خلاف - ويكون بالحبس أو الضرب ونحوه، وهذه العقوبات يرجع في تقديرها إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان حسب المصلحة.

(5) حَدُّ الحِرَابَةِ
تعريف الحرابة (3):
الحرابة لغة: من الحرب التي هي نقيض السلم، يقال: حاربه محاربة، وحرابًا.
أو من الحَرَب - بفتح الراء -: وهو السلب، يقال: حرب فلانًا ماله، أي: سلبه، فهو محروب وحريب.
وفي الاصطلاح: تسمى «قطع الطريق» وهي: البروز لأخذ مال، أو لقتل، أو لإرعاب على سبيل المجاهرة مكابرة، اعتمادًا على القوة مع البعد عن المغوث.
_________
(1) «المغني» (10/ 271)، و «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 236)، و «معالم السنن» (3/ 313)، و «الحدود والتعزيرات (ص: 403).
(2) حديث حسن: تقدم تخريجه مرارًا.
(3) «تاج العروس»، و «لسان العرب»، و «بدائع الصنائع» (7/ 90)، و «المغني» (8/ 287).

(4/139)


حُكْمُها:
الحرابة من الكبائر، وهي من الحدود باتفاق الفقهاء، وسمي القرآن مرتكبيها محاربين لله ورسوله، وساعين في الأرض بالفساد، وغلظ عقوبتها أشد
التغليظ، فقال سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (1).
شروط تعتبر في المحارب:
اشترط الفقهاء في المحاربين - حتى يُحدُّوا حدَّ الحرابة - شروطًا لابد من توافرها، ولم يتفقوا عليها جميعًا، وإنما وقع في بعضها خلاف، فإليك هذه الشروط وطرفًا من المناقشات حولها:
1 - التكليف (2): ولا خلاف بين أهل العلم في اشتراط البلوغ والعقل في عقوبة الحرابة؛ لأنها شرط التكليف الذي هو شرط إقامة الحدود.
لكنهم اختلفوا في حدِّ من اشترك مع الصبي والمجنون في قطع طريق، فذهب الجمهور إلى أن الحد لا يسقط عنهم وعليه الحدُّ، وإنما الشبهة مختصة بواحد - الصبي أو المجنون - فلم يسقط عن الباقين.
وذهب الحنفية - إلا أبا يوسف - إلى أنه لو اشترك في قطع الطريق صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من أحد المارَّة سقط الحدُّ عن الجميع (!!) قالوا: لأنها جناية واحدة قامت بالكل، فإن لم يقع فعل بعضهم موجبًا الحد، كان فعل الباقين بعض العلة فلم يثبت به الحكم (!!).
قلت: وقول الجمهور أقوى، والله أعلم.
(2) الالتزام (3):
اشترط الجمهور في المحارب أن يكون ملتزمًا بأحكام الشريعة، بأن يكون مسلمًا، أو ذميًّا، أو مرتدًّا، فلا يُحدُّ عندهم الحربي، ولا المعاهد، ولا المستأمن.
_________
(1) سورة المائدة: 33.
(2) «البدائع» (7/ 91)، و «شرح الزرقاني» (8/ 109)، و «مغني المحتاج» (4/ 8، 21)، و «المغني» (8/ 268)، ط. الرياض.
(3) «ابن عابدين» (3/ 112)، و «المدونة» (6/ 268)، و «روضة الطالبين» (10/ 154)، و «كشاف القناع» (6/ 146)، و «المحلي» (11/ 305، 315)، و «فتح الباري» (12/ 112).

(4/140)


واستدلوا بقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} (1). وهؤلاء تقبل توبتهم قبل القدرة وبعدها، ولقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (2)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام يجب ما كان قبله» (3).
وأما الذمي فقد التزم أحكام الشريعة فله ما لنا وعليه ما علينا.
وذهب ابن حزم إلى أن المحارب إنما هو المسلم العاصي أو المسلم يرتد فيحارب فعليه أحكام المحارب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين، فليس للذمي - الذي نقض عهده - لأن له عقوبة في الشرع تختلف عن عقوبة المحارب.
وذهب طائفة من العلماء - منهم البخاري والحسن وعطاء والضحاك والزهري - إلى أن آية الحرابة نزلت في أهل الكفر والردَّة، وساق البخاري عقبها
حديث أنس في قصة العرنيين، وفيه «... فارتدوا، فقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل، فبعث - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا (4).
3 - الذكورة (5):
اشترط الحنفية في المحارب الذكورة، فلا تحدُّ - عندهم - المرأة وإن وليت القتال وأخذ المال، لأن ركن المحاربة - وهو الخروج والمغالبة - لا يتحقق من المرأة عادة فلا تكون من أهل الحرابة (!!).
وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يشترط في المحارب الذكورة، فلو اجتمع نسوة لهن قوة ومنعة فهن قاطعات طريق، ولا تأثير للأنوثة على الحرابة، ولأنها تحدُّ في السرقة ويلزمها القصاص كالرجل، فكذلك في قطع الطريق، ولا فرق.
قلت: وهذا هو الصحيح لعدم الدليل على اعتبار الذكورة والأصل أن «النساء شقائق الرجال» (6).
_________
(1) سورة المائدة: 34.
(2) سورة الأنفال: 38.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (121)، وأحمد (4/ 199).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (6802)، ومسلم (1671).
(5) «البدائع» (7/ 91)، و «شرح الزرقاني» (8/ 109)، و «روضة الطالبين» (10/ 155)، و «المغني» (9/ 298).
(6) حسن: أخرجه أبو داود (236)، والترمذي (113)، وأحمد (6/ 256 - 377) وسنده حسن لغيره.

(4/141)


4 - السلاح (1):
اشترط الحنفية والحنابلة - في المحارب- أن يكون معه سلاح، ولو الحجارة والعصى؛ لأنه أداة الإخافة، فإن تعرضوا للناس بشيء من ذلك فهم محاربون وإلا فلا.
وأما المالكية والشافعية وابن حزم فلم يشترطوا في المحارب حمل السلاح، بل يكفي عندهم القهر والغلبة وأخذ المال، ولو باللكز والضرب بجمع الكف.
قلت: ولعلَّ الأخير أظهر، وكأنه اختيار شيخ الإسلام إذ قال: «والصواب: أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع» اهـ.
5 - البعد عن العمران (2):
اشترط أبو حنيفة - وهو المذهب عند الحنابلة - في الحرابة: البعد عن العمران (في الصحراء مثلًا) فإن حصل منهم الإرعاب وأخذ المال في القرى والأمصار فليسوا محاربين، قالوا: لأن قطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولأن من في القرى والأمصار يلحقه الغوث غالبًا فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، وهو ليس يقاطع، ولا حدَّ عليه.
بينما ذهب الجمهور: منهم مالك والشافعي وأبو يوسف من الحنفية وكثير من أصحاب أحمد، وابن حزم - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - إلى أنه لا يشترط البعد عن العمران، بل يشترط فقد الغوث، ولفقد الغوث أسباب كثيرة لا تنحصر في البعد عن العمران.
فلو دخل قوم بيتًا وشهروا السلاح ومنعوا أهل البيت من الاستغاثة فهم قطاع طرق في حقهم.
واستدل الجمهور بعموم آية المحاربة، وبأن ذلك إذا وجد في العمران كان أعظم خوفًا وأكثر ضررًا، فكان أولى بحد الحرابة.
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 213) و «المدونة» (6/ 303)، و «روضة الطالبين» (10/ 156)، و «المغني» (8/ 288)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 196)، و «المحلي» (11/ 307).
(2) «ابن عابدين» (4/ 113)، و «القوانين» (311)، و «الدسوقي» (4/ 328 - مع الشرح الكبير)، و «نهاية المحتاج» (8/ 4)، و «روضة الطالبين» (10/ 155)، و «المغني» (8/ 287 - الرياض)، و «المحلي» (11/ 307)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 315، 316).

(4/142)


قال شيخ الإسلام: «وهذا هو الصواب، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء، لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه - غالبًا - إلا بعض ماله ...» اهـ.
قلت: وهذا القول مع موافقة عموم الآية الكريمة، ومقتضى معنى الحرابة المطلق، فإنه الأردع للمجترئين على ترويع الآمنين وسلبهم أموالهم في الميادين العامة على مرأى ومسمع من الناس والسلطان، ولا مغيث!! والله أعلم.
6 - المجاهرة (1):
اشتر ط جمهور الفقهاء في الحرابة أن يأخذ قطاع الطريق المال جهرًا، فإن أخذوه مختفين فهم سُرَّاق، وإن اختطفوا وهربوا، فهم منتهبون، ولا قطع عليهم.
وذهب مالك - وهو اختيار شيخ الإسلام - إلى أن قتل الغيلة، إذا كان على وجه التحيُّل والخديعة فهو من المحاربة، ومثاله: أن يدعو القاتل إلى منزله - مثلًا - من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك ثم يقتله ويأخذ ماله.
قال شيخ الإسلام: «وهذا أشبه بأصول الشريعة، لأن القتل بالحيلة كالقتل
مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد، لأنه لا يدرى به» اهـ.
حكم الردء للقُطَّاع (2):
الردء هو: المعين لقاطع الطريق بجاهه أو بتكثير السواد أو بتقديم أي عون لهم، ولم يباشر القطع بنفسه.
وقد اختلف أهل العلم في حكمه:
فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة - وهو اختيار شيخ الإسلام - إلى أن الردء المباشر في الحرابة سواء، لأنهم متمالئون، وقطع الطريق يحصل بالكل، ولأن من عادة القطاع أن يباشر البعض، ويدفع عنهم البعض الآخر، فلو لم يلحق الردء بالمباشر في سبب وجوب الحد لأدى ذلك إلى انفتاح باب قطع الطريق.
_________
(1) المراجع السابقة، و «المنتقي» للباجي (7/ 115 - 116).
(2) «البدائع» (7/ 91)، و «المبسوط» (9/ 198)، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «المهذب» (2/ 365)، و «المغني» (10/ 318 - مع الشرح)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 311).

(4/143)


قال ابن تيمية: وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، «فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل ربيئة المحاربين» والربيئة: هو الناظر، الذي يجلس في مكان عالٍ ينظر منه لهم من يجيء ... اهـ.
بينما ذهب الشافعي - رحمه الله - إلى أنه ليس على الردء إلا التعزير، لأن الحد يجب بارتكاب المعصية؛ فلا يتعلق بالمُعين، كسائر الحدود!! قلت: والأوَّل أرجح والله أعلم.
عقوبة المحاربين:
قال الله سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} (1).
هذه العقوبات على التخيير أم على التنويع؟ (2)
ثم اختلف أهل العلم في هذه العقوبات المذكورة في الآية الكريمة؛ أهي على التخيير أم على التنويع، على قولين:
القول الأول: أنها على التنويع، فتوزع العقوبات على حسب الجنايات، وهذا مذهب الجمهور، واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 - أن تفسير ابن عباس لهذه الآية يفيد أن المراد بـ «أو»: التنويع، فقال: «المعنى: أن يُقتلوا إن قتَلوا، أو يُصلَّبوا مع القتل إن قَتَلوا وأخذوا المال، أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال، أو يُنفَوا من الأرض إن أرعبوا ولم يأخذوا شيئًا ولم يًقتُلوا».
2 - قالوا: وتفسيره - رضي الله عنه - إما توقيفًا وإما لغةً، وأيهما كان فهو حجة، يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ.
وعُرْف القرآن: أن ما فيه التخيير يُبدأ فيه بالأخف، ككفارة اليمين، وما يراد به الترتيب يُبدأ فيه بالأغلظ ككفارة الظهار والقتل.
_________
(1) سورة المائدة: 33، 34.
(2) «البدائع» (7/ 93)، و «ابن عابدين» (3/ 213)، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «روضة الطالبين» (10/ 156)، و «نهاية المحتاج» (8/ 27)، و «المغني» (8/ 289)، و «الإنصاف» (10/ 292)، و «المحلي» (11/ 312).

(4/144)


3 - أن الجزاء على قدر الجناية، يزاد بزيادتها وينقص بنقصانها، بمقتضى العقل والشرع، قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} فالتخيير في جزاء الجنايات القاصرة بما يشمل جزاء الجناية الكاملة، وفي الجناية الكاملة بما يشمل جزاء الجناية القاصرة خلاف المعهود في الشرع.
على أنه قد أجمعت الأمة على أن القُطاع إذا قَتلوا وأخذوا المال، لا يكون جزاؤهم المعقول: النفي وحده!! فعُلم أنه لا يمكن إجراء الآية على ظاهر التخيير.
4 - أن التخيير الوارد بحرف التخيير إنما يجري على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدًا، كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد، أما إذا كان السبب مختلفًا فإنه يخرج التخيير عن ظاهره ويكون الغرض: بيان الحكم لكل واحد في نفسه، وقطع الطريق متنوع وبين أنواعه تفاوت في الجريمة، فكان سبب العقاب مختلفًا، فتحمل الآية على بيان حكم كل نوع.
5 - أنه إذا لم يقتل، فلا يحلُّ قتله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيِّبُ الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1).
ثم اختلف هؤلاء في كيفية هذا التنويع على ثلاثة أقوال:
1 - فقال الشافعي وأحمد والصاحبان من الحنفية، وإسحاق: من قَتَلَ وأخذ
المال؛ قُتِل وصُلِب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ مالًا؛ نفي من الأرض، والنفي في هذه الحالة - عند الشافعية - تعزير وليس حدًّا، فيجوز - عندهم - للإمام تركه، أو التعزير بغيره بحسب ما يراه من المصلحة.
2 - وقال أبو حنفية: إن أُخذ قبل قتل نفسٍ أو أخذ شيء؛ حُبس بعد التعزير حتى يتوب، وهو المراد بالنفي في الآية.
وإن أخذ مالًا معصومًا بمقدار النصاب؛ قُطعت يده ورجله من خلاف، وإن قتل معصومًا ولم يأخذ مالًا قُتل.
وأما إن قتل النفس وأخذ المال - وهو المحارب الخاص - فالإمام مُخيَّر في أمور
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود.

(4/145)


ثلاثة: إن شاء قطع يده ورجله من خلاف ثم قتله، وإن شاء قتله فقط، وإن شاء صلبه.
والصلب - عنده -: طعنُه وتركه حتى يموت، ولا يترك أكثر من ثلاثة أيام.
واعتُرض بأن الحدود إذا كان فيها قتل سقط ما دونه، كما لو سرق وزنى وهو محصن.
3 - وقال مالك: إن قتل فلابد أن يُقتل، إلا إن رأى الإمام أن في إبقائه مصلحة أعظم من قتله.
وليس له تخيير في قطعه ولا نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه، وإن أخذ المال ولم يقتل لا تخيير في نفيه وإنما التخيير ف قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف، وإن أخاف السبيل فقط فالإمام مخيَّر بين قتله وصلبه، أو قطعه، باعتبار المصلحة.
واعتُرض بأن مالكًا - رحمه الله - اعتبر جَلَد ورَايَ القاطع، ولم يعتبر الجناية، وهذا مخالف للأصول المعروفة من اختلاف العقوبات بحسب الجرائم.
قلت: ويمكن اعتبار مالك - رحمه الله - من القائلين بالتخيير بين العقوبات - إلا في القاتل - كأصحاب القول الآتي.
القول الثاني: أن هذه العقوبات على التخيير: فإذا خرجوا لقطع الطريق وقَدر عليهم الإمام، خُيِّر بين أن يجري عليهم أيًّا من الجزاءات الأربعة (القتل، والصلب، والقطع، والنفي) على ظاهر الآية.
وبهذا قال جماعة من السلف منهم سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبو ثور وداود وابن حزم، ويمكن أن يُضم إليهم الإمام مالك. واحتج هؤلاء بما يلي:
1 - قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: «ما كان في القرآن «أو» فصاحبه بالخيار» (1).
2 - أن الأصل في «أو» أنها تقتضي التخيير كما في آية كفارة اليمين.
وقد تقدم الردُّ على كلا الاستدلالين في ثنايا أدلة المذهب الأول.
قلت: والأرجح ما ذهب إليه الجمهور من كون العقوبات للتنويع بحسب الجرائم على نحو ما ذهب إليه الشافعي وأحمد.
_________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (6/ 139).

(4/146)


فوائد:
ويمكن أن نستخلص من أقوال العلماء الفوائد التالية:
1 - أن القاتل - في قطع الطريق - يُقتل بكل حال ولابُدَّ، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك.
2 - أنهم إذا قتلوا ولم يأخذوا المال، فإنهم يُقتلون من غير صلب.
وهل يغلب - فيمن قتل فقط- جانبُ الحد أم جانب القصاص؟ (1)
ذهب الحنفية والمالكية، وهو قول عند كل من الشافعية والحنابلة - وهو قول ابن حزم -: إلى أنه يغلب جانب الحد، فيقتل وإن قتل بمثقل، ولا يشترط التكافؤ بين القاتل والمقتول: فيقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، ولا عبرة بعفو مستحق القَوَد.
وقال الشافعية - في الراجح عندهم - والحنابلة في إحدى الروايتين عن أحمد: يغلب جانب القصاص؛ لأنه حق آدمي، وهو مبني على المضايقة، فيقتل قصاصًا أولًا، فإذا عفا مستحق القصاص عنه: يُقتل حدًّا، ويشترط التكافؤ بين القاتل والمقتول، لحديث: «لا يُقتل مسلم بكافر» (2).
3 - إذا جمعوا إلى القتل أَخْذَ المال - وهذا غالب حال القُطَّاع - فيُجمع لهم الصلبُ مع القتل عند الجمهور:
واختلفوا في وقت الصلب ومدَّته (3):
(أ) فقال الحنفية والمالكية: يُصلب حيًّا، ويُقتل مصلوبًا؛ لأن الصلب عقوبة، وإنما يعاقب الحي لا الميت، ويترك مصلوبًا - عند الحنفية - ثلاثة أيام بعد موته (!!)، وعند المالكية تحدَّد مدة الصلب باجتهاد الإمام.
(ب) وقال الشافعية - في المعتمد - والحنابلة: يصلب بعد القتل؛ لأن الله تعالى قدَّم القتل على الصلب لفظًا فيجب (!!) تقديم ما ذكر أولًا في الفعل، كقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} (4).
_________
(1) «ابن عابدين» (3/ 213)، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «روضة الطالبين» (10/ 160)، و «المغني» (8/ 290)، و «المحلي» (11/ 315).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (6915)، ومسلم.
(3) المصادر السابقة، و «نهاية المحتاج» (8/ 5 - 6)، و «المحلي» (11/ 315 - 318).
(4) سورة البقرة: 158.

(4/147)


قالوا: ولأن في صلبه حيًّا تعذيبًا له، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ...» (1).
وعلى هذا الرأي: يُقتل ثم يُغسَّل، ويكفن، ويُصلى عليه، ثم يصلب، ويترك مصلوبًا ثلاثة أيام بلياليهن.
وخالف ابن حزم فقال: لا يجمع عليه الصلبُ والقتل، إذ ليس فيما استدلَّ به المخالفون - من الفريقين - وجوبُ صلبه بعد القتل، ولا إباحة ذلك البتة.
ولأن الله إنما أوجب عليه حكمًا واحدًا وخزيًا واحدًا لا حكمين.
وكذلك لا يجوز قتله بعد الصلب لأمره - صلى الله عليه وسلم - بإحسان القتلة ولقوله: «لعن الله من اتخذ شيئًا فيه الروح عرضًا»، وغاية ما هنالك أن يخيَّر
الإمام بين قتله، أو صلبه دون قتل.
قال: فصحَّ يقينًا أن الواجب أن يخيَّر الإمام في صلبه - إن صلبه - حيًّا ثم يدعه حتى ييبس ويجف كله ... حتى إذا أنفذنا أمر الله تعالى فيه، وجب به ما افترضه الله تعالى للمسلم على المسلم من الغسل والتكفين والصلاة والدفن. اهـ.
ثم ردَّ على من اعترض بمثل أحاديث الأمر بإحسان القتلة وقال: أنتم تقتلونه أوحش قتلة وأقبحها! فقال - رحمه الله -: «فنقول: وما قتلناه أصلًا، بل صلبناه كما أمر الله تعالى، وما مات إلا حتف أنفه، وما يسمى هذا في اللغة مقتولًا ...» اهـ.
4 - إذا أخذوا المال، ولم يقتلوا؛ قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف: فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى على ما تقدم في قطع السارق.
وهل يشترط أن يبلغ المسروق نصابًا؟ فيه قولان (2):
فاشترط الجمهور - خلافًا لمالك - أن يبلغ المأخوذ نصابًا، لعموم الأدلة التي تفيد أنه لا قطع فيما دون النصاب، وقد تقدمت في «حد السرقة».
وذهب مالك إلى أنه لا يشترط؛ لأنه محارب لله ولرسوله، ساعٍ في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية، ولأنه لا يعتبر الحرز فكذلك النصاب.
_________
(1) صحيح.
(2) «فتح القدير» (5/ 179)، و «المهذب» (2/ 284)، و «جوهر الإكليل» (2/ 294)، و «كشاف القناع» (6/ 152).

(4/148)


5 - إذا أخافوا السبيل فقط، فلم يقتلوا أو يأخذوا مالًا: فإنهم يُنفون من
الأرض عند جمهور الفقهاء لقوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (1).
واختلفوا في معنى النفي (2)، فقال أبو حنيفة: نفيه حبسُه حتى تظهر توبته أو يموت، وقال مالك: النفي إبعاده عن بلده إلى مسافة البعد (يعني: مسافة الصفر فما زاد) وحبسه فيه.
وقال الشافعي: النفي: الحبس أو غيره، كالتغريب، كما في الزنا.
ومذهب أحمد أن النفي: أن يُشرَّدوا، فلا يُتركوا يستقرون في بلد، وهو مروي عن ابن عباس وبه قال النخعي وقتادة وعطاء.
قلت: الذي يتبادر من قوله (ينفوا) أن فيه طردًا وإبعادًا، وأما حبسه فإنما يكون حيث يرى الإمام أن في إطلاقه - في مكان نفيه - فسادًا أو شرًّا على الناس، واختار شيخ الإسلام أن النفي يكون بحسب ما يراه الإمام: إما بطرده بحيث لا يأوى في بلد، وإما بحبسه وقال: وهذا أعدل وأحسن. اهـ (3).
هل يُقتصُّ من المحارب للجروح؟ (4)
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن المحارب إذا جَرَح جرحًا فيه قود فاندمل لم يتحتم به قصاص، بل يتخيَّر المجروح بين القود والعفو على مال أو غيره؛ لأن التحتم تغليظ لحق الله، فاختص بالنفس كالكفارة، ولأن الشرع لم يرد بشرع الحد
في حق المحارب بالجراح، فبقي على أصله في غير الحرابة.
وفي قول عند الشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد: يتحتم فيه القصاص كالنفس لأن الجراح تابعة للقتل، فيثبت فيها مثل حكمه.
وعند الشافعية قول ثالث وهو: أنه يتحتم في اليدين والرجلين، لأنهما مما يستحقان في المحاربة دون غيرهما. قلت: والراجح أنه يتحتم القصاص لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين فعن أنس - رضي الله عنه - قال: «قدم رهط من عكَلٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا في
_________
(1) سورة المائدة: 33.
(2) «فتح القدير» (5/ 113)، و «ابن عابدين» (3/ 212)، و «الدسوقي» (4/ 349)، و «الجواهر» (2/ 294)، و «نهاية المحتاج» (8/ 5)، و «المغني» (8/ 294)، و «كشاف القناع» (6/ 153).
(3) «مجموع الفتاوى» (15/ 310).
(4) «البدائع» (7/ 95)، و «ابن عابدين» (3/ 213)، و «مغني المحتاج» (4/ 483)، و «المغني» (8/ 292).

(4/149)


الصفَّة، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أبغنا رسلًا، فقال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَتوا فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صحوُّا وسمنوا، وقتلوا الراعي واستاقوا الدَّود، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصَّريخُ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجل النهار حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرَّة يستسقون، فما سُقُوا حتى ماتوا» (1).
فقطعهم - صلى الله عليه وسلم - حدًّا للمحاربة، وسمل أعينهم قصاصًا وتركهم يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا لأنهم كذلك فعلوا بالرعاء:
فعن أنس - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سمر أعينهم، لأنهم سمروا أعينُ الرِّعاء» (2).
أما إذا سرى الجرح إلى النفس فمات المجروح: يتحتم القتل.
وذهب الحنفية إلى أن المحارب- إذا أقيم عليه الحد، فلا يقتص منه للجراحات؛ لأن الجناية فيما دون النفس يسلك بها مسلك الأموال، والأصل عندهم ألا يجمع بين الحدِّ والضمان!!
وهل يضمن المال المأخوذ؟ (3)
ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المحاربين إذا أخذوا مالًا وأقيم عليهم الحدُّ؛ ضمنوا المال مطلقًا، وعند الحنفية يضمنون إن كان المال قائمًا، وإلا فلا.
وعند الشافعية والحنابلة: يجب الضمان على الآخذ فقط، لا على من كان معه ولم يباشر الأخذ.
وقال المالكية: يعتبر كل واحد منهم ضامنًا للمال المأخوذ بفعله أو بفعل صاحبه، فمن قُدر عليه منهم أُخذ بجميع ما أخذ هو وأصحابه، فإن دفع أكثر مما أخذ فإنه يرجع على أصحابه.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6804)، ومسلم (1671).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1671)، والترمذي (73)، والنسائي (7/ 100).
(3) المراجع السابقة، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «أسهل المدارك» (3/ 157)، و «نهاية المحتاج» (8/ 8).

(4/150)


6 - حَدُّ الردَّة
تعريف الردة (1):
الردَّة لغة: الرجوع عن الشيء والتحول عنه.
وفي الاصطلاح: إتيان المسلم بما يقتضي كفره من قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو شك، إذا توفرت شرائطه.
قال الله تعالى: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (2).
شروط المرتد:
لا تقع الردَّةُ من المسلم - الذي أتى أحد أسباب الردَّة - إلا إذا توفر فيه خمسة شروط: شرطا التكليف، وشرط الاختيار، وإرادة الكفر، والعلم بالحال والحكم:
1 - البلوغ: فلا تعتبر ردَّة الصبي لأنه غير مكلف، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (3).
وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف، وهو رواية عن أبي حنيفة على مقتضى القياس، وقول لأحمد. وقال أبو حنيفة في الرواية الأخرى: يحكم بردَّة الصبي
استحسانًا (!!) وهو مذهب المالكية والمشهور عن أحمد، وهؤلاء قالوا: لا يقتل قبل بلوغه.
وقال الشافعي: لا يقتل حتى بعد بلوغه، قال: «لأن إيمانه لم يكن وهو بالغ، ويؤمر بالإيمان، ويجهد عليه بلا قتل» اهـ (4).
2 - العقل: فلا تقع الرِّدة من مجنون، للحديث المتقدم، ولذا اتفق الفقهاء على أنه لا صحة لإسلام المجنون ولا لردَّته، بل أحكام الإسلام تبقى سائرة عليه
_________
(1) «لسان العرب»، و «الخرشي» (8/ 62)، و «المغني» (8/ 540)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 434).
(2) سورة البقرة: 217.
(3) صحيح: تقدم تخريجه كثيرًا.
(4) «المبسوط» (10/ 122)، و «ابن عابدين» (4/ 257)، و «جواهر الإكليل» (1/ 21، 116)، و «الأم» (6/ 149)، و «الإنصاف» (10/ 320)، و «المغني» (8/ 551).

(4/151)


لكن إذا كان يجن ساعة ويفيق أخرى، فإن كانت ردته في إفاقته وقعت، وأن كانت في جنونه لا تقع (1).
ردَّة السكران (2):
تقدم أنه يشترط لوقوع الرِّدة من المسلم أن يكون عاقلًا، فلو فقد عقله بشرب مسكر، فاختلف أهل العلم في وقوع ردَّته حال سكره على قولين:
الأول: تقع ردته، وهو مذهب الشافعية وأظهر الروايتين عن أحمد، واحتجوا بأن الصحابة أقاموا حد القذف على السكران، وبأنه يقع طلاقه، قالوا: فتقع ردَّته، وبأنه مكلف وأن عقله لا يزول كليًّا، فهو أشبه بالناعس منه بالنائم أو المجنون.
الثاني: لا تقع ردة السكران: وهو مذهب الحنفية وقول عند الشافعية ورواية عن أحمد وهو قياس اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وشيخنا ابن عثيمين - رحمهم الله -.
وحجتهم أن الردَّة تبنى على الاعتقاد، والسكران غير معتقد لما يقول، ولأنه زائل العقل فلا تكليف عليه؛ لأن العقل شرط في التكليف وهو معدوم في حقه.
قلت: وهذا هو الأظهر، والله أعلم.
3 - الاختيار (3):
يشترط لوقوع الردَّة أن يكون المرتد مختارًا، وهو ضد الإكراه، وهو اسم لما يفعله المرء بغيره، فينتفي به رضاه، أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به أهليته أو يسقط عنه الخطاب.
والإكراه نوعان: نوع يوجب الإلجاء والاضطرار طبعًا، كالإكراه بالقتل أو القطع أو الضرب الذي يخاف فيه تلف النفس أو العضو، قلَّ الضرب أو كثر، وهذا النوع يسمى إكراهًا تامًّا.
_________
(1) «البدائع» (7/ 134)، و «الأم» (6/ 648)، و «الإقناع» (4/ 301).
(2) «المبسوط» (10/ 123)، و «البدائع» (7/ 134)، و «الأم» (6/ 148)، و «الإنصاف» (10/ 331)، و «المغني» (8/ 563)، و «كشاف القناع» (6/ 177)، و «الشرح الممتع» (11/ 285).
(3) «المبسوط» (24/ 38)، و «البدائع» (7/ 170 - 175)، و «الأم» (6/ 652)، و «فتح الجليل» (4/ 407).

(4/152)


ونوع لا يوجب الإلجاء والاضطرار، وهو الحبس أو القيد أو الضرب الذي لا يخاف منه التلف، وهذا النوع من الإكراه يسمى إكراهًا ناقصًا.
وقد اتفق أهل العلم على أن من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر، لم يصر كافرًا، لقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله} (1).
ولما نقل عن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - من أنه حمله المشركون على ما يكره، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «إن عادوا فَعُدْ» (2) وهذا في الإكراه التام.
وهل يشترط أن يفعله دفعًا للإكراه؟ قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: «الصحيح أنه لا يكفر ولو كان لم يطرأ على باله أنه يريد دفع الإكراه، لعموم قوله تعالى: {إلا من أكره} ولأن العامة خصوصًا لا يشعرون بهذا المعنى. اهـ.
4 - إرادة الكفر (3):
ولابد لوقوع الرِّدة أن يكون المرتد مريدًا للكفر، فلو جرى على لسانه من غير قصد، فإنه لا يكفر لأنه لم يُرده، لقوله تعالى: {ولكن كم شرح بالكفر صدرًا} (4) فغير المريد لم يشرح بالكفر صدرًا، كمن ينطق بالكفر لشدة فرح أو هرم أو ما أشبه ذلك، وهو لا يكفر.
ودليله ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الرجل الذي «انفلتت منه راحلته بأرض فلاة وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة
فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال - من شدة الفرح -: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» أخطأ من شدة الفرح» (5).
5 - العلم بالحال والحكم (6):
لابد لوقوع الردة أن يعلم المرتد أن هذا القول أو الفعل مكفِّر، فلو تكلم
_________
(1) سورة النحل: 106.
(2) مرسل: أخرجه الحاكم (2/ 389)، والبيهقي (8/ 208)، وأبو نعيم في «الحلية» طرق عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه مرسلًا، ولذا قال ابن حجر في «البداية» (2/ 197): إسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه. اهـ.
(3)، (2) «الشرح الممتع» (11/ 286 - 289) بتصرف يسير.
(4) سورة النحل: 106.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2747) وغيره.
(6) سورة النساء: 115.

(4/153)


عربي بكلمة كفر أعجمية، لقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (1).
فعلم أن من لم يتبين له الهدى شاق الرسول لا يستحق هذا الجزاء، فإذا ارتفع هذا الجزاء ارتفع سببه وهو الكفر.
وقال سبحانه: {وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} (2) وقال عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (3) فالجهل مسقط للحكم، وموجب لانتفاء الردَّة، وهذا لا ينفي أن يكون القول أو الفعل كفرًا لكن القائل أو الفاعل لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة.
ردَّة الهازل (4):
الهازل: هو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته، بل على وجه اللعب. ومن أتى هازلًا بما يوجب ردَّته، فهو مرتد وعقوبته القتل كما قرره غير واحد من أهل العلم.
1 - والأصل في هذا قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (5).
قال ابن العربي: «لا يخلو ما قالوه من ذلك جدَّا أو هزلًا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل» اهـ.
2 - ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (6).
فالهازل بما يوجب ردَّته مبدل لدينه، والهازل في حقوق الله غير معذور، فيكون بهزله بذلك مبدلًا لدينه، فيكون مرتدًا يجب قتله، والحديث بعمومه يتناول المبدل جادًّا والمبدل هازلًا، والله أعلم.
_________
(1) سورة التوبة: 115.
(2) سورة الإسراء: 15.
(3) «تفسير القرطبي» (8/ 107)، و «نهاية المحتاج» (7/ 394)، و «كشاف القناع» (6/ 168)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 439 - 442).
(4)
(5) سورة التوبة: 65، 66.
(6) صحيح: أخرجه البخاري، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجة.

(4/154)


ما تقع به الرِّدة:
تنقسم الأمور التي تحصل بها الردة إلى أربعة أقسام: ردة في الاعتقاد، ردة في الأقوال، ردة في الأفعال، ردة في الترك.
إلا أن هذه الأقسام تتداخل، فمن اعتقد شيئًا عبَّر عنه بقول أو فعل أو ترك.
(أ) مما يوجب الردة من الاعتقاد:
1 - اتفق العلماء على أن من أشرك بالله تعالى، أو جحده، أو نفى صفة ثابتة من صفاته، أو أثبت لله الولد فهو مرتد كافر (1).
2 - وكذلك من قال بقدم العالم أو بقائه، أو شك في ذلك، ودليلهم قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} (2).
قال ابن دقيق العيد: «... لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة، فيكفر بسبب مخالفته النقل المتواتر ...» اهـ (3).
3 - ويكفر من جحد القرآن كله أو بعضه ولو كلمة، وقال بعضهم: بل يحصل الكفر بجحد حرف واحد، كما يحصل الكفر باعتقاد تناقضه واختلافه، أو الشك بإعجازه، والقدرة على مثله، أو إسقاط حرمته أو الزيادة فيه (4).
فائدة: أما تفسير القرآن وتأويله، فلا يكفر جاحده ولا رادُّه، لأنه أمر اجتهادي من فعل البشر (5):
4 - ويعتبر مرتدًّا كذلك من اعتقد كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض ما جاء به، ومن اعتقد حِلَّ شيء مجمع على تحريمه، كالزنا وشرب الخمر، أو أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة (6).
_________
(1) «الموسوعة الفقهية» (22/ 183) وما بعدها.
(2) سورة القصص: 88.
(3) «ابن عابدين» (4/ 223)، و «الدسوقي» (4/ 302)، و «الإنصاف» (10/ 326)، و «المغني» (8/ 565).
(4) «العدة» (4/ 300).
(5) «ابن عابدين» (4/ 222 - 230)، و «الإقناع» (4/ 297)، و «المغني» (8/ 548).
(6) المراجع السابقة.

(4/155)


(ب) مما يوجب الردَّة من الأقوال:
1 - سبَّ الله تعالى:
اتفق الفقهاء على أن من سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحًا أو جادًا، أو مستهزئًا (1).
وقد قال تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (2).
2 - سب الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
من سبَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مرتد بلا خلاف، ويعتبر سابًّا له - صلى الله عليه وسلم - كل من ألحق به عيبًا أو نقصًا في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو ازدراه، أو عرَّض به، أو لعنه، أو شتمه، أو عابه، أو قذفه، أو استخف به، ونحو ذلك (3).
فعن عليٍّ - رضي الله عنه -: «أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه
وسلم - وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمها» (4).
وعن علي بن المديني، قال: دخلت على أمير المؤمنين فقال: أتعرف حديثًا مسندًا فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقتل؟ قلت: نعم، فذكرت له حديث عبد الرزاق عن معمر بن سماك بن الفضل بن عروة بن محمد عن رجل من بلقين، قال: «كان رجل يشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يكفيني عدوًّا لي؟» فقال خالد بن الوليد: أنا، فبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فقتله».
فقال له أمير المؤمنين: ليس هذا مسندًا، هو عن رجل (!!) فقلت يا أمير المؤمنين بهذا يعرف هذا الرجل وهو اسمه، وقد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعه، وهو مشهور معروف، قال: فأمر لي بألف دينار (5).
_________
(1) «المغني» (8/ 565)، و «الخرشي» (8/ 74)، و «الصارم المسلول» (ص 550)، و «نيل الأوطار» (8/ 194).
(2) سورة التوبة: 65، 66.
(3) «ابن عابدين» (4/ 232 - 237)، و «الصارم المسلول» (ص 550)، و «زاد المعاد» (3/ 214).
(4) حسن: أخرجه أبو داود (4362) وغيره.
(5) أخرجه عبد الرزاق (9705)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 413) من طريق علي بن المديني عن عبد الرزاق به، ثم قال: هذا حديث مسند صحيح وقد رواه علي بن المديني عن عبد الرزاق كما ذكره، وهذا رجل من الصحابة معروف اسمه الذي سماه به أهله: رجل من بلقين ... اهـ.

(4/156)


3 - سب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام:
من سبَّ نبيًّا ممن اتفق على نبوتهم، فكأنما سبَّ نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وسابُّه كافر، فكذا كل نبي مقطوع بنبوته، وعلى هذا اتفق الفقهاء.
وإن كان نبيَّا غير مقطوع بنبوته، فمن سبَّه زجر، وأُدِّب ونُكِّل به، لكن لا
يقتل، وبهذا صرَّح الحنفية (1).
4 - قذف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -:
من قذف عائشة - رضي الله عنها - فهو كافر مرتدٌّ، حكي الإجماع على ذلك جماعة من أهل العلم، والحجة في هذا أن براءتها قد نزلت في كتاب الله تعالى، فيكون قاذفها مكذبًا لصريح القرآن الذي نزل بحقها في قصة الإفك إذ قال تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا إن كنتم مؤمنين} (2).
فمن عاد لذلك فليس بمؤمن (3).
وهل سائر الزوجات مثلها؟ (4)
ذهب الحنفية والحنابلة - في الصحيح - واختاره شيخ الإسلام، إلى أنهن مثلها في ذلك لقوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} (5) ولأن الطعن بهن يلزم منه الطعن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والعار عليه، وذلك ممنوع.
وذهب الشافعية - وهو الرواية الأخرى عند الحنابلة - إلى أنهن - سوى
عائشة - كسائر الصحابة، وسابهن يجلد؛ لأنه قاذف.
قلت: لعل هذا الأخير أظهر، والعلم عند الله.
_________
(1) المراجع السابقة، و «القليوبي» (4/ 175).
(2) سورة النور: 17.
(3) «المحلي» (11/ 506)، و «ابن عابدين» (4/ 237)، و «الإقناع» (4/ 299)، و «الخرشي» (8/ 74)، و «الصارم المسلول» (ص 571)، و «زاد المعاد» (1/ 26)، و «كشاف القناع» (6/ 172).
(4) المراجع السابقة و «أسنى المطالب» (4/ 117).
(5) سورة النور: 26.

(4/157)


حكم من قال لمسلم: «يا كافر»:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه» (1).
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه» (2).
قيل: معناه: فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير، لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا، فكأنه كفَّر نفسه، إما لأنه كفَّر من هو مثله، أو لأنه كفَّر من لا يكفِّره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام، قاله النووي.
وقال المازري: قوله (وإلا رجعت عليه) يحتمل أن يكون إذا قالها مستحلًّا فيكفر باستحلاله.
قال النووي: وقيل معناه أن ذلك يأول به إلى الكفر، يعنى أنه يُخاف على المكثر من ذلك أن يكون عاقبة شؤمها الكفر والمصير إليه.
قال ابن عبد البر: والمعنى فيه عند أهل الفقه والأثر والجماعة: النهي عن تكفير المسلم. اهـ.
(جـ) مما يوجب الردَّة من الأفعال:
1 - إلقاء المصحف في محل قذر (3): فهذا يوجب الرِّدة باتفاق الفقهاء؛ لأن فعل ذلك استخفاف بكلام الله تعالى، فهو أمارة عدم التصديق.
وقال الشافعية والمالكية: وكذا إلقاء بعضه، وكذا كل فعل يدل على الاستخفاف بالقرآن الكريم.
2 - السجود لصنم ونحوه، أو السجود للشمس والقمر، فهو كفر بالاتفاق (4).
3 - السحر (5):
قال الله تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له.
(2) صحيح: أخرجه مسلم.
(3) «ابن عابدين» (4/ 222)، و «الخرشي» (8/ 62)، و «كفاية الأخيار» (2/ 201)، و «منار السبيل» (2/ 404).
(4) المراجع السابقة، و «القليوبي» (4/ 1674)، و «الإنصاف» (10/ 326).
(5) «فتح الباري» (10/ 235)، و «تفسير القرطبي»، و «نيل الأوطار» (7/ 209)، وانظر «ابن عابدين» (3/ 295)، و «الدسوقي» (4/ 302)، و «روض المطالب» (4/ 117)، و «الإنصاف» (10/ 349).

(4/158)


على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} (1).
وقد ثنَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسحر الشركَ في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر، وقتل النفس
التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (2).
وقد استُدل بهذه الآية على أن السحر كفر مطلقًا، ومتعلمه كافر يُقتل ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق، وبهذا قال مالك وأحمد وجماعة من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبو موسى وقيس بن سعد.
وقد روُي من حديث جندب مرفوعًا: «حدُّ الساحر ضربة بالسيف» (3) ولا يصح مرفوعًا.
ومما ثبت في قتل الساحر:
1 - أثر عمرو بن دينار قال: سمعت بجالة يحدث أبا الشعثاء وعمرو بن أوس عند صفة زمزم في إمارة مصعب بن الزبير قال: كنت كاتبًا لجزء عم الأحنف بن قيس، فأتانا كتاب عمر قبل موته بسنة: «اقتلوا كل ساحر، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزمة» فقتلنا ثلاث سواحر (4).
2 - وعن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها، واعترفت بذلك، فأمرت بها عبد الرحمن بن زيد فقتلها، فأنكر ذلك عليها عثمان، فقال ابن عمر: «وما تنكر على أم المؤمنين من امرأة سحرت واعترفت؟» فسكت عثمان (5).
3 - وعن أبي عثمان النهدي عن جندب أنه قتل ساحرًا كان عند الوليد بن
عقبة، ثم قال: «أتأتون السحر وأنتم تبصرون» (6).
وأما جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية، والحنابلة فذهبوا إلى أن السحر
_________
(1) سورة البقرة: 102.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
(3) ضعيف: أخرجه الترمذي (1460)، والدارقطني (3/ 114).
(4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/ 180).
(5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 180)، والبيهقي (8/ 136).
(6) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (8/ 136) في «السنن الكبرى».

(4/159)


من كبائر الذنوب وهو من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرًا ومنه ما لا يكون كفرًا بل معصية كبيرة فإن كان فيه قول أو نص يقتضي الكفر فهر كفر وإلا فلا، وأما تعلمه أو تعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر.
وقال القرطبي - رحمه الله -: وقال بعض العلماء: إن قال أهل الصناعة إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار أو تعظيم الشيطان، فالسحر إذًا دالٌّ على الكفر على هذا التقدير، والله أعلم. اهـ.
4 - كل فعل صريح في الاستهزاء بالإسلام، فهو كفر كذلك. بهذا قال الحنفية لقوله تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (1) (2).
(د) مما يوجب الردة من الترك:
1 - ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج جحودًا لها: لأنها من المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة فمن ترك شيئًا من ذلك جاحدًا له فإنه يكون مرتدًّا بلا خلاف (3).
2 - ترك الصلاة ولو من غير جحود: ردَّة كذلك في أصح قولي العلماء، وقد تقدم تحرير هذا في أوائل «كتاب الصلاة» وهذا مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وأحد الوجهين من مذهب الشافعية، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه، وحكاه ابن حزم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة (4).
ثبوت الرِّدة:
تثبت الردة بأحد أمرين:
1 - الإقرار.
2 - الشهادة.
_________
(1) سورة التوبة: 65، 66.
(2) «حاشية ابن عابدين» (4/ 222).
(3) «ابن عابدين» (1/ 352)، و «المغني» (8/ 547)، و «الإنصاف» (1/ 401).
(4) «كتاب الصلاة» لابن القيم (ص 42)، و «القليوبي» (1/ 319)، و «المغني» (8/ 444).

(4/160)


ويشترط في الشهادة على الردة أن تكون من شاهدين عدلين في قول أكثر أهل العلم، وخالف الحسن فاشترط شهادة أربعة، قال: لأنها شهادة بما يوجب القتل، فلم يُقبل فيها إلا أربعة قياسًا على الزنا (!!).
وفيه نظر، لأنه قياس لا يصح، إذ ليست العلة في اشتراط الأربعة في الزنا هي القتل، بدليل أنه يعتبر في زنا البكر كذلك الأربعة في الشهادة، ولا قتل فيه.
ويجب التفصيل في الشهادة على الردة بأن يبين الشهود وجه كفره، نظرًا للخلاف في موجباته، وحفاظًا على الأرواح (1).
وإذا أنكر المرتد؟
إذا أنكر المرتد ما شهد به عليه اعتبر إنكاره توبة ورجوعًا عند الحنفية، فيمتنع القتل في حقه.
وأما الجمهور فقالوا: يحكم عليه بالشهادة ولا ينفعه إنكاره، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلمًا (2).
استتابة المرتد:
اختلف أهل العلم في حكم استتابة المرتد بعد ثبوت الردة عليه، على خمسة أقوال:
الأول: يجب استتابته مطلقًا، سواء كان مسلمًا أصليًّا ثم ارتد، أو كان كافرًا ثم أسلم ثم ارتد، وهذا مذهب مالك والرواية المشهورة في مذهب أحمد، وهو رواية عن أبي حنيفة وقول للشافعي، وبه قال عطاء والنخعي والثوري والأوزاعي وإسحاق (3) واحتجوا بما يلي:
1 - حديث جابر «أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت» (4) وهو حديث ضعيف.
2 - أثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه: قدم عليه رجل من قبل أبي موسى، فسأله
_________
(1) «المغني» (8/ 557)، و «الخرشي» (8/ 64).
(2) «ابن عابدين» (4/ 216)، و «مغني المحتاج» (4/ 138)، و «المغني» (8/ 140).
(3) «البدائع» (7/ 134)، و «جواهر الإكليل» (2/ 272)، و «الأم» (6/ 148)، و «المغني» (9/ 4).
(4) ضعيف: أخرجه الدارقطني (238)، وعنه البيهقي (8/ 203)، وانظر «الإرواء» (2472).

(4/161)


عن الناس فأخبره، ثم قال: «هل من مُغربة خَبر؟» قال: نعم، كفر
رجل بعد إسلامه، قال: «فما فعلتم به؟» قال: قرَّبناه فضربنا عنقه، فقال عمر: «هلا حبستموه ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه، لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني» (1).
قالوا: فلو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم.
3 - واستدلوا بفعل بعض الصحابة في استتابتهم للمرتدين كما سيأتي في أدلة الأقوال الأخرى.
4 - وأولوا الأمر بقتل المرتد بأن المراد: بعد أن يستتاب.
الثاني: لا تجب استتابة المرتد، وإنما تستحب (2)، وهو قول ثانٍ للشافعي ورواية عن أحمد وأبي حنيفة، وبه قال الحسن وطاووس، واحتجوا بما يلي:
1 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (3) ولم يذكر استتابة.
2 - قصة تولية أبي موسى الأشعري وفيها: «ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًّا فأسلم ثم تهوَّد، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله
ورسوله (ثلاث مرات) فأمر به فقُتل» (4).
ولم يذكر استتابته.
3 - عمل الصحابة - رضي الله عنهم - على استتابة المرتد، ومما ثبت عنهم:
(أ) أثر أنس قال: لما افتتحنا تستر، بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال: «ما فعل البكريون؟ جهيمة وأصحابه»، قلت: يا أمير المؤمنين ما فعلوا: أنهم فتلوا ولحقوا بالمشركين وارتدوا عن الإسلام، وقاتلوا مع المشركين حتى قتلوا.
قال: فقال: «لأن أكون أخذتهم سلمًا كان أحب إليَّ مما على وجه الأرض من
_________
(1) إسناده لين: أخرجه مالك في الموطأ (1412 - رواية يحيى)، وعنه الشافعي كما في مسنده (286)، والطحاوي (2/ 120)، والبيهقي (8/ 206)، وفي سنده لين، وقد صح نحوه كما سيأتي لكن ليس فيه تبري عمر من فعلهم!!
(2) انظر المراجع السابقة.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6922) وغيره، وقد تقدم.
(4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (2230) وغيرهما.

(4/162)


صفراء أو بيضاء»، فقلت: وما كان سبيلهم لو أخذتهم؟ قال: «كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه، فإن أبوا استودعتهم السجن» (1).
(ب) أثر ابن مسعود أنه: أخذ قومًا ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فكتب إليه أن: «اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوا فخلِّ عنهم، وإن لم يقبلوا فاقتلهم» فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله» (2).
(جـ) وعن أبي بردة في قصة رجل ارتد عن الإسلام قال: «فأُتي أبو موسى برجل قد ارتد عن الإسلام، فدعاه عشرين ليلة أو قريبًا منها، فجاء معاذ فدعاه
فأبى فضرب عنقه» (3).
(د) وعن قابوس بن مخارق أن محمد بن أبي بكر كتب إلى عليٍّ يسأله عن مسلمين تزندقا ... ؟ فكتب إليه عليٌّ: «أما الذين تزندقا، فإن تابا، وإلا فاضرب عنقهما ...» (4).
4 - قالوا: ولأنه يقتل لكفره، فلم تجب استتابته كالأصلي.
5 - قالوا: ولأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن، ولو حرم قتله قبلها لضمن.
الثالث: لا تجب الاستتابة ولا تمنع، وهو مذهب أبي محمد بن حزم وأصحابه (5)، وحجتهم عدم الدليل على وجوب الاستتابة، مع كونها من فعل الخير والدعاء إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد قال سبحانه: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} (6)، وقال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (7).
هذا مع فعل الصحابة الذي تقدم ذكره.
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه الخلال في «أحكام أهل الملل» (1212).
(2) إسناده صحيح: أخرجه الخلال في «أحكام أهل الملل» (1213).
(3) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود، ومن طريقه البيهقي (8/ 206).
(4) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (7/ 342).
(5) «المحلي» لابن حزم (11/ 190 - 193).
(6) سورة الحج: 77.
(7) سورة النحل: 125.

(4/163)


الرابع: تجب الاستتابة لمن كان كافرًا فأسلم ثم ارتد، دون من كان مسلمًا أصليًّا، وهذا قول عطاء، وهو مروي عن ابن عباس، قالوا: وإنما تشرع الاستتابة
لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة، فأما من خرج عن بصيرة فلا.
الخامس: لا يستتاب، بل يؤمر بالرجوع إلى الإسلام والسيف على عنقه، فإن أبى ضرب عنقه، وبه قال طائفة من العلماء منهم الإمام الشوكاني - رحمه الله - (1) وعزا الشوكاني القول بوجوب قتله في الحال إلى الحسن (!!) وطاووس وأهل الظاهر (!!!) ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن عمير، وعليه يدل تصرف البخاري في «الصحيح» وذكر شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - أنه رواية عن أحمد.
الراجح:
الذي يظهر لي - والعلم عند الله - أن النص المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يدل على وجوب قتل المرتد، فهذا هو الأصل، لكن إن رأى الإمام في إمهاله واستتابته مصلحة فله ذلك، لفعل الصحابة الأخيار - رضي الله عنهم -، ولعموم قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (2).
فائدة: اختلف القائلون بالاستتابة: هل يكتفي بالمرة أم لابد من ثلاث؟ وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام؟ ونقل عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه يستتاب شهرًا، واستتاب أبو موسى عشرين يومًا كما تقدم، وعن النخعي: يستتاب أبدًا (!!).
قلت: المردُّ للمصلحة التي يراها الإمام، والله أعلم.
كيفية توبة المرتد (3):
إذا نطق المرتد الشهادتين صحت توبته عند الحنفية والشافعية والحنابلة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» (4).
وحيث إن الشهادة يثبت بها إسلام الكافر الأصلي فكذا المرتد، فإذا ادعى المرتد الإسلام ورفض النطق بالشهادتين، لا تصح توبته.
_________
(1) «السيل الجرار» (4/ 352)، و «نيل الأوطار» (7/ 230) ط. دار الحديث.
(2) سورة التوبة: 5.
(3) «ابن عابدين» (4/ 246)، و «أسنى المطالب» (4/ 124)، و «الإنصاف» (10/ 335 - 336).
(4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

(4/164)


قلت: وينبغي أن يتنبه إلى أن المرتد إن كان كفره لإنكار شيء آخر، كمن خصص رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالعرب، أو جحد فرضًا أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة ونحو ذلك من البدع المكفرة التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، فإنه لا يحكم بإسلامه بمجرد الشهادتين، بل يلزمه مع الشهادتين الإقرار بما أنكر ويتوب مما كان سببًا في الحكم عليه بالردة، وبهذا قال الشافعية والحنابلة.
وأما قول الحنفية: إن توبة المرتد أن يتبرأ عن الأديان سوى الإسلام أو عما انتقل إليه بعد نطقه بالشهادتين (!!) فهذا كلام مجمل لا يكفي في حقيقة التوبة لأنه قد يعتقد أن ما هو عليه هو الإسلام، وما أكثر الذين يدَّعون أنهم مسلمون وهم متلبسون بالكفر، والله أعلم.
توبة الزنديق ومن تكررت ردته:
اختلف الفقهاء في قبول توبة المرتد وعدم قبولها (1) إذا كان زنديقًا، وهو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وتوبة من تكررت ردَّته، على قولين (2):
الأول: تقبل توبته كأي مرتد، وهو مذهب الحنفية والشافعية وإحدى الروايتين في مذهب أحمد واختارها ابن قدامة، وهو مروي عن عليٍّ وابن مسعود - رضي الله عنهما -، واحتجوا بما يلي:
1 - قول الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (3).
2 - وقوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين} (4).
3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا لله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (5).
_________
(1) المراد بعدم قبول التوبة هنا: عدم قبولها في الظاهر بمعنى أنه لا يدرأ عنه القتل، وأما الباطن فباب التوبة مفتوح لكل من أراد كما تضافرت بذاك الأدلة.
(2) «ابن عابدين» (4/ 225)، و «فتح القدير» (5/ 309)، و «جواهر الإكليل» (2/ 279)، و «المجموع» (19/ 232)، و «أسنى المطالب» (4/ 122)، و «الأم» (6/ 147)، و «المغني» (8/ 543)، و «الإنصاف» (10/ 332).
(3) سورة الأنفال: 38.
(4) سورة النساء: 145، 146.
(5) صحيح: أخرجه البخاري.

(4/165)


4 - ما رُوي أن رجلًا سارًّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل رجل
من المسلمين - وفي رواية: من المنافقين - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: بلى، ولا شهادة له، قال: «أليس يصلي؟» قال: بلى ولا صلاة له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم».
5 - قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفَّ عن النافقين بما أظهروا من الشهادة مع إخبار الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بهم، وإخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بجماعة منهم، وكانت لهم بالمدينة قوة وشوكة.
فائدة: صرَّح الحنفية بأن توبته تقبل، لكنه يُعذب في كل مرة ويحبس.
القول الثاني: لا تقبل توبته، وهذا مذهب مالك والرواية الثانية عن أبي حنيفة وأحمد، وبه قال الليث وإسحاق، وحجتهم:
1 - قول الله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} (1).
فانتفت عنهم المغفرة والهداية لانتفاء توبتهم، ولو قبل توبتهم لغفر لهم.
وأجيب ... بأن الآية الكريمة ليس في آخرها أنهم تابوا، بل هم قد ازدادوا كفرًا فلم يوفقهم الله تعالى للتوبة، وليس المعنى: إذا تابوا لم يتب عليهم.
2 - ما روي عن ظبيان بن عمارة: أن رجلًا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة، فرجع إلى ابن مسعود، فذكر ذلك له، فبعث
إليهم؛ فأتى بهم، فاستتابهم، فتابوا، فخلَّى سبيلهم إلا رجلًا منهم يقال له «ابن النوَّاحة» قال: «قد أوتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت، وأراك عدت» فقتله (2).
3 - قالوا: ولأن تكرار الردَّة دليل على فساد العقيدة، وقلة المبالاة، والتلاعب بالدين (3).
وأجاب ابن قدامة بأن الأثر حجة في قبول توبتهم مع استمرارهم بالكفر، وأما قتله لابن النواحة فيحتمل أنه قتله لظهور كذبه في توبته، أو لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيها لما جاء رسولًا لمسيلمة: «لولا أنك رسول لضربت عنقك» (4).
_________
(1) سورة النساء: 137.
(2) أخرجه البيهقي (8/ 206).
(3) «منار السبيل» (2/ 409).
(4) أخرجه أبو داود (2762)، والبيهقي (8/ 26).

(4/166)


فقال ابن مسعود: «فأنت اليوم لست برسول» فأمر قرطة بن كعب فضرب عنقه في السوق. اهـ.
الترجيح: أقول: هاهنا أمران أحب التنبيه عليهما:
1 - تكرار الذنب لا يستلزم عدم صدق التوبة، فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عبدًا أصاب ذنبًا فقال: رب أذنبت ذنبًا، فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبًا ... [الحديث وفي آخره:] فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي [ثلاثًا] فليعمل ما شاء» (1).
2 - والأمر الآخر أنه ينبغي، التنبُّه والتحرِّي قبل قبول توبة الزنديق ومن
تكررت ردَّته، ولذلك فالذي يظهر لي أن أمر قبولها وعدمه راجع إلى الحاكم، وقد جعل الله تعالى للمؤمنين على المنافقين سبيلًا بمعرفتهم في لحن القول، كما قال سبحانه: {ولتعرفنهم في لحن القول} (2).
وأما إطلاق القول بقبول توبتهما أو عدمه فلا أرى في أدلة الفريقين ما يقويه، إذ غالبها يتعلق بالتوبة في الباطن - فيما بينه وبين الله - وهذا ليس موضع النزاع كما رأيت.
وأما أثر ابن مسعود فهو مع كونه محتملًا - كما رأيت - فهو موافق لما رجَّحته، والله المستعان.
قتل المرتد:
إذا ارتد المسلم، وكان مستوفيًا شرائط الردَّة، أهدر دمه، وقتله الإمام أو نائبه بعد الاستتابة.
ودليل قتله كما تقدم حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (3).
وحديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (4).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758).
(2) سورة محمد: 30.
(3) صحيح: تقدم كثيرًا.
(4) صحيح: أخرجه البخاري.

(4/167)


فإذا قتل المرتد على ردَّته، فلا يُغسَّل، ولا يصلَّى عليه، ولا يدفن مع المسلمين.
وقتل المرتد إنما هو إلى الإمام حرًّا كان أو عبدًا، وعلى هذا عامة أهل العلم إلا الشافعي - رحمه الله - في أحد الوجهين في العبد، فإن لسيده قتله، وحجته حديث: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» (1).
وقتل حفصة - رضي الله عنها - لجارية سحرتها، ولأنه حق الله تعالى، فملك سيده إقامته على عبده كجلد الزاني.
وأجاب الجمهور بأن حديث: «أقيموا الحدود ...» لا يتناول القتل للردة، فإنه قتل لأجل الكفر وليس حدًّا.
قالوا: وأما خبر حفصة فإن عثمان تغيَّظ عليها وشق ذلك عليه!! [قلت: لكن راجعه ابن عمر فسكت كما تقدم].
قالوا: والجلد للزاني تأديب، وللسيد تأديب عبده، بخلاف القتل فإن قتله غير الإمام أساء ولا ضمان عليه.
قلت: قول الجمهور أحوط لما فيه من سدِّ ذريعة قتل السيد لعبده مع عدم استحقاقه، على أن المرتد لو قتله غير الإمام فهو مسيء يُعزَّر لإساءته وافتياته، لكن لا ضمان عليه، والله أعلم.
وهل تُقْتَلُ المرتدة كالرجل؟
إذا ارتدت المرأة المسلمة وكانت مستوفية لشرائط الردّة، فقد تنازع أهل
العلم في قتلها، على ثلاثة أقوال (2):
الأول: تقتل، لا فرق بينها وبين المرتد: وبهذا قال جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد، وهو مروي عن أبي بكر وعليٍّ - رضي الله عنهما -، وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد والليث والأوزاعي وإسحاق:
1 - لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه».
_________
(1) تقدم في أول «الحدود».
(2) «البدائع» (7/ 135)، و «جواهر الإكليل» (2/ 278)، و «الأم» (6/ 148)، و «المجموع» (19/ 225)، و «مغني المحتاج» (4/ 139)، و «المغني» (8/ 123 - ط الرياض)، و «الإنصاف» (10/ 328).

(4/168)


2 - وعموم قوله فيمن يحل دمه: «... والتارك لدينه المفارق للجماعة».
3 - ولما روي أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت» (1).
4 - ولأنها شخص مكلف بدَّل دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل.
الثاني: لا تقتل، بل تحبس وتضرب حتى تتوب أو تموت: وهذا مذهب أبي حنيفة، واحتج له:
1 - يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقتلوا امرأة» (2).
وأجيب: بأن هذا النهي إنما هو عن قتل المرأة الكافرة الأصلية التي لا تقاتل ولا تحرض على القتال، وقد نهى عنه عندما رأى امرأة مقتولة.
ثم إن المرأة لو شاركت في القتال فإنها تقتل، فعن رباح بن ربيع قال: كنت
مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء، فجاء فقال: على امرأة قتيل، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلًا فقال: «قل لخالد: لا يقتلن امرأة ولا عسيفًا» (3).
2 - قالوا: ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي (!!).
وأجيب ... بأن قياس المرأة على الصبي، قياس مع الفارق، فإن الصبي غير مكلف، وهي مكلفة.
القول الثالث: لا تقتل، وإنما تُسترق، وهو منسوب لعليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - (!!) والحسن وقتادة، وحجتهم:
«أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - استرق نساء بني حنيفة وذراريهم، وأعطى عليًّا منهم امرأة فولدت له محمد ابن الحنفية».
قالوا: وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعًا (!!).
وأجيب .. بأنه لم يثبت أن من استُرق من بني حنيفة تقدم له إسلام، ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم، وإنما أسلم بعضهم، وعلى كل حالٍ فقد اجتمعوا
_________
(1) ضعيف: تقدم قريبًا.
(2) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(3) أخرجه أبو داود، والحاكم (2/ 122).

(4/169)


على الردة وحرب المسلمين، ولهذا قوتلوا وعوملوا معاملة كفار محاربين، فمن وقع منهم في الأسر ورأى الإمام استرقاقه فله ذلك.
الراجح: لا شك أن مذهب الجمهور هنا هو الصواب وذلك لقول النبي -
صلى الله عليه وسلم -: «النساء شقائق الرجال» (1) وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بنص، ولا نص هنا والله أعلم.
جنايات المرتد:
الردة لترك الصلاة:
لا خلاف في أن من ترك الصلاة جاحدًا لها يكون مرتدًّا، وكذا الزكاة والصوم والحج، لأنها من المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة.
وأما تارك الصلاة كسلًا ففي حكمه ثلاثة أقوال:
أحدها: يقتل ردة، وهي رواية عن أحمد وقول سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبي عمرو، والأوزاعي، وأيوب السختياني، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وهو أحد الوجهين من مذهب الشافعي، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه، وحكاه أبو محمد بن حزم عن عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة.
والقول الثاني: يقتل حدًّا لا كفرًا، وهو قول مالك والشافعي، وهي رواية عن أحمد.
والقول الثالث: أن من ترك الصلاة كسلًا يكون فاسقًا ويحبس حتى يصلي، وهو المذهب عند الحنفية.
جنايات المرتد والجناية عليه:
جنايات المرتد على غيره لا تخلو: إما أن تكون عمدًا أو خطأ، وكل منها، إما أن تقع على مسلم، أو ذمي، أو مستأمن، أو مرتد مثله.
وهذه الجنايات إما أن تكون على النفس بالقتل، أو على ما دونها، كالقطع والجرح، أو على العرض كالزنا والقذف، أو على المال كالسرقة وقطع الطريق، وهذه الجنايات قد تقع في بلاد الإسلام، ثم يهرب المرتد إلى بلاد الحرب، أو لا يهرب، أو تقع في بلاد الحرب، ثم يتنقل المرتد إلى بلاد الإسلام.
_________
(1) حسن.

(4/170)


وقد تقع منه هذه كلها في إسلامه، أو ردته، وقد يستمر على ردته أو يعود مسلمًا، وقد تقع منه منفردًا، أو في جماعة، أو أهل بلد.
ومثل هذا يمكن أن يقال في الجناية على المرتد.
جناية المرتد على النفس:
إذا قتل مرتد مسلمًا عمدًا فعليه القصاص، اتفاقًا.
أما إذا قتل المرتد ذميًّا أو مستأمنًا عمدًا فيقتل به عند الحنفية والحنابلة وهو أظهر قولي الشافعي، لأنه أسوأ حالًا من الذمي، إذ المرتد مهدر الدم ولا تحل ذبيحته، ولا مناكحته، ولا يقر بالجزية.
ولا يقتل عند المالكية وهو القول الآخر للشافعي لبقاء علقة الإسلام، لأنه لا يقر على ردته.
وإذا قتل المرتد حرًّا مسلمًا أو ذميًّا خطأ وجبت الدية في ماله، ولا تكون على عاقلته عند الحنفية ولشافعية والحنابلة.
والدية يشترط لها عصمة الدم لا الإسلام عند الحنفية والشافعية والحنابلة؛
لأنه قد حل دمه وصار بمنزلة أهل الحرب.
وقال المالكية بأن الضمان على بيت المال لأن بيت المال يأخذ أرش الجناية عليه ممن جني فكما يأخذ ماله يغرم عنه. وهذا إن لم يتب. فإن تاب فقيل: في ماله، وقيل: على عاقلته، وقيل: على المسلمين، وقيل: على من ارتد إليهم.
جناية المرتد على ما دون النفس:
قال المالكية: لا فرق في جناية المرتد بين ما إذا كانت على النفس أو على ما دونها، ولا يقتل المرتد بالذمي، وإنما عليه الدية في ماله لزيادته على الذمي بالإسلام الحكمي.
وقال ابن قدامة: يقتل المرتد بالمسلم والذمي، وإن قطع طرفًا من أحدهما فعليه القصاص فيه أيضًا.
وقال بعض أصحا ب الشافعي: لا يقتل المرتد بالذمي ولا يقطع طرفه بطرفه، لأن أحكام الإسلام في حقه باقية بدليل وجوب العبادات عليه ومطالبته بالإسلام.
قال ابن قدامة: ولنا: أنه كافر فيقتل بالذمي كالأصلي.

(4/171)


وفي مغني المحتاج: الأظهر قتل المرتد بالذمي لاستوائهما في الكفر. بل المرتد أسوأ حالًا من الذمي لأنه مهدر الدم فأولى أن يقتل بالذمي.
زنى المرتد:
إذا زنى مرتد أو مرتدة وجب عليه الحد، فإن لم يكن محصنًا جلد. وإن كان محصنًا ففي زوال الإحصان بردته خلاف. أساسه الخلاف في شروط الإحصان،
هل من بينها الإسلام أن لا؟
قال الحنفية والمالكية: من ارتد بطل إحصانه، إلا أن يتوب أو يتزوج ثانية.
وقال الشافعة والحنابلة وأبو يوسف: إن الردة لا تؤثر في الإحصان، لأن الإسلام ليس من شروط الإحصان.
قذف المرتد غيره:
إذا قذف المرتد غيره، وجب عليه الحد بشروطه، إلا أن يحصل منه ذلك في دار الحرب، حيث لا سلطة للمسلمين، والقضية مبنية على شرائط القذف، وليس من بينها إسلام القاذف.
إتلاف المرتد المال:
إذا اعتدى مرتد على مال غيره - في بلاد الإسلام - فهو ضامن بلا خلاف. لأن الردة جناية، وهي لا تمنح صاحبها حق الاعتداء.
السرقة وقطع الطريق:
إذا سرق المرتد مالًا، أو قطع الطريق، فهو كغيره مؤاخذ بذلك، لأنه ليس من شرائط السرقة أو قطع الطريق الإسلام. لذا فالمسلم والمرتد في ذلك سواء.
مسئولية المرتد عن جناياته قبل الردة:
إذا جنى مسلم على غيره، ثم ارتد الجاني يكون مؤاخذًا بكل ما فعل سواء استمر على ردته أو تاب عنها.
الارتداد الجماعي:
المقصود بالارتداد الجماعي: هو أن تفارق الإسلام جماعة من أهله، أو أهل بلد. كما حدث على عهد الخليفة الراشد أبي بكر - رضي الله عنه -.
فإن حصل ذلك، فقد اتفق الفقهاء على وجوب قتالهم مستدلين بما فعله أبو بكر - رضي الله عنه - بأهل الردة.

(4/172)


ثم اختلفوا بمصير دارهم على قولين:
الأول للجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد من الحنفية): إذا أظهروا أحكام الشرك فيها، فقد صارت دارهم دار حرب؛ لأن البقعة إنما تنسب إلينا، أو إليهم باعتبار القوة والغلبة. فكل موضع ظهر فيه أحكام الشرك فهو دار حرب، وكل موضع كان الظاهر فيه أحكام الإسلام، فهو دار إسلام.
وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - إنما تصير دار المرتدين دار حرب بثلاث شرائط:
أولًا: أن تكون متاخمة أرض الشرك، ليس بينها وبين أرض الحرب دار للمسلمين.
ثانيًا: أن لا يبقى فيها مسلم آمن بإيمانه، ولا ذمي آمن بأمانه.
ثالثًا: أن يظهروا أحكام الشرك فيها.
فأبو حنيفة يعتبر تمام القهر والقوة، لأن هذه البلدة كانت من دار الإسلام، محرزة للمسلمين فلا يبطل ذلك الإحراز، إلا بتمام القهر من المشركين، وذلك باستجماع الشرائط الثلاث.
الجناية على المرتد:
اتفق الفقهاء على أنه إذا ارتد مسلم فقد أهدر دمه، لكن قتله للإمام أو نائبه، ومن قتله من المسلمين عزر فقط، لأنه افتات على حق الإمام؛ لأن إقامة الحد له.
وأما إذا قتله ذمي؛ فذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية في الأظهر) إلى أنه لا يقتص من الذمي.
وذهب الشافعية في القول الآخر إلى أنه يقتص من الذمي.
الجناية على المرتد فيما دون النفس:
اتفق الفقهاء على أن الجناية على المرتد هدر، لأنه لا عصمة له.
أما إذا وقعت الجناية على مسلم ثم ارتد فَسَرَتْ ومات منها، أو وقعت على مرتد ثم أسلم فَسَرَتْ ومات منها ففيها أقوال تنظر في باب «القصاص» من كتب الفقه.
قذف المرتد:
اتفق الفقهاء على عدم وجوب الحد على قاذف المرتد، لأن من شروط وجوب حد القذف: أن يكون المقذوف مسلمًا.

(4/173)


ثبوت الردة:
تثبت الردة بالإقرار أو بالشهادة.
وتثبت الردة عن طريق الشهادة، بشرطين:
(أ) شرط العدد:
اتفق الفقهاء على الاكتفاء بشاهدين في ثبوت الردة، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن، فإنه اشترط شهادة أربعة.
(ب) تفضيل الشهادة:
يجب التفصيل في الشهادة على الردة بأن يبين الشهود وجه كفره، نظرًا للخلاف في موجباتها، وحفاظًا على الأرواح.
وإذا ثبتت الردة بالإقرار وبالشهادة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وإن أنكر المرتد ما شهد به عليه اعتبر إنكاره توبة ورجوعًا عند الحنفية فيمتنع القتل في حقه، وعند الجمهور: يحكم عليه بالشهادة ولا ينفعه إنكاره، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلمًا.
استتابة المرتد:
حكمها:
ذهب أبو حنيفة والشافعي - في قول - وأحمد في رواية والحسن البصري إلى أن استتابة المرتد غير واجبة. بل مستحبة كما يستحب الإمهال، إن طلب المرتد ذلك، فيمهل ثلاثة أيام.
أموال المرتد وتصرفاته:
ذهب المالكية والحنابلة - غير أبي بكر - والشافعية في الأظهر، وأبو حنيفة إلى أن ملك المرتد لا يزول عن ماله بمجرد ردته، وإنما هو موقوف على مآله فإن مات أو قتل على الردة زال ملكه وصار فيئًا، وإن عاد إلى الإسلام عاد إليه ماله، لأن زوال العصمة لا يلزم عنه زوال الملك، ولاحتمال العود إلى الإسلام.
وبناء على ذلك يحجر عليه ويمنع من التصرف، ولو تصرف تكون تصرفاته موقوفة فإن أسلم جاز تصرفه، وإن قتل أو مات بطل تصرفه وهذا عند المالكية والحنابلة وأبي حنيفة.

(4/174)


وفصل الشافعية فقالوا: إن تصرف تصرفًا يقبل التعليق كالعتق والتدبير والوصية كان تصرفه موقوفًا إلى أن يتبين حاله، أما التصرفات التي تكون منجزة ولا تقبل التعليق كالبيع والهبة والرهن فهي باطلة بناء على بطلان وقف العقود، وهذا في الجديد، وفي القديم تكون موقوفة أيضًا كغيرها.
وقال أبو يوسف ومحمد وهو قول عند الشافعية: لا يزول ملكه بردته، لأن الملك كان ثابتًا له حالة الإسلام لوجود سبب الملك وأهليته وهي الحرية، والكفر لا ينافي الملك كالكافر الأصلي، وبناء على هذا تكون تصرفاته جائزة كما تجوز من المسلم حتى لو أعتق، أو دبر، أو كاتب، أو باع، أو اشترى، أو وهب نفذ ذلك كله، إلا أن أبا يوسف قال: يجوز تصرفه تصرف الصحيح، أما محمد فقال: يجوز تصرفه تصرف المريض مرض الموت، لأن المرتد مشرف على التلف؛ لأنه يقتل فأشبه المريض مرض الموت.
وقد أجمع فقهاء الحنفية على أن استيلاء المرتد وطلاقه وتسليمه الشفعة صحح ونافذ، لأن الردة لا تؤثر في ذلك.
والقول الثالث: عند الشافعية - وصححه أبو إسحاق الشيرازي - وهو قول أبي يكر من الحنابلة أن ملكه يزول بردته لزوال العصمة بردته فماله أولى، ولما روي طارق بن شهاب أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال لوفد بزاخة وغطفان: نغنم ما أصبنا منكم وتردون إلينا ما أصبتم منا. ولأن المسلمين ملكوا
دمه بالردة فوجب أن يملكوا ماله.
وعلى هذا فلا تصرف له أصلًا لأنه لا ملك له.
وما سبق إنما هو بالنسبة للمرتد الذكر باتفاق الفقهاء وهو كذلك بالنسبة للمرتدة الأنثى عند المالكية والشافعية والحنابلة.
وعند الحنفية لا يزول ملك المرتدة الأنثى عن أموالها بلا خلاف عندهم فتجور تصرفاتها؛ لأنها لا تقتل فلم تكن ردتها سببًا لزوال ملكها عن أموالها.
أثر الردة على الزواج:
اتفق الفقهاء على أنه إذا ارتد أحد الزوجين حيل بينهما فلا يقربها بخلوة ولا جماع ولا نحوهما. ثم قال الحنفية: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين بانت منه امرأته مسلمة كانت أو كتابية، دخل بها أو لم يدخل، لأن الردة تنافي النكاح ويكون ذلك فسخًا عاجلًا لا طلاقًا ولا يتوقف على قضاء.

(4/175)


ثم إن كانت الردة قبل الدخول وكان المرتد هو الزوج فلها نصف المسمى أو المتعة، وإن كانت هي المرتدة فلا شيء لها.
وإن كان بعد الدخول فلها المهر كله سواء كان المرتد الزوج أو الزوجة.
وقال المالكية في المشهور: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين كان ذلك طلقة بائنة، فإن رجع إلى الإسلام لم ترجع له إلا بعقد جديد، ما لم تقصد المرأة بردتها فسخ النكاح، فلا يتفسخ، معاملة لها بنقيض قصدها.
وقيل: إن الردة فسخ بغير طلاق.
وقال الشافعية: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين فلا تقع الفرقة بينهما حتى
تمضي عدة الزوجة قبل أن يتوب ويرجع إلى الإسلام، فإذا انقضت بانت منه، وبينونتها منه فسخ لا طلاق، وإن عاد إلى الإسلام قبل انقضائها فهي امرأته.
وقال الحنابلة: إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح فورًا وتنصّف مهرها إن كان الزوج هو المرتد، وسقط مهرها إن كانت هي المرتدة.
ولو كانت الردة بعد الدخول ففي رواية تنجز الفرقة. وفي أخرى تتوقف الفرقة على انقضاء العدة.
حكم زواج المرتد بعد الردة:
اتفق الفقهاء على أن المسلم إذا ارتد ثم تزوج فلا يصح زواجه، لأنه لا ملة له، فليس له أن يتزوج مسلمة، ولا كافرة، ولا مرتدة.
مصير أولاد المرتد:
من حمل به في الإسلام فهو مسلم، وكذا من حمل به في حال ردة أحد أبويه والآخر مسلم، قال بذلك الحنفية والشافعية؛ لأن بداية الحمل كان لمسلمين في دار الإسلام، وإن ولد خلال الردة.
لكن من كان حمله خلال ردة أبويه كليهما، ففيه خالف، فذهب الحنفية والمالكية، وهو المذهب عند الحنابلة والأظهر عند الشافعية، إلى أنه يكون مرتدًّا تبعًا لأبويه فيستتاب إذا بلغ. وفي رواية للحنابلة وقول للشافعية أنه يقر على دينه بالجزية كالكافر الأصلي، واستثنى الشافعية ما لو كان في أصول أبويه مسلم فإنه يكون مسلمًا تبعًا له، واستثنى المالكية أيضًا ما لو أدرك ولد المرتد قبل البلوغ فإنه يجبر على الإسلام.

(4/176)


إرث المرتد:
اختلف الفقهاء في مال المرتد إذا قتل، أو مات على الردة على ثلاثة أقوال:
(أ) أن جميع ماله يكون فيئًا لبيت المال، وهذا قول مالك، والشافعي وأحمد.
(ب) أنه يكون ماله لوثته من المسلمين، سواء اكتسبه في إسلامه أو ردته، وهذا قول أبي يوسف ومحمد.
(جـ) أن ما اكتسبه في حال إسلامه لورثته من المسلمين، وما اكتسبه في حال ردته لبيت المال، وهذا قول أبي حنيفة.
ولا خلاف بينهم في أن المرتد لا يرث أحدًا من أقاربه المسلمين لانقطاع الصلة بالردة. كما لا يرث كافرًا لأنه لا يقر على الدين الذي صار إليه. ولا يرث مرتدًا مثله.
ووصية المرتد باطلة لأنها من القرب وهي تبطل بالردة.
إرث المرتد، لمن يكون؟
اتفق الفقهاء على أن المرتد لا يرث أحدًا من أقاربه المسلمين لانقطاع الصلة بالردة.
ثم اختلفوا في مال المرتد إذا قُتل، أو مات على الردَّة، على أربعة أقوال:
القول الأول: ماله فيء لبيت مال المسلمين، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في الصحيح من مذهبه، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وبه
قال ربيعة وأبو ثور وابن المنذر (1)، وحجتهم:
1 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ» (2).
وهذا عموم منه - صلى الله عليه وسلم - لم يخص منه مرتدًّا من غيره، ولو أراد الله أن يخص المرتد من ذلك لما أغفله ولا أهمله {وما كان ربك نسيًّا} (3).
2 - ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتوارث أهل ملَّتين شتى» (4).
_________
(1) «جواهر الإكليل» (2/ 279)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 1090)، و «الأم» (6/ 151)، و «المجموع» (19/ 234)، و «المغني» (6/ 346)، و «الإنصاف» (10/ 339).
(2) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(3) سورة مريم: 64.
(4) أخرجه أبو داود (2911)، وابن ماجة (2731).

(4/177)


فإذا كان كذلك فيبقى هذا المال فيئًا لبيت مال المسلمين، كما يؤخذ مال الذمي إذا لم يخلف وارثًا، وكالعشور.
القول الثاني: جميع ماله لورثته من المسلمين، سواء ما اكتسبه قبل الردة أو بعدها، وهذا مذهب أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وهو رواية ثانية في مذهب أحمد، وهو مروي عن أبي بكر وعليٍّ وابن مسعود - رضي الله عنهم -، وبه قال جماعة من السلف، منهم: الحسن وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري (1) وحجتهم:
1 - ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: «بعثني أبو بكر بعد رجوعه إلى أهل
الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين» كذا ذكره ابن قدامة (!!) والذي عند البيهقي عن زيد بن ثابت «أن مال المرتد فيء يكون لبيت مال المسلمين» (!!) فليحرر.
2 - قالوا: ولأن ردته ينتقل بها ماله، فوجب أن ينتقل إلى ورثته المسلمين، كما لو انتقل بالموت.
القول الثالث: ما اكتسبه قبل الردة لورثته المسلمين.
وهذا مذهب أبي حنيفة وإسحاق (2)، قالوا: وما اكتسبه في ردته يكون فيئًا لبيت المال، وحجتهم كأصحاب القول الثاني.
القول الرابع: ماله لورثته ممن على الدين الذي انتقل إليه، وإلا فهو فيء، وهذه رواة ثالثة في مذهب أحمد، وهو قول داود الظاهري، وهو مروي عن علقمة وسعيد بن أبي عروبة (3)، وحجتهم:
1 - أنه كافر فيرثه أهل دينه كالحربي، وسائر الكفار.
2 - ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (4) فلم يمنع أن يرث الكافر الكافر.
الراجح:
أقول: القولان الثاني والثالث خلاف النص الثابت، ولا دليل على أن مال
_________
(1) «المبسوط» (10/ 104)، و «البدائع» (7/ 138)، و «الإنصاف» (10/ 339).
(2) «المبسوط» (10/ 101)، و «البدائع» (7/ 138)، و «المغني» (6/ 346).
(3) «المحلي» (11/ 197)، ومراجع الحنابلة المتقدمة.
(4) صحيح: تقدم قريبًا.

(4/178)


مرتد يكون فيئًا ابتداءً، فالذي يترجح لي القول الأخير، وعلى كلٍّ المسألة اجتهادية يحكم فيها الإمام بما يرى فيه المصلحة، والعلم عند الله.
أثر الردة في إحباط العمل:
قال تعالى: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (1) قال الألوسي تبعًا للرازي: إن معنى الحبوط هو الفساد.
وقال النيسابوري: إنه أتى بعمل ليس فيه فائدة، بل فيه مضرة، أو أنه تبين أن أعماله السابقة لم يكن معتدًّا بها شرعًا.
وقال الحنفية بأن الحبوط يكون بإبطال الثواب، دون الفعل.
وقد ذهب الحنفية والمالكية إلى أن مجرد الردة يوجب الحبط، مستدلين بقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} (2).
أما الشافعية فقالوا بأن الوفاة على الردة شرط في حبوط العمل، أخذًا من قوله تعالى: {فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (3).
فإن عاد إلى الإسلام فقد صرح الشافعية بأنه يحبط ثواب العمل فقط، ولا يطالب بالإعادة إذا عاد إلى الإسلام ومات عليه.
أثر الردة على العبادات:
تأثير الردة على الحج:
يجب على من ارتد وتاب أن يعيد حجه عند الحنفية، والمالكية، وذهب الشافعية إلى أنه ليس على من ارتد ثم تاب أن يعيد حجه.
أما الحنابلة فالصحيح من المذهب عندهم: أنه لا يلزمه قضاؤه، بل يجزئه الحج الذي فعله قبل ردته.
تأثير الردة على الصلاة والصوم والزكاة:
ذهب الحنفية والمالكية إلى عدم وجوب قضاء الصلاة التي تركها أثناء ردته، لأنه كان كافرًا، وإيمانه يجبها.
_________
(1) سورة البقرة: 217.
(2) سورة المائدة: 5.
(3) سورة البقرة: 217.

(4/179)


وذهب الشافعية إلى وجوب القضاء.
ونقل عن الحنابلة القضاء وعدمه. والمذهب عندهم عدم وجوب القضاء.
فإن كان على المرتد الذي تاب صلاة فائتة، قبل ردته أو صوم أو زكاة فهل يلزمه القضاء؟
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى وجوب القضاء؛ لأن ترك العبادة معصية، والمعصية تبقى بعد الردة.
وخالف المالكية في ذلك، وحجتهم أن الإسلام يجب ما قبله، وهو بتوبته أسقط ما قبل الردة.
تأثير الردة على الوضوء:
ذهب المالكية والحنابلة إلى أن الوضوء ينتقض بالردة، ولم يذكر الحنفية ولا
الشافعية الردة من بين نواقض الوضوء.
ذبائح المرتد:
ذبيحة المرتد لا يجوز أكلها، لأنه لا ملة له، ولا يقر على دين انتقل إليه، حتى ولو كان دين أهل الكتاب. إلا ما نقل عن الأوزاعي، وإسحاق، من أن المرتد إن تَدَيَّنَ بدين أهل الكتاب حلت ذبيحته.

التَّعْزير
تعريف التعزير (1):
التعزير لغة: اللوم، ويطلق على الضرب دون الحد، وعلى أشد الضرب، ويراد به التضخيم والتعظيم والإعانة.
والتعزير شرعًا: العقوبة المشروعة على جناية لا حدَّ فيها ولا قصاص، كمن سرق ما دون النصاب، أو وطئ أجنبية دون الفرج، أو أتى امرأته في دبرها، أو سبَّ دون القذف، أو أفطر في رمضان، وما أشبه ذلك مما ليس فيه عقوبة مقدَّرة شرعًا، فللإمام أن يؤدِّبه ويعاقبه على نحو ما سيأتي بيانه.
أصل مشروعيته:
لا شك أن الشريعة مبنية على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد، ولذا فقد شرع
_________
(1) «القاموس المحيط»، و «المغني» (9/ 176)، ط. مكتبة القاهرة.

(4/180)


التعزير فيما لا حدَّ فيه ولا قصاص لتحقيق هذه الغاية، وتحقيقًا لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاء في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل المثال لا الحصر:
1 - أمره - صلى الله عليه وسلم - بضرب الأولاد على الصلاة لعشر سنين.
2 - همّه - صلى الله عليه وسلم - بتحريق بيوت من لا يشهد صلاة الجماعة.
3 - تحريقه رحل الغالِّ من الغنيمة.
4 - أمره بقطع رأس التمثال ليصير كالشجرة، وقطع الستر فيجعل منه وسادة.
5 - أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفها.
6 - أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين.
7 - تضعيفه الغرامة على من سرق بغير حرز، وسارق ما لا قطع فيه من الثمر وكاتم الضالة.
8 - أمره بأخذ شطر مال مانع الزكاة.
9 - حبسه ناسًا في تهمة.
وكل هذه الأمثلة وغيرها ثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - بعضها يأتي ذكر الحديث فيه في هذا الفصل، وبعضها مبثوث في ثنايا الكتاب تقدم إيراده أو تأخر.
والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد عزَّر المسيء، وشرع لأصحابه وخلفائه العمل به، فقال: «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حدٍّ من حدود الله تعالى» (1).
وعزَّر خلفاؤه - رضي الله عنهم - من بعده فيما لا حدَّ فيه ولا قصاص،
والآثار عنهم كثيرة جدًّا يأتي بعضها في موضعه.
ومن ذلك ما جاء عن عليٍّ - رضي الله عنه - في الرجل يقول للرجل: يا خبيث، يا فاسق، قال: «ليس عليه حد معلوم، يعزِّر الوالي بما رأى» (2).
ليس لأقل التعزير حدٌّ بالاتفاق (3): بل هو بكل ما فيه إيلام للإنسان من قول، وفعل، وترك قول وفعل، فقد يعزَّر بوعظه، وتوبيخه، والإغلاظ عليه، أو بهجرة، وترك السلام عليه حتى يتوب، أو بعزله عن ولايته، أو بترك استخدامه
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(2) حسنه الألباني: أخرجه البيهقي (8/ 253)، وانظر «الإرواء» (2393).
(3) «مراتب الإجماع» (ص 136)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 108، 344)، وانظر: «ابن عابدين» (4/ 60)، و «فتح القدير» (5/ 516)، و «المغني» (10/ 348 - مع الشرح).

(4/181)


في الجند، أو قطع أجره، أو بحبسه، أو تسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبة، وغير ذلك مما يرى الإمام أن فيه ردًّا للمسيء عن إساءته وحضَّه على المعروف.
وهل الأكثر التعزير حدٌّ:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يزاد على عشر جلدات، وهو منصوص أحمد وقول إسحاق والليث وابن حزم وأصحابه (1) وحجتهم حديث أبي بردة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» (2).
قال ابن حزم: ومن أتى منكرات جمة، فللحاكم أن يضربه لكل منكر منها
عشر جلدات فأقل بالغًا ذلك ما بلغ. اهـ.
القول الثاني: التعزير دون أقل حدٍّ، والقائلون بهذا مختلفون على أوجه، منها:
(أ) أن لا يبلغ أدنى حدٍّ مشروع مطلقًا: وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في رواية (3).
وعليه يكون أكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطًا (عند الشافعي؛ لأن حد الخمر عنده أربعون) وتسعة وسبعون (عند أبي حنيفة).
(ب) أن لا يبلغ بكل جناية الحدَّ المشروع في جنسها: وهذه رواية ثالثة في مذهب أحمد، وقد وافقه ابن تيمية في هذه الجزئية كما سيأتي:
وحجة هذا القول ما يلي:
1 - ما يروى مرفوعًا: «من بلغ حدًّا في غير حدٍّ، فهو من المعتدين» (4) وهو ضعيف لا يثبت!!
2 - وعن ابن المسيب في جارية كانت بين رجلين فوقع عليها أحدهما؟ قال: «يضرب تسعة وتسعين سوطًا» (5).
_________
(1) «الإنصاف» (10/ 244)، و «كشاف القناع» (6/ 123)، و «المحلي» (11/ 403).
(2) صحيح: تقدم قريبًا، وهو متفق عليه.
(3) «الهداية» (2/ 117)، و «البدائع» (7/ 64)، و «روضة الطالبين» (10/ 174)، و «نهاية المحتاج» (8/ 22)، و «المغني» (10/ 347 - مع الشرح الكبير).
(4) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 327)، وقال: المحفوظ مرسل. اهـ.
(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، وانظر «الإرواء» (2398).

(4/182)


وهو مروي عن عمر - رضي الله عنه -، رواه الأشرم واحتج به أحمد، قال الألباني: لم أقف على إسناده. اهـ.
3 - ولأن العقوبة على قدر الإجرام والمعصية، والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها، لا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمهما، فلا يجوز أن يضرب من قبَّل امرأة حرامًا أكثر من حد الزنا؛ لأن الزنا مع عظمه وفحشه، لا يجوز أن يزاد على حده، فما دونه أولى.
القول الثالث: يزاد على الحدِّ إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، وهذا قول مالك وأحمد أقوال أبي يوسف، وقول أبي ثور وطائفة من أصحاب الشافعي وهو أحد الوجوه عندهم والطحاوي من الحنفية ووافقهم شيخ الإسلام في الجرائم التي لا حد في جنسها (1).
واحتج أصحاب هذا القول بما يلي:
1 - ما روي عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: أنه رُفع إليه رجل غشى جارية امرأته، فقال: «لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن كانت أحلَّتها لك جلدتُك مائة، وإن كانت لم تحلَّها لك رجمتك» (2) وهو حديث ضعيف!.
2 - ما رُوي: أن معن بن زائدة عمل خاتمًا على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالًا، فبلغ عمر - رضي الله عنه - ذلك فضربه مائة وحبسه، فكلم فيه فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه».
3 - ما روي «أن عليًّا - رضي الله عنه - أتى بالنجاشي، قد شرب خمرًا في
رمضان، فجلده ثمانين ثم أمر به إلى السجن ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين ثم قال إنما جلدتك هذه العشرين لإفطارك في رمضان وجرأتك على الله» (3).
4 - ما روي: أن عمر ضرب صبيغًا - لما رأى بدعته - ضربًا كثيرًا لم يعدَّه.
_________
(1) «المحلي» (11/ 403)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 1073)، و «الخرشي» (8/ 110)، و «روضة الطالبين» (10/ 174)، و «الإنصاف» (10/ 243)، و «المغني» (10/ 347 - مع الشرح).
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4458)، والترمذي (1451)، والنسائي (6/ 123)، وابن ماجة (2551).
(3) حسنه الألباني: أخرجه الطحاوي (2/ 88)، وانظر «الإرواء» (2399)، قلت: وبنحوه عند البيهقي (321)، والنجاشي هنا غير نجاشي الحبشة المشهور.

(4/183)


الترجيح:
أقول: أما القول الأول فالقائلون به تعلقوا بحديث أبي بردة في منع الضرب فوق عشرة أسواط «إلا في حد من حدود الله» وحملوا «الحد» على العقوبة المقدرة في الجرائم الحدية، والآخرون حملوه على أنَّ المراد: حق من حقوق الله وإن لم يكن من المعاصي المقدر حدودها؛ لأن المعاصي كلها من حدود الله، قلت: وهو الأصوب؛ وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن المراد بحدود الله: ما حرم لحق الله، قال: فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام، مثل آخر الحلال وأول الحرام، فيقال في الأول: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} (1) ويقال في الثاني: {تلك حدود الله فلا تقربوها} (2).
وتسمية العقوبة المقدرة حدًّا عرف حادث، فيكون مراد الحديث: أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات (3).
قلت: ومما يدل على جواز الزيادة في التعزير على عشر جلدات ما سيأتي قريبًا
من تعدد صور التعزير التي لا تقتصر على الجلد والضرب، وهذا واضح ولله الحمد.
وأما من قال لا يبلغ التعزير أقل الحدود، فلا أرى له حجة يدان بمثلها، فالذي يبدو لي أنه أعدل الأقوال أن يقال: يجوز الزيادة على الحد في التعزير في الجرم الذي ليس في جنسه حدٌّ، وأما ما في جنسه حدٌّ فلا يزاد فيه على الحد وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.
هل يجوز التعزير بالقتل؟ (4)
وقع في كلام الحنفية والمالكية والحنابلة في بعض الجزئيات جواز التعزير بالقتل، وهو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - قال: ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قُتِل، مثل الفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في
_________
(1) سورة البقرة: 229.
(2) سورة البقرة: 187.
(3) انظر: «السياسة الشرعية» (ص 55، 56).
(4) «ابن عابدين» (4/ 62)، و «تبصرة الحكام» لابن فرحون (2/ 206)، و «الإنصاف» (10/ 249)، و «روضة الطالبين» (10/ 174)، و «الأحكام السلطانية» (ص 236)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 108، 109).

(4/184)


الدين، قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا} (1).
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (2).
وقال: «من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم،
فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان» (3).
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل رجل تعمد عليه الكذب (4) وسأله الديلمي عمن لم ينته عن شرب الخمر؟ فقال: «من لم ينته عنها فاقتلوه» ... اهـ.
قلت: وأما مذهب الشافعي فليس فيه إشارة إلى التعزير بالقتل، ومقتضى مذهب ابن حزم المنع من القتل تعزيرًا بلا شك، فالأصل عنده قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام ...» (5).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (6).

من صور التعزير
العقوبة المالية:
يشرع التعزير بالعقوبات المالية، ويكون ذلك على ثلاثة أقسام (7):
1 - الإتلاف: فيشرع إتلاف المنكرات من الأعيان، والصفات يجوز إتلاف محلها تبعًا لها، وهذا مذهب مالك وأحمد.
كإتلاف الأصنام المعبودة من دون الله، وآلات الملاهي والمعازف، وأوعية
_________
(1) سورة المائدة: 32.
(2) صحيح.
(3) صحيح.
(4) لم أقف عليه.
(5) صحيح.
(6) صحيح: تقدم قريبًا في «الردة».
(7) انظر «مجموع فتاوى ابن تيمية» (20/ 384)، (28/ 113 - 117).

(4/185)


الخمر، فإنه يجوز تكسيرها وتحريقها، ففي حديث أنس أن أبا طلحة قال: يا نبي الله، إني اشتريت خمرًا لأيتام في حجري، قال: «أهرق الخمر واكسر الدنان» (1).
وعن عمر «أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي، وقال: إنما أنت فويسق، لا رويشد».
«وأمر عليٌّ - رضي الله عنه - بتحريق قرية كان يباع فيها الخمر».
وإتلاف المنكرات من الأعيان إنما يكون إذا اقترنت بمحلها مفسدة، لا أنه يجب إتلافها على الإطلاق، كما أفاده شيخ الإسلام.
2 - التغيير: وهو إزالة كل ما كان من العين محرمًا، مثل تفكيك آلات الملاهي، وتغيير الصورة المصورة بقطع الرأس ونحو ذلك:
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل فقال: إني أتيتك الليلة، فلم يمنعني أن أدخل عليك البيت إلا أنه كان في البيت تمثال رجل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فَأمُر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كالشجرة، وَأمُرْ بالستر يقطع فيجعل في وسادتين منتبذتين يوطآن، ومر بالكلب فليخرج» ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا الكلب جرو للحسن والحسين تحت نضيد لهم (2).
3 - التغريم:
التعزير بالتغريم المالي جائز في مذهب مالك والشافعي وأحمد - على اختلاف في تفاصيل - وهو اختيار شيخ الإسلام (3)، واحتجوا بأنه موافق لأقضيته - صلى الله عليه وسلم -، مثل:
(أ) إباحته سلب من يصطاد في حرم المدينة للذي يجده.
(ب) تضعيف الغرامة على من سرق من الثمر المعلق قبل أن يؤويه إلى الجرين ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجنِّ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غُرامُة مثليه والعقوبة» (4).
_________
(1) أخرجه الترمذي.
(2) أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي.
(3) «ابن عابدين» (4/ 62)، و «تبصرة الحكام» (2/ 203)، و «الأحكام السلطانية» (ص 295)، و «كشاف القناع» (4/ 74)، و «الفتاوى» (28/ 118).
(4) حسن: تقدم في «حد السرقة».

(4/186)


(جـ) تضعيف الغرامة على كاتم الضالة.
(ر) أخذ شطر مال مانع الزكاة.
قلت: وأما الحنفية والشافعة فمنعوا التعزير بأخذ المال، قالوا: لأن ذلك يُفضي إلى تسليط الظلمة من الحكام على أخذ مال الناس فيأكلونه. اهـ.
وقد بالغوا في التحرز من ذلك فأغفلوا النصوص المتقدمة أو قالوا بنسخها (!!) على أن حصر التعزير بالمال في الأنواع الثلاثة المذكورة لا يجيز للحاكم أن يسلب الناس أموالهم عقوبة لهم، بما في يده من سلطة التعزير، والله أعلم.
التعزير بالحبس والنفي:
(أ) يُشرع التعزير بالحبس باتفاق العلماء (1)، والأصل فيه قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (2) قال العلماء: النفي: الحبس.
وما جاء من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلًا في تهمة، ثم خلَّى عنه» (3).
وعن الهرماس بن حبيب عن أبيه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بغريم لي فقال لي: «ألزمه» ثم قال: «يا أخا تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك» (4).
وقد نقل الزيلعي الإجماع على مشروعيته.
قال شيخ الإسلام: إن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت، أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم، أو وكيل الخصم عليه، ولهذا سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - أسيرًا ... ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر حبس معدٌّ لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارًا، وجعلها سجنًا، حبس فيها ... اهـ (5).
(ب) وكذلك النفي فهو مشروع لظاهر قوله تعالى: {أو ينفوا من
الأرض} (6).
_________
(1) «تبين الحقائق» (4/ 179).
(2) سورة المائدة: 33.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (3630)، والنسائي (2/ 255)، والترمذي، وأحمد (5/ 2).
(4) أخرجه أبو داود، وابن ماجة.
(5) «مجموع الفتاوى» (35/ 398).
(6) سورة المائدة: 33.

(4/187)


وقد عزَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين بالنفي.
ونفى عمر بن الخطاب نصر بن حجاج إلى البصرة لما افتتن به النساء.
وقد ذهب الجمهور إلى جواز التعزير بالنفي، وقال الحنابلة: لا نفي إلا في الزنا والمخنث.
هل يجب التعزير فيما يُشرع فيه؟
اختلف أهل العلم فيمن ارتكب ما يشرع فيه التعزير، هل يجب على الحاكم أن يغزِّره؟ على قولين (1):
الأول: يجب، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد، ونصَّ الحنابلة على أن ما كان من التعزير منصوصًا عليه فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن منصوصًا عليه: إذا رأى الإمام المصلحة فيه أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب، لأنه زجر مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد، وتركه تعطيل.
الثاني: لا يجب، وهو مذهب الشافعي، واحتج بوقائع وقعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترك التعزير عليها، مثل:
1 - حديث أن رجلًا جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت امرأة، فأصبت منها ما دون أن اطأها، فقال: «أصليت معنا؟» قال: نعم، فتلا عليه
قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (2) (3).
2 - وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأنصار كرشي وعيبتي (4)، وإن الناس سيكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئتهم» (5).
3 - وعن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في أشراج الحرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك» فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟! فتلوَّن وجهه ثم قال: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك» (6) وليس فيه أنه عزَّره.
_________
(1) «الهداية» (2/ 116)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 1073)، و «المغني» (9/ 178)، و «الإنصاف» (10/ 242)، و «نهاية المحتاج» (8/ 19، 23).
(2) سورة هود: 114.
(3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (2763).
(4) أي: موضع سرى وأمانتي.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (3799)، ومسلم (2510).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (2708)، ومسلم (2357).

(4/188)


4 - وعن ابن مسعود قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمًا فقال رجل: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فساررته، فغضب من ذلك غضبًا شديدًا، واحمرَّ وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له، قال: ثم قال: «قد أوذي موسى بأكثر من هذا، فصبر».
ولم يذكر أنه عزَّره.
الراجح: والذي يظهر لي أنه لا يجب التعزير وإنما يرجع ذلك إلى اجتهاد
الحاكم بشرط أن يكون أمينًا، لحديث الرجل الذي أصاب من امرأة قبلة، فليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عزَّره، وأما بقية الأدلة فقد يُعكِّر عليها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينتقم لنفسه، وكذلك الأمر بالتجاوز عن إساءة الأنصار إنما هو فيما لا تبلغ فيه منكرًا، ففي حديث عائشة - رضي الله عنها -: «ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء يؤتى إليه حتى ينتهك من حرمات الله».

(4/189)


14 - كتاب الجنايات والديات

(4/190)


أولًا: الجنايات
تعريفها (1):
الجناية لغة: جمع جناية، وهي الذنب والجرم.
وتعرف شرعًا بأنها: كل فعل عدوان على نفس أو مال، لكنها في عرف الفقهاء مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان، وأما الجنايات على الأموال فتسمى غصبًا ونهبً وسرقة وخيانة وإتلافًا.
حكمها التكليفي:
وكل عدوان على نفس أو بدن أو مال بغير حق: محرم شرعًا، وقد تضافرت نصوص الشريعة لبيان هذا المعنى، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» (2).
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «... إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ...» (3).
حكمها الوضعي:
ويختلف حكم الجناية بحسبها، فيكون قصاصًا، أو دية، أو أرشًا، أو حكومة عدل، أو ضمانًا، بحسب الأحوال، وقد يترتب على ارتكاب بعض أنواع الجناية:
الكفارة أو الحرمان من الميراث، على ما سيأتي بيانه.
أقسام الجناية:
قسم الفقهاء الجناية إلى أقسام ثلاثة:
(أ) الجناية على النفس (القتل).
(ب) الجناية على ما دون النفس، وهي الإصابة التي تزهق الروح.
(جـ) الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه، كالجناية على الجنين.
وإليك بيان هذه الأقسام، وأهم ما يتعلق بها من مسائل:
_________
(1) «التعريفات» للجرجاني، مادة (جناية)، و «لسان العرب»، و «ابن عابدين» (5/ 339)، و «المغني» (11/ 443 - الفكر)، و «الموسوعة الفقهية» (16/ 59).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2564) وغيره.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1218) في جزء من حديث جابر الطويل في حجة الوداع.

(4/191)


أولًا: الجناية على النفس (القتل)
تعريف القتل:
القتل هو: فعل من العبد تزول به الحياة، أو: هو إزهاق روح آدمي بفعل آدمي آخر (1).
أقسامه:
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الجناية على النفس تنقسم بحسب القصد وعدمه إلى: عند، وشبه عمد (وهو مختلف فيه)، وخطأ.
وقد زاد الحنفية قسمين: ما أُجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب، لكنهما داخلان في الأقسام الثلاثة كما سيظهر.
وأما مالك - رحمه الله - فأنكر (شبه العمد) على ما سيأتي تحريره في موضعه.

القسم الأول: القتل العمد:
تعريفه (2):
هو عند جمهور الفقهاء: الضرب بمحدد أو غير محدد، والمحدد: ما يقطع ويدخل في البدن كالسكين والسيف وأمثالهما.
وغير المحدد هو: ما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله، كحجر كبير وخشبة كبيرة.
وأما الحنفية فعرَّفوا القتل العمد بأنه: تعمُّد ضرب المقتول في أي موضع من جسده بآلة تفرق الأجزاء كالسيف والليطة (3) والنار، وليس القتل بالمثقل (الحجر) عمدًا عندهم.
وقد عرَّفه الأستاذ عبد القادر عودة - رحمه الله - بأنه: (ما اقترن فيه الفعل المزهق للروح بنية قتل المجني عليه).
_________
(1) «فتح القدير» (8/ 244).
(2) «ابن عابدين» (5/ 339)، و «البدائع» (7/ 233)، و «القوانين الفقهية» (339)، و «روضة الطالبين» (9/ 123)، و «المغني» (7/ 639)، و «كشاف القناع» (5/ 504)، و «التشريع الجنائي» (2/ 10).
(3) الليطة: قشرة القصب التي تقطع.

(4/192)


حكم تعمد القتل بغير حق:
قتل النفس التي حرم الله بغير حق من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة والإجماع:
(أ) فمن الكتاب:
1 - قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل} (1).
2 - وقوله سبحانه: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطئًا} (2).
3 - وقال عز وجل: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا} (3).
4 - وقال سبحانه: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا} (4).
5 - وقال عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا} (5).
(ب) ومن السنة:
1 - حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا
بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (6).
2 - حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ...» الحديث (7).
_________
(1) سورة الإسراء: 33.
(2) سورة النساء: 92.
(3) سورة النساء: 93.
(4) سورة المائدة: 32.
(5) سورة النساء: 29، 30.
(6) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(7) صحيح: أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).

(4/193)


3 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول ما يُقضى بين الناس في الدماء» (1).
4 - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم» (2).
5 - وفي حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «... إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ...» (3).
(جـ) وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين في تحريم القتل العمد العدوان بغير حق، وأن صاحبه يستحق القتل في الدنيا حدًّا، ما لم يكن مستحلًّا لذلك فيكون كفرًا، ويستحق العقاب بالنار - والعياذ بالله - في الآخرة (4).
توبة القاتل عمدًا (5):
قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا} (6).
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركًا، أو مؤمن قتل مؤمنًا متعمدًا ...» (7).
فذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى أن توبة القاتل لا تقبل، استدلالًا بهذه الآية الكريمة من وجهين: أحدهما: أنها من آخر ما نزل ولم ينسخها شيء، والآخر: أن لفظها لفظ الخبر، والأخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير، لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقًا.
وأما أكثر أهل العلم فقالوا: تقبل توبته؛ لأن معتقد أهل السنة: أن مرتكب
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1678).
(2) صحيح: أخرجه الترمذي (1414)، والنسائي (7/ 82).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1218) وغيره.
(4) «مراتب الإجماع» (ص 137، 138).
(5) «شرح الخطاب» (6/ 231)، و «حاشية الجمل» (5/ 2)، و «تكملة المجموع» (17/ 225)، و «المغني» (8/ 259 - القاهرة)، و «كشاف القناع» (5/ 504).
(6) سورة النساء: 93.
(7) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (4270)، والنسائي (7/ 81)، وأحمد (4/ 99).

(4/194)


الكبيرة - ما عدا الشرك - أمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، مع اعتقادهم أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء، وقد تضافرت النصوص في هذا المعنى، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (1).
وقال سبحانه: {إن الله يغفر الذنوب جميعًا} (2) وهي تشمل الشرك إذا تاب الإنسان منه فإن الله يقبل توبته منه، وهو أعظم من القتل.
وكذلك فإن الأحاديث الواردة في أن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها أو حتى يغرغر، عامة تشمل القاتل وغيره.
ويؤيد مذهب الجماهير كذلك: حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا وأتم المائة بالعابد الذي قال له: لا أجد لك توبة (!!) ثم دُلَّ على عالم فسأله فقال: من يحول بينك وبين التوبة، ولكن أخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها، ولما اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، بعث الله إليهم ملكًا، فقال: «قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها» فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر، فجعلوه من أهلها (3).
وأما الآية الكريمة فمحمولة على من لم يتب، أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه، وله العفو إن شاء، وأما كون الخبر لا يدخله النسخ، فنقول: يمكن أن يدخله التخصيص والتأويل إعمالًا لجميع النصوص، وكذلك حديث أبي الدرداء فمحمول على المستحل، أو أنه وارد على سبيل الزجر والتغليظ، والله أعلم.
القتل بالمثقل، هل يعتبر عمدًا يوجب القصاص؟
اتفق العلماء على أن القتل بمحدد وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين ونحوهما يعتبر عمدًا يوجب القصاص.
وأما المثقل كالحجر والمطرقة ونحو ذلك، فاختلفوا فيه على قولين (4):
الأول: كل مثقل يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهو
_________
(1) سورة النساء: 8.
(2) سورة الزمر: 53.
(3) صحيح: أخرجه بمعناه البخاري، ومسلم (2766).
(4) «ابن عابدين» (6/ 528)، و «البدائع» (7/ 233)، و «الكافي» (2/ 1095)، و «الأم» (5/ 97)، و «نهاية المحتاج» (7/ 248)، و «المغني» (8/ 261)، و «الإنصاف» (9/ 436).

(4/195)


عمد، وبهذا قال الجمهور مالك والشافعي وأحمد وصاحبا أبي حنيفة، وبه قال النخعي والزهري وابن سيرين وإسحاق وغيرهم، واحتجوا بما يلي:
1 - عموم قوله تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا} (1) قالوا: وهذا مقتول مظلومًا.
2 - عموم قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} (2).
3 - حديث أنس - رضي الله عنه -: «أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حجرين» (3).
4 - قالوا: ولأن المثقل يقتل غالبًا فأشبه المحدد.
الثاني: لا يعتبر القتل بالمثقل عمدًا: وهو مذهب أبي حنيفة المشهور عنه (4)، وبه قال الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس وغيرهم، واحتجوا بما يلي:
1 - حديث: «ألا إن في قتيل عمد الخطأ - قتيل السوط والعصا [والحجر]
- مائة من الإبل ...» (5) قالوا: فسمي القتل بالحجر عمد الخطأ، وأوجب فيه الدية دون القصاص.
2 - قالوا: ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه، فيجب ضبطه بمظنته، ولا يمكن ضبطه بما قتل غالبًا لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير، فوجب ضبطه بالجرح!!
الراجح: والذي يترجَّح لديَّ قول الجمهور لما استدلوا بما هو واضح الدلالة، وأما الحديث فلو ثبت فيه لفظ «والحجر» (6) فهو محمول على المثقل الصغير الذي لا يغلب على الظن حصول الزهوق به؛ لأنه اقترن بالعصا والسوط، وأما ضبط الضرب بالمثقل بالجرح ففيه نظر، بدليل ما لو قتله بالنار، والله أعلم.
_________
(1) سورة الإسراء: 33.
(2) سورة البقرة: 178.
(3) صحيح: أخرجه البخاري (6879)، ومسلم (1672).
(4) وعنه رواية ثانية في مثقل الحديد أنه لا يعتبر عمدًا.
(5) حسن: أخرجه أبو داود (4547)، و «النسائي (8/ 40، 41)، وابن ماجة (2627)، وابن الجارود (773)، والبيهقي (8/ 68)، والطحاوي (3/ 185) وغيرهم ومداره على عقبة بن أوس، وهو شبه حسن.
(6) صحَّ عن ابن مسعود: «أن شبه العمد: الحجر والعصا» أخرجه عبد الرزاق (9/ 277 - 278)، من طريقين يقوي أحدهما الآخر.

(4/196)


عقوبة القتل العمد:
أجمع أهل العلم على أن عقوبة القتل العمد العدوان هي القود (القصاص).
1 - قال الله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} (1).
2 - وقال سبحانه {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب} (2).
3 - وقال عز وجل: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (3).
4 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُودى، وإما أن يُقاد» (4).
ولأولياء المقتول أن يعفو عن القصاص ويقبلوا الدية، ولهم أن يصالحوا على غير ذلك كما سيأتي بيانه في: «ما يسقط به القصاص».
شروط وجوب القصاص:
يشترط لوجوب القصاص شروط، وهي:
1 - وجود العمد، وهو القصد إلى المقتول بما يقتله من محدد أو ما يقتل به غالبًا.
2 - أن يكون القاتل مكلفًا: أي بالغًا عاقلًا، فلا خلاف بين أهل العلم أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون، وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه، وقد تقدمت أدلة هذا مرارًا.
3 - وهل يشترط الاختيار وعدم الإكراه؟ (5)
ذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد - وهو قول للشافعي - إلى أن المُكْرَه على القتل لا قصاص عليه، لحديث: «إن الله تجاوز عن أمتي: الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه» (6).
_________
(1) سورة البقرة: 178.
(2) سورة البقرة: 179.
(3) سورة المائدة: 45.
(4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1305).
(5) «بداية المجتهد» (2/ 457 - الحلبي)، و «الكافي» (2/ 1098)، و «البدائع» (7/ 179)، و «ابن عابدين» (6/ 136)، و «تكملة المجموع» (17/ 269)، و «نهاية المحتاج» (7/ 358)، و «المغني» (8/ 266)، و «الإنصاف» (9/ 453).
(6) حسن: أخرجه ابن ماجة (2043) وغيره وقد تقدم مرارًا.

(4/197)


قالوا: ولأن المكرَه آلة في يد المُكرِه، وهو إكراه ملجئ، فهو كما لو رمى به عليه فقتله.
وذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وهو قول ثان للشافعي وزفر من أصحاب أبي حنيفة إلى أن المكره يجب عليه القصاص، وحجتهم: أن المكره قتله عمدًا ظلمًا لاستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله، أي كمن اختار قتله على قتل نفسه.
أما قول الأولين: إنه إكراه ملجئ، فغير صحيح، فإنه متمكن من الامتناع، ولديه خيار بين قتل نفسه وقتل غيره، فلا يقال: لا اختيار لديه.
قلت: وهذا الأخير أظهر، فإن محل الإكراه القول لا الفعل، ويؤيد هذا المذهب كذلك عندي حديث سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي» قال: أفرأيت إن دخل عليَّ بيتي وبسط يده إليَّ ليقتلني؟ قال: «كن كابن آدم» (1) فمنعه أن يبسط يده ليقتل من يريد قتله، فلأن يُمنع من قتل غيره - الذي لم يعتد عليه - إذا أكره عليه من باب أولى، ومثله وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر أن يعتزل
الناس إذا قتل بعضهم بعضًا ولا يأخذ سلاحه حتى قال له: «... ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك» (2).
4 - أن يكون المقتول معصوم الدم: فلو كان حربيًّا، أو زانيًا محصنًا، أو مرتدًّا، فإنه لا ضمان على قاتله لا بقصاص ولا بدية، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (3).
5 - أن لا يكون القاتل أصلًا (أبًا أو جدًّا) للمقتول: فلو قتل رجل ابنه أو حفيده (من ولد البنين أو ولد البنات) فإنه لا يقتل به، وبهذا يقول أكثر أهل العلم
_________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي (2194)، وأبو داود (4257)، وأحمد (1/ 185)، والمراد ابن آدم الذي قال لأخيه: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين} [سورة المائدة: 28].
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4261)، وابن ماجة (3958)، وأحمد (5/ 149)، وابن حبان (5960).
(3) صحيح: تقدم مرارًا.

(4/198)


منهم: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو منقول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبه قال ربيعة والثوري والأوزاعي (1)، وحجتهم:
1 - حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقتل والد بولده» (2).
2 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: كانت لرجل من بني مُدلج جارية فأصاب منها ابنًا فكان يستخدمها، فلما شبَّ الغلام دعى بها يومًا، فقال: اصنعي كذا وكذا، فقال الغلام: لا تأتيك، حتى متى تستأمر
أمي؟ قال: فغضب أبوه فحذفه بسيفه، فأصاب رجله أو غيرها فقطعها، فنزف الغلام فمات، فانطلق في رهط من قومه إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -فقال: يا عدو نفسه أنت الذي قتلت ابنك؟ لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يقادُ الأب بابنه» لقتلتك، هلم ديته، قال: فأتاه بعشرين أو ثلاثين ومائة بعير، قال: فتخير منها مائة فدفعها إلى ورثته وترك أباه» (3).
3 - ولأن الأب كان سبب حياته، فلا يكون الولد سببًا في موته، وفي حُكم الوالد هنا كل الأصول من الذكور والإناث مهما بعدوا، فيدخل في ذلك الأم والجدات وإن علون من الأب كُنَّ أَمْ من الأُم، كما يدخل الأجداد وإن علوا من الأب كانوا أو من الأم لشمول لفظ الوالد لهم جميعًا.
وهذا كله في الوالد النَّسبي، أما الوالد من الرضاع، فقال الحنابلة: يقتل بولده من الرضاع لعدم الجزئية الحقيقية.
6 - أن يكون بين القاتل والمقتول تكافؤ في الدين، والحرية والرق: وهذا يعني أمرين:
(أ) لا يقتل المسلم بكافر (4):
اتفق الفقهاء على أنه لا قصاص على المسلم إذا قتل الكافر الحربي ومن لا
_________
(1) «البدائع» (7/ 235)، و «مغني المحتاج» (4/ 18)، و «المغني» (7/ 666)، و «كشاف القناع».
(2) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي، وابن ماجة (2661) وغيرهما وله شاهد (5/ 27)، قوى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وانظر «الإرواء» (2214).
(3) صحيح: أخرجه ابن الجارود (788)، والدارقطني (3/ 140)، والبيهقي (8/ 38).
(4) «ابن عابدين» (5/ 343)، و «الهداية» (4/ 360)، و «المنتقي» للباجي (7/ 174)، و «الدسوقي» (4/ 238)، و «روضة الطالبين» (9/ 150)، و «مغني المحتاج» (4/ 16 - 18)، و «المغني» (7/ 660)، و «الإنصاف» (20/ 294).

(4/199)


عهد له ولا ذمة، وأكثر أهل العلم على عدم قتله بأي كافر كان سواء كان حربيًّا أو
ذميًّا، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية - رضي الله عنهم - وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن وغيرهم من السلف.
1 - واحتجوا بحديث أبي جحيفة قال: قلت لعليٍّ: هل عندكم شيء من الوحي ليس في القرآن؟ وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: «العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر» (1).
2 - وبحديث عليٍّ مرفوعًا: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» (2).
وخالف أبو حنيفة وأصحابه والشعبي والنخعي، فقالوا: يقتل المسلم بالذمي خاصة (!!) واحتجوا بما يلي:
1 - ما روي عن عبد الله بن عبد العزيز الحضرمي قال: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر مسلمًا بكافر قتلة غيلة، وقال: «أنا أولى وأحق من أوفى بذمته» (3).
وأجيب: بأنه ضعيف لا يحتج به.
2 - أوَّلوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقتل مسلم بكافر» بأن المراد:
الكافر الحربي دون من له عهد وذمة من الكفار جمعًا بين الخبرين (!!).
3 - حديث: «ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهد ...» (4) قالوا: فالكلام فيه تقدير، وهو: (لا يقتل مؤمن بكافر حربي، ولا ذو عهد في عهده بكافر حربي) قالوا: وهو يدل بمفهومه على أن المسلم يقتل بالكافر الذمي.
وأجيب: بأن هذا مفهوم صفة، والخلاف في العمل به مشهور بين أئمة
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، والنسائي (8/ 23)، والترمذي (1412)، وأحمد (1/ 79).
(2) حسن: أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (8/ 24)، وأحمد (1/ 122)، والبيهقي (8/ 29).
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود في «المراسيل» (251)، وعبد الرزاق، والشافعي، وفيه مع إرساله ابن البيلماني: مجمع على تركه.
(4) حسن: وهو حديث عليٍّ المتقدم.

(4/200)


الأصول، والحنفية من جملة القائلين بعدم العمل به، فكيف يصح احتجاجهم به؟! كما أن الجملة المعطوفة «ولا ذو عهد في عهده» لمجرد النهي عن قتل المعاهد بعد كلام تام مستقل بنفسه وهو «لا يقتل مؤمن بكافر» فلا تقدير فيها أصلًا.
4 - واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (1).
وأجيب: بأنه قد خصصه حديث عليٍّ المتقدم.
فالحاصل: أنه لا يُسلَّم بما قاله الحنفية من صرف ظاهر الحديث، فعُلم أن الحق مذهب الجمهور من عدم قتل المسلم بكافر حربيًّا كان أو ذميًّا، ويؤيده قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (2) ولو كان للكافر أن يقتص من المسلم لكان في ذلك أعظم سبيل، وقد نفى الله تعالى أن يكون له عليه سبيل نفيًا مؤكدًا، وقد ثبت عن ابن عمر: أن رجلًا مسلمًا قتل رجلًا من أهل الذمة عمدًا، فرفع ذلك إلى عثمان، فلم يقتله وغلظ عليه الدية مثل دية المسلم: ألف
دينار (3).
فائدتان:
1 - ذهب مالك وأحمد في رواية إلى أن هذا التكافؤ لا يشترط في القتل بالحرابة، فيقتل فيها المسلم بالذمي، وهو اختيار شيخ الإسلام، قال: وهو أعدل الأقوال، وفيه جمع بين الآثار المنقولة في هذا الباب، فإن القتل فيها (أي: في المحاربة) حد لعموم المصلحة فلا تتعين فيه المكافأة. اهـ.
ووجهه - كما يقول المالكية - أن هذا قتل يسقط بالعفو فلم يسقط بعدم التكافؤ، وأصل ذلك القتل بالردة، ولأنه ليس بقتل قصاص، وإنما هو حق لله تعالى أو أنه حق للآدميين تغلَّظ بحق الله تعالى (4).
وأما مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين: فلا يقتل المسلم بالكافر بحال، وعند أبي حنيفة: يقتل به بكل حال على ما تقدم (5).
_________
(1) سورة المائدة: 45.
(2) سورة النساء: 141.
(3) إسناده صحيح: أخرجه الخلال في «أحكام أهل الملل» (876).
(4) «المنتقى شرح الموطأ» (7/ 174)، و «الإنصاف» (10/ 294)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 382).
(5) تقدمت مراجع الشافعية والحنفية قريبًا.

(4/201)


2 - لا يعني عدم قتل المسلم بالذمي أنه يجوز له قتله، بل إن ذلك إثم عظيم: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل قتيلًا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا» (1).
وعن أبي بكرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل معاهدًا في غير كنهِهِ حرَّم الله عليه الجنة أن يجد ريحها» (2).
وما يوجد ببلاد المسلمين من اليهود والنصارى ليسوا أهل ذمة، وربما انطبق على بعضهم أنهم مستأمنون، وقد يؤدي قتلهم إلى مفاسد كثيرة (3).
(ب) لا يُقتل حُرٌّ بعبد: وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على نحو اختلافهم في قتل المسلم بالكافر، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحر إذا قتل عبدًا فلا قصاص عليه، لأن الأعلى لا يُقتل بالأدنى، واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رجلًا قتل عبده متعمدًا، فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفاه سنةَ، ومحا سهمه من المسلمين، [ولم يَقُدْهُ به، وأمره أن يعتق رقبة]» (4) وهو ضعيف.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد» (5) وفي الباب أحاديث أخرى ضعيفة.
وخالف أبو حنيفة ومن معه، وداود، فقالوا: يقتل الحرًّ بالعبد، محتجِّين بعمومات الآيات والأخبار الواردة في القصاص:
1 - كقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (6).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3166)، وابن ماجة (2686)، وابن الجارود (834)، وابن أبي عاصم في «الديات»، (ص 175)، والحاكم (2/ 126) وغيرهم.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2760)، والنسائي (8/ 24)، وأحمد (5/ 38) وغيرهم.
(3) «اختيارات ابن قدامة الفقهية» للغامدي (4/ 21).
(4) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2664)، والدارقطني (3/ 143)، والبيهقي (8/ 36) وله شاهد ضعيف جدًّا من حديث علي.
(5) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 413)، وعبد الرزاق (9/ 491)، والدارقطني (3/ 134)، وعنه البيهقي (8/ 34)، من طرق عن حجاج عن عمرو به، وحجاج هو ابن أرطأة مدلس وقد عنعنه.
(6) سورة المائدة: 45.

(4/202)


2 - وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (1).
وأجيب: بأن هذه العمومات مخصوصة بأدلة الأولين، والخاص مقدم على العام.
3 - واستدلوا كذلك بما رُوي من طريق الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه» (2).
وأجيب: بأن الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته فيمكن أن يخرج مخرج التحذير، وقيل: هو منسوخ، لا سيما وأن الحسن كان يُفتى بخلافه (!!).
والذي يترجح هنا: قول الجمهور، ويمكن أن يُستدل له كذلك بمفهوم خطاب قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد} (3) فإن قيل: فيلزم على مقتضى هذا أن لا يُقتل العبد بالحر؟! قلنا: قتل العبد بالحر مجمع عليه، فلا يلزم التساوي بينهما في ذلك، والله أعلم.
هل يُقتل الجماعة بالواحد؟
إذا اشترك جماعة في قتل مسلم حر، ففعل كل منهم فعلًا لو انفرد به لكان كافيًا في قتله، فذهب الجماهير من أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي
وأحمد في المشهور عنه، إلى أنهم يقتلون جميعًا به، وهو مروي عن عمر وعليٍّ وابن عباس والمغيرة بن شعبة، وبه قال ابن المسيب والحسن وعطاء وقتادة والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، وحجتهم:
1 - أن عمر بن الخطاب قال - في غلام قُتل غيلة -: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا» (4).
2 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه «قتل ثلاثة قتلوا رجلًا» (5).
3 - وعن ابن عباس أنه قال: «لو أن مائة قتلوا رجلًا، قُتلوا به» (6).
قالوا: وهذا فعل من الصحابة لا يفعلونه إلا بتوقيف، كما أنه لم يظهر لهم مخالف فكان إجماعًا أو مثله.
_________
(1) حسن: تقدم قريبًا.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4515)، والترمذي (1414)، والنسائي (4750)، وابن ماجة (2663).
(3) سورة البقرة: 178.
(4) صحيح: أخرجه البخاري، والبيهقي (8/ 40)، واللفظ له.
(5) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة بمعناه (5/ 429) ط. الرشد.
(6) إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه عبد الرزاق (9/ 479).

(4/203)


4 - ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك، لأدَّى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر.
ومنع بعض أهل العلم من قتل الجماعة بالواحد، فقال بعضهم: تجب عليهم الدية فقط وهو رواية ثانية في مذهب أحمد، وبه قال ربيعة وأبو داود وابن المنذر، وحُكي عن ابن عباس (!).
وقال بعضهم: يقتل واحد منهم ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، وهذا مروي عن معاذ بن جبل وابن الزبير، وبه قال ابن سيرين والزهري.
واحتجوا جميعًا:
1 - بقوله تعالى: {الحر بالحر} وبقوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (1) قالوا: ومقتضاهما أن لا يزاد على النفس الواحدة بنفس.
2 - ولأن كل واحد منهم مكافئ له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد.
والراجح: القول الأول القائل بقتل الجماعة بالواحد لأن الآيتين إنما بيَّنتا القتل العمد في أقل صوره، ولم تتعرض لحكم اشتراك الجماعة فبيَّنه فعل الصحابة - رضي الله عنهم -، ولعله يتأيد هذا المذهب بما ثبت في قصة العرنيين إذ قتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اجتمعوا على قتل الرعاة (2).
وإذا شارك في القتل من لا قصاص عليه:
كأن يشترك والد المقتول مع أخيه في قتل ابنه، فللعلماء في هذه المسألة قولان (3):
الأول: تجب الدية على عاقلة من لا قصاص عليه وفي ماله عتق رقبة، ويقتص من الآخرين: وهذا مذهب مالك، وقول للشافعي، ورواية في مذهب أحمد، وهو مروي عن قتادة والزهري وحماد، وحجتهم:
أن القصاص عقوبة تجب عليهم جزاءً لفعلهم، فمتى كان فعلهم عمدًا عدوانًا
_________
(1) سورة المائدة: 45.
(2) أفاده في «اختيارات ابن قدامة» (4/ 27)، والقصة عند البخاري، ومسلم.
(3) «البدائع» (7/ 235)، و «ابن عابدين» (6/ 535)، و «الكافي» (2/ 1098)، و «الشرح الصغير» (4/ 346)، و «الأم» (6/ 20)، و «نهاية المحتاج» (7/ 275)، و «المغني» (8/ 295)، و «الإنصاف» (9/ 458).

(4/204)


وجب القصاص عليهم، دون النظر إلى فعل الشريك بحال، لكن يسقط القصاص عن هذا لمانع فيه هو، ككونه والدًا للمقتول، أو كونه غير مكلف.
الثاني: لا قصاص على أحد منهم، وتجب الدية: وهو مذهب أبي حنيفة، وقول ثانٍ للشافعي، والمشهور من مذهب أحمد، وبه قال الحسن والأوزاعي وإسحاق، وحجتهم:
1 - أنه شارك من لا مأثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ.
2 - ولأن الصبي والمجنون - مثلًا - لا قصد لهما صحيح، ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ.
قلت: والأول أظهر، والله أعلم.
وإذا أمسك رجلًا وقتله الآخر (1):
فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الممسك للمقتول حال قتل القاتل له لا يلزمه القود، ولا يعدُّ فعله مشاركة حتى يكون ذلك من باب قتل الجماعة بالواحد، بل الواجب حبسه فقط، واحتجوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (2).
2 - ما يُروي عن ابن عمر مرفوعًا: «إذا أمسك الرجلُ الرجلَ، وقتله الآخر
يُقتل الذي قتل، ويُحبس الذي أمسك» (3) وهو ضعيف.
3 - ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قضى في رجل قتل رجلًا متعمدًا، وأمسكه آخر، قال: «يُقتل القاتل، ويُحبس الآخر في السجن حتى يموت» (4).
وذهب مالك والليث إلى أن الممسك يُقتل كالمباشر للقتل لأنهما شريكان، إذ لولا الإمساك لما حصل القتل.
قلت: والأول أرجح - رغم ضعف الأثرين - لأن الصحابة قدَّموا المباشرة على السبب، فقد قضي عمر - رضي الله عنه - في أعمى كان يقوده بصير، فوقعا في بئر، فوقع
_________
(1) «نيل الأوطار» (7/ 30)، و «كشاف القناع» (5/ 520)، و «المغني» (11/ 596 - الفكر).
(2) سورة البقرة: 194.
(3) ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 140)، والبيهقي (8/ 50) ورجَّحا إرساله.
(4) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (9/ 480).

(4/205)


الأعمى على البصير فمات البصير، «قضي عمر - رضي الله عنه - بعقل البصير على الأعمى» (1).
فعُلم أنه لا حكم للسبب مع المباشرة، ما لم يكن فعل المشارك - إذا انفرد - مؤديًا إلى القتل، وقيل: ما لم يكن المشارك (الممسك) متواطئًا على القتل، فإن كان مريدًا قتله قُتل هو الآخر وهو قول متجه قوي.
7 - اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص (2):
إذا مات المجني عليه من غير عفو عن قاتله، صار القصاص والمطالبة بدمه حقًّا لجميع الورثة على سبيل الاشتراك بينهم، يستوي فيهم - عند الجمهور -
العاصب وصاحب الفرض، والذكر والأنثى، والصغير والكبير (3)، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعقل المرأة عصبتُها من كانوا، ولا يرثوا منها شيئًا، إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، فهم يقتلون قاتلها» (4).
والمراد بالعصبة هنا: الذين يرثون الميت عن كلالة من غير والد ولا ولد.
وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وعلى المقتتلين أن ينحجزوا، الأول فالأول، وإن كان امرأة» (5).
والمراد بالمقتتلين: أولياء المقتول الطالبين القود، وينحجزوا: أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كان امرأة، وقوله «الأول فالأول» أي: الأقرب فالأقرب.
وذهب مالك إلى أن استيفاء القصاص لعصبة المجني عليه الذكور فقط (6)، سواء كانوا عصبة بالنسب كالابن، أو بالسبب كالولاء، فلا دخل فيه لزوج ولا أخ لأم أوجد لأم (!).
_________
(1) إسناده حسن: أخرجه الدارقطني (3/ 98).
(2) هذا هو الشرط السابع من شروط وجوب القصاص.
(3) «البدائع» (7/ 242، 248)، و «الدسوقي» (4/ 240)، و «مغني المحتاج» (4/ 39، 50)، و «كشاف القناع» (5/ 546).
(4) حسن: أخرجه أبو داود (1564)، والنسائي (8/ 43)، وابن ماجة (2647).
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (4538)، والنسائي (8/ 39).
(6) ونصَّ المالكية على أن القصاص يكون للنساء بثلاثة شروط: أن يكنَّ من ورثة المجني عليه، وأن لا يساويهن عاصب، وأن تكون المرأة ممن لو ذُكِّرت عصبت. وإذا كان للمجني عليه وارث من النساء، وعصبته من الرجال أبعد منهن، كان الحق في استيفاء القصاص لهن وللعصبة الأبعد منهن. انظر «الدسوقي» (4/ 256 - 258).

(4/206)


فإذا طلب الورثة القصاص أجيبوا إليه إذا طلبوه جميعًا، فإذا أسقطه أحدهم
سقط القصاص؛ لأنه لا يتبعَّض، ويستوفي الورثة نصيبهم من الدية كلٌّ حسب حصته في التركة.
فوائد:
1 - إذا كان أحد الأولياء غائبًا: فإنه تنتظر عودته باتفاق الفقهاء؛ لأن له العفو فيسقط به؛ ولأن القصاص للتشفي فحقه التفويض إلى خيرة المستحق فلا يحصل باستيفاء غيره من حاكم أو بقية الورثة.
2 - وإذا كان من بين الأولياء ناقص الأهلية (1):
(أ) فينتظر الصغير حتى يكبر والمجنون حتى يفيق، عند الشافعية والحنابلة والصاحبين من الحنفية، قالوا: لأنه ربما يعفو فيسقط القصاص ولأن القصاص للتشفي كما تقدم، فيحبس القاتل حتى البلوغ والإفاقة.
(ب) وعند أبي حنيفة - وهو الصحيح في المذهب - أن حق القصاص يكون لكاملي الأهلية فقط (2) فلا ينتظر.
(جـ) وذهب المالكية إلى أنه لا ينتظر صغير لم يتوقف الثبوت عليه، ولا ينتظر مجنون مطبق لا تعلم إفاقته، بخلاف من يفيق أحيانًا فتنتظر إفاقته.
3 - إذا لم يكن للمقتول وارث ولا عصبة (3): فيكون حد استيفاء القصاص
للسلطان عند الجمهور لولايته العامة.
وقال المالكية: حق القصاص للسلطان، وليس له أن يعفو.
وقال أبو يوسف: لا ولاية للسلطان في استيفاء القصاص إذا كان المقتول في دار الإسلام.
_________
(1) «البدائع» (7/ 243)، و «الشرح الصغير» (4/ 359)، و «مغني المحتاج» (4/ 40)، و «المغني» (7/ 739).
(2) لأن القصاص ثابت - عنده - لكل من كان كاملًا على سبيل الاستقلال لا على سبيل الاشتراك، فلا عبرة بناقصي الأهلية لأن عفوهم لا يصح.
(3) «البدائع» (7/ 243)، و «الدسوقي» (4/ 256).

(4/207)


ما يسقط به القصاص:
1 - موت القاتل (1):
إذا مات القاتل قبل أن يقتص منه سقط القصاص لفوات محله؛ لأنه القتل لا يرد على ميت، وسواء في ذلك أن يكون الموت قد حصل حتف أنفه أو بقتل له بحق كالحد، وتجب الدية في تركته عند الشافعية والحنابلة.
أما إذا قُتل هذا القاتلُ عمدًا عدوانًا: فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة - في المذهب - إلى سقوط القصاص مع وجوب الدية في مال القاتل الأول.
وذهب المالكية - وهو رواية عند الحنابلة - إلى أن الواجب القصاص على القاتل الثاني لأولياء المقتول الأول (!).
2 - عفو الأولياء عن القصاص:
فإن القصاص حق لأولياء الدم - كما تقدم - ولهم الحق في العفو فإن عفوا سقط القصاص بالاتفاق لأنه عقد لهم فيسقط بعفوهم، ولهم الدية.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُودى، وإما أن يقاد» (2).
وقال ابن عباس: «كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء} فالعفو أن يقبل الدية في العمد {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} (3): قتل بعد قبول الدية» (4).
وعن - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حُقَّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد العقل» (5) والعقل: الدية.
_________
(1) «البدائع» (7/ 246)، و «الشرح الصغير» (4/ 337)، و «الأم» (6/ 10)، و «مغني المحتاج» (4/ 48)، و «الشرح الصغير - مع المغني» (9/ 417)، و «الإنصاف» (10/ 6).
(2) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1355).
(3) سورة البقرة: 178.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (4498).
(5) حسن: أخرجه الترمذي (1406)، وابن ماجة (2626).

(4/208)


وهذه الدية ليست هي الواجبة بالقتل، بل هي بدل عن القصاص ولو بغير رضا الجاني، ولذا فإن لهم أن يصالحوا على غيرها كما سيأتي في «الديات».
والعفو عن القصاص مندوب إليه شرعًا، لقوله تعالى: {وأن تعفو أقرب
للتقوى} (1) وقوله: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (2) وقوله سبحانه: {فمن تصدق به فهو كفارة له} (3).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا» (4).
وقد رُوي عن أنس قال: «ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - رُفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو» (5).
فإن عفا بعض الأولياء دون بعض: سقط القصاص عن القاتل، لأنه سقط نصيب العافي بالعفو، فيسقط نصيب الآخر في القود ضرورة، لأنه لا يتجزأ، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض وفي هذه الحالة يبقى للآخرين نصيبهم من الدية فعن زيد بن وهب: أن رجلًا قتل امرأته، استعدى ثلاثة إخوة لها عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فعفا أحدهم، فقال عمر للباقين: «خُذا ثلثي الدية، فإنه لا سبيل إلى قتله» (6).
3 - الصلح على القصاص (7):
اتفق الفقهاء على جواز الصلح بين القاتل وولي القصاص على إسقاط
القصاص بمقابل بدل يدفعه القاتل للولي من ماله، ولا يجب على العاقلة؛ لأن العاقلة لا تعقل العمد، ويسمى هذا البدل: بدل الصلح عن دم العمد.
ويجوز أن يكون بدل الصلح هو الدية أو أقل منها أو أكثر منها من جنسها أو غير جنسها، حالًا أو مؤجلًا؛ لأن الصلح معاوضة، فيكون على بدل يتفق عليه الطرفان بالغًا ما بلغ.
_________
(1) سورة البقرة: 237.
(2) سورة البقرة: 178.
(3) سورة المائدة: 45.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2588) وغيره.
(5) حسن: أخرجه أبو داود (4497)، والنسائي (4788)، وابن ماجة (2692)، والمقدسي في «المختارة» (2337)، والبيهقي (8/ 54).
(6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة البيهقي (8/ 59).
(7) «الموسوعة الفقهية» (33/ 275 - 276) بتصرف واختصار.

(4/209)


وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حُقَّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم» وذلك لتشديد العقل (1).

استيفاء القصاص
1 - زمان الاستيفاء (2)؟
إذا ثبت القصاص بشروطه، جاز للولي استيفاؤه فورًا من غير تأخير؛ لأنه حقُّه، لكنه لا يكون مستحقًّا له حتى يموت المجني عليه، فإذا جُرح جرحًا نافذًا لم يُقتص من الجاني حتى يموت المجني عليه؛ لأنه ربما شفي فلا يُقتل الجاني.
وقد نصَّ الفقهاء على أن القاتل إذا كان امرأة حاملًا: يؤخر القصاص حتى تلد، حفاظًا على سلامة الجنين وحقه في الحياة، بل إنها تُنظر إلى الفطام أيضًا إذا لم يوجد غيرها لإرضاعه.
2 - مكان الاستيفاء (3):
ليس للقصاص في القتل مكان معين، لكن إذا التجأ الجاني إلى الحرم فقد اختلف الفقهاء فيه:
فذهب المالكية والشافعية - وأبو يوسف من الحنفية - إلى أنه يخرج منه ويُقتل خارجه.
وذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه لا يخرج منه ولا يُقتل فيه، لكن يمنع عنه الطعام والشراب حتى يخرج من الحرم بنفسه ويقتص منه.
هذا إذا كانت جنايته قد وقعت خارج الحرم أصلًا، وأما إذا وقعت جنايته - في الأصل - داخل الحرم، جاز الاقتصاص منه في الحرم وخارجه باتفاق الفقهاء.
قلت: صحَّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «من قتل أو سرق في الحل، ثم دخل الحرم، فإنه لا يجالس، ولا يكلم، ولا يؤذي، ويناشد حتى يخرج، فيقام عليه،
_________
(1) حسن: تقدم قريبًا.
(2) «ابن عابدين» (3/ 148)، و «الزرقاني» (8/ 24)، و «مغني المحتاج» (4/ 43)، و «المغني» (7/ 731).
(3) «ابن عابدين» (5/ 352)، والمراجع السابقة.

(4/210)


ومن قتل أو سرق فأخذ في الحل فأدخل الحرم، فأرادوا أن يقيموا عليه ما أصاب، أُخرج من الحرم إلى الحل، وإن قتل في الحرم أو سرق أقيم عليه في الحرم» (1).
3 - إذن الإمام في القصاص (2):
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز استيفاء القصاص إلا بإذن الإمام فيه لخطره، ولأن وجوبه يفتقر إلى اجتهاد، لاختلاف الناس في شرائط الوجوب
والاستيفاء، ويسن عند الشافعية حضور الإمام القصاص.
وذهب الحنابلة إلى أنه لا يستوفى القصاص إلا بحضرة السلطان أو نائبه، فإذا استوفاه الولي بنفسه دون إذن السلطان جاز، ويُعزَّر لافتئاته على الإمام.
4 - كيفية القصاص (3):
ذهب جمهور العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين واختارها شيخ الإسلام إلى أن القاتل يُقتص منه بمثل الطريقة والآلة التي قتل بها، فمن قتل بخنق أو إغراق أو بتجريع سمٍّ ونحو ذلك، يُفعل به كما فعل، ما لم يكن هذه الطريقة محرمة لذاتها كالقتل بتجريع خمر أو اللواط به أو إحراقه ونحو ذلك، واحتجوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} (4).
2 - وقوله سبحانه: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (5).
3 - وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (6). ولا شك أن تمام المقاصة أن يُفعل به كما فعل.
4 - حديث أنس - رضي الله عنه - «أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين
حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان حتى سُمِّي اليهودي فأومأت برأسها، فجيء به فاعترف فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فَرُضَّ رأسه بحجرين» (7).
_________
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9/ 304).
(2) «ابن عابدين» (5/ 452)، و «منح الجليل» (4/ 345)، و «الدسوقي» (4/ 40)، و «الإنصاف» (9/ 487).
(3) «البدائع» (7/ 245)، و «ابن عابدين» (5/ 346)، و «الدسوقي» (4/ 265)، و «روضة الطالبين» (9/ 229)، و «الإنصاف» (9/ 490)، و «المغني» (7/ 688)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 381).
(4) سورة النحل: 126.
(5) سورة البقرة: 194.
(6) سورة البقرة: 178.
(7) صحيح: أخرجه البخاري (6879)، ومسلم (1672).

(4/211)


قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وهو الأشبه بالكتاب والسنة والعدل» اهـ.
بينما ذهب أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - وهي المذاهب - والثوري وعطاء، إلى أن القصاص لا يكون إلا بالسيف، والمراد به - عند الحنابلة - أن يكون القصاص في العنق مهما كانت الآلة والطريقة التي قتل بها، فيجوز عندهم بالسكين والخنجر ونحوه، وحجة هذا المذهب:
1 - حديث: «لا قود إلا بالسيف» (1) وأجيب بأنه ضعيف لا ينتهض للاحتجاج به.
2 - حديث: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» (2).
وأجيب بأن إحسان القتلة إنما يكون بموافقة الشرع، وقد جاءت نصوص الشرع بقتل الجاني بمثل ما قتل، كما تقدم.
فالراجح: القول الأول، فيفعل بالجاني مثل ما فعل، بشرط أن لا تكون
الطريقة محرمة لذاتها، فإن ثبت القتل بتجريع خمر مثلًا أو بلواط أو سحر فيقتص بالسيف عند الجمهور، وفي قول - هو مقابل الأصح عند الشافعي - في الخمر: يُجرع مائعًا كالخل أو الماء، وفي اللواط: يُدس بخشبة قريبة من آلته ويقتل بها (!!) والأول أوجه، والله أعلم.

القسم الثاني: القتل شبه العمد
تعريفه (3):
(أ) ذهب الشافعية والحنابلة والصاحبان من الحنفية إلى أن قتل شبه العمد هو: أن يضرب الشخص عدوانًا بما لا يقتل غالبًا كالسوط والعصا الصغيرة، فيؤدي إلى موته؛ لأن هذا الفعل يقصد به غير القتل من التأديب ونحوه.
_________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2667)، وله طرق كلها ضعيفة وانظر «نصب الراية» (4/ 341)، و «المجمع» (6/ 291).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1955)، وأبو داود (2815)، والنسائي (7/ 227)، والترمذي (1409)، وابن ماجة (3170).
(3) «ابن عابدين» (5/ 341)، و «القوانين الفقهية» (339)، و «روضة الطالبين» (9/ 124)، و «مغني المحتاج» (4/ 403)، و «كشاف القناع» (5/ 512)، و «المغني» (7/ 650)، و «المحلي» (11).

(4/212)


(ب) وعرَّفه أبو حنيفة بأنه: أن يتعمد ضرب شخص بما لا يفرق الأجزاء كالعصا واليد والحجر، وما ليس بسلاح.
والأصل في اعتبار هذا النوع من القتل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن قتل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا [والحجر] مائة من الإبل» (1).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عقل شبه العمد مغلَّظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزغ
الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح» (2).
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - «أن شبه العمد: الحجرُ والعصا» (3).
وعلى اعتبار هذا القسم الجماهير من الصحابة والتابعين منهم الأوزاعي والثوري وإسحاق وأبو ثور والأئمة الثلاثة.
(جـ) وأما المالكية فلم يُعرِّفوه؛ لأنهم لم يثبتوا هذا القسم، إذ القتل عندهم عمد وخطأ (4)، ووافقهم الليث وأبو محمد بن حزم - رحمهم الله -، قالوا: إنما نصُّ القرآن على أن القتل إما عمد وهو المراد بقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا} (5)، وإما قتل خطأ كما في قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطئا ...} (6).
قلت: وهم محجوبون بثبوت هذا النوع في السنة كما تقدم، والله أعلم.
فائدة: هذا القسم يسمى كذلك: عمد الخطأ، وخطأ العمد.
حكمه:
القتل شبه العمد حرام إن كان نتيجة لضرب متعمد عدوانًا، والعدوان
محرم، قال الله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (7).
_________
(1) حسن: تقدم، وسيأتي مرارًا.
(2) حسن لشواهده: أخرجه أحمد (2/ 217) وله شواهد.
(3) حسن بطرقه: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (9/ 277) من طريقين يقوي أحدهما الآخر.
(4) هذا هو المشهور عند المالكية، وفي قول عندهم أن من ضرب بعصا ونحوها على وجه الغضب فهو شبه عمد.
(5) سورة النساء: 93.
(6) سورة النساء: 92.
(7) سورة البقرة: 170.

(4/213)


وقد تضافرت نصوص الشريعة الغراء في سد الأبواب المؤدية إلى قتل المسلم، فنهت عن مجرد الإشارة بالسلاح إليه، فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يديه فيقع في حفرة من النار» (1).
وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه» (2).
بل ثبت عن جابر - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتعاطى السيف مسلولًا» (3).
وعنه أن رجلًا مرَّ بسهام في المسجد فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمسك بنصالها» (4).
هذا فيمن لا يقصد الإيذاء والتعدي، فكيف بالمعتدى؟!!
من صور قتل شبه العمد (5):
1 - أن يقصد ضربه عدوانًا بما لا يقتل غالبًا كعصا أو سوط أو حجر صغير، فيموت.
2 - أن يقصد ضربه تأديبًا بسوط صغير ونحوه، ويسرف في الضرب، فيفضي إلى قتله.
3 - أن يحبسه في مكان ويمنع عنه الطعام والشراب مدةً لا يموت في مثلها غالبًا، فهذا من شبه العمد عن الشافعية، وهو عمد الخطأ عند الحنابلة.
فإن كانت هذه المدة مما يموت مثله فيها غالبًا فهو قتل عمد عند الشافعية والحنابلة، وعند أبي حنيفة: هذا لا يعتبر قتلًا أصلًا (!!) لأن الهلاك حصل بالجوع والعطش، ولا صنع لأحد في ذلك (!!) وقد خالفه الصاحبان فقالوا: عليه الدية.
4 - أن يحفر بئرًا: أو ينصب حجرًا أو سكينًا تعديًا في ملك غيره بلا إذنه، ويقصد به الجناية، فهو قتل شبه عمد عند الحنابلة، وقد يقوى فيلحق بالعمد،
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري (7072)، ومسلم (2617).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2616)، والترمذي (2162).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2588)، والترمذي (2163).
(4) صحيح: أخرجه البخاري (7073)، ومسلم (2614).
(5) «البدائع» (7/ 233)، و «روضة الطالبين» (9/ 124)، و «المغني» (7/ 650)، و «مغني المحتاج» (4/ 5)، و «حاشية الدسوقي» (4/ 243)، و «كشاف القناع» (5/ 513).

(4/214)


وعند المالكية: إن قصد هلاك شخص معين فهلك فعلًا، فهو عمد فيه القصاص وإن هلك غير المعين ففيه الدية (أي: خطأ).
وأما الحنفية فهذا عندهم: (قتل بسبب) وموجبه عندهم الدية على العاقلة، وهو قسم مستقل من أقسام القتل الخمسة عندهم.
عقوبة القتل شبه العمد (1):
1 - الدِّية:
لا خلاف بين الفقهاء - القائلين باعتبار شبه العمد - أنه موجب للدية،
وهي في شبه العمد مغلظة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن قتيل شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل، أرْبَعون في بطونها أولادها» (2).
وتجب هذه الدية على عاقلة الجاني عند جمهور القائلين بشبه العمد، لحديث أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها» (3).
وإنما وجبت الدية على العاقلة لشبهة عدم القصد، فأشبه قتل الخطأ.
وهل يشترك الجاني في الدية؟ قال الشافعية والحنابلة: لا يشترك فيها، وقال الحنفية: يشترك فيها كما في القتل الخطأ، قلت: وعلى الأول يدلُّ حديث أبي هريرة، والله أعلم.
وقال ابن سيرين والزهري وقتادة وأبو ثور: تجب الدية على القاتل في ماله، لأنها موجب فعلٍ قَصَدَهُ، فلم تحمله العاقلة، كالعمد المحض، لكن الحديث بحجة عليهم.
2 - الكفارة: وهي عتق رقبة مسلمة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، قال الله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام
شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليمًا حكيمًا} (4) وهي منصوصة في قتل الخطأ كما هو ظاهر الآية الكريمة،
_________
(1) «البدائع» (7/ 251)، و «مغني المحتاج» (4/ 55)، و «المغني» (7/ 766).
(2) حسن: أخرجه أبو داود (4547)، والنسائي (8/ 41)، وابن ماجة (2627) وغيرهم.
(3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1681).
(4) سورة النساء: 92.

(4/215)


لكن ذهب الشافعية والحنابلة - والكرخى من الحنفية - إلى وجوب الكفارة في قتل شبه العمد؛ لأنه يشبه قتل الخطأ من جهة عدم قصد القتل.
وذهب الحنفية إلى أنها لا تجب فيه؛ لأن هذه جناية مغلظة والمؤاخذة فيها ثابتة.

القسم الثالث: القتل الخطأ
تعريفه وصوره (1): القتل الخطأ هو ما وقع دون قصد الفعل والشخص، أو دون قصد أحدهما، ومن صوره:
1 - أن لا يقصد الضرب ولا القتل، مثل أن يرمي صيدًا أو هدفًا فيصيب إنسانًا.
2 - أن ينقلب وهو نائم على إنسان فيقتله.
3 - أن يقتل - في دار الحرب - من يظنه كافرًا، فيتبين مسلمًا.
4 - أن يضربه على سبيل اللعب، فيقتله.
ما يترتب عليه: يترتب على القتل الخطأ ما يلي:
(أ) وجوب الدية والكفارة (2): وهذا يجب على من قتل مؤمنًا خطأً أو كافرًا معاهدًا باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} (3) (4).
وتكون الدية على العاقلة، والكفارة من ماله.
(ب) وجوب الكفارة فقط (5): وتجب بالاتفاق، على من قتل مؤمنًا في بلاد الكفار أو حروبهم وهو يظنه كافرًا؛ لأنه رآه يعظم آلهتهم أو كان عليه زي الكفار ونحو ذلك، لقوله تعالى: {فإنه كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} (6).
_________
(1) «فتح القدير» (9/ 147)، و «الشرح الصغير» (2/ 383 - مع الصاوي)، و «مغني المحتاج» (4/ 4)، و «المغني» (7/ 650).
(2) «فتح القدير» (9/ 147)، و «ابن عابدين» (5/ 341)، و «بداية المجتهد» (2/ 534)، و «حاشية الجمل» (5/ 102)، و «المغني» (7/ 651)،
(3) سورة النساء: 92.
(4) قال الماوردي: قدَّم في قتل المسلم الكفارة على الدية، وفي الكافر الدية، لأن المسلم يرى تقديم حق الله على نفسه، والكافر يرى تقديم حق نفسه على حق الله تعالى. اهـ.
(5) «مراتب الإجماع» (ص 140)، و «فتح القدير» (4/ 355)، و «البدائع» (7/ 252)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 1106)، و «بداية المجتهد» (2/ 472)، و «الأم» (6/ 35)، و «مغني المحتاج» (4/ 13)، و «المغني» (7/ 651)، و «الإنصاف» (9/ 447).
(6) سورة النساء: 92.

(4/216)


ولا قصاص عليه بالإجماع، وليس في الآية ذكر الدية في هذه الحالة فلا تجب؛ ولأنه أسقك حرمة نفسه بمقامه في دار الكفر التي هي دار الإباحة وهو
قول جمهور الفقهاء منهم أبو حنيفة وهو الرواية المشهورة في مذهب أحمد، والأظهر عند الشافعية، وبه قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وقتادة، والأوزاعي، والثوري وأبو ثور.
وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في قول - وهو مقابل الأظهر عند الشافعية - إلى أنه تجب الدية في هذه الحالة مع الكفارة؛ لأنه قتل مسلمًا خطأ فوجبت ديته، كما لو كان في دار الإسلام.
قلت: والأول أرجح، والله أعلم.

ثانيًا: الجناية على ما دون النفس
تعريفها (1):
الجناية على ما دون النفس: كل فعل محرم وقع على الأطراف أو الأعضاء سواء كان بالقطع أم بالجرح أم بإزالة المنافع.
الجناية على ما دون النفس قسمان: جناية موجبة للقصاص، وجناية موجبة للدية وغيرها.
أ - الجناية الموجبة للقصاص:
يشرع القصاص في الجناية على ما دون النفس - إذا توفرت شروط معينة يأتي ذكرها - والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
(أ) فأما الكتاب: فقال الله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس
والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} (2).
وقال سبحانه: {فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (3).
(ب) وأما السنة: فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كسرت الرَّبيّع - وهي عمة أنس بن مالك - ثنية جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص، فقال أنس بن النضر - عم أنس بن مالك -: لا، والله لا تكسر
_________
(1) «الموسوعة الفقهية» (16/ 63).
(2) سورة المائدة: 45.
(3) سورة البقرة: 194.

(4/217)


سنها يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أنس، كتاب الله القصاص» فرضي القوم وقبلوا الأرش، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَّره» (1).
(جـ) وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن (2).
(ر) وأما المعقول: فلأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه لأنه خُلق وقاية للنفس فشرع الجزاء صونًا له (3).
شروط وجوب القصاص:
1 - أن يكون الفعل عمدًا: وهو شرط باتفاق الفقهاء:
وأما شبه العمد - فيما دون النفس - وهو أن يقصد الضرب بما لا يفضي إلى الجرح غالبًا فيجرحه، فلا قصاص فيه عند الجمهور.
وذهب الحنفية وبعض الحنابلة إلى أنه ليس فيما دون النفس شبه عمد أصلًا، فما كان شبه العمد في النفس، فهو عمد فيما دونها، لأن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون آلة عادة، فاستوت الآلات كلها في الدلالة على القصد، فكان الفعل عمدًا محضًا، ووجب القصاص (4).
2 - أن يكون الفعل عدوانًا: فإن لم يكن الجاني متعديًا في فعله، فلا يقتص منه، كأن لا يكون مكلفًا (ليس أهلًا للعقوبة) أو ارتكب هذا الفعل بحق، كمن يقيم حدًّا أو تعزيرًا أو كان طبيبًا ونحو ذلك.
3 - أن يكون الجاني مكافئًا للمجني عليه: وهو أن يكون الجاني يقاد من المجني عليه لو قتله، كالحر المسلم مع الحر المسلم، فأما من لا يُقتل بقتله، فلا يقتص منه فيما دون النفس له، كالمسلم مع الكافر، والحر مع العبد، والأب مع ابنه؛ لأنه لا تؤخذ نفسه بنفسه، فلا يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه كالمسلم مع المستأمن (5).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1635) وغيرهما.
(2) «المغني» لابن قدامة (7/ 702 - ط. الرياض)، وانظر: «مراتب الإجماع» (ص 138).
(3) «المغني» (7/ 702).
(4) «البدائع» (7/ 233)، و «الزرقاني» (8/ 14)، و «روضة الطالبين» (9/ 178)، و «كشاف القناع» (5/ 545)، و «المغني» (7/ 703).
(5) «ابن عابدين» (5/ 356)، و «المراجع السابقة».

(4/218)


وبهذا يقول الجمهور خلافًا للحنفية، على نحو ما تقدم في القصاص في القتل.
4 - أن يتماثل محل الجناية ومحل القصاص: فلا يُؤخذ شيء من الأصل إلا بمثله، فلا تؤخذ اليد إلا باليد، ولا رجل إلا بالرجل، ولا إصبع ولا عين وأذن ولا غيرها إلا بمثلها من الجاني، فلا تقطع يد أو رجل صحيحة بشلاء، وعلى هذا اتفاق الفقهاء (1). واختلفوا في قطع الشلاء بالصحيحة، فأجاز الجمهور قطعها، ونص الحنابلة والشافعية - في الصحيح - على أنها تقطع إذا قال أهل الخبرة بأنه ينقطع الدم، وإلا لم تقطع وتجب الدية وقال المالكية وهو وجه عند الشافعية: لا تقطع الشلاء بالصحيحة، لأن الشرع لم يرد بالقصاص فيها وعليه الدية.
واختلفوا في قطع الشلاء بالشلاء (2): فمنعه الحنفية والمالكية والشافعية في وجه، وأجازه الحنابلة والشافعية في الصحيح لديهم إن استويا في الشلل أو كان شلل يد الجاني أكثر من يد المجني عليه بشرط أن لا يخاف نزف الدم.
وإذا قلع الأعور عين صحيح العينين (3):
فقال أبو حنيفة والشافعي: يقتص منه، ويترك أعمى، وبه قال مسروق والشعبي وابن سيرين والثوري وابن المنذر، وحجتهم: عموم قوله تعالى: {والعين بالعين} (4).
وقال مالك: يخيَّر بين القصاص وبين أخذ دية كاملة.
ومذهب أحمد أنه لا قصاص عليه وعليه دية كاملة؛ لأنه روِّي ذلك عن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فصار إجماعًا، ولأنه لم يذهب بجمع بصره فلم يجز له الاقتصاص منه بجميع بصره، كما لو كان ذا عينين.
قلت: الظاهر أنه لا مانع من القصاص إذا أراد المجني عليه، والله أعلم.
وإذا قلع صحيحٌ العين السالمة من الأعور (5): فاتفقوا على أن للمجني عليه القصاص، ثم اختلفوا هل يجب على الصحيح شيء زائد عن القصاص؟ فذهب
_________
(1) «البدائع» (7/ 297)، و «المغني» (7/ 723)، و «كشاف القناع» (5/ 557)، والمراجع السابقة.
(2) «البدائع» (7/ 298)، و «الزرقاني» (8/ 16)، و «الروضة» (9/ 193)، و «المغني» (7/ 735).
(3) «ابن عابدين» (5/ 354)، و «الزرقاني» (8/ 20)، و «نهاية المحتاج» (7/ 327)، و «المغني» (7/ 717).
(4) سورة المائدة: 45.
(5) «البدائع» (7/ 308)، و «الزرقاني» (8/ 41) والمراجع السابقة.

(4/219)


الحنابلة في المذهب إلى أن له القصاص بمثلها ويأخذ نصف الدية، لأنه ذهب جميع بصره، وأذهب الضوء الذي بدله دية كاملة، وقد تعذر استيفاء جميع الضوء، إذ لا يمكن أخذ عينين بعين واحدة، فوجب الرجوع ببدل نصف الضوء.
وذهب المالكية - وهو وجه لدى الحنابلة - إلى أنه ليس له زيادة على القصاص.
قلت: وهذا الأخير أقرب إلى النصوص، والله أعلم.
5 - إمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة: وهو شرط لوجوب القصاص في الجراح والأطراف، وتحقق هذا بأن يكون القطع من مفصل، فإن كان من غير مفصل فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلاف (1).
وقد رُوي عن نمر بن جابر عن أبيه: أن رجلًا ضرب على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل، فاستعدى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر له بالدية، قال: إني أريد القصاص، قال: «خذ الدية بارك الله لك فيها» (2) ولم يقض له بالقصاص.
وهذا ما لم يرض المجني عليه بالقطع من مفصل أدنى من محل الجنابة.
أنواع الجناية:
الجناية على ما دون النفس إما أن تكون بالقطع والإبانة، أو بالجرح الذي يشق، أو بإزالة منفعة بلا شق ولا إبانة.
(أ) الجناية بالقطع والإبانة:
يجب القصاص بالجناية على الأعضاء والأطراف إذا أدت إلى قطع العضو أو الطرف بشروط معينة، وقدت قدمت.
(ب) الجناية بالجرح:
والجراح إما أن تقع على الرأس والوجه، وتسمى «الشجاج» وإما أن تقع على سائر البدن.
أولًا: الشجاج: الشجاج أقسام، أشهرها عشرة:
1 - «الحارصة»: وهي التي تشق الجلد قليلًا، نحو الخدش، ولا يخرج الدم، وتسمى «الحرصة» كذلك.
_________
(1) «ابن عابدين» (5/ 354)، و «الزرقاني» (8/ 18)، و «نهاية المحتاج» (7/ 284)، و «الروضة» (9/ 181)، و «المغني» (7/ 707).
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2636)، والبيهقي (8/ 65) وهو في «الإرواء» (2235).

(4/220)


2 - «الدامية»: وهي التي تدمي موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، وتسمى عند بعض الفقهاء «البازلة» لأنها تبزل الجلد أي تشقه.
3 - «الباضعة»: وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي تقطعه، وقيل التي تقطع الجلد.
4 - «المتلاحمة»: وهي التي تغوص في اللحم، ولا تبلغ الجلدة بين اللحم والعظم، وتسمى أيضًا «اللاحمة».
5 - «السمحاق»: وهي التي تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم، وقد تسمى عند بعضهم «الملطاة أو اللاطئة».
6 - «الموضحة»: وهي التي تخرق السمحاق، وتوضح العظم.
7 - «الهاشمة»: وهي التي تهشم العظم (أي: تكسره) سواء أوضحته أم لا عند الشافعية.
8 - «المنقَّلة»: وهي التي تكسر العظم وتنقله من موضع إلى موضع سواء أوضحته وهشمته أم لا.
9 - «المأمومة»: وهي التي تبلغ أم الرأس، وهي خريطة الدماغ المحيطة به ويقال لها: «الآمة».
10 - «الدامغة»: وهي التي تخرق الخريطة وتصل إلى الدماغ.
والتسميات السابق ذكرها تكاد تكون محل اتفاق بين المذاهب، وإن كان
هناك خلاف يسير في ترتيبها، فمردُّه الاختلاف في تحديد المعنى اللغوي (1).
حكم هذه الشِّجَاج (2):
الأصل وجوب القصاص في كل الجراح، لقوله تعالى: {والجروح قصاص} (3) لكن لما كان من هذه الأقسام ما لا يمكن اعتبار المساواة فيه، وضبط ذلك للاستيفاء بالمثل، فقد رأى بعض أهل العلم أنه لا قصاص فيه:
1 - فاتفقوا على أنه لا قصاص فيما فوق الموضحة (الهاشمة والمنقلة والأمة)،
_________
(1) «الموسوعة الفقهية» (16/ 79 - 80).
(2) «ابن عابدين» (5/ 373)، و «الزرقاني» (8/ 34)، و «جواهر الإكليل» (2/ 259)، و «روضة الطالبين» (9/ 180)، و «كشاف القناع» (5/ 558)، و «المغني» (5/ 558).
(3) سورة المائدة: 45.

(4/221)


لأنه لا يمكن المساواة في كسر العظم وتنقله، قلت: قد ورد عن العباس - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» (1) وهو حديث ضعيف لا يثبت.
2 - واتفقوا على وجوب القصاص في الموضحة؛ لأنه يتيسر ضبطها واستيفاء مثلها، إذ يمكن أن ينهي السكين إلى العظم فتتحقق المساواة.
3 - واختلفوا فيما دون الموضحة: فذهب الحنفية والمالكية - وهو رواية عند الشافعية - إلى أن فيها القصاص، وذهب الشافعية - في المذهب - والحنابلة إلى عدم القصاص فيما دون الموضحة.
قلت: والذي فهمته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن القصاص يكون في كل شيء حتى في اللطمة والضربة والسُّبة، استدلالًا بعموم قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (2).
وبعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقود في الطعنة والجبذة، وكذلك الصحابة. وردًّا على شبهة تعذُّر المماثلة في ذلك يقول: «... والعدل في القصاص بحسب الإمكان، ومن المعلوم أن الضارب إذا ضُرب مثل ضربته، أو قريبًا منها كان هذا أقرب إلى العدل من أن يُعزَّر بالضرب بالسوط، فالذي يمنع من القصاص خوفًا من الظلم يبيح ما هو أعظم ظلمًا مما فرَّ منه، فعلم أن ما جاءت به السنة أعدل وأمثل ...» اهـ.
ثانيًا: الجراح الواقعة على سائر البدن (3) وهي نوعان:
1 - الجائفة: وهي التي تصل إلى الجوف، سواء نفذت إليه من الصدر أو الظهر أو البطن أو الجنبين أو الدبر.
وقد ورد حديث العباس مرفوعًا: «لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة» (4) ولا يصح، لكن اتفق الفقهاء على أنه لا قصاص في الجائفة.
_________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2637)، وأبو يعلى (6700) رضي الله عنه مرفوعًا: «لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» وهو حديث ضعيف لا يثبت.
(2) سورة البقرة: 194.
(3) «ابن عابدين» (5/ 374)، و «جواهر الإكليل» (2/ 259)، و «روضة الطالبين» (9/ 181)، و «المغني» (7/ 709).
(4) ضعيف: تقدَّم قريبًا.

(4/222)


2 - غير الجائفة: وهذه اختلف أهل العلم في القصاص فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: فيها القصاص، وهو مذهب المالكية.
الثاني: ليس فيها قصاص، بل حكومة عدل إذا أوضحت العظم وكسرته، وإذا بقي أثر، وإلا فلا شيء فيها، وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف.
الثالث: أن ما لا قصاص فيه إذا كان على الرأس والوجه، فلا قصاص فيه إذا كان على غيرهما، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
حكم القصاص قبل اندمال الجروح (1):
اختلف أهل العلم في جواز القصاص في الجرح أو الطرف قبل برئه واندماله على قولين:
الأول: لا يقتص حتى يبرأ المجني عليه: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم: أبو حنيفة ومالك وأحمد في مشهور مذهبه، والنخعي والثوري وإسحاق، وأبو ثور وعطاء والحسن وابن المنذر، واحتجوا بما يلي:
1 - حديث جابر «أن رجلًا جُرح فأراد أن يستقيد، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح» (2).
2 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقدني، فقال: «حتى تبرأ»
ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه فقال: أفدني، فأقاده، ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله، عرجت، قال: «قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عَرَجُك» ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتص من جُرح حتى يبرأ صاحبه (3).
قالوا: فقوله: «ثم نهى أن يقتص ...» يدل على تحريم الاقتصاص قبل الاندمال، لأن لفظ «ثم» يقتضي الترتيب، فيكون النهي الواقع بعدها ناسخًا للإذن الواقع عليها.
_________
(1) «الهداية» (4/ 188)، و «جواهر الإكليل» (2/ 263)، و «الأم» (9/ 47)، و «كشاف القناع» (5/ 561)، و «المغني» (8/ 340 - القاهرة)، و «نيل الأوطار» (7/ 36).
(2) حسن ما بعده: أخرجه ابن أبي عاصم في «الديات» (31)، والدارقطني (326)، والبيهقي (8/ 66)، وانظر «الإرواء» (7/ 298).
(3) حسن لطرقه: أخرجه أحمد (2/ 217)، والدارقطني (325)، وعنه البيهقي (8/ 67)، وأُعلَّ بالإرسال، وهو حسن بما قبله، وانظر «الإرواء» (2237).

(4/223)


3 - ولأن الجرح لا يدري أقتل هو أم ليس بقتل؟ فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه.
القول الثاني: يجوز أن يقتص قبل البرء، وهذا مذهب الشافعي ورواية أخرى عن أحمد، وحجتهما:
1 - إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل بالقصاص قبل البرء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم، وأجيب بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه: «نهيتك فعصيتني» يدل على أن القصاص قبل البرء معصية، ثم إن قوله في آخره «ثم نهى ...» يدل على نسخ الإذن كما تقدم.
2 - قالوا: ولأن القصاص لا يسقط بالسراية، فوجب أن يملكه في الحال
كما برئ، وأجيب بأن هذا ممنوع وهو مبني على الخلاف في مسألة السراية (1).
ثالثًا: إزالة المنفعة من غير شق ولا إبانة:
إذا ترتَّب على الاعتداء بالضرب أو الجرح زوال منفعة العضو مع بقائه سليمًا، كمن يلطم شخصًا في وجهه أو يجرحه في رأسه، فيؤدي إلى ذهاب السمع أو البصر، فهل يجب فيه القصاص؟ ذهب الجمهور إلى وجوب القصاص في ذلك، لأن لهذه المنافع محال مضبوطة، ولأهل الخبرة طرق في إبطالها.
وذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز القصاص إلا في زوال البصر دون سواه (2).
إذا وقعت الجناية على المجني عليه بسبب مناد:
كمن عضَّ يد رجل فانتزعها فسقطت ثنيته، فذهب الجمهور - خلافًا لمالك - إلى أنه لا قصاص فيه ولا دية بشرط أن لا يتمكن المعضوض من إطلاق يده بما هو أيسر من ذلك، وأن يكون ذلك العض بما يتألم به، واحتجوا:
1 - بحديث عمران بن حصين: أن رجلًا عضَّ يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل، لا دية لك» (3).
2 - حديث يعلى بن أمية قال: كان لي أجير فقاتل إنسانًا فعضَّ أحدهما
_________
(1) السراية: تعدَّى أثر الجرح من العضو المقطوع إلى غيره، وربما يموت منه.
(2) «البدائع» (7/ 307)، و «الزرقاني» (8/ 17)، و «روضة الطالبين» (9/ 186)، و «كشاف القناع» (5/ 552).
(3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1672).

(4/224)


صاحبه، فانتزع أصبعه فأندر ثنيته فسقطت، فانطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأهدر ثنيته، وقال: «أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل» (1).
3 - وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن إنسانًا جاءه - وعضَّه إنسان فانتزع يده فذهبت ثنيته - فقال أبو بكر: «تَعَدَّت ثنيتُه» (2).
4 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا اطلَّع عليك رجل في بيتك فرميته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح» (3).
وفي رواية: «فلا دية ولا قصاص» (4).
2 - الجناية على ما دون النفس الموجبة للدية:
إذا كانت الجنابة على ما دون النفس خطأ، أو لم يتوفر فيها شرط من شروط وجوب القصاص المتقدمة، أو تصالح الخصمان وعفا المجني عليه عن الجاني، فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية أو حكومة عدل، على حسب الأحوال.
وقد اتفق الفقهاء على أن كل عضو لم يخلق الله تعالى في بدن الإنسان منه إلا واحدًا كاللسان، والأنف، والصلب، والذكر، وغيرها، ففيه دية كاملة؛ لأن إتلاف كل عضو من هذه الأعضاء كإذهاب منفعة الجنس، وهو كإتلاف النفس.
وما خُلق في الإنسان منه شيئان كاليدين والرجلين، والعينين والأذنين، والشفتين، والأنثيين، والثديين والأليتين، وغيرها، ففيهما الدية كاملة، وفي إحداهما نصف الدية، لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم في كتابه: «وفي العينين الدية، وفي إحداهما نصف الدية، وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف الدية» (5).
وسيأتي في «الديات» مقادير هذه الديات وما يتعلق بها من مسائل، إن شاء الله.
3 - الجناية على الجنين:
وتكون بأن تُضرب حاملٌ فتلقي جنينًا ميتًا، فلا خلاف بين الفقهاء في أنه
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1674).
(2) صحيح: أخرجه الشافعي (332)، وأبو داود (4584)، والبيهقي (8/ 336).
(3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(4) إسناده صحيح: أخرجه النسائي (8/ 61)، وابن حبان (5972)، والدارقطني (3/ 99).
(5) مرسل: سيأتي الكلام عليه.

(4/225)


تجب فيه الغُرَّة، وهي نصف عشر الدية، وسيأتي دليل ذلك وتفصيل المسألة في «الديات» إن شاء الله.
ما تثبت به الجناية:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الجنايات تثبت على مرتكبيها بطريق من الطرق الثلاثة الآتية:
1 - الإقرار: وهو في الاصطلاح: الإخبار عن حق، أو الاعتراف به.
وقد دلَّ على ثبوت الجناية بالإقرار الكتاب والسنة والإجماع:
(أ) قال الله تعالى: {وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على
ذلكم إصري قالوا أقررنا} (1).
(ب) وقال سبحانه: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} (2).
(جـ) وعن وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: إني لقاعد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل يقود آخر بِنِسْعَة فقال: يا رسول الله هذا قتل أخي، فقال رسول الله: «أقتلته؟» فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، قال: نعم، قتلتهُ، قال: «كيف قتلته؟» قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبَّني فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟» قال: ما لي مالٌ إلا كسائي وفأسي، قال: «فترى قومك يشترونك؟» قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فرمى إليه بنسعته وقال: «دونك صاحبك» ... الحديث (3).
واستدل بالحديث على أنه يثبت القصاص على الجاني بإقراره، قال الشوكاني: «وهو مما لا أحفظ فيه خلافًا، إذا كان الإقرار صحيحًا متجردًا عن الموانع» اهـ (4).
2 - الشهادة: وهي الطريق المعتاد لإثبات الجرائم، وأغلب الجرائم تثبت عن طريقها، وقد دلَّ على ثبوت الجناية على الجاني بالشهادة ما يلي:
_________
(1) سورة آل عمران: 81.
(2) سورة الأعراف: 172.
(3) صحيح: أخرجه مسلم، والنسائي (8/ 15).
(4) «نيل الأوطار» (7/ 42) ط. دار الحديث.

(4/226)


1 - حديث رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولًا، فانطلق أولياؤه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له، فقال: «لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟» فقالوا: يا رسول الله، لم يكن ثَمَّ أحد من المسلمين، وإنما هم يهود، قد يجترئون على أعظم من هذا، قال: «فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم» فوداه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده (1).
2 - وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن ابن مُحيِّصة الأصغر أصبح قتيلًا على أبواب خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» ... الحديث (2).
واستدل بهما على أن القتل يثبت بشهادة شاهدين.
وهل تقبل فيه شهادة المرأتين مع الرجل؟ الأكثرون على أنه لا يُقبل في القصاص شهادة النساء، لأنه إراقة دم عقوبة على جناية، فيحتاط له باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود (3).
3 - القَسامة: وهي الطريقة الثالثة لإثبات الجناية (القتل خاصة) على الجاني.
تعريفها (4)؟
والقسامة لغة: مصدر أقسم قسمًا وقسامة، ومعناه: حلف حلفًا.
وفي اصطلاح الفقهاء: الأيمان المكررة في دعوى القتل، يقسم بها أولياء القتيل لإثبات القتل على المتهم، أو يقسم بها المتهم على نفي القتل عنه.
مشروعيتها:
وقد كانت القسامة من طريق الإثبات في الجاهلية، فأقرها الإسلام، فعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية» (5).
وعن سهل بن أبي حثمة: أن عبد الله بن سهل ومُحيِّصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير، فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، ثم
_________
(1) أخرجه أبو داود (4524).
(2) حسن: أخرجه النسائي (8/ 12).
(3) «المغني» (12/ 228 - الفكر).
(4) «مختار الصحاح»، وانظر «المغني» (12/ 188 - الفكر)، و «التشريع الجنائي» (2/ 321).
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1670)، والنسائي (8/ 4)، وأحمد (4/ 62 - 5/ 375).

(4/227)


أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حُويِّصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيِّصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمحيِّصة: كبِّر كبِّر (يريد: السن) فتكلم حُويِّصة ثم تكلم محيِّصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب» فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» قالوا: لا، قال: «فتحلف لكم يهود؟» قالوا: ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده، فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة ناقة حتى أدخلت
عليهم الدار، فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء (1).
وفي رواية: فقال: «تبرئكم يهود بخمسين، يحلفون أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتلًا؟» فقال: كيف نرضى بأيمان قوم مشركين؟ قال: «فقسم منكم خمسون أنهم قتلوه؟» قالوا: كيف نحلف ولم نر؟ فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده فركضتني بكرة منها (2).
وقد ذهب جمهور الفقهاء - منهم الصحابة والتابعون وأهل المذاهب الأربعة والظاهرية - إلى مشروعية القسامة لهذه النصوص وغيرها، وأنه يثبت بها القصاص أو الدية إذا لم تقترن الدعوى ببينة، إذا توفرت شروطها.
بينما ذهب جماعة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز - في رواية عنه - إلى عدم الأخذ بالقسامة وعدم العمل بها، لأنها - عندهم - مخالفة لأصول الشرع المجمع عليها، ومنها: أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعًا أو شاهد حسًّا، وهنا أولياء الدم يقسمون وهم لم يشاهدوا، واستدلوا بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يُعطى الناس بدعواهم، لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» (3).
قالوا: وليس في الأحاديث حكم بالقسامة، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية فتلطف بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليريهم كيف بطلانها (!!).
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له.
(2) صحيح: أخرجه البخاري (3173)، ومسلم، والنسائي (8/ 11)، وأبو داود.
(3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم وغيره.

(4/228)


وأجاب الشوكاني:
«بأن القسامة أصل من أصول الشريعة مستقل، لورود الدليل بها، فتخصص بها الأدلة العامة وفيها حفظ للدماء وزجر للمعتدين، ولا يحل طرح سنة خاصة لأجل سنة عامة، وعدم الحكم في حديث سهل بن أبي حثمة لا يستلزم عدم الحكم مطلقًا، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد عرض على المتخاصمين اليمين، وقال: «إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب» كما في رواية متفق عليها، وهو لا يعرض إلا ما كان شرعًا، وأما دعوى أنه قال ذلك للتلطف بهم وإنزالهم من حكم الجاهلية فباطلة، وكيف وفي حديث أبي سلمة المذكور في الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية؟!» اهـ (1).
شروط القسامة:
1 - دعوى القتل، فلا قسامة في غير القتل اتفاقًا، وأن يوجد قتيل فعلًا بلا شك.
2 - أن يكون المدعي عليه معينًا: فلو كانت الدعوى على أهل بلد - مثلًا - أو على واحد غير معين لم تجب القسامة عند الجمهور (2).
3 - أن يكون هنا لوث: واللوث قرينة تثير الظن، وتوقع في القلب صدق المدعى، كعداوة ظاهرة بين القاتل ومن مات في أرضهم وكأن يجتمع جماعة في بيت
ثم يتفرقوا عن قتيل، أو أن يشهد عدل واحد على أن فلانًا قتله، أو أن يشهد جماعة من العبيد والنساء - متفرقين بحيث يؤمَن تواطؤهم - أن فلانًا قتله، ونحو ذلك، وهو شرط للقسامة عند الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وبه قال ابن المنذر (3)، واحتج لهم بما يلي:
(أ) في حديث سهل بن أبي حثمة ما يدل على وجود عداوة بين الأنصار ويهود خيبر فقد قالوا: «ما لنا عدو بخيبر إلا يهود» (4).
_________
(1) «نيل الأوطار» (7/ 46)، ط. دار الحديث، وانظر «المحلي» لابن حزم (11/ 76) وما بعدها ففيه بحث لا نظير له.
(2) «ابن عابدين» (5/ 403)، و «نهاية المحتاج» (7/ 368)، و «الخرشي» (8/ 55)، و «المغني» (10/ 4 - مع الشرح الكبير).
(3) «البدائع» (7/ 286)، و «روضة الطالبين» (10/ 10)، و «الخرشي» (8/ 51)، و «المغني» (10/ 7).
(4) أخرج هذا اللفظ البيهقي (8/ 119).

(4/229)


(ب) حديث ابن عباس مرفوعًا: «لو أعطى الناس بدعاواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» (1).
(جـ) وبأن الأصل في المدعى عليه براءة ذمته، ولم يظهر كذبه، فكان القول قوله كسائر الدعاوى، ولا تكون قسامة.
(ر) ولأنه مدعى عليه فلم تلزمهُ اليمين (أي: القسامة).
وأما أبو حنيفة وأصحابه فلم يشترطوا اللوث في القسامة، وحجتهم أن رجلًا وجد قتيلًا بين حيين، فحلفهم عمر - رضي الله عنه - خمسين يمينًا، وقضى بالدية على أقربهما - يعني أقرب الحيين - فقالوا: والله ما وَفَتْ أيماننا أموالنا، ولا أموالنا أيماننا، فقال عمر: «حقنتم بأموالكم دماءكم» (2).
وأجيب: بأن الأثر لا يثبت، ثم هو محتمل أن يكونوا اعترفوا بالقتل خطأ
وأنكروا العمد مثلًا، أو أن عمر - رضي الله عنه - وجد من القرينة ما يقوى شبهة المدعي.
4 - اتفاق الأولياء في الدعوى: فإن ادعى بعضهم وأنكر بعضهم لم تثبت القسامة وهل للنساء أن يدخلن في القسامة إذا كن من أولياء المقتول؟ فيه ثلاثة أقوال (3):
(أ) لا يستحلف النساء فإن كانوا أقل من خمسين كررت الأيمان حتى تبلغ خمسين يمينًا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وبه قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي، قالوا: لأنها حجة تثبت قتل العمد، فلا تسمع من النساء كالشهادة، ولأن الجناية المدعاة هي القتل ولا مدخل للنساء في إثباته.
قلت: وقد يحتج لهم بظاهر ما صحَّ عن سعيد بن المسيب قال: «القسامة في الدم لم تنزل عن خمسين رجلًا، فإن نقصت قسامتهم أو نكل منهم رجل واحد ردت قسامتهم ...» (4).
(ب) يحلف النساء في قسامة الخطأ دون العمد، وهو مذهب مالك.
(جـ) تدخل النساء في القسامة إذا كن وارثات، وهو مذهب الشافعي، فلو كان للقتيل ورثة وزعت الأيمان بحسب الإرث وجبر المنكسر، ولا فرق في ذلك بين الذكور والإناث، ودليله القياس على سائر ما يستخلف فيه.
_________
(1) صحيح: تقدم قريبًا.
(2) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 123، 124).
(3) «مختصر الطحاوي» (ص 248)، و «الدسوقي» (4/ 293)، و «مغني المحتاج» (4/ 115)، و «المغني» (10/ 24 - مع الشرح الكبير).
(4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 32)، والبيهقي (8/ 122).

(4/230)


5 - ألا تتناقض دعوى المدعين: فإن قال القتيل قبل موته: قتلني فلان عمدًا، وقالوا: بل قتله خطأ أو العكس، فإنه لا قسامة لهم وبطل حقهم، وليس لهم أن يرجعوا إلى قول الميت بعد ذلك، وكذلك لو ادعوا على شخص انفراده بالقتل، ثم ادعوا على آخر أنه شريك لم تسمع الدعوى الثانية لمناقضتها الأولى وتكذيبها.
وتمت شروط أخرى اشترطها بعض أهل العلم وهي مختلف فيها، كأن تكون الدعوى مفصلة، وأن يكون بالقتيل أثر قتل، وأن يوجد القتيل في محل مملوك لأحد، وكإسلام المقتول وغير ذلك، وقد ذكرنا أهم ما اشتُرط.
كيفية القسامة (1)؟
1 - ذهب جمهور أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأحمد وربيعة والليث وغيرهم: إلى أن الأيمان في القسامة توجه إلى المُدَّعين، فيُكَلَّفون حلفها ليثبت مدعاهم ويحكم لهم به، فإن نكلوا عنها، وُجهت إلى المدعى عليهم، فيحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا، فإن حلفوا ثبت مدعاهم، وحكم لهم إما بالقصاص أو الدية - على الخلاف في موجب القسامة - فإذا لم يحلف المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ، فيقول: والله، ما قتلته ولا شاركت في قتله ولا تسببت في قتله.
فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه برئ المتهمون، وكانت دية القتيل من بيت المال، عند الحنابلة خلافًا للمالكية والشافعية.
قلت: وهذا موافق لحديث سهل.
وإن نكل المدعى عليهم عن اليمين: فقال الشافعية: ترد الأيمان على المدعين، فإن حلفوا عوقب المدعى عليهم، وإن لم يحلفوا فلا شيء لهم.
وقال المالكية: يحبسون حتى يحلفوا أو يموتوا، وقيل: يجلدون ويحبسون عامًا.
وقد استدل للجمهور في البدء في القسامة بتحليف المدعين، بحديث سهل بن أبي حثمة المتقدم.
2 - بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشعبي والثوري والنخعي إلى أنه يُبدأ بتوجيه الأيمان إلى المدعى عليهم، فإن حلفوا لزم أهل المحلة الدية، وهذا مروي من قضاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه.
_________
(1) «ابن عابدين» (5/ 403)، و «الدسوقي» (4/ 293)، و «مغني المحتاج» (4/ 116)، و «المغني» (10/ 30 - مع الشرح الكبير)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 388).

(4/231)


واستدلوا بحديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها، فوجدوا أحدهم قتيلًا، وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلناه ولا علمنا قائلًا، فانطلقوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلًا، فقال «الكُبْرَ الكُبْرَ» فقال لهم: «تأتوني بالبينة على من قتله؟» قالوا: ما لنا بينة، قال: «فيحلفون» قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُطلَّ دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة.
قالوا: فأول ما طلب في دعوى القسامة البينة من جهة المدعى كسائر الدعاوى، فإن لم يكن ثم بينة للمدعى، وجهت الأيمان الخمسون إلى المدعى عليهم، فإن حلفوا برئوا وانتهت الخصومة وغرموا الدية (!!).
قلت: وقول الجمهور أرجح، إذ لا مانع أن يكون طلب من المدعين البينة قبل تحليفهم، جمعًا بين الروايات، على أن من أهل العلم من اعتبر ذكر البينة - دون التحليف - وهمًا، لا سيما إن سلم أنه لم يسكن مع اليهود أحد من المسلمين في خيبر، والله أعلم.
وأما قول الحنفية: «أن المدعى عليهم يحلفون ويغرمون الدية»!! فقال العلماء (1): ليس في شيء من الأصول اليمين مع الغرامة، وإنما جاءت اليمين في البراءة، أو الاستحقاق على مذهب من قال باليمين مع الشاهد.

ثانيًا: الديات
التعريف (2):
الديات: جمع دِيَة وهي لغةً: مصدر ودي القاتل القتيل، يَديِه دِيَةً: إذا أعطى وليه المال الذي هو بدَل عن النفس أو ما دونها.
وفي الاصطلاح هي: المال الواجب أداؤه إلى المجني عليه أو وليه بسبب الجناية عليه في نفس أو فيما دونها.
وتسمى كذلك «العَقْل» لوجهين: أحدهما: أنها تعقل الدماء أن تراق، والثاني: أن الدية كانت إذا وجبت وأخذت من الإبل تجمع فتعقل، ثم تساق إلى ولي الدم.
_________
(1) «معالم السنن» للخطابي (6/ 314)، و «شرح السنة» للبغوي (10/ 217).
(2) «المصباح المنير» مادة «ودى»، و «فتح القدير» (9/ 204)، و «مغني المحتاج» (4/ 53)، و «كشاف القناع» (6/ 5).

(4/232)


ويطلق غالبًا على الدية في الجناية على ما دون النفس: «الأرش» فهو أخص من الدية بهذا المعنى، وربما يطلق «الأرش» على بدل النفس، فيكون بمعنى الدية.
مشروعيتها:
الأصل في مشروعية الدية الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} (1).
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها» (2) وثمت أحاديث أخرى في هذا الباب تأتي في موضعها.
وقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة، والحكمة في وجوبها: هي صون بنيان الآدمي عن الهدم، ودمه عن الهدر (3).
لا تجب الدية إلا لمعصوم الدم: وعلى هذا اتفاق الفقهاء، فإذا كان المجني عليه مهدر الدم، كأن كان حربيًّا أو مستحق القتل حدًّا أو قصاصًا فلا تجب الدية بقتله لفقد العصمة.
وأما الإسلام فليس شرطًا لوجوب الدية لا في القاتل ولا المقتول، فتجب الدية سواء أكان القاتل أو المقتول مسلمًا أو ذميًّا أو مستأمنًا.
وكذلك لا يشترط العقل والبلوغ، فتجب الدية بقتل الصبي والمجنون اتفاقًا، كما تجب في مالهما.
الأصل في تقدير الدية شرعًا:
أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل بنفسها في الدية، فلو دُفعت الدية منها قبلت، ولم يكن للمجني عليه أو وليه المطالبة بغيرها.
ثم اختلفوا في غير الإبل، هل يكون أصلًا في الدية بنفسه، أو مقوَّمًا بالإبل، على أقوال:
الأول: الأصل في الدية: الإبل، لا غير.
وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد - وظاهر كلام الخرقى من الحنابلة - وابن المنذر وابن حزم (4)، وحجتهم:
_________
(1) سورة النساء: 92.
(2) حسن: تقدم في «القتل شبه العمد».
(3) «البدائع» (7/ 253)، و «كشاف القناع» (6/ 5).
(4) «مغني المحتاج» (4/ 55)، و «المغني» (7/ 759)، و «كشاف القناع» (6/ 18)، و «المحلي» (11).

(4/233)


1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن دية قتيل الخطأ ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» (1).
2 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور ...» (2) الحديث.
3 - كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن - وبعث به مع
عمرو بن حزم - وفيه: «... وأن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعِب جدعه الدية ...» (3).
4 - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرَّق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها، ولا يتحقق هذا في غير الإبل.
5 - ولأنه بدل متلف وجب حقًّا لآدمي، فكان متعينًا كعوض الأموال.
قلت: وعلى هذا المذهب: فمن وجبت عليه الدية - وله إبل - فليس له ولا للولي العدول عنها إلا بالتراضي، ولو عُدمت - حسًّا - فيعدل إلى الذهب أو الفضة إما مقدرًا (ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم) وهو قول الشافعي الجديد، وأما ما يعادل قيمة الإبل وقت وجوب تسليمها. وهو قول الشافعي القديم.
القول الثاني: يعتبر الذهب والفضة أصلًا:
وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد (4)، قالوا: الدراهم والدنانير مقدرة في الديات (ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم - عند الجمهور - أو عشرة آلاف درهم عند الحنابلة) يجوز أخذها مع وجود الإبل، وحجتهم ما يلي:
1 - رواية لكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به عمرو بن
حزم: إلى أهل اليمن، وفيه: «أن في النفس المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار» (5).
_________
(1) حسن: تقدم مرارًا.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (4541)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجة (2630).
(3) ضعيف: أخرجه النسائي (2/ 252)، والدارمي (2/ 193)، والبيهقي (8/ 95) بسند ضعيف، إلا أن لقوله «في النفس مائة من الإبل» شواهد كما ترى، وانظر «الإرواء» (2212) على أنه قال ابن عبد البر: «هو كتاب مشهور عند أهل السير، ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه من أحاديث كثيرة تأتي ...» اهـ. (فتح البر - 11/ 521).
(4) «البدائع» (7/ 253)، و «جواهر الإكليل» (2/ 265)، و «الإنصاف» (10/ 58)، و «تحفة الفقهاء» (3/ 155).
(5) ضعيف: تقدم، وهذا لفظ النسائي (8/ 58).

(4/234)


2 - ما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: «أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديته: اثنى عشر ألفًا» (1).
3 - أن عمر قام خطيبًا فقال: «ألا أن الإبل قد غلت، فتقوَّم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحُلل مائتي حُلَّة» (2).
القول الثالث: أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم:
وهو مذهب أحمد والصاحبين من الحنفية (وفي رواية عن أحمد - وهو قول الصاحبين -: والحُلل (الثياب) فتكون الأصول ستة) وهذا قول عمر وعطاء وطاووس وفقهاء المدينة السبعة وابن أبي ليلى (3)، وحجتهم أثر عمر المتقدم.
وعلى قولهم، يجزئ في الدية مائة من الإبل، أو ألف دينار من الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم (وعند الحنفية: عشرة آلاف!! ولا أصل لقولهم هذا) أو مائتان من البقر، أو ألفا شاة، فأي شيء أحضره من عليه الدية من ذلك لزم المستحق أن يأخذه وليس له المطالبة بغيره.
الترجيح: الذي يترجَّح لديَّ أن الأصل في تقدير الدية: الإبل، وما ورد في
تقديرها بغير ذلك إنما هو على سبيل التقويم بالإبل، والخلاف إنما هو في كونها أصلًا أو لا، ويدلُّ على ذلك أثر عمر فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم لغلاء الإبل، ولو كانت أصولًا بنفسها لم يكن إيجابها تقويمًا للإبل، ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك، ولا لذكره معنى، ويؤيد هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتِل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور» قال: «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوِّمها على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق، ويقوِّمها على أهل الإبل: إذا غلت رفع قيمتها وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلغ قيمتها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، أو عدلها من الورق، قال: وقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في
_________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4546)، والنسائي (2)، والترمذي، وابن ماجة (2629).
(2) حسن: أخرجه أبو داود (4512)، وعنه البيهقي (8/ 77)، وانظر «الإرواء» (2247).
(3) «الإنصاف» (10/ 58)، و «كشاف القناع» (6/ 18)، و «المغني» (8/ 367 - القاهرة).

(4/235)


الشاة ألفي شاة، وقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم، فما فضل فاللعصبة، وقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعقل على المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثون منه شيئًا إلا ما فضل من ورثتها، وإن قُتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلها» (1).
فالحاصل: أن الأصل في تقدير الديات شرعًا الإبل، ولا يعني هذا أنها تتعين فلا تؤخذ قيمتها من غير الإبل، بل تؤخذ - في كل بلد - مما يناسبها مقدَّرة بقيمة الإبل، والله أعلم.
أسباب وجوب الدية ومقاديرها:
أولًا: القتل: وقد تقدم في «الجنايات» تعريفه، وأنه على ثلاثة أقسام: خطأ، وعمد، وشبه عمد.
1 - الدية في القتل الخطأ: تقدم في «الجنايات» أنه لا قصاص في القتل الخطأ - باتفاق الفقهاء - وإنما تجب الدية والكفارة، لقوله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} (2) وقوله سبحانه: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} (3).
مقدار دية المسلم: ولا خلاف بين أهل العلم أن دية المسلم الذكر الحر هي: مائة من الإبل أو ما يقوم مقامها على ما سبق بيانه، وقد تقدمت أدلة هذا في ثنايا الكلام على أصول الدية.
وأما الأنثى: فديتها نصف دية الذكر الحر المسلم بإجماع أهل العلم، وقد ورد من حديث معاذ مرفوعًا: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» (4) وهو ضعيف، لكن صحَّ معناه عن جماعة من الصحابة، فعن شريح قال: أتاني عروة البارقي من عند عمر: «أن جراحات الرجال والنساء تستوي في السن والموضحة، وما فوق ذلك: فدية المرأة على النصف من دية الرجل» (5).
وفي الباب عن عليٍّ وابن مسعود بإسناد صحيح (6).
_________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (4541)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجة (2630).
(2) سورة النساء: 92.
(3) سورة النساء: 92.
(4) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 95) وانظر «الإرواء».
(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة.
(6) «مصنف ابن أبي شيبة» و «سنن البيهقي» (8/ 95 - 96).

(4/236)


وأما الخنثى: فإن كان المقتول خنثى مشكلًا، فقال المالكية والحنابلة: فيه نصف دية ذكر ونصف دية أنثى، وقال الحنفية: فيه دية أنثى ويوقف الباقي إلى التبيُّن).
وقال الشافعية: فيه دية أنثى، لأن زيادته عليها مشكوك فيها (1).
وأما الذمي والمستأمن: فاختلف العلماء في مقدارها على ثلاثة أقوال:
الأول: دية الذمي على النصف من دية المسلم: وهو مذهب مالك وأحمد، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعروة وعمرو بن شعيب (2)، وحجتهم:
1 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضي بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين» (3).
2 - وعن ابن عمر مرفوعًا: «أن دية المعاهد نصف دية المسلم» (4).
الثاني: دية الذمي ودية المسلم سواء: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال النخعي والشعبي، وهو مروي عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية -
رضي الله عنهم - (5)، وحجتهم:
1 - قوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله} (6) قالوا: فأطلق سبحانه القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل، فدلَّ على أن الواجب في الكل واحد.
2 - ما رُوي من «أن عمرو بن أمية الضمري قتل مستأمنين، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية حُرين من المسلمين» (7).
الثالث: دية الذمي على الثلث من دية المسلم: وهو مذهب الشافعي ورواية
_________
(1) «ابن عابدين» (5/ 368)، و «مواهب الجليل» (6/ 433)، و «مغني المحتاج» (4/ 56)، و «المغني» (7/ 797).
(2) «جواهر الإكليل» (2/ 266)، و «المغني» (7/ 793)، و «الإنصاف» (3/ 64).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (4542)، والنسائي، والترمذي، وأحمد (2/ 180)، وانظر «الإرواء» (2251).
(4) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7582) بسند ضعيف، ويشهد له ما قبله.
(5) «البدائع» (7/ 254)، و «ابن عابدين» (5/ 369).
(6) سورة النساء: 92.
(7) ضعيف: أخرجه الترمذي، والبيهقي (8/ 120) وضعَّفه.

(4/237)


أخرى في مذهب أحمد، وهو مروي عن عمر وعثمان (!!) وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وإسحاق وأبو ثور (1)، وحجتهم:
1 - ما رُوي عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم» (2) وهو ضعيف.
2 - ما رُوي عن عمرو بن شعيب «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض على كل مسلم قتل رجلًا من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم» (3) وهو
منقطع (معلَّق).
والراجح: الأول، دية الكتابي نصف دية المسلم، لصحة الحديث المرفوع فيه، والله أعلم.
فائدة: دية نساء أهل الذمة على النصف من دياتهم، وهذا لا خلاف فيه.
على من تكون الدية في قتل الخطأ؟
لا خلاف بين أهل العلم في أن الدية في قتل الخطأ تتحملها «عاقلة» الجاني، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فاختصموا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقضي بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم» (4).
المراد بالعاقلة:
اختلف أهل العلم في تعيين العاقلة الذين تلزمهم في قتل الخطأ على قولين:
الأول: هم عصبة الجاني، وهم أقرباؤه من جهة الأب وهم: الإخوة وبنوهم، ثم الأعمام وبنوهم، ثم أعمام الأب وبنوهم، ثم أعمام الجد وبنوهم، وهذا مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة، وابن حزم (5) وحجتهم:
1 - حديث المغيرة بن شعبة: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضي
بالدية على العصبة» (6).
_________
(1) «مغني المحتاج» (4/ 57)، و «الأم» (6/ 96)، و «الإنصاف» (10/ 64).
(2) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 100).
(3) ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 145).
(4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1681).
(5) «الدسوقي» (4/ 282)، «القوانين الفقهية» (298)، و «روضة الطالبين» (9/ 349)، و «مغني المحتاج» (4/ 96)، و «المغني» (9/ 515)، و «المحرر» (2/ 148)، و «المحلي» (11/ 44 - 48).
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1682)، وأبو داود (4568)، والنسائي (8/ 50)، والترمذي (1411).

(4/238)


2 - حديث أبي هريرة - في قصة المرأتين المقتتلتين - وفيه: «... ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها» (1).
3 - حديث جابر قال: «كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل بطن عقوله، ثم كتب أنه لا يحل لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه» (2).
قال ابن حزم: فعُلم أنَّ أولياء الجاني الذين هم عصبته ومنتهاهم البطن الذي هو منهم. اهـ.
4 - ما يُروى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «قضي على عليٍّ - رضي الله عنه - بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب - رضي الله عنها -» (3) لأنه ابن أخيها دون ابنها الزبير، قالوا: واشتهر ذلك بينهم.
5 - ولأن أقاربه أخص، إذ لهم غُنم الإرث فيلزمهم الغُرم.
القول الثاني: العاقلة هم أهل الديون إن كان القاتل منهم: وإلا فعاقلته: قبيلته، وهو مذهب أبي حنيفة والليث والثوري، وقريب منه مذهب ابن تيمية - رحمه الله - إذ قرر أن العاقلة هم الذين ينصرون الرجل ويعينونه ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان، وأنهم غير محددين بالشرع، فقد يكونون من الأقارب أو
من غيرهم ممن تحصل بهم النصرة (4)، وحجتهم:
1 - حديث أبي هريرة: «فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها» (5) قال شيخ الإسلام: فالوارث غير العاقلة.
2 - «أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما دوَّن الدواوين جعل الدية على أهل الديوان» (6) قالوا: وقد قضي عمر بذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه منكِر فكان إجماعًا (!!).
_________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1681).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1507)، وأبو عوانة (4810)، والبيهقي (3/ 299).
(3) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 107)، وفي سنده انقطاع، انظر «التلخيص» (4/ 37).
(4) «المبسوط» (23/ 125، 126)، و «الهداية» (4/ 225)، و «مجموع الفتاوى» (19/ 256).
(5) صحيح: مرَّ قريبًا.
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 396) وبنحوه عبد الرزاق (9/ 420)، وأبو يوسف في كتاب «الآثار» (980) وفي أسانيدها انقطاع.

(4/239)


فإن قيل: كيف يُظن بهم الإجماع على خلاف ما قضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
أجيب: بأن هذا اجتماع على وفاق ما قضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قضي به على العشيرة باعتبار النصرة، وكان قوة المرء ونصرته يومئذٍ بعشيرته، ثم لما دوَّن عمر - رضي الله عنه - الدواوين، صارت القوة والنصرة بالديوان. اهـ.
قال شيخ الإسلام: وهذا أصح القولين، وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا فرجل قد سكن بالمغرب، وهناك من ينصره ويعينه، كيف تكون عاقلته من بالمشرق في مملكة أخرى، ولعل أخباره قد انقطعت عنهم، والميراث يمكن حفظه
للغائب ... فالوارث غير العاقلة. اهـ.
قلت: لو ثبت فعل عمر - رضي الله عنه - لكان للقول الثاني وجاهته، لأنه قد يقال في أدلة الأولين أن جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدية على العصبة باعتبار النصرة لا النسب، لكن الظاهر عدم ثبوته، بل قد ورد عنه خلاف، فقد روُي أن عمر أمر عليًّا - في جناية جناها عمر - «أن يقسم عقله على قريش» يعني: يأخذ عقله من قريش لأنه خطأ (1)، وسنده ضعيف كذلك، فيترجح قول الجمهور، والله أعلم.
وهل يدخل الأب والابن مع العاقلة؟
ذهب المالكية والحنابلة في مشهور المذهب - وهو قول عند الحنفية - إلى أن الأب والابن يدخلان مع العاقلة؛ لأنهم من العصبة، ولأن العقل موضوع على التناصر وهم من أهله.
وذهب الشافعية وهو الرواية الثانية عند الحنابلة وقول عند الحنفية إلى أنهما لا يدخلان مع العاقلة؛ لأنهما أصله وفرعه، فكما لا يتحمل الجاني لا يتحملان.
قلت: لعل هذا الأخير يؤيده حديث جابر في قصة اقتتال المرأتين وفيه: «... فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عاقلتها، وبرَّأ زوجها وولدها، قال: فقالت عاقلة المقتولة: ميراثها لنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ميراثها لزوجها وولدها» (2) ففيه التصريح بتبرئة الابن من الدية، ويقاس الأب
عليه والله أعلم.
والحكمة في وجوب دية الخطأ على العاقلة - مع أن الأصل أن يتحملها الجاني نفسه - أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كبيرة، فإيجابها في مال الجاني
_________
(1) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (9/ 459) ومن طريقه ابن حزم في «المحلي» (11/ 24).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4575).

(4/240)


يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفًا (1).
وهل يدخل القاتل في تحمل الدية مع العاقلة؟
ذهب الحنفية والمالكية إلى أن الجاني يتحمل الدية مع العاقلة فيكون كأحدهم لأن الوجوب عليهم باعتبار النصرة، ولا شك أنه ينصر نفسه كما ينصر غيره، ولأنهم تحملوا جنايته فكان هو أحق بالتحمل.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يتحمل الجاني مع العاقلة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضي بالدية على العاقلة ولم يكن الجاني من ضمنها. قلت: ولعل هذا أرجح لأن الأصل حرمة مال المسلم إلا بنص، وهذا مذهب ابن حزم.
أداء الدِّية مؤجلة: قال الترمذي - رحمه الله -: وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين، في كل سنة ثلث الدية. اهـ.
وقد قضي عمر وعليٌّ وابن عباس - رضي الله عنهما - بجعل دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، فاتبعهم على ذلك أهل العلم، إلا أن أصحاب المذاهب الفقهية فهموا من هذا وجوب هذا التأجيل
(!!) (2) وكل ما يمكن فهمه من قضاء الصحابة ومن نقل الإجماع أنه يشرع للعاقلة تأدية الدية مؤجلة في ثلاث سنين تخفيفًا عليهم، وهذا حيث تكون المشقة، فإن كانوا مياسر ولا ضرر عليهم في التعجيل فإنها تؤخذ حالًا، فالتأجيل إذن ليس بواجب بل تعجل وتؤجل بحسب الحال والمصلحة كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله (3).
صفة الدية إذا كانت من الإبل (4):
«إذا كانت الدية من الإبل فإنها تؤدي في القتل الخطأ أخماسًا عند الأئمة
_________
(1) «كشاف القناع» للبيهقي (6/ 6).
(2) «البدائع» (7/ 255)، و «المنتقي» للباجي (7/ 69)، و «روضة الطالبين» (9/ 359)، و «المغني» (7/ 769).
(3) «مجموع الفتاوى» (19/ 256)، وهذا قول عند الحنابلة، وإن كان جماهيرهم على خلافه، انظر «الإنصاف» (10/ 129).
(4) «البدائع» (7/ 254)، و «جواهر الإكليل» (2/ 265)، و «مغني المحتاج» (4/ 54)، و «المغني» (7/ 77)، و «الإنصاف» (10/ 61).

(4/241)


الأربعة وهي: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة (اتفاقًا) واختلفوا في العشرين الباقية: فقال الحنفية والحنابلة: هي من بني المخاض لما ورد عن ابن مسعود مرفوعًا: «في دية الخطأ: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر» (1).
وأما المالكية والشافعية فقالوا في العشرين الباقية، هي من بني اللبون، وهو قول عمر بن عبد العزيز والزهري والليث وربيعة، «لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - ودي الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة» (2) وليس فيها ابن مخاض.
بينما ذهب طاوس إلى أن الدية تكون أرباعًا على نحو ما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور ...» (3).
2 - الدية في القتل شبه العمد:
اتفق القائلون بالقتل شبه العمد على أنه موجب لدية مغلظة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها» (4).
وتجب على العاقلة: عند جمهور القائلين بشبه العمد، لحديث أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها» (5).
ولشبهة عدم القصد، لوقوع القتل بما لا يُقصد به القتل عادة، أو لا يقتل غالبًا، فكانت كالخطأ.
ويشترك الجاني في تحملها عند الحنفية خلافًا للشافعية والحنابلة.
_________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (5/ 45)، والترمذي (1386)، والنسائي (4806)، وابن ماجة (2631).
(2) صحيح: ومرَّ الحديث بطوله في «القسامة».
(3) حسن: أخرجه أبو داود (4541)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجة (2630).
(4) حسن: نقدم مرارًا.
(5) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

(4/242)


وتؤدَّى مؤجلة في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلثها، على نحو ما تقدم في قتل الخطأ.
ولا تغلظ الدية في غير الإبل: عند الفقهاء؛ لأنها مقدرة، ولم يرد النص في غير الإبل، فيقتصر على التوقيف (1).
3 - الدية في القتل العمد (2):
الأصل أن القتل العمد موجب للقصاص كما تقدم في «الجنايات» لكن إذا سقط القصاص عن الجاني، إما لعفو أولياء القتيل أو غير ذلك مما تقدم، فإنه تجب الدية إما بالصلح (برضا الجاني) كما يقول الحنفية والمالكية، وإما بدلًا عن القصاص (ولو بغير رضا الجاني) كما هو المعتمد عند الشافعية فليست الدية عقوبة أصلية للقتل العمد.
وذهب الحنابلة - وهو قول عند الشافعي - إلى أن الدية عقوبة أصلية بجانب القصاص في القتل العمد، فالواجب عندهم أحد شيئين: القود أو الدية، ويخيَّر الولي بينهما، ولو لم يرض الجاني.
والدية في قتل العمد مغلظة، سواء أوجب فيه القصاص وسقط بالعفو، أو لشبهة أو نحوهما، أم لم يجب أصلًا كقتل الوالد ولده، واختلفوا في كيفية تغليظها.
قلت: وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي: ثلاثون
حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفَة، وما صولحوا عليه فهو لهم» وذلك لتشديد العقل (3).
فينبغي العمل به، لهم أن يصالحوا على أكثر من ذلك للحديث، والله أعلم.
دية العمد تجب من مال القاتل: ولا خلاف في هذا بين أهل العلم فلا تحمله العاقلة، ويؤيد هذا:
1 - حديث أبي رمثة التيمي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ابن لي، فقال: ابنك؟ قلت: اشْهَد به، قال: «لا يجني عليك ولا تجني عليه» (4).
2 - ولأن العامد لا عذر له، فلم يخفف بحمل العاقلة.
_________
(1) «كشاف القناع» (6/ 19).
(2) «البدائع» (7/ 241)، و «الدسوقي» (4/ 239)، و «مغني المحتاج» (4/ 55)، و «المغني» (7/ 765).
(3) حسن: أخرجه الترمذي (1406)، وابن ماجة (2626).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4207)، والنسائي (8/ 53)، وأحمد (2/ 226).

(4/243)


ولا تؤجل الدية في القتل العمد: وهذا مذهب الجمهور - خلافًا للحنفية - لأن الأصل وجوب الدية حالًا، والتأجيل في الخطأ ثبت معدولًا به عن الأصل، لإجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، أو معلولًا بالتخفيف على القاتل حتى تحمل عنه العاقلة، وأما العامد فيستحق التغليظ، ولهذا وجب في ماله لا على العاقلة.
ثانيًا: الجناية على ما دون النفس:
وتجب الدية في الاعتداء على ما دون النفس إذا سقط القصاص أو لم يمكن استيفاؤه، وموجبات الدية ثلاثة أقسام:
1 - دية الأعضاء:
اتفق الفقهاء - في الجملة على أن في قطع ما لا نظير له في بدن الإنسان كالأنف واللسان والذكر والحشفة والصلب إذا انقطع المني، ونحو ذلك، دية كاملة.
ومن أتلف ما في البدن منه شيئان كالعينين والأذنين واليدين والرجلين والشفتين والثديين والخصيتين ونحو ذلك ففيهما معًا دية كاملة، وفي إحداهما نصف الدية.
ومن أتلف ما في الإنسان منه أربعة أشياء كأشفار العينين والأجفان ففيهما الدية، وفي كل واحد منها ربع الدية.
وما في الإنسان عشرة أشياء كأصابع اليدين والقدمين ففي جميعها الدية كاملة، وفي كل أصبع عُشر الدية، وما في الأصابع من المفاصل ففي أحدها ثلث دية الأصبع، ونصف دية الأصبع فيما فيها مفصلان (وهي الإبهام خاصة).
وفي جميع الأسنان دية كاملة، وفي كل سن خَمْس من الإبل، وهذا في الجملة وهناك تفريعات مبثوثة في كتب الفروع (1).
والأصل فيما تقدم، ومستند هذا الاتفاق ما ورد في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن الذي بعث به عمرو بن حزم، وفيه: «... وأن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي
الجائفة ثلث الدية،
_________
(1) انظر «الموسوعة الفقهية» (21/ 65 - 79).

(4/244)


وفي المنقلة خمس عشر من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وأن الرجل يُقتل بالمرأة ...» (1).
قلت: وإسناده ضعيف إلا أن العمل عليه، وقد صحَّ في بعض ذلك أحاديث:
- فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دية الأصابع اليدين والرجلين سواء، في كل أصبع عشر من الإبل» (2).
- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «في الأصابع عشرٌ، عشرٌ» (3).
- وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذه وهذه سواء، وهذه وهذه سواء، الخنصر والإبهام، [والضِّرس والثنية]» (4).
2 - دية الجروح:
(أ) الشجاج (جراح الرأس والوجه):
ذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو وجه عند الشافعية) إلى عدم وجوب دية (أرش) مقدرة فيما يكون أقل من الموضَّحة، وهي الحارصة
والدامية والباضعة والمتلاحمة والسمحاق (5)، وإنما يجب في كل من هذه الشجاج حكومة عدل، لأنه ليس فيها أرش مقدر، ولا يمكن إهدارها فتجب الحكومة (6)، وهي: ما يدفع للمجني عليه من قبل الجاني باجتهاد القاضي أو بتقدير أهل الخبرة.
قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ قوله أن معنى قولهم: «حكومة» أن يقال إذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم: كم قيمة هذا لو كان عبدًا قبل أن يُجرح هذا الجرح؟ أو يضرب هذا الضرب؟ فإن قيل: مائة دينار، قيل: كم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه؟ فإن قيل: خمسة وتسعون دينارًا، فالذي
_________
(1) مرسل: أخرجه مالك، والنسائي (8/ 60) وغيرهما وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4561)، والترمذي (1391)، وأحمد (1/ 289).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (4562)، والنسائي (8/ 57)، وأحمد (2/ 207).
(4) صحيح: أخرجه البخاري، وأبو داود (4558)، والنسائي (8/ 56)، والترمذي (1392)، وابن ماجة (2650)، وابن الجارود (783).
(5) سبق تعريف هذه الشجاج في باب الجنايات، فراجعها هناك إن شئت.
(6) «روضة الطالبين» (9/ 265)، و «المغني» (8/ 42).

(4/245)


يجب للمجني عليه على الجاني نصف عُشر الدية، وإن قالوا: تسعون دينارًا، ففيه عُشر الدية، وما زاد ونقص ففي هذا المثال. اهـ (1).
وأما الموضحة والهاشمة والمنقلة والآمة ففي كلٍّ منها أرش مقدر:
الموضحة:
اتفق الفقهاء على أن في الموضحة نصف عشر الدية (أي: خمس من الإبل) في الحر الذكر المسلم (2).
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: «في الأصابع عشر، وفي المواضح خمسٌ خمسٌ» (3).
وتقدم في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الموضحة خمس من الإبل».
ويستوي الرجل والمرأة في موضحتهما، فعن ابن مسعود في جراحات المرأة والرجل قال: «يستويان في الموضحة، وفيما سوى ذلك على النصف» (4). وقد نصَّ على ذلك الحنابلة.
الهاشمة (5):
لم يرد في تحديد أرش الهاشمة سنة ولا إجماع، ولذا اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب جمهورهم إلى أن فيها عُشر الدية، وهو عشرة من الإبل، وهو مذهب الحنفية والحنابلة وهو قول الشافعية (إذا كانت مع الإيضاح) وقول عند المالكية، وهو مروي عن زيد بن ثابت وقتادة والثوري.
وأما الهاشمة دون الإيضاح ففيها عند الشافعية خمسة أبعرة، وقيل حكومة.
وقال ابن المنذر: تجب في الهاشمة الحكومة إذ لا سنة فيها ولا إجماع، فتجب فيها الحكومة كما تجب فيما دون الموضحة، وهو قول آخر للمالكية، وعندهم قول ثالث أن فيها عُشر الدية ونصفه (خمسة عشر من الإبل)!!
_________
(1) «الإجماع» لابن المنذر (ص 151).
(2) «ابن عابدين» (5/ 372)، و «جواهر الإكليل» (2/ 267)، و «الروضة» (9/ 263)، و «المغني» (8/ 42).
(3) حسن: أخرجه أبو داود (4566)، والنسائي (8/ 57)، والترمذي (1390)، وابن ماجة (2655).
(4) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (9/ 398).
(5) «جواهر الإكليل» (2/ 267)، و «نهاية المحتاج» (7/ 305)، و «المغني» (8/ 45).

(4/246)


المنقلة (1):
ولا خلاف في أنه يجب في المنقلة عُشر الدية ونصفه (خمسة عشر بعيرًا) وقد حكي ابن المنذر الإجماع على ذلك، ومستند الإجماع ما في حديث عمرو بن حزم: «.. وفي المنقلة: خمس عشرة من الإبل» (2).
المأمومة (3): أو الآمة، ويجب فيها ثلث الدية عند الجمهور: (الحنفية والمالكية والحنابلة، والصحيح عند الشافعية) لما في حديث عمرو بن حزم: «في المأمومة: ثلث الدية» (4).
وفي قول عند الشافعية نقله النووي عن الماوردي: أن فيها ثلث الدية وحكومة (!!).
الدامغة (5): وهي الشجة التي تتجاوز عن الآمة فتخرق الجلدة وتصل إلى الدماغ وتخسفه، وغالبًا ما يموت المجني عليه بها، ولذا لم يذكرها بعض الفقهاء في بحث الشجاج، وعلى كلٍّ فلو لم يمت المجني عليه بعد الدامغة فذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية - في المعتمد - والحنابلة - في المذهب - والشافعية في الأصح) إلى أن فيها ما في المأمومة (ثلث الدية).
وفي قول عند الشافعية والحنابلة: تجب ثلث الدية وحكومة، وفي قول عند المالكية: تجب في الدامغة حكومة عدل.
(ب) الجراح في غير الوجه والرأس (6):
اتفق الفقهاء على أنه لا يجب أرش مقدَّر في سائر جراح البدن، باستثناء الجائفة، وإنما تجب فيها حكومة، وذلك أنه لم يرد فيها نص من الشرع، ويصعب ضبطها وتقديرها.
وأما الجائفة: وهي ما وصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو غير
_________
(1) «ابن عابدين» (5/ 372)، و «روضة الطالبين» (9/ 264)، و «المغني» (8/ 46).
(2) مرسل: تقدم الكلام عليه.
(3) مرسل: تقدم الكلام عليه.
(4) «جواهر الإكليل» (2/ 260)، و «الروضة» (9/ 262)، و «المغني» (8/ 47).
(5) «الجواهر» (2/ 60)، و «مغني المحتاج» (4/ 58)، و «المغني» (8/ 47).
(6) «جواهر الإكليل» (2/ 267)، و «ابن عابدين» (5/ 356)، و «روضة الطالبين» (9/ 265)، و «المغني» (8/ 44، 49).

(4/247)


ذلك، فاتفقوا على أن فيها ثلث الدية، سواء أكانت عمدًا أم خطأ لما في حديث عمرو بن حزم: «... وفي الجائفة ثلث الدية» (1).
كما اتفقوا على أن الجائفة إذا نفذت من جانب لآخر تعتبر جائفتين، فيهما ثلثا الدية.
3 - دية المنافع والمعاني (2):
الأصل في دية المعاني - فضلًا عما ورد في بعضها من نصوص - أنه إذا فوَّت جنس منفعة على الكمال، أو أزال جمالًا مقصودًا في الآدمي على الكمال يجب كل الدية؛ لأنه فيه إتلاف النفس من وجه، إذ النفس لا تبقى منتفعًا بها من هذا الوجه، وإتلاف النفس من وجه ملحق بالإتلاف من كل وجه في الآدمي تعظيمًا له.
وهذا الأصل كما هو معتبر في الأعضاء، مطبَّق كذلك في إذهاب المعاني والمنافع من الأعضاء، وإن كانت باقية في الظاهر، ومما تجب فيه الدية من المعاني:
العقل والنطق، وقوة الجماع، والإمناء في الذكر، والحَبَل في المرأة، والسمع، والبصر، والشم والذوق واللمس.
وهذا إذا أتلفت المعاني دون إتلاف الأعضاء المشتملة عليها، فإن تلف العضو والمنفعة معًا ففي ذلك دية واحدة، وإن أتلفهما بجنايتين منفردتين تخللهما البرء، فدية كل عضو أو منفعة بحسب الحالة.
وتفريعات هذه المسألة وتفاصيلها مبثوثة في كتب الفروع (3).
ثالثًا: دية الجنين:
إذا مات الجنين بسبب الجناية على أمه المسلمة، فديته (غرة) سواء انفصل من أمه وخرج ميتًا، أم مات في بطنها، وسواء كانت الجناية عمدًا أم خطأ، ولو من الحامل نفسها أو من زوجها، وسواء كان ذكرًا أو أنثى (4).
والغُرَّة: نصف عُشر الدية، وهي: خمس من الإبل، ولا تختلف بذكورة الجنين وأنوثته، فهي في كليهما سواء (5).
_________
(1) مرسل: تقدم الكلام عليه مرارًا.
(2) «الموسوعة الفقهية» (21/ 79، 80).
(3) وانظر «الموسوعة الفقهية» (21/ 80 - 82).
(4) «ابن عابدين» (5/ 377)، و «الدسوقي» (4/ 269)، و «أسنى المطالب» (4/ 89)، و «المغني» (7/ 799).
(5) الغرة في الحديث: عبد أو أمة، وقد قدَّرها الفقهاء بنصف عُشر الدية كما ورد في بعض الأحاديث.

(4/248)


- فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقضي أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضي بدية المرأة على عاقلتها،
وورثها ولدها ومن معه» (1).
- وعن المغيرة بن شعبة أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها، وهي حُبلى فأتى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضي فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غُرَّة، فقال عصبتها: أنَدى ما لا طَعِم ولا شرب ولا صاح ولا استهل؟! مثل ذلك يُطَلُّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سجع مثل سجع الأعراب» (2).
وإن كانت الحامل مُعَاهَدة: كتابية أو ذمية أو مجوسية ممن لهن أمان، ففي جنينها عُشر دية أمه؛ لأن جنين الحرة المسلمة مضمون بعُشر دية أمه، فكذلك جنين الكافرة بالنسبة لأمِّه (3).
إذا ألقت جنينها حيًّا ثم مات:
أما إذا ألقته في حياتها حيًّا حياة مستقرة ثم مات نتيجة للجناية، ففيه دية كاملة اتفاقًا، لأنه قتل إنسان حي (4).
وإذا ألقته نتيجة للجناية عليها ميتًا بعد موتها: فاختلفوا فيه (5):
(أ) فقال الحنفية والمالكية: في الأم الدية، ولا شيء في الجنين؛ لأن موتها سبب في موته لأنه يختنق بموتها، واحتمل موته بالضربة، فلا تجب الغرة بالشك!!.
(ب) وقال الشافعية والحنابلة: في الأم الدية، وفي الجنين غُرَّة؛ لأنه جنين تلف بجناية وعلم بخروجه فوجب ضمانه كما لو سقط في حياتها، ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمه كما لو خرج حيًّا.
قلت: وهذا أرجح لظاهر حديث أبي هريرة، والله أعلم.
_________
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1681).
(2) صحيح: أخرجه مسلم، وأحمد (4/ 246).
(3) «المغني» (7/ 800).
(4) «الدسوقي» (4/ 269)، و «مغني المحتاج» (4/ 102)، و «المغني» (7/ 899).
(5) المراجع السابقة.

(4/249)


15 - كتاب البيوع

(4/250)


كتاب البيوع (*)
البيوع: جمع للبيع، والبيع مصدر، والمصادر لا تُجْمع. لكن جُمع لملاحظة اختلاف أنواعه.
تعريفه:
لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، حيث قد أخذوه من الباع الذي تُمَدُّ [إذْ إنْ كل واحد من المتعاطيين يَمُدُّ باعه إلى الآخر] (1) إما لقصد الصفقة، أو للتقابض على المعقود عليها من الثمن والمثمن (2).
واصطلاحًا (شرعًا): اختلف الفقهاء في تعريفه؛ لكنْ قل أن يسلم تعريف منها. ولعل أجمع تعريف هو: "مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة -كممر في دار بمثل أحدهما- على التأبيد غير ربا وقرض" (3).
فقوله "مبادلة مال": المراد بالمال، كل عين مباحة النفع بلا حاجة (كالذهب والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، والسيارات، والأواني، والعقارات، وغيرها).
-وقوله "ولو في الذمة": معناه أن العقد قد يقع على شيء معين، وقد يقع على شيء في الذمة، فإذا قلتُ: بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب فهذا بيع معين بمعين، وإذا قلتُ: بعتُك هذا الكتاب بعشرة ريالات فهذا بيع معين بما في الذمة. وهذا يشمل أيضًا: بيع ما في الذمة بما في الذمة.
- وقوله "أو منفعة مباحة": معناه مبادلة مال بمنفعة مباحة -كبيع ممر في دار- خرج به محرمة النفع كآلات المعازف وغيرها.
- وقوله "بلا حاجة": احترازًا مما يباح نفعه للحاجة أو للضرورة: كإباحة الميتة للمضطر، وكلب الصيد للحاجة.
- قوله "بمثل أحدهما": معناه مبادلة المال ولو في الذمة أو المنفعة بمثل أحدهما.
__________
(*) قلت: كتاب البيوع في هذا الكتاب ملحق من إعداد الشيخ فؤاد سراج الدين حتى يكمل الكتاب إلى حين إعداده على نفس شرطي في الكتاب كله.
(1) الشرح الممتع (8/ ص 107).
(2) تيسير العلام (2/ ص 6).
(3) الشرح الممتع (8/ ص 107).

(4/251)


- قوله "على التأبيد": معناه مع أن يكون هذا التبادل على التأبيد وذلك احترازًا من الإجارة.
- قوله "غير ربا": الربا لا يسمى بيعًا وإن وجد فيه التبادل لأن الله جعله قسيمًا للبيع، وقسيم الشيء ليس هو الشيء قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.
- قوله "وقرض": أى: وغير قرض، لأن القرض لا يسمى بيعًا وإن وجدتْ فيه المبادلة، وذلك أن المقرض والمستقرض لم ينو أحد منهما المفاوضة، إنما قصد المقرض الإرفاق وقصد المستقرض سد حاجته ولهذا صار القرض ليس بيعًا (1).
• الحاكم التكليفى للبيع:
"اتفق الفقهاء على أن البيع مشروع على سبيل الجواز. دل على جوازه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
• أما الكتاب:
1 - فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (2).
2 - وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3).
3 - وقال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4).
• وأما السنة:
1 - فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (5).
2 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" (6).
3 - وعنه - رضي الله عنهما - أن رجلًا ذكر للنبى - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال: "إذا بايعت فقل: لا خلابة"، أي: لا خديعة (7).
__________
(1) الشرح الممتع (8/ ص 107: 113) بتصرف.
(2) سورة البقرة: 282.
(3) سورة البقرة: 275.
(4) سورة النساء: 29.
(5) صحيح: متفق عليه. وهو في البخاري برقم (4917) وفي مسلم برقم (1531).
(6) صحيح: متفق عليه. أخرجه البخاري (1239) ومسلم (1412).
(7) صحيح: متفق عليه. أخرجه البخاري (2117) ومسلم.

(4/252)


• وأما الإجماع:
فقد أجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة.
• وأما المعقول:
فلأن الحكمة تقتضيه، لتعلق حاجة الإنسان بما في يد صاحبه، ولا سبيل إلى المبادلة إلا بعوض غالبًا ففى تجويز البيع وصول إلى الغرض ودفع للحاجة" (1).
الترغيب في كسب الحلال والأكل منه والترهيب من كسب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك:
عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبى الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده" (2).
وعن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يأخذ أحدكم أحبُلَهُ، فيأتى بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكفَّ بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" (3).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلاطيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك" (4).
• الترغيب في البكور فى طلب الرزق:
عن صخر بن وداعة الغامدى -الصحابي- رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم بارك لأمتى في بكورها" وكان إذا بعث سرية، أو جيشًا بعثهم في أول النهار وكان صخر تاجرًا فكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله (5).
__________
(1) راجع: الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ ص 827) واختيارات ابن قدامة الفقهية (جـ2/ ص 10، 11) والشرح الممتع (ص 8/ ص 104، 105).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2072).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (1471).
(4) حسن: أخرجه مسلم والترمذي (2989).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (2606) والترمذي (1212) وابن ماجة (2236) وابن حبان (2735).

(4/253)


• الترغيب في الاقتصاد في طلب الرزق والمعيشة:
عن عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "السمت الحسنُ والتؤَدَةُ والاقتصاد جزء من أربعة وأربعين جزءًا من النبوة" (1).
وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له فأجملوا في الطلب: أخْذِ الحلال، وترك الحرام" (2).
• الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن التقاضى والقضاء:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى" (3).
• ترغيب التجار في الصدق وترهيبهم من الكذب والحلف:
عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدق البيعان وبيّنا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحا، يمحقا بركة بيعهما، اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب" (4).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحلف منفقة للسلعة وممحقة للبركة" (5).
وعن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رجلًا أقام سلعة وهو في السوق، فحلف بالله لقد أعْطى بها ما لم يُعْط ليُوقع فيها رجلًا من المسلمين. فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (6).
• ترغيب التجار في الصدقات تكفيرًا لما قد يقع منهم -كغش أو كتمان عيب أو سوء خلق-:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر التجار، إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف،
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي (2010) وأبو داود (4776).
(2) صحيح: أخرجه ابن حبان (3227) والحاكم (2/ 4).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (2076) وابن ماجة (2203) واللفظ له.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (2079) ومسلم (1532) وغيرهما.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2087) ومسلم (1606).
(6) صحيح: أخرجه البخاري (2088).

(4/254)


فشوبوه بالصدقة" (1) وفي لفظ: "يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة" (2).
• الترغيب في كتابة الدين ومقدار الدين المؤجل والإشهاد على البيع نسيئة الأجل أو على كتابة الدين:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (3).
وعن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العدَّاء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتابًا كتبه لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: بلى فأخرج لي كتابًا: "هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اشترى منه عبدًا أو أمة، لا داء ولا غائلة، ولا خبثة، بيع المسلم المسلم" (4).
قال التهانوى: "وكتابة البيع مستحبة كالإشهاد عليه .. ويختص ذلك بما له خطر، فأما الأشياء القليلة الخطر كحوائج البقال والعطار وشبههما فلا يستحب ذلك فيها: لأن العقود فيها تكثر فيشق الإشهاد عليها .. " (5) اهـ.
• الترغيب في الورع وترك الشبهات:
عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلال بيِّن والحرام بين، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعى يرعى حول الحمى؛ يوشِك أن يرتع فيه، ألا وإنَّ لكل مَلك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله" (6).
• الترغيب في ذكر الله تعالى في الأسواق ومواطن الغفلة:
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيى ويميت، وهو حى لا
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهما.
(2) صحيح: أخرجه الترمذي.
(3) سورة البقرة: 282.
(4) حسن: أخرجه الترمذى (1216) وابن ماجة (2251).
(5) إعلاء السنن له (ج 14/ ص 7).
(6) صحيح: أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

(4/255)


يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف في درجة" (1).
• الترهيب من بخس الكيل والوزن:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كانوا من أخبث الناس كيلًا فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك (2).
• الترهيب من الغش والترغيب في النصيحة في البيع:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومن غشنا فليس منا" (3).
وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ على صُبْرَة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللًا. فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام" قال: أصابته السماءُ يا رسول الله. قال: "أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا" (4).
• الترغيب في إنظار المعسر:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه" (5).
• التفقه في الدين قبل الدخول في التجارة:
قال - صلى الله عليه وسلم -: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (6).
قال الشوكانى: "التفقه في الدين مأمور به في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي صحيح الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس ذلك بخاصٍّ بنوع من أنواع الدين، بل في كل أنواعه، فيندرج تفقه التاجر للتجارة تحت الأدلة العامة ولا شك أن أنواع الدين تختلف باختلاف الأشخاص دون بعض، فمثلًا التاجر المباشر للبيع والشراء، أحوج لمعرفة ما يرجع إلى ما يلابسه من غيره ممن لا يلابس البيع إلا نادرًا .. " اهـ (7).
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة.
(2) حسن: أخرجه ابن ماجة (2223) وابن حبان (4898).
(3) صحيح: أخرجه مسلم (101).
(4) صحيح: أخرجه مسلم (102) وأبو داود (3452) والترمذي (1315) وابن ماجة (2224).
(5) صحيح: أخرجه البخاري (2078).
(6) صحيح: أخرجه ابن عدى والبيهقي عن أنس كما في الصحيح الجامع (3913).
(7) ويل الغمام على شفاء الأوام للشوكانى (جـ2/ ص 122).

(4/256)


وقال النووى: "يحرم الإقدام عليه (البيع) إلا بعد معرفة شرطه" (1).
قلت: لأن إقدامه على البيع والخوض في مضماره دون معرفة ما يستطيع التمييز به بين المباح والحرام ذريعة إلى أكل الحرام، فعلى كل عاقل قبل أن يدخل في هذا المجال أن يتعلم أحكامه. والله أعلم.

أركان البيع أو كيفية انعقاده أو صفة العقود
• للفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها لا تصح إلا بالصيغة (الإيجاب والقبول) وهو الأصل في العقود، سواء في ذلك البيع والإجارة والهبة والنكاح، والعتق، وغير ذلك. وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد وبه قطع الجمهور.
والأصل في انعقاد البيع عند أصحاب هذا القول: هو اللفظ، لأن الأصل في العقود -هو التراضى المذكور في قوله: "إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" والمعانى التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي قد جعلت لإبانة ما في القلب.
وعليه: لا تصح عندهم المعاطاة في قليل أو كثير لأنها تحتمل وجوهًا كثيرة. وهو مذهب أهل الظاهر أيضًا (2).
القول الثاني: أن العقود تصح بالأفعال فيما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات بالمعاطاة في المحقرات دون الأشياء النفيسة، وكالوقف في مثل من بني مسجدًا، وأَذِنَ للناس في الصلاة فيه، وكبعض أنواع الإجارة؛ كمن دفع ثوبه إلى غسال، أو خياط يعمل بالأجرة ونحو ذلك، وبه قال أبو حنيفة وابن سريج وهو قول في مذهب أحمد ووجه في مذهب الشافعي. وحجتهم:
1 - أن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أمور الناس.
2 - أن الناس من لدن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى يومنا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود (3).
القول الثالث: أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل. فكل ما عدَّه الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة؛ وإن اختلف اصطلاح الناس في
__________
(1) المجموع للنووى (جـ1/ ص 50).
(2) مجموع الفتاوى (15/ ص7)، واختيارات ابن قدامة الفقهية (جـ2/ ص13).
(3) مجموع الفتاوى (15/ ص7) والمجموع للنووى (جـ6/ ص 154).

(4/257)


الألفاظ والأفعال، انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس، كما تتنوع لغاتهم. وهذا هو الغالب على أصول مذهب مالك، وظاهر مذهب أحمد، ورواية عن أبي حنيفة، وقال به صاحب الشامل والمتولى والبغوى والرويانى من الشافعية وهذا القول هو الراجح.
واختاره ابن قدامة وشيخ الإِسلام ابن تيمية ورجحه ابن عثيمين رحم الله الجميع.
• فائدة: قال شيخ الإِسلام: وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد - من أنه لا ينعقد (العقد) إلا بهذين اللفظين (الإيجاب والقبول) بعيد عن أصولهما (1).
• واستدلوا بأدلة منها:
1 - أن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يرد من الشرع ما ينقل عن ذلك ولم يرد.
2 - أن الله تعالى أحل البيع ولم يبين كيفيته؛ فوجب الرجوع فيه إلى العرف: كالقبض المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" (2).
3 - أن الله تعالى اكتفى بالتراضى في البيع في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) وبطيب النفس في التبرع في قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (4) ولم يشترط لفظًا معينًا، ولا فعلًا معَينًا يدل على التراضي، وعلى طيب النفس، ومعلوم بالاضطرار من عادات الناس أنهم يعلمون التراضى وطيب النفس بطرق متعددة.
4 - عدم النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم تحديد صيغة معينة.
5 - أن البيع والشراء مما تعم به البلوى ويعظم خطره، فلو كان الإيجاب والقبول شرطًا لصحته لبينه - صلى الله عليه وسلم - بيانًا كافيًا لإفضاء إخفاء الحكم إلى أكل أموال الناس بالباطل (5).
__________
(1) مجموع الفتاوى (15/ ص 10).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2133) عن ابن عمر ومسلم (1525) وغيره عن ابن عباس.
(3) سورة النساء: 29.
(4) سورة النساء: 4.
(5) ترجيحات ابن قدامة (جـ 2/ ص13، 14، 15)، فتاوى ابن تيمية (جـ15/ ص11، 12، 13) والمجموع (جـ9/ ص 154، 155) الشرح الممتع (جـ8/ ص114، 115).

(4/258)


انعقاد البيع بالمعاطاة
• صور بيع المعاطاة:
له ثلاث صور: ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله-:
الأولى: أن يصدر من البائع إيجاب لفظى فقط، ومن المشترى أخْذ، كقوله خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه، وكذلك لو كان الثمن معيّنا؛ مثل أن يقول: خذ هذا الثوب بثوبك فيأخذه.
الثانية: أن يصدر من المشترى لفظ، ومن البائع إعطاء، سواء كان الثمن معينًا أو مضمونًا في الذمة أن لا يلفظ واحد منهما؛ بل هناك عُرْف بوضع الثمن وأخذ المثمن" اهـ (1).
والمعاطاة: هى إعطاء كل من العاقدين لصاحبه ما يقع التبادل عليه دون إيجاب. ولا قبول: أو بإيجاب دون قبول، أو عكسه.
- ويصح بها البيع في القليل والكثير: عند الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض الشافعية كما تقدم، خلافًا لغيرهم (2).
• القول في شروط صيغة العقد:
قلت:
مما سبق تبين أن عقد البيع ليس له صيغة معينة وأنه ينعقد بكل ما دل على مقصوده من قول أو فعل، وعلى هذا فما اشترطوه من شروط لصيغة العقد نحو:
"1 - اتصال كل منهما بالآخر في المجلس دون أن يحدث بينهما فاصل مضر.
2 - أن يتوافق الإيجاب والقبول فيما يجب التراضى عليه فلو اختلفا لم ينعقد العقد.
3 - أن يكون بلفظ الماضي، أو بلفظ المضارع إن أريد به الحال مثل: أبيع وأشترى" (3).
غير مسلّم بها وذلك لوجوه:
(أ) عدم قياس الدليل على اعتبارها.
(ب) بطلان أصلها (الإيجاب والقبول) ومعلوم أن الأصل إذا بطل لحقه الفرع. والله أعلم.
__________
(1) راجع الموسوعة الكويتية (جـ9/ ص13).
(2) راجع الملخص الفقهى للفوزان (جـ2/ ص 8).
(3) راجع فقه السنة (جـ3/ ص 128) بتصرف.

(4/259)


انعقاد البيع بالكتابة والمراسلة
يصح التعاقد بالكتابة بين حاضرين أو باللفظ من حاضر والكتابة من الآخر، وكذلك ينعقد البيع إذا أوجب العاقد البيع بالكتابة إلى غائب بمثل عبارة: بعتُك دارى بكذا.
أو أرسل بذلك رسولًا فقبل المشترى بعد اطلاعه على الإيجاب من الكتاب أو الرسول.
وبه قال الشافعية لكنْ اشترطوا: أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب (الفور من القبول).
وصرح الحنابلة: بأن التراضى لا يضر في الإيجاب والقبول. لأن التراخى مع غيبة المشترى لا يدل على إعراضه عن الإيجاب (1).
وفي فتح القدير: " .. أنه إذا بلغه الكتاب أو الرسالة فقال قبلت أو اشتريت تم البيع بينهما، لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبلغ تارة بالكتاب وتارة بالخطاب وكان ذلك سواء في كونه مبلغا" (2).
قال الشوكانى: "وأما .. صحة البيع بالكتابة فصحيح لأنها من جملة المشعرات بالرضا وطيبة النفس" (3).

انعقاد البيع بالإشارة من الأخرس وغيره
الإشارة من الأخرس على نوعين:
• إشارة مفهومة وبها ينعقد ولو كان قادرًا على الكتابة وهذا هو المعتمد عند الحنفية لأن كلًا من الإشارة والكتابة حجة.
• إشارة غير مفهومة، وهذه لا عبرة بها.
وأما الإشارة من الناطق فغير مقبولة عند الجمهور خلافًا للمالكية. وأما منْ طرأ عليه الخرس ففيه خلاف (4).
قلت: والظاهر قبول إشارته حال مرضه إذا كانت مفهومة والله أعلم.
__________
(1) الموسوعة الفقهية (جـ9/ ص13).
(2) فتح القدير (ص 254، 255).
(3) السيل الجرار (جـ3/ ص 13).
(4) الموسوعة الفقهية (جـ9/ ص13، 14) بتصرف.

(4/260)


شروط البيع
* يجب أن يتوافر في عقد البيع أربعة أنواع من الشروط حتى يقع صحيحًا وهي:
- شروط انعقاد.
- شروط صحة.
- شروط نفاذ.
- شروط لزوم.
والقصد من هذه الشروط في الجملة منع وقوع المنازعات بين الناس، وحماية مصالح العاقدين، ونفى الغرر (الاحتمال) والبعد عن المخاطر بسبب الجهالة (1).

أولًا: شروط الانعقاد
وبتحقق شروط الانعقاد يصير العقد منعقدًا شرعًا وإلا كان باطلًا، وهذه الشروط أربعة:
• شروط متعلقة بالعاقد.
• وشروط تتعلق بالمعقود عليه.
أولًا: الشروط المتعلقة بالعاقد: اثنان:
1 - أن يكون العاقد جائز التصرف، وهو من جمع صفات أربع (الحرية، والبلوغ، والعقل، والرشد).
• أما الحرية: فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من باع عبدًا له مال فمالُه لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع" (2) وعليه فلا يصح بيع العبد إلا بإذن سيده، لأنه ملك لسيده وكذا ما في يده.
• وأما البلوغ: فلقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (3) فاشترط الله لرفع أموالهم شرطين: بلوغ النكاح وذلك بالبلوغ، والرشد.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (4). وبهذا خرج الصبى.
__________
(1) الفقه الإِسلامى وأدلته (3317).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2204) ومسلم (1543).
(3) سورة النساء: 6.
(4) صحيح.

(4/261)


• هل ينعقد بيع الصبي؟
- أما الصبي غير المميز فبيعه غير منعقد إذا باع كما عند الشافعية (والحنفية) (1).
- وأما الصبي المميز فبيعه فيه خلاف، حاصله:
الأول: لا يصح بيعه سواء أذن له الولى أم لا؛ لأنه غير مكلف فأشبه غير المميز وهذا قول الشافعية وبه قال أبو ثور.
الثاني: يصح بيعه وشراؤه بإذن وليه وبه قال: أحمد وإسحاق وأبو حنيفة والثورى وقيَّد ابن المنذر قول أحمد وإسحاق بالشىء اليسير فقط قال في الإنصاف: وهو الصحيح في الجملة (2).
الثالث: يجوز بغير إذنه. ويقف على إجازة الولي. وهو رواية عن أبي حنيفة.
• القول في تصرفات الصبي المميز:
تصرفات الصبى المميز -الذي لم يبلغ- على ثلاثة أنواع:
1 - ما فيه منفعة خالصة له -كالهبة والصدقة والوصية والكفالة بالدين وغير ذلك- فهي صحيحة بناء على الأصل في مراعاة منفعته.
2 - ما فيه ضرر خالص -كأن يهب من ماله وغير ذلك فتصرفه غير صحيح. لأنه ليس أهلًا للتصرف في ماله لقصور عقله، وقد قال الله تعالى لولى مال اليتيم {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (3).
3 - ما تردد بين المنفعة والضرر -كمزاولة البيع والشراء والإيجار والاستئجار والزواج والمزارعة وغير ذلك. فهذا النوع من العقود صحيح منه إذا أذن الولي؛ بإذنه يجبرُ النقص في أهلية الأداء عند الصبي (4).
القول الراجح: قلت الظاهر والله تعالى أعلم أن تصرفات الصبى المميز غير صحيحة.
لأن الشارع علق صحة التكليف على البلوغ الدال على وجود العقل وكماله.
__________
(1) المجموع: (جـ9/ ص 148) رد المحتار (جـ7/ ص 11).
(2) الإنصاف للمرادى (جـ4/ ص 256).
(3) سورة النساء: 6.
(4) الفقه الإِسلامي وأدلته (جـ5/ ص 3317، 3319) وتيسير أصول الفقه للجديع (ص 88) والواضح للأشقر (ص 62).

(4/262)


قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم" والله أعلم اهـ.
لكن "إذا كان له ولي وأذن له بالتصرف فالمعتبر هنا هو الإذن الصادر عن الولى لا مجرد تصرف المكلف وقد أمر الله الولي بأن يُملَّ عنه وجعل تصرفاته إليه قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (1).
• هل ينعقد بيع السفيه؟
تعريف السفه: هو اختلال في العقل يصير صاحبه مختلطًا، يُشبه حاله أحيانًا حال العُقلاء، وأحيانًا حال المجانين (2).
انعقاد بيعه: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
(أ) أن بيعه غير صحيح وهو قول الشافعية (3).
(ب) أنه يصح في الشيء اليسير وبغير إذن الولى وعليه أكثر الحنابلة (4).
وأقول: السفيه له حالان:
أن يلحق بالمجنون حين تغلب عليه أوصاف الجنون وفي هذه الحالة لا ينعقد بيعه. وأن يلحق بالعاقل حين تغلب عليه أوصاف العقلاء وعليه فبيعه صحيح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة. . . . وعن المعتوه حتى يعقل" (5) والله أعلم.
• هل ينعقد بيع الأعمى؟
على قولين:
الأول: لا يصح بيعه وشراؤه وإجارته ورهنه ومساقاته ونحوها من المعاملات على الصحيح من مذهب الشافعية وذلك لأنه لا طريق له إلى رؤيته فيكون كبيع الغائب وبه يقول ابن حزم (6).
__________
(1) السيل الجرار (جـ3/ ص 8).
(2) تيسير أصول الفقه (ص 90).
(3) المجموع (جـ9/ ص 147).
(4) الإنصاف (جـ4/ ص 256).
(5) صحيح: أخرجه الترمذى وابن ماجة وغيرهما.
(6) المجموع (19/ ص287، 288) المحلى (8/ ص 342).

(4/263)


الثاني: يجوز إذا وصفه له غيره، فيقوم وصفه له مقام رؤيته وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد (1).
واشترط ابن حزم رؤية السلعة أو وصفها (2) وقال الشوكانى بصحته لحصول التراضى وطيب النفس اللذان هما المناط لصحة البيع (3). قلت: والقول الثاني أوجه والله أعلم.
• وأما العقل: فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: .. وعن المجنون حتى يعقل" (4)، وخرج به الجنون.
• وأما الرشد: فلقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (5).
والرشيد: هو الذي يحسن التصرف في ماله، بحيث لا يبذله في شيء محرم، ولا في شيء لا فائدة منه.
وخرج به: السفه (6) وباشتراطه قالت المالكية والشافعية والحنابلة (7).
وقد تقدم القول في انعقاد بيع السفيه هل ينعقد بيع السفيه؟
2 - أن يكون كل من المتعاقدين ومالكًا للمعقود عليه أو قائمًا مقام مالكه (8): وهو قول المالكية والحنابلة.
قال - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" (9). أى: لا تبع ما ليس في ملكك من الأعيان.
قال الوزير: "اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما ليس عنده ولا في ملكه، ثم يمضي فيشتريه له، وأنه باطل" اهـ.
• تنبيه: اشترطت الحنفية أن يكون العاقد متعددًا، فلا ينعقد البيع بشخص
__________
(1) المجموع (جـ9/ ص 287).
(2) المحلى (جـ8/ ص 342).
(3) السيل للشوكانى (2/ 11).
(4) صحيح: تقدم.
(5) سورة النساء: 6.
(6) الشرح الممتع (8/ 125).
(7) الفقه الإِسلامى وأدلته (5/ 3354، 3356، 3361).
(8) الملخص الفقهى للفوزان (جـ9/ ص 8)، الموسوعة الكويتية (3355/ 3364).
(9) صحيح: أخرجه الترمذي (1250) وأبو داود (3486) والنسائي (71289) وابن ماجة (2187).

(4/264)


واحد، بل يلزم أن يكون الإيجاب من شخص، والقبول من شخص آخر، إلا الأب ووصيه والقاضى والرسول من الجانبين، يكون كل منهم بائعًا ومشتريًا بنفسه هذا شرط لا دليل عليه.
قال الشوكاني: "وقد عرفناك أن المناط هو الرضا، فيصح أن يتولى ذلك واحد وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه تولى عقد النكاح للزوجين. [فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة؟ " قال: نعم، وقال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانًا؟ " قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبهُ. . . . الحديث] (1) والحاصل أن الأصل عدم المانع، فمن ادعى وجوده فعليه البيان (2).
قلت: ونحوه ما علقه البخاري بصيغة الجزم "أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف أنه خطبني غير واحد فزوجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين أمرك إليَّ، قالت: نعم. قال: قد تزوجتك" قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه (3).

بيع الفضولي (*)
• تعريف الفضولي:
لغة: من يشتغل بما لا يعنيه.
اصطلاحًا: هو من لم يكن وليًا ولا أصيلًا ولا وكيلًا في العقد أو من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعى خرج به: الوكيل والوصى ونحوهما.
ولفظ الفضولى عند الفقهاء: يتناول كل من يتصرف بلا ملك ولا ولاية ولا وكالة، كالغاصب إذا تصرف في المغصوب بالبيع أو غيره ... وكالزوج يبيع ما تملكه زوجته دون إذنها.
• حكمه التكليفى:
- من قال ببطلانه ذهب إلى القول بحرمة الإقدام عليه.
__________
(1) المجموع (جـ9/ ص 287).
(2) المحلى (جـ8/ ص 342).
(3) السيل للشوكاني (2/ 11).
(*) الموسوعة الفقهية (جـ 9/ 115: 123) بداية المجتهد (2/ ص270، 271) حاشية ابن عابدين (7/ 231) الإنصاف (4/ 271) المجموع (9/ 247: 251)، فتح البارى (6/ ص 697)، تفسير القرطبي (7/ ص 154)، إعلاء السنن (4/ ص 181، 454) نيل الأوطار (5/ 332، 333) الفقه الإِسلامى وأدلته (5/ 3339).

(4/265)


- ومن قال بصحته -وهم الحنفية والمالكية- فقد صرح المالكية بحرمته إذا لم يكن لمصلحة، وإن كان لمصلحة -كخوف تلف أو ضياع- فغيرُ حرام، بل ربما كان مندوبًا، وأما الحنفية فلم نجد لهم تصريحًا بحكمه.
• ابتداءً اتفق الفقهاء على صحة بيع الفضولي، إذا كان المالك حاضرًا أو أجاز البيع، لأن الفضولي حينئذ يكون كالوكيل واتفقوا أيضًا على عدم صحة بيع الفضولي. إذا كان المالك غير أهل للإجازة كما إذا كان صبيًا وقت البيع.
• محل الخلاف:
هل يصح بيع الفضولي إذا كان المالك أهلًا للتصرف وبيع ماله وهو غائب، أو كان حاضرًا وبيع ماله وهو ساكت أو لا يصح؟
• هل السكوت يدل على الرضا؟
سيأتي في باب التراضي.
• تنقيح أقوال الفقهاء في هذه المسألة:
اختلف الفقهاء في بيع الفضولي على قولين من حيث الجملة:
الأول: جواز بيعه مع وقوف نفاذه على إجازة المالك وهو مروى عن جماعة من السلف منهم علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وهو قول الحنفية والمالكية وبه قال القرطبي وابن عثيمين وأحمد في إحدى الروايتين وإسحاق والشافعي في القديم والجديد وقواه النووي في الروضة ومال إليه البخاري حيث بوب: باب: إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضى. واستدلوا:
1 - بعموم الأدلة القرآنية الدالة على مشروعية البيع. مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2). والفضولي كامل الأهلية، فإعمال العقد أولى من إهماله، وربما كان في العقد مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد.
2 - وبقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (3) وفي هذا إعانة لأخيه المسلم.
3 - وبحديث عروة بن أبي الجعد البارقى وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه دينارًا
__________
(1) سورة البقرة: 275.
(2) سورة النساء: 29.
(3) سورة المائدة: 2.

(4/266)


ليشترى له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح (1) فيه"، وبدعائه له بالبركة وفيه: أن شراء الشاة الثانية وبيعها لم يكن بإذن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عمل فضولى جائز بدليل إقراره - صلى الله عليه وسلم -.
4 - وبحديث حكيم بن حزام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه ليشترى له أضحية بدينار، فاشترى أضحية، فأربح فيها دينارًا، فاشترى أخرى مكانها، فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ضحِّ بالشاة وتصدق بالدينار" (2) فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز هذا البيع ولو كان باطلًا لرده وأنكر على من صدر منه.
5 - وبحديث ابن عمر في قصة الثلاثة أصحاب الغار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الثالث: اللهم استأجرتُ أجراء فأعطيتهم" (3).
الثاني: عدم جوازه، وإن أجازه صاحب الشأن بعد وقوع البيع:
وهذا هو قول الشافعية والحنابلة والظاهرية وسعيد بن زيد أخو حماد بن زيد واستدلوا:
1 - بأن تصرف الفضولي تصرف فيما لا يملك، وتصرف الإنسان فيما لا يملكه منهى عنه شرعًا، والنهى يقتضى عدم المشروعية، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام "لا تبع ما ليس عندك" (4) أي ما ليس مملوكًا لك، وسبب النهى اشتمال العقد على الغرار الناشيء عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، وما يترتب عليه من النزاع.
قلت: وحديث حكيم لا حجة فيه من وجوه:
(أ) أن صفة بيع حكيم تختلف عن صفة بيع الفضولي فالأول: يأتيه المشترى ويطلب منه سلعة معينة ليست عنده فيقوم بكتابة العقد ثم يذهب يشترى له السلعة من السوق، وأما الثاني: فهو يشترى فقط من غير أن يطلب منه.
(ب) أن حكيم يشترى بماله أو بمال صاحب السلعة إن كان أعطاه ثمنها، وأما الفضولي فهو يشترى بمال غيره أو يبيع.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخاري.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3386) والترمذي (1257).
(3) صحيح: أخرجه البخاري.
(4) صحيح: أخرجه النسائي (4632) أبو داود (3461) والترمذي (1231).

(4/267)


(جـ) أن حكيم له حالان في الصفقة الواحدة (بائع ومشترى) بخلاف الفضولي وعلى هذا فبيع الفضولي خلاف بيع حكيم تمامًا والله أعلم.
2 - وبحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك" (1).
وبقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} (2).
وأجابوا: عن حديث عروة البارقى أو حكيم بن حزام "إنه محمول على أنه كان وكيلًا مطلقًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدل عليه أنه باع الشاة وسلمها".
3 - وعن حديث ابن عمر -قصة أصحاب الغار- أن ذلك كان فيمن قبلنا ولا تلزمنا شرائعهم.
قلت: وهذا ليس فيه مخالفة لشرعنا والقول الصواب في هذه المسألة -إن شاء الله- أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه.
4 - وعن احتجاجهم بالآية الكريمة {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ليس هذا من البر والتقوى، بل هو من الإثم والعدوان.
5 - وعن حديث حكيم بجوابين:
الأول: أنه حديث ضعيف للجهالة في سند أبى داود وللانقطاع في سند الترمذي.
والثاني: أنه محمول على أنه كان وكيلًا للنبى - صلى الله عليه وسلم - وكالة مطلقة. يدل على أنه باع الشاة وسلمها واشترى. وبمثله أجابوا عن حديث عروة.
وأجاب من قال بالجواز: بأن النهى الوارد في حديث حكيم "لا تبيع ما ليس عندك" محمول على بيعه لنفسه لا لغيره. قالوا: والدليل على ذلك أن النهى إنما ورد في حكيم بن حزام وقضيته مشهورة، وذلك أنه كان يبيع لنفسه ما ليس عنده.
قلت (أبو الحسن): سنسلم جدلًا أن هذا خاص بحكيم فهل ما ورد في حديث عمرو بن شعيب (ولا بيع إلا فيما تملك) خاص به أيضًا إن القول بالخصوصية -دون دليل- بعيد تمام البعد لأن الخصوصية لا تكون إلا بدليل وليس ثمَّ، وسيأتى أن الراجح -وهو قول الجمهور- أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من باع مثل بيع حكيم فهو داخل في حديثه والله أعلم.
__________
(1) أخرجه النسائي (4611) والترمذي (1234) وأبو داود (3504).
(2) سورة الأنعام: 164.

(4/268)


قلت: ويجاب عن استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} قال القرطبي: قال علماؤنا: المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا بدليل قوله في نفس الآية {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .. اهـ.
• سببُ اختلافهم:
قال ابن رشد: وسبب الخلاف المسألة المشهورة: هل إذا ورد النهىُ على سبب حمل على سببه، أو يعم؟
قلت: وذهب الجمهور: "أن اللفظ العام إذا ورد على سبب خاص فهو على عمومه حتى يدل الدليل على إرادة القصر على السبب. فكل آية نزلت جوابًا لسؤال أو فصلًا في واقعة وكذا كل حديث ورد على نحو ذلك فلا تأثير لذلك السبب في إجراء الحكم على كل ما أفاده لفظ العموم، وذلك كنزول آيات اللعان في قصة عويمر العجلانى وهلال بن أمية، فحكمها عام للأمة بناء على هذا الأصل" (1).
وعلى هذا فحديث النهى عن بيع ما لا يملكه المرء عام فيشمل بيع الفضولي وغيره.
• القول الراجح في بيع الفضولي:
بعد العرض لأدلة الفريقين -القائلين بالجواز والقائلين بعدمه- يتبين لنا أن بيع الفضولي جائز مع وقوف نفاذه على إجازه المالك. والله أعلم.

القول في شراء الفضولي (2)
اختلف العلماء في شرائه على ثلاثة أقوال:
الأول: شراؤه صحيح إن رضي المشترى له، وإلا لم يصح وبه قال مالك.
الثانى: أنه غير صحيح وبه قال الشافعي وأبو حنيفة.
الثالث: أنه لا يصح إلا إن اشترى في ذمته ونوى الشراء لشخص لم يسمه فيصح، سواء نقد الثمن من مال الغير أم لا وهذا قول الحنابلة. قلت: وهذا خارج عن بيع الفضولي لأنه لا يدل على أنه تصرف في ملك غيره. اهـ.
__________
(1) تيسير علم أصول الفقه (ص 276).
(2) الموسوعة الكويتية (جـ9)، وبداية المجتهد (2/ ص 270)، الشرح الممتع (8/ 147، 148) الإنصاف (4/ 272).

(4/269)


قلت: هذا حاصل أقوالهم في الجملة والذي يتبين لي أنه لا فرق بين البيع والشراء لأنه لا فرق بينهما لأن كلاهما يطلق ويراد به الآخر.
3 - التراضى منهما، فلا يصح بيع المكره بغير حق (1): وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة.
قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض" (3).
• بيع المكره:
تعريف الإكراه (4):
لغة: حمل الإنسان على شيء يكره.
شرعًا: فعل يوجد من المكْرَه فيُحدث في المحل معنى يصير به مدفوعًا إلى الفعل الذي طلب منه.
• حُكْمه (5): الإكراه نوعان:
(أ) إكراه بحق: وهذا ينعقد، كما لو أكرهه الحاكم على بيع ما له لوفاء دينه، فإن هذا إكراه بحق.
(ب) إكراه بغير حق: وبه لا ينعقد البيع سواء كان إكراهًا ملجئًا أو غير ملجىء. لأن الإكراه يزيل الرضا الذي هو شرط في صحة هذه العقود قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (6).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ما استكرهوا عليه" (7).
وقال: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" (8). والإغلاق: الإكراه.
__________
(1) الفقه الإِسلامى وأدلته (3355/ 3357/ 3362) والملخص الفقهى (2/ 8).
(2) سورة النساء: 29.
(3) صحيح: أخرجه ابن ماجة (2185) وابن حبان (4967).
(4) الموسوعة الكويتية (9/ 62).
(5) الفقه وأدلته (3323) وتيسير أصول الفقه (102).
(6) سورة النساء: 29.
(7) صحيح: أخرجه الطبراني كما في صحيح الجامع (5/ 35).
(8) حسن: أخرجه أحمد (26238) وأبو داود (2193) وابن ماجة (2046).

(4/270)


وذهب إلى القول بعدم انعقاد بيع المكره وتصرفاته وبطلانها أئمة المذاهب الأربعة:
• بيع المضطر (1):
ومعناه: اضطرار شخص إلى بيع شيء من ماله، ولم يرض المشترى إلا بشرائه بدون ثمن المثل بغبن فاحش وكذلك في الشراء منه.
• حكمه على ثلاثة أقوال:
1 - بيعه وشراؤه فاسد وبه قالت الحنفية واستدلوا: بحديث علي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع المضطر (2).
2 - أنه صحيح مع كراهية شرائه على الصحيح من مذهب الحنابلة.
3 - أجازه فقهاء آخرون للضرورة منهم الخطابى قال:
"إن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جائز في الحكم، ولا يفسخ إلا أن سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يباع على هذا الوجه وأن لا يقتات عليه بماله، ولكن يعاون ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له ذلك بلاغ اهـ. بتغير يسير.
• وممن قال بصحة بيع المضطر ابن حزم واستدل:
1 - وجدنا كل من يبتاع قوت نفسه وأهله للأكل واللباس، فإنه مضطر إلى ابتياعه بلا شك، فلو بطل ابتياع هذا المضطر لبطل بيع كل من لا يصيب القوت من ضيعته، وهذا باطل بلا خلاف، ... وقد ابتاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصواعًا من شعير لقوت أهله، ومات -عليه السلام-، ودرعه مرهونة في ثمنها (3)، فصح أن بيع المضطر إلى قوته وقوت أهله، وبيعه ما يبتاعه به القوت بيع صحيح لازم.
2 - أنه بيع عن تراض ولم يجبره أحد عليه فهو صحيح بنص القرآن. وغير ذلك.
• القول الراجح:
قلت: لما كان الدافع للمضطر هو الحاجة لا الإكراه دل ذلك على أن بيعه صحيح لحصول التراضي والله أعلم.
__________
(1) إعلاء السنن (14/ 241) الفقه وأدلته (5/ 3325) الإنصاف (4/ 253).
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3380).
(3) صحيح: أخرجه البخاري.

(4/271)


• بيع التلجئة (1): وسماه الشافعية: (بيع الأمانة). وهو يشبه (بيع الهازل) كما في البدائع.
• تعريفه لغة: تأتى بمعنى الإكراه والاضطرار.
واصطلاحًا: يرجع معناها إلى معنى الإلجاء وهو الإكراه التام أو الملجئ.
• وصورته: أن يظهرا بيعًا لم يرداه باطنًا بل خوفًا من ظالم (ونحوه) وفعاله. (كأن يخاف إنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فرارًا منه، ويتم العقد مستوفيًا أركانه وشروطه).
• حكمه:
اختلف فيه على قولين:
الأول: أنه عقد باطل غير صحيح. لأن العاقدين ما قصدا البيع فلم يصح منهما كالهازلين وبه قالت الحنابلة وأبو يوسف ومحمد.
الثاني: أنه بيع صحيح، لأن البيع تم بأركانه وشروطه، وأتى باللفظ مع قصد واختيار خاليًا عن مقارنة مفسد، فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقد البيع بغير شرط، وأما عدم رضاه بوقوعه فهو كظنه أنه لا يقع، لا أثر له لخطأ ظنه. وبه قالت الحنفية والشافعية.
• بيع الهازل (2):
• تعريفه: هو الذي يتكلم بكلام البيع لا على إرادة حقيقته.
• الفرق بينه وبين بيع التلجئة: أن بيع التلجئة الدافع فيه الإكراه.
• وجه الاتفاق بينهما: أن كلاهما يتلفظ بصيغة البيع، وهو في الحقيقة لا يريد البيع.
• حكمه:
للعلماء فيه أقوال:
• لا ينعقد بيعه لأنه لم يقصد بيعًا وهذا أحد قولى الشافعية والحنابلة وبه قالت الحنفية
__________
(1) الموسوعة الكويتية (19) الإنصاف للمروادى (4/ 254) رد المختار (7/ 421، 423) الفقه وأدلته (5/ 3325).
(2) الإنصاف (4/ 254)، المجموع (9/ 164)، رد المختار (7/ 14).

(4/272)


• ينعقد عملًا باللفظ، ولا مبالاة بالقصد والله أعلم وهو القول الثاني للشافعية والحنابلة
• يقبل بقرينة وهو قول في مذهب أحمد
• القول الراجح:
أقول: الظاهر انعقاده عملًا باللفظ، ولا مبالاة بالقصد، لأننا لا ندرى أهو صادق في قصده أم لا. والله أعلم.
ثانيًا: الشروط المتعلقة بالمعقود عليه (1):
1 - أن يكون المبيع -المعقود عليه- موجودًا ليتمكن البائع والمشترى من معرفته: لأن بيع المعدوم لا ينعقد لما فيه من الجهالة، والجهالةُ غرر، والغرر منهى عنه وبه قالت الشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية.
ومن أمثلته: بيع الحمل، وبيع الثمر قبل انعقاد شيء منه على الشجرة، وبيع اللبن في الضرع. وغير ذلك من البيوع المنهي عنها كما سيأتى.
2 - أن يكون المعقود عليه في البيع من ثمن ومثمن مقدور التسليم عند العقد:
لأن ما لا يقدر على تسليمه لا يصح بيعه لأنه معدوم. وبه قالت المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية ومن أمثلته: بيع الحيوان الشارد، وبيع الطير في الهواء، والسمك في البحر.
3 - أن يكون مما يباح الانتفاع به لغير ضرورة: وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية:
فلا يصح بيع ما يحرم الانتفاع به؛ كالخمر، والخنزير، وآلة اللهو، والميتة وغير ذلك مما سيأتى.
وقلنا (لغير ضرورة): احترازًا من الميتة والمحرمات التي تباح في حال الضرورة.
__________
(1) رد المحتار (7/ 11)، الإنصاف (4/ 258)، العدة على إحكام الأحكام لابن دقيق - للصنعانى (3/ 486) الفقه الإِسلامى وأدلته (3350: 3366)، الملخص الفقهى للفوزان (2/ 9).

(4/273)


4 - أن يكون البيع مقبوضًا إن كان قد استفاده بمعاوضة: عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعًا: "إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه" (1).
وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن يشتري الطعام ثم يباع حتى يستوفى" (2).
وعن ابن عمر مرفوعًا: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" (3).
وعن ابن عباس مرفوعًا "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه". قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله (4).
وبه قالت: الحنفية.
5 - أن يكون المعقود عليه خاليًا من موانع الصحة: (سيأتى في شروط الصحة): كالبيوع الربوية والاشتراط في البيع والبيع بعد نداء الجمعة وغير ذلك وبه قالت الحنابلة.
• تنبيهات: واشتراط طهارة المعقود عليه فلا حاجة لاشتراطه لدخوله في شرط الانتفاع.

مسائل تتعلق بما سبق
• كتابة عقد البيع (5):
ابتداء لا يستحب كتابة الأشياء القليلة الخطر -كحوائج البقال والعطار- لأن العقود فيها تكثر، فيشق الإشهاد عليها، وتقبح إقامة البينة عليها، والترافع إلى الحاكم من أجلها.
إلا أن يكون البيع إلى أجل: فيستحب كتابته مطلقًا لقوله تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} (6).
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1529) وأحمد (14447).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1528) وأحمد (8347).
(3) صحيح: أخرجه البخاري (2133) ومسلم (1526) وغيرهما.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (1235) ومسلم (1125) وغيرهما.
(5) إعلاء السنن (14/ 7) فتح البارى (4/ 366).
(6) سورة البقرة: 282.

(4/274)


وأما الأشياء العظيمة الخطر: فيستحب كتابة عقدها وذلك لما أخرجه أبو داود والترمذي. عن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العداء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتابًا كتبه لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: قلت: بلى فأخرج لي كتابًا: هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد بن هوذة من محمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اشترى منه عبدًا أو أمة، لا داء ولا غائلة ولا خُبثه، بيعَ المُسلمُ المسلمَ" (1) وقال بهذا: أبو بكر بن العربى.
• هل يجب الإشهاد على عقد البيع (2):
اختلف الناس في الأمر الوارد في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (3) هل هو للوجوب أو للندب على قولين:
• الأول: أنه للوجوب، وبه قال أبو موسى الأشعرى وابن عمر والضحاك وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي وابنه أبو بكر، وعطاء وإبراهيم النخعى وجابر بن زيد ورجحه ابن جرير وانتصر له ابن حزم واستدلوا: بظاهر الأمر، ولأنه عقد معاوضة فوجب الإشهاد عليه كالنكاح.
• الثاني: أن الأمر للندب: وبه قال أبو سعيد الخدرى وأبو أيوب والحسن والشعبي والشافعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي وزعم ابن العربى بأنه قول الكافة وصححه وكذا القرطبي.
واستدلوا:
1 - بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- باع ولم يشهد كما في حديث العداء بن خالد المتقدم.
2 - وبأنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا ورهنه درعه (4) ولو كان الإشهاد واجبًا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة واشترى من أعرابي فرسًا فجحده الأعرابي حتى شهد له خزيمة بن ثابت (5)، ولم ينقل أنه أشهد في شيء من ذلك.
3 - أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عروة بن الجعد أن يشترى له أضحية ولم يأمره بالإشهاد، وأخبره عروة أنه اشترى شاتين فباع إحداهما ولم ينكر عليه ترك الإشهاد (6).
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي (1216) وابن ماجة (2251).
(2) إعلاء السنن (14/ 7، 8) تفسير القرطبي (3/ 399، 400) نيل الأوطار (5/ 203).
(3) سورة البقرة: 282.
(4) صحيح: أخرجه البخاري (2513) ومسلم (1603).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3607) والنسائي (4661).
(6) صحيح: تقدم.

(4/275)


4 - لأن الناس ما زالوا يتبايعون حضرًا وسفرًا وبرًا وبحرًا وسهلًا وجبلًا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو كان واجبًا ما تركوا النكير على تاركه.
5 - ولأن المبايعة تكثر بين الناس في أسواقهم وغيرها، فلو وجب الإشهاد في كل ذلك لأفضى إلى الحرج المحطوط عنهم بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1).
6 - أن الأمر في الآية (وأشهدوا) للإرشاد إلى حفظ الأموال والتعليم، كما أمر بالرهن والكتابة وليس ذلك بواجب وهو الراجح إن شاء الله تعالى.
• تنبيه: حديث "ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: .. ومنهم: رجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه" ضعيف.
• أصل الأمر بالكتابة والشهود:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه: يرحمك ربك يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملإ منهم جلوس، فسلم عليهم فقال: السلام عليكم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه فقال: هذه تحيتك وتحية بَنِيك بينهم، وقال الله -جل وعلا- ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، فقال: اخترتَ يمين ربى وكلتا يدي ربى يمين مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريتهُ فقال: أي رب ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عُمُره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم -أو من أضوئهم- لم يكتب له إلا أربعون سنة، قال: يا رب ما هذا؟ قال: هذا ابنك داود وقد كتبت له عمره أربعين سنة، قال: أي رب زده في عمره، قال: ذاك الذي كتبت له، قال: فإنى جعلتُ له من عمرى ستين سنة، قال: أنت وذاك اسكن الجنة، فسكن الجنة ما شاء الله، ثم أُهبط منها. وكان آدم يعُدُّ لنفسه، فأتاه ملكُ الموت، فقال له آدم: قد عجلتَ، قد كُتِبَ لي ألف سنة؟ قال: بلى، ولكنك قد جعلت لابنك داود منها ستين سنة فجحد فجحدت ذريته، ونسى فنسيت ذريته، فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود" (2) ابن حبان الموارد (2082).
__________
(1) سورة الحج: 78.
(2) صحيح بمجموع طرقه أخرجه الترمذي (3368) وابن حبان (6167)، والبيهقي في الأسماء والصفات (708)، وابن خزيمة في التوحيد.

(4/276)


• هل يجب على الكاتب أن يكتب أم يستحب له ذلك (1):
في المسألة أقوال ثلاثة:
1 - يجب على الكاتب إذا أُمِر أن يكتب وهو قول الطبري والربيع.
2 - يجب عليه أن يكتب إذا لم يوجد كاتب غيره، لأنه إن امتنع ألحق الضرر بصاحب الدين وهو قول الحسن.
3 - يجب عليه في حال فراغه وهو قول السدي وقال ابن العربي: والصحيح أنه أمر إرشاد وقال القرطبي بعدم الوجوب: ولعل القول الثاني هو المتعين لما فيه من دفع الضرر عن الغير والله أعلم.
• هل يأخذ الكاتب أجرًا على كتابة العقد (2):
قال القرطبي: ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كَتْب الوثيقة.
وقال ابن العربى: .. لا يكتب حتى يأخذ حقه.
• من يدفع أجرة الكاتب؟ البائع أم المشتري؟ (3)
قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع، قال مالك: قالوا ليوسف (فأوف لنا الكيل) فكان يوسف هو الذي يكيل وكذلك الوزان والعداد وغيرهم اهـ.
وكذلك مؤونة إحضاره إلى محل العقد إذا كان غائبًا العلماء متفقون على ذلك.
• السمسرة (4):
• تعريفها: الوساطة بين البائع والمشترى لإجراء البيع والسمسرة نوعان:
(أ) سمسرة في بيع الحاضر: وهذه جائزة، وأجر صاحبها حلال وشرط فيها الجمهور: أن تكون أجرة السمسار معلومة.
ولم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسًا (5).
__________
(1) تفسير القرطبي (3/ 382).
(2) تفسير القرطبي (3/ 382، 383).
(3) تفسير القرطبي (9/ 260).
(4) الفقه وأدلته (جـ 5/ 3326)، الموسوعة الكويتية (9/ 80 وما بعدها)، فتاوى اللجنة الدائمة (13/ 122) فتح البارى (4/ 531).
(5) علقها البخاري في صحيحه باب: أجر السمسرة من كتاب الإجارة.

(4/277)


وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول بيع هذا الثوب، فما زاد على كذا وكذا فهو لك (1).
وقال ابن سيرين: إذا قال بعه بكذا، فما كان من ربح فلك أو بيني وبينك، فلا بأس به (2).
وقال بجوازها: البخاري، ونقل ابن المنذر القول بكراهتها عن الكوفيين.
(ب) سمسرة الحاضر للبادي:
صورتها: أن يتولى الحضري بيع سلعة البدوي، بأن يصير الحاضر سمسارًا للبادى البائع وبها قال الجمهور والحنفية.
حكمها: جمهور الفقهاء على التحريم. وسيأتى تفصيل القول في هذه المسألة في البيوع المحرمة.
• الاستثناء من المبيع (3):
إذا كان الذي استثناه معلومًا ولا يفضى إلى جهالة المبيع -نحو أن يستثنى واحدة من الأشجار -أو منزلًا من المنازل- صح بالاتفاق، وبه قال شيخ الإِسلام.
وإذا كان الذي استثناه مجهولًا نحو أن يستثنى شيئًا غير معلوم لم يصح البيع - لما يتضمنه من الغرر مع الجهالة.
عن جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الثُّنْيَا إلا أَنْ تُعْلَم (4).
• ضابط التمييز بين ما يجوز استثناؤه وما لا يجوز:
"أن كل ما يجوز بيعه منفردًا يجوز استثناؤه، وما لا يجوز إيقاع البيع عليه بانفراده لا يجوز استثناؤه.
• فعلى الأولى: يجوز بيع الحائط واستثناء شجرة معينة منه.
• وعلى الثاني: لا يجوز استثناء الحمل من بيع الدابة، لأنه لا يجوز إفراده بالبيع فكذا استثناؤه.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) شرح الأبى على مسلم (5/ ص 384) المغنى (6/ 729، 730) إعلاء السنن (14/ 51) نيل الأوطار (5/ 180) الموسوعة الكويتية (9/ 19، 20).
(4) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ النسائي (3889) وأبو داود (3402) والترمذي (1290) ومسلم دون الشرط.

(4/278)


• بيع الأصول (1):
المراد بالأصول: الأرض والدور والبساتين والحيوان، وما يتبع هذه الأصول في البيع وما لا يتبعها.
• القواعد التي ينبنى عليها الأصول:
1 - أن كل ما هو متناول اسم المبيع عرفًا دخل في البيع وإن لم يذكر صريحًا.
2 - أن ما كان متصلًا بالمبيع اتصال قرارٍ كان تابعًا له في الدخول.
• بيع الأرض: من باع أرضًا دخل فيها الغراس والبناء لاتصالها بها اتصال قرارٍ، وهي من حقوقها وهذا في جميع المذاهب وكذا الحجارة المخلوقة والمثبتة فيها.
• بيع الدور: ومن باع دارًا دخل في البيع بناؤها وفناؤها وما فيها من شجر مغروس، وما كان متصلًا بها لمصلحتها كسلالم ورفوف مستمره وأبواب وغير ذلك، ولا يتناول ما فيها من كنز مدفون ولا ما هو منفصل عنها كحبل ودلو ولا ما ينقل كحجر وخشب.
• بيع الشجر: ومن باع شجرًا أتبعه الأغصان والورق وسائر أجزاء الشجر.
وإن كان في الشجر أو النخل ثمر فالمؤبر للبائع، إلا أن يشترط ذلك المشترى لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع نخلًا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع" (2).
أما إذا لم تكن مؤبرة فهي للمشترى ... وهذا عند الجمهور (3) وخالف أبو حنيفة والأوزاعى فقالا: تكون للبائع قبل التأبير وقبله. وأجابوا عن حديث ابن عمر بأن المراد بالتأبير فيه ظهور الثمرة واستدلوا على ذلك بما رواه عكرمه عن ابن عمر مرفوعًا "أيّما رجل باع نخلًا قد أينعت فثمرتها لربها الأول إلا أن يشترط المبتاع" (4) والشاهد من الحديث أنه قيد النخل فيه بالإيناع وهو وقت استحقاق البائع للثمرة ..
__________
(1) الموسوعة الكويتية (9/ 20) إعلاء السنن (14/ 43) وفتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر (8/ 5: 10) فتح القدير (6/ 280).
(2) صحيح: أخرجه البخاري (2204) ومسلم.
(3) قال ابن عبد البر -رحمه الله- وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم ردوا ظاهر هذه السنة ودليلها بتأويلهم، وردها ابن أبي ليلى ردًا مجردًا جهلًا بها. والله أعلم اهـ.
(4) أخرجه البيهقي وقال منقطع انظر الصحيحة.

(4/279)


ومعنى كلامهم: أنه إذا بيع النخل في وقت تؤبر هى فيه فسواء أبرت أو لم تؤبر فثمرته للبائع ..
• قال ابن حجر: ولا يشترط في التأبير أن يؤبره أحد، بل لو تأبر بنفسه لم يختلف الحكم عند القائلين به. اهـ.
• بيع الحيوان: ومن باع حيوانًا تبعه ما جرى العرف بتبعيته له كاللجام والمقود والسرج، وفرق الشافعية بين ما هو متصل بالحيوان (كالنعل المسمر) فهذا داخل في البيع وأما اللجام والسرج والمقود فلا يدخل في بيع الحيوان اقتصارًا على مقتضى اللفظ.
وهو الظاهر لأن هذه الأشياء ليست جزءًا من حقيقة المبيع وإنما هى خارجة عنه. والله أعلم.
يجوز باتفاق الفقهاء بيع الثمار وحدها منفردة عن الشجر بشرط بدو صلاحها.

ثانيًا: شروط صحة البيع (1)
وهي نوعان: عامة، وخاصة:
• الشروط العامة: وهذه الشروط يجب توافرها في كل أنواع البيع لتعتبر صحيحة شرعًا، وتنحصر هذه الشروط في خلو البيع من عدة عيوب هى (الجهالة، الإكراه، التوقيت، الشرط).
1 - الغرر (الجهالة) وهو نوعان:
- غرر الوصف: كجهالة وصف الثمن والمثمون -المبيع- أو قدره أو أجله إن كان هناك أجل.
- غرر الوجود: (وهو ما كان المبيع فيه محتملًا للوجود والعدم) - كبيع نَتَاج النتاج، وبيع الحمل وغير ذلك.
2 - الإكراه: وهو يؤثر في البيع سواء كان ملجئ -تام- أو غير ملجئ -ناقص-.
3 - التوقيت: وهو أن يوقت البيع بمدة كما لو قال: بعتك هذا الثوب شهرًا أو سنة، فيكون البيع فاسدًا، لأن ملكية العين لا تقبل التأقيت، ولأن مقتضى البيع الملكية على الدوام.
4 - الشروط المفسدة: وهي كل شرط فيه نفع لأحد المتبايعين إذا لم يكن قد
__________
(1) الفقه الإِسلامي (5/ 3345) بداية المجتهد (2/ 235) رد المختار (7/ 11، 12).

(4/280)


ورد به الشرع، أو جرى به العرف، أو يقتضيه العقد، أو يلائم مقتضاه. مثل أن يبيع سيارة على أن يستخدمها شهرًا بعد البيع.
• الشروط الخاصة: وهي التي تختص ببعض أنواع البيع دون بعض.

ثالثًا: شروط النفاذ
1 - الملك أو الولاية:
• فالملك: هو حيازة الشيء متى كان الحائز له قادرًا وحده على التصرف فيه عند عدم المانع الشرعى.
• والولاية: سلطة شرعية بها ينعقد العقد وينفذ وهي نوعان:
(أ) ولاية أصلية: ومعناها: أن يتولى الإنسان أمور نفسه بنفسه.
(ب) ولاية نيابية: ومعناها: أن يتولى الشخص أمور غيره من ناقصي الأهلية إما بإنابة المالك كالوكيل أو بإنابة الشارع كالأولياء.
2 - ألا يكون في المبيع حق لغير البائع: فلا ينفذ بيع الراهن للمرهون، ولا بيع المؤجر للمأجور وإنما يكون البيع موقوفًا على إجازة المرتهن أو المستأجر. وليس فاسدًا وهو الصحيح عند الحنفية.
• تقسيم البيع من حيث النفاذ والوقف:
البيع قسمان:
1 - البيع النافذ: وهو ما توافر فيه ركن العقد وشروط الانعقاد والنفاذ.
2 - البيع الموقوف: وهو كالبيع النافذ إلا أنه فقد شرط النفاذ (الملك أو الولاية).
• شرط النفاذ:
- يكون إما في المبيع: كما في بيع الفضولي شيئًا لغيره.
- وإما في التصرف: كما في بيع الصغير أو المعتوه أو شرائهما.

رابعًا: شروط اللزوم (1)
• يشترط للزوم البيع:
- خلوه من أحد الخيارات التي لا تسوغ لأحد العاقدين فسخ العقد مثل خيار الشرط والوصف والنقد والتعيين، والرؤية وغير ذلك.
__________
(1) رد المختار (7/ 12، 77) الفقه الإِسلامى (5/ 3349).

(4/281)


وعليه: فإذا وجد في البيع شيء من هذه الخيارات منع لزومه في حق من له الخيار. فكان له أن يفسخ البيع أو أن يقبله، إلا إذا حدث مانع من ذلك.

الثمن وأحكامه
• تعريف الثمن (1):
هو ما يبذله المشترى من عوض للحصول على المبيع، وهو أحد جزئي العقود عليه -الثمن والمثمن- وهما من مقومات عقد البيع.
• الفرق بين الثمن والقيمة (2):
القيمة: هى ما يساويه الشيء في تقويم المقوِّمين -أهل الخبرة-.
أما الثمن: فهو كل ما يتراضى عليه المتعاقدان، سواء كان أكثر من القيمة أم أقل منها أم مثلها.
فالقيمة هى الثمن الحقيقي للشيء، أما الثمن المتراضى عليه فهو الثمن المسمى.
• التسعير (3):
• تعريفه: هو تحديد أسعار بيع السلع من قبل السلطان، مع منع الناس من البيع بزيادة عليها أو أقل منها.
والسعر: الثمن المقدر للسلعة.
• حكمه: ذهب الجمهور إلى أن الأصل عدم التسعير، لأنه مظلمة، والظلم حرام.
واستدلوا: بحديث أنس بن مالك قال: غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، لو سعَّرت. فقال: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعِّرُ، وإنى لأرجو أن ألقى الله عَزَّ وَجَلَّ ولا يطلبنى أحد بمظلمة ظلمتَها إياه، في دَمٍ ولا مال" (4).
وقالوا: ليس للإمام أن يسعر على الناس بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس
__________
(1) و (2) الموسوعة الكويتية (9/ 26).
(3) المغنى (6/ 311)، تنقيح التحقيق للذهبي -حاشية (7/ 204) الموسوعة الكويتية (9/ 27)، نيل الأوطار (5/ 260) الفتاوى (14/ 323).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4/ 3451) الترمذي (1314) وابن ماجة (3200) وغيرهم.

(4/282)


نظره في مصلحة المشترى برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين البائع والمشترى من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1).
• وأجاز المالكية والحنفية للإمام التسعير دفعًا للضرر عن الناس إذا تعدى أصحاب السلعة عن القيمة المعتادة تعديًا فاحشًا. فلا بأس حينئذ بالتسعير بمشورة أهل الرأى والبصر رعاية لمصالح المسلمين.
واستدلوا بفعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين مَرَّ بحاطب في السوق فقال له: "إما أن ترفع السعر وإما أن تدخل بيتك فتبيع كيف شئت" (2).
2 - وبالقاعدة الفقهية (الضرر يزال) وبالأخرى (يتحمل الضرر لمنع الضرر العام).
وأجاب من قال بالمنع:
1 - بأن عمر - رضي الله عنه - رجع عن قوله لحاطب - كما في سنن سعيد بن منصور ومسند الشافعي وسنن البيهقي "أن عمر لما رجع حاسب نفسه، ثم أتى حاطبًا في داره، فقال: إن الذي قلتُ لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردتُ به الخير لأهل البلد" (3).
قلت: ولكنَّ هذه الزيادة في أثر عمر ضعيفة لورودها من طريق القاسم بن محمَّد بن أبي بكر عن عمر وهو لم يسمع من عمر.
ثم إن المتأمل فيما صحح من قول عمر لحاطب يجد أنه لم يسعر، وإنما أمر حاضبًا بأن يرفع سعره خشية أن يلحق الضرر بأهل السوق. والله أعلم.
قلت: ويجاب عن الثاني: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أولى بإزالة الضرر حين شكى إليه المسلمون غلاء السعر فلما لم يفعل ذلك دل على عدم جواز التسعير مع تحقق الضرر والله أعلم.
القول الراجح: عدم جواز التسعير مطلقًا لكن على السلطان أن يعزر من يتعمد زيادة السعر.
__________
(1) سورة: النساء: 29.
(2) إسناده صحيح: أخرجه مالك في الموطأ.
(3) إسناده ضعيف لانقطاعه: أخرجه البيهقي (2916) وفي معرفة السنن (11651).

(4/283)


• من أضرار التسعير: أنه يؤدى إلى اختفاء السلع وذلك يؤدى إلى ارتفاع الأسعار مما ينزل الضرر بالفقراء.
• على السلطان أن يُجبر من يبيع السلعة بسعر دون سعر جمهور الباعة لما في ذلك من الإضرار بهم كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع حاطب -رضي الله عنه-.
• أن التسعير لا يجوز مطلقًا دون تفريق بين سلعة وأخرى أو وقت وآخر.
• أن مَنْ وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع أن يبيع إلا بأكثر منه، فهنا يؤمر بما وجب عليه، ويعاقب على تركه بلا ريب.
• كل ما صلح أن يكون مبيعًا صلح أن يكون ثمنًا والعكس صحيح كما يفهم من كلام الجمهور.
• كل من العوضين -الثمن والمثمن- ثمن للآخر، وقيل الثمن ما دخلت عليه -الباء-.
• إذا تنازع المتعاقدان فيمن يسلم أولًا، فإنه يجب تسليم الثمن أولًا قبل تسليم المبيع.
• إبهام الثمن في بلد فيه أنواع مختلفة من الدنانير ومتساوية في الرَّواج يفسد العقد -بجهالة مقدار الثمن- أما إذا كان بعضها أروج فالعقد صحيح، وينصرف إلى الأروج -الأشهر-.

أحكام الجوائح (1)
• هلاك المبيع وأحكامه:
• تعريف الجائحة: هى كل آفة لا صنع للآدمي فيها -كالريح الشديدة، والبرد القارس، والجراد، ونحو ذلك من الآفات السماوية.
• وأما ما كان من فعل الآدميين: فلا يُسمى جائحة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت إن منع الله الثمرة".
__________
(1) المغنى (6/ 177: 188) المحلى (7/ 384، 385) إعلاء السنن (14/ 49) بداية المجتهد (292/ 2) تفسير القرطبي (7/ 53) ترجيحات ابن قدامة (2/ 50/ 51/ 52) فتح المالك (8/ 36) نيل الأوطار (5/ 211) فتح البارى (4/ 403/ 453)، الشرح الممتع (8/ 371، 372)، الموسوعة الكويتية (9/ 34، 35) الفقه وأدلته (5/ 3376) الملخص الفقهى (2/ 41).

(4/284)


وفي هذه الحالة يكون المشتري بالخيار إن شاء فسخ العقد وطالب البائع بالثمن، وإن شاء أمسك وطالب الجانى.
• وإذا كان التالف يسيرًا لا ينضبط: فإنه يفوت على المشترى، ولا يكون من مسؤولية البائع لأن هذا مما جرت به العادة ولا يسمى جائحة - كما لو أكل منه الطير أو تساقط في الأرض ونحو ذلك.
• محل الجوائح من المبيعات:
ومحل الجوائح هى: الثمار والبقول.
• أما الثمار فلا خلاف فيها عند المالكية.
• وأما البقول: ففيها خلاف والأشهر فيها الجائحة قال القرطبي: وهو الصحيح وما الفرق بين البقول والثمار أليس كلاهما يدخل في مسمى الثمرة: قال ابن حزم: وأما قول مالك في الجوائح فإنه لا يعرف عن أحد قبله مما ذكرنا عنه من التقسيم بين الثمار والقاثي وبين البقول والموز ولا يعضد قوله في ذلك قرآن ولا سنة ولا رواية سقيمة أصلا، ولا قول أحد من السلف ولا قياس (1).
- أما في الثمار: فقيل: الثلث وبه قالت المالكية.
- وأما في البقول: فقيل: لا فرق بين القليل والكثير، وقيل: في الثلث وبه قالت المالكية أيضًا.
والظاهر: أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها وبه قال ابن عبد البر وابن قدامة وابن حزم ورجحه الشوكاني.
وهو المعين إن شاء الله تعالى لأن الأحاديث الواردة عامة ولم تخصص بثلث ولا بغيره.
• الجائحة وصلاح الثمرة:
اختلف العلماء فيما توضع فيه الجوائح من الثمار على قولين:
الأول: أنه لا فرق بين بدو صلاح الثمرة وعدمه فتسقط في كل منهما. لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بم تأخذ مال أخيك بغير حق" (2).
وأمره - صلى الله عليه وسلم -: بوضع الجوائح (3).
__________
(1) المحلى (7/ 348).
(2) صحيح: أخرجه مسلم.
(3) صحيح: أخرجه مسلم.

(4/285)


ثانيًا: التفريق بين بدو الصلاح وعدمه. فتوضح قبل بدو الصلاح ولا توضح بعد بدو الصلاح. وهو قول الجمهور لكن اشترطوا القطع، وقول أبى حنيفة وغيره من الكوفيين والليث. واختاره ابن حزم.
أدلتهم:
1 - عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمر حتى يزهى قالوا: وما يزهى؟ قال: "تحمر أرأيت إذا منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك" (1).
2 - عن أبي سعيد الخدرى قال: أصيب رجل في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" (2).
فدل هذين الخبرين على أن الجوائح التي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوضعها هى التي تصيب ما بيع من الثمر قبل أن يزهى، وأن الجائحة التي لم يسقطها وألزم المشترى مصيبتها، وأخرجه عن جميع ماله بها هى التي تصيب الثمر المبيع بعد بدو صلاحه.
وأجاب المخالفون:
بأن حديث أنس يجاب عنه بأن التنصيص على الوضع مع البيع قبل الصلاح لا ينافى الوضع مع البيع بعده ولا يصلح مثله لتخصيص عادل على وضع الجوائح ولا لتقييده.
وعن حديث أبى سعيد بأنه غير صالح للاستدلال به على محل النزاع، لأنه لا تصريح فيه بأن ذهاب ثمرة ذلك الرجل كان بعاهات سماوية، وأن عدم نقل تضمين بائع الثمرة لا يصلح للاستدلال به لأنه قد نقل ما يشعر بالتضمين على العموم فلا ينافيه عدم النقل في قضية خاصة.
قلت: وليس فيه أيضًا ما يدل على بدو صلاح الثمرة.
القول الراجح: يتعلق بمسألة جواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها أو عدم جوازه.
• الحكم التكليفي لوضع الجائحة:
على ثلاثة أقوال:
__________
(1) صحيح.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1191) وأبو داود والترمذي.

(4/286)


(أ) أن وضعها مستحب وبه قال الجمهور.
(ب) أنه واجب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك" فإنه صريح في وجوب الوضع لا في استحبابه وبه قال الشوكاني.
(جـ) الكراهة وهو قول أبى حنيفة وأصحابه وحملوا النهى في قوله (لا يحل) على الكراهة.
• وقوع الجائحة:
الأصل في ذلك: اشتراط القبض في صحة البيع. فمن اشترطه في كل شيء جعل الضمان على البائع ومن لم يشترطه جعل الضمان على المشترى.
• إذا وقعت الجائحة قبل القبض:
اختلف العلماء في الضمان على من يكون في الجائحة على قولين:
الأول: ما أهلكته الجائحة فهو من ضمان البائع وهذا مذهب مالك، وقديم قولي الشافعي، ومذهب أحمد وسائر أصحاب الحديث وعمر بن عبد العزيز، وبه قال أهل الظاهر.
• أدلتهم: واستدلوا بما يأتى:
(أ) عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح (1).
(ب) وعنه -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إن بعت من أخيك شيئًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، لِمَ تأخذ مال أخيك بغير حق" (2).
وفي لفظ: "من باع ثمرًا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئًا، علام يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم".
ووجه الاستشهاد منها:
الصراحة في الحكم ولا يعدل عنه إلا لدليل أقوى.
الثاني: تكون من ضمان المشترى: وهذا مذهب أبى حنيفة والجديد عند الشافعي:
أدلتهم:
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1554).
(2) صحيح: أخرجه مسلم (190) وأبو داود (3467).

(4/287)


(أ) حديث عمرة عن عائشة أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن ابني اشترى ثمرة فلان، فأذهبتها الجائحة فسألته أن يضع عنه فتألى أن لا يفعل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تألى فلان أن يفعل خيرًا" (1).
قالوا: فلو كان من ضمان البائع لأجيره عليه لأن التخلية يتعلق بها جواز التصرف، فتعلق بها الضمان كالنقل والتحويل.
(ب) القياس على حالة إتلاف الآدمى فإن البائع لا يضمنه، فكذلك هاهنا يجامع أن الكل إتلاف لغيره.
(جـ) قول الشافعي: "لم يثبت عندي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أعْدُه ولو كنتُ قائلًا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير".
• وأجاب أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - حديثهم لا حجة لهم فيه، فإن فعل الواجب خير فإذا تألَّى أن لا يفعل الواجب فقد تألى أن لا يفعل خيرًا.
2 - أن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلف بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض بدليل المنافع في الإجارة.
3 - قياسهم يبطل بالتخلية في الإجارة.
• القول الراجح: أن الضمان على البائع لثبوت النص بذلك والله أعلم.
• إذا وقعت الجائحة بعد القبض:
إذا هلاك المبيع بعد القبض سواء كان ذلك بآفة سماوية أو بفعل المشترى أو بفعل البائع أو بفعل أجنبى فلا ينفسخ البيع، ويكون هلاكه على ضمان المشترى، لأن المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشترى ويُرجع بالضمان على الأجنبى حال كون الاعتداء منه.
• فوائد:
تضمين الإمام مالك البائع ما أصاب الرقيق في ثلاثة أيام بعد البيع استنادًا إلى حديث "عهدة الرقيق ثلاثة أيام" فيه بعدٌ لضعف ما استدل به (2).
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد (24286/ 24623) والبيهقي (5/ ص 305) وسبب ضعفه: حارثة بن أبي الرجال ضعيف لا يحتج به.
(2) ضعيف: أخرجه: أحمد (17290) وأبو داود (3506) وابن ماجة (2245) وسبب ضعفه الانقطاع بين الحسن وعقبة بن عمرو.

(4/288)


- إذا استأجر أرضًا فزرعها: فتلف الزرعُ فلا شيء على المؤْجر. نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافًا.
- أجرة الكيال والوزان في المكيل والموزون على البائع؛ لأن عليه تقبيض المبيع للمشترى، والقبض لا يحصل إلا بذلك، فكان على البائع.
- نقل المنقولات، وما أشبه، فهو على المشتري، لأنه لا يتعلق به حق توفية.
- علل العلماء تضمين البائع جائحة الثمرة. بأن قبض الثمرة على رؤوس الشجر بالتخلية قبض غير تام، فهو كما لو لم يقبضها.
• آثار الجائحة على عقد البيع من حيث النفاد والبطلان:
1 - إذا هلك المبيع. قبل قبض المشترى للسلعة بآفة سماوية أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع ينفسخ العقد.
وإذا هلك بفعل المشترى لا ينفسخ وعليه الثمن - وإذا هلك بفعل البائع انفسخ وسقط الثمن عن المشترى.
وإذا وقعت بفعل أجنبى لا ينفسح البيع ويكون المشترى بالخيار إن شاء فسخ، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن وطالب الأجنبى بالضمان.
2 - وإذا هلك المبيع قبل القبض فالعقد نافذ لا ينفسخ.
• الآثار المترتبة على البيع:
أولًا: انتقال الملك: يملك المشترى المبيع، ويملك البائع الثمن، ويكون ملك المشترى للمبيع بمجرد عقد البيع الصحيح ولا يتوقف على التقابض، وإن كان للتقابض أثره في الضمان وسيأتى تفصيل القول في بيع ما لم يقبض في البيوع الفاسدة.
ثانيًا: أداء الثمن الحالّ: الأصل في الثمن الحلول، وهذا متفق عليه بين الفقهاء في الجملة قال ابن عبد البر: الثمن أبدأ حالّ، إلا أن يذكر المتبايعان له أجلًا فيكون إلى أجله.
ثالثًا: تسليم المبيع: قال ابن رشد: أجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، ومن شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع عقد الصفقة.

(4/289)


البيوع المحرمة
• إن الله تعالى قد أحل لنا البيع وهو من مستلزمات الحياة.
• والبيع كما يقول أهل العلم حلال بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
• قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1).
• عن رافع بن خديج قال: قيل يا رسول الله، أىُّ الكسب أطيب؟ قال: "عمل الرجل بيده وكُلُّ بيع مبرور" (2).
• والإجماع: وقع إجماع الأمة على أن البيع حلال.
• والمعقول: ما دام كل إنسان في حاجة أخيه لأنه لا يستطيع أن يحصل كل ما يريد إلا بالبيع والشراء فكان مصلحة له.
• وفي القاعدة الشرعية: أن الأصل في المعاملات وأنواع التجارات والمكاسب الحل والإباحة فلا يمنع منها إلا ما حرمه الله ورسوله (3).
• فهذا أصل عظيم، يستند إليه في المعاملات والعادات.
• فمن حرم شيئًا من ذلك، فهو مطالب بالدليل، لأنه على خلاف الأصل، وبهذا يعلم سماحة الشريعة وسعتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتطورها حسب مقتضيات البشر، ومصالح الناس.
• وهي قاعدة مبناها العدل والقسط ومراعاة مصالح الطرفين.
• ولا تخرج المعاملة عن هذا الأصل العظيم، من الإباحة إلى التحريم، إلا لما يقترن بها من محذور، يرجع إلى ظلم أحد الطرفين، كالربا، والغرر، والجهالة، والخداع، والتغرير، وغير ذلك.
فهذه معاملات عند تأملها تجدها تعود إلى ظلم أحد الطرفين.
والمعاملات المحرمة ما حرمت إلا لمفاسدها وظلمها.
• بعض التعريفات التي تحتاج إليها في البيوع المحرمة:
• تعريف الربا (4):
لغة: الزيادة.
__________
(1) سورة البقرة: 275.
(2) حسن: أخرجه أحمد (4/ 141) والطبرانى في الكبير (4411) والحاكم في المستدرك (2/ 10) وصححه الشيخ الألبانى في الصحيحة (607).
(3) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (2/ 126).
(4) راجع توضيح الأحكام من بلوغ المرام (4/ 5) وإعلام الموقعين (2/ 137).

(4/290)


شرعًا: زيادة في شيء مخصوص.
• حكمه: محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
• أقسامه: ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - ربا الفضل: هو بيع ربوى بمثله مع زيادة في أحد المثلين.
2 - ربا النسيئة: هو بيع الجنس الواحد ببعضه، أو بجنس آخر مع زيادة في الكيل أو الوزن في نظير تأخير القبض.
3 - ربا القرض: وهو أن يقرضه شيئًا مما يصح قرضه، ويشترط عليه منفعة مقابل القرض كسكنى داره أو ركوب دابته.
وقسمه ابن القيم إلى خفي وجلي:
الخفى: حرام لأنه وسيلة إلى الجلي، فتحريمه من باب تحريم الوسائل إلى المقاصد، وهذا ربا الفضل، ذلك أنه إذا بيع درهم بدرهمين تدرج به إلى الربح المؤجل، وهو علة ربا النسيئة فمن حكمة الله أن سد عليهم هذه الذريعة وهي حكمة معقولة.
الجلي: هو ربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، والغالب أنه لا يفعله إلا محتاج فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، حتى ترهقه الديون، فمن رحمة الله بخلقه أنه حرمه.
• تعريف الغرر (1):
هو ما يكون مجهول العاقبة لا يدرى أيكون أم لا.
• تعريف الجهالة (2):
يراد بها الجهالة الفاحشة أو التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله، وهو النزاع الذي تتساوى فيه حجة الطرفين بالإستناد إلى الجهالة، كما لو باع إنسان شاة من قطيع.
• تعريف الضرر (3):
يراد به ما إذا كان تسليم المبيع لا يمكن إلا بإدخال ضرر على البائع، فيما
__________
(1) راجع الفقه الإِسلامى (د. وهبة الزحيلى) (4/ 435 - 437).
(2) المصدر السابق (4/ 379).
(3) المصدر السابق (4/ 381).

(4/291)


سوى المبيع من ماله. كما لو باع جذعًا معينًا في سقف مبنى، أو ذراعًا من ثوب يضره التبعيض، فإن التنفيذ يقضى بهدم ما حول الجذع وتعطيل الثوب.
• تعريف الميسر (1):
الميسر: هو القمار، واشتقاقه من اليُسر بمعنى السهولة، لأنه كسب بلا مشقة ولا كد، أو من اليسار وهو الغنى، لأنه سببه للرايح، أو من اليَسَر بمعنى التجزئة والاقتسام.
وقيل كل شيء فيه خطر فهو من الميسر.

البيوع المحرمة
قد يكون التحريم بسبب الغرر والجهالة، وقد يكون بسبب الربا، وقد يكون بسبب الضرر، وغير ذلك.
وإليك بعض الأمثلة:

أولًا: البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة:
وقد سبق تعريف الغرر والجهالة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر وبيع الحصاة" (2).
وزيادة في معنى الغرر.
قال الخطابي -رحمه الله تعالى-:
أصل الغرر هو ما طوى عنك علمه وخفى عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غرة أي على كسْرِ الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولًا غير معلوم، ومعجوزًا عنه، غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل أن يبيعه سمكًا في الماء أو طيرًا في الهواء، أو لؤلؤة في البحر، أو عبدًا آبقًا (3)، أو جملًا شاردًا أو ثوبًا في جراب لم يره ولم ينشره، أو طعامًا في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمرة شجر لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدرى هل تكون أم لا؟ فإن البيع فيها مفسوخ.
__________
(1) راجع تفسير المنار (2/ 258) والكليات لأبي البقاء الكفوي (ص:803).
(2) أخرجه مسلم (1513) وأبو داود (3376) والترمذي (1230) والنسائي (7/ 262) وابن ماجة (2194).
(3) العبد الآبق: هو الذي هرب من سيده.

(4/292)


وإنما نهى - صلى الله عليه وسلم - عن هذه البيوع تحصينًا للأموال أن تضيع وقطعًا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.
وأبواب الغرر كثيرة وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل (1).
وقال النووى -رحمه الله تعالى-:
أما النهى عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق (2) والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهمًا (3)، وبيع ثوب من أثواب، وشاه من شياه (4)، ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل، لأنه غرر من غير حاجة، وقد يحتمل بعض الغرر بيعًا إذا دعت إليه حاجة كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي في ضرعها لبن، فإنه يصح للبيع، لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه، فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها. واعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة، وعسب الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هى داخلة في النهى عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر ونهى عنها لكونها من بياعات الجاهلية الشهورة. والله أعلم انتهى باختصار (5).
ومن أمثلة البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة ما يأتى:
1 - بيع المنابذة: هو أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل ويقول كل واحد منهما هذا بهذا.
أو: كأن يقول البائع للمشترى أي ثوب نبذته إليك فسعره بثلاثين جنيهًا مع أن الأسعار داخل المحل مختلفة وكذلك إذا قال المشترى للبائع أي ثوب نبذته إلىَّ فسعره كذا.
فهذا كله منهى عنه لما جاء في الحديث الصحيح.
__________
(1) معالم السنن على هامش سنن أبى داود (3/ 672).
(2) هو العبد الذي هرب من سيده.
(3) الصُّبرة: الطعام المجتمع كالكومة.
(4) المقصود بالثوب والشاة: أى غير محدد ولا معلوم بعينه.
(5) شرح صحيح مسلم (5/ 144).

(4/293)


- عن أبي سعيد الخدرى -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المنابذة، وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه.
ونهى عن الملامسة، والملامسة: لمس الثوب لا ينظر إليه (1).
فهذا بيع محرم للنهى عنه كما في الحديث السابق، وللجهالة، وأدائه إلى معنى القمار، ولعدم الرؤية، أو للشرط الفاسد، والغرر.
2 - بيع الملامسة:
هو: أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره، ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه ليلًا ولا يعلم ما فيه.
- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيعتين ولبستين: نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه إلا بذلك. والمنابذة أن ينبذ الرَّجُل إلى الرَّجُل بثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ" (2).
- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نُهى عن لبستين: أن يحتبي الرَّجُل في الثوب الواحد، ثم يرفعه على منكبه، وعن بيعتين: اللماس، والنباذ" (3).
- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الملامسة والمنابذة" (4).
- فهذا البيع كسابقه منهى عنه كما بالحديث بالإضافة إلى الجهل والغرر في المعقود عليه، فأحد العاقدين تحت الخطر إما غانمًا أو غارمًا فيدخلان في باب الميسر المنهى عنه.
3 - بيع الحصاة:
هو أن يلقى البائع أو المشتري بحصاة فأى ثوب وقع عليه كان هو المبيع بلا تأمل ولا روية ولا خيار بعد ذلك.
- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري واللفظ له (2144) ومسلم (1512) وغيرهما.
(2) أخرجه البخاري (2144) ومسلم واللفظ له (1512) وغيرهما.
(3) أخرجه البخاري (2145).
(4) أخرجه البخاري (2147) ومسلم (1511) وغيرهما.
(5) أخرجه مسلم (1513) وغيره.

(4/294)


4 - بيع حَبَلُ الحَبَلَة:
وهو: البيع بثمن مؤجل ولد ولد الناقة بمعنى تلد الناقة، ثم ينظر حتى تحبل المولودة وتلد.
• عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، قال: وحَبَل الحَبَلة أن تنتج الناقة ما في بطنها، ثم تحمل التي نُتجت، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك" (1).
• وهذا البيع باطل: لأنه بيع بثمن إلى أجل مجهول، ولأنه بيع معدوم ومجهول وغير مملوك للبائع وغير مقدور على تسليمه، وبيع غرر، وبيع ما لم يخلق، وقد أجمع العلماء: أن هذا لا يجوز في بيوع المسلمين (2).
(5) و (6) بيع المضامين والملاقيح:
والمضامين: هى ما في البطون وهي الأجنة.
والملاقيح: هى ما في أصلاب الفحول.
• عن سعيد بن المسيب قال: "لا ربا في الحيوان وإنما نهى من الحيوان عن ثلاثة: عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة والمضامين بيع ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح بيع ما في ظهور الجمال" (3).
• فهذا البيع لا يجوز أيضًا للأسباب السابقة في حبل الحبلة.
7 - بيع عسب الفحل:
• عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل" (4).
• عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع ضراب الجمل" (5).
• عسب الفحل: هو ضراب الذكر من كل حيوان فرسًا كان أو جملًا أو تيسًا أو غير ذلك.
• والمراد من النهى هو: الأجر الذي يأخذ على ضرابه. فلو استأجر فحلًا بلا
__________
(1) أخرجه البخاري (3843) ومسلم (1514) وغيرهما.
(2) راجع صحيح مسلم بشرح النووى (5/ 146) والتمهيد لابن عبد البر بترتيب الشيخ المغراوى (12/ 182).
(3) إسناده صحيح: أخرجه مالك في الموطأ (كتاب البيوع) باب: ما لا يجوز من بيع الحيوان. وانظر شرح السنة للبغوى (8/ 137) طبعة المكتب الإِسلامى.
(4) أخرجه البخاري (2284) والنسائي (4685).
(5) أخرجه مسلم (1565) والنسائي (4684).

(4/295)


نزاء لا يجوز، لما فيه من الغرر لأن الفحل قد يضرب وقد لا يضرب، وقد تلقح الأنثى وقد لا تلقح، وقد ذهب إلى تحريمه أكثر الصحابة والفقهاء، ورخص فيه الحسن وابن سيرين وهو قول مالك قال: لأنه من باب المصلحة ولو منع منه، لانقطع النسل، وهو كالاستئجار للإرضاع، وتأبير النخل، وما نهت السنة عنه، فلا يجوز المصير إليه بطريق القياس.
أما إعارة الفحل للإنزاء وإطراقه فلا بأس به، ثم لو أكرمه المستعير بشيء يجوز له قبول كرامته: فقد رُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل ما حق الإبل؟ قال: "حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها" (1).
وروى عن أنس بن مالك: "أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل فنهاه، فقال: يا رسول الله إنا نطرق الفحل، فنكرم، فرخص له في الكرامة" (2).
قال معمر عن قتادة: إنه كره عسب الفحل لمن أخذه ولم ير به بأسًا لمن أعطاه (3) انتهى.
• وقال الحافظ ابن حجر عن عسب الفحل ما نصه:
وعلى كل تقدير فبيعه وإجارته حرام لأنه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه، وفي وجه للشافعية والحنابلة تجوز الإجارة مدة معلومة، وهو قول الحسن وابن سيرين ورواية عن مالك، وحمل النهى على ما إذا وقع لأمد مجهول، وأما إذا استأجره مدة معلومة فلا بأس كما يجوز الاستئجار لتلقيح النخل، وتعقب بالفرق لأن المقصود هنا ماء الفحل وصاحبه عاجز عن تسليمه بخلاف التلقيح، ثم النهى عن الشراء والكراء إنما صدر لما فيه من الغرر.
وأما عارية ذلك فلا خلاف في جوازه، فإن أهدى للمعير هدية من المستعير بغير شرط جاز، وللترمذي (4) من حديث أنس: "أن رجلًا من كلاب سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل فنهاه، فقال: يا رسول الله إنا نطرق الفحل فنكرم، فرخص له في الكرامة" (5) انتهى.
__________
(1) أخرجه مسلم (988).
(2) صحيح: أخرجه الترمذي (1274).
(3) راجع شرح السنة للبغوى (8/ 128).
(4) صحيح: أخرجه الترمذي (1274).
(5) فتح البارى (4/ 539). 

• وقال ابن العربى: فإن أجره على الطرق ليس بحمل. دخله الفساد من وجهين:
أحدهما: جهالة الإجارة.
والثانية: جهالة الأجل.
فإن يستأجره وقضى حاجته فيه جاز قبول الكرامة بإزائه، لأنّ المكارمات بقضاء الحاجات ومقابلتها بالمشاركات والمعاوضة جائزة شرعًا، وتدخل في هبة الثواب التي استثناها الشرع من الأعواض المجهولة (1). انتهى باختصار.
8 - بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها (المعاومة والمخاضرة):
• عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع" (2).
• عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تباع الثمرة حتى تُشْقَحَ. فقيل: وما تُشْقَح؟ قال: تَحْمَارُّ وتَصْفَارُّ ويُؤكَلُ منها" (3).
• عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة" (4).
• عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى يزهو (ثمرة النخل حتى تزهو) وعن السُّنْبُل حتى يَبْيَضَّ ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري" (5).
• عن أبي البخترى قال: سألت ابن عباس عن بيع النخل؟
فقال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع النخل حتى يَأكُلَ منه أو يُؤْكَل، وحتى يوزن. قال فقلت: ما يوزن؟ فقال رجل عنده: حتى يحزر (يحرز) " (6).
__________
(1) عارضة الأحوذى (5/ 220).
(2) أخرجه البخاري (2194) ومسلم (1534) وغيرهما.
(3) أخرجه البخاري (2196) ومسلم (1543) (84).
(4) أخرجه مسلم (3791).
(5) أخرجه البخاري (2195) ومسلم واللفظ له (1535) وغيرهما.
(6) أخرجه البخاري (2247) ومسلم (1537) وغيرهما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب تحفة المودود

  كتاب تحفة المودود   بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله العلي العظيم الحليم الكريم الغفور الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن ال...